كنز الدرر وجامع الغرر

ابن الدَّوَاداري

1 - الدرة العليا فى أخبار بدء الدنيا

تصدير بدأت بالعمل على تحقيق هذا الكتاب فى خريف 1979، ومنذ أيّار/ مايو 1980 وأنا أعمل بدعم من الجمعيّة الألمانيّة للبحث العلمى، ولقد قام بالإنفاق على الطّبع المعهد الألمانى للآثار فى القاهرة، وهنا أودّ أن أقدّم جزيل شكرى وامتنانى لهاتين المؤسّستين وإلى الشخصيّات التالية أسماؤهم أيضا: الأستاذ هانس روبيرت رويمر (فرايبورج) الذى اقترح علىّ فكرة هذا العمل وهيّأ لى الجوّ المناسب للانطلاق فى التنفيذ، كما وأشكر الأستاذ أو لريخ هارمان (فرايبورج) الذى تفضّل بأن وضع تحت تصرّفى ملاحظاته الخطّيّة على الأجزاء 2 - 5 من كتاب التاريخ هذا، وأتقدّم أيضا بشكرى الخاصّ للأستاذ أنطون شبيتالر (ميونخ) الذى أرسل لى مواد قيّمة من مجموعته الواسعة من الشعر العربى، السيّدة أنطوانيت وزوجها الدكتور راينهارد وابيرت (ميونخ) تفانيا فى مساعدتى فى البحث عن المصادر المقتبسة، فلهما جزيل شكرى، ولقد أشركنى الدكتور جريجور شولر (جيسين) فى أبحاثه التى لم تنشر بعد عن المسعودى-الزائف، فله شكرى، كما وأشكر معلى الأستاذ فريتر ماير (بازل) الذى قام بنقد مطوّل للمقدّمة، أمّا الأستاذ إحسان عبّاس (بيروت) فأشكره على تفضّله بإرسال مايكروفيلم مخطوطة أحمد الثالث 2907 لكتاب مرآة الزمان، ولإدارة المكتبة السليمانيّة (استنبول) أقدّم شكرى على

مايكروفيلم المخطوطة التى أقدّم الآن تحقيقها (آيا صوفيا 3073)، وأخيرا وليس آخرا أشكر الأستاذ كايزر، مدير المعهد الألمانى للآثار فى القاهرة، حسن الضيافة فى المعهد وذلك أثناء طباعة الكتاب. القاهرة فى تمّوز/يوليه 1981 ببرند راتكه

مصادر تأريخ كنز الدرر وجامع الغرر

مصادر تأريخ كنز الدرر وجامع الغرر من كتاب الشفاء فى معجزات المصطفى من تأريخ القاضى ابن خلكان من الروض الزاهر فى سيرة الملك الظاهر من تأريخ أبو المظفر بن الجوزى من كتاب جنا النحل من كتاب القاضى صاعد بن صاعد الأندلسى من تأريخ ابن زولاق بمصر من الكتاب التركى فى أخبار التتار من كتاب حلّ الرموز فى علم الكنوز من كتاب الشريف أخى محسّن من الفيح القدسى فى سيرة صلاح الدين من تأريخ ابن واصل الحموى من كتاب مطالع الشروق فى بنى سلجوق تأليف المصنف الدرّ الفاخر فى سيرة الملك الناصر آخره ولله الحمد.

فهرست لما فى هذا الجزء من صحيح الأخبار وملح الآثار

فهرست لما فى هذا الجزء من صحيح الأخبار وملح الآثار مقدمة المصنف 2 فصل فى حدث العالم وإثبات الصانع 14 فصل فى تنزيه البارئ عزّ وجلّ 17 ذكر أوّل مقامة لابن الجوزى رحمه الله 18 ذكر بداية المخلوقات 24 ذكر حدّ الزمان والأيّام 26 ذكر خلق السموات والآثار العلويات 30 ذكر القول على البروج 36 ذكر الفصول والرياح الأربع 42 ذكر ما بين كل سماء وسماء 43 ذكر الشمس والقمر والنجوم الثابتة والسائرة 44 ذكر منازل القمر 50 ذكر البيت المعمور 60 ذكر سدرة المنتهى وشجرة طوبا 62 ذكر العرش العظيم والكرسى الكريم من الصحيحين 63 ذكر الملائكة المقرّبين والروحانيّين والكروبيين 68 ذكر الجنّة وما لله على عباده فى خلقها من المنّة 73

ذكر خلق الأرضين وما فيها من المخلوقين 81 ذكر أشهر الأمم من العرب والعجم وما قيل فى ذلك 84 ذكر معرفة التأريخ وما قيل فى ذلك 92 ذكر البيت الحرام وزمزم والمقام 94 ذكر مساحة الأرض وطولها والعرض 95 ذكر الأقاليم السبع والمعمور من الأرض 97 ذكر إقليم الهند وهو الأوّل 98 ذكر إقليم الحجاز وهو الثانى 99 ذكر إقليم الشأم وهو الثالث 99 ذكر إقليم العراق وهو الرابع 100 ذكر إقليم الروم وهو الخامس 101 ذكر إقليم الترك وهو السادس 101 ذكر إقليم الصين وهو السابع 101 ذكر البلدان وما فيها من السكان 103 ذكر الجبال والهضاب والرمال 129 ذكر التلال والتلاع والقلاع 153 ذكر البحار والجداول والأنهار 159 ذكر البحر الحبشى وما فيه من العجائب 161 ذكر البحر الرومى وما فيه من العجائب 167 ذكر المعادن التى كالخزائن 166

ذكر الجزائر وعجائبها 172 ذكر الجزر والمدّ وما قيل فى ذلك 180 ذكر العيون والأنهار وما قيل فى ذلك 184 ذكر شئ من كلام الإمام على 187 ذكر النيل وما قيل فيه 190 ذكر الفرات وما قيل فيه 197 ذكر دجلة وما قيل فيه 199 ذكر سيحون وما قيل فيه 201 ذكر جيحون وما قيل فيه 201 ذكر سيحان وجيحان وما قيل فيهما 204 ذكر أنهار الشام وما قيل فيها 205 ذكر أنهار العراق وما قيل فيها 206 ذكر عجائب الدنيا 209 ذكر الطبائع وما قيل فى ذلك 229 ذكر سكّان الأرض من أوّل زمان 230 ذكر من ملكها وقطعها وسلكها 231 ذكر الحن والبن والطم والدم 232 ذكر إبليس والزهرة وهاروت وماروت 237 ذكر ملوك الجنّ الحكام السبعة 239 ذكر إبليس وأولاده وحشوده وجنوده 244

ذكر الجن وقبائلهم وشعوبهم 249 ذكر الأمم المخلوقة قبل آدم 256 ذكر الأمم المخلوقة بإزاء منازل القمر 256 ذكر النسانس وعجائبها 258 ذكر عدة من عجائب الدنيا 261 ذكر النار أجارنا الله من عذابها 265 ذكر من تحت الأرض من السكان 268 ذكر مقامة لابن الجوزى 270 ذكر المنظوم والمنثور فى الأزمان والدهور 275 ذكر المحاضرة الربيعية من تصنيف المصنف 277 ذكر الفصول الأربعة وما فيها من المنفعة 337 ذكر عدة من المنظوم فى السياسة 371 ذكر المحاضرة الأوائليّة من تصنيف المصنف 371 ذكر أشراف الكتّاب 391 ذكر كتّاب الإسلام 391 من كتب بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم 392 ذكر الكتّاب الذين صاروا خلفاء 393 ذكر سائر أشراف الكتّاب الذين كانوا فى صدر الإسلام 393 ذكر الأعرقين من كلّ طبقة من الناس 395 مصادر التحقيق 403

الفهارس 419 فهرس الأعلام والأمم والطوائف 420 فهرس الأماكن والبلدان 438 فهرس الكلمات والمصطلحات 451 فهرس الشعراء 464 فهرس القوافى 468 تصويبات ومستدركات 493

الجزء الأوّل من تاريخ كنز الدّرر وجامع الغرر تأليف أضعف عباد الله وأفقرهم إلى الله أبو بكر ابن عبد الله بن أيبك صاحب صرخد، كان عرف والده رحمه الله بالدواه دارى، انتسابا لخدمة الأمير المرحوم سيف الدين بلبان الرومى الدوادار الظاهرى، تغمّده الله برحمته وأسكنهم فسيح جنّته بمحمّد وآله. وهو الدرّة العليا فى أخبار بدء الدّنيا

مقدمة المصنف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مقدمة المصنف ربّ اختم بخير {الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ، اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضّالِّينَ»} (1) آمين. {رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ، وَاُعْفُ عَنّا وَاِغْفِرْ لَنا وَاِرْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.»} (2) اللهمّ إنّى بحمدك أستفتح، وبرشدك أسترشد وأستنجح، وبتوفيقك أستسهل كلّ صعب، وبعظمتك أستقلّ كلّ خطب، وبنور هدايتك أستضئ، وبعزّ عنايتك مرتضى، وببركة قدسك أستهلّ، ومن سعة علمك أستملّ، ومن غزير إلهامك أستمدّ، وإلى عزيز سلطانك أستعدّ. لك الحمد والمنّة، وبعظمتك التوقّى والجنّة، وبك أعوذ من شرّ الإنس والجنّة، وبرحمتك أرجو الفوز بالجنّة. اللهمّ صلّى على خير الأصفياء، وخاتم الأنبياء، ومنشئ الفصاحة، وجامع الملاحة، وصاحب البيان، وحبيب الرحمن، ذو الجمال البديع، والجناب الرفيع، والدين القويم، والمنهاج المستقيم، سيّد المرسلين، والمؤيد بالملائكة المقرّبين، محمد الأمين الذى أعليت درجته فى علّيّين، وأنزلت عليه فى كتابك المبين: {يس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ»}. (3)

(1) القرآن الكريم 1/ 1 - 7 (2) القرآن الكريم 2/ 286 (3) القرآن الكريم 37/ 1 - 3

اللهمّ فصلّ عليه وعلى آله الطاهرين وأصحابه الذين أضحوا على أهل الشرك ظاهرين، وارض اللهمّ عن الأنصار والمهاجرين ومن تبعهم بإحسان إلى (3) يوم الدين، إنّك بالإجابة جدير، وأنت على كلّ شئ قدير، يا نعم المولى ويا نعم النصير. وبعد: فإنّ خير الكلام ما شغل بذكر بعض محاسن من جمع الله تعالى له ملك الدنيا إلى ثواب الآخرة، وعزّة النفس إلى بسطة العلم، ونور الحكمة إلى نفاذ الحكم وجعله مبرّا على سائر ملوك العصر، كما فاق بملكه على جميع سلاطين الدهر، بخصائص من العدل، وخلائل من الفضل، ودقائق من الكرم المحض، وعزائم قد شاعت فى أقطار الأرض، لا يدخل أيسرها تحت العادات، ولا يدرك أقلّها بالعبادات، ومحاسن سير تحرسها أسنّة الأقلام، وتدرسها ألسنة الليالى والأيّام، فأصبحت الأيّام بدوام أيّامه تميس إعجابا، والأزمنة بعد هرمها بزمانه قد عادت شبابا، فلذلك وجب على كلّ ذى عقل ودين، بل على كافّة الناس من سائر الملل أجمعين أن يمدّوا بالدعوات الصالحة، بأفكارهم القادحة لدوام أيّامه وخلود سلطانه وبقاء ملكه واستمرار زمانه، لأنّه زمان، قد جمع بين العدل والإحسان، والخصب والأمان والطمأنينة، وقد قيل: الأوطان حيث يعدل السلطان، وعدل السلطان خير من خصب الزمان، فكيف إذا اجتمعت هذه الخلال فى بعض محاسن مولانا السلطان، ملك العصر والزمان، والمؤيّد بالملائكة والقرآن، سيّدنا ومولانا ومالك رقّنا السلطان الأعظم الملك الناصر أيا المعالى صاحب هذه المناقب والمفاخر، ناصر الدنيا والدين محمّد ابن مولانا السلطان الشهيد الملك المنصور، سيف الدنيا والدين قلاون الألفى الصالحى (4). وذلك أنّ صدقاته العميمة الشاملة شرقا وغربا، الذاهبة غورا ونجدا،

كشفت عن أهل الفضل أحوالا تتضمن أهوالا، وعلّمهم كرمه كيمياء تجعل الآمال أموالا، وأقام سوق العلوم وسوقها، وأربح تجارة من حمل إليه وسوقها، فلذلك جعلت كتابى هذا من رعايا الكتب أميرا، وأمطيته من عروس المملكة سريرا، وجعلت رأسه لسماء الفخر مظلّلا وبتاج العزّ مكلّلا، وافتتحته بذكر ملك هو مفتاح يد التطرّق إلى باب الرشاد، ومصباح عين المستضئ بنور السداد، ورحمة الله الموعودة للعباد، ورحمته المنشورة فى البلاد، ملك قام بأمر الله معتصما بحبل رجائه، فصبّ بحار النعم على أوليائه، وأسواط النقم على أعدائه، فهو بشارة مصبوبة فى الآدان وباكورة مجلوبة من ثمرات الجنان، ومالك له فى كلّ مكرمة عزة الأرضاح، ومن كلّ فضيلة قادمة الجناح، بصدر تضيق عند الدهناء وتفزع إليه الدهماء (من الكامل): لله صدر للإمام كأنّما … أقطار طاعته به قطمير تتزاحم الأضداد فيه وتنثنى … عنه وليس لوقعها تأثير (من الوافر): وأثبت ما تراه نهى وجاشا … إذا دهش المشاور والمشير سيّد للجميل معتاد، والفضل منه مبدأ ومعاد، وسلطان ما له للعفاة مباح، وفعاله فى ظلمة الدهر مصباح، بهمّة تعزل السّماك الأعزل، وتجرّ ذيلها على المجرّة، مفترع أبكار المكارم، رافع منار المحاسن، ينابيع الجود تنفجر من أنامله، وربيع السماح يضحك عن فواضله، بيت القصيدة والواسطة الفريدة (5)، ذكر الأنام لنا فكان قصيدة كتب البديع الفرد من أبياتها، شجرة فضل عودها أدب وأغصانها علم وثمرتها عقل وعروقها شرف، تسقيها سماء الحرّيّة، وتغذيها أرض المروّة، يحلّ دقائق الأشكال، ويزيل معترض الإشكال، قد جمع الحفظ العزيز،

والرأى السديد فى التدبير، يفهم من مبادئ الأقوال خواتم الأحوال، ومن صدور الأمور إعجاز ما فى الصدور (من الطويل): يناجيك عمّا فى الضمير كأنّه … بمختلسات الظنّ يسمع أو يرا فأبوابه الشريفة كعبة المحتاج لا كعبة الحجّاج، وأمن الخائف لا منا الطائف، ومشعر الكرم، لا مشعر الحرم، ومنجد الخوف لا مسجد الخيف، حرسها الله تعالى بما حرس به كعبته من أصحاب الفيل ورمى من رامها بسوء بحجارة من سجيل (من الطويل): إليه والاّ قيّدوا قدم السرى … وفيه والاّ أخرسوا اللسن (1) الحمد وعنه أفيضوا إنّه مشعر الهدى … وحوليه طوفوا إنّه كعبة القصد وحسب الليالى أنّها فى زمانه … بمنزلة الخيلان فى سفحة الخدّ يغيثك فى محل يعينك فى ردا … يروعك فى درع يروقك فى برد جمال وإجمال وسبق وصولة … كشمس الضحى كالمزن كالبرق كالرعد قد أقامه الله تعالى رحمة لعباده، وغيثا لبلاده، وغوثا لعباده، حاسم عن القيام بحقوق الله ساق التشمير، وحاسم بنفوذ أوامره المطاعة موادّ الفساد بحسن التدبير، كنز الآملين وغيث الماجلين وملجأ القاصدين وبحر الواردين، سيّد الملوك والسلاطين، فى كل عصر ووقت وحين (6) الذى عجزت الألسن فى مدحه حتى عادت قصار، ولو كان كلّ اللسن (2) كحسّان والأنصار له أنصار: (من الكامل): ماذا أقول إذا وصفت جلاله … والنطق فيه مطلق ومقيّد النظم أضيق أن يحوز صفاته … لكنّه جهد الذى هو يجهد

(1) اللسن: ألسن (2) اللسن: الألسن

إنّا إذا قمنا له بالشكر نعمل … للمعاد حقيقة ونمهد أدام الله أيامه لملك الأرض حتى يدبّره، وملك العصر حتى يثمره ولا أخلاه من عناء يبتنيه، وثناء يقتنيه، وخير يصطنعه، ومدح يستمعه، وأعزّ أنصاره وبسط ظلّه وجعل أعداؤه خاشعة أبصارهم ترهقهم (1) دلّة، آمين آمين يا ربّ العالمين. وبعد: فإنّ العبد لما اشتغل بفنّ الأدب السامى للقدر المالى للرتب، وعهدى بعهد الصبى مخيم ما استقلّ والوجه بالنبت موسم همّ وما بقل، والخطّان المتواردان من يمينه ويساره لم يتصافحا، والضدّان المتناقضان من ليله ونهاره لم يتصالحا، ولم يثن غنائى عن ما غنائى من الإيضاع مقلة ينبوع، ولا زمّنى عمّا أهمّنى من الإسراع بيانه أسروع، فعلى هنالك قدرى جدّ فى طلب العلم جدّه، وما رأى فى عسجد أستفيده ولكنّى فى مفخر أستعدّه، وكفى بالعلم مفخرا يقدع منه أنوف المفاخرين، وبالثناء الجميل مدخرا وهو لسان الصدق فى الآخرين، والموفّق من إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه ونكب عن ذكر العواقب، ومدّ أطناب خيامه على النجوم الثواقب، فلذلك استأنست بالخلاء عن الملاء، وولّيت وجهى شطر الأئمة الفضلاء، (7) وبسطت حجرى لا لتقاط درر الشفاه وجعلت ذلك دواء لقلبى وشفاءه، وتركت اليراعة التى هى سنان رمح البراعة بطول انتظامها إلى أناملى سادسة لخامسها، والمداد الذى هو مستقى أرشه الأقلام منهلا لخوامسها، لا جرء أحمدت مسراى عند الصباح، ونادى مناد الخير حى على الفلاح، وهيّأ الله لى من أمرى رشدا، وثمر لى طول معاناة المخض زبدا، ومحقّق لى كلّ ظنّ ممّا تجمع لى من كلّ فنّ، فكأنّ الأرض حللت لى على اتّساع جوانبها ورويت عن الفضلاء

(1) ترهقهم: ترهقهم درر النيجان 3 آ،11

من مشارقها ومغاربها، فغدت كأنّى فى تخليد أخبارهم، وتجديد الدارس من آثارهم قبلى من اللواقح السواحب ذيولها على الأرض الخاشعة إحياء لمواتها، وربعى من النوافخ فى صور رعدها على الروضة الفائحة إنشارا لنباتها، ولم ينشر إلىّ الوصول إليها والفراغ منها إلاّ وقد وخط القتير، وطلع النذير، وانضمّ الخيط الأبيض من الفجر إلى الخيط الأسود من الشعر، فحلى الفود مشتعلا وأضاف الدود إلى الدود فصارت إبلا. ثم اخترت الله تعالى بعد ما أخلصت النيّة، وسألته سرّا وعلانية أن يلهمنى رشدى، ولا يخيّب سؤالى وقصدى، فدلّتنى هناك الإرادة، وحرّكتنى لذلك السعادة، فوضعت هذا التأريخ اللطيف، مشرفا بالاسم السلطانى الناصرى الشريف، وشمّرت عن ساق التشمير، وهجرت كلّ جليس وسمير، ما خلا سمير الكتب، وشهير الأدب، وقدحت زناد الفكرة فأورا وأضا، وأحيت ما دثر من الأفاضل ممّن انقضا ومضا، الذين بأسنّة يراعتهم يضرب المثل، وبألسنة (8) براعتهم ملكوا قلوب تلك الملوك الأول، إذا كان الوقت للفاضل فيه مقال، ويقال فيه الجاهل وفى الفاضل يقال، فلمّا أقفرت تلك البقاع وخلت الرّخاخ من الرقاع، وتفرزنت بيادق الحراشى، ودثر ونسى الناثر والفاضل الناشئ، وكسد سوق اليراعة، وفسد زمان البداعة، قصدت أن أتتبع آثار الداثر، وأتشبّثّ بشئ من الدارس فى دا الزمان الفاتر، لعلّى أبلغ الأسباب وأضاف إلى جملة عبيد السادة الكتّاب وإن كنت لست من أهل هذه الصناعة، ولا تجّار هذه البضاعة، وأين وقع الضباب من قطر السحاب، وهفيف الغراب من هوى المقاب، لكنّنى تشبّتّ بفصلهم منهم إليهم، وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم.

وكان الابتداء فى الاشتغال بمسوّداته، وجمع نوادره ومستطرفاته وتحصيل أخباره وحكاياته فى سنة تسع وسبعمائة العربيّة للهجرة النبويّة، على صاحبها أفضل الصلوات، وأزكى التحيات، وذلك مما انتخبته وانتقيته وغربلته ونقيته، من تواريخ رئيسة وكتب نفيسة وزبد عجيبة، ونبذ غريبة، يشتمل على درر يتيمة وغرر كريمة، وبدع مؤنقة، ولمع مخرقة، فعاد كالحديقة المشرقة ذات أشجار مورقة بأثمار باسقة، وأطيار ناطقة وأنهار دامقة وأزهار شائقة، وحدائق مزهرة ودقائق مبهرة، ونوادر ملهية، ومضاحك هزليّة وملح شهيّة، ورقائق مبكية وأهاجى منكية، ومدائح زكيّة، وحكايات مليحة بروايات صحيحة، بألفاظ فصيحة، تصل إلى العقول الرجيحة، فلما كمّلت مسودّاته، ونجزت آياته (9) ألّفت كلّ واقعة فى زمانها، وما جرية فى أوانها، وأقمته تأريخا غريب المنال، كثير الحكم والأمثال، ولخضت من تواريخ الجمع، ما ينزّه الناظر ويشنّف السبع، يتضمّن من فوائد الجدّ، ونوادر الهزل، وفرائد النثر، وقلائد النظم، ما يملأ البصر نورا، والقلب سرورا، مع عيون تواريخ العرب والعجم، ومن سلف من ملوك الأمم، إلى نتف الأئمة الخلفاء وفقس الملوك والوزراء، ونكث الزهّاد والحكماء، ولمع المحدّثين والعلماء، وحكم الفلاسفة والأطبّاء وغرر البلغاء والشعراء، وملح المجان والظرفاء وطرف السّوال والغوغاء، وما يختصّ به كلّ زمان، ويفترد به كلّ طائفة بأوان. واستفتحت الكلام بتنزيه البارئ المنزّه عن الأوهام الذى لا تدركه الأبصار ولا الأفهام ولا تفنيه الليالى ولا الأيّام، حىّ قيّوم لا ينام، الأبدى على الدوام، ثم أتبعت ذلك ببدء الدنيا وخلق الأشياء مع خلق السموات، وما فيها من المخلوقات العلويّات، وكذلك الأرضين وما قلّها من المخلوقين، وتلوت هذا الكلام بخلق

آدم عليه السلام وما ورد من الحديث فى الأمم المخلوقة من قبله، وأردفت ذلك بالأنبياء والمرسلين من نسله، تتلّوا ذلك الحين صلوات الله عليهم أجمعين، ثم ذكرت السحرة والكهّان من قبل آفة الطوفان، من بعد ما وهنت عن طوائف الجنّ والجانّ، وإبليس اللعين، وأولاده وجنوده وأعوانه الملاعين، وكلّ ذلك مستخرج من صحيح مسلم والبخارى، لا فوق بما ألفته على أهل زمانى من أنظارى، ثم ذكرت شجعان الجاهليّة، والفحول من الشعراء الأوائليّة، فى الفترة لما بين عيسى صلوات الله عليه والحواريّين، إلى مولد سيّدنا وحبيبنا وشفيعنا محمّد صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين (10) وأصحابه والتابعين صلاة دائمة إلى يوم الدين. ثم ابتدأت من أوّل عام الهجرة سياقة النيل من بعد سياقة التاريخ بعام الفيل وقدّمت قبل كل حادثة من حوادث ذلك العام، ما يليق من الكلام، وذلك ما استقرّ عليه القاع من الماء القديمة، وما انتهت إليه الزيادة على القانون المستقيم، وأثبتّ ذلك لفوائد عدّة يأتى شرحها، ويظهر للمتأمّل الحاذق ربحها. ثم أتبعت هذا الكلام، فى حوادث كلّ عام، ومن كان فيه من الحكّام من خلفاء الإسلام، وملوك الأنام، السادة الأعلام فى مشارقها ومغاربها، ومسالمها ومحاربها، وذلك ممّا اتّصل إلينا من أخبارهم فقصصناه من آثارهم وما عدا ذلك فعلمهم عند خالقهم، ومنشئهم ورازقهم، وذكرنا ما حدث فى كلّ عام من حوادث وأمور، وما تغيّر فيه من أمر كان أو مأمور، واعتمدت فى ذلك كلّه الغاية فى الاختصار، إذ التواريخ وجمعها لا يقع عليها إحصار، ولقد اعتنيت بحصر ما جمعت فيه من ملح تواريخ الإسلام، وما اخترت من نوادر جواهر الكلام، فكان نيف وخمسين، مجيدين محسنين، حسبما ذكرت من أسمائهم وبيّنت من

أنبائهم بحكم أنّنى لم أترك فى هذا المجموع المطبوع تقصيرا مخلّ، ولا أسهبت وأطنيت تطويلا مملّ، وليس الاعتماد فى هذا كلّه إلاّ على حسن فطرة القارئ، الذى ذهنه أرقّ من الماء الجارى، فإذا حسن من القارئ البراعة، وأصغى السامع وأخلى قلبه لسماعه، لذّت هنالك المحاضرة، وعلم هنالك أنّه كتاب لا يقاس بالمناظرة. ثم إنّ العبد قد اقترح فى تأليفه اقتراحا أظن أننى لم أسبق إليه، يظهر صحّة الدعوى لكل واقف عليه وذلك أننى خصصت كلّ جزء من أجزائه التسع بدولة من الدول، وما فى ضمنها من الدول (11) المنقطعة وملوكها أرباب الخول، وجعلت أجزاءه مقسومة على هذه الأفلاك التسع، لعلوّ قدرها ولما خصّوا به من النفع، وأسماءهم: الأول: نزهة البشر، من قسمة فلك القمر، المسمّى: بالدرّة العليا فى أخبار بدء الدنيا. الثانى: علّة الوارد من نسمة عطارد، المسمّى: الدرة اليتيمة فى أخبار الأمم القديمة. الثالث: المشرف بالقدرة، من قسمة فلك الزهرة، المسمّى: الدر الثمين فى أخبار سيّد المرسلين والخلفاء الراشدين الرابع: بغية النفس من قسمة فلك الشمس، المسمّى: الدرّة السميّة فى أخبار الدولة الأمويّة. الخامس: الذى كلّ سمع له نسيخ، من قسمة فلك المرّيخ، المسمّى: الدرّة السنيّة فى أخبار الدولة العبّاسيّة السادس: الفائق صحاح الجوهرى، من قسمة فلك المشترى، المسمّى: الدرّة

المضيّة فى أخبار الدولة الفاطميّة. السابع: شهد النحل، من قسمة فلك زحل، المسمّى: الدرّ المطلوب فى أخبار دولة ملوك بنى أيّوب. الثامن: زهر المروج، من قسمة فلك البروج، المسمّى: الدرّة الزكيّة فى أخبار دولة الملوك التركيّة. التاسع: الجوهر الأنفس، من قسمة الفلك الأطلس المسمّى: بالدرّ الفاخر فى سيرة الملك الناصر. فلمّا اجتمعت هذه الدرر النفيسة، والغرر الرئيسة سمّيت مجموع التأريخ: كنز الدرر وجامع الغرر، وانتهيت فى سياقة التاريخ آخر الجزء التاسع بذكر سنة خمس وثلاثين وسبعمائة، فإن جلّى بإصابة سمع فعن قوس فكرى كانت الرماية، ولولا خوفى من التغالى والانتصار لتألّفى ومقالى، لقلت كما قال أبو الفرج الإصفهانى صاحب كتاب الأغانى: وهو كتاب ينتفع به الأديب المتقدّم. كما ينتفع به الشادى المتعلّم، ويأنس به الخليع المتهتّك، ويحتاج إليه الملك فى ممالكه كما يحتاج إليه المملوك فى خدمة مالكه، وهو نعم الأنيس وخير جليس. قلت: فإن حسن لعين الناظر فيه والدارس، وأحلاه بحلّ القادح لدى القابس هنالك أقول (12) (من الخفيف): يا كتابى قبّل يديه إذا ما … نلت حضّا وقل له يا كتابى أنت بحر العلوم فاغفر إذا ما … قد أعادوا إليك قطر السحاب وإن قذفه وقلاه، ونبذه من بعد ما استملاه، فأنا أسأله أن يسامحنى بالغلط، فمن ذا الذى ما ساء قطّ، ومن له الحسنى فقط، وإن جهل معانيه وما فيه من الزبد والنبذ، أو علم ذلك ثم داخله أوّل ذنب عصى الله به وهو الحسد، فهنالك أيضا

نستفتح الكلام بحديث ورد عن خير الأنام

أقول (من البسيط): لمن أبوح بشعرى حين أذكره … أم من أخصّ بما فيه من الزبد إمّا جهولا فلا يدرى مواقعه … أو عالما فهو لا يخلو من الحسد وأقول: هذا جهد المجتهد وعلى الله أعتمد. نستفتح الكلام بحديث ورد عن خير الأنام قال سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى صحيح مسلم (1) ما رواه عن أبى سعيد الخدرى وأبى هريرة رضى الله عنهما أنّهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلاّ حفّتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله تعالى فيمن عنده. قلت: الذكر يكون بالقلب ويكون باللسان والأفضل أن يكون بالقلب واللسان جميعا، فإن اقتصر على أحدهما فالقلب أفضل، ثم لا ينبغى أن يترك الذكر باللسان مع القلب معا خوفا أن يظنّ به الرياء بل يذكر بهما جميعا ويقصد به وجه الله عزّ وجلّ، قال مجاهد: لا يكون من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات حتى يذكر الله تعالى قائما وقاعدا ومضطجعا، وقال عطاء: من صلّى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل فى قوله تعالى: {وَالذّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذّاكِراتِ»} (2) (13)، وجميع ذكر الله تعالى الذى تصل إليه الطاقة البشريّة كما روى عنه صلى الله عليه وسلم قوله: لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك (3). والذى وصلت إليه الأفهام ثلاثة أنواع: تسبيح وتحميد وتكبير، فالتسبيح نفى النقائص وأنّه سبحانه موجود قديم باق صمد واحد أحد وهو معنى سبحان الله،

(1) صحيح مسلم 7/ 72 (2) القرآن الكريم 33/ 35 (3) مسند أحمد بن حنبل 1/ 96

والتحميد ذكر أوصاف الكمال وأنّه سبحانه حىّ عليم قدير مريد سميع بصير متكلّم، وهو معنى الحمد لله، والتكبير إثبات الجلال وأنّه سبحانه أجلّ من أن يحيط به العقل وأعظم من أن يدركه الوصف، وهو معنى الله أكبر، أى: أكبر ممّا وصفنا وإنّما علمنا من حسن ثنائه ما تطيقه عقولنا، وجعل اعترافنا بالعجز عن الإدراك ما يقوم مقام الإدراك، فإذا ثبت العلم بموجود برئ من النقائص موصوف بالكمال متفرّد بالجلال ثبت أنّه لا إله إلاّ هو ثم ثبتت الوسائط بحكم الشرع، وتردّ الفعل إليه توحيدا بقولك: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلىّ العظيم، معناه أنّ أفعالنا خلق لله تعالى، ولذلك سمّيت هذه الكلمات الباقيات الصالحات، وهى: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلىّ العظيم. قلت: وقد ألّفت فى هذا المعنى جزء جيّد وسمّيته مطالع الأنوار فى مناقب الأبرار، وإنّما قدّمت فى أوّل هذا التأريخ هذه المقدّمة للبركة بما فى مجموعها من معانى ذكر الله عزّ وجلّ.

فصل فى حدث العالم وإثبات الصانع جل ذكره

فصل فى حدث العالم وإثبات الصانع جلّ ذكره (1) قلت: العالم اسم واقع على الكون الكلّى فهو اسم لما سوى البارئ سبحانه من الجواهر والأعراض ونحوها، واختلفوا فى اشتقاقه (14) فقال أهل اللغة: اشتقاقه من العلم فهو اسم للخلق من ابتدائهم إلى انتهائهم، وقال أهل النظر: اشتقاقه من العلم لظهور آثار الصنعة فيه فهو دالّ على صانعه ومنه المعلم وهو الأمر يستدلّ به على الطريق. واختلف المفسّرون فى معناه على أقوال: أحدها: إنّهم الملائكة المقرّبون والكروبيّون وأجناسهم، قاله ابن كعب. والثانى: إنّهم بنو آدم، قاله ابن معاذ النحوى. والثالث: إنّهم الإنس والجانّ، قاله خالد بن يزيد. والرابع: إنّه عبارة عن جميع المخلوقات وهذا الأصحّ، قاله ابن عبّاس ومجاهد وعامّة العلماء لقوله تعالى: {رَبُّ السَّماااتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما»} (2) إلى غير ذلك من الآيات. واختلفوا فى مبلغهم على أقوال: أحدها: إنّهم ثمانون ألف عالم، قاله مقاتل: أربعون ألفا فى البحر وأربعون ألفا فى البرّ، وحكاه عن عبيد بن معمر. والثانى: أربعون ألف عالم، الدنيا من شرقها إلى غربها عالم واحد، وما العمارة فى الخراب إلاّ كفسطاط فى الصحراء، قاله وهب. والثالث: إنّه ألف عالم ستمائة فى البحر وأربع مائة فى البر، قاله سعيد ابن المسيّب.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 3 ب،10 (2) القرآن الكريم 19/ 65

والرابع: ثمانية عشر ألف عالم، قاله الحسن. والخامس: إنّه لا يقدر أحدا يحصيهم سوى الله تعالى وهذا الأصحّ لقوله تعالى: {وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ»} (1). فأمّا ما عدا ذلك من أقوال المتفلسفين وأرباب علم النجوم فسيأتى من ذكر ذلك طرفا فى مكانه إن شاء الله تعالى. وأمّا إثبات الصانع، (2) فقال أحمد بن حنبل: (3) حدّثنا أبو معاوية بإسناده إلى عمران بن الحصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبنى تميم: يا بنى تميم اقبلوا البشرى! قالوا بشرتنا فأعطنا فتغير وجه وقال: يا أهل اليمن اقبلوا البشرى إذ لم تقبلها بنو تميم، فقالوا: يا رسول الله قد بشرتنا فأخبرنا (15) كيف كان أوّل هذا الأمر؟ فقال: كان الله ولم يكن شئ، أو قيل: قبل كلّ شئ، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض وكتب فى اللوح المحفوظ، أو فى الذكر كلّ شئ، انفرد بإخراجه مسلم. فإذا ثبت هذا فنقول: (4) مذهب جملة المسلمين أنّ الله تعالى كان ولم يكن معه شئ وأنّه أحدث العالم على غير مثال، ومذهب الأوائل أنّ العالم قديم على الفلك لم يزل دائر بشمسه وقمره وذلك محال، وقال أصحاب الرصديّات: الأفلاك والنجوم تدبّر أمر العالم، ونحن نرى أثر العجز عليها ظاهرا، أمّا النجوم فبالخسوف والكسوف والانتقال، وأمّا الأفلاك فبالدوران، وهذا آية القهر فالصانع قاهر وصانع العالم واحد.

(1) القرآن الكريم 74/ 31 (2) ماخوذ من مرآة الزمان 3 ب، -11 (3) مسند أحمد بن حنبل 4/ 431 (4) مأخوذ من مرآة الزمان 3 ب، -6

فصل [ولا يجوز أن يكون له ولد لوجوه. . .]

وقالت المجوس: هما اثنان: النور والظلمة، فالنور يقال له يزدان والظلمة هرمن وهو مذهب الثنويّة، وهذا شئ اخترعوه من غير أصل، وبطلان قولهم ظاهر فإنهما لو كانا اثنين لجاز أن يكون أحدهما مريد الحركة والآخر مريد السكونة فحصلا معا متضادّين ولا يجوز، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله تعالى: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا»}، (1) ومما رواه ابن الجوزى رحمه عن شقيق البلخى رحمه الله قال: قرأت أربعة وعشرين كتابا فى التوحيد فوجدت معانيها كلّها فى قوله تعالى: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا»}. فصل [ولا يجوز أن يكون له ولد لوجوه. . .] (2) ولا يجوز أن يكون له ولد لوجوه: أحدها أنّه لو كان له ولد لا ستأثر الأشياء كلّها لولده فتعطّل مصالح عباده، الثانى: أنّ الولد نتيجة الشهوة والله تعالى منزّه عن ذلك، والثالث: لأنّ الولد بعض الوالد والله سبحانه منزّه عن البعضيّة. فصل [ولا يجوز عليه النوم لوجوه. . .] (3) ولا يجوز عليه النوم لوجوه: أحدها لئلاّ يرجع الداعى عن بابه خائبا، والثانى (16) لأنّ النوم غفلة والبارئ عزّ وجلّ منزّه عنها، والثالث لأنّه تعالى يمسك السماء بغير عمد ولا علاقة فلو نام لوقعت على الأرض، وقال أبو إسحاق الثعلبى (4) بإسناده عن عكرمة عن أبى هريرة، قال: سمعت النبىّ صلى الله عليه وسلم يحكى عن موسى عليه السلام على المنبر قال: وقع فى نفس موسى هل ينام الله تعالى فأرسل

(1) القرآن الكريم 21/ 22 (2) مأخوذ من مرآة الزمان 4 آ،4 (3) مأخوذ من مرآة الزمان 4 آ،7 (4) قارن جامع البيان 3/ 6

فصل [فإن قيل فالملائكة لا تنام فقد شاركت البارئ فى هذه الحالة؛ فالجواب. . .]

الله إليه ملكا فأرّقه ثلاثا وأعطاه قارورتين فى كلّ يد قارورة وأمره أن يتحفّظ بهما، قال: فجعل ينام وتكاد يداه يلتقيان فيجلس أحدهما على الأخرى حتى نام نومة فاصطكّت يداه فانكسرتا القارورتان، قال: فضرب الله مثلا أنّه لو نام لم تستمسك السموات والأرض. والرابع لأنّ النوم آفة ويزيل العقل والقوّة ويقهرهما والله تعالى لا يجوز عليه ذلك. والخامس لأنّ النوم استراحة والله تعالى لا يأخذه تعب فيستريح، وقال أبو إسحاق الثعلبى بإسناده عن جابر بن عبد الله قال: سال (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينام أهل الجنّة قال: لا؛ لأنّ النوم أخو الموت وأهل الجنّة لا تموت، وقال الله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ»} (2) (3) السنة النوم الخفيف وهى النعاس، قال الزجّاج: هى ريح تجئ من قبل الرأس ليّنة فتغشى العين والوسنان بين النائم واليقظان. فصل [فإن قيل فالملائكة لا تنام فقد شاركت البارئ فى هذه الحالة؛ فالجواب. . .] (4) فإن قيل فالملائكة لا تنام فقد شاركت البارئ فى هذه الحالة؛ فالجواب: أنّ الملائكة لا تنام ويجوز عليها النوم والبارئ سبحانه لا يجوز عليه ذلك. فصل [والبارئ سبحانه ليس بجسم، وقالت الكرّاميّة. . .] (5) والبارئ سبحانه ليس بجسم، وقالت الكرّاميّة: (6) هو جسم إلاّ إنّه لا يشبه الأجسام واحتجّوا بما ورد من آيات الصفات كقوله تعالى: {وَاِصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا»} (7) وما أشبه ذلك بأخبار الصفات فى كثير من الآيات، ونحن نقول بقول

(1) سال: سئل (2) القرآن الكريم 2/ 255 (3) قارن الصحاح 6،2214 آ (4) مأخوذ من مرآة الزمان 4 آ، -9 (5) مأخوذ من مرآة الزمان 4 آ، -7 (6) قارن الفرق بين الفرق 216 (7) القرآن الكريم 11/ 37

ذكر أول مقامة من مقامات ابن الجوزى يليق ذكرها هاهنا

المتشرّعين من أهل السنّة والجماعة: الجسم محدود بالطول والعرض ونحوه والبارئ سبحانه ليس بمحدود، وأمّا الآيات والأخبار فمأوّلة (17) بما يليق سبحانه وتعالى علوّا كبيرا. وهو (1) موصوف بما وصف به نفسه من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام ونحوه فى كتابه القديم وعلى لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. ذكر أوّل مقامة من مقامات ابن الجوزى يليق ذكرها هاهنا قال الشيخ الإمام العالم الحافظ أبى الفرج عبد الرحمن بن علىّ بن محمّد بن علىّ ابن الجوزى رحمه الله وغفر لنا وله وللمسلمين أجمعين: بدرت خاليا والفجر قد تلى السحر، فتلوت تاليا كلّما تلى سحر، فترنّم بقوله: {أَفِي اللهِ شَكٌّ»} (2)، فقلت فى نفسى: فكيف شكّ من شكّ، فخلطت باقتناعيّات ليس فيها برهان، فبدلت الدليل على الدليل ما عزّ وماهان، فصاح الفكر بالنفس: اقطعى، ثم قال: يا صاح قم معى، فأتى بى معقل العقل، فولجنا بعد الإذن، فإذا ذو سن وسنا، ما محاسنه محاسنه، فقال الفكر: السلام عليك يا أبا التقويم، يا معدن العلم وأصل التعليم، فقال: صدر زمان طويل لم تأتينا، قال: حبيت فى مشكلة فافتتنا، فابتدئت أشرح له ما جرى، كأنّه يرى فلما عاين طالبا للحقّ بدليله، قال: أنا أنبثكم بتأويله. ثم حمد الله سبحانه بمحامد، لم أسمعها قطّ من حامد، ثم قال: من ظلّ يطلب الحقّ من الحسّ ضلّ، لأنّه محجوب بعيد منه عزّ وجلّ، وليعلم أنّ الحسّ لا يرى من الموجودات إلاّ الحاضر، ولا ناظر له إلى الغائبات ناظر، وإنّما الآلة

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 7 آ، -4 (2) القرآن الكريم 14/ 10

التى يعرف بها الإله أنا، فلو صحبتنى بلغت المنى، أنا جارك وما تعرفنى وبازائك ولا تألفنى، فلو تلفّفت عنّى سلمت من التغنّى. ولقد علم الفطناء أن نصحى يصحّى، فقلت: أنا شاكر للفكر إذ دلّنى، فعلم فعلى فعلنى. فقال: إنّ الخالق سبحانه قد ظهر لخلقه بحقّه، غير أنّ عالم الحسّ لا يرونه (18) وإن كانت الحسّيّات دليلا عليه، ومعبرا إليه، انظر إليك ويكفى وتأمّل ما لديك ويشفى تلمح قطرة قطرة ماء صبّت عن اتّقاد نار الشهوة كيف ظهرت فيها عن حركات اللذّة، وقوم نقوش عقدتها يد القدرة، كما تظهر الصورة فى ثوب السقلاطون عن حركات الشدّ، تدبّر نطفة مغموسة فى دم الحيض ونقّاش القدرة يشقّ سمعها وبصرها من غير مساس كفّ، تربّى فى حرز مصون عن مشعب بينا هى ترفل فى ثوب نطفة، اكتسب برداء علقة، ثم اكتسبت صفة مضغة، ثم انقسمت إلى لحم وعظم، فاستترت من يد الأذى بوقاية جلد، فلمّا افتقرت أيّها الآدمى إلى الغذاء فى البطن ساق إليك من دم الحيض وهو من دم الأمّ. فلمّا قوى جلد جلدك على مباشرة الهواء وبصرك على ملاقاة الأضواء أخرجك بما أزعجك، ثم صرّف ما كنت تغتذى به إلى التديين بعد أن أحاله لبنا عن صفة الدمويّة إلى حالة اللبنيّة، فلما عطشت عند الخروج إلى فلاة الدنيا رأيت أدواتى الثديين ممتليين لشربك، وكانت عمور الأسنان تكفى فى اجتذاب المشروب فكلّما اعتصرته خرج مغربلا لئلاّ يقع شرق. فلمّا قويت المعاء وافتقرت إلى غذاء فيه صلابة أنبتت الأسنان للقطع والأضراس للطحن، فكم من صوت بين أرجل هذه النقل من تحريك جلاجل العبر فى خلاخل الفكر، كلما رنّت غنّت السن الهدى فى معانى المعانى وكيف تسمع أطروس السقوة.

ومن الطرائف أنّه أخرجك غبيّا {لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً»} (1) إذ لو خرجت عاقلا لرأيت من أطمّ المصائب تقليبك فى الخرق والعصائب، ثم سلّط البكاء عليك فى حال طفولتك لينشف به رطوبات الرأس ويحصل فى ضمنه التقاضى بالقوت لرحمة الأمّ بك. انظر إلى الدماغ كيف تكاثفت عليه الحجب لتمسكه فى مكانه وتصونه من أذى يعرض (19) ثم أطبقت عليه الجمجمة لتقيّة حدّ صدمة، ثم حللت بالشعر ليستر الرأس من فرط حرّ أو برد. ثم جعل فيه آلة الذكر والنسيان، وكما أنّ الذكر نعمة فكذلك النسيان إذ لولاه ما سلى فقد ولا مات حقد. تأمّل خلق البواعث من البواطن لتدبير مصلحة البقاء فمن المتعلّق بالقوت سبع قوى: الأولى تطلب الغذاء والثانية تجتذبه إلى الكبد والثالثة تمسكه لها حتى تطحنه والرابعة تسعى جهدها لتهضمه والخامسة تميّز صفوه من كدره والسادسة تقسم الصافى على الأعضاء بمقدار حاجتها إذ لو بعثت إلى الخدّ ما تبغيه إلى الفخذ صار بمقدارها، والسابعة تدفع تفله، ومن العجيب ستر مكان منفذ التفل وجعله فى غامض البطن كما يجعل موضع التخلّى فى أستر مكان البيت، ثم لمّا افتقرت الأبدان إلى الهواء بتّه فى الفضاء لتقتضب منه النفوس الأنفاس وترقم فيه الأصوات الجوانح كما ترقم فى القرطاس. ثم انظر إلى آلة النطق ترى مخرج الصوت كالمزمار الكبير والحنجرة كقصبة المزمار والريّة كالزقّ والعضلات التى تقبض الريّة لتخرج الصوت من الحنجرة كالأ كفّ التى تقبض على الزقّ كى يخرج الريح فى المزمار، والشفتان التى تصوغ الصوت حروما ونفعا كالأصابع والأسنان التى مختلف على فم المزمار فتصوغ صفيره

(1) القرآن الكريم 5/ 104

اللحانا، (1) ومن العجب أنّ الأصوات لا تشابه لأنّه لما احتيج إلى معرفة الصوت رفعت الشبه برفع الشبه، وكذلك الصور والخطّ. ثم انظر كيف مدّ الأرض بساطا ثم أمسكها عن الاضطراب فتمكّن بسكونها السكنى ثم يزلزلها فى وقت ليفطن الساكن بقدره المزعج وجعل منها نوع رخاوة ليتهيّأ للحفر والزرع، ورفع جانب الشمال لينحدر الماء وفرق الماء بين الجزائر ليرطب الهواء وأودع فيها المعادن كما تودع الحاجات فى الخزائن. ثم أخرج الحبّ (20) لبنى آدم والأب للبهائم والحطب للوقود، تأمّل قيام الشجر كلّما طال فى السماء الفرع امتدّت العروق فى الأرض كقيام العمد بالأطناب، ولولا ذلك لم تثبت النخل فى العواصف من الرياح، ثم إنّها تموت وتحيى فهى فى حال يبسها متشهّة بالغائب فإذا همّت بالقدوم بشّر نور النور. تأمّل الرمّانة كيف حشيت الشحم بين الحبّ ليكون غذاء لها إلى وقت عود المثل ثم بين كلّ حشوين لقّافة لئلاّ تنصال (2) فيجرى ماؤه، ولمّا كانت العيون لا تبصر إلاّ بواسطة الضوء خلق الشمس سراجا ومنضجا للثمر تجرى من غير توقّف إذ لو وقفت حجبها عن بعض الأماكن جبل أو جدار لكنّها تسير ليعمّ نفعها، فإذا تعبت الأبدان من الحركة بالنهار غابت لتسكن فيزول كدّ الكلال بالاستراحة وتقوى القوى بتلك الراحة، فإن عرضت حاجة بالليل ففى القمر خلف ولو أضاء فى جميع الشهر لانبسط الناس فى أعمالهم فأدى الحرص كدّه، ومتى غاب القمر كانت أنوار الكواكب كشعل النار فى أيدى المقتبسين. ثم إنّ الشمس ترتفع تارة وتنخفض تارة أخرى فيختلف الزمان بين شتاء تغور فيه الحرارة فى الشجر فتعقد موادّ الثمر ويكيّف الهواء فينشأ السحاب، وربيع

(1) اللحانا: الحانا (2) تنصال: تنسال

تظهر فيه تلك الموادّ التى انعقدت فى بواطن الشجر، وصيف ينضج فيه الثمر، وخريف تستريح فيه، ثم تلمح الحرّ والبرد كيف يدخل كلّ واحد منهما على صاحبه بتدريج لئلاّ يفجأ الأبدان فتضطرّ. ثم انظر إلى خلق النار التى لا بدّ للخلق منها فلو ثبتت فى العالم لأحرقته لكنّها جعلت كالمخزون تستتار (1) وقت الحاجة فتمسك بالمادة قدر مراد الممسك. تأمّل خلق الطير فإنّه لما قدر له الطيران تخفف جسمه وأدمج خلقه واقتصر له على جناحين فائمتين وجعل له جؤجؤ محدّد يخرق به الهواء كما تخرق السفينة بجؤجؤها الماء، وأطيل (21) ريش جناحيه وذنبه لينهط (2) للطيران وكسى جسمه كلّه الريش لما (3) يدخل فيه الهواء فيقلّه، ولمّا كان يختلس قوته خوف اصطياد صلب منقاره لئلاّ ينسجح من الالتقاط ونقص الأسنان لأنّ زمان الانتهاب لا يحتمل المضغ، وجعلت له حوصلة كالمخلاة ينقل إليها ما تيسّر على عجل ثم يدفعه إلى القانصة فى زمن الأمن على مهل، وزيدت جوفه حرارة لتطحن ما لم تمضغه، فإن كانت له فراخ أسهمهم من الحاصل فى الحوصلة قبل النقل فإن كان ممّن لا حنّة له على فراخه أغنوا عنه بالاستقلال من حين انشقاق البيضة كالفراريج فإنّها تخرج كاسية كاسية، أو ما علمت أنّ الفرخ من البياض يخلق وبالمحّ يغتذى كما يغتذى الطفل بدم الحيض لأنّ القشر لمّا كان مانعا من وصول قوت أعطى ما يتقوّنه، ولما بثّ الطير صان السنبل بتشور محدّدة لئلاّ ينشفه فيموت بشما فيعوب الحظان، ولما جعل رزق طائر الماء فى الماء طوّل ساقاه فهو مقيم فى ضحضاح فإذا رأى صيدا خطا إليه ولو قصرت قائمتاه كان حين سعيه يضرب الماء بطنه فينفر الصيد.

(1) تستار: تستثار (2) لينهط: لينهض (3) لسا: لئلا

وفى الطير ما لا ينشر إلا بالليل كالخفّاش والبوم فما يخليه الرازق مع اختفاء الصيد من معاش هو يتناول من البعوض والفراش وغير ذلك. وهل نظرت إلى إلهام البهائم ما يشابه فطن العقلاء ليكون عونا لها على البقاء فإنّ النملة تتّخذ الربية فى نشر لئلا يتأذّى قوتها بالعفن ويقطع الحبّ لئلاّ ينبت، ولبث الذباب يسكن كالميّت فإذا عقلت عنه الذبابة وثب، والعنكبوت تنسج شبكة للذباب. قال: فلمّا أملّ العقل على كاتب السمع من هذا ما أملّ، قال اكتف بهذا الصاع كيلا كى لا نملّ، فلقد تجلّى الحقّ للخلق فرأته الألباب عيانا، غير أنّ أعمى البصيرة قد أعيانا، قلت: فإذا كان الدليل الواضح قد دلّ، فما بال أكثر الخلق قد ضلّ، قال: إنّه خلط الأدلّة (22) الجليّة بالشبه، وأقام العقل يفرق ما اشتبه، فمن الناس من لم يرفع النضيّة إلى العقل إهمالا لطلب الصواب، ومنهم من رفعها ولم يلتفت إلى الجواب، وجمهور الضالّين الذين حول العسر جلسوا راموا أن يدركوا بالحسّ ما لا يدرك <إلاّ> بالعقل فلما أعوزهم ذلك خرجوا إلى الجحد. قلت: أيّها العقل أفتحيط علما بالمعبود، قال: شهدت عندى أفعاله بالوجود فحصل لى المقصود، فأمّا إدراك ذاته فتعجز قوّتى، لأنّ رتبته فوق رتبتى، أتراك لو مررت فى بعض البقاع بقاع ثم عدت وفيه بنيان، أما بان لك وإن لم تبن وجود بان؟ قلت: اذكر لى جملة من صفاته إذ لا سبيل إلى معرفة ذاته! فقال: تعالى عن بعضيّة «من» وتقدّس عن ظرفيّة «فى» وتنزّه عن شبه «كأن» وتعظّم عن نقص «لو أن» وعزّ عن عيب «إلاّ أن» وسما كماله عن تدارك «لكن» مما تنزه عنه «مم» فيما يجب نفيه «فيم» جلّ وجوب وجوده عن رجم

فصل فى بداية المخلوقات

«لعلّ» سبق الزمان فلا يقال «كان» إذ تمجّد فى وحدانيّته عن زحام «مع» تفرّد بالإنشاء فلا يستفهم عن الصانع «بمن» أبرز عرائس الوجود من «كن» بثّ الحكم فلم يعارض «بلم» إن وقف ذهن بوصفه صاح العجز، إن سار فكر نحوه قالت الهيبة: عد! إن قعد القلب عن ذكره قالت القدرة: قم! إن تجبّر متكبّر قال القهر: سم! إن سأل محتاج قال الإنعام: رش! إن تعرّض فقير قال الوفر: فر! إن سكت مذنب حياء قال الحلم: قل! إن بعد ذو حظّ قال بادئ اللطف: آن نثر عجائب النعم وقال للكلّ: خذ! قلت: فما تقول فيمن يشبّهه؟ قال: يقول ما يشبهه، حال التشبيه عنا بجملة سئل الجهل. انزل عن علوّ غلو التشبيه ولا تقل تلك أباطيل التعطيل فالوادى بين الجبلين. فما سكت العقل (23) حتى شفانى ولا كفّت كفّا تهيمه حتى كفانى، ففضيت من شكر الفكر حقّا. فصل فى بداية المخلوقات (1) اختلف العلماء رضى الله عنهم على أقوال: (2) أحدها أنّ أوّل المخلوقات القلم كما روى عن عبادة بن الصامت قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوّل ما خلق الله القلم فقال له اكتب فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، وهذا اختيار ابن عبّاس والحسن وعطاء ومجاهد وعامّة العلماء رضى الله عنهم. وقال ابن عبّاس: لما خلق الله القلم وقال له اجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة جرى على اللوح المحفوظ بذلك؛ وفى رواية عن ابن عبّاس: فسبّح الله ومجّده ألف علم وهو مشقوق بالنور، ولمّا نظر الله إليه انشقّ نصفين من هيبة الله تعالى.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 4 آ، -1 (2) قارن تأريخ الطبرى 1/ 29؛ جامع البيان 29/ 9

وأمّا النون فقد اختلفوا فيه فقال قوم: هو الدواة وهو اختيار الحسن وقتادة والضحاك، ورواية الثمالى عن ابن عبّاس واحتجّوا بقول الشاعر (من الوافر): إذا ما الشوق مرّح بى إليهم … ألفت النون بالدمع السخوم و<قال> عامّة المفسّرين إنّ النون الحوت الذى يحمل الأرض حسبما نذكره إن شاء الله تعالى. الثانى: إن أوّل ما خلق الله الماء، (1) رواه الضحاك عن ابن عبّاس واحتجّ بقوله تعالى: {وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ»} (2) قال: خلق الله جوهرا فصيّره ماء. الثالث: النور والظلمة، قال محمد بن إسحاق قال: ثم خيّر بينهما فجعل الظلمة ليلا والنهار مضيئا. الرابع: العرش والكرسى، قاله وهب بن منبّه. الخامس: اللوح، قاله مقاتل. السادس: نقطة فصيّرها ألفا فبدأ بها (24) المخلوقات، والقول الأوّل أصحّ. وأمّا اللوح المحفوظ، (3) روى مجاهد عن ابن عبّاس قال: اللوح من درّة بيضاء وطوله مثل ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين الشرق والمغرب وحافّتاه من الدرّ والياقوت وقلمه نور وهو متّصل بالعرش ثم قرأ ابن عبّاس: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ»} (4)، الآية، وقد ذكر الثعلبى معناه، وروى أيضا عن أنس أنّ اللوح المحفوظ فى جبهة إسرافيل، وقال مقاتل: هو يمين العرش، وسنذكره.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 4 ب، -5 (2) القرآن الكريم 11/ 7 (3) مأخوذ من مرآة الزمان 5 ب، -9 (4) القرآن الكريم 85/ 22

فصل فى حد الزمان والأيام

فصل فى حدّ الزمان والأيّام (1) قال العلماء رضى الله عنهم: الزمان اسم لقليل الوقت وكثيره، فالحاصل أنّ الله تعالى خلق السموات والأرض قبل خلقه الأيّام والليالى والشمس والقمر، وقد رواه مجاهد عن ابن عبّاس فى تفسير قوله تعالى: {فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ»} (2)، فقال الله تعالى للسموات: أطلعى شمسى وقمرى ونجومى! وقال للأرض: شقّقى أنهارك وأخرجى ثمارك! فأجابتا. فإن قيل إنّما يعرف اليوم بطلوع الشمس والليلة بغروبها ولم تكن الشمس يومئذ فالجواب أنّ البارئ سبحانه لا يحتاج إلى طلوع الشمس فى مخلوقاته لأنّه ليس عنده ليل ولا نهار، بذلك وردت الأخبار؛ واختلف العلماء رضى الله عنهم فى الأيّام التى خلق الله فيها السموات والأرض والمخلوقات هل هى مثل أيّام الدنيا المعروفة أو مثل أيّام الآخرة كلّ يوم مقداره ألف سنة، على قولين: أحدهما أنّها مثل أيّام الدنيا، قاله مجاهد والحسن البصرى لأنّها المعهودة، والثانى أنّها مثل أيّام الآخرة، (25) وبه قال ابن عبّاس وعامّة العلماء، قال الله تعالى: {فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»} (3). فإن قيل: فهلاّ خلقها فى لحظة واحدة وهو أهون عليه فالجواب من وجوه: أحدها أن النثبّت أبلغ فى القدرة والتعجيل لا تقتضيه الحكمة، قاله ابن عبّاس، الثانى: أنّ الله تعالى أراد أن يظهر فى كلّ يوم آية وأمر تستعظمه الملائكة، قاله مجاهد، الثالث: أنّ الذى يتوهّمه المتوهّم من إبطاء الخلق فى ستّة أيّام هو

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 5 ب، -4 (2) القرآن الكريم 41/ 11 (3) القرآن الكريم 70/ 4

الذى يتوهّمه فى ستّة الالف (1) سنة عند تأمّل قوله تعالى {كُنْ فَيَكُونُ»}. (2) وقال سعيد بن جبير إنّ الله سبحانه كان قادرا أن يخلق المخلوقات فى لمحة واحدة وإنّما خلقها فى ستّة أيّام تعليما لخلقه الرفق والتثبّت فى الأمور، حكاه عن ابن عبّاس وهو معنى القول الأوّل. واختلفوا فى أسماء الأيّام فقال الزجّاج والفرّاء وأبو عبيد وقد رواه الأصمعى عن عمران بن العلاء وروى ابن الجوزى، قال أنبأتا بذلك جماعة عن القاسم ابن السمرقندى قالوا: كانت العرب العاربة تقول ليوم السبت شيار وليوم الأحد أوّل وللاثنين أهون وللثلاثاء جبار وللأربعاء دبار وللخميس مؤنس وللجمعة العروبة، وأوّل من نقل العروبة إلى الجمعة كعب بن لؤى. وقد ذكر الجوهرى (3) هذه الأيّام وقال: كانت العرب القديمة تسمّيها فى أسمائهم القديمة. والقول الثانى: أنّهم كانوا يسمّون يوم السبت أباجاد، والأحد هوز والاثنين حطى، والثلاثاء كلمون والأربعاء سعفص والخميس قرست، ويوم الجمعة العروبة، حكاه الضحاك عن زيد بن أرقم. والقول الثالث: ذكره أبو إسحاق الثعلبى عن ابن عبّاس قال: خلق الله يوما واحدا وسمّاه الأحد وخلق يوما ثانيا وسماه الاثنين، ثم ذكر باقى الأيّام على هذا. (26) قلت: والتوفيق بين هذه الأقاويل ممكن لأنّه يحتمل أنّها كانت قديمة ثم تغيّرت وتقلّبت بطول الزمان كما فعلوا فى الشهور لما نذكر إن شاء الله. واختلفوا فى أىّ يوم بدأ الله عزّ وجلّ بالخلق على أقوال، أحدها: أنّه تعالى بدأ بها يوم السبت وكان الفراغ منها يوم الجمعة. قال الإمام أحمد بن حنبل

(1) الالف: آلاف. (2) القرآن الكريم 2/ 117 (3) الصحاح 6/ 2218، ب؛ وقارن مروج الذهب 2/ 349، مادة 1311

بإسناده إلى أبى هريرة رضى الله عنهما قال: (1) أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدى وقال: خلق الله التربة يوم السبت وخلق الله الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبثّ فيها الدوابّ يوم الخميس وخلق آدم يوم الجمعة بعد العصر فى آخر ساعة من ساعات الجمعة ما بين العصر إلى الليل، انفرد بإخراج ذلك مسلم. وقد رواه عكرمة عن ابن عبّاس قال جاءت اليهود فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخلوقات فذكر الحديث (2) إلاّ أنّ الطبرى ذكر أنّه بدأ بالمخلوقات فى يوم الأحد لما نذكر، فلمّا قال: وخلق آدم يوم الجمعة فى آخر ساعة قالت اليهود: ثم ماذا؟ فقال، ثم استوى على العرش، فقالوا: لو أتممت: ثم استراح يوم السبت، فغضب صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، ثم أنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماااتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ»} (3). . . الآيات، وقد ذكر أبو إسحاق الثعلبى فى آخر سورة «ق» وقال فيه: فقالت اليهود: صدقت إن أتممت، قال: وما ذاك؟ قالوا: ثم استراح يوم السبت واستلقى على العرش، فنزلت الآيات. والثانى: أنّه بدأ بالمخلوقات يوم الأحد، قال كعب الأحبار ومجاهد والضحاك، وحكاه أبو جعفر الطبرى رحمه الله عن اليهود، ورواه أيضا عن ابن عبّاس أنّ اليهود سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خلق السموات والأرض، فقال: خلق الله الأرض (27) يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهنّ من المنافع

(1) المعجم الفهرس 1/ 268، مادة تربة؛ مسند أحمد بن حنبل 2/ 327؛ صحيح مسلم 8/ 127، القيامة، باب ابتداء الخلق (2) جامع البيان 26/ 111؛24/ 61 (3) القرآن الكريم 50/ 38 - 39

وخلق الشجر يوم الأربعاء والماء والمدائن فهذه أربعة وخلق يوم الخميس السماء ويوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة وخلق آدم فى آخره وأسكنه الجنّة ثم أخرجه منها، قالت اليهود: ثم ماذا؟ وذكر الحديث أنّه قال: خلق الله يوما واحدا وسمّاه الأحد ثم ذكر بقيّة الأيّام، وحكاه الثعلبى أيضا، وكذا هو فى التوراة، ولهذا قالوا: استراح يوم السبت، وبه قالت النصارى لأنّ عيسى عليه السلام رفع فيه إلى السماء. والثالث: يوم الاثنين قاله محمد بن إسحاق، والقول الأوّل أصحّ لوجهين: أحدهما لأجل الحديث الصحيح الذى رواه أبو هريرة وأنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم نصّ عليه، وقد قال أبو هريرة: أخذ رسول الله بيدى. والثانى لأنّ فيه مخالفة لليهود لأنّهم أبطلوا الخلق يوم السبت وقالوا: استراح، ومخالفة النصارى أيضا. واختلفوا فى خلق السموات والأرض أيّهما أسبق على قولين: أحدهما: الأرض، قاله ابن عبّاس. والثانى: السموات، قاله مجاهد، وسنذكر من ذلك بيانا. واختلفوا فى خلق لليل والنهار أيضا على قولين: (1) أحدهما: النهار خلق أوّلا، قاله عكرمة ومجاهد لأنّه ضياء والنور مقدّم على الظلمة. والثانى: لليل، وقد قال ابن عبّاس وعامّة العلماء (2) لقوله تعالى: {وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ»} (3). وقوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ»} (4). فدلّ على أنّ الليل مقدّم عليه ولأنّ الظلمة أصل والضياء عارض وهو من إشراق نور الشمس فلا يكون أصلا، وقد نصّ عليه ابن عبّاس فقال: أرأيتم حين كانت السموات والأرض رتقا هل كان بينهما إلاّ ظلمة.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 7 آ،2 (2) جامع البيان 17/ 15؛23/ 5 (3) القرآن الكريم 36/ 40 (4) القرآن الكريم 36/ 37

فصل فى ذكر خلق السموات والآثار العلويات

فصل فى ذكر خلق السموات والآثار العلويّات قلت: رأيت كثير من أرباب التواريخ يقدّمون ذكر خلق الأرضين وتأمّلت (28) ذلك فلم أجد لهم دليلا على ذلك، ونظرت فإذا القرآن العظيم جميع آياته الشريفة تتضمّن تقدمة السموات على الأرض كقوله تعالى: {لِلّهِ ما فِي السَّماااتِ وَما فِي الْأَرْضِ»} (1)، وأنضارها (2) فى جميع الكتاب العزيز، فاقتديت بذلك وابتدأت (3) بذكر خلق السموات والآثار العلويّات قلت: أظهر الله تعالى فى السماء دلائل على ربوبيّته ووسائل إلى قدرته، منها: أنّه جعلها سقفا مرفوعا لتكون ظلاّ، ومنها أنّها بغير عمد تحتها ولا علاقة من فوقها ومنها سمتها والنفع بزيادة التصرّف فيها وكونها نزهة للناظرين، ومنها استواؤها ما ترى فى خلق الرحمن من تفاوت فأرجع البصر كرتين بالنظر والاستدلال وقيل بالنزهة والاعتبار، ومنها لونها الذى لا يتغيّر على مرور الزمان وتقلّب الحدثان ثم هو أحسن الألوان وأقوى للبصر وأحدّ للنظر، والأطبّاء إنّما يأمرون بإدمان النظر إلى الخضرة ليقوى البصر. وقيل: هى بيضاء، ولكن من بعدها ترى كذلك، وقيل إنّها خضراء. ومنها: إمساكها بيد القدرة، إنّ الله يمسك السموات والأرض أن تزولا، ومنها أنّها ظلّ لبنى آدم لقوله تعالى: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ»} (4)، ومنها أنّ الخلق يضعون الأساس أوّلا ثم السقف بعد ذلك، والله تعالى أفعاله خلاف أفعال العباد،

(1) القرآن الكريم 4/ 170 (2) أنضارها: أنظارها (3) مأخوذ من مرآة الزمان 41 آ،12 (4) القرآن الكريم 52/ 5

ومنها أنّ بناء الدنيا تحته أوسع من الفوق وبناء الله عزّ وجلّ على ضدّه، ومنها أنّ بناء الخلق ينهدم على طول مرور الأيّام ويجدّد ويرقّع، وبناء الله تعالى لا ينهدم ولا يخلق ولا يرقّع، قال الجوهرى فى صحاحه: (1) كلّ ما علاك فأظلّك فهو سماء، ومنه قيل لسقف البيت سماء، ويقال للسحاب سماء، قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً»} (2) ويسمّى المطر سماء، ولأصحاب علم البيان والبديع فى هذا أقاويل حسنة فى شرحه طول، (29) وقال الفرّاء والزجّاج: لفظ السموات واحد ومعناه الجمع بدليل قوله تعالى: {فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماااتٍ»} (3) وقال أبو حنيفة داود الدينورى قال الله تعالى: {وَالسَّماءَ بَنَيْناها»} (4)، وقد ورد فى السماء أخبار وآثار، قال أحمد بن حنبل (5) بإسناده إلى أبى ذرّ قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّى أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطّت السماء وحقّ لها أن تئطّ ما فيها موضع أربع أصابع إلاّ وعليه ملك ساجد، وقال الجوهرى: (6) الأطيط: صوت الرجل والإبل من ثقل أحمالها ويقال: لا أشكّ (7) ما أطّت الإبل، وقال عبد الله ابن المعتزّ من قصيد يخاطب بها مآدبة أحمد بن سعيد (من البسيط): عقباك شكر طويل لا نفاد له … تبقى معالمه ما أطّت الإبل (8) وروى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: لمّا أراد الله تعالى خلق المخلوقات خلق الماء فثار منه دخان فارتفع فخلق منه السماء وجعلها سماء واحدة ثم فتقها فجعلها سبعا وأوحى فى كلّ سماء أمرها، أى: قدّر أن يكون فيها من الملائكة والنجوم وغير ذلك.

(1) الصحاح 6/ 2382 آ (2) القرآن الكريم 50/ 9 (3) القرآن 55/ 9 (4) القرآن الكريم 51/ 47 (5) مسند أحمد بن حنبل 5/ 173 (6) الصحاح 3/ 1115 آ (7) لا أشك: لا آتيك الصحاح (8) ديوان ابن المعتز 3/ 346، -2، رقم 258

وروى عنه عكرمة فى تفسير قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ»} (1). قال: الفروج الشقوق وكذا الفطور. وقال الربيع بن أنس: (2) السماء الأوّلة من موج مكفوف، والثانية من صخرة، والثالثة من حديد، والرابعة من صفر، والخامسة من ذهب، والسادسة من فضّة، والسابعة من الياقوت الأحمر. وروى الوالبى عن ابن عبّاس قال: الأولى من زمرّدة خضراء، والثانية من فضّة بيضاء، والثالثة من ذهب، والرابعة من لولؤ، والخامسة من الياقوت، والسادسة من المرجان، والسابعة من النور، وجاء فى الحديث: إنّ سماء الدنيا هى الرفيع، وفى الحديث: (30) من سبعة أرقعة، وقال مقاتل: والثانية ركماء، والثالثة جوفاء، والرابعة طرفه، والخامسة أدماء، والسادسة عروتين، والسابعة عزوما. وأما أبوابها: (3) روى عن ابن عبّاس أنّه قال: لها أبواب كثيرة منها باب المطر: وهو قوله تعالى: {فَفَتَحْنا أَبْاابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ»} (4)، وباب الرزق: ما يفتح الله للناس من رحمة، وباب النزول: ينزّل عليهم الملائكة، وباب الوحى: بالروح من أمر ربّه: وباب صعود الأعمال: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح. وحكى ابن الجوزى رحمه الله فى كتاب التبصرة (5) قال: قال أبو الحسين ابن المنادى: لا خلاف بين العلماء أنّ السماء على الأرض مثل القبّة وأنّ العالم مثل

(1) القرآن الكريم 50/ 6؛ قارن تفسير المجاهد 2/ 609؛ جامع البيان 26/ 95 (2) قارن كتاب التبصرة 2/ 173||الأولة: الأولى (3) مأخوذ من مرآة الزمان 41 ب، -8 (4) القرآن الكريم 54/ 11 (5) التبصرة 2/ 173

الأكرة وأنّها تدور بما فيها من الكواكب على قطبين ثابتين غير متحرّكين: أحدهما فى ناحية الشمال والآخر فى ناحية الجنوب مطالع سهيل، وأنّ كرة الأرض مثبتة وسط كرة السماء كالنقط من الدائرة، قلت: إلى هاهنا ذكر ابن الجوزى، وقال أبو الحسين ابن المنادى رحمه الله فى تمام هذا الفصل: وإنّ بعد ما بين السماء والأرض على نمط واحد من جميع الجهات والأفلاك تدور على محورين وقطبين ثابتين، ومن كان مسكنه وسط الأرض عند استواء ساعات الليل والنهار رأى المحورين والقطبين، ومن كان مسكنه فى بلاد الشمال يرى القطب الشمالى، ومن كان بالجنوب يرى الجنوبى، قال الجوهرى: (1) والمحور العود الذى تدور عليه البكرة وربّما كان من حديد، وسنذكر القطب والجدى فى موضعه. وقال جالينوس: العالم شبه البيضة والسماء موضع القشر والهواء موضع البياض والأرض موضع المح. واختلفوا هل الأفلاك السموات أم غيره على قولين: (2) أمّا مذهب (31) الأوائل: فإنّها هى بعينها، وأمّا مذهب المتشرّعين: فهى غيرها، وقد رواه العوفى عن ابن عبّاس واحتجّ بقوله تعالى: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماااتِ»} (3)، وقال فى آية أخرى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ»} (4)، وسمى الفلك فلكا لاستدارته، ومنه فلك المغزل بفتح الفاء لاستدارتها، وقال قوم بأنّ الفلك هو القطب وليس بشئ لأنّ القطب لا يزول ولا يتغيّر كما لا يزول قطب الرحاء.

(1) الصحاح 2/ 640 ب (2) مأخوذ من مرآة الزمان 42 آ،5 (3) القرآن الكريم 7/ 54؛ قارن جامع البيان 8/ 146 (4) القرآن الكريم 21/ 33؛ قارن جامع البيان 17/ 17

قلت: (1) ومذهب جملة المسلمين أنّ السموات سبع، قال الله تعالى: الله {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماااتٍ طِباقاً»} (2)، ومذهب الأوائل والمنجّمين أنّها تسعة أفلاك فأوّلها أقربها إلى الأرض، وهو أصغرها وهو فلك القمر، ثم الذى يليه فلك عطارد، ثم فلك الزهرة، ثم فلك الشمس، ثم فلك المرّيخ، ثم فلك المشترى، ثم فلك زحل وهو السابع، والثامن فلك البروج وفيه سائر الكواكب الثابتة، والتاسع الفلك الأعظم الحاكم على الجميع وله أسامى كثيرة منها الأثيرى لأنّه يؤثر فى غيره وغيره لا يؤثر فيه، والقسرى لأنّه يدير الأفلاك قسرا دورة قسريّة فى كلّ يوم وليلة دورة واحدة، ومن أسمائه فلك الاستواء، ومنها المستقيم، ومنها الأطلس، ويزعمون أنّه ليس وراءه شئ ولا فيه كوكب ولا غيره ويدير الأفلاك على القطبين الثابتين اللذين ذكرناهما، قال: وبينه وبين الأرض خمسون ألف سنة، ويسمّى المحيط أيضا لأنّه محيط بكلّ شئ ولا يحيط به إلاّ علم الله عزّ وجلّ. قال بطلميوس: وهو أخفّ الأفلاك وأضوأها لأنّه بهىّ فى جوهره. ولذلك ارتفع على كلّ شئ، قال: والذى دونه يقال له فلك البروج وفلك الأفلاك لأنّه يدور بأفلاك الكواكب. ثم دونه فلك زحل ثم الأفلاك المذكورون. واختلفوا أيضا الأوائل فى كثير من أمرها، (32) فمنهم من يقول: هى أفلاك كثيرة، ومنهم من قال: إنّ الفلك حىّ مميّز بجميع ما فيه ذو صورة، وكذلك جميع ما فيه بهذه المنزلة، وهذه الأفلاك من طبيعة أخرى بخلاف الطبائع الأربع لأنّها لو كانت من هذه لزمها لزوم هذه من الكون من هذه الطبائع الأربع التى دون فلك القمر من النار والهواء والتراب والماء ولزمها الفساد

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 42 آ،11 (2) القرآن الكريم 67:3

والاستحالة والزيادة والنقصان، فالفلك وما فيه من طبيعة خامسة ولم يخبرون عن ماهيّتها بأكثر من هذا. وقال بطلميوس أيضا: صورة الفلك وعيان بروجه على مثال البطيخة المخطّطة أعلاها وأسفلها كالنقطتين وكلّ بيت بين خطّين بمنزلة البروج واتّساق بروجه على مثل اتّساق بيوتها وخطوطها. وقال أفلاطن: الأفلاك كهيئة الأكر بعضها فوق بعض والفلك التاسع محيط بجميع الطبائع والمخلوقات وليس فيه كوكب وهو يدير الكلّ من المشرق إلى المغرب كلّ يوم وليلة دورة واحدة، والأفلاك الثمانية تدور من المغرب إلى المشرق، وشبّهوا ذلك بسفينة تجرى مع الماء وفيها رجل تمشى مصعدا، ولهم فى هذا بحث طويل. واستدلّوا أيضا على ذلك أنّ الشمس والقمر يدوران فى اليوم والليلة دورة واحدة، قال: والبروج نصف سدس الفلك، قال: وفلك البروج وما فيه من الكواكب يدور على القطبين الذين ذكرنا غير قطبى الفلك الأعظم، وعرض الأرض من القطب الشمالى إلى القطب الجنوبى الذى هو مطلع سهيل فى موضع خطّ الاستواء ثلاثمائة وستّون درجة، فيكون الجملة تسعة آلاف فرسخ، ومن فلك القمر إلى الأرض خمسة وعشرون ألف فرسخ، قلت: وينبغى أن يكون هذا على وجه التقريب والظنّ لا على وجه القطع واليقين. ونقل عن فيثاغورس أنّه قال: العالم الأرضى متّصل (33) بالعالم السماوى والفلك يتحرّك حركة مستديرة دائمة فتتحرّك الكواكب بتحريكه وحركة الكواكب على هذا العالم تفعل فيه الاستحالة ويحدث فيه الكون والفساد، وفساد كلّ شئ يكون شئ آخر، ومثاله ما يحترق من الخشب فيصير فحما،

فصل القول فى البروج

وإنّ حركات الكواكب الدائمة توجب الكون الطبيعى الدائم، وليس فى الحركات حركة تامّة غير المستديرة لأنّ المتحرّك بها لا يسكن لأنّه لا نهاية لحركتها بخلاف الحركات المختلفات لأنّها غير تامّة ولها نهايات فإذا انتهت سكنت، وضربوا لها مثلا فقالوا: وحركة النار والهواء إلى فوق وحركة الماء والتراب إلى أسفل، ولهم فى هذا اصطلاح عجيب، ويقال إنّ هذا كلّه كلام أفلاطن لأنّه أقام برصد الأفلاك سبعين سنة. فصل القول فى البروج (1) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنّاها لِلنّاظِرِينَ»} (2) وآيات أخرى، قال الحسن البصرى: البروج القصور وفى السماء قصور مثل قصور الأرض، وقال أبو إسحاق الثعلبى فى تفسير قوله تعالى: {تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً»} (3)، قال: يعنى: منازل الكواكب السبعة السيّارة، وهى اثنا عشر برجا: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدى، والدلو، والحوت، فالحمل والعقرب بيتا المريخ، والثور والميزان بيتا الزهرة، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد، والسرطان بيت القمر، والأسد بيت الشمس، والقوس والحوت بيتا المشترى، والجدى والحوت بيتا زحل. قال: وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربع فيكون نصيب كلّ واحد

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 42 ب، -11 (2) القرآن الكريم 15/ 16 (3) القرآن الكريم 25/ 61؛ قارن جامع البيان 19/ 19؛ الجامع لأحكام القرآن 13/ 65؛10/ 9

منها ثلاثة بروج (34) وتسمّى المثلّثات: فالحمل والأسد والقوس مثلّثة ناريّة، والثور والسنبلة والجدى مثلّثة أرضيّة، والجوزاء والميزان والدلو مثلّثة هوائيّة، والسرطان والعقرب والحوت مثلّثة مائيّة. قال: واختلف أهل التفسير فى معنى البروج فروى عن عطيّة العوفى فى تفسير الآية، قال: هى قصور فيها الحرس، دليله قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ»} (1)، قال الأخطل: (من البسيط): كأنها برج رومىّ يشيّده … بان بجصّ وآجرّ وأحجار (2) وقال قتادة ومجاهد: هى النجوم، وقال عطاء: هى السرج وهى أبواب السماء التى تسمّى المحرّة، هذا كلام الثعلبى. قلت: وقد نصّ ابن عبّاس فى رواية الوالبى عنه أنّها البروج المعروفة التى أشرنا إليها. وقال أبو حنيفة الدينورى: الناس يجمعون على أنّها اثنا عشر برجا لا يختلفون فى ذلك، وإنّ الله تعالى قسمها ترابيع وتثاليث، وهى مقسومة على الكواكب السبعة كما ذكرنا، قال الدينورى: وتسمّيها كلّ أمّة بلسانها ويتّفقون فى المعنى وكلّهم يبتدئ بالحمل على الترتيب المذكور، وقال أبو محمد عبد الجبّار المعروف بالخرقى فى كتاب التبصرة له: فالحمل ثلاثة عشر كوكبا، والخارج عن الصورة خمسة كواكب وصورته صورة كبش مقدمه إلى جهة المغرب ومؤخّره إلى المشرق وهو ملتفت إلى خلفه حتى صار خرطمه على ظهره، ومن كواكبه الشرطين من منازل القمر.

(1) القرآن الكريم 4/ 78؛ قارن الجامع لأحكام القرآن 5/ 282 (2) ديوان الأخطل 1/ 163، -4، رقم 14، بيت 10 - -بان: بز ديوان الأخطل

والبرج الثانى: الثور، ثلاثة وثلاثون كوكبا، والخارج عن الصورة أحد عشر كوكبا، وهو على صورة النصف المقدّم من الثور، وقد نكس رأسه للنطح وقد قطع بنصفين على سرته، مقدمه إلى المشرق ومؤخّره إلى المغرب، من كواكبه الثريّا والدبران من منازل القمر. والبرج الثالث: الجوزاء، وهى التوأمان، ثمانية عشر كوكبا، والخارج عن الصورة سبعة (35) كواكب، وصورته صورة صبيّين قائمين واحدهما قد وضع يده على منكب الآخر، رأسهما وسائر كوكبهما فى الشمال والمشرق على طرف المجرّة وأرجلهما إلى المغرب. والبرج الرابع: السرطان، سبعة كواكب والخارج عن الصورة أربعة كواكب، مقدمه إلى ناحية المشرق ومؤخره إلى المغرب والجنوب على أثر التوأمين فإنّهما مائلان إلى الجنوب فى نفس المجرّة. والبرج الخامس: أسد، (1) سبعة وعشرون كوكبا، والخارج عن الصور ثمانية كواكب وصورته تامّة، ومن كواكبه قلب الأسد كوكب نيّر. والبرج السادس: السنبلة، وتعرف بالعذراء، ستّة وعشرون كوكبا، والخارج عن الصورة ستّة كواكب صورتها صورة جارية ذات جناحين قد أرسلت ذيلها ورأسها على الصرفة وهى كوكب نيّر على كتفها الأيسر. والبرج السابع: الميزان، ثمانية كواكب، وصورته كاسمه والخارج عن الصورة تسعة كواكب. والبرج الثامن: العقرب، أحد وعشرون كوكبا، والخارج عن الصورة ثلاثة كواكب وصورتها تامّة ومن كواكبها قلب العقرب كوكب نيّر.

(1) أسد: الأسد.

والبرج التاسع: القوس، ويسمّى الرامى، أحد وثلاثون كوكبا خلف كواكب العقرب، وصورته صورة حيوان مركّب من إنسان وفرس كأنّه جسد دابّة إلى العنق ثم يبرز منه فى مغرز العنق نصف رجل قد وضع السهم فى القوس. والبرج العاشر: الجدى ثمانية وعشرون كوكبا وهو على النصف على صورة النصف المقدّم من جدى والثانى مؤخر سمكة إلى ذنبها. والبرج الحادى عشر: الدلو، ويعرف بساكب الماء، اثنان وأربعون كوكبا، الخارج عن الصورة ثلاث كواكب، وصورته صورة رجل قائم مادّ اليدين بأحدهما كوز قد قلبه وانصبّ الماء (39) إلى مقام رجليه وجرى الماء من تحتها إلى الجنوب ويسمّى الدالى أيضا. والبرج الثانى عشر: الحوت، أربعة وثلاثون كوكبا، والخارج عن الصورة أربعة كواكب، وصورته صورة سمكتين قد وصل ذنب إحداهما بذنب الأخرى بخيط يسمّى خيط الكتّان، قال الخرقى: فجملة هذه الكواكب ثلاثمائة، وفى قول غيره ثلاثمائة وأربعون كوكبا. قلت: (1) وقد ذكر المسعودى عن الحكماء المتقدّمين: أنّ الله تعالى جمع الذرارىّ فى الحمل وجعل الشمس ملكا وعطارد كالكاتب للشمس والمشترى كالقاضى للفلك والمرّيخ كالشرطى وبمن يحمل السلاح والقمر كالخازن والزهرة كالصاحبة وزحل كالشيخ المشير (2) والجوزهر مقدّم لأمر الملك. وذكر (3) أنّ الكواكب الثابتة ألف وعشرون كوكبا تقطع البروج فى ثلاثة آلاف سنة وتقطع الفلك كلّه فى ستة وثلاثين ألف سنة، ويزعمون عن قولهم:

(1) أخبار الزمان 6،3 (2) مشير: مشاور أخبار الزمان (3) وذكر: أخبار الزمان 6،10

أنّ الله تعالى جعل إليها تدبير العالم الأرضى وهى التى كانت تعمل الأعمال وبها كانت جميع الأمور وأنّ الله تعالى وكلّها لذلك ولتدبير الخلق الدنياوى، فلذلك كانت الأمم القديمة يعبدونها. وقال أيضا المسعودى عن الحكماء الأوائل: (1) إنّ الكواكب ملائكة وإنّه عزّ وجلّ جعل لها تدبير العالم ما لم يجعله لغيرها فلذلك عظّموها. وقال المسعودى: (2) قال صاحب الطبيعة: إنّ الأفلاك لما تمّ خلقها كانت كالأجسام والكواكب كالأرواح لها، وذكر عن هرمس أنّه قال: لما خلق الله تعالى البروج قسم ذواتها فى سلطانها، فجعل للحمل اثنا عشر ألف سنة، وللثور إحدى عشرة ألف سنة، وللجوزاء عشرة آلاف سنة، وللسرطان تسعة آلاف سنة، وللأسد ثمانية آلاف سنة، وللسنبلة سبعة آلاف سنة، وللميزان ستة آلاف سنة، وللعقرب خمسة آلاف سنة، وللقوس (37) أربعة آلاف سنة، وللجدى ثلاثة آلاف سنة، وللدالى ألفى سنة، وللحوت ألف سنة، قال: ولم يكن فى عدد الحمل والثور والجوزاء حيوان مخلوق وذلك ثلاثة وثلاثين ألف سنة ولا فى الأرض عالم روحانى، فلمّا كان عالم سلطان السرطان تكوّنت فيه هوامّ الأرض، ولما استقام الأسد فى سلطانه تكوّنت الدوابّ ذوات الأربع، ولمّا دخل سلطان السنبلة تكوّن الإنسان أد مانوس وحيوانوس، وخلقت الأرض بسلطان الميزان. قلت: هذا كلام خرافة لا يصحّ فى النقل ولا يتصوّر فى العقل وإنّما ذكرته كونه ذكر أيضا.

(1) أخبار الزمان 7،5 (2) أخبار الزمان 7، -4

وقال المسعودى عن هرمس: (1) إنّ الكواكب حيّة ناطقة حسّاسة، ومنهم من قال إنّ لها حاسّيّة السمع والبصر واللمس وليس لها حاسّيّة الذوق والشمّ لأنّها مشتغلة عن ذلك بما سواه، ومنهم من قال إنّ سيرها اختيارى، ومنهم من قال إنّ سيرها اضطرارى، والله أعلم. قلت: وقد ذكر الجوهرى فى صحاحه هذه البروج وأخلّ بالبعض فقال: الحمل (2) أوّل البروج، والثور برج فى السماء، والجوزاء نجم يقال إنّها تعترض فى جوز السماء، أى فى وسطها وجوز كلّ شئ وسطه والجمع الأجواز، قال: والسرطان (3) برج فى السماء، ولم يذكر الأسد، قال: والسنبلة برج فى السماء، ولم يذكر الميزان، قال: والعقرب (4) برج فى السماء وكذلك القوس والجدى والدلو والحوت، قال: والجدى نجم فى السماء إلى جانب القطب تعرف به القبلة، ولم يتعرّض الجوهرى لعدد الكواكب وصورها. وأمّا ما يخصّ كلّ برج من البلدان (5) فقد قال علماء الهيئة: للحمل بابل وفارس وآذربيجان، وللثور همذان والأكراد، وللجوزاء جرجان (38) وكيلان وموقان، وللسرطان الصين وشرقى خراسان، وللأسد الترك والسغد وما والاها، وللسنبلة الشأم والجزيرة ودجلة والفرات، وللميزان الروم إلى إفريقية وصعيد مصر والحبشة والعرب وتهامة والحجاز واليمن، وللقوس بغداد إلى إصبهان، وللجدى نهر مكران وعمان والبحرين والهند، وللدلو الكوفة وبعض أطراف الحجاز، وللحوت طبرستان وله شركة فى الروم والجزيرة والشأم ومصر والاسكندريّة.

(1) أخبار الزمان 8 - 4 (2) الحمل: الصحاح: /1677 ب--النور: الصحاح 6/ 607 آ--الجوزاء: الصحاح 2/ 868 ب (3) السرطان: الصحاح 3/ 1131 آ-- السنبلة: لم يذكرها (4) العقرب: الصحاح 1/ 188 آ--الجدى: الصحاح 6/ 2299 آ (5) مأخوذ من مرآة الزمان 43 ب، -12

فصل فى قسمة الزمان الأربعة فصول وذكر الرياح الأربع

فصل فى قسمة الزمان الأربعة فصول وذكر الرياح الأربع (1) الزمان أقسام أربع: الأوّل: الربيع، وهو عند بعضهم الخريف، وإنّما سمّته العرب الربيع لأنّ الربيع فيه يكون وسمّاه بعضهم خريفا لأنّ الثمار تخترف فيه، ودخوله عند حلول الشمس برأس الميزان، ثم الشتاء، ودخوله عند حلول الشمس برأس الجدى، ثم الصيف، ودخوله عند حلول الشمس برأس الحمل، وهو عند أكثرهم الربيع، ثم القيظ، ودخوله عند حلول الشمس برأس السرطان، وهو عند أكثرهم الصيف. وأمّا الرياح الأربع، (2) فأوّلها: ريح الشمال. قال الجوهرى: (3) والشّمال: الريح التى تهبّ من ناحية القطب، وثانيها الصبا قال: ومهبّها الشتوى من مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار ونيّحها (4) الدبور، قال: وتزعم العرب أنّ الدبور تزعج السحاب وتشخصه فى الهواء ثم تسوقه فإذا علا كشفت عنه واستقبلته الصبا، فودعت بعضه فوق بعض حتى يصير كسفا واحدا، والجنوب (5) تلحق (39) روادفه وتمدّه والشمال تمزّق السحاب، والثالثة الجنوب، وهى التى تقابل الشمال، قال: والدبور (6) الريح التى تقابل الصبا.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 43 ب، -6 (2) مأخوذ من مرآة الزمان 43 ب، -1 - - (3) الصحاح 5/ 1739 ب (4) نيحها: نيحتها الصحاح 6/ 2398 ب (5) الجنوب: الصحاح 1/ 103 آ (6) الديور: الصحاح 2/ 654 آ

فصل فيما بين كل سماء وسماء وما ورد من ذلك من الأنباء

فصل (1) فيما بين كلّ سماء وسماء وما ورد من ذلك من (2) الأنباء قد ذكرنا مذهب الأوائل فى صور الأفلاك وما يتعلّق بها، وأمّا على مذاهب المشرّعين: (3) فهى السموات عندهم، وقد ورد فى الجهة أخبار عن ابن عبّاس وأبى ذرّ وأبى هريرة رضوان الله عليهم. فأمّا حديث العبّاس، فقال أحمد بن حنبل (4) رحمه الله بإسناده إلى العبّاس ابن عبد المطّلب رضى الله عنه، قال: كنّا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء فمرّت سحابة فقال: أتدرون ما هذه؟ قلنا: السحاب، قال: والمزن، قلنا: والمزن، قال: والعنان، قلنا: والعنان، قال: وسكتنا، فقال: هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما مسيرة خمس مائة سنة وبين كلّ سماء وسماء خمس مائة سنة، وكيف كلّ سماء خمس مائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين السموات والأرض، ثم فوق ذلك ثمانية أو غال بين ركبهنّ وأظلافهن كما بين السماء والأرض، والله تعالى فوق ذلك وليس يخفى عليه شئ من أعمال بنى آدم. وأمّا حديث أبى ذرّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين الأرض إلى السماء مسيرة خمس مائة سنة، وغلظ كلّ سماء خمس مائة عام، والأرضين مثل ذلك، وما بين السماء السابعة إلى العرش مثل جميع ذلك، ولو جفرتم لصاحبكم ثم وليتموه لوجدتم الله ثمّة.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 44 آ،6 (2) من: فى (3) المشرعين: المتشرعين (4) مسند أحمد بن حنبل 1/ 206

فصل فى ذكر الشمس والقمر والنجوم الثابتة والسيارة وغيرها

وأمّا حديث أبى هريرة، (1) قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (40) إذ مرّت سحابة فقال: أتدرون ما هذه؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: الرفيع موج مكفوف وسقف محفوظ، أتدرون كم بينها وبينكم؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، ثم ذكر السموات والأرض وعدّ ما بين كلّ سماء وسماء خمس مائة عام بمعنى حديث أبى ذرّ، وقال فى آخره: لو حفرتم لصاحبكم ودليتموه بحبل إلى الأرض السابعة لهبط على الله، ثم قرأ رسول الله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ»} (2). فصل فى ذكر الشمس والقمر والنجوم الثابتة والسيّارة وغيرها (3) الشمس: قال الجوهرى: (4) الشمس المعروفة، ويقال لها ذكاء لأنّها تذكو كما تذكو النار، ولذلك يسمّى النهار ابن ذكاء، قال: وهى ممدودة غير مصروفة لا تدخلها ألف ولا لام. فأمّا خلقها، روى كعب الأحبار، قال فى التوراة: لمّا أراد الله أن يخلق الشمس والقمر قال للسماء أخرجى شمسك وقمرك! وعن علىّ عليه السلام موقوفا عليه قال: خلقت الشمس والقمر من نور العرش. وقد روى فيما يتعلّق بالشمس أخبار وآثار، فأمّا الأخبار فلا يثبت منها إلاّ حديث واحد، قال البخارى (5) بإسناده إلى إبراهيم التيمى عن أبيه عن أبى ذرّ قال: كنت مع النبىّ صلى الله عليه وسلم فى المسجد حين وجبت الشمس فقال: يا أبا ذرّ أتدرى أين تذهب هذه الشمس؟ قلت: الله ورسوله أعلم! قال: إنّها تذهب حتى تسجد

(1) قارن سنن الترمذى 5/ 77 (2) القرآن الكريم 57/ 3 (3) مأخوذ من مرآة الزمان 44 ب، -13 (4) الصحاح 6/ 2346 ب (5) قارن المعجم المفهرس 7/ 137، مسند أحمد بن حنبل 5/ 152 و 177

بين يدى الله، أو قال ربّها، فتستأذن فى الرجوع فيأذن لها، أخرجاه فى الصحيحين. وأخرج البيهقى عن ابن عمر بمعناه، وفيه: نظر النبىّ صلى الله عليه وسلم إلى الشمس قد غابت، فقال: فى عين الله الحامية، لولا ما يزعها من أمر الله لأهلكت ما على وجه الأرض، ومعنى يزعها: يكفّها ويردّها. ومنه قول الحسن البصرى: لا بدّ للناس من وزعة (41) ولأنّ ما نزع الله بالسلطان أكثر مما نزع بالقرآن، ومعنى الحديث أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أخبر عن مغيبها فى النار الحامية لا أنّه دعا عليها. وأمّا فى الأخبار الواهية، (1) فقال عن أبى أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد وكل الله بالشمس سبعة أملاك يقذفونها بالثلج ولولا ذلك ما أتت على شئ إلاّ أحرقته، وسنّة عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشمس والقمر ثوران عقيران فى النار، وفى رواية: يؤتى بهما يوم القيامة فيكوّران فى النار، والعقير المجروح، ومنها ما ذكره الطبرى رحمه الله عن ابن عبّاس عن عكرمة (2) قال: كنت جالسا عنده إذ جاءه رجل فقال: يا ابن عبّاس سمعت كعب الأحبار يقول: إنّ الشمس والقمر يكوّران يوم القيامة ويلقيان فى النار، وكان ابن عبّاس متكئا فجلس واجتمع وقال: كذب كعب لمسائل هى يهوديّة يريد إدخالها فى الإسلام، الله أجلّ وأكرم أن يعذّب على طاعته، ألم تسمع إلى قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ»} (3)، أى: طائعين، فكيف يعذّب من أثنى عليه؟ ثم قال: ألا أحدّثكم ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله لما أبرم خلقه غير آدم خلق شمسين من نور عرشه، فأمّا ما كان فى سابق علمه أن يدعها شمسا فإنّه خلقها

(1) قارن فيض القدير 6/ 363 رقم 9629 (2) قارن قصص الأنبياء 12؛ الجامع لأحكام القرآن 10/ 227؛ فيض القدير 4/ 177 رقم 4948 و 4949 (3) القرآن الكريم 14/ 33

مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها، وأمّا ما كان فى سابق علمه أن يطمسها ويحوّلها قمرا فإنّه دون الشمس فى العظم، وإنّما يرى صغيرا لسدّه من ارتفاع السماء وبعدها من الأرض، فلو ترك الله الشمس كما كان خلقها لم يعرف الليل من النهار ولا النهار من الليل، وكان لا يدرى الأجير إلى أى متى يعمل ومتى أخذ أجره، ولا يدرى الصائم إلى متى يصوم، ولا تدرى المرأة كيف تعتدّ ولا يدرى المسلمون متى وقت الحجّ، ولا متى تحلّ ديونهم، فنظر الله لعباده فأرسل جبرائيل (42) فأمرّ جناحه على وجه القمر فطمس عنه الضوء وبقى فيه النور، فذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ»} (1)، الآية، فالسواد الذى ترونه فيه شبه الخطوط فهو أثر المحو، قال: ثم خلق الله للشمس عجلة من نور العرش لها ثلاثمائة وستّون عروة، ووكّل بالشمس وعجلتها ثلاثمائة وستّين ملكا يعلق كلّ واحد منهم بعروة، وخلق القمر أيضا كذلك وخلق لها مشارق ومغارب ثمانين ومائة عين فى المغرب طينة سوداء، فذلك قوله تعالى: {وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ»} (2)، تفور كغليان القدور، فكلّ يوم وليلة لهما مطلع جديد ومغرب جديد، فذلك قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ»} (3)، قال: وخلق الله مجرى دون السماء يعنى بحرا مقدار ثلاثة فراسخ، وهو موج مكفوف قائم فى الهواء كأنّه جبل ممدود فتجرى فيه الشمس والقمر والخنس، فذلك قوله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ»} (4)، والذى نفس محمدّ بيده لو بدت الشمس من ذلك البحر لأحرقت كلّ شئ فى الأرض حتى الصخور والحجارة ولو بدا القمر من ذلك البحر لافتتن أهل الأرض حتى يعبدوه من دون الله تعالى.

(1) القرآن الكريم 17/ 12 (2) القرآن الكريم 18/ 86 (3) القرآن الكريم 70/ 40 (4) القرآن الكريم 36/ 40

قال ابن عبّاس: وكان علىّ بن أبى طالب حاضرا فقال: يا رسول الله ذكرت الخنس فما هنّ؟ فقال: خمسة كواكب: الرجيس (1) وزحل وعطارد وبهرام والزهرة جاريات طالعات كالشمس والقمر فأمّا سائر الكواكب فمعلّقات فى السماء كالقناديل فى المساجد. قال، وقال النبىّ صلى الله عليه وسلم: (2) ثم خلق الله مدينتين إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب حابرشا وجابلقا، لكلّ واحدة منهما عشرة آلاف باب، وعلى كلّ باب عشرة آلاف فارس من الحرس، ووراءهم أمم يقال لهم منشك وناسك وثاريس وناويل، ومن ورائهم ياجوج وماجوج، قلت: وذكر الطبرى رحمه الله حديث طويل وفيه طلوع الشمس من مغربها وباب (43) التوبة، فقال له عمر بن الخطّاب: وما باب التوبة؟ ففسّره، وقال: من المصراع إلى المصراع مسيرة أربعين سنة للراكب المجدّ، وذكر الصور، فقال له حذيفة بن اليمان: يا رسول الله وما الصور؟ ففسّره فى آخر الحديث، فبلغ كعبا فأتا إلى ابن عبّاس يعتذر، وقال: إنّما حدّثت من كتاب دارس تداولته الأيدى وأنت حدّثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر كلام طويل. قلت: وقد أنكر الشيخ الحافظ أبو الفرج ابن الجوزى رحمه الله على راوى هذا الحديث وقال: المنقول مثل هذه الألفاظ عن ابن عبّاس لو وقفوه عليه كان أولى وإنّما رفعوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوشى منصبه الكريم عن مثله، واضعه ما قصد به إلاّ شين الشريعة، وإلاّ فمن أين فى الدنيا مدينة لها عشرة ألف باب بين كلّ بابين فرسخ وما أشبه ذلك؟

(1) الرجيس: البرجيس، تحريف (2) قصص الأنبياء 13؛ الكامل (ابن الأثير) 1/ 21

قلت: (1) قد روى هذا الحديث وله إسناد متّصل يقول: إنّ الله عزّ وجلّ له مدينتين عظيمتين واحدة بالمشرق والأخرى بالمغرب واسم التى بالمشرق حابلتا واسم التى بالمغرب جابرضا، طول كلّ مدينة منهن اثنا عشر ألف فرسخ لكلّ مدينة عشرة آلاف باب، بين كلّ باب وباب فرسخين، يحرس كلّ باب فى كلّ ليلة عشرة آلاف رجل لا تلحقهم التوبة إلى يوم القيامة، وإنّهم يأكلون ويشربون ويتناكحون، وفيهم حلم كثير ولهم خلق عظام تامّة فى الطول والجسامة، وإنّ هاتين المدينتين خارجتين من هذا العالم، لا يرون شمسا ولا قمر، ولا يعرفون آدم ولا إبليس، يعبدون الله تعالى ويوحّدونه، وإنّ لهم نور يشيعون فيه من نور العرش من غير شمس ولا قمر، وإنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال: مرّ بى جبريل عليه السلام ليلة الإسراء عليهم فدعوتهم إلى الله عزّ وجلّ فأجابونى فمحسنهم مع محسنكم ومسيئهم مع (44) مسيئكم. وعن وهب بن منبّه (2) ما رواه المسعودى أيضا تبعا لما قدّمنا أنّه قال: إنّ لله ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا منه عالم واحد وما العمران فى الخراب إلاّ كخردلة فى كفّ أحدكم. وروى المسعودى أيضا (3) عن أهل الأثر أنّ لله تعالى دابة فى مرج من مروجه فى غامض علمه رزقها كلّ يوم مثل رزق العالم بأسره. قلت: وهذه الأخبار والآثار فإنّها مبالغة فى عظمة ملك الله تعالى الذى لا يحدّ وكفى من ذلك قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ»} (4).

(1) أخبار الزمان 18،8 (2) أخبار الزمان 19،1 (3) أخبار الزمان 19،4 (4) القرآن الكريم 2/ 255

رجع ما انقطع

رجع ما انقطع: وروى الضحّاك عن ابن عبّاس رضى الله عنه قال: (1) لا تطلع الشمس كلّ يوم إلاّ وهى كارهة تقول: يا ربّ لا تطلعنى على عباد يعصونك حتى إنّها لتقف عند الطلوع فيدفعها ثلاثمائة وستّون ملكا حتى تطلع. وذكر الثعلبى عن ابن عبّاس قال: تطلع الشمس كلّ سنة فى ثلاثمائة وستّين كوّة لا ترجع إلى تلك الكوّة الأولى إلى ذلك اليوم من العام القابل، ومن الآثار أيضا ما رواه مجاهد عن ابن عبّاس قال: للشمس ثلاثمائة وستّون عجلة وثلاثمائة وستّون مشرقا ومغربا، وكذلك القمر فذلك قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ»} (2)، وأمّا قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ»} (3)، فإنّما أراد مشرق كلّ واحد منهما ومغربه. وأمّا القمر: (4) قال علماء اللغة رضى الله عنهم كالزجّاج والفرّاء والأصمعى وغيرهم: إنّما سمّى القمر قمرا لبياضه، والأقمر فى اللغة: الأبيض، وليلة قمراء أى: مضيئة، وقال الجوهرى: (5) القمر بعد ثلاث <ليال> إلى آخر الشهر يسمّى قمرا لبياضه، وفى كلام بعضهم: قمير وهو تصغير قمر، قال: والقمر يحيّر البصر من البهج، (6) وقال

(1) قصص الأنبياء 12؛ الجامع لأحكام القرآن 15/ 63 (2) القرآن الكريم 70/ 40 (3) القرآن الكريم 55/ 17 (4) مأخوذ من مرآة الزمان 46 آ، -7 (5) الصحاح 2/ 798 ب (6) البهيج: الثلج الصحاح

ذكر منازل القمر

ابن قتيبة فى أدب الكاتب: (1) والهلال أوّل ليلة والثانية (45) والثالثة، ثم هو قمر بعد ذلك إلى آخر الشهر، وتصغيره قمير وجمعه أقمار، ويقال له الليلة (2) الرابعة عشر بدر لتمامه ومنه البدرة، وكلّ شئ ثمّ فهو بدر مجاز وفى القمر حقيقة، وقال الجوهرى: (3) إنما سمّى بدرا لمبادرته الشمس بالطلوع كأنّه بدرها، وقال الفرّاء: هو فى أوّل ليلة هلال ثم قمير ثم قمر ثم بدر. حديث ضرب المثل: قال البخارى رضى الله عنه: (4) يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ قال هل تمارون فى القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا! قال: فهل تمارون فى الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا! قال: فإنّكم ترونه كذلك، أخرجاه فى الصحيحين، وهو حديث طويل وقد رواه جماعة من الصحابة باللفاظ (5) مختلفة. فإن قيل: فهلاّ ضرب المثل بالشمس وهى أضوأ وأتمّ نورا فإنّ نور القمر منها فالجواب من وجوه أحدها: أنّ نور الشمس يغلب على الأبصار فلا يتمكّن أحد من النظر إليه مع عدّة وجوه أخر فيها طول. ذكر منازل القمر (6) قال الله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ»} (7) الآية، ذكر ابن قتيبة وغيره منازل القمر، فقالوا: هى ثمانية وعشرون منزلة من أوّل الشهر إلى أن يستسر، وتسمّيها العرب نجوم الأخذ لأنّ القمر يأخذ كلّ ليلة منها

(1) أدب الكاتب 70 (2) له الليلة: فى الليلة (3) الصحاح 2/ 586 ب (4) قال البخارى: قال البخارى بإسناده عن أبى هريرة قال قال الناس مرآة الزمان؛ المعجم المفهرس 2/ 202؛ صحيح البخارى 3/ 118 (5) باللفاظ: بألفاظ (6) مأخوذ من مرآة الزمان 46 ب، -10 (7) القرآن الكريم 36/ 39||الأنواء 4

فى منزلة، وأسماؤها: الشرطين، والبطين، والثريّا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والعوّاء، والزبرة، والصرفة والسّماك، والعوّام، والغفر، والزبانا، والإكليل، والشولة، والنعائم، والبلدة وسعد السعود، وسعد الذابح، وسعد الأخبية وسعد بلع، وفرع الدلو، والفرع المؤخّر، والرشاء. قلت: ولهذه المنازل (46) تفسير معروف أضربت عنه لمعرفة الناس إيّاه وطلبا للاختصار إذ تأريخنا هذا تأريخ اختصار وتلخيص لا تأريخ إكثار وتفحيص. وأمّا الستّة التى ليست من منازل القمر فهم: سعد ناشرة، وسعد الملك، وسعد البهام، وسعد الهمام، وسعد البارع، وسعد مطر، قال: وكلّ سعد من هذه الستّة كوكبان من كلّ كوكبين فى مراء العين مقدار ذراع وهى متناسقة. ولجميع تلك المنازل المذكورة قبل أوان فى طلوعها فى الفصول الأربعة من السنة أضربت عن ذلك أيضا لطوله. وأمّا انقسام هذه المنازل المقدّم ذكرها على فصول السنة، (1) فمن الواجب ذكرها، قال ابن قتيبة: (2) لفصل الربيع: الشرطين، والبطين، والثريّا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، ولفصل الصيف منها: النثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والسماك، والعوّاء، ولفصل الخريف: الغفر، والزبانا، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، ولفصل الشتاء: سعد السعود، وسعد الذابح، وسعد الأخبية، وسعد بلع، والفرعان المقدّم والمؤخّر، والرشاء، فلكلّ فصل من الفصول الأربع سبعة منازل.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 48 ب، -4 (2) أدب الكاتب 69؛ الأنواء 109 - 120

ذكر النجوم والكواكب الثابتة وغيرها

ذكر النجوم والكواكب الثابتة وغيرها (1) قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ»} (2)، وقال تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ»} (3)، وروى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنّه قال: علم النجوم علم نافع عجز عنه الناس ووددت أنّى علمته، أشار إلى معرفة نفس النجوم لا إلى الأحكام، وأنشد لثابت بن قرّة (من السريع): أما ترى ذا الفلك الديّرا … أبيت من همّى به ساهرا (47) مفكّرا فيه وفى أمره … فما أرى خلقا به خابرا يا ليت شعرى هل أرى مرّة … أكون (4) مع أبراجه سائرا حتى أرى جملة تكوينه … وأعرف الباطن والظاهرا واتّفقوا على أنّ نور القمر من نور الشمس، واختلفوا فى نور الكواكب هل هو من نور الشمس أم من غير ذلك على قولين: أحدهما، (5) قال الخرقى والنوبختى وأبو معشر ومن تبعهم: الكواكب المعروفة ألف واثنان وعشرون كوكبا. فمنها: الجدى وهو أدلّها على القبلة، قال الجوهرى: (6) والجدى نجم إلى جنب القطب تعرف به القبلة، والقطب كوكب بين الجدى والفرقدين تدور عليه الفلك. وقال النوبختى: الجدى إلى جانب القطب الشمالى حوله أنجم دائرة كفراشة الرحاء فى إحدى طرفها الفرقدان وفى الطرف الآخر نجم مضئ يقابلها وبين ذلك النجم أنجم صغار ثلاثة من فوق وثلاثة من أسفل تدور حول القطب والجدى

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 49 آ، -6 (2) القرآن الكريم 6/ 97 (3) القرآن الكريم 16/ 16 (4) أكون: كذا (5) أحدهما: ناقص فى مرآة الزمان (6) الصحاح 6/ 2299 آ

دوران فراشة الرحاء حول سفودها، وحولها بنات نعش تدور والقطب والجدى لا يبرحان من مكانهما. وقال أبو معشر: الجدى قطب هذه الفراشة، وقيل: القطب قطبها ويستدلّ عليه بالجدى إذا لم يكن ثمّ قمر فإذا قوى ضوء القمر خفى مكانه فلا يراه إلاّ الحديد البصر، والسهاء (1) إلى جانبه وهو نجم خفى يمتحن الناس به أبصارهم. وقال ابن قتيبة فى أدب الكاتب: (2) الجدى الذى تعرف به القبلة هو جدى بنات نعش الصغرى وبنات نعش الصغرى بقرب بنات نعش الكبرى على مثال تأليفها أربعة منها: نعش وثلاث بنات فمن الأربعة الفرقدان وهما المتقدّمان، ومن البنات الجدى وهو آخرها، قال: والسها الذى يمتحن به الناس أبصارهم كوكب خفىّ فى بنات نعش وفى المثل تقول: أريها السها وترينى القمر. (48) وكيفيّة معرفة القبلة بالجدى أنّك إذا جعلته وراء ظهرك فى أرض الشام كنت مستقبل القبلة، وفى أرض العراق تجعله مقابل ظهر أذنك اليمنى على علوها فتكون مستقبل القبلة، وهو باب البيت إلى المقام، ومتى استدبرت الفرقدين أو بنات نعش كنت مستقبلا جهة الكعبة، وأما الفرقدان فنجمان مضيئان قريبان من القطب وهما ندمانا جذيمة الأبرش ومنها قول متمّم بن نويرة فى مرثية أخاه مالكا يقول (من الطويل): وكنّا كندمانى جذيمة حقبة … من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا (3) وسيأتى خبر ذلك فى موضعه إن شاء الله تعالى. وقال الجوهرى رحمه الله: (4) وبنات نعش الكبير سبعة كواكب أربعة منهن نعش وثلاث بنات، وكذا بنات نعش الصغرى. وقال أبو حنيفة الدينورى: والقطب الشمالى والجنوبى عند مطلع سهيل لا يظهر إلاّ فى جزيرة العرب، وقال

(1) السهاء: السهى (2) أدب الكاتب 72 (3) ديوان مالك ومتمم 111، -2؛ وقارن Noldecke,Beitrage 001,1 : (4) الصحاح 3/ 1022 آ||الكبير: الكبرى الصحاح

أبو عمرو الشيبانى: فيه لغتان: ضمّ القاف وكسرها، يقال: قطب وقطب، ومنها سهيل وهو إلى جانب القطب الجنوبى ومطلعه من مهبّ الجنوب ثمّ يسير نحو المغرب فيصير فى قبلة المصلّى وهناك يغيب. قال ابن قتيبة: (1) سهيل كوكب أحمر منفرد من الكواكب ولقربه من الأرض تراه أبدا كأنّه يضطرب وهو من الكواكب الثمانية ومطلعه عن يسار القبلة ويرى فى جميع أرض العرب والعراق والشام ولا يرى فى بلاد أرمينية وبين طلوعه بالحجاز ورؤيته بالعراق بضع عشرة ليلة، وذكره الجوهرى (2) فقال: وسهيل نجم، والعرب تقول: إذا طلع سهيل لا نأمن السيل. وقال أبو معشر فى ذلك: ومن هذه الكواكب التى هى ألف واثنان وعشرون كوكبا، ثلاثمائة واثنعشر (3) فى اثنى عشر صورة فى طريق الشمس وهى البروج الاثنا عشر، ومنها ثلاثمائة وستّون كوكبا (49) فى إحدى وعشرين صورة وهى مائلة عن طريق الشمس إلى ناحية الشمال، منها: الدبّ الأكبر، والدب الأصغر، والتّنين وغيرهم، ومنها ثلاثمائة وستّة عشر كوكبا فى خمس عشرة صورة مائلة عن طريق الشمس إلى ناحية الجنوب، والاعتماد على الكواكب التى فى طريق الشمس لأنّها متقنة البروج وما عدا الكواكب التى سمّينا لم يسمها عامّة أرباب علم الهيئة. وذكرها أبو محمّد عبد الجبّار المعروف بالخرق فى كتابه المسمّى بالتبصرة فى الكواكب الثابتة، قال أبو محمّد: فأمّا الكواكب التى فى الصور الشمالية منها: الدبّ الأصغر، وهو على صورة الدبّ واقف مادّ ذنبه وكواكبه سبعة وتسمّيها العرب بنات نعش الصغرى، فالأربعة هى النعش على شكل مربّع والثلاث على طرف ذنبه يسمّونه الجدى وهو الذى تتوخى به القبلة إذا هو أقرب

(1) أدب الكاتب 73 (2) الصحاح 5/ 1733 آ (3) اثنعشر: اثنا عشر

الكواكب المرصودة إلى القطب الشمالى. ومنها: الدبّ الأكبر، وكواكبه سبعة وعشرون كوكبا من جملتها سبعة تسمّيها العرب بنات نعش الكبرى: أربعة على بدنه وثلاثة على ذنبه، والذى على طرف ذنبه يسمّونه القائد ثم القناق ثم الحون وبقرب القناق كوكب صغير يسمّونه السها، وهذه السبعة من جملة ثمان كواكب خارجة عن الصورة، ومنها التنّين وهو أحد وثلاثون كوكبا صورته صورة حيّة كبيرة، كبيرة العطفات على شكل مربّع منحرف على رأسه تسمّيها العرب العوائد، قال الجوهرى: (1) والتنّين ضرب من الحيّات، ومنها الفكّة، ويقال له الإكليل الشمالى، ويعرف بقصعة المساكين لاستدارتها وكواكبها ثمانية، وقال الجوهرى: (2) والفكّة كواكب مستديرة خلف السماك الرامح. ومنها الجاثى على ركبتيه وصورته تسع وعشرون كوكبا ومنها السلياق ويقال له اللوزا (50) والصبح الرومى والسلحفاة وكواكبه عشرة، من جملتها كوكب نيّر يسمّونه النسر الواقع، سمّى بذلك لأنّ جناحيه مقبوضان، قال الجوهرى: (3) وفى النجوم النسر الطائر والنسر الواقع. ومنها الدّجاجة سبعة عشر كوكبا، والخارج عن الصورة كوكبان وأكثر كواكبها فى المجرّة قريبة من النسر الواقع، ومنها: ذات الكرسى، ثلاث عشر كوكبا، والخارج عن الصورة (4) وصورتها صورة امرأة جالسة على كرسى عليه مسند وقد دلّت رجليها وهى نفس المجرّة، ومن كواكبها الكفّ الخضيب على وسط المسند يعرف بسنام الناقة. ومنها برشاوش وتسمّى حامل رأس الغول، ستّة وعشرون كوكبا، والخارج عن الصورة ثلاث كواكب وصورته صورة رجل قائم على رجله اليسرى

(1) الصحاح 5/ 2087 آ (2) الصحاح 4/ 1604 آ (3) الصحاح 2/ 827 آ (4) والخارج عن الصورة: ناقص فى مرآة الزمان، تحريف.

رافع رجله اليمنى ويده اليمنى فوق رأسه وبيده اليسرى رأس مشوّه الخلق مقطوع يسمّى رأس الغول. ومنها ممسك العنان أربعة عشر كوكبا وصورته صورة رجل قائم بإحدى يديه سوط ويده الأخرى قابضة على عنان خلف العناق. ومنها الحوّا وهى أربعة وعشرين كوكبا والخارج عن الصورة خمسة كواكب وصورته صورة رجل قائم قد قبض بيديه جميعا على حيّة، ومنها حية العوّا ثمانية عشر كوكبا وقد قبضها العوّا وقد رفعت رأسها إليه وذنبها حتى عليا رأسه. ومنها السهم خمسة كواكب بين منقار الدجاجة والنسر الواقع، ومنها العقاب تسعة كواكب والخارج عن الصورة ستّة ومن الكواكب الذى له النسر الطائر لأنّ جناحيه مبسوطان. ومنها الدّلفين عشرة كواكب مجتمعة خلف النسر الطائر وصورته صورة حيوان يجرى يشبه الرّقّ المنفوخ، ولم يذكره الجوهرى (1) فى النجوم وإنّما قال: الدلفين بالضمّ دابّة فى البحر تنجّى الغريق، قلت: وهى التى تعرف على الألسنة بالدرفيل. ومنها قطعة الفرس (51) أربعة كواكب ويقال لها مقدّم الفرس خلف كواكب الدلفين، ومنها الفرس الأكبر وهو ذو الجناح عشرون كوكبا صورة فرس له رأس ويدان وليس له رجلان ولا كفل. ومنها أندروميدا وتعرف بالمرأة المسلسلة اثنان وعشرون كوكبا وصورتها امرأة قائمة ممدودة اليدين فى يدها سلسلة كأنّها معلّقة بها ويقال السلسلة فى رجليها. ومنها للثلّث أربعة كواكب بين كواكب السمكة وبين البئر الذى على

(1) الصحاح 4/ 1360 ب

رأس الغول، قال أبو محمّد الخرفى؛ فجملة هذه الصور الشمالية ثلاثمائة وستّون كوكبا. ومن الكواكب الجنوبيّة: فيطس اثنان وعشرون كوكبا وصورته حيوان بحرى ذو رجلين وذنب كذنب الحوت، ومنها الجبّار ثمانية وثلاثون كوكبا وصورته رجل على كرسى بيده عصى وفى وسطه منتقة (1) وسيف ومن كواكبه يد الجوزاء وهو كوكب أحمر نيّر وشكله شكل جدول كثير العطفات. ومنها الأرنب اثنا عشر كوكبا مجتمعة تحت رجل الجبّار إلى المشرف، ومنها الكلب الأكبر ثمانية عشر كوكبا والخارج عن الصورة إحدى عشر كوكبا خلف كواكب الجوزاء أمام السفينة. من كواكبه الشعرا العبور كوكب نيّر وتسمّى العبور وتسمى التالى المرزم، وقال الجوهرى: (2) والشعرا الغميصا التى فى الذراع، وتزعم العرب أنّهما أختا سهيل قال الجوهرى: (3) والمرزمان مرزما الشعريين وهما نجمان أحدهما فى الشعرا والآخر فى الذراع. ومنها الكلب الأصغر وهما كوكبان يسمّى أحدهما الشعرى الشاميّة والغميصا كوكبان نيّران، ومنها السفينة خمسة وأربعون كوكبا مجتمعة فى ناحية الجنوب مطلع أثر الكلب الأكبر من جملتها سهيل النجم الأحمر، ومنها الشجاع خمسة وعشرون كوكبا والخارج عن الصورة كوكبان فى صورة حيّة طويلة كثيرة العطفات ورأسها على خلف ووجهه وجه فرس من أربع كواكب تبتد ‍ئ من زبانا (52) السرطان وهو بين الشعرا الشاميّة وقلب الأسد، ومنها الكأس سبعة كواكب على شكل مستدير عند ظهر الشجاع وتسمّى الباطية. ومنها الغراب سبعة كواكب ويسمّى عرس السماك الأعزل ويسمى أيضا

(1) منتقة: منطقة (2) الصحاح 2/ 699 ب | (3) الصحاح 5/ 1931 ب

الحباء، ومنها فيطورس سبعة وثلاثون كوكبا وصورته صورة حيوان مركّب من إنسان وفرس مقدّمه مقدّم إنسان من رأسه إلى ظهره ومؤخّره مؤخّر فرس من منشأ ظهره إلى ذنبه قد أخذ بيديه رجلى سبع وتسمّيه العرب شماريخ والشمراخ غرّة الفرس والشماريخ التى عليها البشر بمنزلة العنقود فى الكرم. ومنها السبع تسع عشر كوكبا مجتمعة خلف كواكب فيطورس على جنوب العقرب، ومنها الإكليل الجنوبى ثلاث عشر كوكبا وشكلها شكل صنوبرى وتسمّيها العرب قبّة. ومنها الحوت الجنوبى أحد عشر كوكبا والخارج عن الصورة ستّة كواكب <وصورته> صورة سمكة عظيمة كواكبها على جنوب كواكب الدلو رأسها إلى المشرق وذنبها إلى المغرب، ومنها المحمر (1) على جنوب خرزات العقرب. قال أبو محمّد الخرقى: فهذه جملة الكواكب الجنوبيّة وقد تقدّم القول فى الكواكب الشماليّة. قلت: وهذا الذى ذكره يختصّ بالكواكب التى هى غير مشهورة. فأمّا الكواكب السبعة وما هو من معناها ومختصّا بذكرها فنقول: (2) ذكر النوبختى وأبو معشر وهما شيخى هذه الطريقة: أنّ جرم الشمس بمقدار الدنيا مائة وستّة وستّين مرّة ونصف مرّة، وجرم القمر بمقدار الدنيا تسع وثلاثون مرّة، وكذا الزهرة وكذا عطارد والمرّيخ، وأنّ جرم المشترى بمقدار الدنيا اثنين وثمانين مرّة، قال الجوهرى: (3) ويسمى المشترى الأحور: وزحل أعظم من الدنيا بتسع وتسعين مرّة، وذكر عن النوبختى أنّه قال أيضا: إنّ جرم الشمس خمس عشر (53) درجة أمامها وكذا خلقها، وجرم القمر اثنتا عشر درجة أمامه وكذا خلفه، وجرم المشترى تسع درجات أمامه وكذا خلفه، وجرم زحل والمرّيخ ثمان درجات

(1) المحمر: المجرة مرآة الزمان (2) مأخوذ من مرآة الزمان 51 آ،13 (3) الصحاح 2/ 640 آ

أمامه وكذا خلفهما، وكذلك عطارد، وذكر هارون بن المأمون فى تأريخه المسمّى بمنهاج الطالبين: أنّ أصغر كوكبا فى السماء بمقدار الدنيا مرّات كثيرة، قال: إلا القمر فإنّه أصغر من الأرض. قلت: أمّا قوله: أصغر كوكبا فى السماء بمقدار الدنيا فنسلم وأمّا قوله فى القمر فلم يوافقه عليه أحد، قال أبو معشر: فأمّا الكواكب العظام الثابتة كالشعرا العبور والسماك والنسر الواقع والطائر وقلب الأسد ونحوها وهى خمسة عشر كوكبا فكلّ كوكب منها مقدار الأرض أربعا وتسعين مرّة ونصفا، قال ابن قتيبه: (1) النسر الواقع ثلاثة أنجم مصطفّة كأنّهم جعلوا اثنين منهما جناحيه قد ضمّهما إليه كأنّه واقع، وكذا النسر الطائر ثلاثة أنجم مصطفّة يجعلون اثنين منهما جناحيه كأنّه طائر قد بسطهما، قال أبو معشر: ويقطع كلّ واحد منهما الفلك فى ستّة وثلاثين ألف سنة. وأمّا قطع الكواكب السبعة الأفلاك، (2) ذكر أبو حنيفة الدينورى رحمه الله أنّ القمر يقطع الفلك فى تسعة وعشرين يوما وقلّ من ثلث يوم، وقال النوبختى: فى تسع وعشرين يوما فقط، وعطارد يقطعه فى أقلّ من ثمانية وعشرين يوما، والزهرة نقطعه فى مائتين وأربعين وعشرين يوما وأشفّ من ثلثى يوم، والشمس نقطعه فى ثلاثمائة وخمسة وستّين يوما وأشفّ من ربع يوم، والمرّيخ يقطعه فى ستّمائة وثلاثين يوما، والمشترى يقطعه فى أحد عشر سنة وثلاثمائة وسبعة وعشرين يوما، وزحل يقطعه فى تسعة وعشرين سنة فارسيّة ومائة وستة وسبعين يوما (54). وأمّا مقامات الكواكب فى البروج قالوا: (3) مقام القمر فى كلّ برج ليلتان وثلث ليلة، ومقام عطارد فى كلّ برج خمس عشر يوما، ومقام الزهرة فى كلّ برج خمسة وعشرين يوما، ومقام الشمس فى كلّ برج شهر، ومقام المرّيخ فى كلّ برج خمسة

(1) أدب الكاتب 72 (2) مأخوذ من مرآة الزمان 51 ب،1 (3) مأخوذ من مرآة الزمان 51 ب،7

فصل فى ذكر البيت المعمور

وأربعين يوما، ومقام المشترى فى كلّ برج سنة، ومقام زحل فى كلّ برج ثلاثون شهرا. وأمّا شرف الكواكب: (1) فشرف القمر فى الثور، وشرف عطارد فى السنبلة، وشرف الزهرة فى الحوت، وشرف الشمس فى الحمل، وشرف المرّيخ فى الجدى، وشرف المشترى فى السرطان، وشرف زحل فى الميزان. واختلفوا فى المجرّة، قال بعضهم: هى شرج السماء لمجمع النجوم كشرج القبّة، وقيل: هى باب السماء وإنما سميت المجرّة للنسبة، وتسمّيها العرب أمّ النجوم لأنّه ليس فى السماء بقعة أكثر عددا من الكواكب فيها، وتسمّيها العامّة: طريق التين، وقد روى أبو بكر الخطيب حديثا فى المجرّة بإسناده إلى رجل سمّاه معاذ ابن جبل قال: لمّا بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: إن هم سألوك عن المجرّة فقل إنّها من عرق الأفعى الذى تحت العرش، وهذا الحديث ليس بالقوى والله أعلم. وأمّا ما لكلّ كوكب من الأيّام السبعة، قال: (2) يوم الأحد للشمس، والاثنين للقمر، والثلاثاء للمرّيخ، والأربعاء لعطارد، والخميس للمشترى، والجمعة المزهرة، والسبت لزحل. فصل فى ذكر البيت المعمور (3) قال الله تعالى: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ»} (4)، روى عطاء عن ابن عبّاس أنّ اسمه الضراح، وقد ضبطه الجوهرى فقال: (5) والضراح بضمّ الضاد المعجمة (55) والحاء المهملة بيت فى السماء وهو البيت المعمور عن ابن عبّاس.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 51 ب،11 (2) مأخوذ من مرآة الزمان 51 ب، -8 (3) مأخوذ من مرآة الزمان 52 آ، -8 (4) القرآن الكريم 52/ 4 (5) الصحاح 1/ 386 آ

واختلفوا فى أىّ سماء هو على أقوال: أحدها: فى السماء الدنيا وهو على قول ابن عبّاس ومجاهد والربيع، واحتجّوا بحديث عائشة رضى الله عنها، قال أبو إسحاق الثعلبى (1) بإسناده عن ابن الزبير عن عائشة إنّ النبى صلى الله عليه وسلم قدم مكّة فأرادت عائشة أن تدخل البيت ليلا، فقال لها بنو شيبة إنّ أحدا لا يدخل البيت يعنى ليلا ولكن تحلّيه نهارا فشكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنّه ليس لأحد أن يدخله ليلا، إنّه بحيال البيت المعمور الذى فى السماء، لو وقع حجر منه لوقع على ظهر الكعبة، وإنّه يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه إلى يوم القيامة، ولكن انطلقى أنت وصواحبك فصلّين فى الحجر! ففعلت، فأصبحت وهى تقول: قد دخلت البيت على رغم من رغم، وروى عكرمة عن ابن عبّاس بمعناه، وقال: حرمته فى السماء كحرمة الكعبة فى الأرض فهو معمور بكثرة الغاشية والأهل والعبادة يصلّى فيه كلّ يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون فيه، وخازنه يقال له رزين، وروى ابن عبّاس أنّه كان من الجنّة فلمّا أهبط آدم إلى الأرض حمل إليه ليستأنس به ثم رفع أيّام الطوفان. والقول الثانى: إنّه فى السماء السادسة عند شجرة طوبا، روى عن علىّ عليه السلام. والقول الثالث: إنّه فى السماء السابعة، قاله مجاهد والضحاك، وقد روى البخارى (2) فى حديث المعراج عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ورأيت البيت المعمور فى السماء السابعة يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه. قلت: ولا تنافى بين هذه الأقوال لأنّه يحتمل أنّ الله تعالى رفعه ليلة المعراج إلى السماء السابعة عند سدرة المنتهى تعظيما للنبىّ صلى الله عليه وسلم حتى رآه ثم أعاده إلى سماء الدنيا. وذكر الثعلبى (3) عن الحسن البصرى (56) أنّه قال: {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ»} (4) إنّه

(1) جامع البيان 27/ 10؛ الجامع لأحكام القرآن 17/ 59؛ تفسير ابن كثير 6/ 468 (2) صحيح البخارى 2/ 210، بدؤ الخلق، باب 6 (3) قارن الجامع لأحكام (4) القرآن 17/ 60

فصل فى ذكر سدرة المنتهى وشجرة طوبا

الكعبة الحرام يعمره الله كلّ سنة بالناس وهو أوّل بيت عمر للعبادة والقول الأوّل أظهر لما رويناه عن عائشة ولأنّ الكعبة تعمر بالناس فى كلّ عام مرّة والبيت المعمور يعمر كلّ يوم بالملائكة. فصل فى ذكر سدرة المنتهى وشجرة طوبا (1) قال الله تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى»} (2)، الآية، قال الجوهرى: (3) السدر شجر النبق، الواحدة سدر والجمع سدرات. واختلفوا لم سمّيت بهذا الاسم على أقوال: (4) أحدها: لأنّها تنتهى إليها الأعمال من بنى آدم تعرج بها الملائكة الكتبة إلى السماء، ثم تقبض منها وإليها ينتهى ما يقبض من فوقها، قاله كعب الأحبار، وذكر أنّه فى التوراة كذلك، وروى العوفى عن ابن عبّاس قال: سألت كبا عن سدرة المنتهى فقال: هى سدرة فى أصل العرش إليها ينتهى علم الخلائق فيرفع منها تعرج به الملائكة إليها فتقف عندها لا يعدوها شئ، قاله الربيع بن أنس. والثالث: لأنّ الملائكة المقرّبين ينتهى إليها فلا يتجاسروا أن يتجاوزوه من خوف الله تعالى، قاله الضحاك. والرابع: لأنّه ينتهى إليها ما يعرج من أرواح المؤمنين، حكاه سفيان. واختلفوا فى أى سماء هى، والصحيح (5) ما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيتها بعد السماء السابعة فقيل لى: هى سدرة المنتهى وإذا شجرة يخرج

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 52 ب، -13 (2) القرآن الكريم 53/ 14 - 15 (3) الصحاح 2/ 680 آ (4) قارن الجامع لأحكام القرآن 17/ 95 (5) صحيح البخارى 2/ 211، بدؤ الخلق، باب 6

فصل فى ذكر العرش العظيم والكرسى الكريم

من أصلها أربعة أنهار نهر من ماء غير آسن، ونهر من لبن لم يتغيّر طعمه، ونهر من عسل مصفّى ونهر من الكافور، والورقة منها تصل أمّة من الأمم. وقال البخارى (1) بإسناده عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ فى الجنّة شجرة يسير الراكب فى ظلّها مائة عام لا يقطعها، واقرؤوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ»} (2) (57) متّفق عليه. وقال ابن عبّاس: ليس فى الجنّة قصر ولا بيت إلاّ وفيه غصن من أغصانها، وسئل على عليه السلام عنها فقال: هى كالشمس فى الدنيا وسماها عبد الله بن سلام شجرة طوبا فقال: وكذا هى فى التوراة وفى القرآن: {طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ»} (3). وعن أبى سعيد الخدرى قال: (4) سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شجرة طوبا فقال: غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت حلىّ أهل الجنّة وحللهم وإنّ أغصانها لترى من وراء سور الجنّة، وقال مقاتل: لو أنّ ورقة منها وقعت فى الأرض لأضاءت لأهلها وهى طوبا التى ذكرها الله تعالى فى سورة الرعد. فصل فى ذكر العرش العظيم والكرسى الكريم (5) قال الله تعالى: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ»} (6)، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماااتِ وَالْأَرْضَ»} (7)، وسيأتى تفسير ذلك، قال الجوهرى: (8) الكرسى واحد الكراسى المعروفة.

(1) صحيح البخارى 2/ 218، بدؤ الخلق، باب 8 (2) القرآن الكريم 56/ 30||قارن الجامع لأحكام القرآن 17/ 94 (3) القرآن الكريم 13/ 29||طوبا: طوبى (4) قارن الجامع لأحكام القرآن 9/ 317 (5) مأخوذ من مرآة الزمان 53 آ، -11 (6) القرآن الكريم 9/ 129 (7) القرآن الكريم 2/ 255 (8) الصحاح 2/ 967 آ

واختلفوا فيه على أقوال: (1) أحدها: إنّه الكرسى وقد قسّر ابن عبّاس قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماااتِ وَالْأَرْضَ»} (2) بهذا، قال: ومعنى {وَسِعَ»} (3) أى ملأهما وأحاط بهما. والثانى: أنّ الكرسى علم الله، ومنه قيل للصحيفة (4) العلم كرّاسة، ويقال للعطاء: الكراسى، قاله الضحاك، وروى ابن عبّاس أيضا كذلك والثالث: قدرة الله تعالى وسلطانه وملكه، والعرب تسمّى الملك القديم كرسيّا، قاله مقاتل. والرابع: سرّه، قاله الحسن. والخامس: أهله، قال: ومعناه: وسع عباده أهل السموات والأرض، قاله الطبرى. (5) والسادس: أنّ الكرسى هو العرش، قاله الحسن. والسابع: أنّه ملك عظيم أضافه إلى نفسه تخصيصا لينبّه به على عظمته وقدرته، قاله مقاتل بن حيّان، ومعناه أنّ خلقا من خلقى يملأ السموات والأرض فكيف تقدر قدرتى وينال عظمتى. قلت: (6) والأصحّ: أنّه الكرسى بعينه، وباقى الأقوال مجاز وعدول عن الحقيقة، لأنّ الأخبار والآثار دالّة عليه. وعن أبى ذرّ قال، قلت: يا رسول الله (58) أيّما أنزل الله عليك أعظم؟ فقال: آية الكرسى، ثم قال رسول الله: يا أبا ذرّ! ما السموات السبع فى الكرسى إلاّ كحلقة ملقاة فى أرض فلاة. وفضل العرش على الكرسى كفضل الفلاة على الحلقة. وروى عن علىّ عليه السلام قال: الكرسى من لؤلؤة مضاء وهو فوق السماء السابعة بمسيرة خمس مائة عام وطول كلّ قائمة منه مثل السماوات السبع وهو بين يدى العرش، وتحمل الكرسى أربعة أملاك أقدامهم على الصخرة التى تحت الأرض السابعة.

(1) قارن جامع البيان 3/ 7 - 8؛ الجامع لأحكام القرآن 3/ 276 - 278 (2) القرآن الكريم 2/ 255 (3) القرآن الكريم 2/ 255 (4) للصحيفة: لصحيفة (5) قارن جامع البيان 3/ 7 - 8 (6) المعجم المفهرس 1/ 138؛ مسند أحمد بن حنبل 5/ 142؛ صحيح مسلم 2/ 199، كتاب المسافرين، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسى

وأمّا ما ذكروه من معنى العلم والقدرة ونحو ذلك، فالعرب لا تعرف الكرسى بمعنى العلم والقدرة والملك والأهل وما استشهدوا به فساد لا يعبأ به ولا يعرج عليه. وأمّا العرش، فقال الجوهرى: (1) سرير الملك يسمّى عرشا، قال: وجمعه عروشا. وقال الحسن البصرى: العرش هو الكرسى بعينه، وليس كما ذكر لأنّ الله تعالى فرق بينهما فقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماااتِ وَالْأَرْضَ»} (2)، ثم قال: {ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ»}، (3) وذكر العرش فى عدّة مواضع، وروى مجاهد عن ابن عبّاس أنّه قال: العرش بعد الكرسى. والعرش من ياقوته حمراء، وتحته بحر ينزل منه أرزاق الحيوانات يوحى الله إليه فيقطر ما شاء، ثم يقسم بين الخلائق. وبين حملة العرش وحملة الكرسى سبعون حجابا من نور غلظ كلّ حجاب مسيرة خمس مائة سنة ولولا ذلك لاحترق حملة الكرسى من نور العرش. وروى أبو صالح عن ابن عبّاس قال: العرش ثلاثمائة وستّون ألف برج، فى كلّ برج ثلاثمائة ألف صفّ من الملائكة لا يعلم عددهم إلاّ الله تعالى، يسبّح كلّ واحد منهم بلسان لا يعرفه الآخر. وروى عن الحسن أنّه قال: العرش بمعنى الملك، قلت: والعجب من هذا مع فضيلة الحسن أنّه قال: والعرش بمعنى الملك، وقد قال الله تعالى: {وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ»} (4) فكيف يكون بمعنى الملك، وإنّما لعلّه نظر إلى قول زهير

(1) الصحاح 3/ 1009 ب (2) القرآن الكريم 2/ 255 (3) القرآن الكريم 7/ 54؛ قارن تفسير مجاهد 1/ 238 (4) القرآن الكريم 11/ 7

(من الطويل): (59) -تداركتما عبسا وقد ثلّ عرشها … وذبيان إذ زلّت بأقدامها النعل (1) فتوهّم رحمه الله ذلك، وقد فسّر الجوهرى (2) بيت زهير فقال: معناه وها أمره وذهب عزّه، قال ابن الجوزى: فإن قيل: ما الحكمة فى خلق العرش والله أعظم من كلّ شئ؟ فالجواب من وجوه، أحدها أنّه موضع خدمة الملائكة فهم حافّون به إلى يوم القيامة كما قال تعالى، الثانى: لأنّ الله تعالى جعله قبلة من نور. والثالث: من الماء. والرابع: من الرحمة. وأعطاهم قوّة جميع الخلائق وأمرهم بحمل العرش فحملوه فلم يطيقوا فقال لهم الله عزّ وجلّ: قولوا سبحان الله فقالوها فرفعوا بعضه حتى بلغ إلى ركبهم وضعفوا، فقال الله تعالى: قولوا الحمد لله فقالوها، فرفعوه إلى أوساطهم ووقفوا، فقال لهم عزّ وجلّ: قولوا لا إله إلا الله فقالوها فحملوه على أكتافهم ووقفوا، فقال لهم: قولوا الله أكبر فقالوها فرفعوه على رؤسهم (3) فرؤسهم ناشبة فيه وأقدامهم على الأرض السفلى. وعن <أبى> رزين العقيلى قال، قلت: يا رسول الله أين كان ربّنا قبل أن يخلق خلقه؟ فقال: كان فى غمام تحته هواء ثم خلق عرشه على الماء، وحكى أبو جعفر الطبرى رحمه الله فى تأريخه (4) عن ابن عبّاس أنّ أوّل ما خلق الله العرش فاستوى عليه، وروى أيضا عن ابن عبّاس أنّ أوّل ما خلق الله العرش فاستوى عليه، وروى أيضا عن ابن عبّاس أنّه قال: أوّل ما خلق الله الماء قبل العرش ثم وضع العرش عليه.

(1) شعر زهير 40، البيت رقم 30 (2) الصحاح 3/ 1010 آ (3) رؤسهم: رؤوسهم. (4) تأريخ الطبرى 1/ 35 - 39

وذكر أيضا عن وهب بن منبّه قال: كان العرش قبل أن يخلق الله السموات والأرض على الماء فلمّا أراد الله أن يخلق السموات والأرض قبض من صفاء الماء قبضة ثم فتح القبضة فارتفعت دخانا فخلق منه السماوات، وقال الطبرى أيضا رحمه الله: وأولى القولين عندى بالصواب قول من قال إنّ الله خلق الماء قبل العرش لصحّة الحديث الذى رواه ابن رزين العقيلى. (1) وذكر الطبرى (60) أيضا بالإسناد إلى وهب بن منبّه وذكر من عظمة الله فقال أنّ السموات والأرض والبحار لفى الهيكل وأنّ الهيكل لفى الكرسى وأنّ قدميه عزّ وجلّ لعلى الكرسى وهو يحمل الكرسى وقد عاد الكرسى كالنعل فى قدميه. قال ابن الجوزى رحمه الله: ما كان أغنى الطبرى عن رواية مثل هذا جعل لله نعلا! تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. وقال أيضا ابن الجوزى رحمه الله فى تأريخه مرآة الزمان: والعجب من الخطيب فإنّه روى عن ابن عبّاس عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماااتِ وَالْأَرْضَ»}، قال: هو موضع قدميه، وهذا تخليط كبير من الرواة، والحديث موقوف على ابن عبّاس وكان مراده يفسّر معنى الكرسىّ الذى تجلس عليه الملوك ليخرجه من معنى العلم الذى نسب إليه، قلت: هذا قول الشيخ جمال الدين أبو الفرج ابن الجوزى ومعارضاته رحمه الله ولعلّه لعمرى أخذ واعترض مكان الاعتراض.

(1) ابن: أبى

فصل فى ذكر الملائكة المقربين والروحانيين والكروبيين

فصل فى ذكر الملائكة المقرّبين والروحانيّين والكروبيّين (1) قال الجوهرى: (2) الملك من الملائكة واحد من الملائكة، والمقرّبون من التقريب وهو الدنوّ وكذا الكروبيّون من كرب الشئ إذا دنا والروحانيّون من الروح. وأمّا خلقهم عليهم السلام: (3) عن أحمد بن حنبل رحمه الله بالإسناد إلى عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلقت الملائكة من نور، انفرد بإخراجه مسلم. فأمّا جبرائيل عليه السلام، (4) قال علماء التأويل رضى الله عنهم: جبر اسم وإيل من أسماء الله تعالى فجبر بمنزلة عبد وإيل هو الله، ومعناه عبد الله، وفيه لغات (61) ذكرها ابن الجواليقى رحمه الله فى المعرّب وقال: هى تسع لغات، (5) وحكى بعضها فى الصحاح، (6) وقد ثبت أنّ جبرائيل كان يأتى النبىّ صلى الله عليه وسلم فى صورة دحية الكلبى. وقال ابن عبّاس: (7) جبرائيل صاحب الوحى والعذاب، إذا أراد الله تعالى أن يهلك قوما سلّطه عليهم كما فعل بقوم لوط لما نذكر إن شاء الله تعالى، وقال ابن الكلبى رحمه الله: سأل النبىّ صلى الله عليه وسلم جبرائيل أن يأته (8) فى صورته التى خلقه

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 54 ب،5 (2) الصحاح 4/ 1611 آ (3) مأخوذ من مرآة الزمان 54 ب،8||المعجم المفهرس 2/ 72؛ مسند أحمد بن حنبل 6/ 168؛ صحيح مسلم 8/ 226، كتاب الزهد، باب فى أحاديث متفرقة (4) مأخوذ من مرآة الزمان 54 ب،10 (5) المعرب 113||تسع: سبع المعرب (6) الصحاح 2/ 608 ب (7) قارن جامع البيان 27،30؛ الجامع لأحكام القرآن 17/ 94، تفسير ابن كثير 6/ 450 (8) يأته: يأتيه.

الله عليها، فقال له: لا تستطيع أن تثبت! فقال: بلى! فظهر له فى ستمائة ألف جناح سدّ الأفق جناح منها فشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا عظيما، فصعق وذلك معنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى»} (1). وقال أحمد (2) بإسناده عن ابن مسعود قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيل فى صورته وله ستمائة جناح لا غير والتهاويل الألوان المختلفة، أخرجاه فى الصحيحين. وقال ابن عبّاس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: إنّ الله وصفك بالقوّة والطاعة والأمانة فأخبرنى عن ذلك فقال: أمّا قوّتى فإنّى رفعت قرى قوم لوط من تخوم الأرض على جناحى إلى السماء حتى سمع أهل السماء فباح كلابهم ثم قلبتها عليهم، وأمّا طاعة المخلوقات لى: فإنّنى آمر رضوان خازن الجنّة متى شئت بفتحها وكذلك مالك خازن النار، وأمّا أمانتى فإنّ الله أنزل من السماء مائة كتاب وأربع كتب لم يأمن عليها غيرى. وقال أحمد (3) بإسناده عن ابن مسعود، قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيل فى صورته وله ستمائة جناح كلّ جناح منها قد سدّ الأفق يسقط من جناحه التهاويل والدرّ والياقوت ما الله به عليم، أخرجه أحمد فى المسند. وأمّا ميكائيل عليه السلام ففيه اسمه أيضا لغات ذكرها ابن الجوالبقى (4) وغيره. وقال ابن عبّاس: ميكائيل صاحب الرزق والرحمة، وقال أحمد (5) بإسناده

(1) القرآن الكريم 53/ 13 (2) المعجم المفهرس 1/ 384؛ صحيح البخارى 2/ 215، بدؤ الخلق باب 7 (3) المعجم المفهرس 1/ 384؛ مسند أحمد بن حنبل 1/ 395 (4) مأخوذ من مرآة الزمان 54 ب، -1||فيه: فى ||المعرب 327،1 (5) المعجم المفهرس 3/ 224؛ مسند أحمد بن حنبل 3/ 224

عن (62) أنس عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال لجبرائيل: ما لى لا أرى ميكائيل ضاحكا؟ فقال: ما ضحك منذ خلقت النار، وقال ابن عبّاس: أوّل من امتنع من الملائكة من الضحك ميكائيل لمّا خلقت النار. وأمّا إسرافيل عليه السلام، قال الجوهرى رحمه الله: (1) إسرافيل اسم أعجمى كأنّه مضاف إلى إبل، وقال الأخفش: ويقال إسرافين بالنون مثل جبرين ونحوه، وروى مجاهد عن ابن عبّاس أنّه قال إنّ رواية من روايا العرش على كاهله ورأسه قد مرق فى السماء السابعة، قال: ولمّا أمر الله الملائكة بالسجود لآدم أوّل من سجد إسرافيل فأثابه الله أن كتب القرآن فى جبهته. وقد روى موقوفا على عمر بن عبد العزيز، قال: ومنذ خلقت النار لم تجف له دمعة ومن يخلق من الملائكة إنّما يخلق من دموع إسرائيل وهو صاحب اللوح المحفوظ والصور وصاحب النفخة، وقال ابن عبّاس: ينفخ النفخة الأولى فتموت الخلائق وتسير الجبال وتكوّر الأرض والشمس والقمر، ثم ينفخ الثانية لقيام الخلق من القبور. وقال الترمذى (2) بإسناده عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أنعم عيشا وقد التقم صاحب القرن وجنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ فيه، فقال المسلمون: فكيف نقول؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، وذكر النبى صلى الله عليه وسلم فى هذا الحديث القرن والله تعالى يقول: {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ»} (3)، قال ابن قتيبة: الصور هو القرن فى لغة أهل اليمن، وقال مجاهد: هو شبه البوق، وقال الجوهرى: (4) قال الكلبى: لا أدرى ما الصور، وقرأ الحسن:

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 55 آ،4||الصحاح 4/ 1373 ب (2) سنن الترمذى 4/ 42، القيامة،8؛5/ 50 (3) القرآن 23/ 101 (4) قارن الصحاح 2/ 716 آ||قارن تفسير مجاهد 2/ 475، هامش 4

{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ»} (1)، وقد أخرج الحميدى فى الجمع بين الصحيحين لفظ الصور فى حديث طويل عن أبى هريرة عن (63) النبىّ عليه السلام وفيه: «ثم ينفخ فى الصور» فلا يسمعه أحد إلاّ أصغى لبّتا (2) والبت صفحة العنق. وأمّا عزرائيل عليه السلام، قال: (3) فهذه الإضافة مثل جبرائيل ونحوه، وروى ابن عبّاس عن كعب الأحبار قال: وجدت فيما أنزل الله من الكتب أنّ ملك الموت جالس فى السماء الدنيا وبين يديه لوح فيه أسامى من يموت إلى يوم القيامة فإذا وقع بصره على إسم إنسان مات، وقال مجاهد: له أعوان من الملائكة فيبعث ملائكة الرحمة إلى المؤمنين وملائكة العذاب إلى الفاجرين، وقيل فى ملك الموت خاصة إذا رآه إنسان مات. وروى مجاهد عن ابن عبّاس قال: هؤلاء الأربع هم رؤساء الملائكة، وهم المقسمات أمرا بأمر الله وهم مثل ملوك الدنيا، وأقربهم إلى الله تعالى جبرائيل عليه السلام. وأمّا الروح عليه السلام، (4) روى عن جبير عن علىّ عليه السلام فى تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ»} (5)، قال: هو ملك عظيم له سبعون ألف وجه فى كلّ وجه سبعون ألف لسان لكلّ لسان سبعون ألف لغة يسبّح الله تعالى بتلك اللغات كلّها يخلق الله تعالى من كلّ تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.

(1) القرآن الكريم 6/ 73 (2) البت: اللبت (3) مأخوذ من مرآة الزمان 55 آ، -9||قال: سبط بن الجوزى (4) مأخوذ من مرآة الزمان 55 آ، -2 (5) القرآن الكريم 78/ 38؛ قارن جامع البيان 30/ 15؛ الجامع لأحكام القرآن 19/ 186

وذكر ابن مسعود قال: (1) الروح ملك عظيم أعظم من السموات والأرض والجبال والملائكة وهو فى السماء الرابعة يسبّح كلّ يوم إثنى عشر ألف تسبيحة يخلق من كلّ تسبيحة ملك يجئ يوم القيامة صفّا وحده والملائكة بأسرهم يجيئون صفّا. وقال ابن عبّاس: وهو الذى ينزل ليلة القدر زعيم الملائكة وبيده لواء طوله ألف عام فيغرزه على ظهر البيت، أو قال: الكعبة، ولو أذن الله له أن يلتقم السموات والأرض لفعل. (64) وقال ابن الجوزى رحمه الله (2) وذكر الملائكة فقال: والملائكة أصناف كثيرة لا يحصيهم إلى (3) الله عزّ وجلّ، ومنهم أربعة يسبّحون تحت العرش فيسبّح لتسبيحهم أهل السموات، يقول الأوّل: سبحان ذى الملك والملكوت، ويقول الثانى: سبحان ذى العزّة والجبروت، ويقول الثالث: سبحان الحىّ الذى لا يموت، ويقول الرابع سبحان الذى يميت الخلائق ولا يموت. وروى عن وهب قال: عبادة أهل السماء الدنيا القيام، والثانية الركوع، والثالثة: السجود، والرابعة: القراءة، والخامسة: التسبيح، والسادسة: الذكر، والسابعة: الجلوس فى التحيات. قلت: سبحان الله ما أحسن هذا الحديث فى تشريف ابن آدم على الملائكة وكون الشريعة جاءت بمجموع عبادة أهل السموات السبع فى فروض الصلاة لابن آدم. ومن رواية المسعودى (4) فى ذكر الملائكة فى تأريخه أنّ الله تعالى خلق خلقا

(1) جامع البيان 30/ 15 (2) مأخوذ من مرآة الزمان 55 ب،6 (3) إلى: إلا (4) أخبار الزمان 6، -2

فصل فى ذكر الجنة وما لله على عباده فى خلقها من المنة

هو مسكن ملكه يسمّى الروح ومن فوقه الحجب والكرسى محيط بذلك كلّه، وذلك قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماااتِ وَالْأَرْضَ»}، والكرسى وما حوى داخل فى العرش والعرش داخل فى علم قدرته. وقال المسعودى أيضا: (1) قال قوم من الحكماء الأوائل: إنّ الكواكب ملائكة وإنّه عزّ وجلّ جعل لها تدبير العالم ما لم يجعله لغيرها فلذلك عظّموها، وقال قوم منهن إنّ الملائكة خلق عالية وهنّ اثنا عشر صنفا حذاء البروج الاثنى عشر وإنّهم يتوارثون وجعل الله فيمن شاء منهم حولا وقوة يقدر أحدهم أن يكون فى صورة يملأ الأرض شرقا وغربا، ويقدر أن يدخل خرم إبرة لطفا ويغوص تحت الأرض والبحار والجبال لا يمنعه من ذلك مانع، ومنهم من له أجنحة مثنى وثلاث ورباع ويزيد فى الخلق ما يشاء (65) كما قال عزّ وجلّ يلحقون مشارق الأرض ومغاربها كلمحة البصر، ومنهم من هو مخلوق من نور شعشعانى ومنهم ملائكة الرحمة ومنهم الحفظة والخزنة وهؤلاء مخلوقون من رطوبة الماء، وهم حسان الوجوه سمر الألوان، ومنهم من هم مشغولين بعبادة الله عزّ وجلّ لا يعرفون غيرها فى عدّة صور لا تحصى. فصل فى ذكر الجنّة وما لله على عباده فى خلقها من المنّة (2) قلت: لا خلاف بين السادة العلماء رضى الله عنهم أنّها فى السماء لقوله تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى»} (3) ولأنّها دار نعيم فتكون فى جهة العلوّ بخلاف النار-نعوذ بالله منها-فإنّها سجن والسجن يكون فى السفل.

(1) أخبار الزمان 7،4 (2) مأخوذ من مرآة الزمان 57 ب،13 (3) القرآن الكريم 53/ 14 - 15

وقالت المعتزلة والجهميّة: (1) إنّ الجنّة لم تخلق بعد كما قالوا فى النار واحتجّوا فى الجنّة بقوله تعالى: {تِلْكَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ»} (2)، والجعل هو الخلق، وإنّما يجعلها يوم القيامة، واحتجّوا أيضا بقوله تعالى: {جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماااتُ وَالْأَرْضُ»} (3) والطول أهمّ من الأرض فأين تكون وأعدّت للمتّقين لنا، وما احتجّوا به فليس المراد من الآية الخلق فى المستقبل بل فى الماضى أى جعلها لئلاّ يقع التناقض بين الآيتين، وإذا ثبت أنّها مؤخّرة فأهلها يتنعّمون فيها على الأبد. وقال جهم بن صفوان: يبيدان ويفنيان لئلاّ يصير أهلها شركاء لله تعالى، ولنا قوله تعالى: {جَنّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خالِدِينَ فِيها»} (4)، فى مثل آيات كثيرة وردت فى الكتاب العزيز بذلك، وما ذكره فلا نسلم أنّه يؤدّى إلى المشاركة لأنّ الله تعالى واجب الوجود (66) واجب البقاء مستحيل العدم، والعبد جائز الوجود جائز البقاء فعدمت المشاركة. وأمّا احتجاجهم فى العرض والطول فاحتجاج ضعيف وقد ردّ عليهم بأحسن ممّا احتجّوا به، وليس هذا كتاب بحث ومناظرة، وكذلك ما احتجّوا به فى قولهم جعل بمعنى خلق، فقد ذكرت الفرق بين ذلك فى كتابى المسمّى ذخائر الأخائر فى الذخيرة الثانية المسمية (5) «بذخيرة الياقوت البهرمان فى تأييد تنزيل القرآن بالدلائل الواضحة والبرهان». قلت: وقد جاءت فى فضائل الجنّة أخبار وآثار، منها: قال الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله (6) بإسناده إلى أبى بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه قال: قال

(1) راجع Daiber,Mucammar 542 - 74 : (2) القرآن الكريم 28/ 83 (3) القرآن الكريم 57/ 21 (4) القرآن الكريم 18/ 107 - 108 (5) المسمية: المسماة. (6) المعجم المفهرس 2/ 250؛ صحيح البخارى 3/ 197،4/ 287

رسول الله صلى الله عليه وسلم: جنّات الفردوس أربع: ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما من ذهب وثنتان من فصّة حليتهما وآنيتهما وما فيهما كذلك وليس بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربّهم إلاّ رداء الكبرياء على وجهه الكريم فى جنّة عدن، أخرجاه فى الصحيحين. وفيهما (1) من حديث أبى موسى أيضا عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: إنّ فى الجنّة لخيمة درّة مجوّفة عرضها ستّون ميلا فى كلّ زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمن. (2) وفيهما (3) من حديث أبى هريرة عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: إنّ الله عزّ وجلّ يقول: أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أدن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فإن قيل: فأعلا ما فى الجنّة النظر وقد خطر على قلوبنا فالجواب: إننا فى وقت النظر يحصل لنا من اللذّة والاستغراق ما لم يخطر على قلب بشر. وفى الصحيحين أيضا (4) عن أبى هريرة عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: أول زمرة تلج الجنّة صورهم على صور (5) القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ولا يتمخّطون ولا يتغوّطون آنيتهم فيها ذهب وأمشاطهم من الذهب والفضّة ومجامرهم (67) الألوّة ورشحهم المسك، ولكلّ واحد منهم زوجتان يرى مخّ سوقهما من وراء <اللحم من> الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم على قلب رجل واحد يسبّحون الله بكرة وعشيا.

(1) المعجم المفهرس 1/ 403؛ صحيح البخارى 3/ 197، تفسير قرآن 55 (2) المؤمن: المؤمنين صحيح البخارى. (3) المعجم المفهرس 1/ 47؛ صحيح البخارى 2/ 217، بدؤ الخلق باب 8، صحيح مسلم 8/ 143، الجنة (4) المعجم المفهرس 2/ 342؛ صحيح البخارى 2/ 217؛ بدؤ الخلق، باب 8؛ مسند الحميدى 2/ 484، رقم 1143 (5) صورهم على صور: صورتهم على صورة صحيح البخارى

وفيهما (1) من حديث أبى ذرّ عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: أدخلت الجنّة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وترابها المسك، والجنابذ القباب، وقال الجوهرى: (2) الجنبذة: ما راتفع من الشئ واستدار كالقبّة، قال، وقال يعقوب: والعامّة تقول جنبذة بفتح الباء. وفى الصحيحين (3) من حديث أبى سعيد الخدرى أنّ النبى صلى الله عليه وسلم قال: أهل الجنّة ليتراؤن (4) أهل الغرف من فوقهم كما يتراؤن الكواكب الدرى الغابر فى الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم. قلت: وقد رويت هذه اللفظة الغابر وليست بشئ، والمشهور من حديث أبى سعيد الذى أخرجه الحميدى: (5) الغارب فى الأفق المشرقى والغربى، وفى رواية: الكواكب الدرى فأمّا الغابر فهو السهم لا يدرى من رمى به. تمام الحديث: قالوا: يا رسول الله: تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ فقال: بلى والذى نفسى بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين. وفيهما (6) من حديث سهيل بن سعد وأبى سعيد وأبى هريرة وأنس كلّهم عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: إنّ فى الجنّة شجرة يسير الراكب المجدّ فى ظلّها مائة عام لا يقطعها، وقد تقدّم ذكر ذلك. وأخرج أحمد بن حنبل (7) فى المسند عن عتبة بن عبد السلمى: أنّها تشبه شجرة الجوز بالشام، قال: تنبت على ساق واحد وينفرش أعلاها.

(1) المعجم المفهرس 1/ 384؛ صحيح البخارى 1/ 74، الصلاة، باب 1 (2) الصحاح 2/ 561 ب (3) المعجم المفهرس 2/ 204؛ صحيح البخارى 2/ 218، بدؤ الخلق، باب 8 (4) يتراؤن: يتراءيون. (5) مسند الحميدى 2/ 333، رقم 755 (6) المعجم المفهرس 2/ 295؛ صحيح البخارى 2/ 218، بدؤ الخلق، باب 8 (7) مسند أحمد بن حنبل 4/ 184

وقال مسلم (1) بإسناده عن أنس عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: إنّ فى الجنّة لسوقا يقف بها كل جمعة فتهبّ فيها ربح الشمال فتحثوا (2) فى وجوههم وثيابهم فيزدادوا حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهاليهم فيقولون لهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا انفرد بإخراجه مسلم. (68) قال الترمذى (3) بإسناده عن سعيد بن المسيّب: إنّه لقى أبا هريرة فقال له أبو هريرة: أسأل الله أن يجمع بينك وبينى فى سوق الجنّة، فقال سعيد: أفيها سوق؟ قال: نعم! أخبرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ أهل الجنّة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم، ثم يؤذن لهم فى مقدار يوم الجمعة من أيّام دار الدنيا فيزورون ربّهم ويبرز لهم عرشه ويتبدّى لهم فى روضة من رياض الجنّة فيوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضّة ويجلس أدناهم وما فيهم دنى على كثبان المسك والكافور ما يرون أنّ أصحاب الكراسى أفضل منهم مجلسا، قال أبو هريرة: قلت: يا رسول الله وهل نرى ربّنا؟ قال: نعم! هل تمارون فى رؤية القمر ليلة القدر؟ قلنا لا: قال: كذلك لا تمارّون (4) فى رؤية ربّكم، ولا يبقى فى ذلك المجلس رجل إلاّ حاضره الله محاضرة حتّى يقول للرجل: يا فلان أتذكر يوم كذا وقلت كذا وكذا، فيذكّره بعض غدراته، فيقول: يا ربّ ألم تغفر لى؟ فيقول: بلى بسعة مغفرتى بلغت منزلتك هذه! فبينما هم على ذلك إذ غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثله أو مثل ريحه شيئا قطّ، ويقول ربّنا: قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم فنأتى سوقا قد حفّت به الملائكة فيه ما لم تنظر العيون إلى مثله ولا تسمع الآذان ولم يخطر على قلب بشر، فيحمل إلينا ما اشتهينا ليس يباع فيه

(1) صحيح مسلم 8/ 145، الجنة (2) فتحثوا: فتحثو صحيح مسلم (3) سنن الترمذى 4/ 90، الجنة، باب 15 (4) تمارون: تتمارون سنن الترمذى

ولا يشترى، وفى ذلك السوق أهل الجنّة يلتقى بعضهم بعضا فيقبل الرجل ذو المنزلة المرتفعة فيلقى من هو دونه، (1) وما فيهم دون، فيروعه ما يرى عليه من اللباس فما ينقضى حديثه حتى يخيل (2) عليه ما هو أحسن منه وذلك أنّه لا ينبغى (69) لأحد أن يحزن فيها، ثم ننصرف إلى منازلنا فيلقانا (3) أزواجنا فيقلن مرحبا وأهلا لقد جئتم وإنّ عليكم من الجمال أفضل ممّا فارقتمونا عليه، فيقولون (4) إنّا جالسنا اليوم ربّنا الجبّار وتحقنا (5) بأن فنقلب بمثل ما انقلبنا. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله (6) بإسناده إلى أبى هريرة يقول: قلنا: يا رسول الله حدّثنا عن الجنّة ما بناؤها؟ فقال: لبنة من ذهب ولبنة من فضّة وبلاطها (7) المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبؤس (8) ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه. وعن أبى سعيد الخدرى (9) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ فى الجنّة مائة درجة ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض وإنّ جنّة الفردوس أوسطها وأعلاها سماء عليها يوضع العرش يوم القيامة ومنها تتفجّر أنهار الجنّة، فقال له رجل: بأبى وأمّى أنت يا رسول الله! هل فيها خيل! قال: نعم! والذى نفسى بيده إنّ فيها لخيلا من ياقوته حمراء ترفّ بهم بين خلال ورق الجنّة يتزاورون عليها، فقال له الرجل: فهل فيها إبل؟ فقال نعم! والذى نفسى بيده إنّ فيها لإبلا من ياقوته

(1) دون: دنى سنن الترمذى (2) يخيل: يتخيل سنن الترمذى. (3) فيلقانا: فتتلقانا سنن الترمذى (4) يقولون: يقول سنن الترمذى (5) وتحقنا: ويحق لنا أن سنن الترمذى (6) المعجم المفهرس 6/ 89؛ مسند أحمد بن حنبل 2/ 305 (7) بلاطها: ملاطها مسند ابن حنبل (8) يبؤس: يبأس مسند ابن حنبل (9) المعجم المفهرس 2/ 118؛ سنن الترمذى 4/ 80 - 83، الجنة، باب 4؛ 4/ 87 - 88، الجنة، باب 11؛ مسند أحمد ابن حنبل 5/ 352

حمراء رجلاها ذهب وفضّة عليها نمارق الديباج ترفّ بهم بين خلال ورق الجنّة يتزاورون عليها، فقال الرجل: هل فيها صوت؟ فقال: نعم! إنّ الله ليوحى إلى شجرة فى الجنّة: أن أسمعى عبادى هؤلاء الذين شغلهم ذكرى فى الدنيا عن عزف المزاهر والمزامير بالتسبيح والتقديس. ومن رواية ابن الجوزى رحمه الله قال: حدّثنى جدّى، قال: حدّثنا ابن ناصر بإسناده إلى ابن مسعود قال: أنهار الجنّة تتفجّر من جبل مسك، وفى رواية: وتجرى فى عين أخدود، وقال ابن عبّاس: خمر الجنّة (70) أشدّ بياضا من الثلج أو قال: اللبن، وعنه أنّه قال: الجنان سبع: دار الجلال، ودار السلام، وجنّة عدن، وهى قصبة الجنّة، وهى مشرفة على الجنان، وجنّة المأوى، وجنّة الخلد، وجنّة الفردوس، وجنّة النعيم، قال: ونخل الجنّة جذوعها زمرّد أخضر، وكرمها ذهب أحمر، وسعفها كسوة أهل الجنّة. وقال أحمد بن حنبل (1) بإسناده عن سهل بن سعيد عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: إنّ فى الجنّة ثمانية أبواب فيها باب يسمّى باب الريّان لا يدخله إلاّ الصائمون، وأخرجاه فى الصحيحين. قال ابن الجوزى-رحمه الله-فى تأريخه: حدّثنا عبد الوهّاب بن علىّ الصوفى بإسناده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدخل أهل الجنّة الجنّة على طول آدم ستّين ذراعا وعلى حسن يوسف وعلى ميلاد عيسى ثلاثا وثلاثين سنة وعلى لسان محمد صلى الله عليه وسلم، وقال ابن أبى الدنيا بإسناده عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخل أهل الجنّة الجنّة يشتاق الإخوان بعضهم إلى

(1) المعجم المفهرس 1/ 377؛ صحيح البخارى 1/ 324، الصوم، باب 4

بعض فيسير سرير هذا إلى سرير هذا حتى يجتمعان فيتّكئ هذا ويتّكئ هذا، فيقول أحدهما لصاحبه: تعلم متى غفر لنا؟ فيقول صاحبه: نعم، يوم كذا وكذا فى موضع كذا وكذا. وقال أحمد بن حنبل (1) بإسناده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة لينظر فى ملكه (2) ألفى سنة يرى أقصاه كما رأى أدناه، وإنّ أوصلهم منزلة من ينظر إلى وجه الله عزّ وجلّ فى كلّ يوم مرّتين. فإن قيل: فهل فى الجنّة توالد؟ فالجواب: إنّ فيه قولين: أحدهما أنّه لا يولد ولا يكون فيها توالد لأنّ الولادة محلّ الأقذار والجنّة طاهرة، والثانى: أنّه يكون فيها توالد، وقد دلّ عليه الحديث. قال أحمد بن حنبل (3) بإسناده عن أبى سعيد الخدرى إنّ نبىّ الله قال: إذا اشتهى المؤمن الولد فى الجنّة كان حمله ووضعه (71) وسنّه فى ساعة واحدة. قلت: وقد اقتصرنا على هذه الجملة فيما يتعلّق بالجنّة وذكرها من الأحاديث والأخبار والآثار ولو استقصينا فى جمعها لخرجنا على شرط الاختصار، ونبتدئ الآن بذكر خلق الأرضين.

(1) مسند أحمد بن حنبل 2/ 13 (2) ملكه: ملك مسند ابن حنبل (3) مسند أحمد بن حنبل 3/ 9

ذكر خلق الأرضين وما فيها من المخلوقين ومدة التصوير والتكوين

ذكر خلق الأرضين وما فيها من المخلوقين ومدّة التصوير والتكوين (1) قال علماء اللغة: إنّما سمّيت الأرض أرضا لأنّ الأقدام تطئها وترضّها، وقال الجوهرى: (2) الأرض مؤنّثة، وروى أبو إسحاق الثعلبى رحمه الله عن ابن عبّاس رضى الله عنه قال: أوّل ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم رفع بخار الماء فخلق منه السموات ثم خلق النون وهو الحوت الذى يحمل الأرض فبسط الأرض على ظهره فتحرّك الحوت فمادّت الأرض فأثبتت بالجبال، ثم قرأ ابن عبّاس: {ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ»} (3). واختلفوا فى اسم هذا الحوت، (4) فقال ابن الكلبى ومقاتل: بهموت، وقال أبو اليقضان (5) والواقدى: ليوثا، والذى أراه أنّ الحوت اسمه بهموت، والثور ليوثا، والله أعلم. وروى عن علىّ عليه السلام أنّه قال إنّ اسمه بلهوت، قال الراجز: ما لى أراكم كلّكم سكوتا … والله ربّى خلق البلهوتا وقال الثعلبى أيضا: (6) قال الرواة: لما خلق الله الأرض وفتقها بعث من تحت العرش ملكا فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع فوضعها على عاتقه إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب باسطتين قابضتين على الأرض السبع حتّى

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 8 ب،3 (2) الصحاح 3/ 1063 ب ||قارن قصص الأنبياء 3؛ جامع البيان 29/ 9؛ الجامع لأحكام القرآن 18/ 233؛ تفسير ابن كثير 7/ 76 (3) القرآن الكريم 68/ 1 (4) قارن الجامع لأحكام القرآن 18/ 234 (5) اليقضان: اليقظان (6) قارن قصص الأنبياء 3

ضبطها فلم يكن لقدمه موضع قرار، فأهبط الله تعالى من الفردوس ثورا وجعل قرار قدم الملك على سنامه فلم يستقرّ فأحدر الله تعالى ياقوتة حمراء من الفردوس غلظها مسيرة خمس مائة عام فوضعها على سنام الثور فاستقرّت عليها قدما الملك، (72) وقرون ذلك الثور وهى أربعة آلاف قرن خارجة من أقطار الأرض ومنخراه فى البحر فهو يتنفّس كلّ يوم نفسا فإذا تنفّس مدّ البحر وإذا عاد نفسه جزر البحر قال: فلم يكن لقوائم ذلك الثور موضع قرار فخلق الله تعالى صخراء (1) خضراء كغلظ السموات والأرض فاستقرّت قوائم الثور عليها، وهى الصخرة التى قال لقمان لولده {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ»} (2) الآية، فلم يكن للصخرة مستقرّ فخلق الله تعالى نونا وهو الحوت العظيم، فوضع الصخرة على ظهره وسائر جسده خال، والحوت على البحر والبحر على متن الريح والريح على القدرة تقلّ الدنيا كلّها بما عليها، فسبحان من يقدر على هذه القدرة، قال لها الجبّار: كونى فكانت، تعالى الله ربّ العالمين، وقد روى أبو بكر الخطيب بمعناه عن ابن عبّاس رضى الله عنه. وفى الحديث: وكانت الأرض تمور مورا فبعث الله تعالى جبرائيل عليه السلام فعالجها فلم يقدر أن يمسكها، فقال: يا إلهى قد علمت أنّك لم تقدّر ذلك على يدى ولو بعثت بعوضة وقدّرتها لأمسكنها! قال: فأرسل الله ملكا من تحت ساق العرش فدخل تحت الأرض، وذكر الحديث، وفيه: وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض وقد اشتبكت بأقطار السموات إلى العرش ومنخرى الثور فى ثقبين من تلك الصخرة فهو يتنفّس كلّ يوم نفسين فإذا تنفّس مدّ البحر وإذا ردّ نفسه زجرت (3) البحار، وفيه: واسم الحوت بلهوت، فانتهى إبليس إلى

(1) صخراء: صخرة (2) القرآن الكريم 31/ 16 (3) زجرت: جزرت، تحريف

الحوت فقال: ما خلق الله خلقا أعظم منك فلم تحمل هذه الأثقال قال: فهمّ أن يلقى ما عليه فبعث الله عزّ وجلّ بقّة فدخلت فى عينه فشغلته عن ذلك. قال: ثمّ أنبت الله تعالى جبل قاف من تلك الياقوتة الخضراء فأحاط بالدنيا ثم أنبت منه الجبال وشبك بعضها ببعض بعروقه (73) كالشجر فإذا أراد الله تعالى أن يزلزل أرضا أوحى إلى قاف فحرّك ذلك العرق، وهو حديث طويل هذا ملخصه، وقد أخرجه الحافظ أبو نعيم، وابن عساكر فى كتابه المعروف بالزلازل. وحكى الثعلبى (1) عن كعب الأحبار أنّ إبليس تغلغل إلى النور الذى على ظهر الأرض كلّها فوسوس إليه أتدرك ما على ظهرك باليوثا من الأمم والدوابّ والشجر والجبال وغيرها لو نفضّهم لاسترحت، فهمّ ليوثا أن يفعل ذلك فبعث الله إليه دابّة فدخلت فى منخريه ووصلت إلى دماغه فضجّ النور إلى الله منها فأذن لها فخرجت، قال كعب: فو الذى نفسى بيده إنّه لينظر إليها وتنظر إليه إن همّ بشئ من ذلك عادت إليه كما كانت فلا يزال كذلك إلى يوم القيامة. تفسير: وقوله تعالى: {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ»} (2)، وفى آية أخرى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ»} (3)، وقال: {وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً»} (4)، وفى آية أخرى: {وَاللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ»} (5)، فقد كتموا فى هذه الآية وقال: {وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً»}، (6) عزيزا حكيما، سميعا بصيرا، ونظير هذه الآيات فكأنّه كان ثم مضى، فقال ابن عبّاس رضى الله عنه: (7) أمّا قوله: {فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ»} (8)، فهذا فى النفخة الأولى ينفخ فى الصور فيصعق من

(1) قارن قصص الأنبياء 3 (2) القرآن الكريم 23/ 101 (3) القرآن الكريم 52/ 25 (4) القرآن 4/ 42 (5) القرآن الكريم 6/ 23 (6) القرآن 4/ 96 (7) القرآن 23/ 101 (8) قارن الجامع لأحكام القرآن 12/ 151

فصل فى ذكر أشهر الأمم

فى السموات ومن فى الأرض فحينئذ لا أنساب بينهم ولا يتساءلون، ثم ينفخ النفخة الأخيرة: وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون، وأمّا قوله: {ما كُنّا مُشْرِكِينَ»}، {وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً»} فإنّ الله تعالى يغفر لأهل الإخلاص يوم القيامة ولا يغفر شركا، فقال المشركون: تعالوا نقول ما كنّا مشركين فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم فعند ذلك عرف أنّ الله لا يكتم حديثا، وعنده يودّ الذين كفروا لو كانوا مؤمنين، وأمّا قوله تعالى: {وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً»} وباقى الآيات، (1) فالتحقيق إن كان ترد بمعنى صار كقولك: كانت فراخا بيوضها يعنى صارت، وترد لما مضى من الزمان كقولهم: كان حليما يقرى الضيف، وجاءنى الذى كان عندك بالأمس. وهذان مجازان وترد بالحقيقة لمعنى استقرّ وثبت وحقّ وعليه تحمل الآيات الكريمة. وترد بمعنى حدث ووقع وتسمّى الناقصة لأنّها لا تحتاج إلى خبر لأنّها لا تتعرّض لشئ سوى دخول صورة الشئ فى الوجود، وهذا هو الفرق بين الناقصة وبين المستمرّة لأنّ الحقيقة الاستقرار والثبوت وما وجب له سجيّة (2) لا يتغيّر. فصل فى ذكر أشهر الأمم (3) نبتدئ بذكر أشهر العرب، قال الفرّاء: أوّل أشهر العرب العاربة: ناجر، وأوّل شهور المستعربة المحرّم. وروى عن أبى العلاء المعرّى قال: (4) كانت للعرب العاربة تسمّى الشهور

(1) فى الهامش بخط غير خط المصنف (2) سجية: غير واضح (3) مأخوذ من مرآة الزمان 7 آ،9 (4) مأخوذ من مرآة الزمان 7 آ، -10؛ قارن مروج الذهب 2/ 349؛ نهاية الأرب 1/ 157

بغير هذه الأسامى فتقول للمحرّم: مؤتمر، ولصفر: ناجر، ولربيع الأوّل: خوان، ولربيع الآخر: ومضان، ولجمادى الأوّل: ربا، ولجمادى الآخر: حنين، ولرجب: الأصم، ولشعبان: عادل، ولرمضان: ناتق، ولشوّال: وغل، ولذى القعدة: ورنة، ولذى الحجة: برك. وتفسيرها: أمّا مؤتمر فاشتقاقه من المؤامرة فى ترك الحرب احتراما له، وأمّا ناجر فالنجر الأصل جعلوه أصل الحرب، وأمّا خوان فمن تخونهم الحرب، وأمّا ومضان فمن الوميض وهو بريق السلاح وكانت الغارات تشتدّ فيه، وأمّا ربا فمن قولهم شاة ربى على وزن فعلى، أى كثيرة النتاج، وكانوا يجمعون فيه الأموال، وأمّا حنين فلأنّ أسفارهم كانت تطول فيحنّون فيه إلى المنازل والأطلال والأهل، وأمّا الأصمّ فلأنّهم كانوا لا يغيرون فيه ولا يسمعون فيه قعقعة السلاح فسمّى بذلك، ومنهم من يقول رجب مضر وسنذكره، وأمّا عادل فلأنّه كان يعدلهم عن سفك الدماء، وأمّا ناتق فمن قولهم نتقت الشاة إذا كثر لبنها وولدها، وأمّا وغل فالوغل الملجأ كانون (1) يلجون فيه المنازل، وأمّا ورنة فالأرن بإسكان الراء النشاط وكانوا ينشطون فيه للحجّ، وأمّا برك فلأنّ الإبل كانت تبرك فيه فى الموسم حتى تنقضى وقيل مشتقّا من التبرّك به. وأمّا الشهور المستعربة (2) فسمّى المحرّم لتحريم (75) القتال فيه كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يعرض له، وكذا فى الأشهر الحرم كلّها، قال الجوهرى: (3) إلاّ حيّان فى العرب: خثعم وطئ فإنّهم كانوا يستحلّون القتال فيه وفى الأشهر الحرم، وأمّا صفر فلأنّ المنازل كانت تصفر منهم فيه،

(1) كانون: كانوا||يلجون: يلجؤون (2) مأخوذ من مرآة الزمان 7 ب،2 (3) الصحاح 5/ 1895 ب

أى: تخلو والصفر الخالى، وقيل: لأنّهم كانوا ينزلون بلاد يقال لها صفر، والأوّل أظهر، وأمّا ربيع الأوّل وربيع الآخر فلأنّهم كانوا يرتبعون فيهما، قال الجوهرى: (1) والربيع عند العرب ربيعان: ربيع الشهور وربيع الأزمنة، فربيع الشهور شهران بعد صفر ولا يقال فيهما إلاّ شهر ربيع الأوّل وشهر ربيع الآخر، وأمّا ربيع الأزمنة فربيعان منهما: ربيع الكلأ وهو الفصل الذى يدرك فيه الكمأة ويطلع النور، والفصل الثانى: الذى تدرك فيه الثمار، وأمّا جماديان فلأنّ الماء كان يجمد فيهما، وأمّا رجب فمن الترجيب وهو التعظيم يقال: رجبته بكسر الجيم، وقال الفرّاء: (2) ومنه قولهم: نخلة مرجّبة إذا كثر حملها أقاموا لها دعائم لئلاّ تنكسر أغصانها، وفيه لغتان: رجب ورحم لأنّ الرحمة تنصبّ فيه صبّا، ويقال له رجب مضر أيضا لأنّ مضر كانت تعظّمه أكثر من غيره فنسب إليها، وجمعه أرجاب، وقيل إنّما سمّى الأصمّ لأنّه لا يشهد بالقبائح على هذه الأمّة، وأمّا شعبان فلأنّ الشعب من الاجتماع كانوا يتشعّبون فيه بعد الفرقة، وقيل إنّما سمّى شعبان لأنّه يتشعّب فيه الخير لرمضان، أى: يتجمّع، وأمّا رمضان فاشتقاقه من الرمض وهو وقع حرّ الشمس على الرمل، ومنه يقال: الرمضاء، وأمّا شوّال: فمن الشول وهو الارتفاع لأنّ النوق تشول فيه: أى: ترفع أذنابها للقاح، وقيل: لأنّ ألبان الإبل كانت تشول فيه: أى: تقلّ، وجمعه شوّالات وشوائل، وهو أوّل أشهر الحجّ، وأمّا ذو القعدة (76) فلأنّهم كانوا يقعدون فيه عن القتال تعظيما له، وجمعه ذوات القعدة، وأمّا ذو الحجّة فلأنّهم كانوا يتهاون (3) فيه للحجّ ويقصدون مكّة من سائر الآفاق، وجمعه ذوات الحجّة.

(1) الصحاح 3/ 1212 آ (2) قارن الصحاح 1/ 133 ب (3) يتهاون: يتهيؤون

والعرب تؤرّخ بالليالى دون الأيّام (1) لأنّ سنينهم قمريّة فالعمل فيها على القمر لأنّه يرى فى الليل عاليا، فيقال فى أوّل ليلة من الشهر: استهلّ الهلال، ولا يقال فى النهار بخلاف سائر الأمم، فإنّ سنينهم على سير السير (2) وهى نهاريّة، ثم العرب تعدّ السنة ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وخمس وسدس يوم لأنّ الشهر يكون تامّا وشهرا يكون ناقصا غالبا. وقال محمّد بن جابر بن سنان الحرّانى البتّانى فى زيجه: (3) شهور العربيّة شهر ثلاثين يوما وشهر تسعة وعشرون يوما إلاّ ذو الحجّة فإنّه من تسعة وعشرين يوما وخمس وسدس يوم فجميع أيّام السنة العربيّة شنك وهى فى الكبيسة سنة. وأمّا الأشهر الروميّة: (4) فالروم تعدّ السنة ثلاثمائة وخمسة وستّين يوما وربع يوم وشهورهم مختلفة العدد: أوّلها: نيسان، وهو ثلاثون يوما، وأيّار، وهو أحد وثلاثون يوما، ولثمان عشرة منه ترجع الشمس هابطة من الشمال، وحزبران ثلاثون يوما، وتمّوز أحد وثلاثون يوما، وكذا آب، فإذا انسلخ آب قلّ الحرّ ولثلاث عشر منه عيد الصليب ولثمانى عشرة منه يستوى الليل والنهار، وتشرين الأوّل أحد وثلاثون يوما وفيه يكون عيد المهرجان، ومعناه أنّه كان فى الفرس ملك ظالم جبّار اسمه مهر فمات فى نصف هذا الشهر، وجان بلغتهم الروح، فكأنّه قيل مهر جان، أىّ: مهر ذهبت روحه، فعاد عندهم عيد، وبين المهرجان والنوروز مائة وستّون يوما، والفرس تسمّى هذا اليوم أوّل السنى، وتشرين الآخر ثلاثون يوما، وكانون الأول أحد وثلاثون يوما، ولسبع عشرة منه يكون النهار تسع ساعات (77) ونصفا وربعا وهو منتهى قصره ويكون الليل أربعة عشر ساعة

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 7 ب، -7 (2) السير: الشمس، تحريف (3) مأخوذ من كتاب الزيج 100 (4) مأخوذ من مرآة الزمان 7 ب، -3

وذلك منتهى طوله، وفى الليلة الخامسة والعشرين منه ولد عيسى بن مريم عليه السلام وكانون الآخر أحد وثلاثون يوما وفى أوّل ليلة منه توقّد نار عظيمة ببلد أنطاكية والنصارى تعظّم تلك الليلة وتلك النار وتقول إنّ دين النصرانيّة ظهرت من أنطاكية فى تلك الليلة بعد ما دثرت، وتسمّيها مدينة الله تعالى، وشباط ثمانية وعشرون يوما وربع يوم مدّة ثلاث سنين متواليات، والسنة الرابعة تسمّى كبيسة فتكون تسعة وعشرين يوما يقسم ذلك فى أربعة سنين ولسبع ليال منه تسقط الجمرة الأولى وهى الجبهة ولأربع عشرة منه تسقط الثانية وهى الزبرة ولإحدى وعشرين منه تسقط الثالثة وهى الصرفة فينصرف البرد وفيه تكامل الحمار، واليوم الخامس والعشرين منه أوّل أيّام العجوز، وقد ذكرها الجوهرى، (1) وآذار ثلاثون يوما وفى الرابع عشر منه فصل الربيع ونزول الشمس الحمل. وقال محمّد بن جابر بن سنان صاحب الزيج: (2) وأمّا شهور الروم على ابتداء اليونانيّين وأهل مصر: أيلول آ-يوما، تشرين الأوّل لا يوما، تشرين الثانى آ-يوما، كانون الأوّل لا يوما، كانون الثانى لا يوما، شباط كح يوما، آذار لآ يوما، نيسان ل يوما، أيّار لآ يوما، حزيران ل يوما، تمّوز لآ يوم آب لآ يوما، فجميع أيّام السنة العجميّة: شمسه يوما وربع يوم وفى السنة الكبيسة شمسو، وهى السنة التى يكون فيها شباط كط كاملة، والله أعلم. وأمّا الأشهر الفارسيّة على رأى محمد بن جابر بن السنان صاحب الزيج. (3) فقال: افروز دير ماه (4) أوّل يوم منه النيروز، أرديبهشت ماه، (78) خرداد ماه، تير ماه، هم دار ماه، (5) شهرير ماه، مهر ماه، وفى ستة عشر منه المهرجان، آبان ماه.

(1) الصحاح 2/ 881 ب (2) مأخوذ من كتاب الزيج 100،12 (3) مأخوذ من كتاب الزيج 100،18 (4) أفروز دير ماه: فرور دين كتاب الزيج (5) هم دار ماه: مرداد ماه كتاب الزيج

وفى السادس والعشرين منه الفوز دجان (1) وهى عشرة أيّام منه خمسة أيّام وخمسة بقيّة، أيّار ماه إلى الثلاثين الواجبة له وخمسة أيّام تطرح ولا تعدّ من الشهور، آذر ماه، دى ماه، بهمن ماه، إسفندر ماه، وكلّ منهم ثلاثون يوما وخمسة بعد آبان ماه ملعبة، فجميع أيّام السنة الفارسيّة ثلاثمائة يوم وخمسة وستّون يوما بلا كسر. وأمّا الأشهر القبطيّة: فأوّلها يوم النيروز وهو أوّل يوم فى: توت، بابه، أنور، كيهك، طوبة، أمشير، برمهات، برمودة، بشنس، بونة، أبيب، مسرى، كلّ شهر منها ثلاثون يوما وخمسة أيّام يلغى بعد الشهور تسمّى اللواحق فجميع أيّام السنة القبطيّة ثلاثمائة وخمسة وستّون يوما وربع يوم، وفى السنة الرابعة شسو يوما، وتأريخ القبط هو ما جهات (2) الإسكندر الماقدونى. ورأيت محمد بن جابر يسمّيه الإسكندر بتقديم الكاف فى سائر زيجه والله أعلم بصحّة ذلك كونه خالف جمهور العالم، أو لعلّه غلط من كاتب نسخة الزيج المذكور. قال ابن جابر: ولأهل مصر والروم من سنى ذى القرنين وبينهما اثنى عشرة سنة مصرّية. قلت: وقصدت أن أثبت هاهنا فصلا هو أصلا فى استخراج التواريخ بعضها من بعض استخرجته من الزيج المذكور لمحمد بن جابر بن سنان مفيدا لكلّ فاضل يغتنى به عن كثير ممّا سواه إذا قدح زند فكرته لتورى قريحته. فإذا أردت (3) أن تعرف بسنى الهجرة رأس كلّ شهر تريد من شهور العرب

(1) الفوزدجان: الفروردجان كتاب الزيج (2) ما جهات: من ممات كتاب الزيج (3) مأخوذ من كتاب الزيج 101،6

(79) فخذ سنى الهجرة الكاملة فاضربها فى ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وخمس وسدس يوم فما بلغ فانظره فإن وقع فيه كسر وذلك الكسر أقلّ من نصف يوم فاسقطه ولا تعتدّ به وإن كان أكثر من نصف يوم فلا تسقطه واعتدّ به واحتسبه يوما وزده فيما يجتمع من الأيّام فما بلغ عدد الأيّام فهو ما مضى من أوّل الهجرة إلى آخر تلك السنة، وهو الأصل فاحفظه، ثم خذ هذا الأصل وزد عليه خمسة أيّام وألق الجميع سبعة سبعة فما بقى دون سبعة فهو علامة السنة المستقبلة فالقه من يوم الأحد يخرج لك الحساب إلى اليوم الذى يدخل فيه المحرّم من السنة التى أنت فيها وهى السنة المنكسرة فافهمه. وإن أردت غيره من الشهور فزد على علامة السنة لما مضى من شهور السنة التامّة لشهر يومين ولشهر آخر يوم يكون ذلك لكلّ شهرين تامّين من الشهور القمريّة ثلاثة أيّام فإن كان شهر واحد وبقى شهر مفرد فخذ له يومين ثم الق ذلك سبعة سبعة من يوم الأحد يقف بك الحساب فى اليوم الذى تدخل به ذلك الشهر الذى طلبت علامته، وهذا هو الحساب الذى تعمل عليه الزبحات والتواريخ فلا تتعداه إلى غيره تصب إن شاء الله تعالى. وإن أردت أن تعرف أوائل الشهور الروميّة بتأريخ ذى القرنين على ابتداء المصريّين فخذ سنى ذى القرنين التامّة فزد عليها ربعها فما بلغ أن رقع فيه كسر فلا تعتدّ به، زاد على النصف أو نقص منه ثم اضرب مبلغ ذلك فى شسه يوما والق ما بلغ ذلك سبعة سبعة فما بقى دون سبعة فهو علامة السنة فألقها على الرسم الأوّل يخرج إلى أوّل يوم من أيلول من السنة المستقبلة (80) التى أنت فيها، فإن وقع كسر نصفا سواء فإنّ السنة الداخلة عليك كبيسة أعنى السنة المستقبلة، وإن زاد على النصف أو نقص فلا.

وإن أردت تعرف أيلول من الشهور فزد على علامة السنة ما مضى من السنة من الشهور التامّة، لكلّ شهر يكون ثلاثين يوما يومين ولكل شهر يكون واحد وثلاثين يوما ثلاثة أيّام ولا تأخذ لشباط شيئا إلاّ أن تكون السنة كبيسة فتأخذ لها يوما واحدا فما بلغ فالقه سبعة سبعة واجرى فيه على الرسم المقدّم من الطرح يخرج إلى أوّل يوم من الشهر الذى تريد. فإن أردت أن تعرف أوائل الشهور الفارسيّة بسنيهم المعلومة فخذ سنى يزدجرد بن شهريار <بن> كسرى ملك الفرس التامّة فزد عليها أبدا ثلاثة واضربها فى ثلاثمائة وخمسة وستّين فما بلغ فألقه سبعة سبعة فما بقى دون سبعة أو سبعة فألقه من يوم الأحد يكون اليوم الذى يفنى (1) فيه العدد هو أوّل يوم من شهر أفروزد ماه الفارسى وهو يوم النيروز، وإن أردت غيره من الشهور الفارسيّة فزد على علامة السنة التى عرفت به يوم النيروز لما مضى من السنة من الشهور التامّة لكلّ شهر يومين غير شهر آبان ماه فلا تأخذ منه شئ ثم الق ذلك سبعة سبعة واجرى على الرسم من إلقائها من يوم الأحد فاليوم الذى يقف فيه العدد هو أول ذلك الشهر الذى طلبت. واعلم أنّ القبط يتقدّمون اليونانيّون من أهل مصر فى مدخل أيلول ثلاثة أيّام وهم يسبقونهم فى التأريخ فى كلّ أربع سنين يوم واحد. فإن أردت تعرف سنى رؤوس شهور القبط فخذ سنى ذى القرنين التامّة وزد عليها أبدا ثلاثة (2) واضربه فى أيّام السنة فما بلغ فالقه سبعة سبعة وما بقى دون السبعة أو سبعة (81) فاجره على الرسم الأوّل فحيث انتهى بك العدد هو أوّل يوم من أيلول، وهو أوّل يوم من توت أيضا من السنة المستقبلة، وإن أردت غيره من

(1) يفنى: يقف كتاب الزيج (2) ثلاثة: ستة كتاب الزيج

فصل فى معرفة التأريخ وما قيل فيه

الشهور فزد على علامة السنة لما مضى من الشهور التامّة لكل شهر تامّ يومين فما بلغ فألقه سبعة سبعة وألق ما بقى دون سبعة أو سبعة من يوم الأحد يكون اليوم الذى تنتهى إليه بالعدد أوّل ذلك الشهر الذى تريد فإن انقضت الشهور كلّها فألق بعد ذلك خمسة أيّام وحينئذ تدخل السنة التى تستقبل لأنّ تلك الأيّام هى اللواحق، فافهم ذلك فإنّه حسن. قلت: وإذ قد ذكرنا هذا الفصل يختصّ بذكر التأريخ فنذكر الآن ما ورد فيه. فصل فى معرفة التأريخ وما قيل فيه (1) يقال إنّ التاريخ الذى تؤرخه الناس ليس بعربى محض وإنّ المسلمين أخذوه عن أهل الكتاب وتأريخ المسلمين أرّخ من سنة الهجرة، كتب فى خلافة عمر ابن الخطّاب رضى الله عنه لما نذكر إن شاء الله تعالى، فصار تأريخا إلى اليوم. وقال أبو نصر الجوهرى فى صحاحه: (2) التأريخ تعريف الوقت والتوريخ مثله، وأرّخت الكتاب بيوم كذا وورّخته بمعنى كذا، قال: والإراخ بقر الوحش، رواه بالكسر، وقد فرق الأصمعى رحمه الله بين اللغتين فقال: بنو تميم يقولون: ورّخت الكتاب توريخا، وقيس تقول: أرّخته تأريخا. وقال قوم: التأريخ معرّب من ما وروز، ومعناه حساب الأيّام والشهور والأعوام، قال: فعرّبته العرب فقالوا: تأريخ أو مؤرّخ وجعلوه مصدرا. وقال أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب فى كتاب الخراج: إنّ تأريخ كلّ شئ آخره فيؤرّخون بالوقت الذى فيه حوادث مشهورة، وقال ابن عبّاس

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 2 آ،9 (2) الصحاح 1/ 418 آ

فصل فى ذكر أول المخلوقات

رضى الله عنه: (82) قد ذكر الله تعالى التأريخ فى كتابه العزيز، فقال: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَااقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجِّ»} (1)، قال ابن الجوزى رحمه الله: حدّثنا عبد الوهّاب المقرئ بإسناده إلى محمّد بن هارون عن الكلبى عن أبى صالح عن ابن عبّاس، قال: سأل معاذ بن جبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوى ويستدير ثم لا يزال ينقص ويدقّ حتى يعود كما كان على حال واحد، فنزل: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَااقِيتُ لِلنّاسِ»} أى لأجل دينهم وصومهم وفطرهم وعدّة نسائهم والشروط التى تنتهى إلى أجل معلوم. وقال قتادة فى تفسير الآية: جعلها الله تعالى مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم وحجّهم ومناسكهم وعدّة نسائهم وغير ذلك، وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: (2) حدّثنا إسماعيل حدّثنا أيّوب حدّثنا نافع عن ابن عمر قال ذكر الهلال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غمّ عليكم فأكملوا العدّة شعبان ثلاثين يوما ثم صوموا، أخرجاه فى الصحيحين، وسنذكر من مبدأ التأريخ وما اختلف فى ذلك من الأقوال فى مكانه إن شاء الله تعالى. فصل فى ذكر أوّل المخلوقات (3) قلت: قد ذكر أبو منصور الثعالبى رحمه الله من ذلك جملة كبيرة فى كتابه المسمّى لطائف المعارف أثبتّها فى كتابى الذى سمّيته حدائق الأحداق ودقائق

(1) القرآن الكريم 2/ 189؛ قارن الجامع لأحكام القرآن 2/ 341 (2) مسند أحمد بن حنبل 2/ 63؛ صحيح البخارى 1/ 327، الصوم، الباب 11؛ صحيح مسلم 3/ 121، الصيام (3) مأخوذ من مرآة الزمان 4 ب، -1

(83) ذكر البيت الحرام

الحذّاق، وإنّما أذكر هاهنا نتفا لطيفة من ذلك ليكون توطئة لما يأتى بعده من ذكر المخلوقات بالأرضين وبالله أستعين. أوّل المخلوقات من العلويّات: (1) القلم، أوّل جبل وضع فى الأرض: أبو قبيس، وقيل قاف، وسنذكره فى الجبال إن شاء الله تعالى، أوّل بيت وضع للعباد: الكعبة. (83) ذكر البيت الحرام (2) قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ»} (3)، قال الجوهرى: (4) يقال: بكّة ومكّة، وقال أيضا: الكعبة البيت الحرام سمّى بذلك لتربيعه، (5) وقال الخليل ابن أحمد: إنّما سمّيت الكعبة كعبة للتربيع، والعرب تسمّى كلّ بيت مربّع كعبة، وقال مقاتل: إنّما سمّيت كعبة لبنائها مربّعة على موضع رفيع، وسمّى البيت الحرام لأنّ الله حرّمه وعظّم حرمته، وقال أحمد بن حنبل رحمه الله بإسناده عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كانت الكعبة خشفة على رأس الماء عليها ملكان يسبّحان الليل والنهار قبل خلق السموات والأرض بألفى سنة. قال أبو عمرو ابن العلاء: الخشفة بخاء معجمة الأكمة الحمراء، والشين ساكنة، وقال الجوهرى: (6) الخشفة: الحسن والحركة، ومعناه على هذا أنّها كانت تضطرب وتتحرّك على الماء. وروى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال: وضعت الكعبة على أربعة أركان قبل أن يخلق الله الدنيا على وجه الماء ثم دحا الأرض من تحتها،

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 4 ب، -1 (2) مأخوذ من مرآة الزمان 9 آ، -4 (3) القرآن الكريم 3/ 96 (4) الصحاح 4/ 1576 آ؛1/ 213 آ (5) لتربيعه: لتربعه الصحاح (6) الصحاح 4/ 1351 ب؛ الحسن: الحس الصحاح

ذكر مساحة الأرض ومقدار طولها والعرض

وروى العوفى عنه أنّه قال: أرسل الله الريح فمسحت الماء حتى حوت على خشفة وهى التى تحت الكعبة ثم إنّ الله مدّ الأرض من تلك الخشفة حتى بلغت حيث أراد الله فى الطول والعرض. وروى عن كعب الأحبار أنّه قال: وجد حجر فى أسفل المقام من أيّام جرهم مكتوب فيه: إنّى أنا الله ذو بكّة حرّمتها يوم خلقت السموات والأرض ويوم وضعت هذين الجبلين وحففتها بسبعة أملاك حنفاء من أمّ هذا البيت زائرا عارفا بحقّى مقرّا لى بالوحدانيّة حرّمت جسده عن النار. وروى عن ابن عبّاس (1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كأنّى أنظر إلى أسود أفحج ينقصها حجرا حجرا يعنى الكعبة، (84) انفرد بإخراجه البخارى، والأفحج المتباعد ما بين الفخذين. ذكر مساحة الأرض ومقدار طولها والعرض (2) اختلفوا فى مساحة الطول والعرض على أقوال: أحدها: أنّ الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ اثنا عشر ألفا للسودان وثمانية آلاف للروم وثلاثة آلاف لفارس وألف للعرب، قال ابن الجوزى: حكاه جدّى فى مصنّفاته كالمنتخب وغيره. الثانى: أنّها مسيرة خمس مائة عام منها ثلاثمائة عمران ومائتان خراب لا ساكن بها، قاله خالد بن مضرس. الثالث: أنّ طولها أربع مائة سنة وعرضها مائتى سنة، قاله مجاهد. الرابع: أنّ طولها وعرضها مسيرة ثلاثمائة سنة، العمران مائة سنة والخراب مائة سنة والبحار مائة سنة، قاله حسّان بن عطيّة.

(1) المعجم المفهرس 5/ 79؛ صحيح البخارى 1/ 278، الحج، باب 49: كأنّى به أسود أفحج يقلعها حجرا حجرا (2) مأخوذ من مرآة الزمان 9 ب،14

الخامس: أنّها ستّة وثلاثون ألف فرسخ فى مثلها، فالهند والسند اثنا عشر ألف فرسخ، وهم ولد سام (1) بن نوح عليه السلام، والصين ثمانية آلاف فرسخ، والروم عشرة آلاف فرسخ، والعرب أربعة آلاف فرسخ، وفيما بين ذلك ألفان، قاله السّدّى. والسادس: أنّ مقدار الدنيا ثلاثين ألف فرسخ ثلث هواء وثلث بحار وثلث للناس والدوابّ قاله مغيث بن سمّى، وقال فى جغرافيا: الهند والصين والمشرق خمسون ألف فرسخ، ومن حدود الهند إلى العراق أربع مائة فرسخ، وعمل روميّة الروم ثلاث آلاف فرسخ، وقد ذكره الفزارى. وقال مقاتل: ما العمارة فى الخراب إلاّ مثل الفسطاط فى الصحراء، وقال أبو الحسن ابن المنادى: لا خلاف أنّ الأرض على هيئة الكرة وهى موضوعة فى جوف الفلك كالمحّة فى البيضة والنسيم محيط بها كالبياض من المحّة والفلك محيط بالنسيم كإحاطة القشر بالبياض وهى مقسومة بنصفين (85) وبينهما بخطّ (2) الاستواء وهو من المشرق إلى المغرب وهو طول الأرض. وأمّا عرضها فمن القطب الجنوبى إلى القطب الشمالى ثلاثمائة وستّون درجة الدرجة خمسة وعشرون فرسخا والفرسخ اثنا عشر ألف ذراع وهو أربعة آلاف خطوة بخطوة البعير وهو ثلاثة أميال والذراع أربعة وعشرون أصبعا والأصبع ستّ شعيرات كلّ شعيرة ستّ شعرات من شعر البرذون، قلت: وهذا الذراع قدّره المأمون بمحضر من المهندسين والحسّاب، وهو بين الطويل والقصير دون ذراع التجّار والذراع الهاشمى، فعلى هذا التقدير يكون عرض ما بين القطبين تسعة آلاف فرسخ وقد أشار إلى هذا ابن خرداذبه فى المسالك (3) والممالك.

(1) سام: حام مرآة الزمان (2) بخط: خط مرآة الزمان (3) الممالك 4

ذكر الأقاليم السبع وهى المعمور من الأرض

وأمّا جغرافيا: ذكر فيه بطلميوس طول الأرض وعرضها وجبالها وبحارها وأنهارها ومدنها وجميع ما فيها فنقله المأمون إلى العربيّة. وقال كعب الأحبار: وجدت فى التوراة أنّ الدنيا مثل نسر: فالشام رأسه والروم صدره والمشرق والعرب جناحاه واليمن ذنبه ولا يزال الناس بخير ما لم تقرع الرأس فإذا قرع الرأس هلك الناس. وقال ابن حوقل: (1) ما بين يأجوج ومأجوج إلى ناحية البحر المحيط فى الشمال برارى وقفار وليس فيها عمارة ولا نبات لشدّة البرد بها. قلت: وسببه انحراف الشمس عن القطر الشمالى وكذا ما بين البحر المحيط والسودان برارى لا شئ فيها لشدّة الحرّ بها، وسببه ميل الشمس إلى ناحية الجنوب، ولنذكر الآن العامر من الأرض وقسمته سبعة أقاليم. ذكر الأقاليم السبع وهى المعمور من الأرض (2) قال صاحب جغرافيا: الدنيا سبعة أقاليم كلّ إقليم تسعمائة فرسخ فى مثلها والبحر الأعظم محيط بها، وجبل قاف وراء البحر، وأطراف السماء (86) عليه كأطراف الخيمة على وجه الأرض، وإنّ خضرة السماء من لونه ولبعد السماء من مسافة الأرض تبين أنّها زرقاء، ثم إنّه رتّب الأقاليم فقال: أوّلها إقليم الهند، ثم إقليم الحجاز، ثم إقليم مصر، ثم إقليم بابل، ثم إقليم الروم، ثم إقليم الترك، ثم إقليم الصين.

(1) صورة الأرض 12/ 19 - 21 (2) مأخوذ من مرآة الزمان 10 آ، -7

ذكر إقليم الهند: الأول

ذكر إقليم الهند: الأول (1) يبتدئ الإقليم المذكور أوّله من المشرق من أقصى بلاد الصين فيمرّ على بلاد الهند ثم على ساحل بحر السند إلى ناحية الجنوب فيمرّ على عمان ثم على اليمن وظفار وحضر موت وعان (2) وصنعاء وتبالة إلى جزيرة العرب فيأتى عليها ثم يقطع بحر القلزم ويمرّ على بلاد الحبشة ويقطع نيل مصر ويمرّ على مدينة الحبشة وتسمّى جرمى وعلى مدينة النوبة وتسمّى دو قلة (3) ثم يمرّ على أرض المغرب على جنوب بلاد البربر إلى أن ينتهى إلى بحر المغرب الكبير، وهذا الإقليم صحيح الهواء، يورث صحّة الأجسام والحكمة، قال أبو معشر: وله من البروج: الجدى ومن النجوم زحل. وأمّا جزيرة العرب فاختلفوا فيها فقال الجوهرى: (4) إنّ أبو عبيدة يقول: جزيرة العرب ما بين رمل سيرين (5) إلى منقطع السماوة، وقال الأصمعى: هى ما بين نجران والعذيب يعنى نجران اليمن، قال: وإنّما سمّيت جزيرة العرب لإحاطة البحر بها من كل مكان، فجعل حدّها من المغرب بحر القلزم ومن المشرق الفرات لأنّها تمرّ على أرض الكوفة وتصبّ فى البحر. قال ابن الجوزى رحمه الله: وجزيرة العرب هى أرض العرب وهى عشرية وقد <حدّها> (6) أصحابنا فقالوا: هى ما بين العذيب إلى أقصى حجرا باليمن ومهرة إلى حدّ الشام، وبعض الفقهاء يقول: حجر بفتح الجيم، وهو حطأ، والصحيح بإسكان (87) الجيم: قصبة اليمامة.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 10 ب،2 (2) عان: عدن مرآة الزمان (3) دوقلة: دو نقلة مرآة الزمان (4) الصحاح 2/ 613 آ (5) رمل سرين: رمل يبرين الصحاح (6) حدها: مرآة الزمان ||حجرا: الحجر، تحريف

ذكر إقليم الحجاز: الثانى

ذكر إقليم الحجاز: الثانى (1) يبتدئ من المشرق على بلاد الصين ثم يمرّ على بلاد الهند ثم على السند وفيه مدينة الكافور ويقال لها الفنصورى ثم على الديبل ثم على البحر الأخضر ويقطع جزيرة العرب فى أرض نجد وتهامة وفيه اليمامة والبحرين وهجر ويثرب ومكّة والطائف وجدّة، ثم يقطع بحر القلزم ويمرّ بصعيد مصر فيقطع النيل ويمرّ على أسوان وإخميم، ثم يمتدّ على أرض المغرب على وسط بلاد إفريقية ثم يمرّ على بلاد البربر وينتهى إلى البحر المحيط. وقال الجوهرى: (2) الحجاز بلاد وسمّيت بذلك لأنّها حجزت بين نجد والغور، وقال الأصمعى رحمه الله: إنّما سمّيت بذلك لأنّ جبل الشراة يقبل من قعر اليمن حتى يبلغ أطراف الشام فسمّته العرب حجازا لأنّه حجز بين الغور وما دونه من شرقيّة نجد، وروى عن الأصمعى أيضا أنّه قال: إنّما سمّى الحجاز لأنّه احتجز بالحرار الخمس حرّة بنى سليم وحرّة واقم ولم يذكر الباقيات، قال أبو معشر: ولإقليم الحجاز من البروج: العقرب ومن النجوم المرّيخ، والله أعلم. ذكر إقليم الشام: الثالث (3) يبتدئ من المشرق فيمرّ على بلاد الصين، ثم على بلاد الهند، ثم على شمالى بلاد السند، ثم على بلاد كابل وسجستان، ثم على سواحل بحر البصرة وفيه مدينة اصطخر وسبا ونيسابور وشيراز وسيراف، ثم يمرّ على كور الأهواز والبصرة وبغداد والكوفة والأنبار وهيت، ثم يمرّ على بلاد الشام: حمص ودمشق وصور وعكّا وطبريّة وعسقلان وغزّة والقدس (88) والرملة، ثم يقطع أسفل مصر ويمرّ

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 10 ب، -12 (2) الصحاح 2/ 869 آ (3) مأخوذ من مرآة الزمان 10 ب، -2

ذكر إقليم العراق: الرابع

على تنّيس ودمياط والفسطاط مع الفيّوم والإسكندريّة، ثم يرد على بلاد المغرب ويدخل فى سبتة حتى ينتهى إلى البحر الكبير، قال أبو معشر: وله من البروج الجوزاء ومن النجوم عطارد، وهواءه غليظ يورث الصفار مرض من يسكنه من المغرب أكثره الاستسقاء والبطن، والغالب على الشام الدم، وحدّه من العريش إلى الفرات. ذكر إقليم العراق: الرابع (1) يبتدئ من المشرق فيمرّ على بلاد التبّت، ثم على خراسان وفرغانة وسمرقند وبلخ وبخارا وهراة ومرو وسرخس وطبرستان وطوس وجرجان وقومس وقزوين والرىّ وإصبهان وقم وقاشان وهمذان ونهاوند والدينور وحلوان ومهرزور وسرّ من رأى والموصل وحرّان والرقّة وقرقسيا، ثم يمرّ على حلب وقنسرين وأنطاكية والمصيعة وأدنة وعمورية وطرسوس، ثم يمرّ فى البحر على جزيرة قبرص ثم يمرّ على بلاد طنجة وما والاها من المغرب، ثم ينتهى إلى البحر الكبير، قالوا: وله من البروج الفوس ومن النجوم المشترى، وقال الخليل بن أحمد: هذا إقليم بابل وإنّما سمّى بذلك لأنّ الألسن تبلبلت بها ومدينتها بناها يرد بن مهابيل (2) حسبما نذكر إن شاء الله، واختلفوا فى حدّ أرض بابل على أقوال: أحدها أنّها الكوفة وسوادها، قاله ابن مسعود، والثانى: من نصيبين إلى رأس العين، قاله قتادة، والثالث: أنّها أرض الحلّة، والأوّل أصحّ.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 11 آ، -9 (2) مهابيل: مهلائين مرآة الزمان

ذكر إقليم الروم: الخامس

ذكر إقليم الروم: الخامس (1) يبتدئ من المشرق من بلاد يأجوج ومأجوج ثم يمرّ على شمال حرّان، وفيه من المدن: خوارزم والشاس وآذربايجان وأرمينية، ثم يمرّ على (89) بلاد الروم بأسرها ويقطع البحر إلى رومية الكبرى وجزيرة الأندلس، ثم ينتهى إلى بحر المغرب، قالوا: وله من البروج الدلو ومن النجوم القمر. (2) ذكر إقليم الترك: السادس (3) يبتدئ من المشرق ويمرّ على يأجوج ومأجوج، ثم يمرّ على القسطنطينيّة، ثم ينتهى إلى بلاد المغرب، وله من البروج السرطان، وله القمر. (4) ذكر إقليم الصين: السابع (5) يبتدئ من المشرق على شمال بلاد يأجوج ومأجوج، ثم يمرّ على بلاد الترك، ثم على ساحل بحر جرجان، ثم يقطع بحر الروم ويمرّ على بلاد الصقالبة والفقحاق، ثم على بلاد البغلرا (6) وباشقرد وما والاها، وله من البروج الأسد ومن النجوم الشمس. قال أبو معشر: (7) أعمر هذه الأقاليم وأكثرها خيرا وأحسنها استقامة وسياسة أربعة أقاليم. وهم: بابل، والهند، والحجاز، ومصر، قال: فأمّا بابل: فيقال مملكة إيران شهر، وكانت الفرس تقدّمه على جميع الأقاليم ومنزلته من العالم بمنزلة القلب من الجسد، والواسطة من العقد، والشمس من الكواكب، وقال

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 11 ب،1 (2) القمر: فى الهامش: لعله زحل: وقيل زحل مرآة الزمان (3) مأخوذ من مرآة الزمان 11 ب،5 (4) وله القمر: وله من النجوم المريخ وقيل القمر مرآة الزمان (5) مأخوذ من مرآة الزمان 11 ب،8 (6) البلغرا: البلغار، تحريف (7) مأخوذ من مرآة الزمان 11 ب،11

بطليموس: إنّ الهند رسمت الأقاليم كأنّها حلقة مستديرة فأوسطها إقليم بابل، والأقاليم حوله وهذه صورته: وهذه الدائرة أخذتها من جغرافيا. وذكرها الخطيب (1) فى تأريخه وزاد عليها فقال: ذكر علماء الأوائل أنّ أقاليم الأرض سبعة وأنّ الهند رسمتها فجعلت إقليم بابل وسطها على هذه الصورة، المحدقة بالدائرة الوسطاء وقرب بعضها من بعض وبعد بعضهما من بعض كما رسمناه، قال الخطيب: فالإقليم الأوّل: إقليم الهند، والثانى: إقليم الحجاز، والثالث: إقليم مصر، (90) والشام داخل فيه، والرابع: إقليم بابل، وهو إقليم العراق وهو أعمرها وأوسطها وفيه جزيرة العرب وهو سرة الدنيا، قال: وحدّ هذا الإقليم ممّا يلى الحجاز وأرض نجد التغلبيّة من طريق مكّة، وحدّه ممّا يلى الشام وراء مدينة نصيبين من ديار ربيعة بثلاثة عشر فرسخ، وحدّه ممّا يلى أرض خراسان وراء نهر بلخ، وحدّه ممّا يلى أرض الهند خلف الديبل بستة فراسخ، قال: وبغداد وسط هذا الإقليم، قال: والإقليم الخامس: بلاد الروم، وقال قوم: إنّ الشام داخل فيه، قال: والإقليم السادس: بلاد الترك، والسابع: بلاد الصين، قال: ومنهم من يفضّل إقليم الصين على الجميع ويقول: هو أعدل الأقاليم وأصحّها، قال أبو معشر: وياجوج وماجوج فى ناحية الشمال لهم جبال منيغة يصعد الصاعد إلى رأس الجبل فى عشرة أيّام وأكثر، وتحمل غلالهم على المعز، قلت: وسأذكر من خبرهم فصلا جيّدا فى مكانه الائق (2) به إن شاء الله تعالى.

(1) تأريخ بغداد 1/ 22 (2) الائق: اللائق

ذكر البلدان وما فيها من السكان

ذكر البلدان وما فيها من السكّان (1) ذكر علماء الهيئة: إنّ المسكون من الأرض <على> (2) تفاوت أخطاره وبعد أقطاره مقسوم بين سبع أمم، وهم: أهل الصين، والهند، والسند، والروم، والفرس، والترك، والعرب. قلت: ولم يذكر صاحب هذا النقل السودان وهم أعظم هذه الأمم كثرة ولعلّهم داخلين فى قوله السند وبعيد ما بينهم. قال: (3) وروى بطليموس أنّه أحصى مدن الدنيا فى زمانه فكانت أربعة آلاف مدينة ومائتى مدينة، وذكر خالد بن عبد الله المروزى (4) أنّ مدن الدنيا ثمانية آلاف مدينة، ففى الصين ألف مدينة، وفى الهند ألف مدينة، وفى الزنج والحبشة والنوبة ألف مدينة (91) وباقى المدن مفرّقة فى الأقاليم. وقال الحسن البصرى رحمه الله: الأمصار المعتبرة فى الإسلام سبعة: مكّة والمدينة والبصرة والكوفة والجزيرة والشأم ومصر وسواد البصرة والأهواز وفارس داخل فى الجملة. فأمّا المشهور من المدن فنبتدئ بذكر مدائن المشرق فنقول: الفنصورة: (5) بالفاء، وهى من مدائن الصين وإلى كافورها المنتهى، ويمتدّ رستاقها على البحر شهرين، وقال الأصمعى رحمه الله؛ إنّما سمّيت الصين بصين ابن نعبر نزلها وكثر نسله بها فسمّيت به، وسأذكر ذلك فى موضعه عند ذكرنا لتفرّق الأمم بعد الطوفان إن شاء الله تعالى. قال: وحدّها من الهند إلى التّبت وجزائر الوقواق فيها، وقال بطليموس:

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 12 آ،4 (2) على: مرآة الزمان (3) الممالك 5،4 (4) المروزى: المروروذى مروج الذهب 6/ 298 (5) مأخوذ من مرآة الزمان 12 آ،12

من دخل بلاد الصين لم يهنء عليه الخروج منها لاعتدال هوائها ورقّة مائها وكثرة خيرها والذهب والفضّة، ولا يزال الإنسان فيها مسرورا طوبا. وقال فى جغرافيا: وفى بلاد الصين أنهار كبار مثل دجلة والفرات تجرى من بلاد الترك والتبّت والصغد، وفيها جبال النشادر (1) يرتفع منها فى الصيف نيران ترى من مائة فرسخ فى الليل وفى النهار يرى دخان لغلبة شعاع الشمس، وأكثر سلوك الناس إلى مدينة الفنصورة، والصين من ناحية خراسان إلى أوّل أعمال الصين نحو من أربعين يوما وقيل أربعة أشهر وهناك جبل الصغد. وقال المسعودى (2) فى مروج الذهب وذكر هذه الجبال النشادر وأطنب فى ذكرها وأن يمكن الدخول إلى الفنصورة من طريق جبال النشادر، لكن فى الشتاء من الزمان، وهناك أناس من أهل تلك الديار وعندهم دوابّ فره معتادة لسلوك تلك الأرض وأنّ التجّار يقصدون تلك الطريق لقرب المسافة فإنّهم يقطعون تلك الجبال فى أربعة أيّام لكن ليلا ونهارا لا ينزلون ولا يستريحون بل لا يزالون (92) يضربون أكفال تلك الدوابّ ويحثّونهم على السير ويسرعون فيه حتّى يقطعون مسافة تلك الجبال، ومن انقطع من بنى آدم أو من الدوابّ هلك ولا يجد له خلاص، ولهم على ذلك الأجرة الوافرة من التجّار السالكين بهم فيصلون إلى هذه المدينة وغيرها من أعمال الصين فى تلك المسافة القريبة ويتوفّر عليهم تلك المسافة البعيدة. ومن مدن الصين مدينة ثبت: (3) قال الأصمعى رحمه الله: أصلها ثبت بالثاء المثلثة وفتحها وتحريك الباء وإسكان التاء، وكانت التبابعة وهم ملوك حمير باليمن

(1) النشادر: نوشاذر مروج الذهب 1/ 185 مادة 383 - 385 (2) قارن (4) (3) مأخوذ من مرآة الزمان 12 آ، -6

لمّا طافوا الدنيا وصلوا إلى هذه الأرض ورتّبوا على تلك الحدود رجالا مخافة العدوّ فثبتوا هناك فقال الناس: ثبت، ثم طال العهد فجعلوا موضع الثاء المثلثة تاء مثنّاة، قلت: وهذا تفاوت يسير فيما أبدلته العالم وصحّفوه. قال: والمسلك التبّتى ينسب إلى هذه الأرض، قال: وهو من صرار غزلان تلك البقعة، وهم كغزلان سائر الدنيا وإنّما لهم بابان خارجان من فكّيهما كأنبية الأفيلة، ويتكوّن هذا المسك من دم يعقد فى صرارة كالدمل فإذا انتهى حصل له تآكل فيأتى إلى رؤس الأحجار المحدّدة فتحتك بها فتنفجر عليها وتسيل على تلك الأحجار فيخرجون أهل تلك الديار فيجمعون ما يجدون منه فى البرانى الصينى ويهدونه لملوكهم ورؤسائهم لأنّه أجود ما يكون من المسك، وأمّا ما عداه فإنّهم يصيدون تلك الضباء (1) ويأخذون صرارهم بنوافحها ولم تكن بعد انتهب فيه الموادّ فيكون فى ذلك زهوكة، هذا جميعه ما ذكره المسعودى (2) فى كتابه مروج الذهب ومعادن الجوهر، وذكر فى ذلك كلام كثير هذا زبدته، وما أحسن ما قال أبو الطيّب المتنبّى (من الوافر): فإن تفق الأنام وأنت منهم … فإنّ المسك بعض دم الغزال (3) قال: (4) والذى فعل ذلك وأقام الحرس بهذه الأرض تبّع الأوّل، وسيأتى ذكره (93) فى جملة التبابعة إن شاء الله تعالى، وكان ملوك الثبت فى قديم الزمان يسمّون التبابعة تبعا لاسم تبعا فلمّا طال الزمان وحال العهد وانقرضوا سمّوا ملوكهم خاقان. وقال بطليموس: من خاصّيّة بلاد الثبت والصين: إنّ الإنسان لا يعرف فيها

(1) الضباء: الظباء (2) قارن مروج الذهب 1/ 188 - 189 مادة 391 - 394 (3) ديوان المتنبى 394، -2، رقم 165؛ البيت 45 (4) قال: سبط بن الجوزى

الهمّ والغمّ ولو مات جميع من للإنسان لم يحزن عليه ولا يكاد يرى فيه شيخ ولا عجوز إلاّ الشباب والكهول، وسنذكر من ذلك فصلا جيّدا عند ذكرنا لبدء خروج التتار وأصول الترك الأوّل. وأمّا ما ذكر من مدائن الهند، (1) فقال فى جغرافيا: ومن مدائن الهند سامل، ومورين، وخالون، ومهنديار، وقشمير، وأقربها إلى بلاد الإسلام غزنة وكان تحت يد ملكها ألف فيل. وقد ذكر أيضا المسعودى (2) من أخبار هذه الأفيلة بتلك البلاد جملة كبيرة، وذكر أنّ فيها أفيلة حربيّة ويكون عليها فى وقت حربهم من آلات السلاح خمس مائة رطل حديد على كلّ فيل منها وحوله من سوّاسه المقاتلين به والمشجعين له خمس مائة رجل وضريبه كلّ فيل حربى إذا كان بهذه العدّة، والعدّة أن يلقى ألف فارس ويهزمهم، قال: ومنهم أفيلة لا يصلحون للحرب فيستعملونها كما تستعمل الأبقار فى الحرث والدراس وما أشبه ذلك. ونقل المسعودى (3) عن الجاحظ أنّه ذكر فى كتابه المعروف بكتاب الحيوان أنّ الكركدنّ تحمل به أمّه سبع سنين وأنّها فى العام الذى يكون فيه وضعها تأتى إلى الأماكن المخصبة من مآكلهم فترقد ويخرج الجنى رأسه من فرجها ويرعى ثم يجوز برأسه فيستمرّ كذلك إلى حين ما تضعه، ورأيت المسعودى قد أنكر ذلك واستبشعه وأخذ على أبى عمر الجاحظ فى هذه الرواية، (4) قلت: أمّا الجاحظ رحمه الله، فطويل الباع فى عدّة فنون وهو ثقة، وروى ذلك فى كتابه أنّه سمعه

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 12 ب،3 (2) مروج الذهب 1/ 200، مادة 421 - 422 (3) قارن مروج الذهب 2/ 121 مادة 863 - 865؛ كتاب الحيوان 7/ 348 (4) عمر: عثمان

سماع لا أنّه أجزم (94) جزم مرأى العين فوا عجبا لمن يأخذ على غيره ولا ينظر لنفسه. وقال الأصمعى رحمه الله: ألذّ مدائن الشرق خراسان، نيسابور، وهراة، وبلخ، وهى من بناء الإسكندر، قال: ومعنى خراسان مطلع الشمس بالفارسيّة، وقيل إنّ هراة بناها الضحاك، ومدينة خراسان ومرو بناهما لهراسف. وقال النضر بن شميل: أوّل مدن خراسان: الرىّ وهى آخر الجبال منها. ومدينة مرو دار خلافة المأمون ومنها خرج أبو مسلم صاحب الدعوة العبّاسيّة، والنسبة إليها مروزى، ومن وراء النهر: كابل مدينة عظيمة وفيها الإهليلج الكابلى، وفرغانة مدينة الصغد، وهم رماة الحدق، إذا مات لهم كبير قطعوا آذانهم احتراما له. قال: وأنشد ابن دريد لنفسه، وكان قد اشتاق إلى خراسان فلمّا دخلها لم تعجبه قال (من الوافر): تمنّينا <خراسانا> زمانا … فلم نعط المنى والصبر عنها فلما أن حللناها سراعا … وجدناها بحذف النصف منها (1) وأمّا مدائن العراق: (2) مدينة بابل: بناها نمرود بن كنعان ومكانها معروف وقد ذكرها الله تعالى: {وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ»} (3)، الآية، وقال الجوهرى: (4) بابل اسم موضع بالعراق ينسب إليه السحر والخمر ولا ينصرف لتأنيثه، وقد أكثرت فيه الشعراء القول، قال ابن الجوزى رحمه الله: حكى لى جماعة من

(1) لا يوجد الشعر فى ديوانه (2) مأخوذ من مرآة الزمان 13 آ، -12 (3) القرآن الكريم 2/ 102 (4) الصحاح 4/ 1630 آ

مشائخنا عن البلخى الواعظ أنّه كان يعظ بالنضاميّة (1) وبدت منه حركات أوجبت إخراجه من بغداد. ومنها الأنبار: (2) وهى مدينة قديمة وقد ذكرها الجوهرى. وروى عن ابن عبّاس (3) قال: كتب عمر بن الخطّاب رضى الله عنه إلى كعب الأحبار يقول: اختر لى المنازل: فكتب إليه: يا أمير المؤمنين بلغنا أنّ الأشياء اجتمعت فقال السخاء: أريد اليمن، فقال حسن الخلق: وأنا معك، (95) وقال الجفاء: أريد الحجاز، فقال الفقر: وأنا معك، وقال البأس: أريد الشام، فقال السيف: وأنا معك، وقال الغناء: أريد مصر، فقال الذلّ: وأنا معك، فاختر لنفسك: ورد الكتاب إلى عمر قال: فالعراق إذا فالعراق إذا. وأمّا مدينة النبىّ صلى الله عليه وسلم فهى يثرب، (4) وقال هشام بن الكلبى رحمه الله: لمّا أهلك الله قوم عاد تفرّقت القبائل فنزل قوم بمكّة وقوم بالطائف وسار يثرب بن بهديل بن أثرم بن عثيل وقومه فنزلوا موضع المدينة، فاستخرجوا العيون وغرسوا النخيل وأقاموا زمانا فأفسدوا فأهلكهم الله ويبست تلك النخيل وغارت تلك العيون حتى مرّ بها تبّع فبناها. وأمّا مدائن اليمن، (5) فمنها صنعاء: قال الجوهرى: (6) صنعاء ممدود: قصبة اليمن، ومدينة حضر موت من مدن اليمن القديمة وكذلك قطام من مدن اليمن أيضا، وكذلك ظفار مثل قطام مدينة باليمن، وكذلك من مدنها الكبار عدن وزبيد مع مدن كثيرة أضربنا عن ذكرها طلبا للاختصار، وسيأتى أيضا من ذكر ذلك نتفا عند ذكرنا لملوك حمير.

(1) بالنضامية: بالنظامية (2) مأخوذ من مرآة الزمان 13 آ، -2||الصحاح 2/ 822 آ (3) مأخوذ من مرآة الزمان 13 آ،3 (4) مأخوذ من مرآة الزمان 13 ب،7 (5) مأخوذ من مرآة الزمان 13 ب،1 (6) الصحاح 3/ 1246 ب

وأمّا مدائن الجزيرة، (1) قال الجوهرى: (2) والموصل بلد، واختلفوا فى ذكرها وتسميتها بذلك على قولين: أحدهما لأنّها وصلت ما بين دجلة والفرات، والثانى لأنّه كان فى موضعها راهب طليعة للفرس يوصل إليهم أخبار الروم، ولا تقال بغير الألف والام، (3) ومن مستطرف الحكايات قيل: لقى رجل لرجل فسأله: من أين أتيت وإلى أين تريد؟ فقال: أتيت من البغداد وأنا أريد موصل فهل لك من حاجة؟ قال نعم! واحدة، قال: وما هى؟ قال: تأخذ الألف واللام من بغداد وتوصلها الموصل! ومن شرقىّ الموصل المدينة العظيمة نينوى، وهى مدينة يونس عليه السلام وسنذكرها. (96) ومنها نصيبين، وهى قديمة، وذكرها الجوهرى (4) فقال: ونصيبين بلد بالعراق وللعرب فيه مذهبان: منهم من يجعل اسما واحدا ويعرّبه فيقول: هذه نصيبين ورأيت نصيبين ومنهم من يجريه مجرى الجمع: هذه نصيبون ومررت بنصيبين. ومنها ميافارقين: أعجمى معرّب، وقد نطقت به العرب وهى أيضا من المدن المعروفة. وآمد: من المدن القديمة ولم تتكلّم بها العرب وقيل تكلّمت بها. وحرّان، قال الجوهرى: (5) وحرّان اسم بلد، قال ابن الكلبى: لما خرج نوح عليه السلام من السفينة بناها، وقيل إنّما بناها هاران خال يعقوب عليه السلام فأبدل العرب الهاء حاء، وكان بها معبد اليونان.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 13 ب، -11 (2) الصحاح 5/ 1843 آ (3) الام: اللام (4) الصحاح 1/ 225 ب (5) الصحاح 5/ 2098 آ

وأمّا مدائن الشام والسواحل (1) فمنها: حلب: وقد ذكرها الجوهرى (2) فقال: وحلب مدينة بالشام. وقال أبو الحسين ابن المنادى: الشامات خمس كور، الأولى: قنّسرين، ومدينتها العظمى حلب، وقنّشرين أقدم منها، وبينهما أربع فراسخ، وفيها آثار الخليل عليه السلام ومقامه، وقد نزلها أكابر الملوك كبنى حمدان وغيرهم. قال: ومن رستاقها منبج، وهى مدينة قديمة وذكرها الجوهرى (3) فقال: ومنبج اسم موضع. وفى ساحل حلب مدن كثيرة منها: أنطاكية، ذكرها ابن الجواليقى رحمه الله فى المعرّب، (4) واختلفوا فى بانيها، فقال قوم: بناها ازطحش (5) أوّل ملوك اليونان وصيّرها دار ملكه وحشد إليها الحكماء وأصحاب الرصد وأخذ الطوالع منها ومسافة سورها اثنا عشر ميلا وعدّة أبراجها مائة وستّة وثلاثون برجا وعدد شرّافاتها أربع وعشرون ألفا، وهذا السور فى السهل والجبل، وقال أبو معشر: بنيت بعد الإسكندر الثانى بمائة سنة، والنصارى تسمّيها: دار الله لأنّ النصرانيّة ظهرت منها بعد ما دئرت، وسيأتى من ذكرها من مبتدئها إلى حين (97) افتتحها السلطان الشهيد الملك الظاهر ركن الدنيا والدين بيبرس البند قدارى- تغمّده الله برحمته-الثالث من ملوك الترك بالديار المصريّة وما معها واستقرّت دار إسلام إلى حين تسطير هذا التأريخ المبارك لا زالت ديار الفجرة الكفّار بأيدى البربرة الأخيار من سائر الأقطار إلى يوم العرض بين يدى الملك القهّار.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 13 ب، -3 (2) الصحاح 1/ 115 ب (3) الصحاح 1/ 343 آ (4) المعرب:25،6 (5) أزطحش: انطيخس؛ قارن مروج الذهب 2/ 25 مادة 704

وأمّا الشام الثانية: (1) فهى حمص وأعمالها، وكانت مركز الملوك من الروم وكان زيتونها وقنواتها متّصلة بتدمر وبعلبك، ومن سواحلها طرابلس وما والاها، وسنذكرها عند ما فتحها السلطان الشهيد الملك المنصور قلاوون الألفى الصالحى نوّر <الله> ضريحه وجعل الجنّة مأواه، وقد نزلها خلق من الصحابة رضى الله عنهم. وأمّا الشام الثالثة: (2) وهى الغوطة ومدينتها دمشق، واختلفوا فى الذى بناها على أقوال، فمنهم من قال: نوح عليه السلام، لمّا خرج من السفينة أقام بثمانين مدّة ثم جاء إلى الشام فأشرف من جبال الغوطة عليها فأعجبته فشرع فى بنائها واتّخذها دارا وهى أوّل مدينة خطّت بعد الطوفان. قال النضر بن شميل، الثانى: بنوراسب، وبنى بعدها صور بالساحل، قاله مجاهد، والثالث: عاد بن عوض وإنّها المشار إليها بقوله تعالى: {إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ»} (3)، قاله كعب الأحبار، والرابع: ذو القرنين الإسكندر الأوّل، لمّا عاد من المشرق صعد على عقبة دمّر ومعه غلام اسمه دمشق فرأى المياه ضائعة فقال له: يا دمشق ابن هاهنا مدينة! ورسمها له فبناها، حكاه أبو القسم ابن عساكر فى تأريخ دمشق، وقال: كان الغلام اسمه دمشقش بزيادة شين، قال: وكان وادى دمشق كلّه شجر الأرز، قال أبو القسم: والأرزة التى وقعت فى سنة ثلاثمائة وثلاث عشرة من ذلك الأرز، وبنى مكان الجامع معبدا لله فلم تزل فيه العبادة من ثمّ. والخامس: (98) غلام الخليل عليه السلام يقال له العازر وهبه له نمرود لمّا خرج من النار سالما، حكاه وهب بن منبّه، السادس: سليمان بن داود عليه السلام،

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 14 آ،10 (2) مأخوذ من مرآة الزمان 14 آ،12||قارن تأريخ دمشق 1/ 10 - 16 (3) القرآن الكريم 89/ 7

وبريد وجيرون الذان (1) ينسبان إليها باب البريد وجيرون هما شيطانان فى قول الحسن والمدائنى، كانا على عهد سليمان، وفى قول كعب الأحبار: هما أخوان وأبوهما سعد ابن لقمان بن عاد. وقيل: كان موضع جيرون وباب البريد مدينة صغيرة وهما من بعض أبوابها وإنّما سمّى الباب الصغير لأنّه كان أصغر أبوابها لمّا بنيت، وباب كيسان منسوب إلى كيسان مولى معاوية بن أبى سفيان، وباب ثوما ينسب إلى عظيم من الروم يقال إنّه كان صهر هرقل ملك الروم، وباب الفراديس منسوب إلى محلّة كانت فى ظاهره تسمّى الفراديس ويقال إنّها كانت عدّة جنّات فسمّيت به لجمع فردوس، وباب الفرج فتحه نور الدين الشهيد تفاؤلا باسمه وما فتح عليه من الفتوح ببلاد الفرنج لما نذكره فى موضعه إن شاء الله تعالى، وباب الجابية منسوب إلى قرية ظاهرة تسمّى الجابية، وكانت مدينة عظيمة فى الجاهليّة، وباب السلامة سمّته العرب لأنّه لم يكن من جهته قتال فى وقت فتوحها فى خلافة أبى بكر وعمر رضى الله عنهما لما نذكره أيضا إن شاء الله تعالى، وفى السور أبوابا صغارا تفتح عند الحاجة إليها. وذكر أبو القسم عبيد الله بن عبد الله بن حرداناده: (2) أنّ أصحاب الرسّ كانوا باليمن فأرسل الله تعالى إليهم حنضلة (3) بن صفوان نبيّا فقتلوه فسار إليهم عاد ابن عوض بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام بولده من الرسّ فنزل الأحقاف وأهلك الله تعالى أصحاب الرسّ لما سنذكره، وانتشر ولد عاد فى بلاد اليمن ثم خرجوا إلى الشام فنزل جيرون بن سعد بن عاد بن عوض دمشق وبنا مدينتها

(1) الذان: اللذان (2) حردا ناده: خرداذبه، تحريف؛ القصة ناقصة فى المسالك لكن موجودة فى تأريخ دمشق 11 (3) حنضلة: حنظلة

وسماها جيرون وهى {إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ»}، فبعث الله هود بن عبد الله بن رباح (99) ابن خلد بن الجلود بن عاد بن عوض نبيّا إلى قوم عاد بالأحقاف فكذّبوه فأهلكهم الله تعالى، وسنذكر ذلك فى قصّة هود عليه السلام إن شاء الله تعالى. وقال بعض الأوائل: إنّما بنيت على الكواكب السبعة وكان لها سبعة أبواب على كلّ باب صورة الكوكب المختصّ به، فكان الباب الشرقى للشمس، وباب ثوما للزهرة، وباب السلامة للقمر، وباب الفراديس لعطارد، وباب الجابية للمرّيخ، وباب الصغير للمشترى، وباب كيسان لزحل. قال الجوهرى: (1) ويقال إنّ صورة زحل باقية عليه إلى الآن، ودمشق قصبة الشام، قال: ودمشق من صفات النوق. واختلفوا فى لفظة جلّق فقال الجوهرى: (2) جلّق موضع بالشام، وقال ابن الجواليقى: (3) جلّق يراد به دمشق. وقيل: هو موضع بقرب دمشق وهو أعجمى معرّب، وقد جاء فى الشعر الصحيح قول حسّان بن ثابت الأنصارى (من الكامل): لله درّ عصابة نادمتها … يوما بجلّق فى الزمان الأوّل (4) ويقال: (5) إنّ صورة امرأة كان الماء يجرى من فيها فى قرية من قرى دمشق. وقال الهيثم: بنيت دمشق فى خمس مائة سنة وأصل مياهها من عين فى مرج الزبدانى عند قرية يقال لها بردا ثم تجتمع من عين الفيجة، وتنقسم سبعة أنهار وفى بردا يقول بعض القدماء (من البسيط): وما ذكرتكم إلاّ وضعت يدى … على حرارة قلب قلّ ما بردا ولا تذكّرتم والدمع يشرق لى … إلاّ تحدّر من عينىّ ما بردا

(1) الصحاح 4/ 1477 آ (2) الصحاح 4/ 1454 ب (3) المعرب 101،1 (4) ديوان حسان 74، رقم 13/ 7 (5) إن: إنه مرآة الزمان

فصل فى فضل دمشق وما جاء من الأخبار وتبعها من الآثار

وفى رواية عن كعب الأحبار أنّه قال: أوّل حائط وضع على وجه الأرض بعد الطوفان حائط حرّان ودمشق وبابل. فصل فى فضل دمشق وما جاء من الأخبار وتبعها من الآثار (1) (100) قلت: وقد أخرج مسلم (2) عن النوّاس بن سمعان قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينزل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقى دمشق بين مهرودتين واضعا كفّيه على أجنحة ملكين، وهو حديث طويل، والمهرودة: المصبوغة. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: (3) حدّثنا ابن اليمان بإسناده إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ستفتح عليكم الشام فإذا تخيّرتم المنازل منها فعليكم بمدينة يقال لها دمشق فإنّها معقل المسلمين من الملاحم وفسطاطهم بأرض يقال لها الغوطة. قال ابن الجوزى: إلاّ أنّ جدّى ضعّف هذا الحديث وذكره فى الأحاديث الواهية. وروى عن وهب بن منبّه أنّه قال: بلغنى عن ابن عبّاس أنّه قال: أقدم حائط على وجه الأرض حائط قبلة دمشق وفيه قبر هود عليه السلام، وذكر مجاهد عن ابن عبّاس فى تأويل قوله تعالى: {إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ»}: أنّها دمشق، وروى عن ابن عبّاس موقوفا عليه ومرفوعا أنّه قال: قد وكّل الله بكلّ بلد ملكا يحرسه إلاّ دمشق فإنّه يتولاّها بنفسه، والموقوف أصحّ. وأمّا الآثار فروى وهب بن منبّه، قال: كان الخضر عليه السلام يطرقها فأتاها مرّة فوجدها بخيرة فغاب خمس مائة سنة ثم أتاها فإذا هى عامرة فغاب عنها خمس مائة سنة أخرى وأتاها فإذا هى بقصبة تأويها السباع ثم غاب عنها خمس مائة

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 14 ب، -4 (2) صحيح مسلم 8/ 198، الفتن (3) مسند أحمد بن حنبل 4/ 160||ابن: أبى مسند ابن حنبل

سنة ثم عاد إليها فإذا هى عامرة فعل كذلك مرار، وهذا يدلّ على أنّها قديمة. وحكى الحافظ ابن عساكر رحمه الله فى تأريخه (1) أنّه كان فى دمشق رجل صالح وكان يقصده الخضر عليه السلام وذلك فى زمان معاوية بن أبى سفيان، فبلغ ذلك معاوية فجاء إلى الرجل وقال له: اجمع بينى وبين الخضر عندك، قال: نعم، فجاء الخضر على عادته فأخبره بما قال معاوية، فقال: ليس لى إلى ذلك سبيل، فقال له معاوية: قل له: قد قعدنا مع من هو خير منك وحدّثناه وخاطبناه وهو محمّد صلى الله عليه وسلم! ولكن اسأله عن ابتداء بناء دمشق (101) كيف كان، قال: نعم، وذكر لحديث المقدّم ذكره. وذكر الحافظ ابن عساكر أيضا (2) عن أبى حسين الرازى والد تمام أنّه ذكر فى تأريخه: أنّ عبد الله بن على بن عبد الله بن عبّاس لمّا حاصر دمشق وهدم سورها وقع منه حجرا عليه منقوش باليونانى فترجم بالعربيّة، فكان: ويك أمّ الجبابرة من رامك بسوء قصمه الله وتلك من خمسة أعين ينقض سورك على يديه بعد أربعة آلاف سنة فنظر فإذا هو عبد الله بن على بن عبد الله بن عبّاس ابن عبد المطلّب، ففعل بها ما فعل. وقد ورد أيضا فى فضائل دمشق أخبار فيها للمحدّثين نظر، فلذلك عديناها، وقد ذكرها أبو القسم فى تأريخه، وليس فيها ما ينبت إلاّ النادر، وذكر أيضا أبو القسم فى تأريخه فى أخبار دمشق: أن أبا الفتح المسلم بن هبة الله صنّف ألف رسالة فى تفضيل دمشق على الدنيا، وكان فاضلا رحمه الله، وهو القائل (من الطويل): وما ذقت طعم الماء إلاّ وجدته … كأن ليس بالماء الذى كنت أعرف ولا سرّ صدرى مذ تناءت بى النوا … أنيس ولا مال ولا متصرّف

(1) تأريخ دمشق 1/ 12 (2) تأريخ دمشق 1/ 15

وما أحضر اللذات إلاّ تكلّفا … وأى سرور يقتضيه التكلّف وروى عن كعب الأحبار أنّه رأى رجلا من أهل الشام فقال: من أين أنت؟ فقال: من دمشق، فقال: أنت من الذين يعرفون فى الجنّة بالثياب الخضر، وحكى جماعة من مشايخ دمشق أنّ بالغوطة مائة ألف ونيفا وثلاثين ألف بستان، وسنذكر أنهارها عند ذكرنا لأنهار الدنيا إن شاء الله تعالى. وروى عن ابن أبى ديب (1) عن معن بن الوليد عن خالد بن معدان عن معاذ ابن جبل قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك لنا فى صاعنا ومدّنا وفى شامنا ويمنّا وفى حجازنا، قال، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله! وفى (102) عراقنا! فأمسك النبىّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا كان فى اليوم الثانى قال مثل ذلك، فقام إليه الرجل فقال: يا رسول الله! وفى عراقنا! فأمسك، فقام إليه فى اليوم الثالث وقال مثل ذلك فأمسك عنه فولّى وهو يبكى فدعاه النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال: أمن أهل العراق أنت؟ قال: نعم، قال: إنّ أبى إبراهيم همّ أن يدعو عليهم فأوحى الله إليه: لا تفعل فإنّى جعلت خزائن علمى فيهم وأسكنت الرحمة قلوبهم. وقد أكثرت الشعراء فى وصف دمشق ومحاسنها فمنهم أحمد بن منير (2) فقال (من البسيط): حيى الديار على علياء جيرون … مهوى الهواء ومغانى الخرّد العين (3) من أبيات وقد وازنها أبو عبد الله محمّد بن محمّد الملقّب بالعماد الكاتب الإصفهانى فقال (من البسيط):

(1) قارن المعجم المفهرس 1/ 173، اللآلئ المصنوعة 1/ 465||ديب: ذؤيب (2) أحمد بن منير: خريدة القصر، شعراء الشأم 1/ 76 (3) خريدة القصر، شعراء الشأم 1/ 25||حيى: حى خريدة القصر||الهواء: الهوى خريدة القصر

أهدى النسيم لنا ربّا الرياحين … أم طيب أخلاق جيرانى بحيرون (1) هبّت لنا نفخة فى جلّق سحرا … باحت بسرّ من الفردوس مكنون ومنها: دمشق عندى لا تحصى فضائلها … عدّا وحصرا ويحصى رمل يبرين (2) وما أرى بلدة أخرا تماثلها … فالحسن (3) من مصر حتى منتهى الصين وإنّ من باع كلّ العمر مقتنعا … بساعة فى ذراها غير مغبون لمّا علت همّتى صيّرتها وطنى … وليس يقنع غير الدون بالدون ترى جواسقها فى الجوّ شاهقة … كأنّهنّ قصور للسلاطين دار النعيم ومن أدنى محاسنها … ثمار تمّوز فى أيّام كانون نعيمها غير ممنوع لساكنها … كالخلد والمنّ فيها غير ممنون أزهارها أبدا فى الروض مونقة … فحسن نيسان موصول بتشرين (4) وللحمائم فى الأشجار أدعية … مرفوعة شفعت منّا بتأمين خافت على الروض من عين مطوّفة … أضحت تعوّذه منها بياسين (103) من كلّ مطرب صوت غير مضطرب … وكلّ معرب لفظ غير ملحون وللبساتين أنهار جداولها … تسير (5) فى الجرى أمثال الثعابين وقال ابن الكلبى رحمه الله: دمشق كورة من كور الشام ومن أعمالها البلقا منسوبة إلى بالق، وعمّان بالتشديد سمّيت بذلك لأنّ عمّان بن لوط عمرها وأقام بها، وزغر ومآب باسم ابنتى لوط عليه السلام، وسمّيت صيدا بصيدون

(1) خريدة القصر، شعراء الشأم 1/ 30،5 (2) خريدة القصر، شعراء الشأم 1/ 31،6 (3) فالحسن: فى الحسن خريدة القصر (4) خريدة القصر، شعراء الشأم 1/ 32،6 (5) تسير: تستن خريدة القصر

ابن كنعان بن نوح عليه السلام، وأريحا بأريحا بن مالك بن ازفحشد بن سام ابن نوح، وورد (1) أيضا أنّ مآب بن لوط والربه بنته، وسمّيت الكسوة لأنّ رسل ملك الروم باتوا بها فسرقت ثيابهم فأصبحوا عراة وقيل لأنّ غسّان قتلهم واقتسمت ثيابهم وكساها أصحابه فسمّيت بذلك. قال: وصور وعكّا من أعمال دمشق، وقال الجوهرى: (2) عكّه بالهاء من أعمال دمشق وهى بلد بالثغور، وصور من صار إذا مال وهى مائلة فى البحر. ومنها الربوة كان عيسى عليه السلام وأمّه يأويان إليها ومنه قوله تعالى: {وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ»} (3)، الآية، ومنها قاسيون وسنذكره فى الجبال إن شاء الله تعالى. وبظاهر دمشق أماكن مباركة منها مقبرة باب الفراديس كان كعب الأحبار يقول: يبعث الله منها سبعين ألف شهيد يشفعون فى سبعين ألف إنسان، وقال كعب الأحبار: بطرسوس عشرة قبور من قبور الأنبياء وبالمصيصة خمسة وبأنطاكية قبر حبيب النجار، وسنذكره، وبمحص ثلاثون نبيّا وبدمشق خمس مائة وبالسواحل ألف نبىّ وببيت المقدس ألف نبىّ وبالعريش عشرة، وروى مكحول عن ابن عبّاس قال: من أراد ينظر إلى قبور الأنبياء فعليه بالشام. قلت: وقد ذكر أبو القاسم ابن عساكر رحمه الله فى تأريخه (4) جملة جيّدة فى أماكن بظاهر دمشق (104) منها قرية برزة فروى بإسناده إلى ابن عبّاس قال: ولد إبراهيم الخليل فى غوطة دمشق بقرية يقال لها برزة فى جبل يقال له قاسيون،

(1) وورد-مآب: وقيل أيضا مآب مرآة الزمان (2) الصحاح 4/ 1601 آ (3) القرآن الكريم 24/ 50 (4) تأريخ دمشق 2/ 99

ثم ذكر بعده أنّ إبراهيم قدم الشام وجاهد ملك النبط وجاء فصلّى فى المقام، قلت: لا خلاف بين علماء السير أنّ إبراهيم عليه السلام ولد بالعراق ما اختلف فى ذلك اثنان، ثم روى بعد هذا أنّ جبل برزة هو الذى رأى منه إبراهيم الكواكب، وقال هذا ربّى، وهذا أيضا تناقض، ثم قال: الشقّ الذى فى المسجد هو الذى اختبأ فيه إبراهيم عليه السلام من نمرود، ثم روى بعد هذا حديثا عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: وبالغوطة جبل يقال له قاسيون فيه قتل ابن آدم أخاه. قال ابن الجوزى رحمه الله: هذا الحديث لا يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قتل قابيل أخاه بالشام بل فى الهند، قلت: الصحيح ما ذكره الشيخ جمال الدين بن الجوزى متّفق عليه. وذكر أنّ الدم الذى على قاسيون م هابيل وأنّ الملائكة نزلت عزت آدم فى الكهف بقاسيون. وحكاه عن كعب الأحبار وغيره، قال ابن الجوزى: ما ورد عن كعب الأحبار فى هذا الباب فقد توقّف الناس فيه: وكان عمر بن الخطّاب رضى الله عنه يضربه بالدرّة ويقول: دعنا من يهوديّتك. ومع هذا فقد أجاز روايته بعضهم إذا لم يروى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم لأنّه أسلم على يد عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، فالرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذا الباب فيها وهن عظيم إذا لم يوافق السنن والأصول. فروى أبو القسم فى فضل دمشق والغوطة قال: (1) حدّثنا عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلق الله جمجمة جبرائيل على قدر الغوطة، قال ابن الجوزى أيضا: وهذا ممّا لا نوافقه عليه قضاء بالعقول لأنّه قد ثبت فى الصحيحين أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم (105) قال: خلق الله الملائكة من نور، والنور روحانى فكيف يكون جسما، وفى رواية: من نور العرش، ولمّا سأله النبىّ صلى الله عليه وسلم أن يظهر له فى

(1) تأريخ دمشق 2/ 116

صورته ظهر فسدّ أحد جناحيه ما بين المشرق والمغرب، وقد تقدّم ذكر ذلك. وأمّا الشام الرابعة: (1) الأردنّ ومدينة طبريّة على ساحل البحيرة ويقال إنّها من بناء سليمان بن داود عليه السلام وإنّ قبره على شاطئ البحيرة. وأمّا الشام الخامسة: (2) الرملة ومدينتها فلسطين وبيت المقدس وعسقلان وغزّة والبلاد الساحليّة، وهذا أشار الجوهرى (3) إلى ما ذكر ابن المنادى فإنّه قال: الشام خمسة أجناد: دمشق، وحمص، وقنّسرين، وأردنّ، (4) وفلسطين بكسر الفاء، يقال لكلّ مدينة منها جند. وقال ابن الجواليقى: (5) وشيزر اسم موضع لا أحسبه عربيّا صحيحا، وفى الصحاح: (6) شيزر بلدا، وقال امرئ القيس (من الطويل): نقطع أسباب اللبانة والهوى … عشيّة جاوزنا حماة وشيزرا وقد ذكر امرئ القيس (7) حماة فى شعره فدلّ على أنّها قديمة أيضا، وقال أبو عبيدة: ومن الناس من يبتدئ بالرملة فيجعلها الشام الأعلى وبعدها فلسطين ثم دمشق ثم حمص ثم حلب. وأمّا مدائن الروم (8) منها قيساريّة، وهى من المدن القديمة وقد مرّ بها امرؤ القيس لمّا وصل الروم ويقال إنّ قبره على جبل قريب منها يقال له عسيب وهو قوله (من الطويل): أجارتنا إنّ الخطوب تنوب … وإنى مقيم ما أقام عسيب (9)

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 16 ب، -4 (2) مأخوذ من مرآة الزمان 16 ب، -2 (3) الصحاح 1/ 457 ب (4) أردن: الأردن الصحاح، تحريف (5) المعرب 206 (6) الصحاح 2/ 698 آ||بلدا: بلد الصحاح، تحريف (7) ديوان امرؤ القيس 62، البيت 21 (8) مأخوذ من مرآة الزمان 17 آ،6 (9) ديوان امرؤ القيس 357،1

ومنها عموريّة، وكان ملكها يركب فى مائة ألف فارس وكان حولها ألف عمود ومائتى عمود على كلّ عمود راهب لا ينزل منه إلاّ بالموت، وكانت (106) مركز قيصر، ومنها كان يستعدّ للغارات على بلاد المسلمين الشام والجزيرة وغيرها، ففتحها المعتصم ابن الرشيد لما نذكر من ذلك. ومنها القسطنطينيّة، وهى المدينة العظمى بناها قسطنطين الملك وهو أوّل من أظهر دين النصرانيّة، قالوا: ولها سبعة أسوار وسمك سورها الكبير أحد وعشرون ذراعا وفيها مائة باب وسمك فصيلها الصغير عشرة أذرع وهى على خليج يصبّ فى البحر الرومى وهى متّصلة ببلاد رومية والأندلس لما نذكر فى باب البحار وذكرها إن شاء الله تعالى. قلت: (1) وقد جاء فى ذكرها حديث. قال مسلم بإسناده إلى أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفا من ولد إسحاق فإذا جاؤوها نزلوا فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلاّ الله والله أكبر فيسقط أحد جانبيها، ثم يقولون: لا إله إلاّ الله والله أكبر فيسقط الجانب الآخر، فيقولون الثالثة كذلك فينفرج لهم فيدخلونها فيغنمون ما فيها، فبينا هم يقتسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخ أنّ الدجّال قد خرج فيتركون كلّ شئ ويرجعون، وهو حديث طويل وفيه أمارات الساعة، وانفرد بإخراجه مسلم، وقال ثور بن يزيد: هى القسطنطينيّة. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله (2) حدّثنا يحيى بن إسحاق حدّثنا أيّوب حدّثنى أبو قبيل قال: كنّا عند عمرو بن العاص وسئل: أى المدينتين تفتح أوّلا

(1) المعجم المفهرس 2/ 477؛ صحيح مسلم 8/ 187، الفتن (2) المعجم المفهرس 5/ 44؛ مسند أحمد بن حنبل 2/ 176||أيوب: يحيى بن أيوب مسند ابن حنبل

القسطنطينيّة أو رومية؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل يعنى القسطنطينيّة. ومنها مدينة رومية الكبرى، ذكر ابن خرداذبه فى كتاب المسالك والممالك (1) أنّ طولها من الباب الغربى إلى الباب الشرقى ثمانية وعشرون ميلا، ولها سوران من حجارة بينهما مقدار ستّين ذراعا فضاء وسمك السور الأوّل اثنان وسبعون ذراعا وسمك الثانى اثنان وأربعون ذراعا وبين السورين نهر مغطا ببلاط من نحاس طول كلّ بلاطة سبعة وأربعون ذراعا. قال: والنهر الذى يدخل فيها من البحر تدخل فيه (107) المراكب بقلوعها فتقف على حوانيت التجار تبيع وتشترى، وفى داخلها كنيسة بنيت على اسم بطرس وبولس الحواريّين وهما فيها فى جرن من الرخام مدفونين. قال: وطول هذه الكنيسة ثلاثة آلاف ذراع وعرضها ثلاثمائة ذراع وقيل ألف ذراع وهى مبنيّة على قناطر من صفر ونحاس وكذا سائر أركانها وسقوفها وحيطانها وهى من عجائب الدنيا، قالوا: وفيها كنيسة مثل بيت المقدّس على عرضه وطوله مرصّعة باليواقيت والجواهر والزمرّد وطول مذبحها عشرون ذراعا من الزمرّد الأخضر وعرضه ستّة أذرع يحملها اثنا عشر تمثالا من الذهب الإبريز طول كلّ تمثال ذراعا ونصف ولكلّ تمثال عينان من الياقوت الأحمر تضئ الكنيسة منها ولها ثمانية وعشرون بابا وطول هذه الكنيسة ميل وأبوابها من الذهب الأحمر. قال: ولمدينة رومية ألف باب من النحاس الأصفر سوى العود والصنوبر والخشب المنقوش بالأبنوش وغيره الذى لا يدرى قيمته، قالوا: وبها ألف ومائتى

(1) المسالك 113 - 115

كنيسة وأربعون ألف حمّام وفيها طلسمات للحيّات وللقارب (1) لا تدخل إليها وطلسم يمنع الغريب من الدخول إليها، وملكها يقال له الباب وهو الحاكم على دين النصرانيّة كلّها برّها وبحرها، ومنزلته بمنزلة الخليفة فى المسلمين. وفى وسطها سوق يباع فيه الطير مقدار فرسخ وتقديرها ثلاث فراسخ وبها عجائب كبيرة أخر نذكرها فى باب العجائب المفرّقة فى أقطار الأرض إن شاء الله تعالى. وأمّا مدائن مصر (2) وما والاها فقد أخّرنا كثيرا من ذلك نذكره فى الجزء الثانى من هذا التأريخ ليكون ذلك يتلو بعضه بعضا عند ذكرنا لملوك مصر من قبل الطوفان وبعده واعتنينا بذلك كلّ العناية ولعلّ لم تخل بملك من ملوكها من أوّل ما خلق الله تعالى الدنيا وإلى آخر وقت. (108) وأمّا ما يليق (3) بأن نذكر هاهنا، (4) قال ابن حوقل فى كتاب الأقاليم: أما مصر فلها حدّ ينتهى يأخذ من بحر القلزم خلف العريش إلى رفح ثم يعود على ساحل البحر الرومى إلى الاسكندريّة إلى برقة فى البريّة، ثم إلى الواحات، ويمتدّ إلى بلاد النوبة، ثم يعطف على حدّ أسوان إلى أرض البحاة: وينتهى إلى القلزم إلى طور سيناء، ثم يعطف إلى تيه بنى إسرائيل مادّا فى الجفاء إلى بحر القلزم مكان مبتدأه، هذا ما حدّه ابن حوقل وسنذكر أيضا قول غيره فى ذلك فى مكانه.

(1) للقارب: للعقارب مرآة الزمان، تحريف (2) مأخوذ من مرآة الزمان 17 ب، -11 (3) مأخوذ من مرآة الزمان 17 ب، -11 (4) صورة الأرض 1/ 132؛ فأما مصر فلها حد يأخذ من بحر الروم من الإسكندرية ويزعم قوم من برقة فى البرية حتى ينتهى إلى ظهر الواحات ويمتد إلى بلد النوية ثم يعطف على حدود النوبة من حد أسوان على أرض البجة فى قبلى حتى ينتهى إلى بحر القلزم ثم يمتد على بحر القلزم ويجاوز القلزم إلى طور سينا ويعطف على تيه بنى إسرائيل مارا إلى بحر الروم فى الجفار خلف العريش ورفح ويرجع على الساحل مارا على بحر الروم إلى الإسكندرية ويتصل بالحد الذى قدمت ذكره من نواحى برقة

قال ابن حوقل: (1) ومن مدائنها العتيقة منف، وهى مدينة فرعون موسى، وقيل إنّها عين شمس، وكان قد بلغ فى بنائها وجعل لها سبعين بابا وبناء حيطانها بالصفر والنحاس وزخرفها بالذهب والفضّة وأجرى إليها النيل وقسمه أنهارا تجرى تحت قصره مع سائر قصورها حتى الماء يجرى تحت سريره، وافتخر وقال: أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى؟ وسنذكر من أمرها جملا كثيرة لما أوعدنا. ومن مدنها الإسكندريّة، واختلفوا فى بانيها على أقوال: أحدها أنّه شدّاد ابن عاد، قاله وهب. والثانى أنّه الإسكندر الأوّل ذو القرنين وهو المقدونى، قال الهيثم بن عدّى: مقدونة هى أرض مصر وإنّما سمّيت مصر بمصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام. وسنذكر ذلك مفصّلا، قال ابن حوقل: (2) وكان مصر لمّا انفصل عن بابل نزلها فسمّيت به ونسبت إليه، وقسمها بين أولاده الأربعة وهم: قبط، واشموم، وأترب، وحنا. قلت: هذا غلط من راويه، وسيأتى ذكر أولاد مصر الأربع وهؤلاه المذكورون بنى بنيه كما نبيّن ذلك فى موضعه الائق (3) به إن شاء الله تعالى. قال: وكان قبط الأكبر وسمّى كلّ مكان باسم ولد، قال: وقال الهيثم: (109) بن عدّى: مرّ بها ذو القرنين فأعجبه مكانها وصحّة هوائها فأمر بعمارتها فلما شرع وجد أثر البنيان القديم ومرمرا ورخاما وعمودا عليه مكتوب بالقلم المسند من أقلام حمير فحلّه فإذا هو: أنا الملك شدّاد بن عاد، شددت بساعدى

(1) قارن صورة الأرض 160/ 19 (2) لا يوجد الخبر فى صورة الأرض، واسم ابن حوقل ناقص فى مرآة الزمان؛ لكن قارن مروج الذهب 2/ 85، مادة 806 - 808؛ أخبار الزمان 153 (3) الائق: اللائق

البلاد، وقطعت الأطواد، وبنيت «{إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ}»، التى لم يخلق مثلها فى البلاد، وأردت أن أبنى هنا مثل إرم، وأنقل إليها كلّ ذى قدم، من جميع الأمم لا خوف ولا هرم، ولا غمّ ولا سقم، فأصابنى الدهر بسهمه وسقانى سمّه، فكان مقتلى، وأخرجنى من دارى ووطنى، فمن رآنى فلا يغترّ بالدنيا بعدى. قال: فلمّا قرأ الإسكندر ما على اللوح قوى عزمه على بنائها فجمع الحكماء والمهندسين وأرباب الرصد وهيّأ الأخشاب والحجارة، وقال بعد ما جعل عند الأساس أجراسا للمنجّمين: إذا أخذتم الطالع فحرّ كوا هذه الأجراس لنضع الأساس فى تلك الساعة وذلك برأى منّى، واتّفق أنّ الإسكندر نام فى تلك الساعة والمنجّمون يرصدون فأتى غراب فقعد على إحدى الأجراس وهو الأكبر وحرّكه فتحرّكت الأجراس عن يد واحدة فوضع الصنّاع الأساس وصاحوا صيحة انتبه لها الإسكندر فلمّا رأى الغراب فهم القضيّة فقال: فهمنا المقصود وأردنا أمرا وأراد الله غيره، وأمر بإتمام العمل والبناء. قال، فلمّا تمّ السور خرجت فى الليل من البحر دوابّ على صورة الشياطين فأخربوه فأعاد البناء مرارا وهو يهدم فجمع الحكماء والمهندسين حتّى تحقّقوا صورهم وإذا بهم شياطين فعملوا طلسمات من نحاس على صورهم ثم جعلوا (1) على أعمدة من نحاس فلمّا خرجت الشياطين ورأوا تلك الصور ولّوا هاربين ولم يعودوا وتمّ البناء، قلت: هذا ما ذكره ابن حوقل (110) رحمه الله، (2) والمستحسن فى هذا القول ما نذكره فى مكانه إن شاء الله تعالى. قال ابن حوقل أيضا: (3) ثم بنى الإسكندر عليها سبعة أسوار بين كلّ سورين خندق فتمّ بناؤها فى مائة سنة.

(1) جعلوا: جعلوها مرآة الزمان (2) ابن حوقل: غلط ابن الدوادارى، والصحيح: سبط ابن الجوزى (3) ابن حوقل: غلط ابن الدوادارى، والصحيح: سبط ابن الجوزى

والثالث من الأقوال فى بنائها: إنّ الذى بناها هى الملكة دلوكة لتجعلها مرقبا من ناحية الروم لأنّ الروم إنّما ملكت مصر منها، قاله النوبختى، قلت: وسنذكر ما يستحسن أيضا فى هذا الفصل. والرابع: إن الذى بنا الأهرام بناها وإنّما أضيفت إلى الإسكندر لأنّه سكنها، قال النوبختى: مكث أهلها سبعين سنة لا يمشون بالنهار إلاّ وعلى وجوههم خرق سود لشدّة بياضها ولقوّة شعاع حيطانها وصقالها. وأمّا منارتها: ذكر صاحب كتاب المسالك والممالك (1) أنّ المنارة على سرطان من زجاج فى البحر من صناعة الإسكندر، والصحيح أنّها على جبل فى البحر، والصحيح أنّها بنيت قبل وصول البحر إليها وكان بين ذلك الجبل التى بنيت عليه وبين البحر مسافة وإنّما البحر تقدّم إليها على طول السنين والآن فقد أكل الماء معظّمه، (2) وقد شاهدته بالمعاينة. وقيل إنّ الإسكندر لمّا مات كسروا آنيته التى كانت لطعامه وشرابه وجمعوا جميع، جواهره وذخائره، وجعلوا الجميع فى سرطان من زجاج ودفنوه فى أساس المنارة، قال ابن الجوزى: (3) قال جدّى رحمه الله فى كتابه المنتظم أنّه كان على رأس المنارة مرآة، إذا نظر الناظر فيها قبل طلوع الشمس رأى من يكون بالقسطنطينيّة وبينهما عرض البحر، ثم قال: إنّما نقله جدّى من كتاب المسالك والممالك وليس كما ذكر صاحب المسالك فإن مسافة ما بين القسطنطينيّة والإسكندريّة نيفا وأربعين يوما إذا طابت الريح على ما حكاه المسافرين، وإنّما بين جزيرة قبرص والإسكندريّة إذا طاب الهواء مسيرة ثلاثة أيّام فكأنّ الناظر

(1) المسالك 160،19 - 21 (2) وقد-بالمعاينة: وقد شاهدته فى سنة أربعين وستمائة وصعدت إلى رأسها والمنارة على خطر مرآة الزمان. (3) المسالك 115،18

قبل طلوع الشمس ينظر فيها إلى المراكب (111) وقد أقلعت من قبرص فيخبر أهل البلد فيستعدّون للحرب. فتحيّل ملوك الفرنح حتى قلعوا المرآة من المنارة، واختلفوا فى أىّ زمان قلعت المرآة المذكورة على قولين، أحدهما فى زمان الوليد بن عبد الملك بن مروان، قال: وكان الإسكندر قد صنع هذه المرآة بحكمته حفظا للبلد من العدوّ أن يدهمها بغتة، فلمّا كان فى زمن الإسلام وكان فى عزم ملوك الروم قصد مصر فلم يتأتّى لهم ذلك وكان لهم ملك داهية فأظهر الغضب على خادم له وكان خصيصا به وكان الخادم باقعة ذا مكر وخديعة، فأعطاه أموالا عظيمة من جواهر ويواقيت وأسرّ إليه أن يحتال فى تلك المرآة وقلعها وقرّر معه ما يضع، قال: فخرج ذلك الخادم إلى البلاد ودفن تلك الأموال فى عدّة أماكن متفرّقة وتوصّل بعد ذلك إلى الوليد ابن عبد الملك فأسلم على يده وقال: أنا خادم الملك الفلانى وقد رغبت فى الإسلام وقد وقد وقع لى كتاب فيه أسماء المطالب التى بالشام ومصر فساعدونى بالمال والرجال لترى ما أصنع. وكان الوليد شرها فأمدّه بما طلب فصار يحفر تلك الحفائر التى أودع فيها تلك الأموال والجواهر ويحملها إلى الوليد فسرّ بذلك واستولى عليه وملك قلبه وأخذ منه من الأموال أضعاف ما كان يحمل إليه، وكان يبعث بها إلى مولاه ملك الروم سرّا أوّلا فأوّلا فقال الخادم للوليد إنّ تحت المنار التى بالإسكندريّة ذخائر الإسكندريّة وذخائر شدّاد بن عاد وملوك مصر لا يعلمها إلاّ الله تعالى، فابعث معى رجالا لنهدم المنار! وكان طولها ألف ذراع والمرآة على رأسها، فبعث معه الرجال فهدم منها جانبا فثار المسلمون وأرادوا قتل ذلك الخادم وقالوا: تهدم هذه المنارة وهى معقل الإسلام بقول علج، فأمهل الخادم إلى الليل وقد أعدّ مركبا لطيفا بالقرب منه وصعد إلى المنار نصف الليل وقلع المرآة ورمى بها (112) فى

البحر وركب من وقته ذلك المركب المعتدّ له وتوجّه إلى بلاده وتمّت الحيلة، ذكر ذلك المسعودى. (1) والقول الثانى إنّ الواقعة كانت فى زمن الحاكم العبيدى وإنّ بعض ملوك الروم تزيّا راهبا وأظهر الإسلام وأقام يتعبّد فى المنار حتى وجد فرصة فقلعها فى الليل ورمى بها فى البحر وهرب فى مركب معتدّ له، ذكر ذلك أبو سعيد ابن يونس فى تأريخ مصر. قال ابن الجوزى: (2) وذكر جدّى رحمه الله فى كتابه المنتظم قال: كان بالإسكندريّة ستمائة ألف يهودىّ ونصرانىّ خولا لأهلها، قال: وهذا يحتمل أنّه كان فى قديم الزمان. أمّا اليوم فلا يبلغ أهلها كلّهم هذا العدد المذكور. وحكى ابن عساكر رحمه الله فى تأريخه (3) فى حرف الهمزة فى من اسمه أسامة بن زيد بن عدى أبو عيسى الكاتب التنّوخى قال: كان بالإسكندريّة صنم يقال له شراحيل على خشفة من خشف البحر وهى فى الجزيرة وكان مستقبلا بأصبعه القسطنطينيّة لا يدرى أكان ممّا عمله سليمان أو الإسكندر فكانت الحيتان تجتمع عنده وتدور حوله فيصاد منها ما شاء الله، فكتب أسامة إلى الوليد بن عبد الملك يخبره بخبر الصنم ويقول: الفلوس عندنا قليلة فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع الصنم ويصيره فلوسا ففيه الكفاية، فأرسل الوليد رجالا أمناء فأنزلوا الصنم من الخشفة فوجدوا عينيه ياقوتتين حمراوتين لا قيمة لهما فذهبت الحيتان بعد ذلك فلم تعد إلى ذلك المكان. وأمّا بلاد المغرب فسنذكر منها جملا تأتى فى أماكنها اللائقة بها، فنذكر

(1) مروج الذهب 2/ 105 مادة 738 (2) المسالك 160،20 - 21 (3) تهذيب ابن عساكر 1/ 402

(113) فصل فى ذكر الجبال والهضبات والرمال

الأندلس وأخبارها ومدنها عند ذكرنا لخلفاء بنى أميّة بها، وكذلك القيروان عند ذكرنا لملوك الأغالبة مع ما نضيف إلى ذلك من الأخبار ونتبعه من الآثار، وذلك كلّه بحول الله وقوّته وبركة إلهامه وتوفيق العبد إلى ذلك بإنعامه. (113) فصل فى ذكر الجبال والهضبات والرمال (1) ذكر أبو الحسين ابن المنادى رحمه الله وقدامة بن جعفر الكاتب وأبو معشر رحمهما الله: أنّ عدد الجبال المشهورة مائة وثمانية وأربعون جبلا، قال قدامة فى كتاب الخراج: فى الإقليم الأوّل تسعة عشر جبلا، وفى الإقليم الثانى سبعة وعشرون جبلا، وفى الثالث أحد وثلاثون جبلا، وفى الرابع أربعة وعشرون جبلا، وفى الخامس تسعة وعشرون جبلا، وفى السادس ستّة وثلاثون جبلا، وفى السابع اثنان وثلاثون جبلا: قلت: ولم يذكر قدامة أسامى الجبال المذكورة، وقد ذكر العبد المشاهير منها على الحروف على الاصطلاح المعروف، فأقول: أحد: وهو الذى كانت الوقعة عنده وهو من جبال المدينة، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (2) بإسناده عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحد جبل يحبّنا ونحبّه، انفرد بإخراجه البخارى رضى الله عنه، وقد رواه أبو هريرة أيضا، وقال الزهرى: وإنّما أراد أهل المدينة وهم الأنصار أى أهل أحد، وهذا عند علماء البيان والبديع جائز.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 19 آ، -8 (2) قارن المعجم المفهرس 1/ 318؛ مسند أحمد بن حنبل 3/ 140

إضم: جبل بالحجاز ذكره الجوهرى بكسر الهمزة (1) وقد ذكرته الشعراء فقال بعضهم فيه (من بسيط): ينبى بنا الطيب أحيانا وآونة … يضيئنا البرق مجتازا على إضم تعار: (2) بكسر التاء، هو من جبال الحجاز، مشهور، والعرب تقول: لا أفعل كذا ما قام تعار. ثبير: (3) وهو جبل منى ويقال له جبل الكيش، قال ابن عبّاس رضى الله عنه: فدى إسماعيل عنده وفيه النحر، وكانت العرب تعظّمه فى الجاهليّة، قال الجوهرى: (4) كانوا إذا انقضى الموسم وقفوا عنده وقالوا: أشرق ثبير كما نغير. الثنين: (5) من جبال أنطاكية ويقال له الأقرع لأنّه لا ينبت (114) إلاّ فى أماكن وعليه حيّات كبار. جبل الثلج: من جبال الشام فى أرض بانياس غربى دمشق وهو جبل شامخ يرى من مسيرة ثلاثة أيّام فى السهل ولم يبرح الثلج عليه لا يذهب صيفا ولا شتاء وقد كان مسكونا وعليه آثار العمارة، يقال: إنّه كان فى سكانه رجل كبير قد قرأ الكتب واطلع على علوم كثيرة فقال لأهله: متى أصبح هذا المكان وعليه نداوة فارحلوا عنه ومات الرجل فأصبحوا ذات يوم وعلى ظهور دوابّهم الندا فارتحلوا فنزل عليه الثلج فى اليوم التالى فطمّه واستمرّ، وقد ذكره الشعراء قال جرير (من البسيط): (6) هل دعوة من جبال الثلج سمعه … أهل الإياد وحيا بالغباريس

(1) الصحاح 5/ 1862 آ (2) الصحاح 2/ 764 آ؛ معجم ما استعجم 1/ 313؛ معجم البلدان 1/ 854 (3) الصحاح 2/ 604 آ (4) كما: كيما الصحاح، تحريف (5) معجم البلدان 1/ 336 (6) ديوان جرير 322||سمعة: سمعة ديوان جرير

جبل ثور: (1) من جبال مكّة، وفيه الغار المذكور فى القرآن العظيم ويقال له ثور المحل، (2) وقال بعضهم: اسم الجبل المحل، نسب إلى ثور بن عبد مناه لأنّه نزله. جبل نهال: (3) من جبال الحجاز وهو مشتقّ من النهل وهو الانبساط على وجه الأرض لأنّه ممتدّا. جبل جمدان: (4) بجيم، بين قديد والجحفة. الجودىّ: وهو الذى أرست عليه السفينة، وتحته ضيعة يقال لها ثمانين نزل بها نوح عليه السلام، وذكره الجوهرى (5) فقال: والجودى جبل بأرض الجزيرة استوت عليه السفينة ولمّا نزل نوح بها كان فى ثمانين نفسا فسمّيت بذلك، وهو أوّل ضيعة بنيت على وجه <الأرض> (6) بعد الطوفان، وهى من أعمال الموصل، وبين هذا الجبل ودجلة ثمانى فراسخ، وآثار السفينة باقية عليه إلى الآن على ما قيل. جبل حبشىّ: قال الجوهرى: (7) وحبشىّ بالضمّ جبل بمكّة أسفل منها، يقال أحابيش قريش لأنّهم اجتمعوا عنده وتحالفوا فى حلف الفصول. الحجون: وهو الجبل على مسجد البيعة عند العقبة، قال الجوهرى: (8) قال الشاعر (من الطويل): كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا … أنيس ولم يسمر بمكّة سامر وهو مقبرة قريش.

(1) الصحاح 2/ 606 ب (2) ثور المحل: ثور أطحل الصحاح (3) نهال: ثهلان مرآة الزمان، تحريف؛ الصحاح 4/ 1650 آ؛ معجم البلدان 1/ 941 (4) معجم ما استعجم 2/ 391؛ معجم البلدان 2/ 115||الجحنة: عسفان معجم ما استعجم (5) الصحاح 1/ 458 ب (6) الأرض: مرآة الزمان (7) الصحاح 3/ 1000 آ (8) الصحاح 5/ 2097 ب

حراء: بالمدّ، قال الجوهرى: (1) كان النبىّ صلى الله عليه وسلم يتعبّد فى غار حراء ويخلو فيه، وقال مسلم: وهو الجبل الذى تحرّك لمّا صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم (115) وأصحابه عليه، وقال البخارى رحمه الله: إنّما كان ذلك جبل أحد. حزازة: (2) من جبال مكّة، كانت عنده وقعة مشهورة بين نزار واليمن. حضن: وهو بأعلى نجد، قال الجوهرى رحمه الله: (3) وفى المثل يقال: أنجد من رأى حضنا، معناه من عاين هذا الجبل أعنى حضنا فقد دخل فى ناحية نجد، ومن عظم هذا الجبل ضرب به المثل، فقالوا أيضا: ركن حضن لا يحتضن. جبل دنباوند: (4) وهو بالمشرق ببلاد طبرستان يرى من مسيرة مائة فرسخ لارتفاعه وذهابه فى الجوّ صعدا، ويرتفع من أعاليه دخان عال. الثلوج يترادف عليه، ويخرج من تحته نهر عظيم أصفر كبريتى ذهبى اللون قال: ومسافة صعوده ثلاثة أيّام بلياليها ورأسه مدوّر يكون مقدار ألف ذراع يرى من أسفله شبه القبّة العظيمة المخروطة وفى أعلاه رمل أحمر تغوص فيه الإقدام ولا يصل إليه شئ من الطيور والوحوش لشدّة الرياح به والبرد فى أعاليه، وفى أعاليه ثلاثون نقبا يخرج منها الدخان العظيم يسمع لخروجه دوىّ شديد مثل الرعد وذلك صوت تلهّب النار فى باطنه، وقال: وفى رأسه الكبريت الأحمر الذى يصلح لعمل الكيمياء على زعم من زعم، وبين هذا الجبل وبين طبرستان عشرون فرسخا، ويقال إنّ الضحاك مسجون به وهو الضحاك الذى تسمّيه العرب السفاك حسبما يأتى من ذكره إن شاء الله تعالى.

(1) الصحاح 6/ 2312 آ؛ معجم البلدان 2/ 228 (2) لعله خزازى؛ قارن الصحاح 2/ 874 آ (3) الصحاح 5/ 2102 آ (4) معجم البلدان 2/ 606؛ معجم ما استعجم 2/ 558؛ عجائب المخلوقات 1/ 158

دمان وورمان: (1) هذان جبلان أسودان مشهوران بالحجاز، وهما شامخان شديدان السواد وفيهما أنواع الثمر والسمّاق والرمّان والقرظ وهما لعرب مزينة (116) وهم قوم صدق. رأس الجمجمة: وهو جبل عظيم أوّله باليمن من ناحية الشحر والأحقاف ويمتدّ فى البحر إلى الهند ومنه تطلق المراكب من بحر فارس ويمتدّ إلى المشرق ولا يدرى أين غايته فى البحر. جبل جيم: من جبال الحجاز أيضا مذكور معروف. وجرجان: قال الجوهرى رحمه الله: (2) هو قريب من عكاظ ومنه يوم حرب كان لبنى عامر على بنى تميم وهو من أيّام وقائع العرب المشهورة لما نذكره. رضوى: من جبال تهامة وبينه وبين المدينة سبع مراحل وهو من البقيع على يوم، قال الجوهرى: (3) وهو من جبال المدينة والنسبة إليه رضوىّ، وهذا الجبل تزعم الكيسانيّة أنّ محمد بن الحنفيّة فيه وأنّه دخل فى شعب من شعابه ومعه أصحابه وهم فيه أحياء يرزقون وأنّه سيخرج وهو الإمام المنتظر. وقال قدامة الكاتب: ويقارب رضوى فى ارتفاعه جبل يقال له غرور يضاهى رضوى فى العلوّ والارتفاع وكثرة المياه والشجر والمراعى ويسكن فى الجبلين نهد وجهينة فى الوبر دون المدر. ساقى دما: سم جبل، قاله الجوهرى، وهو من جبال تهامة، وقيل من اليمن، وقيل من الشام، سمّى بذلك لأنّه ليس من يوم إلاّ ويسفك عليه دما.

(1) قارن معجم البلدان 4/ 921 (2) الصحاح 6/ 2358 آ (3) الصحاح 6/ 2341 آ||ساقى: سياتى الصحاح، تحريف

جبل الستار: بالسين المهملة المكسورة فى الحجاز، وقد ذكره الجوهرى (1) فى شعر لامرئ القيس وقال إنّهما جبلان، وقيل إنّهم ثلاثة أجبل: قطنا (2) والستار ويذبل، قال: هؤلاء الثلاثة بحذاء بعضهم بعضا، فلذلك قيل واحد واثنان وثلاثة. سلع: (3) جبل مشهور بالمدينة وقد أكثرت الشعراء ذكره فى أشعارهم. شابة: بالشين المعجمة، جبل بنجد ذكره الجوهرى. (4) شعبان جبل باليمن، ويقال له (117) شعب، وقال الجوهرى: (5) ويقال له ذو شعبين، نزله حسّان بن عمرو الحميرى وولده نسبوا إليه، فمن كان منهم بالكوفة يقال له شعبيّون، ومن هؤلاء عامر بن شراحيل الشعبى رحمه الله وعداده فى همذان لما نذكره، ومن كان منهم بالشام يقال لهم الشعبانيّون، ومن كان منهم باليمن يقال لهم الأشعوب وهم جميعا بنو حسّان بن عمرو، هذا لفظ الجوهرى، والشين مفتوحة فى الجميع إلاّ أنّه قال ذو شعب وذو شعبين، ولم يذكر شعبان، وكذا ذكر محمد <بن> (6) سعد وابن الكلبى رحمهم الله وقدامة وغيرهم، قال أبو سعد: حدّثنا عبد الله بن محمّد بن مرّة الشعبانى، حدثنا أشياخ من شعبان منهم محمّد ابن أبى أميّة أنّ مطرا أصاب اليمن فاسترقّ موضعا فأبدى عن أزج عليه باب من الحجارة فكسر الغلق ودخل فإذا بهوّ عظيم فيه سرير من ذهب عليه رجل مشجا، قال: فشبرناه فإذا طوله اثنى عشر شبرا وعليه جباب من وشى منسوجة بالذهب وإلى جنبه محجن من ذهب وعلى رأسه تاج من ذهب فيه ياقوته

(1) الصحاح 2/ 676 ب؛ قارن ديوان امرؤ القيس 26 (2) قطنا: قارن ديوان امرؤ القيس 26، حاشية 76 (3) الصحاح 3/ 1231 آ (4) الصحاح 1/ 159 آ (5) الصحاح 1/ 156 آ (6) بن: مرآة الزمان

حمراء وهو أبيض الرأس واللحية له ضفيران وإلى جانبه لوح من ذهب مكتوب فيه بالحميريّة: باسمك اللهم ربّ حمير: أنا حسّان بن عمرو، القيل إذ لا قيل إلاّ الله، عشت بأمل ومتّ بأجل، فأتيت جبل ذى شعبين ليجرنى من الموت فكان حفرتى، قالوا: والى جانبه سيف عليه مكتوب بالحميريّة: أنا قبار، بى يدرك الثأر، وقالوا، ورأوا فى اللوح مكتوب أيضا: هلك فى هذا المكان اثنا عشر ألف قيل فكنت آخرهم. جبل شامة (1) قريب من مكّة وكذا ظفيل وقد أشار إليه بلال وقال: هل تبدون لى شامة وظفيل. شمام: (118) (2) من جبال الحجاز، مبنى على الكسر مثل قطام وحدام، ذكره الجوهرى شعران: (3) بفتح الشين، ذكره الجوهرى أيضا وقال: سمّى بذلك لكثرة شجره وهو من جبال الموصل. عاقل: (4) من جبال الحجاز، مذكور أيضا. ضجنان: قال الجوهرى: (5) هو جبل بناحية مكّة وهو الذى كان يرعى عنده عمر بن الخطّاب رضى الله عنه غير الخطّاب، (6) وقد ذكره تأبّط شرّا فى شعره لما ظهر له به الغول، قتله لما يذكر من حبره عند ذكرنا له إن شاء الله.

(1) معجم البلدان 3/ 244؛ معجم ما استعجم 3/ 776؛ السيرة النبوية 1/ 589؛ تاج العروس 8/ 363 (2) الصحاح 5/ 1961 ب (3) الصحاح 2/ 700 آ (4) الصحاح 5/ 1771 آ (5) الصحاح 6/ 2154 آ؛ معجم ما استعجم 3/ 856 (6) غلط ابن الدودارى، ذكر تأبّط شرّا جبل صحصحان، قارن ديوانه 173، رقم 68،2

الظهران: بفتح الظاء: (1) حبل بين مكّة والمدينة وهو إلى مكّة-شرّفها الله تعالى-أقرب من المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وقد نزله. سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية وعام الفتح لما نذكر من ذلك. جبل العرج: (2) بإسكان الراء: هو من جبال الحجاز بين مكّة والمدينة، قال الجوهرى: هو منزل وإليه ينسب العرجى الشاعر واسمه عبد الله بن عمرو بن عثمان ابن عفّان رضى الله عنه، وسيأتى ذكره فى باب الشعراء المولّدين إن شاء الله تعالى، وروى عبد الرحمن بن أخى الأصمعى عن عمّه بإسناده إلى عبد الله بن عمر العمرى رضى الله عنه وكان من أكابر أعيان العباد بالحجاز قال: حججت فبينا أنا فى بعض الطريق إذ سمعت امرأة من هودج تكلّمت بكلام أرقتت فيه، قال: فدنوت منها وألصقت راحلتى براحلتها وقلت لها: يا أمة الله أما تستحين أما تخافين الله بهذا الكلام فى مثل هذه الطريق؟ قال: فهتكت سجان الهودج وبرزت بوجه بهر الشمس حسنا وقالت: تأمّل يا عمّ فإنّنى من اللواتى (3) قال فيهنّ العرجى (من الطويل): أماطت كساء الخزّ عن حرّ وجهها … وأرخت على الخدّين بردا مهلهلا (4) من اللواتى (5) … لم يحججن يبغين حسنة ولكن ليقتلن السليم البرئ المغفّلا (119) قال: فقلت: لا عذّب الله هذا الوجه بالنار، قال عبد الرحمن: فبلغت هذه الحكاية لابن المسيّب رضى الله عنه فقال: إنّه لمن ظرف عباد الحجاز أما إنه لو كان بعض بعضاء العراق لقال لها اغربى فعل الله بك وترك.

(1) معجم البلدان 3/ 581 (2) الصحاح 1/ 329 آ (3) قارن كتاب الأغانى 1/ 404 (4) ديوان العرجى 74، رقم 32||أرخت: أدنت الديوان (5) من اللواتى: من اللاء الديوان ||حسنة: حسنة الديوان

قلت: وسقنا هذه الحكاية هاهنا لما فيها من شعر العرجى عند ذكرنا له ولما فيها من الظرف والملاحة. قال قدامة بن جعفر الكاتب فى كتاب الخراج: (1) وجبل العرج هذا يتّصل بالشام فبعضه يتّصل بلبنان وبعضه بجبل الثلج من أرض دمشق ويمتدّ إلى الروم، وقال النضر بن شميل: يأتى إلى الشام من ناحية الأبلّة ثم إلى الطور ثم إلى بيت المقدّس ثم يأبى طبرية ويمرّ بالبقاع وبعلبك ويمتدّ غربى حمص وحلب حتى يتّصل بجبل اللكام، ثم يمتدّ إلى ملطية إلى بحر الخزر، وفيه عدّة كثيرة من القلاع والحصون والمدن الكبار وتسكنه عدّة أمم من الناس. عسيب: من جهال الحجاز أيضا، قال الجوهرى: هو جبل هذيل وأنشد لامرئ القيس (من الطويل): (2) أجارتنا إن الخطوب تنوب … وإنى مقيم ما أقام عسيب وسيأتى تتمّة هذا البيت وسببه عند ذكرنا لامرئ القيس إن شاء الله تعالى، قال الجوهرى: عسيب بفتح العين وسكون الباء، قال ابن الجوزى رحمه الله: وقد رأيت ببلد الروم عند قيساريّة جبلا يقال له عسيب وعليه قبر يقال قبر امرئ القيس وهو أقرب إلى الصحّة لأنّ امرئ القيس مات ببلاد الروم وهو عائدا من عند ملك الروم بالنجدة لما نذكر من خبره، فأمّا عشيب بضمّ العين وشين معجمة: فجبل بالحجاز لقريش. عير: (3) جبل بالحجاز أيضا.

(1) ناقص فى الصحاح؛ قارن معجم البلدان 3/ 678 (2) ديوان امرؤ القيس 357، رقم 97 (3) الصحاح 2/ 763 آ؛ معجم ما استعجم 3/ 984

عينين: هو من جبال المدينة بات به (120) رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعة أحد. غرّب: بغين معجمة، بين المدينة والشام فى بلاد كلب، قال الجوهرى: (1) وعنده عين تسمى عين غرّبة. غزوان: (2) جبل بالطائف معروف وعليه ديار بنى سعد وليس بالحجاز مكان يبرد فيه الماء ويجمد سواه. لعلع: (3) من جبال الحجاز أيضا، ذكره الجوهرى وقال: كانت عنده وقعة مشهورة، وأنشد (من الطويل): (4) لقد ذاق منّا عامر يوم لعلع … حساما إذا ما هزّ بالكفّ صمما وأكثروا الشعراء أيضا من ذكره فى أشعارهم. المحصّب: وهو من جبال مكّة ويشرف على ذى طوى، وقال الجوهرى: (5) هو موضع بالحجاز وذكروه أيضا الشعراء المولّدين فى أشعارهم: كعمر بن أبى ربيعة المخزومى وأنظاره، وكذلك: الجمار: بمنى، ويقال له قزح لأنّه أوّل ما رؤى عليه قوس قزح، قال الجوهرى: (6) وقوس قزح التى فى السماء غير مصروفة، قال: وقزح جبل المزدلفة. مخاشن: (7) جبل بالحجاز. المقطّم: جبل مصر، ويمتدّ إلى النوبة وهو جبل مبارك وتستحفّه بالديار المصريّة مقابر عدّة من الشهداء وجماعة كبيرة من الصحابة والتابعين دخلوا مصر

(1) الصحاح 1/ 191 ب (2) معجم البلدان 3/ 798؛ عجائب المخلوقات 1/ 169 (3) الصحاح 3/ 1279 ب (4) ديوان حميد بن ثور 31 (5) الصحاح 1/ 112 آ (6) الصحاح 1/ 306 ب (7) معجم البلدان 4/ 434

وتوفّوا بها ودفنوا فى سفحه، قال: ويمتدّ من النوبة إلى نعمان. ونعمان: (1) جبل، وفيه واد فى طريق الطائف يخرج إلى عرفات، ذكره الجوهرى، قال: ويقال له نعمان الأراك، وقال ابن قتيبة: ونعمان جبل بالقرب من عرفة ويتّصل بوادى القرى ونواحيه، قال: وفى الحديث: خلق الله آدم من دحا ومسح ظهره بنعمان السحاب وشبه بالسحاب لأنّه يشرف على جبلى نعمان ويعلوهما. يذبل: جبل بين اليمامة والبصرة، وكذا ذكره الجوهرى، (2) وقد ذكره الشعراء أيضا ومنهم: أبو العلاء المعرّى. يلملم: وهو ميقات أهل اليمن فى الإحرام. (121) أبو قبيس: بمكّة، يقال إنّه أوّل جبل خلق على وجه الأرض وقد تقدّم، وروى عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قال: هو أوّل جبل وضع فى الأرض وكان يقال له فى الجاهليّة: الأمين، لأنّ ركن البيت كان فيه مستودعا أيّام الطوفان، وهو إحدى الأخشبين المطلين على مكة: هذا مشرف على الصفا. والآخر يقال له: الأحمر والأعرق، (3) وفى الحديث: لا نزول مكّة حتى تزول أخشباها، والأخشب: الجبل العظيم. قلت: وروى عبد الملك بن هشام (4) فى كتاب التيجان المختصّ بأخبار حمير ملوك اليمن: أنّه سمّى بأبى قبيس لوافعة كانت فى عهد جرهم أوّل زمان، وكان ابن سيّدهم يدعى الحرث وكانت له ابنة عم تسمى ليلى وكانا متحابيان (5) بألفة الصبى والمربا، وكان أبو قبيس يهوى ليلى أيضا وليس من أكفائها وكان يقنع منها فى

(1) الصحاح 5/ 2044 ب (2) الصحاح 4/ 1701 ب (3) قارن النهاية لابن الأثير 1/ 294،12؛ لسان العرب 1/ 342، -9 (4) قارن كتاب التيجان 188، -3 - 197 (5) متحابيان: متحابين

الحين بسرقة النظرة وهى لا تعلم، وكانت ابنة خال للحرث تسمّى رضوى، فبينا هى فى طواف البيت إذ أدركها عطش كادت تتلف منه فلم تنظر بالطواف من تدلّ عليه غير الحارث فكلمته بدالية القرابة وسألته شربة من الماء قأتاها بذلك وذلك بمرأى من ليلى عند بعد ومرأى من أبى قبيس فحمله الهوى إلى مكالمة ليلى وقال: أتنظرين يا ليلى لما فعل الحارث؟ قالت: وما فعل؟ قال: إنّه لما انطار ضوى الماء أنشدها شعرا يتضمّن تعلّقه بحبّها وأجابته أنّ بها أضعاف ما به، قال: ولم يكن القوم يعرفون قبل ذلك كذبا ولا اختلافا، قال: فرجعت إلى أحياء أبيها وقال لترحلنّ بنا أو أعدم نفسى الحياة، قال: فأمر بالرحيل من وقته فبلغ ذلك الحارث فأتا ابنة عمّه فحلفت لا عادت تفاوضه بكلام واستمرّ رحيل القوم فحقّق الحارث الحال فوجده من أبى قبيس فاخترط سيفه وقصده فهرب منه فى أبى قبيس وهو هذا الجبل ولم يطلع (122) له بعدها على أثر ولا علم له خبر، فنسب الجبل إليه وسمّى باسمه. قلت: ولنذكر هاهنا تتمّة الخبر وما كان من أمر الحارث وابنة عمّه ليلى لإكمال الفائدة ولما فيه من رقّة الشعر، قال عبد الملك بن هشام: وكان ممّا ألفاه أبو قبيس على لسان رضوى والحارث من الشعر أنّه قال لليلى لمّا سألته عن قولهما فقال: إن الحرث لمّا ناولها الإناء الماء أنشد (من الطويل): (1) (2) إذا نحن خفنا الكاشحين فلم نطق … كلاما ما تكلّمنا بأعيننا شزرا (3) فنقضى ولم يفطن (4) … لنا كلّ حاجة ولم نظهر الشكوى ولم نهتك السترا ولو قذفت أحشاؤنا ما تضمّنت … من الشوق (5) والبلوى إذن قذفت جمرا

(1) كتاب الزهرة 1/ 92،16 دون نسبة؛ (2): الكامل 426، -1، منسوب إلى الرقاشى الفضل بن عبد الصمد (3) شزرا: سرا الزهرة (4) يفطن: يعلم الزهرة (5) الشوق: الوجد الزهرة

قال فأجابته رضوى تقول (من الكامل): (1) ومراقبين (2) … يكاتمان هواهما جعلا الصدور لما تجنّ قبورا يتلاحظان تلاحظا فكأنّما … يتناسخان من الجفون سطورا قال: ثم إنّ الحرث آلا على نفسه لا يذوق طعاما ولا شرابا حتّى تعود ليلى إلى الأحياء، قال: وآلت ليلى على نفسها أنّها لا تعود حتى تزول الأخشبين، قال، وعاد الحرث هائما لا يذوق شيئا وله أشعار كثيرة فى مدّة سبع أيّام حتى قضى نحبه، فمنها وقد وقف على منهل وكان يوما صائفا وقد حميت الرمضاء والعطش قد زاد به فقال (من الكامل): لو كنت أطلب حظ نفسى فى الهوى … وطلابه يرزى بمطلبيه لم أجتنب ذاك الجناب وأرتضى … حر الهجير على مقيلى فيه وأصد عن تلك الموارد حائما … والقلب يعلم أنّها ترويه حسبى بحظّى أن تصحّ بأنّه … لا حظّ لى فى حبّكم أبغيه قال: وكان آخر شعر قاله وفاضت نفسه (من الطويل): (3) ذكرتك ذكرى هائم بك تنتهى … إليك أمانيه وإن لم يكن وصل (123) ولست بذكرى ساعة بعد ساعة … ولكنّها موصولة ما لها فصل قال: ثم شهق شهقة فاضت فيها نفسه، قال: فبلغ خبره ليلى وعلمت أنّها ظلمته لما سعى به أبو قبيس فسألت كيف كان موته فأخبرت، فآلت على نفسها لا تتلمّص بزاد ولا تذوق ماء حتى يرد جمل أبيها ورده وكان لا يرد إلاّ عن عشر ليال، ولها أيضا أشعار كثيرة رقيقة فمن ذلك (من الطويل):

(1) كتاب الورقة 48،5، منسوب إلى محمد بن أبى أمية؛ عيون الأخبار 1/ 39،7؛4/ 85، -2؛ مختار من شعر بشار 63،7، دون نسبة (2) ومراقبين: وملاحظين الورقة||يكاتمان هواهما: تكاتما يهواهما عيون الأخبار|| الصدور: القلوب عيون الأخبار (3) كتاب الزهرة 200،2

ألا حبّذا البطحا (2) وطيب ترابها… وأرض خلاء يصدح الليل هامها ونصّ المهارى العشيّان والضحى … إلى نفر وحى العيون كلامها (1) ومن شعرها واعتدّوا به فى الطبقة العليا فى معناه قولها (من الطويل): (3) وما وجد ملواح عن الهيم حلّئت … عن الورد حتى جوفها يتصلصل (4) تحوم وتغشاها العصىّ وحولها … أقاطيع أنعام تعلّ وتنهل بأكثر (5) … منّى لوعة وتطلّعا إلى الورد إلاّ أنّنى أتحمّل قال: وفاضت نفسها فى اليوم الذى فاضت فيه نفس ابن عمّها الحارث وفى ساعته التى قضا فيها فدفنا جميعا فى لحد واحد، قال: ثم إنّ رضوى أيضا آلت على نفسها ما آلاه حتى لحقت بهما من غير هوى كان بها وإنّما قالت: أنا كنت السبب لذلك فأنا أحقّ بالموت منهما، قال عبد الملك بن هشام: فالحارث وليلى أوّلا متيّما فى العرب ماتا بعزّة النفس. قلت: أما الشعر الأوّل الذى انتحله أبو قبيس على لسان الحارث الذى أوّله يقول: إذا نحن خفنا الكاشحين فلم نطق. . .

(1) كتاب الزهرة 1/ 96،18؛1/ 269،8، دون نسبة؛ معجم البلدان 2/ 636، منسوب إلى أعرابى (2) البطحا: الدهنا كتاب الزهرة (3) كتاب الزهرة 1/ 308، -1؛ البيان والتبيين 3/ 55،2؛ كتاب الحيوان 3/ 104، -3؛ زهر الآداب 198،6؛ مختار من شعر بشار 55،7؛ كتاب العصا 319،6 (4) عن: من الزهرة؛ البيان؛ الحيوان |؛ العصا||الورد: الماء الزهرة؛ البيان؛ الحيوان؛ العصا (5) بأكثر: بأعظم البيان؛ العصا||لوعة: غلة الزهرة؛ البيان؛ الحيوان؛ العصا

فقد أخذه سالم بن الوليد (1) فقال (من الطويل): جعلنا ملامات (2) … المودّة بيننا دقائق لحظ هنّ أخفى من السحر فأعرف منها الوصل فى لين طرفها … وأعرف منها الهجر فى النظر الشزر (124) وقال العبّاس بن الأحنف (من الكامل): (3) يا من يكاتمنى تغيّر قلبه … سأكفّ نفسى قبل أن تتبرّما وأصدّ عنك وفى يديىّ بقيّة … من حبل ودّك قبل أن يتصرّما يا للرجل لعاشقين توافقا … فتخاطبا من غير أن يتكلّما حتى إذا خافا العيون وأشفقا … جعلا الإشارة بالأنامل سلّما وقال البحترى (من الخفيف): (4) يتبسّمن من وراء حواشى (5) … الربط عن برد أقحوان الثغور ويسارقن والرقيب قريب … لحظات يخلسن (6) سرّ الضمير ضعف الدهر عن هوانا وما الدهر … على كلّ دولة بقدير وكذلك معنى الشعر الثانى المنتحل على الحارث من أبى قبيس ليس بينهما فرق بل هو هذا المعنى بعينه، وكثير ما تمت الأحوال على أهل الضر، فورى عنها بضروب من العدد كقول أحمد بن أبى فنن (من الطويل):

(1) سالم: مسلم، غلط (2 - 3) ديوان مسلم بن الوليد 105 رقم 12،7 - 8 (2) ملامات: علامات ديوان مسلم، تحريف (3) ديوان العباس بن الأحنف 237، رقم 469،1 - 4؛ زهر الآداب 948،9 (4) ديوان البحترى 2/ 885،4، رقم 349،11 - 12 (5) من وراء حواشى: من وراء شفوف الديوان (6) يخلسن: يعلن الديوان

(1) … ولما أبت (2) عيناى أن تملك البكاء وأن يحبسا سحّ الدموع السواكب ما ابت كيلا ينظر الدمع منكر … ولكن قليل ما بقاء التناؤب أعرّضتمانى للهوى ونممتما … علىّ لبئس الصاحبان لصاحب ولقى بشّار أبا العتاهية فقال له: يا أبا إسحق أنشدنى ما أحدث ما عملت فأنشده (من الكامل): (3) ومسامر (4) … أضحى يسا رقنى البكاء من الحياء فإذا تفطّن لامنى … فأقول ما بى من بكاء لكن ذهبت لأرتدى … فطرفت (5) عينى بالرداء فقال: أحسنت إلاّ أنّك سرقته من قولى (من الوافر): (6) كتمت عواذلى ما فى فؤادى … وقلت لهن ليتهم بعيد (125) ففاضت (7) … عبرة أشفقت منها كأنّ مسيل وابلها فريد فقالوا قد بكيت (8) … فقلت كلاّ وهل يبكى من الطرب الجليد ولكنى أصاب سواد عينى … عويد قذا له طرف حديد فقالوا ما لدمعهما سواء … أكلتى (9) مقلتيك أصاب عود لقبل دموع عينك خبّرتنا … بما جمجمت زفرتك الصعود

(1) أمالى القالى 1/ 70، -5 (2) ما ابت: تثاءبت الأمالى، لعله تحريف ||قليل: قليلا الأمالى (3) ديوان أبى العتاهية 475، رقم 2،4 - 6 (4) ومسامر-يسارقنى: كم من صديق لى أسارقه الديوان (5) فطرفت: فأصبحت الديوان (6) الأغانى (بولاق) 3/ 139،19؛ (دار الكتب 4/ 29،3)؛ أمالى القالى 1/ 49، -1؛ الزهرة 1/ 313،15 - 20 (7) ففاضت: فجالت الأمالى ||كأن مسيل: تسيل كأن الأمالى (8) بكيت: جزعت الأمالى (9) كلتى: كلتا الأمالى

ومن ما ذكر فى هذا الشعر الطرب شعر رقيق يكاد يكون للروح اللطيف شقيق وهو (من البسيط): (1) أتهجرون فتى أغرى بكن تيها … حقّا لدعوة صبّ أن تجيبوها أهدى إليكم على بعد تحيّته … حيّوا بأحسن منها أو فردّوها زمّوا المطايا (2) … غداة البين وارتحلوا وخلّقونى على الأطلال أبكيها شيّعتهم (3) … فاسترابونى فقلت لهم إنّى بعثت مع الأجمال أحدوها قالوا فما نفس (4) … يعلو كذا صعدا وما لعينيك لا ترقى مآقيها قلت التنفّس من تدآب (5) … سيركم والعين تذرف دمعا من قذا فيها حتى إذا ارتحلوا والليل معتكر … خفضت فى جنحه صوتى أناديها يا من بها أنا هيمان ومختبل … هل لى إلى الوصل من عقبى أرجّيها نفسى تساق إذا سيقت ركابيكم (6) … فإن عزمتم على قتلى فسوقوها وأمّا شعر ليلى الذى أوّله تقول: وما وجد ملواح عن الهيم حلئت. . . فنظيره قول جميل بن معمر العذرى (من الطويل):

(1) أمالى القالى 1/ 79،5: (3 - 4)، (6 - 10)؛ حماسة الظرفاء 2/ 119، -1: (5)، (6)، (8)، (11)؛ كتاب الزهرة 1/ 313، -1: (5 - 7)؛ مختار من شعر بشار 261: (5 - 7)، سمط اللآلئ 265،3: (5) (2) المطايا: المطى سمط اللالئ (3) شيعتهم: تبعتهم حماسة الظرفاء (4) نفس: فنفسك حماسة الظرفاء||يعلو كذا صعد: يعلوك ذا صعدا الأمالى؛ هكذا صعدا حماسة الظرفاء||وما لعينيك: وما لعينك الأمالى؛ ودمع عينك حماسة الظرفاء؛ أم ما لعينك الزهرة (5) من تدآب: من إدمان حماسة الظرفاء؛ للآداب نحوكم الزهرة||والعين تذرف دمعا: ودمع عينى جار حماسة الظرفاء؛ وما عينى جار الزهرة (6) ركابيكم: ركابكم حماسة الظرفاء

(1) … وما صاديات حمن يوما وليلة على الماء يغشين (2) العصىّ حوان لواغب لا يصدرن عنه لوجهة … ولا هنّ من برد الحياض دوان (3) يرين حباب الماء والموت دونه … منهنّ لأصوات السقاة روان (4) (126) بأكثر منى غلّة وصبابة … إليك ولكن الغدوّ عدانى وقال أبو الهذيل ابن العلاّف: (5) لا يجوز فى دور الفلك ولا فى تركيب الطبائع، ولا فى القياس، ولا فى الحسّ، ولا فى الممكن، ولا فى الواجب: أن يكون محبّ ليس لمحبوبه إليه ميل. وكان ليوسف بن القسم بن صبيح غلام أسود (6) نشأ فى بادية الأعراب فتولّع بجارية لبعض أهله فشكى إلى مولاه فضربه وحبسه وحلف ألاّ يطلقه إلاّ بعد شفاعة من شكاه فقيل للعبد وهو مسجون: أتحبّك طلابتك كما تحبّها أنت فقال (من الطويل): كلانا سواء فى الهوى غير أنّها … تجلد أحيانا وما بى تجلّد تخاف وعيد الكاشحين وإنّما … أحنّ (7) إليها حين أصى وأبعد قال: فبلغ مولاه يوسف شعره فقال: وإن فيه لهذا الفضل فركب من وقته واحتال حتى أوصله إلى الجارية. أخذ الناشئ هذا فقال (من الكامل): (8) عيناك شاهدتان إنّك من … حرّ الهوى مجدين ما أجد بك ما بنا لكن على مضض … تتجلّدين وما بنا جلد

(1) ديوان جميل 205، -4 (2) يغشين: يخشين الديوان ||حوان: حوانى الديوان، تحريف (3) دوان: دوانى الديوان، تحريف (4) روان: روانى، تحريف (5) ابن العلاف: العلاف، غلط (6) أخبار الشعراء 162 - 4 (7) أحن-أبعد: حنونى عليها حين أنهى وأبعد أخبار الشعراء (8) حياة الناشئ 100، رقم 29؛ مختار من شعر بشار 297،4؛ وراجع van Ess,Fruhe,nuctazilitische Haresiographie 751, - 7,

رجع ما انقطع ذكر تتمة الجبال

رجع ما انقطع ذكر تتمّة الجبال جبل الفتح: (1) هو من أعظم الجبال فى الدنيا وفيه أمم كثيرة وممالك غزيرة، يجمع اثنان وسبعون أمّة، كل أمّة لها لسان وملك وفيه شعاب وأودية ومدينة باب الأبواب على حدّ شعابه بناها كسرى أنو شروان وجعلها حدّا فاصلا بينه بين الخزر وجعل حدّ (127) السور ومبدأه من البحر إلى أعالى الجبل وذلك نحو من أربعين فرسخا حتى ينتهى إلى طبرستان، وجعل على كلّ ثلاثة أميال من هذا الجبل بابا من الحديد وعنده حفظة، وأسكن هناك أمما مختلفة لحفظ الحدّ من العدوّ مثل الخزر والترك والان (2) وغيرهم، ومسافة هذا الجبل من أوّل أعالى أسوان وحدود اليمن مدّة شهرين إلى أن ينتهى إلى قلعة باب الأبواب، وبينها وبين بغداد أربعمائة فرسخ، وهذه القلعة على واد عظيم من هذا الحدّ بالجبل المذكور لا سبيل لأحد على العبور إلاّ من تحتها، وهى على جبل مدوّر يخرج من وسطها عين ماء، وفى جبلها قرود يقف القرد على رأس الملك فإن كان الطعام مسموم غمز القرد الملك فامتنع منه، قال: والذى بناها أنو شروان، هذا من رواية ابن الجوزى رحمه الله. وأمّا رواية المسعودى رحمه الله (3) فقال: فى هذا الجبل عجائب كثيرة منها خسفة قدير دورها فرسخا طولا فى مثله عرضا، وفيه قرود كهئة الآدميّين يتحيّل عليهم ويصاد منهم ويهدوا إلى الملوك، ومن خاصّيّة الفرد منهم أن يجلس على طعام الملك فإن كان مسموما عرق القرد حتى يرشح عرقه فيفهم أنّ الطعام مسموما فيمتنع منه،

(1) الفتح: القبخ مروج الذهب 7/ 569 (2) الان اللان مرآة الزمان (3) قارن مروج الذهب 1/ 232 مادة 485

ومنها أنّ بهذا الجبل أيضا خسفة أخرى أعظم من تلك الخسفة بأضعاف مضعقة ودورها أملس منحوتا لا يقدر على النزول إليها بوجه من الوجوه ولا يصل إلى سفلها جبل لعظم عمقها وفى سفلها أمّة من الأمم لا يعلم ما هم من الإنس ولا من الجنّ غير أنّهم يرون كأصغر ما يكون لبعد مسافة عمق تلك الخسفة وعندهم أشجار وأنهار ودوابّ ومواشى وغير ذلك وينظر إليهم (128) يغدون ويروحون فى معاشهم ولا يصل إليهم أحد ولا يصلون إلى أحد، هذا ما ذكره المسعودى فى كتابه مروج الذهب، (1) وقال فيه: إنّ الذى بنا قلعة باب الأبواب اسفنديار من ولد بهراسف من أوّل طبقة ملوك الفرس الأول ورتّب فيهم رجالا، ويقال إنّ هذه القلعة فتحت فى أيّام عبد الملك بن مروان ورتّب فيها رجالا من المسلمين من العرب وهم إلى هلمّ جرا يتوارثون أمرها وتنقل إليهم الموادّ من تفيس ونواحيها، قالوا: وبينها بين تفليس عشرة أيّام وأهل تفليس ساعدونهم خوفا من العدوّ، قالوا: ووراء هذا السور قوما من العرب يتكلّمون بالقحطانيّة وبينهم وبين هذه القلعة عشرة أيّام، وقيل ثلاثة أيّام، ثم تلى هذا السور من ناحية المشرق أمم كثيرة: خزر، وترك، ولان، وقفحاق، وغيرهم، ولهم ملوك منهم ملك السرير سمّى بذلك لأنّ يزدجرد لمّا أحسّ بزوال ملكه فى آخر أيّام عمر بن الخطّاب رضى الله عنه بعث سريرا من الذهب وأموالا عظيمة إلى تلك الديار، وهلك يزدجرد لما نذكره إن شاء الله تعالى فى أيّام عثمان بن عفّان رضى الله عنه، فغلب على هذا السرير رجل من نسل بهرام جور وملك تلك الناحية وفيها اثنا عشر ألف قرية، ثم يلى هذه المملكة: اللان ويقال لملكهم كرحاح (2)

(1) غلط ابن الدوادارى: مأخوذ من مرآة الزمان 21 ب،1 (2) كرحاح: كرحناح مرآة الزمان؛ كركنداج مروج الذهب 1/ 228 مادة 479

وله مدينة يقال لها ماعص (1) وعسكره ثلاثون ألفا، وممّا يلى هذه الممالك جبال فيها قرود كثيرة غير تلك القرود المقدّم ذكرها على صور بنى آدم ولكن ليس لهم تلك الخاصّيّة المقدّم ذكرها. قلت: وهذه الممالك كلّها عادت بأيدى التتار عند وضع هذا التأريخ لما نذكر من أمرهم إن شاء الله تعالى. قاسيون: جبل شمال دمشق فيه آثارات كثيرة منها: مغارة الدم ومغارة الجوع ومسجد الكهف وقبور الزهّاد والأولياء والعلماء وهو جبل مبارك والنفس ترتاح إليه وتختبر المقام به، ومن سكنه لا يطيب له (129) سكنى غيره. وجاءت فيه آثار، قال ابن الجوزى رحمه الله: حدّثنى به الشيخ الصالح أبو عمرو المقدسى رحمه الله قال: بلغنى عن كعب الأحبار أنّه قال: أوحى الله تعالى إلى قاسيون: هب ظلّك وبركتك لجبل بيت المقدس! ففعل، فأوحى الله إليه لن تذهب الأيّام والليالى حتى أردّ إليك خيرك وبركتك وظلّك ويبنى لى فيك-أو قال: فى ركنك-بيت أعبد فيه بعد خراب البيت أربعين سنة، قال، فقاسيون بين يدى الله تعالى بمنزلة العبد الخاضع المتواضع المسكين. وذكر الحافظ أبو القسم ابن عساكر رحمه الله فى تأريخه: (2) هذا الأثر عن القسم أبى عبد الرحمن ولم ينسبه، وذكر البيت قال: هو جامع دمشق، وإنّ رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دمشق فقال: بها جبلا يقال له قاسيون فيه قتل ابن آدم أخاه وفى أسفله غار من الغرب فيه ولد إبراهيم عليه السلام، وذكر حديثا فيه أماكن، قال ابن الجوزى رحمه الله: والعجب من رواية مثل هذا

(1) ماعص: مغص مروج الذهب 1/ 822 مادة 479 (2) تأريخ دمشق 2/ 102

الحديث الذى اللفاظه (1) تنطق بوضعه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّ أحدا من العلماء لم يذهب أنّ قابيل قتل أخاه هابيل بالشام قطّ ولا أنّ الخليل عليه السلام ولد بالشاء وإنّما ولد ببابل وإنّما المنقول عن كعب الأحبار فى هذا الباب ما رواه الثكالى: أنّ كعبا قدم الشام ومعاوية بن أبى سفيان أميرا بها من قبل عثمان رضى الله عنه، وكان معاوية لمّا بلغه قدوم كعب إلى القدس فى سنة ثلاثين قال: يا ليت لنا من يخبره بفضائل دمشق وبلغ كعبا فلمّا نزل من عقبة شحرورا دمشق نظر إلى قاسيون فقال: لا إله إلاّ الله هذا مكان قتل فيه ابن آدم أخا، كذا وجدته فى التوراة وهذا الكهف الذى عزّت فيه الملائكة لآدم (130) وهذا الغار الذى ولد فيه إبراهيم، وأشار إلى برزة، وعاد يقول: وهذا مكان كذا وهذا مكان كذا، وبلغ معاوية فبعث إليه بمال كثير، ومعلوم أنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه كان يعلو كعبا بالدرّة ويقول: دعنا من يهوديّتك: وإنما تزار هذه الأماكن بحسن الظنّ فإنّ الأعمال بالنيّات، وقد طرقها خلق كثير من السادات. جبل قدس: (2) بإسكان الدال، جبل عظيم بأرض نجد وقد ذكرته العرب. قطن: (3) جبل معروف، وكانت عنده رقعة لعبس وذبيان بالحجاز، وقد ذكروه فى أشعارهم. لبنان: جبل بالشام، وهو من أعظم الجبال بركة، وأصله من الحجاز يأتى من العرج ويتّصل بالجبال التى على ساحل البحر الشرقى على الطور وأيلة ويتّصل إلى بيت المقدس ثم يمتدّ على البقاع وبلد حمص وحلب والثغور، ثم يمتدّ إلى الروم ويتّصل باللكام، وفيه العيون الباردة والأشجار المثمرة والمساحات الكثيرة والحشائش التى تدخل فى الدرياقات، (4) ويقال إنّ فيه حشيشة الكيمياء

(1) اللفاظه: الفاظه (2) الصحاح 2/ 957 ب (3) الصحاح 6/ 2183 آ (4) الدرياقات: الترياقات

بزعم من زعم، وفيه الصالحون والأبدال، وفيه جبل يقال له جبل الدير مطلّ على ساحل البحر ببيروت، يقال أنّه الجبل الذى قال فيه كنعان بن نوح: {سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ»} (1)، وفى سفحه أيضا قرية يقال لها كرك نوح فيها قبر يقال إنّه قبر نوح عليه السلام، وفى سفحه أيضا قبر شيبان الراعى وقصته مع دنون (2) المصرى مشهورة. وحكى عن بن الكلبى عن كعب الأحبار قال: قدم الخليل عليه السلام الشام فاشتاق إلى بيت المقدّس فقال: يا ربّ أرنى الأرض المقدّسة! فقيل له: اصعد على لبنان انظر إلى أىّ مكان انتهى بصرك فهى مقدّسة، أو قيل: فهو مقدّس، وروى عن شقيق البلخى رضى الله عنه أنّه قال: (131) ما اتّخذ الله وليّا حتى يسحب ذيله على لبنان: جبل اللكام: وقد ذكره ابن حوقل فى كتاب الأقاليم (3) فقال: جبل اللكام هو الفاصل بين الغرين يعنى الشام والجزيرة لأنّ كلّ ما كان وراء الفرات من الشام ومن ملطية لى مرعش جزيرة، قال: واللكام داخل فى بلاد الروم، ويقال إنه ينتهى إلى نحو مائتى فرسخ ويمرّ على مرعش وعين زربة الهارونيّة، وإلى هاهنا يسمّى اللكام إلى أن يجاوز الادقيّة فيسمّى جبل بهرا ويتمّ إلى حمص ويتّصل بلبنان ويمرّ على فلسطين حتى ينتهى إلى بحر الفلزم ويتّصل بالمقطّم جبل مصر، قال: وأوّله بالمشرق فى بلد الصين خارجا من البحر المحيط فيقطع بلاد التبّت وفرغانة ثم يمرّ على سمرقند من شمال الصغد ويقطع نهر جيحون إلى الخزر ويكون عن يمين القاصد من خراسان إلى العراق ومنه يتشعّب جبال جرجان وطبرستان والديلم،

(1) القرآن الكريم 11/ 43 (2) دنون: ذو النون (3) صورة الأرض 168 - 170

ويتّصل بجبال آذربيجان والرىّ، ثم يعود إلى همذان وحلوان، ثم إلى شهرزور ويقطع دجلة بنواحى تكريت إلى حديثة الموصل ثم إلى الجودى ثم إلى آمد، ومنه يتشعّب جبال أرمينية، ثم يمرّ إلى جبل الفتح (1) وباب الأبواب إلى بحر الخزر إلى بلاد ياجوج وماجوج، ثم يتشعّب منه جبل يأخذ إلى الفرات ويتّصل بسميساط إلى مرعش النى ابتدأ منها، قال: وإذا وصل إلى المقطّم قطع النيل، ثم مضى إلى برقة وأقصى المغرب، ثم إلى البحر المحيط. فالحاصل أنّ ابن حوقل قال: إنّه يخرج من البحر المحيط بالصين وينتهى إلى البحر المحيط بالمغرب، وهذا تخليط ظاهر لأنّه جعله أوّلا الفاصل بين الشاء والجزيرة فينبغى أن ينقطع عن الفرات بأرض ملطية، ثم خلّطه بجبال خراسان والشرق ولبنان (132) ومصر، وأين جبال مصر من جبال الشام وما وجه الاتّصال بها؟ وإنّما كلّ جبل على حدّة، وذكر غير ابن حوقل وقال: واللكام جبل مبارك فيه الأبدال والمباحات والعيون وحدّه من مرعش إلى ملطية عرضا ويمتدّ فى بلاد الروم طولا إلى حيث يعلم الله تعالى، وأمّا الجبل الذى يقطع بنواحى تكريت فهو جبل حمر بن مشهور بنواحى العراق. ق: وهو الجبل المحيط بالدنيا، ذكر أبو إسحاق الثعلبى رحمه الله فى تفسير قوله تعالى: {ق، وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ»} (2)، عن ابن عبّاس أنّه جبل من زمرّدة خضراء محيط بالدنيا، وخضرة السماء منه، وعليه كنف الدنيا، وما وجد الناس من الزمرّد فهو ممّا يتساقط منه. قال وهب بن منبّه: لمّا مرّ عليه ذو القرنين رأى حوله جبالا صغارا فناداه: يا قاف ما هذه الجبال التى حولك؟ فقال: عروقى ليس فى الدنيا مدينة إلاّ وفيها

(1) الفتح: القبخ (2) القرآن الكريم 50/ 1

ذكر الهضاب والتلال والتلاع والرمال

عرق من عروق، فإذا أراد الله أن يلزلزل (1) أرضا أمرنى فحرّكت ذلك العرق فتزلزلت تلك البقعة من الأرض، فقال الإسكندر: فهل وراءك شئ؟ قال: نعم! أرض طولها خمس مائة عام، فيها جبال من ثلج تحطم بعضها بعضا ولولا ذلك لاحترقت من حرّ جهنّم. وقد ذكره الجوهرى (2) فقال: قاف جبل محيط بالدنيا، روى عكرمة عن ابن عبّاس قال: بنى إبراهيم الكعبة من خمسة أجبل: أبى قبيس، وطور سينا، وطور زيتا: وهو جبل بيت المقدس، والجودى، ولبنان. وفى الأقاليم جبال شوامخ وعرة فى ناحية الشمال، النهار عندهم أى أهلها ساعة ونصف لأنّ الشمس منحرفة عندهم، وفى المغرب جبال وعرة تسكنها البربر ويعصون فلا يقدر أحد عليهم، وفى الأندلس جبال فيها حجارة (133) تتّقد فى الليل ويظهر منها الدخان فى النهار، قال ابن الجوزى رحمه الله: ذكر جدّى فى كتابه المنتظم قال: وفى اليمن جبال منها جبلين عظيمين بينهما فى السهل مسيرة ثلاثة أيّام ورأسهما متقاربان بحيث يتناول الرجل الرجل من رأس الجبل ما يريد لضيق ما بينهما. ذكر الهضاب والتلال والتلاع والرمال (3) حكى سيبويه رحمه الله عن الخليل بن أحمد رحمه الله قال: الهضبة اسم لما دون الجبل، وقال فى الصحاح: (4) هى الجبل البسيط على وجه الأرض والجمع الهضبات، والضراب والأعلام والتلال والتلول أيضا، والصوة بمعنى الهضبة، وكذلك التلعة وجمعها تلاع وكثير من هذا المعنى وهنّ كثيرات لا تحصى، وأمّا العقاب

(1) يلزلزل: يزلزل (2) الصحاح 4/ 1419 ب (3) مأخوذ من مرآة الزمان 23 آ، -4 (4) الصحاح 1/ 238 ب

فكثيرة جدّا، منها: عقبة سرنديب، والهند، والصين، وعقبة ساوة، وهمذان، وحلوان، وفى خراسان عقاب كثيرة، وفى الرىّ، وفى الحجاز عقبة هرشى، وذكره الجوهرى (1) وقال: هرشى ثنيّة فى طريق مكّة، قريبة من الجحفة يرى منها البحر، ولها طريقان، فكلّ من سلكها كان مصيبا غير خاطئ، قال الشاعر (من الطويل): خذى أنف هرشى أو قفاها فإنّه … كلا جانبى هرشى لهن ولهن (2) يعنى: الإبل، وفى طريق الحجاز أيضا: عقبة أيلة من طريق مصر، وفى اليمن عقاب كثيرة لا يدرك غايتها، وفى الشام من طريق مصر عقبة فيق، وعقبة شجر، وعقبة الكرسى، وفى لبنان أيضا، وقد أشار إليها المتنبّى بقوله (من الكامل): (3) وعقاب لبنان وكيف بقطعها … وهو المساء وصيفهن شتاء (134) وأمّا الرمال فكثيرة: منها الأحقاف وهى ديار عاد وبها الرمل الكثير، قال الجوهرى: (4) الحقف بكسر الحاء المعوجّ من الرمل والجمع أحقاف، ومنها رمل عالج. قلت: ولى فى ذكره من رسالة، وسوقا لو عاناه الأعرابى لما صبا إلى رمل عالج، أو كابده الخلى لا يثنى بكبد ذات حرق ولواعج. وعالج موضعا بالبادية وقد ذكره ابن عبّاس رضى الله عنه فى مسئلة الغول فقال: والذى أحصى رمل عالج، وذكرته الشعراء كثيرا، وكذلك رمل زرود وهو بين مكّة والعراق، ومنها الرمال التى بين مصر والشام بعدّة منازل تسمّى رمل الغرابى (5) ويبتد ‍ئ من منزلة القصير إلى حدود غزّة عند الجماميز، وهناك بئر

(1) الصحاح 3/ 1027 ب (2) ولهن: طريق الصحاح، تحريف (3) ديوان المتنبى (واحدى) 195، -10؛ (عكبرى) 1/ 14،4||المساء: الشتاء الديوان (4) الصحاح 4/ 1345 ب (5) قارن معجم البلدان 3/ 780

تعرف ببئر طرنطاى، وهذه المسافة مسيرة ستّة أيّام هذا فى نفس الطريق الشامية من الديار المصرية وينتهى إلى تيه بنى إسرائيل ومتّصل بالطور والبحر والحجاز. وقد ذكره ابن حوقل رحمه الله فى كتاب الأقاليم (1) فقال: والرمل المعروف بالهبير هو الذى طوله من وراء جبلى طئ إلى أن يتّصل بالجفار من أرض مصر قال: وعرضه من الشقوق إلى الأجفر ويقطع النيل إلى المغرب ويمتدّ فى أرض سجلماسة إلى البحر المحيط، وله عرق يضرب إلى عمان والبحرين ويقطع البحر الشرقى إلى جيحون وخوارزم وسمرقند ويتّصل بالصين وفيه اللوان (2) مختلفة: أصفر، وأحمر، وأبيض، وأسود. قلت: أمّا قوله: يقطع النيل، فوهم فإنّه لا يتعدّا منزلة القصير وبين القصير وبين النيل مسافة ثلاثة أيّام وبينهما بلاد ومزارع وأعمال مصر بالوجه البحرى كأعمال الشرقيّة ببلبيس وأعمالها متّصلة بالنيل، وكذلك الغربيّة بالمحلة وأعمالها متّصلة بالمالح، وكذلك أعمال إشموم متّصلة إلى دمياط بالمالح. وأمّا اتّصاله بالمالح وهو البحر الرومى فنعم، فلو قال: إنّه يتّصل بالمغرب بعد قطعه المالح كان أقرب، ولعلّ الرجل ما دخل مصر فنقل عن سماع فإنّه فاضل مطّلع رحمه الله. وقال قدامة بن جعفر رحمه الله فى كتاب الخراج: وفى وسط البحر الشرقى يعنى الحبشى كثيب رمل أحمر بعيد المسافة وفيه أمّة سود الألوان عظام الأجسام، يقال إنّهم يأكلون الآدميّين من البيض إذا وقعوا بهم من التجّار الغرقى والذين تسوقهم إليهم الرياح لآجالهم. وأمّا التلاع فأبلغ من أن تحصى.

(1) صورة الأرض 1/ 35،12 (2) اللوان: الوان

ذكر القلاع المشهورة

ذكر القلاع المشهورة (1) وهى أكثر من أن تحصى فى الأقاليم السبع، فمن قلاع المشرق: قلعة سليمان بإصطخر: يقال إنّ الشياطين بنوها له عليه السلام فإنّها من عجائب الدنيا فى البناء والارتفاع والحصانة، وقلعة بفارس بناها زياد بن أبيه لمّا كان على العراقين من قبل معاوية رضى الله عنه لما نذكر من خبره، وقلاع أخر بفارس انطرور ودبول وكردكوه، وفى خراسان حصون كثيرة مذكورة وكذ (2) فيما وراء النهر، فمن حصون خراسان قلعة نيزك وهى قلعة عظيمة فتحها يزيد بن المهلّب بن أبى صفرة فى سنة أربع وثمانين، وقد مدحها الشعراء وليس بالشرق بعد قلعة سليمان أحصن منها، ومن ذلك قلعة باب الأبواب بجبل الفتح، (3) وقد تقدّم ذكرها، وفى جبل الفتح عدّة قلاع، وقد تقدّم القول بذلك. وفى بلاد أرمينية قلاع كثيرة لهم حصانة مانعة. ومن قلاع الجزيرة قلعة ماردين، قال ابن المنادى رحمه الله: أسّست قلعة ماردين على مصابرة العدوّ أربعين سنة، فلو نزل عليها ملك بجيشه لما طاق فتحها عفوة. قال (136): وفيها من العيون العذبة عشرة أعين، وهذا قول ابن المنادى وهو أيضا وهم، فإنّ المعتضد فتحها عنوة بالسيف فى مدّة يسيرة، وكذلك العادل بن أيّوب أقام عليها دون التسعة أشهر واستظهر على فتحها فجاءه خبر وفاة ابن أخيه الملك العزيز بمصر وخلف أولاد أخوه فرحل عنها ولو استمرّ عليها عشرة أيّام أخر افتتحها، وأمّا قوله: إنّ فيها عشرة أعين فقد ذكر لى جماعة من أهلها: أنّ لم يكن بها غير عين واحدة وهى يسيرة جدّا، وربّما تنقطع فى وقت من السنة.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 23 ب،14 (2) كذ: كذا، تحريف (3) الفتح: القبخ

وقد ذكر أيضا ابن حوقل (1) فقال: وجبل ماردين من قرار الأرض إلى ذروته مسيرة فرسخين أو نحو فرسخين، و <عليه> (2) قلعة لحمدان بن الحسن بن عبد الله ابن حمدان تعرف بالبازى الأشهب لا يستطاع فتحها عنوة، وفى الجبل جوهر الزجاج وبه حيات عظام، وفى الجملة فهى أحصن قلاع الجزيرة. وفى الشام قلاع كثيرة منها: قلعة حلب وتسمّى الشهباء، فإنّ ملك الروم نزلها وفتح البلد ولم يقدر عليها، وكان سيف الدولة ابن حمدان رحمه الله يفتخر بها مع اتّساع ملكه فى ذلك الوقت ويقول: معقلى حلب وشاعرى المتنبىّ، وبقلعة حلب آثار إبراهيم الخليل عليه السلام، ويقال: إنّه أوى إليها عند دخوله إلى الشام، وعلى الجملة فإنّها لم تزل تعدّ فى القلاع المانعة حتى افتتحها هلاوون فى المدّة اليسيرة حسبما سنذكره من ذلك مع سائر ما ذكرنا من القلاع المانعة، لم يتّسع على القوم سهل ولا جبل ولا اغنى منهم خيل ولا خول ولا مكر ولا حيل ولم يزالون على ذلك إلى أن كسرهم الله تعالى على يد السلطان الشهيد والبطل الصنديد سيف الدنيا والدين قطزّ تغمّده برحمته وأسكنه جنّته برحمته. (137) ومن قلاع الشام أيضا قلعة حمص، وحماة، وبعلبك ودمشق، وصرخد، وعجلون، والكرك، والشوبك قبل خرابه، وكان أيضا (3) مثل قلعة القدس، وكوكب، والطور، وتنين، وهونين، وعكّا، وطرابلس، هؤلاء بالساحل وغيرهم أيضا يأتى أسماؤهم عند فتوحهم وعودتهم فى أيدى المسلمين، أدام الله ذلك إلى يوم الدين. وأمّا الديار المصريّة فيها أشرف القلاع، التى تشرّفت بساكنها على سائر البقاع، وتشنّفت بذكر محاسنها الأسماع:

(1) صورة الأرض 1/ 214،17 (2) عليه: مرآة الزمان، صورة الأرض (3) وكان أيضا: وكان بالساحل قلاع أخربت كالقدس مرآة الزمان

قلعة الجبل المحروسة التى أضحت بالمقام الشريف الناصرى مأنوسة، فعادت بزينتها بين سائر قلاع الأرض تتجلاّ كالعروسة، لما شيد فيها من البنيان، الذى يعجز عن وصف بعضه صاحب علم البيان، فليس الخبر كالعيان، فتبارك الله الملك الديّان، الذى أيّد مولانا السلطان، بالملائكة والقرآن، حتى ذلّ له الزمان، وعادت أيّامه من صروفه فى أمان، فهو فى مشرفه معد بن عدنان، وفى فصاحته قس وسحبان، وفى بلاغته قدامة بن حطان، وفى كرمه برمكىّ الإحسان، وفى كتابته على ثان، وفى عدله كسرى أنو شروان، الملك العظيم الشأن، ساهر من الثقلان، المتوّج بالنيران، الشمس والقمر من غير نقصان، ولا تدركهما آية الكسوفان، فهو مولانا وسيّدنا السلطان، الملك الناصر، الناصر لملّة القرآن، سمّى سيّد ولد عدنان، محمّد صلى الله عليه كلّما صدح قمرى على أعلا أغصان، والمستبشر به لإعلاء دينه على سائر الأديان، فهو فى عصره سليمان، ذلّت لهيبته ملوك الإنس والجانّ، فلو أدرك زمانه النعمان، لكان من جملة الغلمان، أو قيصر وكسرى وخاقان، (138) لكانوا من بعض الأعوان، ولو نال من قبله بشر فى الأفلاك مكان، لكان ظهر جواده السماكان، فقلوب الخلائق تحبّه وحبّ الخلق لحبّ الخالق عنوان، فهو مكىّ الحرم، برمكىّ الكرم، هاشمىّ الفصاحة، حاتمىّ السماحة، عثمانىّ الحياء، لقمانىّ الذكاء، يوسفىّ الخلق، محمدىّ الخلق، يظنّ فى الكرم بحرا، ويحسب لفظه للحسن شجرا، إذا أفصل فصلا كان قولا فصلا، وإذا أصل أصلا لم يستطع أحد من الملوك مثله أصلا (من البسيط): فاق الملوك بأخلاق مهذّبة … وفات من كان جاراه وباراه توطّد الملك مذولى ولايته … واستبشرت حين راعاه رعاياه

فصل فى ذكر البحار والجداول والأنهار

وقام بالأمر مذ نيطت تمائمه … قيام مضطلع قواه تقواه وأعلن العدل حتى أمّ مذهبه … من كان قدما تعدّاه وعاداه وجدّد الجود حتى لاح معلمه … للمجتدين وطرّاه وأطراه فالدين والملك والأقوام قاطبة … راضون عن سعيه والله والله فلله درّه من سلطان عادل، وملك فاضل، يطيل الأقبال، ويزيل الأقلال، ويتفقّد الأحوال، وينتقد الرجال، ويكشف النوازل، ويعرف المنازل، بهىّ المنظر، رضىّ المخبر، لا يخيبه أمل، ولا يقهره بطل، جبر الرعيّة بفضله، وعمّ البريّة بعدله، وحصن الأنام بكفايته، وحسن الأحكام بدرايته (من الكامل): متيقّظ العزمات مذ نهضت به … عزماته نحو العلى لم يقعد وتكاد من نور البصيرة أن يرى … فى نومه فعل العواقب فى غد وسنذكر فى جميع أجزاء هذا التأريخ من بعض محاسنه ما يليق كلّ (139) فصل من فصوله الحسان، ولا ندرك بعض بعض محاسن سيرة مولانا السلطان، ويأتى أيضا من ذكر هذه القلعة المنصورة، التى عادت محاسن الدنيا فى كلّ مقصورة منها عليها مقصورة. فصل فى ذكر البحار والجداول والأنهار (1) قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (2) بإسناده إلى شيخ كان مرابطا بساحل البحر قال: لقيت أبا صالح مولى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فقال: حدّثنى عمر عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ليس من ليلة إلاّ والبحر يشرف على الأرض يستأذن ربّه ثلاثا هل ينفضح على الأرض فيكفّه الله تعالى.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 24 ب،9 (2) مسند أحمد بن حنبل 2/ 43

قال ابن الجوزى رحمه الله إنّ جدّه رحمه الله ذكر الحديث فى الواهية، وقال: الشيخ الذى فى الحديث مجهول، ثم قال: لا يقدح فى الحديث فقد أخرج الحميدى فى آخر الجمع بين الصحيحين عن رجل مجهول وغيره، وإنّما الحديث الذى ضعّفوه رواه أبو هريرة وغيره: إنّ الله تعالى كلّم البحر الشامى فقال: يا بحر ألم أخلقك وأكثرت ماءك، وهو حديث طويل، قال ابن الجوزى: قال جدّى رحمه الله: فى طريق هذا الحديث عبد الرحمن العمرى اتّفقوا على تركه، وذكر غيره وقال: إنّما هو من كلام كعب الأحبار. فإن قيل: لم سمّى بحرا قلنا: لعمقه وسعته، وقال الجوهرى: (1) البحر خلاف البرّ والجمع أبحر وبحار وبحور، قال: وكلّ نهر عظيم بحر، ويسمّى الفرس الواسع الجرىّ: بحرا، قلت: وكذلك العالم المتّسع فى علمه يسمّى بذلك، وقد سمّى عبد الله بن عبّاس رضى الله عنه بحرا لاتّساع علومه. واختلفوا فى عدد البحار على أقوال: أحدها: إنّها سبعة أبحر، منها ستّة ظاهرة وواحد محيط بالدنيا مظلم ومنه (140) تستمدّ باقى البحور، قاله ابن عبّاس الثانى: إنّها خمسة أبحر، قاله مقاتل. الثالث: أربعة أبحر، قاله مجاهد. والأوّل أصحّ، شهد بذلك القرآن، ولأنّ السموات سبع، والأرضين سبع، والنجوم السيّارة سبع، والأيّام سبع، وخلق الإنسان من سبع، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ»} (2) الآية، ورزق من سبع لقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ»} (3) الآية، ومن قال بالأربع والخمس فهى داخلة فى السبع.

(1) الصحاح 2/ 585 آ (2) القرآن الكريم 24/ 12 (3) القرآن الكريم 80/ 24

ذكر البحر الشرقى وعجائبه

وذكر فى جغرافيا أنّها مختلفة المقادير، فمنها: ما هو على صورة الطيلسان، ومنها ما هو على هيئة السابورة، ومنها ما هو على التدوير، والغالب عليها الاستدارة، وقال ابن حوقل فى كتاب الأقاليم: (1) وأشرّها بحر فارس والروم وهما خليجان متقابلان يأخذان من البحر المحيط، وأفسحها طولا وعرضا بحر فارس يعنى الشرقى، قال: والمحيط يقال له نيطس والبحار تستمدّ منه وهى بالنسبة إليه كالخلجان ولا يتأنّى فيه الركوب ولا يعيش فيه حيوان إمّا لشدّة برده أو لحرارته، والقريب لبرده، ولا تجرى فيه المراكب لما فيه من حجارة المغناطيس، ومن القلزم إلى الصين على خطّ مستقيم يعنى على وجه الأرض نحو من مائتى مرحلة، وأمّا من أراد قطع هذه المسافة من القلزم إلى الصين فى البحر طالت عليه المسافة لكثرة المعاطف والتعاريج فى البحار والتواء الطرق. ذكر البحر الشرقى وعجائبه (2) قال علماء الهندسة: إنّه يأخذ من البحر المحيط الكبير المظلم بالمغرب وينتهى إلى أقصى الهند والصين وذلك ثمانية آلاف ميل، وعرضه (141) ألفان ميل وسبعمائة ميل، وقد يختلف عرضه باختلاف الأماكن فى الضيق والسعة، قال ابن المنادى: طول هذا البحر من القلزم إلى الوقواق أربعة ألف فرسخ وخمس مائة فرسخ، وفيه خلجان عظيمة منها: خليج يتّصل بأرض الحبشة ويمتدّ إلى بلاد الزنج إلى مكان يقال له بربر، طوله خمس مائة ميل وعرضه مائة ميل، ليس هذا بربر الموضع المعروف بالمغرب من أرض إفريقية، وإنّما هو مكان آخر

(1) صورة الأرض 1/ 11،11 (2) مأخوذ من مرآة الزمان 25 آ،9

فى أقصى الحبشة يسمّى بهذا الاسم وهو جنس من الأحابش، وقال أبو معشر: وليس فى البحار أعظم من موجه يرتفع مثل الجبال ثم ينخفض حتى يصير أردية عميقة. وذكر أحمد بن محمد بن إسحاق فى كتاب البلدان، قال: (1) وليس فى العالم أكبر من هذا البحر، يعنى غير المحيط، فإنّه يأخذ من المغرب وينتهى إلى الصين فيمرّ على النوبة والحبشة، ثم إلى القلزم، ثم إلى وادى القرى جدّة، وزبيد، وعدن، والشحر، وحضرموت، وعمان، والديبل، وفارس إلى الشرق، وجميع بلاد الهند والسند عليه، صيفهم شتاؤنا وشتاؤنا صيفهم، فكانون وكانون وشباط عندهم مثل حزيران وتمّوز وآب عندنا، قال: وعلّلوا ذلك بقرب الشمس من الأقاليم وبعدها. قال ابن الجوزى: وذكر من له خبرة به أنّ عمقه فى مواضع مائة ذراع وأكثر. وقال أبو معشر رحمه الله: قد قسم أرباب الهيئة هذا البحر الشرقى سبعة أقسام، فالقسم الأوّل: بحر القلزم ويمرّ على النوبة والحبشة واليمن وعمان، وطول هذا القسم من البحر ألف وأربع مائة ميل وعليه من المدن: القصير، وعيذاب، وبين مدينة القلزم والفسطاط ثلاثة أيّام. (142) الثانى: بحر فارس، وأوّله من الأيلة والبصرة والبحرين عند الخشبات وهى علامات منصوبة من خشب فى البحر يستدلّ بها أهل المركب عند جبل يقال له رأس الجمجمة، وقد ذكرناه فى الجبال، وقلنا إنّ أوّل هذا الجبل من اليمن من ناحية الشحر والأحقاف وآخره يمتدّ فى الهند إلى البحر ولا يعلم له غاية.

(1) قارن مختصر كتاب البلدان 7،7

وعلى هذا الخليج الذى يسمّى بحر فارس من البلاد: البحرين، وعمان، وسيراف، وكرمان، ومن عمان إلى سيراف ستّون ومائة فرسخ، ومن سيراف إلى البصرة أربعون ومائة فرسخ، وفيه من الأمم والجزائر ما لا تحصى، وفيه مغاص اللؤلؤ فى جزيرة كيش، (1) قال: ولا يكون ذلك فى جميع السنة بل من أوّل يوم من نيسان إلى آخر أيلول لا غير. واختلفوا فى اللؤلؤ على قولين: أحدهما: أنّه من حيوان فى البحر يقال له البلبل وفيه لحم ويخاف على ما فيه من الدرّ من الغاصة كما تخاف المرأة على جنينها، القول الثانى: إنّه يتولّد من الأمطار إذا وقع المطر فى نيسان ارتفع الصدف إلى وجه الماء فيفتح فاه فيقع فيه المطر، فمن الصدف ما يضمّ على ما وقع فى فيه ويغوص ويقيم طول السنة يحفظ نفسه من استنشاق الهواء حتّى يأتى على نيسان وقد انعقد فى باطنه اللؤلؤ، ومن الصدف من يشتاق إلى النسيم فيصعد على وجه الماء فيفتح فاه ويستنشق النسيم فيفسد ما فيه، والأوّل أصحّ لأنّ الغوّاصين يستخرجون هذا الحيوان من البحر ويأكلون لحمه ويأخذون اللؤلؤ من جوفه، ويحتمل أنّ اللؤلؤ يتولّد من المطر والحيوان جميعا. القسم الثالث من هذا البحر يقال له بلاذرى وليس فى البحر الحبشى أعظم مجرى للماء منه. والقسم الرابع (143) يعرف بكندر لاوى وفيه العنبر الخام، واختلفوا أيضا فيه، فمنهم من قال إنّه حثا سمك فى البحر وتقذفه الأمواج إلى سواحل معروفة فيه فيلقطونه أهل تلك الديار ويبيعونه على طلابه من التجّار، ومنهم من قال إنّ أصله حشيشا فى جزائر ذلك البحر وإنّ السمك إذا رعاه وتكوّن فى

(1) كيش: قارن المشترك وضعا 365

جوفه أهلكه فيموت ويطف على وجه الماء وتقذفه الأمواج إلى سواحله فيأخذونه ويستخرجون العنبر الخام من جوفه فيبيعونه، وعلى الجملة إنّه من سمك تلك الديار فى هذا البحر المعروف بكندر لاوى. والقسم الخامس: يسمّى كلاه مات. (1) والسادس: كردنج: وهو بحر الصين. والسابع: مملكة المهراج، وقال فى كتاب المسالك والممالك: (2) (3) ووراء بحر الصين مفاوز ورمال تجرى فيه السفن وهذا غريب، وقال النوبختى: إنّ بين الهند والصين على هذا البحر ثلاثون ملكا أصغر ملك منهم يملك مثل ملك العرب. وفى هذا البحر الشرقى المذكور عجائب كثيرة، منها: أنّ فيه سمكا طول كلّ سمكة خمس مائة ذراع وأكثر وأقلّ، وذلك بذراع أهل لبحر وهو ذراع أطول من ذراع التجّار، ويقال لهذا السمك العمرى، قال: وإنّ السمكة منه لترفع جناحها فيكون كالقلع العظيم وتخرج رأسها من الماء ثم تنفخ فيذهب الماء فى الجوّ صعدا ويمرّ أكثر من مرّ السهم الجيّد، قال: وأهل المراكب يخافونها فيضربون الدبادب والأبواق والصراخ العظيم لينفر عنهم وتبع ما تجده من السمك الصغار فيسمع لذلك فى جوفها دويّا عظيما، قال: ولهذه السمكة آفة وهى سمكة صغيرة بمقدار الذراع يقال لها الكشك فإذا أراد الله تعالى هلاك تلك السمكة العظيمة جاءت الصغيرة إليها (144) فتلصق بأصل أذنها وتعضّها فلقوّة ما تجده من الألم تغوص فى الماء إلى قرار البحر وتضرب بنفسها الأرض

(1) كلاه مات: كلاه تار مرآة الزمان، تحريف (2) قارن مروج الذهب 1/ 182 مادة 376؛1/ 83 مادة 379 (3) المسالك 178،11

عدّة دفوع حتى تموت وتطفو على وجه الماء كالجبل العظيم، قلت: ونظير هذه السمكة الصغيرة التى تقتل هيتك (1) السمكة الكبيرة الدويبة التى تقتل التمساح بنيل مصر لما نذكر. وفى هذا البحر سمكا يبلغ المراكب بما فيها من الركّاب والأمنعة، وفيه سمكا طيّارا، وسمكا على صورة الجمال وجوههم كوجوه البوم، وسمكا على صورة البقر كشبه الجاموس يعمل من جلودها الدرق المانعة، قال ابن الجوزى: وفيه سمك فى بطن سمك فى بطن كلّ سمكة مثلها، وفى بطن الأخرى مثلها إلى عدّة طبقات، قلت: وهذا أيضا يؤخذ بالقياس نسبة الأترجّة فى جوفها أترجّة بالديار المصريّة كثير جدّا، قال: (2) وفيه سلاحف استدارة ظهر السلحفاة عشرون ذراعا وأكثر يوجد فى جوفها ما يزيد عن ألف بيضة، وقال ابن المنادى رحمه الله وعلى هذا البحر فى الهند مدينة يقال لها مل (3) تنبت الفلفل، وعلى كلّ عنقود فى عناقيده ورقة تكنّه من المطر فإذا مضى زمان المطر ارتفعت الورقة وإذا عاد عادت. وقال المسعودى: (4) وفى مملكة المهراج الحيوان المعروف بالكركدنّ والقرن الذى فى جبهته ينشر فيجدون فيه على صوره (5) عدّة من الحيوانات ففيه شئ نظيره، وفيه شئ نظير الفيل والزراف والقرد وشئ شبيه الطاؤوس مع عدّة من الحيوانات فيصنعون فيه المناطق بالذهب وله قيمة كبيرة ويشدوها ملوك الصين والهند فى أوساطهم مع الرؤسا منهم، وعدّد المسعودى أيضا عدّة عجائب فى هذا البحر الشرقى أضربت عنها كونها فى كتابه مروج الذهب، وهو موجودا بأيدى الناس ففيه كفاية. (145) قال ابن الجوزى: وفى هذا البحر جميع المعادن خصّص بذلك، وسنذكر مملكة المهراج عند ذكرنا للجزائر إن شاء الله تعالى.

(1) هيتك: هذه، لهجة (2) قارن المسالك 61،8 (3) مل: منيبار تقويم البلدان 353، -1 (4) مروج الذهب 1/ 204 مادة 430 (5) صوره: صورته، تحريف

ذكر لمعا من المعادن التى كالخزائن

ذكر لمعا من المعادن التى كالخزائن (1) قال الهيثم بن عدىّ: المعادن كثيرة غير أنّ المشهور منها سبعمائة منها: معدن الذهب وهى عدّة معادن مفرّقة فى أقطار الأرض، وكذلك معادن الفضّة، والنحاس، والصفر، والزئبق، والرصاص، والنفط، والقار، والمرداشيح، والزرنيخ، والجصّ، والنورة، والملح، والنشادر، والأطرون، ولا يوجد الأطرون إلاّ بمصر وهو من عجائبها فإنّ له بركة ينعقد بها، ونحوه، ولا ينعقد الملح إلاّ فى السباخ، ولا الجصّ إلاّ فى الرمل يعنى فى الغالب، وجميع المعادن مفرّقة فى الأقاليم السبعة، والغالب على معادن الذهب والفضّة أن يكونا فى المغرب وجزائر الإفرنج. قلت: وسنذكر من خبر معدن الذهب الذى ببلاد التكرور عند ذكرنا قدوم ملك التكرور إلى الديار المصريّة طالبا للحجاز الشريف ممّا حدّثنا به عن حقيقة أمره إن شاء الله تعالى. قال: والغالب على الياقوت والجوهر واللآلئ أن يكون بالمشرق، والنحاس والصفر والزفت والقار ببلاد الجزيرة، والحديد بالشرق وبلاد الأرمن، قلت: والزمرّد فمعدنه المشهور بنواحى صعيد مصر فى جبل غربى النيل يضرب عروق بين صفحات ذلك الجبل فيوجد منه الكبير القدر والقليل والجيّد وهو الدبابى ومن خاصّيّته إذا نظرته الحيّات تسيل عيونها ودونه ودون الدون السلقى وهو أقلّه ثمنا، وسنذكر أيضا من خبره فصلا.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 24 آ،8

ذكر البحر الرومى وعجائبه

ذكر البحر الرومى وعجائبه (1) ذكر ابن حوقل فى كتاب الأقاليم قال: وأمّا بحر الروم (2) فإنّه يأخذ (146) من المحيط من المغرب فى الخليج الذى بين المغرب والأندلس حتى ينتهى إلى الثغور الشاميّة، ومقداره فى المسافة نحو من أربعة شهور وهو أحسن استقامة واستواء من بحر فارس، وذلك لأنّه إذا أخذت من فم هذا الخليج أدّتك ريح واحدة إلى أكثر هذا البحر، قال: وبين القلزم الذى هو لسان بحر فارس وبين بحر الروم على سمت الفرما اربع مراحل. قلت: قصده عرض المسافة من الإسكندريّة إلى القلزم فهو أكثر من ذلك، وإن قصد من دمياط فأيضا أكثر ممّا ذكر، والنهار يقطع فى مرحلتين، والمسافة بينهما خمسة أيّام بعشرة مراحل، قال ابن الجوزى: ويزعم بعض المفسّرين فى قوله تعالى: {بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ»} (3) أنّه هذا الموضع القاطع بين البحرين. وقال أبو معشر رحمه الله: بحر الرومى (4) يأخذ من خليج يخرج من البحر المحيط ويسمّى ذلك البحر نيطس، قال: وأضيق مكان فى ذلك الخليج من ساحل مدينة طنجة بالمغرب ويعرف بالزقاق عند مدينة سبتة، قال: ويبدأ البحر الرومى من مكان يقال له أصنام النحاس، ليس وراءه شئ، وعرض الزقاق ستّة أميال، وقيل إنّ هذا البحر مثل البركة، ولهذا إنّ ما بين الأندلس وبين القسطنطينيّة مائة ميل، وهذا البحر يمتدّ إلى أقصى بلاد المغرب وبلاد الفرنج، وعليه مدينة طرابلس الغرب، ثم يمتدّ إلى الإسكندريّة ودمياط والفرماء وغزّة وعسقلان ويافا

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 26 آ،3 (2) صورة الأرض 1/ 11،23 - 12،3 (3) القرآن الكريم 55/ 20؛ قارن صورة الأرض 1/ 12،3 (4) بحر الرومى: بحر الروم مرآة الزمان

وقيساريّة وحيفا وعكّة وصور وصيدا وبيروت وجبيل واطرابلس الشام، وانطرسوس وأدنة، والمصيصة وجبلة واللاذقيّة وبلد أنطاكية، ثم يمرّ على بلاد الأرمن تسيس إلى الروم إلى خليج القسطنطينيّة، وقيل طوله ستّة آلاف ميل وعرضه من المائة (147) إلى الستّمائة بحسب اختلاف الأماكن فى السعة والضيق. وفيه جزائر يأتى ذكرها، وقيل إن ذو القرنين هو الذى فتح هذا الزقاق عند مدينة سبتة لأنّ مكان البحر كان واديا عظيما فيه أمم كثيرة ومدن وحصون ومزارع وقرى وآثارها باقية فيه، وكان أهلها عصاة على الإسكندر فأقام ينذرهم أربعين سنة فلم يطيعوه فأرسل عليهم الماء من الزقاق فغرقوا. قلت: هذه رواية ضعيفة، إن كان قصدهم ذو القرنين الإسكندر اليونانى فإنّه لم تطول مدّته إلى أربعين سنة، وإن أعنوا ذو القرنين الأوّل فلعلّه. قال: ويتشعّب منه خليج طوله خمس مائة ميل ويتّصل بمدينة رومية ويسمّى أروس، وقد زعم قوم: أنّ البحر الرومى متّصل بالبحر الحبشى واحتجّوا بأنّه وصل فى الزمان القديم قوم إلى جزيرة الأندلس فى مراكب فأغاروا عليهم ووجدوا فى مراكبهم النارنجيل وهو شجر لا يكون إلاّ فى للبحر الشرقى وهو شجر يشبه المقل وليفه يعمل به مراكب البحر الشرقى لأنّ مراكب البحر الرومى مسمرة بالمسامير والبحر الشرقى كثير الحجارة <و> المغناطيس فتشدّ المراكب بليف النارنجيل، قلت: وهذا القول بعيد لما بين البحر الشرقى والغربى من المسافات والبحار والجبال. وأمّا خليج القسطنطينيّة: (1) فقد توهّم قوم أنّ الخليج المذكور إنّما يأخذ من البحر الرومى ويصبّ فى بحر باب الأبواب والأمر بالعكس لأنّ علماء الهيئة

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 26 آ، -1

ذكروا أنّ فى ناحية الشمال بحر يقال له نيطس طوله ألف ميل وعرضه ثلاثمائة ميل وهو أحد البحور السبعة ومصبّه من ناحية الشمال من بحر آخر أكبر منه، وعلى سواحله خلق عظيم من ولد يافث (148) بن نوح عليه السلام، يمتدّ إلى خليج القسطنطينيّة، وطول هذا الخليج ثلاثمائة ميل وعرضه عشرة أميال، والقسطنطينيّة إلى جانبه من ناحية الشمال، وهو خليج عسر كثير العطب عظيم الأمواج، وقال ابن المنادى: البحر المعروف بنيطس من وراء القسطنطينيّة يجئ من بحر الخزر وعرض فوهته ستّة أميال، يمرّ على القسطنطينيّة ثم يصبّ فى بحر الروم ويمرّ ببلاد الأندلس فإذا انتهى إليها صار بين جبلين ويضيق حتى يصير عرضه مقدار السهم. وأمّا بحر باب الأبواب، (1) قال علماء الهيئة: هذا البحر مستدير الشكل إلاّ أنّه إلى الطول أقرب، وطوله ثمان مائة ميل وعرضه ستّمائة ميل، وعليه الخزر والديلم وجرجان وطبرستان والترك وأمم كثيرة، وفيه التنّين، واختلفوا فيه على قولين: أحدهما: إنّه دابّة تكون فى البحر فتعظم فتؤذّى دوابّ البحر فيبعث الله تعالى عليها ريحا فيخرجها إلى وجه الماء فيتعلّق بها السحاب فيلقيها فى الأرض، والثانى: إنّها ريح سوداء تكون فى قعر البحر فتظهر إلى ظاهره ثم ترتفع إلى الجوّ وتلتحق بالسحب كالزوبعة إذا ثارت من الأرض واستدارت وثار معها الغبار فيتوهّم الناس أنّها حيّة عظيمة سوداء خرجت من البحر، والأوّل أقرب إلى الصحيح.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 26 ب،8

ذكر مبادئ البحار

ذكر مبادئ البحار (1) اختلفوا فيه على أقوال: أحدها: إنّها من الأستقصّات الأربع خلقها الله تعالى يوم خلق السموات والأرض كما خلق فى جميع الكائنات. الثانى: إنّها بقيّة طوفان قوم نوح عليه السلام، وهذا ضعيف لوجهين: الأوّل: أنّ قد كان من قبل الطوفان البحار فى المخلوقات الأرضيّة حسبما ذكرنا (149) الثانى: أنّه أجمع العلماء رضى الله عنهم على أنّ طوفان قوم نوح كان ماء أسود منتن وهذه البحار بخلاف ذلك، وزعم قوم أنّ الطوفان لم يصل الصين ولا الهند بزعم من زعم، وهذه البحار فأصولها من ثمّ، والبحر المحيط فليس فى وجوده شكّ ولا اختلف فيه اثنان. والثالث: أنّ البحار من عرق الأرض لما ينالها من حرارة الشمس. وفيه أيضا. (2) والرابع: أنّها من مياه الأرض فالملح ينحدر إلى الأماكن المنخفضة فينعقد غليظا كدرا وتختلط به الأجزاء الناريّة، فأمّا الأمياه (3) العذبة فترفع فى أيّام الشتاء إلى الجوّ فيحدث منه المطر بإذن الله عزّ وجلّ فلا تزال العين قائمة دائما، وهذا قول علماء الهيئة، وسيأتى أيضا فى آخر جزء من هذا التأريخ من بيان ذلك فصلا ذكرناه فى موضعه اللائق به. وأمّا ما ورد عن ابن عبّاس رضى الله عنه. فقد روى عكرمة عنه أنّه قال: البحر المظلم من ورائه بحر آخر يقال له الباكى، ماؤه عذب، وإنّما سمّى الباكى لأنّه يبكى من خشية الله عزّ وجلّ وليس بعده شئ، وقال علماء الهيئة: وهذه

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 26 ب، -13 (2) وفيه أيضا: ناقص من مرآة الزمان، تحريف (3) الأمياه: المياه

البحار كلّها داخلة فى الفلك لأنّه محيط بالأرض كلّها. وقال علماء الهيئة أيضا: ثم إنّ هذه البحار تنتقل بعضها على بعض وتنتقل من مكان إلى مكان على مرّ السنين والدهور فيصير موضع البحر برّا وموضع البرّ بحرا، قالوا: وعلّة ذلك جريان الماء فإنّ لموضع جريانه شبابا ولموضع انتقاله هرما وحياة وموتا ونشأة كما تكون فى الحيوان والنبات، واستشهدوا بقول أبى العلاء المعرّى (من الربع): أجبلت الأبحر فى عصرنا … وعن قليل تبحر الأجبل وسيأتى أيضا من بيان ذلك فى المكان الذى قدمنا ذكره إن شاء الله تعالى. (150) قال ابن الجوزى: وقد شاهدنا ذلك عيانا فى الأنهار العظام كالنيل والفرات ودجلة والنجف بالكوفة، فإنّه كان بحرا تأتى فيه السفن من الهند وغيرها فاستحال الماء إلى موضع آخر، قال: وكذا ببغداد فى دجلة الغور فإنّها استحالت فراسخ وأخربت قرى كثيرة وهى اليوم قد استحالت أيضا. قلت: وكذلك جرى بنيل مصر فى أماكن كثيرة بسواحله، أكل البحر عدّة ضياع وغمر غيرها، وانتقل من ذلك الجانب الغربى إلى الجانب الشرقى، والذى شاهدته أنّ كان لنا ملكا بمكان يسمّى خور ابن الصعبى وكان بينه وبين البحر نيف وخمسين دارا فأكل البحر الجميع مع عدّة بساتين وصاروا الجميع فى البرّ الغربى برّا متّصلا. وأمّا المالح بالديار المصريّة فإنّه غلب على إقليم يسمّى تنّيس كان من أكبر أقاليم الديار المصريّة، يقال: إنّ كانت عدّة قراه أربع مائة قرية وكانت مدينتها تنّيس تضاهى الإسكندريّة، وكان يضرب بحسن صناعة ما يعمل فيها من القماش المثل، فيقال كأنّه من دقّ تنّيس، فغلب عليها المالح من جهة نواحى الإسكندريّة، وهى اليوم بحيرة عظيمة يصاد منها السمك الذى

ذكر الجزائر وما فيها من العجائب والجواهر

يسمّى البورى بالديار المصريّة ويحفظ من الأموال جمل كبيرة وهو فى هذا العصر جاريا فى الخاصّ الشريف السلطانى. ذكر الجزائر وما فيها من العجائب والجواهر (1) البحر الشرقى: جزائره أبلغ من أن تحصى فنذكر ما اتّصل بنا من جزائره المشهورة ممّا ذكروه الجماعة المعنيين بحفظ أخبار العالم رحمة الله عليهم. قال علماء الأخبار من الأوائل فى كتبهم: إنّ جزائر الوقواق ستّة آلاف جزيرة. (151) منها جزيرة يستوى فيها الليل والنهار وجزيرة يقال لها جزيرة الراهب تخصى بها الخدم وملكها لا تكون إلاّ امرأة تجلس على سرير ذهب وعلى رأسها تاج ذهب مرصّع بالجواهر النفيسة وهى عريانة الجسد وعلى رأسها أربعة آلاف وصيفة كلّهنّ عراة، وقد شاهدهنّ التجّار الذين يسلكون تلك الديار. ومنها جزيرة فيتلو يركب الناس منها إلى صحار وصحار قصبة عمان، قال الجوهرى: (2) وصحار بالضمّ قصبة عمان ممّا يلى الجبل وتؤام قصبتها ممّا يلى الساحل قال: وصحار مصروف اسم رجل من عبد القيس. ومنها جزيرة سرنديب وهى ثمانون فرسخا فى ثمانين إذا مات لهم أحدا أحرقوه بالنار وإن كان ملكا تهافت خواصّه وأهله حتى يحرقون أنفسهم معه، وفى هذه الجزيرة عدّة اللوان (3) الياقوت والبلور مع سائر أنواع الطيب، ومنها جزيرة أهلها سود الألوان عراة حفاة ومأواهم رؤوس الشجر لا يفهم كلامهم يهربون من الناس.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 27 آ،3 (2) الصحاح 2/ 709 آ (3) اللوان: الوان

وجزيرة فيها أشجار تسيل منها الكافور مثل الصمغ تظلّ الشجرة منها مائة فارس وأكثر، ومنها جزيرة لهم ليات كليات الغنم وهو سود يأكلون الرجال من بنى آدم دون النساء، وجزيرة يأكلون النساء دون الرجال، ومنها جزيرة الرامى وبها البقم وعرقه ينفع من سمّ ساعة، وجزيرة فيها معدن الرصاص القلعى، وجزيرة فيها القرود كأمثال الجواميس وسنانير لها أجنحة. وفى هذه الجزيرة الكركدنّ وهو دابّة دون الفيل وفوق الجاموس عشبى يأكل الحشيش وله قرن واحد فى جبهته طوله ذراع وغلظه قبضتان فيه صورة بيضاء فى سواد كالسبح فإذا نشر القرن عرضا ظهرت الصورة إمّا (152) صورة إنسان أو دابّة أو طائر أو سمكة ونحو ذلك، وقد تقدّم القول فى ذلك. قلت: قد شاهدت هذا الدابّ بالديار المصريّة فى أيّام مولانا السلطان الشهيد الملك الأشرف صلاح الدنيا والذين خليل ابن مولانا السلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون بعثه صاحب اليمن فى جملة المقرّر عليه للأبواب العالية وهو على هذه الصفة المذكورة لكن لم أرى ما فى قرنه كونه كان حىّ يساق بين الحيوانداريّة بالسلاسل، قلت: كان ذلك فى عشر التسعين والستمائة من الهجرة النبويّة-على صاحبها أفضل الصلاة والسلام-، وكنت حينئذ طفلا أوّل ركوبى الفرس واستقلالى به فلم استوعب جميع صفته لصغر السن. قال ابن الجوزى رحمه الله: وفى هذه الجزيرة تكون ملوكها مخرّمين الآذان، وقال فى جغرافيا: وحصا هذه الجزيرة الياقوت والمرجان وأصناف الجواهر، وبين هذه الجزيرة والجزيرة التى يكون فيها الملك ميل وأقلّ من ميل، وكذلك بينهما وبين جزائر الوقواق، وعندهم النارنجيل لا تفقد من النخل غير الثمر وقيل هو المقل، قالوا: والنارنجيل فيه خاصّيّة وذلك أنّ بيوت الأموال التى

لتلك الملكة إنّما هو الودع فإذا قلّ قطعوا من سعف النارنجيل بخوصه فيطرحونه على وجه الماء فيخرج من الماء حيوان فيتراكب فيتولّد منه الودع فيطرحونه على ساحل البحر ويلقون عليه الرمل فتحرق الشمس ما فيه من الحيوان ويبقى الودع وحده فيملأون منه بيوت الأموال وهو معاملتهم فيما بينهم. وقال النوبختى رحمه الله: وآخر هذه الجزائر جزيرة سرنديب وبين هذه الجزيرة وبينها خليج فيه حيّات (153) تبلع المراكب، قال: وبعد سرنديب ممّا يلى المشرق ألف جزيرة فى ألف فرسخ فيها ممالك ومعادن، ثم تليها جزائر فنصورة وهى مملكة المهراج ولا تضبط جنوده لسعة مملكته، وفى مملكته خمسون ألف فيل يقاتل عليها، ومعنى المهراج ملك الملوك، وعنده الكافور الفنصورى، وقيل هو عيون فى الجزيرة. وفيها جزيرة يسمع منها صوت الطبول والملاهى والرقص دائما والتصفيق، واسم هذه الجزيرة برطايل، (1) يقال إنّ الدجّال بها. وفى مملكة المهراج جزيرة دورها أربعمائة فرسخ عمائر متّصلة، وفيها البزاة والصقور والشواهين، وفيها جزيرة فيها عين يقال لها ولمائها ماء العقل، من شرب منه ازداد عقله وفهمه، وجزيرة يقال لها سقطرة لا يوجد الصبر السقطرى إلاّ بها. وذكر صاحب المسالك والممالك: (2) أنّه ليس وراء الصين مسلك إلاّ رمال تجرى فيها السفن وبعدها مدينة قوم موسى عليه السلام يقضون بالحقّ وبه يعدلون. وقد ذكر أبو إسحاق الثعلبى رحمه الله عن السدّى رحمه الله قال: هم قوم بينكم وبينهم نهر من شهد، وحكى أيضا عن ابن جريج قال: لما قتل بنو إسرائيل

(1) برطايل: قارن المسالك 68؛ مروج الذهب 1/ 183 مادة 378 (2) المسالك 178،11

أبناءهم وكفروا وكانوا اثنى عشر سبطا تبرّأ منهم سبط ممّا صنعوا واعتذروا إلى الله عزّ وجلّ وسألوه أن يفرق بينهم ففتح لهم نفقا فى الأرض فساروا فيه سنة ونصف حتى خرجوا من وراء الصين فهم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا، وحكى أيضا عن الربيع والضحاك وعطاء رحمة الله عليهم ممّا رواه عنهم الكلبى رحمه الله، قال: هم قوم خلف الصين على نهر يجرى الرمل فيه يسمّى نهر أوداف، وليس لأحد منهم مال (154) دون صاحبه يمطرون بالليل ويصبحون بالنهار ويزرعون لا يصل منّا إليهم أحد ولا منهم إلينا أحد وهم قوم على الحقّ ليس بينهم محارم. قال الكلبى: وذكر أنّ جبرائيل عليه السلام مرّ بالنبىّ صلى الله عليه وسلم عليهم ليلة الإسراء فسلّم عليهم فقال جبرائيل: هل تعرفون من تكلّمون؟ قالوا: اللهم لا! قال: هذا محمّد صلى الله عليه وسلم النبىّ الأمىّ فآمنوا به! قالوا: يا رسول الله إنّ موسى أوصانا وقال: من أدرك منكم أحمد فليقره منّى السلام، ثم أمرهم بالصلاة والزكاة وكانوا يسبتون فأمرهم بترك ذلك وإقامة الجمعة ففعلوا. ومن رواية المسعودى قال: (1) إنّ بهذا البحر الشرقى جزائر الواق (2) وهى حمل شجر عظام معلّقة بشعورها لها ثدى وفروج شبه فروج النساء لا يزال يصحن واق واق فإن قطعت إحداهن سقطت ميتة لا تنطق. وقال: إنّ من جاوزهن وقع إلى ما هو أعظم من خلقهن وأحسن إعجازا وبطونا وفروجا ووجوعا فإن قطعت أقامت حيية اليوم واليومين وربّما جامعها من يقطعها وهى كأحسن ما تكون النساء وأطيب رائحة وألذّ مباضعة، وهذه الأرض أطيب أرض تكون وهى منبت الطيب، ويوجد فيها ثمار لا تعرف

(1) أخبار الزمان 16، -3 (2) الواق: الواق واق أخبار الزمان

أحلا من العسل وألذّ رائحة من الكافور وليس بهذه الأرض إنس، وإنّما حكى ذلك عن من يتوه فى البحار من التجّار وتسوقهم الأقدار إلى تلك الديار. وقال: إنّ بتلك الديار خلق على صورة النساء يقال لها بنات الماء كالنساء الحسان ذوات شعور سبطة لها فروج عظام الخلق وثدى كالنهود وبطون حسان لا يغادر الإنسان أنّها كالنساء البديعات فى الحسن الفائقات فى الجمال وأحسن منظرا وأرطب جسما وأرقّ بشرة وأنعم لمسا كلامها قهقهة وضحكا كأعذب ما يكون من يسمعه لذّة. قال المسعودى: (155) (1) حكى لى بعض ربانين المراكب ممّن لا أشكّ فى قوله لدينه وسمته، قال: إنّ الريح ألقهم فى بعض السنين إلى جزيرة فيها شجر وأنهار عذبة فسمعوا ضوضاه (2) وضحكا لذيذا فكمنوا حتى صادوا من تلك البنات اثنتين وأوثقوهما ربطا وأقامتا مع أولئك الذين صاداهما برهة وعادا يقعان عليهما فى كلّ وقت ويجدان لهما لذة عجيبة، وإنّ أحدهما وثق بصاحبته ورقّ لها فحلّ وثاقها فجرت نفسها فى البحر وتركته ولم يرها بعد ذلك وبقيت الأخرى عند صاحبها مستوثقا منها بالشدّ ووصل بها إلى بلده، ثم أقامت عنده مدّة طويلد وفهمت الكلام وعادت تتكلّم كالكلام المفهوم وأحبّها صاحبها حبّا شديدا حتى لا عاد يطيق الصبر عنها وعلقت منه وولدت له مولود لم ينظر أحسن منه ولا اللطف (3) شكلا وصار له من العمر حولا فعاود الرجل السفر فى البحر واستصحبها معه وهو قد وثق بها لطول مكثها عنده ولأجل ولدها، فلمّا كان بالمكان الذى يقرب من المكان الذى أخذها منه لم يشعر بها إلاّ وقد استنشقت نسيم ذلك المكان وضربت بعينها نحو البحر واضطربت واعتقلت ولدها ونهظت (4) كالبرق الخاطف

(1) أخبار الزمان 17،8 (2) ضوضاه: ضوضاء (3) اللطف: ألطف (4) نهظت: نهضت

ثم جرت بنفسها فى البحر وتركته وتركت ولدها معها على كتفها محتطنته (1) وغابت فى الماء فلمّا رآها صاحبها وقد فعلت ما فعلت كادت نفسه تخرج فرقا وأراد أن يرمى بنفسه خلفها فى البحر لولا تعلّق أصحابه التجّار به ورفقته ولاموه وعنفوه، وأقام ثلاثة أيّام لا يستطعم بطعام، فلمّا كان ثالث يوم ظهرت له وألقت إليه صدفا فيه درّ نفيس وأشارت إليه بالسلام فصرخ وبكا فلم تلتفت لذلك وغابت فى الماء فلم يرها بعده. قلت: وقرأت فى بعض المجاميع هذه الحكاية مسندة، وفيها أنّها تركت ولدها ولم تستصحبه معها (156) وأنّ ذلك الولد عاش حتى توفّى والده وورثه وعاد تاجرا كبيرا يعرف بين الناس بمحمّد البحرى وله عقب بقشمير الهند والله أعلم. وأمّا جزائر بحر باب الأبواب (2) ففيه جزائر كثيرة فيها بزاة بيض وهى أفخر البزاة، وهذه الجزيرة قريبة من جرجان، والبزاة الشهب هناك كبيرة لكثرة الثلج بها، وأوّل من لعب بالبزاة والشواهين والصقور من العرب الحارث بن معاوية الكندى، ومن ملوك قسطنطينيّة الملك قسطنطين بن مهلائى، (3) ومن ملوك الفرس يزدجرد بن بهرام، والله أعلم. وأمّا جزائر البحر الرومى، (4) قال النوبختى: هى جزائر كثيرة أعظمها جزيرة الأندلس، وسيأتى ذكرها وحدودها ومساحتها وملوكها من أوّل وقت إلى آخره إن شاء الله تعالى فى الجزء المختصّ بذكر الأمويّين المسمّى «بالدرّة السميّة فى أخبار ملوك بنى أميّة» وهو الجزء الرابع من هذا التاريخ.

(1) محتطنته: محتضنته (2) مأخوذ من مرآة الزمان 27 ب، -6 (3) مهلائى: هلائى (4) مأخوذ من مرآة الزمان 27 ب، -2

قال النوبختى: وجزيرة الأندلس مجاورة لأمم كثيرة من الفرنج والجلالقة وغيرهم، وقد ذكرها الحكيم بن زهر المغربى، وقال: فيها معادن الذهب والفضّة والزئبق والنحاس والصفر وجميع ما يكون من المعادن، وفيها الكافور والمسك والعنبر وكذلك معادن الياقوت والجوهر، وفى أرضها أيضا غابه تنبت الذهب، وفيها جميع ما يوجد فى بلاد الهند والصين من الطيب ونحوه، وذكرها ابن حوقل (1) فى كتاب الأقاليم وقال: وأمّا الأندلس فهى جزيرة كبيرة فيها عبير وغامر وطولها دون الشهر وعرضها نيف وعشرون يوما-أو قال مرحلة-فيها المياه الجارية والأشجار المثمرة، وتنتهى إلى الجلالقة ومدينتهم يقال لها سمورة ومنها الفرو والسمور، وتنتهى إلى البحر المحيط، وذكر ما فيها وما-حولها من الأمم، قال: ومن أعظم مدائنها قرطبة، وكانت مقرّ الخلائف (157) من بنى أميّة، وبها جامع بنى على مثال جامع بنى أميّة الذى بدمشق، وهى بمثل بغداد ودمشق ومصر فى اجتماع العلماء بها، وسيأتى من خبرها ما يكون شافيا كافيا إن شاء الله تعالى. ومن البحر الرومى جزيرة صقلّيّة وكانت محلّ مملكة ابن عباد الآتى ذكره فى تأريخه، وبهذه الجزيرة حصون وقلاع وآثار الإسلام باقية الى الآن، وهى الآن فى أيدى الفرنج أعادها <الله> إلى أيدى الإسلام موائده الجميلة، وكان ملكها الإنبرور وحاشيّته كلّهم مسلمين، وبين الإسكندريّة وبينها إذا طابت الريح ثمانية عشرة ليلة، وقد ذكرها ابن حوقل فقال: (2) وأمّا جزيرة صقلّيّة فطولها سبعة أيّام وعرضها أربعة أيّام والغالب عليها الجبال ولقلاع والحصون ومدينتها تسمّى بلوم، وكان بها المسجد الأكبر، وكان بيعة للروم قديما فلمّا

(1) صورة الأرض 1/ 108 (2) قارن صورة الأرض 1/ 118

فتحها الله تعالى على المسلمين فى ذلك الحين الآتى ذكره جعلوا هذه البيعة مسجدا عظيما، وفيها هيكل عظيم يزعم أرباب المنطق أنّ أرسطاطاليس حكيم اليونان معلّق فى خشبة فى هذا الهيكل، وكانت النصارى تعظّمه وتستسقى به لما رأوا عليه من (1) اليونان. ومن البحر الرومى جزيرة قبرص ويقال قبرس، ودورها عشرة أيّام فى مثلها وفيها المعادن المنوعة مثل اللادن والزاج وغيرهما، وبين اللاذقيّة وبينها فى الريح الطيّب يوم وليلة، وبينها وبين الإسكندريّة ثلاثة أيّام. وفى البحر الرومى من الجزائر عدّة كثيرة مثل جنوا وفيها الزعفران الجنوى، وإقريطس وفيها الببنج الإفريطسى مع شئ كثير أضربت عنها للاختصار، وفى هذه الجزائر الصقور والسناقر والشواهين والعقبان، وحكى النوبختى، قال: أهدى ملك الروم إلى كسرى عقابا وقال: إنّه يصيد أكثر من البازى فاستشار وزراءه فى قبوله فقالوا: لا حاجة لك به فإنّ خيره لا يقوم بشرّه (158) فخالفهم وأرسله على غزال فأخذه فأعجب به وسفّه آراء وزرائه، ثم جوّعه أيّاما ليصيد به فوثب على ولد صغير لكسرى فقتله، فقال كسرى: وترنا قيصر لأنّه كان قد غزا بلاده فقتل وسبا وكتم كسرى أمر العقاب ثم أهدى لقيصر نمرا وقال له إنّه ليصيد السبع فوثب يوما على ولد لقيصر فقتله فقال قيصر: قد صدنا كسرى قبل أن يصيدنا. قلت: وهذان الاسمان كسرى وقيصر لقبان، وسنذكر السبب فى تلقيبهما هذان اللقبان موضع ذكرهما إن شاء الله، وذلك: الجزء الثانى التالى لهذا الجزء، وقد ذكرنا أنّ بهذا البحر الرومى عدّة جزائر كثيرة أضربنا عن تعدادها

(1) من: ناقص فى مرآة الزمان؛ تحريف

ذكر الجزر والمد وما قيل فى ذلك

طلبا للإيجاز، وفيها أمم كثيرة من الفرنج بنى الأصفر الآتى ذكره فى تأريخه بحول الله وقوّته وبركة إلهامه. (1) ذكر الجزر والمدّ وما قيل فى ذلك (2) قال الجوهرى: (3) المدّ جرى الماء والجزر رجوعه، وقال علماء الهيئة: البحار ثلاثة أصناف، منها ما يكون فيه المدّ والجزر ويظهر فيه ظهورا بيّنا كالبحر الحبشى عند البصرة، وهذا مشاهد محسوس، والثانى يظهر فيه فى وقت دون وقت كما فى البحر الأعظم فإنّه يمدّ ستّة أشهر ويجزر ستّة أشهر فيقلّ الماء فى موضع ويكثر فى موضع، والثالث: لا يظهر فيه المدّ أصلا كغير الحبشى. واختلفوا فى علّة المدّ والجزر، أمّا علماء الهيئة فقد اختلفوا أيضا فقال بعضهم: علّته القمر لأنّه مجانس لعلّة الماء وهو بسخنه فينبسط، ثم مثلوه بقمر فيه ماء مقدار نصفها فإذا غلى على النار ارتفع الغليان حتى يفور ويصعد وإذا برد الماء نقص لأنّ من شرط الحرارة أن تبسط الأجسام ومن شرط البرودة أن تنقصها فإذا امتلأ القمر حميت أرض البحر فانبسط الماء وارتفع، وإذا نقص القمر نقص الماء. قلت: لو كان الأمر كما زعموا لكان المدّ لا يكون (159) إلاّ فى أيّام زيادة القمر والجزر فى أيّام نقصانه، وهذا الجزر والمدّ متّصل بالبصرة وغيرها فى طول أيّام الشهر نسبة واحدة على ما ذكر، والله أعلم. وقال بعضهم: علّته الأبخرة المتولّدة فى باطن الأرض فإنّها لا تزال تتولّد حتّى تكثر وتكثف فيرد ماء البحر بكثافتها فإذا انقطعت المودّ بقلّة الكثافة

(1) اللهامه: إلهامه (2) مأخوذ من مرآة الزمان 29 آ، (3) الصحاح 2/ 613 ب

عاد ماء البحر إلى قعره، وهذا أيضا فيه <نظر> فإنّه لو كان كما ذكر كان يكون فى وقت دون وقت. والمختار عندى (1) أنّ الجزر والمدّ من آيات الله عزّ وجلّ وأنّه من آثار قدرته فى العالم لأنّ كلّما لا يوجد له قياس فى الوجود فهو فعل إلاهى يستدلّ به على عظمة البارئ سبحانه وتعالى، وليس للمدّ والجزر قياس فى العالم. وأمّا ما قال أهل الأثر رضى الله عنهم فى ذلك فروى عن الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله قال: (2) حدّثنا معتمر بن سليمان عن صباح بن أشرين، قال: سئل ابن عبّاس عن المدّ والجزر فقال: قد وكّل الله بقاموس البحر ملكا فإذا وضع رجله فيه فاص الماء وإذا رفعها غاض، وقد ذكره الجوهرى فقال: (3) وقاموس البحر وسطه ومعظمه، قال: وفى حديث المدّ والجزر قال: ملك موكّل بقاموس البحر كلّما وضع رجله فيه فاض وإذا رفعها غاض، وروى مجاهد عن ابن عبّاس قال: الملك موكّل بالبحار يضع عقبه فى بحر الصين فيكون منه المدّ ثم يرفع قدمه فيكون الجزر، قال مجاهد رحمه الله: وهذا ظاهر محسوس فإنّ الإنسان لو وضع قدمه فى إناء فيه ماء فإنّ الماء يرتفع إلى رأس الإناء فإذا رفعها رجع الماء إلى حدّه، فإن قيل: فيلزم من هذا أن يكون المدّ والجزر فى جميع البحار، قلنا: قد ذهب قوم إلى هذا وإنّما لم يظهر فى غير بحر البصرة لوجهين: أحدهما: لبعد المسافة واتساع البحار ومن لجّج من المسافرين فى البحار يذكر (160) أنّه شاهده، والوجه الثانى: فلأنّ مكان المدّ والجزر فى البصرة تحت خطّ الاستواء واعتدال الليل والنهار وعليه الكواكب الثابتة على ما ذكر الشيخ جمال الدين

(1) عندى: سبط بن الجوزى! (2) مسند أحمد بن حنبل 5/ 382 (3) الصحاح 2/ 963 ب

ابن الجوزى رحمه الله من ذلك، قال: وهذا المعنى لا يوجد فى غيره، وقد رأيت أيضا الشيخ جمال الدين ذكر ما ذكره العبد من الردّ على من قال وعلّل بزيادة القمر ونقصانه أنّه غير صحيح لأنّه لو كان كذلك لتعلّق بزمان مخصوص بالمعنى الذى ذكرناه. وكذلك قال: وأمّا من قال إنّه من الأبخرة فباطل أيضا لأنّه يحتاج إلى زمان طويل يجتمع فيه، وهذا يوجد فى كلّ يوم وليلة، فرأيت من قول العبد ما وقع على موافقة قول الشيخ رحمه الله كما قال الحريرى رحمه الله: (1) فتواردت الخواطر كما يقع الحافر على الحافر. قلت: (2) وطالعت فى تأريخه رحمه الله فصلا يتضمّن ذكر المسك والعنبر بمثل ما ذكرناه وزاد عليه: قال: قال أحمد بن حنبل: حدّثنا سفيان عن الزهرى عن عبيد الله بن عبد الله بن عبّاس عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسك أطيب الطيب، انفرد بإخراجه مسلم، (3) وثبت عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنّه كان يحبّ الطيب. وذكرت العلماء بأخبار الهند والصين: أنّ المسك من غزلان الصين وأن التبّتى أذكى المسك للمراعى، وعلامة غزلان التبّت أنّ لها أنياب بارزة كأنياب الفيل من الفكّين نحو شبر فينصب لها الأشراك وترمى بالسهام فيوجد فى صراره (4) المسك وهو دم مجتمع فى نافجتها فإذا أخذت قبل أن تنضحه الطبيعة وقطع منها وجد فيه زهوكة فتبقى زمانا حتى تذهب عنه تلك الزهوكة، وأمّا المسك الخالص فإنّ الغزال يأتى وقد استحكم فى سرّته المسك ودفعته الطبيعة إلى نافجته وهى

(1) مقامات الحريرى 1/ 266 (2) مأخوذ من مرآة الزمان 28 آ، -2 (3) صحيح مسلم 7/ 47، ألفاظ؛ المعجم المفهرس 4/ 65 (4) صرارها: سررعا مرآة الزمان

سرّته وقد قلق منها فيحتكّ بالصخر فتفتح وتسيل على رؤس الأحجار المحدّدة كما يسيل الدمّل وينفجر إذا نضج فيفرع ما فى نافجته، (161) والنافجة بالفارسيّة السرّة، فلمّا يخرج الصيّادون وقد أعدّوا له الأوعية الصينى فيأخذونه من على الصخور ويجمعونه ويودعونه الأوعية وذاك أفضل المسك وأطيبه ولا يكون له شهوكة (1) ويهدونه للملوك. قال: وأمّا لعنبر فقد اختلفوا فيه على أقوال: أحدها: أنّه عين فى البحر الحبشى، قاله مجاهد، الثانى: أنّه خثا دابّة من دوابّ البحر، قاله الهيثم بن عدى، الثالث: أنّه حشيش ينبت فى جزائر البحر عند الوقواق فتبلعه دوابّ البحر ثم تلقيه، قاله وهب، الرابع: أنّ البحر يهيج فيقذف بالعنبر من قعره كأمثال الجبال فيبلعه الحيوان المعروف بالأوال فإذا حصل فى جوفه مات فيطفو على وجه الماء فيجذبونه بالكلاليب ويأخذونه، فما وجد فى ظهر الحوت من العنبر كان أجود ممّا يوجد فى بطنه وأقلّ شهوكة، قاله مقاتل. واختلفوا الفقهاء فى وجوب الخمس فى العنبر، فقال علىّ عليه السلام وابن عبّاس رضى الله عنه وابن مسعود: لا خمس فيه، وبه أخذ أبو يوسف ومالك والشافعى وأحمد لما روى أنّ عمر رضى الله عنه سأل عنه فقال: فيه الخمس وفى كلّ ما يستخرج من البحر. ولنا إجماع من سمّينا من الصحابة ولو سلم كان محمولا على ما وجد فى خزائن الكفّار وبه نقول. وقيل إنّ أسود العنبر ما وقع ببحر فارس قريبا من رأس الجمجمة عند بلاد الشحر باليمن، وكذلك يسمّى عنبر شحرى لخاصّيّة تلك البقعة فإنّ هناك قوم من قضاعة يجعلون الشين المعجمة كافا فيقولون: (2) قلت لش، أىّ قلت لك، ولهم

(1) شهوكة: زهوكة مرآة الزمان (2) قارن مروج الذهب 1/ 178 مادة 364

ذكر العيون والأنهار وما ورد فيها من الأخبار

بحب سوابق معدّة على ساحل البحر لهذا، فإذا قذف البحر العنبر أخذوه. وقيل إنّما سمّى العنبر باسم الدابّة التى توجد فيه. قال: وأمّا العود، قال الجوهرى: (1) عود قمارى بكسر القاف منسوب إلى موضع ببلاد الهند، قال ابن الجوزى: قال جدّى فى المنتظم: قمارى بفتح القاف منسوب (162) إلى قمارا مدينة باليمن، وأمّا الندّ، قال الجوهرى: (2) الندّ من الطيب ليس بعربى، قلت: والطيب وأصنافه فيه كتاب مختصّا بذكره يجمع سائر أنواعه. ذكر العيون والأنهار وما ورد فيها من الأخبار (3) ذكر الجوهرى قال: أمّا النهر فسمّى نهرا لاتّساعه وفيه لغتان: نهر ونهر بفتح الهاء، واختلفوا فى بدء الأنهار، فروى عطاء عن ابن عبّاس رضى الله عنه أنّ جميع المياه من تحت صخرة بيت المقدّس ومن هناك تتفرّق فى الدنيا، وقد ذكر ابن الجوزى رحمه الله (4) حديثا مرفوعا فى هذا المعنى فى فضائل القدس فقال: أنبأنا أبو المعمر الأنصارى إلى أبى هريرة عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: الأنهار كلّها والسحاب والبحار والرياح من تحت صخرة بيت المقدّس، روى هذا الحديث الشيخ جمال الدين بن الجوزى عن جدّه، ثم قال: والموقوف فى هذا على ابن عبّاس أصحّ. وروى مجاهد عن ابن عبّاس: أنّ جميع الأنهار من البحر الذى خلف البحر المحيط المسمّى بالباكى وماؤه عذب وقد تقدّم ذكره، وروى العوفى عن ابن عبّاس:

(1) الصحاح 2/ 799 آ (2) الصحاح 1/ 541 ب (3) مأخوذ من مرآة الزمان 29 ب،1 (4) الصحاح 2/ 840 آ

أنّ العيون فى الأرض كالعروق فى البدن، وذكر مقاتل أنّ العيون تتولّد من الأبخرة فتجتمع فى الأماكن المنخفضة فإذا انتثرت فى أعماق الأرض طلبت التنفّس فتنشقّ الأرض فتنفجر العيون، قال: والأرض على الماء مثل السباك فإذا أراد الله أن يفجر بعض العيون فى أماكن مخصوصة نظرا لعباده تنفّست الأرض فانفجرت. ومذهب الأوائل: أنّ الماء من الأستقصّات الأربع، فنبتدئ الآن بذكر الأنهار الكبار التى جائز عليها لفظ البحار كالنيل والفرات ودجلة وسيحون وجيحون ونحوها ومطارحها ومقدار جريانها على الأرض، وقد ذكر النيل والفرات فى الصحيح، فقال أحمد بن حنبل (1) بإسناده إلى أنس بن مالك رضى الله عنه عن مالك بن صعصعة حدّثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رفعت لى (163) سدرة المنتهى وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران فقلت: يا جبريل ما هذا؟ فقال: أمّا الباطنان فنهران فى الجنّة وأمّا الظاهران فالنيل والفرات، أخرجاه فى الصحيحين، وقد ذكر سيحان وجيحان فى الصحيح أيضا، فقال أحمد بن حنبل: (2) حدّثنا عبد الرزّاق عن همام بن منبّه عن أبى صالح عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيحان وجيحان والنيل والفرات كلّ من أنهار الجنّة، وفى رواية: فجرت أربعة أنهار، فجرت من الجنّة: الفرات والنيل وسيحان وجيحان، انفرد بإخراجه مسلم.

(1) المعجم المفهرس 1/ 191؛ صحيح البخارى 2/ 211، بدؤ الخلق، باب 6 (2) المعجم المفهرس 7/ 8؛ مسند أحمد بن حنبل 2/ 289

ذكر ما ورد من الأثر من كلام على عليه السلام

ذكر ما ورد من الأثر من كلام علىّ عليه السلام من ذلك ما أجاب به الأسقف عن ما سأله عنه من جملة مسائل فقال: يابن عمّ محمّد! فأخبرنى عن أفضل الجبال، وعن أفضل الأنهار، وعن أفضل العيون فقال: أفضل الجبال الجودى، وعرفات، ولبنان، وحراء، والطور، وصخرة بيت المقدس، وأفضل الأنهار أربعة: سيحون، وجيحون، والفرات. والنيل، وأفضل العيون أربعة: عين الفلوس وهى بيسان، وعين سلوان وهى بيت المقدّس، وعين البقرة وهى بعكة، وعين زمزم وهى ببيت الله الحرام مكّة، فقال له: صدقت! فبقى لى ثلاثون مسألة فإن أجبتنى عنها كسرت هذا الصليب وقطعت هذا الزنار وتركت دينى واتبعت دينك وشهدت بما تشهد به، فقال له: قل ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلى العظيم! قال: أسألك عن طشت دائرة ومائدة منصوبة وعليها جواهر كبار وصغار وقد وكل بها طائر يلتقطها إلى يوم القيامة، وأخبرنى عن أربعة مياه مختلفة عنصرها واحد، وأخبرنى عن شئ خلقه الله تعالى وسأل عنه، وشئ خلقه واشتراه، وشئ خلقه واستعظمه، وعن شئ خلقه واستنكره، وأخبرنى عن خمسة أغصان ثلاثة منها فى (164) الظلّ واثنان فى الشمس، وأخبرنى عن شئ لم تطلع الشمس عليه إلّى (1) مرّة واحدة ولا تعود تطلع عليه، وأخبرنى عن شئ تنفّس وما له روح، وعن قبر مشى بصاحبه، وعن خمسة خرجوا من الجنّة، وعن شئ أوحى الله إليه لا هو من الإنس ولا هو من الجنّ، وعن شئ أقصى (2) من الحجر وأضعف من الهشيم، وأخبرنى ما الطمّ، وما الرمّ، وما النقير، وما الفتيل، وما القطير، وأخبرنى أين يكون مستقرّ الليل إذا أقبل النهار، وأين يكون مستقرّ النهار

(1) إلى: إلا (2) أقصى: أقسى

إذا أقبل الليل، وأخبرنى عن خمسة فيهن روح ولم يركضوا فى رحم، وعن شئ عرج إلى السماء ولم ينزل منها، وعن شئ نزل من السماء ولم يعرج إليها، وعن شئ مات وما بلى، وشئ بلى وما مات، وأخبرنى عن شئ خلق من الماء، وشئ حفظ فى الماء، وشئ هلك من الماء، وعن شئ خلق من الريح، وشئ حفظ فى الريح، وشئ هلك من الريح، وعن شئ خلق من الحجر، وشئ حفظ فى الحجر، وشئ هلك من الحجر، وعن شئ خلق من النار، وشئ حفظ فى النار، وشئ هلك فى النار، وعن شئ خلق من الخشب، وشئ حفظ فى الخشب، وشئ هلك فى الخشب، وأخبرنى عن ربّك ما سلطانه وما قدرته وما عظمته وأين مسكنه، وأخبرنى ما العاصفات، وما الجاريات، وما الحاملات، وما الفارقات، وما المدبرات؟ الجواب قال: فتبسّم الإمام عليه السلام وقال: الطشت الدائرة: فهو جبل قاف المحيط بالدنيا، والمائدة المنصوبة: الدنيا، والجواهر التى عليها كبار وصغار: الخلائق، والطائر: ملك الموت فلا الخلائق تفنى ولا ملك الموت يشبع إلى يوم القيامة، والأربعة مياه التى من عنصر واحد وهى مختلفة: فماء الفم عذب، وماء الأذن (165) ستن وماء العين مالح، وماء الألف مرّ. وأمّا الشئ الذى خلقه وسأل عنه فعصا موسى عليه السلام، قال الله تعالى: {وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى»} (1)، والشئ الذى خلقه واشتراه فأنفس المؤمنين، قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ اِشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْاالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ»} (2)، والشئ الذى خلقه واستعظمه كيد مكر النساء لقوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ»} (3)

(1) القرآن الكريم 20/ 17 (2) القرآن الكريم 9/ 111 (3) القرآن الكريم 12/ 28

والشئ الذى خلقه واستنكره صوت الحمير لقوله تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْااتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ»} (1)، والخمسة أغصان ثلاثة فى الظلّ واثنان فى الشمس: أوقات الصلوات الخمس، والشئ الذى لم تطلع عليه الشمس غير مرّة واحدة ثم لم تعود تطلع عليه مرضع انفراق البحر لموسى عليه السلام مع بنى إسرائيل، والشئ الذى تنفّس بلا روح: الصبح لقوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ»} (2)، والقبر الذى مشى بصاحبه حوت يونس عليه السلام لما أبلعه ومشى به فكان بمنزلة القبر له، والخمسة الذين خرجوا من الجنّة فآدم وحواء وإبليس والطاؤوس والحيّة، والذى أوحى إليه لا من الإنس ولا من الجنّ فالنحل لقوله تعالى: {وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ»} (3)، والشئ الذى أقسى من الحجر وأضعف من الهشيم فقلوب اليهود لقوله تعالى: {لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ»} (4)، الآية، وأمّا الطمّ فالتراب، والرمّ فهو مجرى السيل، والنقير فهو فشر فى باطن التمرة، والفتيل شقّ النوى، والقطمير قمع التمرة. وأمّا مستقرّ الليل إذا أقبل النهار ففى سمير والنهار إذا أقبل الليل ففى سامر، ولا الليل يعلم مستقرّ النهار ولا النهار يعلم مستقرّ الليل، والخمسة الذين لم يركضون فى رحم وفيهم الروح: فآدم وحواء وعصاة موسى، وكبش إسماعيل، وناقة صالح عليهم السلام، وأمّا الشئ الذى عرج إلى السماء ولم ينزل فإدريس عليه السلام، والذى نزل من السماء ولم يعرج إليها فإبليس. وأمّا الشئ الذى مات وما بلى (166) فالأنبياء صلوات الله عليهم، وأمّا الشئ الذى خلق من الماء فهو الخلق، وأمّا الشئ الذى حفظ فى الماء فيونس عليه السلام، والذى هلك من الماء فقوم نوح عليه السلام.

(1) القرآن الكريم 31/ 29 (2) القرآن الكريم 81/ 18 (3) القرآن الكريم 16/ 68 (4) القرآن الكريم 2/ 74

وأمّا الشئ الذى خلق من الريح فعيسى عليه السلام، والشى الذى حفظ فى الريح فسليمان عليه السلام، والذى هلك من الريح فقوم عاد، وأمّا الشئ الذى خلق من الحجر فناقة صالح عليه السلام، والشئ الذى حفظ فى الحجر فالنبى صلى الله عليه وسلم، والذى هلك من الحجر فأصحاب الفيل. وأمّا الشئ الذى خلق من النار فإبليس والجانّ، والشئ الذى حفظ فى النار فإبراهيم عليه السلام، والذى هلك فى النار فقربان هابيل ابن آدم عليه السلام. وأمّا الشئ الذى خلق من الخشب فعصاة موسى عليه السلام، والشئ الذى حفظ فى الخشب فنوح والذين آمنوا معه فى السفينة، والذى هلك فى الخشب فزكريّا عليه السلام. وأمّا سلطان ربّى فهو الكبير الأعلى وقدرته الملكوت، وعظمته الجبروت، وأمّا العاصفات فهى الرياح الأربع، والجاريات فهى السفن، والحاملات فالسحب، والفارقات فهى الكتب الأربع: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، والمدبّرات فهم الملائكة الأربع جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، فجبرائيل أمين الله على وحيه، وميكائيل فهو موكّل بالسحب، وإسرافيل فهو موكّل بالنفخة فى الصور، وعزرائيل موكّل بأرواح الخلق. قال، فقال الأسقف: صدقت يابن عمّ محمّد! فمن أعظم الملائكة خلقا؟ قال: إسرافيل، قال: وما خلق إسرافيل؟ قال: هو ملك فى السماء السابعة تحت قائمة من قوائم العرش واللوح بين عينيه والقلم وراء شحمة أذنه وسعة ما بين منكبيه مسيرة خمس مائة عام ورأسه تحت العرش ورجلاه فى تخوم الأرضين السابعة (1) نصفه من نار

(1) السابعة: السبعة، تحريف

ذكر النيل وما ورد فيه من الأقوال

ونصفه من ثلج فلا النار تذيب الثلج ولا الثلج يطفئ النار، وهو يقول: اللهم كما ألّفت بين بارد وحارّ ألّف (167) بين قلوب عبادك المؤمنين. قال: فآمن الأسقف وأسلم وحسن إسلامه، قلت: إنّما ذكرت هذا الأثر هاهنا لما فيه من إكمال الفائدة وتتمّة ما ورد من كلام الإمام علىّ عليه السلام فى أفضل الأنهار، فلنعود إلى ما كنّا فيه. ذكر النيل وما ورد فيه من الأقوال (1) قال الجوهرى رحمه الله: (2) النيل فيض مصر، وأجمعوا على أن مبتدأه من جبل القمر، وذكره فى جغرافيا وصوّره وأنّه ينبع من اثنى عشر عينا وأنّ العيون تصبّ فى بحيرة مثل البطائح خلف خطّ الاستواء يجتمع فيه الماء ويجرى على رمال هناك وبين جبال ثم يخرق أرض السودان ثم يصبّ فى بحر الزنج وفى هذا البحر جزيرة قنبلوا وهى جزيرة عامرة وفيها قوم مسلمون لغتهم زنجيّة غلبوا على أهل هذه الجزيرة عند انقراض ملك بنى أميّة وابتداء الدولة العبّاسيّة لما نذكر من ذلك، ومن ذلك البحر الذى فيه قنبلوا يصبّ فى بحر عمان ومن جبل القمر إلى هذه الجزيرة مسيرة خمس مائة فرسخ ويقوى جريان مصبّه فى هذا البحر أيّام زيادة النيل فيجرى جرانيا (3) عظيما ويتكدّر موضع العيون حتى قيل إنّ الماء يؤثر لونه فى لون أحلا من العسل. وقال كعب الأحبار: وجدت فى التوراة أنّ النيل نهر من العسل من الجنّة وأنّه يجرى على بلاد الحبشة فى قفار ومفاوز ومهامه وليس فيه مسلك، وذكر أحمد بن بختيار وقال: العين التى هى أصل النيل هى أوّل العيون من جبل القمر

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 30 آ،2 (2) الصحاح 5/ 1838 آ (3) جرانيا: جريانا مرآة الزمان، تحريف

ثم تنبعت منها عشرة أنهار نيل مصر أحدها، قال: والنيل يقطع الإقليم الأوّل ثم يحاوزه إلى الثانى ومن ابتدائه من جبل القمر إلى انتهائه ومصبّه فى البحر الرومى ثلاثة ألف فرسخ يجرى فى عامر وغامر فإذا تعدّا (168) الفسطاط انقسم قسمين: قسم يمرّ على دمياط وقسم إلى رشيد فيصبّان فى البحر الرومى، وقيل: إنّه لا يعلم مسافة جريانه إلّى (1) الله عزّ وجلّ وهو الصحيح، ويبتدئ بالزيادة من نصف حزيران من الأشهر الروميّة وينتهى فى أيلول ويكون ابتداء زيادته فى الأشهر القبطيّة فى شهر باونه وينتهى فى بابه. واختلفوا فى سبب زيادته ونقصانه، فقال قوم: سبب زيادته عيونه وزيادتها ونقصانها من نقصانها، وقال آخرون: إنّ زيادته من الأمطار والسيول تمطر ببلاد الحبشة والنوبة أيّام الشتاء فيزيد، وإنّما يتأخّر وصوله إلى الصيف لبعد المسافة، وقد ورد قوم هذا (2) وقالوا بأنّ عيونه التى تحت جبل القمر تتكدر فى أيّام زيادته فدلّ على أنّ ذلك من قدرة الله تعالى من غير زيادة مطر، وهو الصحيح، إنّ هذه الزيادة والنقصان تدبير من العزيز الحكيم، الذى فى كلّ شئ له آية تدلّ على أنّه واحد. وجميع المياه والأنهار تجرى إلى القبلة إلاّ النيل لأنّه خارج عن خطّ الاستواء فيجرى إلى ناحية الشمال، وكذا العاصى بالشام يجرى إلى غير القبلة لما نذكر من ذلك. قال ابن الجوزى رحمه الله: وقالوا متى بلغ النيل ستّة عشرة ذراع استحقّ السلطان الخراج، وإذا بلغ عشرون ذراع مات ملك مصر، وإذا بلغ ثمانية عشر ذراع يحدث بمصر وأعمالها وباء عظيم، قلت هذا ذكره الشيخ جمال الدين

(1) الى: الا (2) ورد: رد مرآة الزمان، تحريف

ابن الجوزى رحمه الله نقلا عن سماع من غير مشاهدة لذلك، وإنّما الصحيح فى ذلك أنّ عمارة ديار مصر وتعليق أراضيها بالزراعة وريّها بالكامل إذا بلغ النيل ثمانية عشر ذراع وثبت إلى طلوع نجم السماك فيكون ذلك نهاية رىّ البلاد وأقلّ من ذلك يشرق فيها وأكثر من ذلك يبحر منها، فالقانون المستقيم فى ذلك ثمانية عشر ذراع، وأمّا قوله عشرين ذراع فلم يعهد ذلك من أوّل عام الهجرة وإلى آخر سنة خمس وثلاثين (169) وسبع مائة، وهو آخر ما وقف بنا القول فى هذا التأريخ المبارك إنّه وصل إلى عشرين ذراع قطّ، اللهم إلاّ يقال فى سنة من السنين فى أيّام الحاكم بأمر الله العبيدى من الخلفاء المصريّين، ولم يثبت هذا القول فإنّى فحصت عنه فلم أجد أحدا من المؤرّخين الثقاة (1) ذكر ذلك فى تأريخه وإنّما ذلك مستفاض على ألسنة العوام من الناس. وأمّا قوله فى الوباء فإنّه لم يكن قطّ بمصر الوباء العظيم إلاّ مع الغلاء العظيم نعوذ بالله من شرّهما، والغلاء فلا يكون بمصر إلاّ لقلّة طلوع النيل وعدم وفاه (2) دون الستّة عشر ذراع، وربّما يقع فى بعض السنين وباء يسير لما يريده الله تعالى من فروع آجال متقاربة، وقد اعتنيت بذكر هذا النيل فى هذا التأريخ بما لم يعتنى به أحد من المؤرّخين، وذكرت فيه فصول فيها الكفاية فى الجزء التالى لهذا الجزء وذكرت من أحواله ما فيه بلغة للمتأمّل ممّا استخرجته من تأريخ قبطى عتيق يأتى ذكره إن شاء الله تعالى. وقال ابن الجوزى رحمه الله: وبمصر ترع كثيرة منها: ترعة سنباط، وترعة ذنب التمساح، وترع عدّة بالصعيد، وخليج السردوس، وخليج أبى المنجا، وخليج الإسكندريّة، وخليج القاهرة، وخليج القيّوم المعرف بالمنهى.

(1) الثقاة: الثقات (2) وفاه: وفاءه

قلت: وهو أقدم الجميع فإنّه من حكمة يوسف عليه السلام، وبعد السردوس من حفر هامان فى أيّام فرعون، وبعده خليج الإسكندريّة من حفر ياتى الإسكندرية ثم جدّد حسبما نذكر من خبره فى تأريخه، ثم خليج القاهرة حفره الحاكم العبيدى، وسيأتى من ذكر هذه الخلج فصلا فى مكانه إن شاء الله تعالى. وقال ابن الجوزى إنّما سمّى الفيّوم لأنّه أصله ألف يوم، وكانت كلّ قرية منه تقوم بأهل مصر يوما، قلت: وفى تسميته الفيّوم عدّة أقوال يأتى ذكرها أيضا عند ذكرنا لعمارته فى زمن يوسف عليه السلام وقصّته إن شاء الله تعالى. حكى (1) لى شيخنا العلامة نادر الزمان الشيخ علاء الدين البخارى أعاد الله علينا وعلى المسلمين من بركاته وناهيك به ثقة عالما عارفا محقّقا أنّه شاهد فى بلاد لهند وقوّة المطر من نصف الجوزاء إلى نصف الميزان مدّة أربع شهور لا يفتر فيها لحظة غير أنّه فى بعض الأوقات يقع المطر كثيرا متراكما وفى بعضها قليلا وأنّه لا يقع عندهم المطر فى غير هذه الأيّام نادرا حتى أنّه لا يرى عندهم فى أيّام الشتاء غيم البتة وأنّ هذه الأيّام تسمّى عندهم البيكار أو ما يشبه ذلك وإذا أيّام زيادة النيل وجدتها فى هذه الأيّام سواء ولا يقال إنّ هذا فى الهند من أين يصل إلى مصر، فإنّا نقول: المطر ليس بخاصّ بالهند فقط بل هو مختصّ بأحد الأقاليم السبعة التى الهند فى بعضه والإقليم كما علمت ما له من الشرق إلى الغرب فإذا أمطرت الجبال التى ليس بيننا وبينها بحرا أعنى الجبال التى من هذا الإقاليم سالت به الأدوية إلى جبال القمر وصبّ فى النيل زيادة على منبعه الأصلى ولا يخرج بذلك عن لونه تدبير العزيز الحكيم جلّ جلاله ولا إله غيره.

(1) بالهامش بخط غير خط المصنف

وذكره الجوهرى (1) فقال: الفيّوم من أرض مصر، قتل بها مروان بن محمد آخر ملوك بنى أميّة، قلت: (2) قتل مروان بقرية بوصير من عمل غير الفيّوم بل من عمل البهنسا من طرف صعيد مصر، قال ابن الجوزى: وفى نيل مصر عجائب كثيرة منها التمساح ولا يكون إلىّ (3) فى نيل مصر بخلاف سائر الأنهار الكبار والصغار، قال: وله أسامى: يسمّى فى مصر: التمساح، وفى بلاد النوبة: الورل وما وراء النوبة يسمّى: السوسمار. قال الجوهرى: (4) التمساح دابّة من دوابّ الماء معروف بمصر، وقال الجاحظ رحمه الله فى كتاب عجائب البلدان (5) إنّ مهران السند من نيل مصر ويوجد فيه التمساح، قال ابن الجوزى: قد وهم الجاحظ لأنّ مهران السند يخرج من جبال المولتان وهى فى المشرق وداخله تحت خطّ الاستواء والاعتدال والنيل يخرج من جبل القمر من ناحية الجنوب وهو خارج عن خطّ الاستواء والاعتدال، وبين مهران السند وبين الحبشة والنوبة البحر الشرقى، فكيف يكون منه فإن وجد التمساح فى مهران السند فقد يوجد فيه كما وجد فى النيل. قالوا: (6) والتمساح لا دبر له وما يأكله يتصوّر فى بطنه دودا فإذا أذاه ذلك خرج إلى البرّ وفتح فاه فينقض عليه طائر الماء كالطيطورى ونحوها من أنواع طيور الماء فيدخل فى فيه ويلقط ذلك الدود، فربّما يطبق عليه فيه فى بعض الأوقات فيبلعه، فضربت العرب المثل به فقالوا: مكافأة التمساح، قلت: أمّا قوله إنّ التمساح ليس له دبر فنعم والطائر الذى يدخل فى فيه ويلتقط منه الدود يعرف

(1) الصحاح 5/ 2005 آ (2) قلت: سبط بن الجوزى! (3) الى: إلا (4) الصحاح 1/ 405 آ (5) قارن مروج الذهب 1/ 113 (6) قارن مروج الذهب 1/ 127

بالقطقاط وله فى منكبيه شوكتين كبائر حدّة فإذا طبق عليه التمساح ضربه بتلك الشوكتين فى حلقه فيفتح فاه له فيخرج. قال: وآفة التمساح دوبيّة تكون فى (171) سواحل النيل وجزائره تكمن له فى الرمل فإذا فتح فاه وثبت فدخلت فمه ونزلت جوفه فيضرب الأرض بنفسه ويغوص فى الماء فتخرق تلك الدويبّة جوفه وترعى كبده فيموت ويهلك ويطفو على وجه الماء وتخرج تلك الدويبّة منه، قال: وهذه الدويبّة على طول الذراع ونحوه على صورة ابن عرس ولها قوائم عدّة ومخاليب. قلت: هذه لم تشهد بمصر قطّ ولو كانت ثمّ لكانت تعرف ولعلّها تكون ببلاد النوبة والحبشة. وقد ذكر ابن حوقل رحمه الله أنّ بمصر أماكن لا يضرّ بها التمساح كعدوة أبو صير والفسطاط، قلت: (1) وهذا صحيح، ما عهد أنّه ضرّ أحد من أهل الفسطاط مع الوجه البحرى إلى حدود دمياط ورشيد وهو منتهى مصبّه فى لمالح وإنّما مؤذيته بصعيد مصر كلّما على كان أشدّ مؤذية. قال: وفى نيل مصر السمك المسمّى بالسقنقور ويصلح للجماع، قلت: وهذا أيضا لم يكن بالنيل وإنّما ترد به الفرنج من جزائر البحر الرومى قديدا، قال: وفى مصر أعنى نيلها السمك الرعّاد إذا وقعت السمكة فى شبكة الصيّاد لا تزال بده ترعد مع جميع أعضائه حتّى يلقيها أو تموت السمكة، وهذه السمكة نحو الذراع، قلت: هذه موجودة كثير فى النيل، والخاصّيّة فيه ما دام حيّا لا يطيق أحدا يقبض عليه فإنّه يحصل له من الرعدة والتخدّر ما لا يطيق يملك نفسه فيه حتّى مطلقه أو تموت السمكة تبطل تلك الخاصّيّة، وهذه من الخواصّ التى لا تعلّل، وهى

(1) صورة الأرض 1/ 160، -1

توجد دون نصف ذراع وطول الشبر وأكثر وأقلّ، ومن خاصّيّتها إذا خطّت على من به صداع سكن عنه بحكم أنّه حييه، (1) ومن خاصّيّتها إذا أخذت مرارتها وأذيقت بعسل الزنجبيل المربّى ولطخ بها الرجل إحليله بشئ منها (172) وجامع تجد المرأة لذّة عظيمة ولا تملك نفسها دون إلاّ تزال وتعلق المرأة من ساعتها، وهى تصلح لمن يريد الولد، وقيل إنّ مرارة الدجاجة السوداء تقوم ببعض ذلك. قال: وفى النيل دابّة على صورة الفرس والمكان الذى تكون فيه لا يقربه التمساح، وتخرج من الماء ليلا فترعى شئ كثير من الزرع وتفسده، قال: فيطرحون لها الترمس فتأكله وكذلك الحلبا وتشرب عليه الماء فيورّم جوفها فتموت. قلت: قد طلع هذا الدابّ فى سنة إحدى عشرة وسبع مائة وسنذكرها فى تأريخها إن شاء الله تعالى، قال: وفى النيل الدابّة التى تعرف بالدرفيل شبه الزقّ المنفوخ، ومن خاصّيّتها تخلّص الغريق، قلت: هذا أيضا موجود عند فم دمياط وفم رشيد، قال: وفيه شيخ البحر وهو على صورة الآدمى وله لحية طويلة، والغالب أنّه يكون بنواحى دمياط وهو مشؤم فإذا رؤى فى سنة من السنين دلّ على الغلاء والقحط والموت والفتن، ويقال إنّه ظهر فى دمياط سنة أخذوها الفرنج، قلت: هذا يقال قولا لم أعلم صحّته من سقمه كما يقال عن الغول والقطرب لما نذكر من خبرهما أيضا. قال: (2) وبنيل مصر المقياس وهو من الأبنية العجيبة يعرف به الزيادة والنقصان، قال: وأوّل من حكمه وبناه يوسف عليه السلام بمنف وبنت دلوكة الملكة مقياس بإخميم.

(1) حييه: كذا (2) قارن مروج الذهب 2/ 70 مادة 781

ذكر الفرات ومبدأها ومنتهاها

قال: وفى أيّامها عملت الطلسمات بمصر، قلت: سنذكر من هذا فصولا جيّدة تدلّ على لتقصّى وجودة الاستخراج من تواريخ قبطيّة عتيقة وقعنا عليها ووفّقنا الله تعالى لما أثبتناه فى هذا التأريخ من عجائبها وحكمها وكهنتها وسحرتها وعمارة أهرامها وبرابيها مع معظّم آثار الديار المصريّة ومدنها القديمة بالواحات ومن بناها من ملوك مصر القديمة مفصّلا مبرهنا، (173) وذلك كلّه يكون بمعونة الله فى الجزء الثانى منه إن شاء الله تعالى. قال ابن الجوزى أيضا: وأمّا المقابيس التى بنيت بالديار المصريّة فى الإسلام فأوّل من بنى مقياسا بها عبد العزيز بن مروان لمّا كان بمصر بناه بناحية حلوان، قال: وهذا المقياس بناه المأمون، وقيل إنّما بناه أسامة بن زيد التنّوخى ودثر فجدّده المأمون، وكان أسامة بناه فى أيّام سليمان بن عبد الملك، قال: وبنا أحمد ابن طولون مقياسا بالجيزة والآخر بقوص، قال: وهو إلى الآن. قلت: أمّا هذا المقياس القائم الآن يقاس فيه الماء بالجزيرة المعروفة بالروضة فعنى بعمارته المتوكّل جعفر بن الواثق، وكان المتولّى أمر بنائه الفرغانى لما نذكر من ذلك، وهذا هو المعروف عند المؤرّخين والمتّفق عليه وما عدا ذاك فلم يكن له يومئذ أثر والله أعلم. ذكر الفرات ومبدأها ومنتهاها (1) قال علماء اللغة: الفرات أصلها من الفرت وهو الشقّ، قال الجوهرى: (2) والفرات اسم نهر بالكوفة والفرات الماء العذب، قال الله تعالى: {ماءً فُراتاً»} (3). واختلفوا فى مخرجها على قولين: أحدهما: أنّها من جبل ببلد الروم يقال له

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 31 آ،8 (2) الصحاح 1/ 259 ب؛1/ 260 آ (3) القرآن الكريم 77/ 27

أفرد حس بينه وبين قاليقا (1) سيرة يوم، والثانى: أنّها تخرج من أطراف أرمينية ثم تجرى إلى بلاد الروم ويجتمع إليها أعين كثيرة ويصبّ إليها خليج من بحيرة المارزبون وليس ببلاد الروم بحيرة أكبر منها دورها أكثر من شهر، ثم تمرّ الفرات بأرض ملطية على مسيرة ميلين منها، ثم تمرّ على شميصات (2) وتجوز من تحت قلعة الروم والبيرة وجسر منبج وبالس وقلعة جعبر والرقّة والرحبة وقرقيسيا وعانة والحديثة وهيت والأنبار، ومن تحت الأنبار يأخذ منها نهر عيسى ونهر الملك فصبّان فى دجلة ثم تمرّ الفرات بالطوف (174) (3) ثم بالحلّة ثم بالكوفة وتنتهى إلى البطائح وتصبّ فى البحر الشرقى. قالوا: ومقدار جريانها على وجه الأرض أربعمائة فرسخ وقد كانت تمرّ ببلاد الحيرة ونهرها بيّن إلى الآن ويعرف بالعتيق، وعنده كانت وقعة القادسيّة الآتى ذكرها، وكان البحر المعروف بالنجف فى ذلك العهد جاريا، وكان مرسى السفن من بلاد الهند والصين ذلك المكان تحمل فيه الأمتعة إلى ملوك الحيرة لمّا كانت عامرة لما نذكر من ذلك، ولمّا استحال الماء وانقطع عن الحيرة وعن مصبّه فى البحر صار ذلك البحر برّا وصار بين الحيرة والبحر مسافة، والنجف بالتحريك المكان الذى لا يعلوه الماء، قال الجوهرى: (4) وكذا النجفة بالتحريك مكان لا يعلوه الماء مستطيلا، ويقال إنّ اسم هذا المكان فى الأصل نج وكان أهل الحيرة يستقون منه الماء فأصبحت امرأة على العادة لتستقى فرأته يابسا فقالت نج جف ثم خفّفوه. وقد روى فى فضل الفرات حديث، قال ابن الجوزى رحمه الله: حدّثنا جدّى رحمه الله بإسناده إلى الأعمش عن أبى وائل عن ابن مسعود عن النبىّ صلى الله عليه وسلم

(1) قاليقا: قاليقلا مرآة الزمان، تحريف (2) شميصات: سميساط (3) بالطوف: بالطفوف مرآة الزمان (4) الصحاح 4/ 1429 ب

ذكر دجلة ومبتدأها ومنتهاها

أنّه قال: ما من يوم إلاّ وتنزل مثاقيل من بركات الجنّة فى الفرات، قال: حدّثنى هذا الحديث فى الأحاديث الواهية لا يصحّ، فى إسناده الربيع بن بدر تركوا حديثه، وقال ابن حبّان: تروى عن الثقات الأحاديث المعلومات وعن الضعفاء الموضوعات، قلت: (1) وقد ذكر الزهرى ما يدلّ على صحّته لأنّه قال: ومصداق هذا الحديث أنّ الفرات مدّت فى بعض السنين فجاءت برمّان كل رمّانة مثل البعير فكانوا يرون أنّه من الجنّة، هذا قول ابن الجوزى، وقال: وقد أخرج الخطيب هذا (175) الحديث فى تأريخه، (2) وذكر أنّ فى إسناده الربيع ابن بدر عن الأعمش عن أبى وائل شقيق عن ابن مسعود رفعه، وقال البخارى (3) بإسناده عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يحسر الفرات عن كنز من ذهب فمن حضره فلا يأخذ منه شئ، وفى رواية: عن جبل من ذهب، أخرجاه فى الصحيحين، ولمسلم (4) عن أبى هريرة عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتّى يحسر الفرات عن جبل من ذهب تقتل (5) الناس عليه فيقتل من كلّ مائة تسعة وتسعون ويقول كلّ رجل منهم: لعلّى أنا الذى أنجو، وروى أنّ دانيال عليه السلام حفرها. ذكر دجلة ومبتدأها ومنتهاها (6) قال الجوهرى رحمه الله: (7) دجلة نهر بغداد، وذكر أبو بكر الخطيب رحمه الله (8) أنّ دانيال حفرها والفرات، فقال: حدّثنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد

(1) قلت: سبط بن الجوزى (2) تأريخ بغداد 1/ 55،9 (3) صحيح البخارى 4/ 231،5، الفتن (4) صحيح مسلم 8/ 174، الفتن (5) تقتل: تقتتل صحيح مسلم (6) مأخوذ من مرآة الزمان 31 ب،9 (7) الصحاح 4/ 1695 آ (8) تأريخ بغداد 1/ 56،13

مولى بنى هاشم بإسناده عن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: أوحى الله تعالى إلى دانيال: أن احفر لى سيبين بالعراق فقال: يا ربّ بأىّ مكاتل وبأى مساحى وبأىّ رجال؟ فأوحى الله إليه أن اتّخذ سكّة حديد وعرّضها واجعلها فى خشبة وألقها خلف ظهرك فإنّى باعث إليك ملائكة يعينونك على حفرها فكان إذا انتهى إلى أرض لأرملة أو يتيم حاد عنها حتى حفر دجلة والفرات. وقال الخطيب أيضا بإسناده عن ابن عبّاس قال: أوحى الله تعالى إلى دانيال أن فجّر لعبادى نهرين عظيمين واجعل مغيضهما إلى البحر فقد أمرت الأرض أن تطيعك فأخذ قناة فجعل يخدّ فى الأرض والماء ينبع ويتبعه، وفى رواية: فأخذ قصبة وكان إذا وصل إلى أرض شيخ كبير أو يتيم ناشده الله فيحيد عن أرضه (176) فعواقيل دجلة والفرات من ذلك، قال الجوهرى: (1) العاقول من النهر والوادى ما اعوج منه. وقال أرباب العلم بهذا الشأن: مبدأ دجلة من بلاد آمد وديار بكر وميافارقين وأرمينية تجتمع عيون ثم تمرّ ببلاد حصن كيفا والجزيرة والموصل وتستمدّ من الزابين الأعلا والأسفل وهما من عيون ببلاد أرمينية ثم تمرّ بتكريت وبغداد ثم بواسط، وتنقسم عدّة أودية ثم تصبّ فى البطائح وتختلط بالفرات ويصبّان فى البحر الشرقى، قالوا: ومقدار جريانها على وجه الأرض ثلاثمائة فرسخ، وقيل: إن الذى حفرهما أفريدون الملك، وليس بصحيح، والله أعلم.

(1) الصحاح 5/ 1770 آ

ذكر سيحون وهو نهر الهند

ذكر سيحون وهو نهر الهند (1) ويقال: مهران السند، وقال الجوهرى رحمه الله: (2) وسيحون نهر بالهند، وسيحان نهر بالشام، وساحين نهر بالبصرة، وانساح أى اتّسع، ومخرج سيحون من جبال ماسبدان وينتهى إلى بلاد المولتان، وتفسيره مرج الذهب، ثم ينتهى إلى إلى الفنصورة ثم يصبّ فى البحر الشرقى، ويقال: مقدار جريانه على وجه الأرض ستّمائة فرسخ، والتماسيح فى خلجانه على ما ذكر الجاحظ ولا يوجد سوى فيه وفى نيل مصر، وقد ذكرنا ذلك والله أعلم. ذكر جيحون وهو نهر بلخ (3) قالوا: إنّ أصل منبعه من عيون ببلاد التبّت المقدّم ذكرها ولا يزال حتى يمرّ ببلاد بلخ والترمذ (4) وإسفرابين وخوارزم ويمضى حتى يصبّ فى بحر جرجان ثم يمرّ على بلاد الترك. قالوا: ومقدار جريانه على وجه الأرض ثلاثمائة فرسخ تقدير جريان الفرات أو قال تقدير جريان دجلة، وقيل إنّه يصبّ فى مهران السند وليس كذلك وبينهما مسافة بعيدة، وقد سمّاه فى (177) الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم جيحون. قلت: (5) وقد ذكروا فى العالم أنهار كثيرة، قال أحمد بن بختيار إنّ بالبصرة جزيرة يقال لها جزيرة الفضّة يخرج منها ثلاثة أنهار مثل جيحون والنيل والفرات، وهذا غلط أن يشبه فى الدنيا نهر مثل النيل وهو لا يعرف له مبتدأ فلو قال: مثل جيحون ودجلة والفرات لأمكنه المثل.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 31 ب، -3 (2) الصحاح 1/ 377 ب (3) مأخوذ من مرآة الزمان 32 آ،2 (4) الترمذ: مرآة الزمان؛ قارن مروج الذهب 1/ 115، هامش 6 (5) مأخوذ من مرآة الزمان 32 آ،7

ومنها نهر آتل يأتى من المشرق فيصبّ فى بحز الخزر ويقال إنّه يتشعّب منه نيف وسبعون نهرا وهو أكبر من جيحون، ومنها الهند مند ومخرجه من جبال خراسان ويصبّ فى البحر الشرقى. وذكر فى جغرافيا أنّ العيون الكبار التى تنبع فى الأرض مائتى عين وثلاثين عينا دون الصغار، وعدد الأنهار الكبار الجارية فى الأقاليم السبعة على الدوام مائتان وتسعون نهرا، وقال ابن المنادى: فى الإقاليم الأوّل من الأنهار والعيون ثلاثة وعشرون، وفى الإقاليم الثانى تسعة وعشرون، وفى الإقاليم الثالث أربعة وعشرون منها النيل فى أكثره، وفى الإقليم الرابع ستّون منها دجلة والفرات، وفى الإقليم الخامس عشرون، وفى الإقليم السادس ستّة وعشرون، وفى الإقليم السابع البقيّة من العدّة المذكورة، وجميع ما ذكرناه من الأنهار والعيون داخل فى الأقاليم السبعة إلاّ العيون التى فى جبل القمر فإنّها خارجة عن ذلك لأنّها ليست فى خطّ الاستواء، وقيل إنّها فى أطراف الهند وهو الأوّل. وذكر صاحب المسالك والممالك (1) أنّ ببلاد المشرق تلاّ له ألف عين نجرى إلى المشرق، قال: ويسمّى بركوب، معناه الماء المقلوب، وصيده دراريج (2) سود، قلت: هذا النهر ذكره صاحب كتاب أصول الترك واسم الكتاب باللغة التركية: ألوأطابتك، معناه: كتاب الأب الكبير، وسنذكره (178) عند ذكرنا لبدء خروج التتار، وأصل مخرج هذا النهر من سفح جبل عظيم لم يذكروه فى الجبال إمّا لبعد مسافته أو لكون اتّصاله بالمحيط، وهذا الجبل يسمّى باللغة التركيّة قرا طاغ، معناه الجبل الأسود، وسيأتى ذكره وسمت علوّه فى الجوّ وارتفاعه فى الهواء وعظمه بين الجبال حسبما ذكره جبريل بن بختيشوع لما حلّه من اللغة الفارسيّة إلى العربيّة إن شاء الله تعالى.

(1) المسالك:28،4 (2) دراريج: تداريج المسالك

قال ابن الجوزى رحمه الله: وقد روى أبو بكر الخطيب رحمه الله فى تأريخه (1) حديثا يأتى على سيحون وجيحون والفرات والنيل، فقال: حدّثنا أبو القسم الحسن ابن الحسين بن على بن المنذر القاضى وأبو القسم على بن محمّد بن يعقوب الأيادى وأبو على الحسين بن أحمد بن شاذان البزّاز بإسنادهم عن مقاتل بن حيّان عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل إلى الأرض خمسة أنهار: سيحون وهو نهر الهند، وجيحون وهو نهر بلخ، ودجله والفرات وهما نهران بالعراق، والنيل نهر بمصر، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنّة من أسفل درجاتها على جناحى جبرائيل عليه السلام واستودعها الجبال وأجراها فى الأرض وجعل فيها منافع للناس، فذلك قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً <بِقَدَرٍ> فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ»} (2)، فإذا حان خروج ياجوج وماجوج أرسل جبرائيل فرفع من الأرض هذه الأنهار الخمسة والقرآن والعلم والحجر والركن والمقام وتابوت موسى عليه السلام بما فيه يرفع الكلّ إلى السماء فذاك قوله تعالى: {وَإِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ»} (3)، فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد خير الدين والدنيا، قال ابن الجوزى: إلاّ أنّ هذا الحديث غريب والأصحّ أنّه موقوف على ابن عبّاس.

(1) تأريخ بغداد 1/ 57،14 (2) القرآن الكريم 23/ 18 (3) القرآن الكريم 23/ 18

ذكر سيحان وجيحان وهما نهران أيضا

ذكر سيحان وجيحان وهما نهران أيضا (1) (179) قال النوبختى رحمه الله: هذان نهران فى بلد الروم، فأمّا سيحان فتخرج من عيون بينها وبين ملطية ثلاثة أيّام ثم يمتدّ إلى ناحية الغرب وعليه من المدن أدنة فيصبّ فى البحر الرومى، وأمّا جيحان فيخرج من عيون بينها وبين مرعش ثلاثة أيّام وعليه المصيصة، ويصبّ أيضا فى البحر الرومى، والنهر الأسود الذى غرق فيه ملك الألمان قريب من بلد الروم. وأمّا البحيرات (2) فكثيرة جدّا منها بحيرة ساوة وسنذكرها، وبحيرة أرمينية وبحيرة الروم، وأمّا الشام فبحيرة قدس بحمص معروفة وبحيرة فامية أيضا معروفة، وبحيرة دمشق، وبحيرة طبريّة ودورها ثلاثة وثلاثون ميلا ويصبّ الماء إليها من حوله بانياس ويخرج منها النهر المعروف بالأردنّ ويمرّ فى الغور إلى بحيرة زغر من أرض الكرك، وقال الجوهرى رحمه الله: (3) الأردنّ اسم نهر وكورة بأعلى الشام، وقال ابن الجوزى: قال جدّى رحمه الله فى المنتظم إنّ بحيرة طبريّة تصبّ فى نهر أنطاكية والظاهر أنّه قلّد من لا يعرف، وأين بحيرة طبريّة فى الشام الأعلى وأنطاكية فى الشام الأسفل؟ وإنّما الذى يصبّ فى نهر أنطاكية بحيرة فامية، ومنها بحيرة تنّيس بالديار المصريّة وكانت قبل ذلك قرى ومزارع لم يكن بمصر مثلها فغلب عليها الماء وقد تقدّم ذكرها.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 32 ب،4 (2) مأخوذ من مرآة الزمان 32 ب،8 (3) الصحاح 5/ 2122 ب

ذكر أنهار الشام

ذكر أنهار الشام (1) أمّا أنهار دمشق فأصل مياهها بردا وعين الفيجة، يجتمع بردا عند عين الفيجة ثم تنحدر إلى قرية يقال لها الهامة فينفصل منها نهر يزيد ويمتدّ إلى قاسيون وينتهى إلى دوما وقد كان يمتدّ فى الزمان القديم إلى الماطرون ودنبة والقناطر فى لحف الجبل باقية إلى الآن، وكذا الآثار، وهو منسوب إلى يزيد الرومى، فأمّا يزيد بن معاوية فإنّه وسّعه وعمّقه فنسب إليه، (180) وأمّا نورا فيأخذ من فوق الربوة ويمتدّ إلى قريب القصير ويقال إنّ كان عليه ثلاثمائة وستّين ماصية، وأمّا باناس وهو نهر الجامع الأموى، وكذلك القنوات ونهر المزّة ويتفرّع من هذه الأنهار عدّة أخر معاومة. وأمّا العاصى: فهو نهر حماة وأصله من جبل لبنان من قرية يقال لها اللبوة ثم ينزل إلى بحيرة قدس ويخرج العاصى منها فيمرّ بأرض حمص وشيزر وفامية إلى قريب من أنطاكية، ثم يصبّ إلى البحر الرومى، وقيل إنّما سمّى العاصى لأنّه يجرى إلى غير القبلة، ومسافة جريانه ثلاثة أيّام، وأمّا قويق فهو نهر حلب يخرج من قرية يقال لها سنياب على سبعة أميال من حلب ثم يمرّ على حلب وقنّسرين وينتهى إلى المرج الأحمر وماؤه موصوف بالرقّة والخفّة وقيل إنّ أوّله وخم فإذا امتدّ طاب. وأمّا أنهار الجزيرة (2) منها البلخ بين حرّان والرقّة، ويقال إنّ الخليل عليه السلام نزل بذلك المكان وقال له ابلخ فيتفجّر وعنده مقام إبراهيم عليه السلام، وكانت عليه منازل الوليد بن عقبة ابن أبى معيط الآتى ذكره فى تأريخه، ومنها الحلات:

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 32 ب، -11 (2) مأخوذ من مرآة الزمان 33 آ،1

ذكر أنهار العراق

وهو نهر حرّان وماؤه خفيف ويقال إنّ أوّله رخم ثم يصحّ وأوّله من عين ببلد الرها، ومنها الهرماس وهو نهر نصيبين ويقال إنّه يسقى ثلاثين ألف بستان ومبدأه من جبل نصيبين، ومنها الخابور، وهما خابوران: خابور رأس العين ويمتدّ منها إلى الفرات فيصبّ فيها تحت قرقيسيا وعليه المجدل وغيره من القرى، وأمّا الخابور الثانى ففى ديار بكر عند قردى ومارندى (1) وهى ديار بنى حمدان الذين ملكوا الموصل والجزيرة والشام بحلب الآتى ذكرهم فى تأريخهم إن شاء الله تعالى، ومخرج هذا النهر من بلاد أرمينية ويصبّ فى دجلة وماؤه عذب وفيه قال الشاعر (من الطويل): (181) بقردى ومارندى مصيف ومربع … وعذب يحاكى السلسبيل برود وبغداد ما بغداد أمّا ترابها … فحم وأمّا حرّها فشديد ذكر أنهار العراق (2) حكى الخطيب رحمه الله فى تأريخه عن الأوائل أنّ ملوك الأردوان وهم النبط الأول كانوا فى السواد قبل فارس وهم الذين استنبطوا المياه وحفروا الأنهار العظام بالعراق وصرّفوا دجلة والفرات بالسكور وقسموا المياه، يقال لهم ملوك الطوائف وإنّما سمّوا بذلك (3) نبطا لأنّهم استنبطوا المياه أى استخرجوها. وذكرهم الجوهرى (4) فقال: النبط والنبيط قوم ينزلوا البطائح بين العراقين، وقال ابن قتيبة رحمه الله: هم قوم ملكوا العراق ألف سنة، وقال ابن المنادى:

(1) مارندى: بازندى مرآة الزمان؛ المسالك 95،10 (2) مأخوذ من مرآة الزمان 33 آ،12 (3) بذلك: ناقص فى مرآة الزمان، تحريف (4) الصحاح 3/ 1162 ب

كان ملكهم من عانات وكور دجلة والبصرة وكانوا يصرّفون الفرات ودجلة كيف شاءوا وما فضل يصرّفونه إلى البحر الشرقى فلهذا سمّوا نبطا. قلت: ولعلّ من آثارهم وغرسهم التفّاح المعروف بالنبطى موجودا بالشام إلى الآن وهو أكثر ما يكون. وحكى الخطيب أيضا عن الهيثم بن عدى عن عبد الله بن عيّاش المنتوف قال: كان حدّ ملك النبط الأنهار إلى عانات كسكر إلى ما والاها من كور دجلة إلى كوجا (1) والسواد، وكان فى أيدى النبط سرّة الدنيا وكانت الفرات ودجلة لا ينتفع بهما حتى يليان بلادهم فيحفّونها ويفجّرونها فى كلّ موضع ويسوقونها إلى البحر الشرقى وحفروا الصراة العظمى ونهر سورا، وقيل إنّما جفر الصراة ملوك فارس ثم وليت الفرس فحفروا الأنهار (182) مثل نهر الملك، والخالص، ودبالى، وفم الصلح، وقيل إنّما حفر نهر الملك أفقورشه آخر ملوك النبط ويقال إنّه ملك مائتى سنة، وقيل إنّما حفره سليمان بن داود عليه السلام، وقيل إنّما حفر فم الصلح خالد بن عبد الله القسرى لمّا كان متولى العراق، وفم الصلح كان قد أقطعه المأمون للحسن بن سهل لما تجوّز ابنته بوران لما نذكر من ذلك فى آخر جزء هذا التأريخ وهو الجزء المسمّى بالدرّ الفاخر فى سيرة الملك الناصر أخّرناه لمكان لائق به فأثبتناه إذ كان القصد من ذكره عظم أمر الوليمة التى كانت فى ذلك الوقت لما يقف عليه من تطلبه. قال: وأمّا النيل الذى بأرض العراق فيقال إنّ الحجّاج بن يوسف حفره وهو قريب من واسط.

(1) كوجا: كوثى مروج الذهب 1/ 254 مادة 523

واختلفوا فى الذى حفر نهر عيسى وهذا النهر الذى يأخذ من الفرات ويصبّ ببغداد وعليه المحول وغيرها على أقوال: أحدها أنّه سليمان بن داود عليهما السلام، الثانى: أنّه أفقورشه آخر ملوك النبط، الثالث: أنّهم ملوك الفرس، وقيل عيسى ابن على بن عبد الله بن عبّاس، وبه عرف، وليس كذلك فإنّه قديم وإنّما عيسى ابن على المذكور ابتنا عليه قصرا فعرف به، وأمّا الصراة فقديمة أيضا، قال الجوهرى (1) وذكرها: الصراة بالفتح نهر بالعراق وهى الصراة العظمى والصغرى وصرا الماء (2) إذا طال مكثه وتغيّر. وأمّا دجيل فهو الذى غرق فيه شبيب الخارجى لما يأتى من خبره، واختلفوا أيضا فيه، فقال الهيثم بن عدى إنّ سليمان عليه السلام أمر الشياطين فحفرته وألقت ترابه بين قصر (183) شيرين وخانقين وقيل إنّ بعض ملوك الفرس حفره. انتهى القول فيما اشترطناه من ذكر الأقاليم السبع والبحار السبع وما فى ضمن ذلك من الجزائر والبحيرات والأنهار والبلدان، مع ما مضى من ذكر الجبال والتلاع والقلاع والرمال وغير ذلك ممّا لخصناه من عدّة تواريخ وكتب الحديث النبوىّ من الصحيحين وما اشتمل عليه هذا الجزء المبارك من الأخبار وتبعها من الآثار، وجميع ذلك بحول الله وقوّته وحسن عنايته وبركة توفيقه وإلهامه وهدايته، ولنبتدئ الآن بذكر عجائب المخلوقات وبدائع المصنوعات فى كلّ إقليم وما اختصّ به واجتمع فيه موفّقا لذلك إن شاء الله تعالى.

(1) الصحاح 6/ 2400 آ (2) الصحاح 6/ 2399 ب

ذكر ما فى الدنيا من العجائب وفنون الغرائب ذكر عجائب المشرق

ذكر ما فى الدنيا من العجائب وفنون الغرائب ذكر عجائب المشرق (1) ذكر العلماء بأخبار العالم أنّ بالهند عجائب كثيرة، منها: هيكل عظيم من أعظم الهياكل يقال له بلاذرى مستدير الشكل له سبعة أبواب وفيه قبّة عظيمة شاهقة فى الهواء قائمة على سبعة أعمدة، وفى رأسها جوهرة بمقدار رأس الفحل يضئ بها جميع أقطار ذلك الهيكل، وإنّ جماعة من الملوك حاولوا أخذ تلك الجوهرة فما استطاعوا وهلكوا دون قصدهم، وكلّ من دنا منها خرّميّتا، وفيه صنم ذهب وزنه مائة ألف مثقال تزعم الهند أنّه نزل من السماء، يقصدونه من الآفاق، قلت: هذا ما ذكره ابن الجوزى فى تأريخه مراآة الزمان، وبالله العجب كيف يقول مثل هذا الكلام المناقض بعضه لبعض (2) قد ذكر أنّ أحدا لا يستطيع الدنوّ من هذا المكان ومن قرب منه هلك فمن حرّر زنة هذا الصنم حتى إنّه <وجده> مائة ألف مثقال لا يزيد ولا ينقص.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 33 ب،6 (2) بالهامش بخط غير خط المصنف: ليس فى كلام ابن الجوزى مناقضة لأنه يحتمل أنه أراد بقوله: كل من دنا منها خر ميتا يعنى كل من دنا منها بقصد أخذ الجوهرة أو إفساد شئ من أحوال المكان هلك، وهذا ظاهر لأن الأقدمين من الحكماء جميع ما استبنوه وبنوه وأحكموا أمره على أى وجه أرادوا جعلوه مطلسما من أراده بسوء هلك، وكون أن المصنف أنكر على ابن الجوزى فى قوله من حرر وزن هذا الصنم فهذا غير ممتنع من وجهتين: أحدهما إنه ممكن وزنه ولا يهلك لفاعل ذلك إذ الكون أنه ما قصد إفساده. والثانى أنه يمكن أن هذا الهيكل له تأريخ مذكور فى وزن هذا الصنم فإن مثل هذا الهيكل لا يهمل أمر ذكر ما نسبه والعجائب فيمكن أن أصحابه أثبتوا وزن الصنم فى نفس هذا الصنم أو فيما يقارنه من البناء أو فى كتاب متوارث عند أهل ذلك الزمان ولو علم المصنف هذا الاعتراض لما انفسد علينا غالب الأمور القديمة المذكورة فى الكتب، وابن الجوزى رحمه الله تعالى لا يعترض عليه فى مثل ذلك فإنه لو لم يكن من فضله إلا كتاب تأريخ مرآة الزمان فإن تسمية هذا الكتاب مما يحسد عليه، والله تعالى أعلم

(184) قال: وأساس هذا الهيكل من حجارة المغناطيس وبنى على سير الكواكب السبعة بالحركات السماويّة، وفيه بئر عليها طوق من الحديد الصينى مكتوب عليه بالقلم المسند: هذا البئر فيه علوم السموات والأرض وما مضى وما يأتى، وفيها خزائن الأرض لا يصل إليها من العالم إلاّ من وازن قدرته قدرتنا واتّصل عليه بعلمنا وساوت حكمته حكمتنا، وكلّ من نظر فيه خاف وارتعد وقع هاويا على أمّ رأسه ميّتا لا يختلج، وكذلك كلّ من نظر إلى هذا الهيكل خاف وارتعد وضعف قلبه فى أوّل وهلة، وعلى هذا الهيكل عدّة أوقاف منها مدينة برستاقها، وحول هذا الهيكل ألف مقصورة فيها جوارى حسان لمن تقدّم زائرا لهذا الهيكل يتمتّع بما شاء منهنّ. ومنها غدير عظيم فى مملكة المهراج وعليه قصر شاهق فى الهواء ويتّصل بخليج إلى البحر من خلجان الزابج، والغدير مملوءا لبنا من ذهب، وكلّ ملك يلى أمر المهراج يضرب كلّ عام لبنة منه ويلقيه فى ذلك الغدير، وهذا الخليج يمدّ ويجزر كلّ يوم فإذا جزر ظهر ذلك اللبن وتقابله عين الشمس بشعاعها فيلع ذلك الغدير بما فيه من اللبن الذهب لمعانا يأخذ بالأبصار، فإذا مات الملك وقام بعده آخر أخرج ما فى الغدير من ذلك اللبن وجمعه إليه وفرّقه على أهل المملكة من الخواصّ أوّلا ثم فى العوامّ فإن فضل شئ فرّقه فى المساكين، ثم يكتب عدد اللبن ووزنه فى لوح من الذهب منقوشا: وإنّ فلانا عاش فى الملك كذا كذا سنة وخلّف فى غدير الذهب كذا كذا لبنة، وكانوا يتوارثون ذلك ويفتخرون بمن تطول أيّامه وتكثر لبنه. ومنها أطمة بساحل الهند بين مملكة سروان والمهراج يخرج (185) منها نفط أبيض وليس فى العالم نفط أبيض سواه، وعندها نار لا تخمد نيلا ولا نهارا،

وليس فى إطام الأرض أعظم منها ويضئ فى الليل منها نار ترى فى البحر الشرقى من مائة فرسخ وتقذف بجمر كالجبال وقطع الصخور تتراءى فى الهواء ثم ينعكس سفلا فيهوى فى قعرها وهى سود لما نالها من الحرارة، قال الجوهرى: (1) والأطم مثل الأجم جمع أجمة تخفّف وتثقّل والجمع آطام والآطام حصون أهل المدينة. قلت: أجمع أهل التأريخ على وجود هذه الأطمة بهذه الديار ومنهم من أطنب وأطال فى ذكرها مثل المسعودى وغيره فدلّ ذلك على صحّة وجودها. ومنها بطّة نحاس على عمود نحاس بين الهند والصين فى أرض يقال لها كمار، (2) حكى ابن الجوزى رحمه الله بإسناده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إذا كان يوم عاشوراء مدّت تلك البطّة عنقها إلى نهر تحتها فتشرب منه ثم ترتفع إلى مكانها وتفتح منقارها فيفيض منه من الماء ما يكفى لكّان تلك البلاد وزروعهم ومواشيهم إلى مثل يوم عاشوراء من السنة الأخرى. قلت: وهذا أيضا فيه نظر من جهة العقل، وذلك أنّه لو قال: يوم فى السنة، لأمكن وإنّما قال: يوم عاشوراء، ويوم عاشوراء لا يكون إلاّ فى السنة العربيّة والسنة العربيّة تدور ويجئ يوم عاشوراء فى سائر فصول السنة الأربع والزرع لا يكون إلاّ فى فصل مخصوص فى سائر الأقاليم السبعة كلّ إقليم وما يوافق فيه فى أوانه ويكون فى فصل استقبال الشتاء ليتربّا الزرع فى رطوبة الوقت ويدرك الحبّ فى استقبال الصيف فيحسن حصاده، ويوم عاشوراء تدور فى الفصول الأربع، فلا يصحّ ذلك، والله أعلم إلاّ أن يكون فى يوم من الشهور (186) الروميّة والقبطيّة، وهذا ظاهر.

(1) الصحاح 5/ 1862 آ (2) كنار: كذا

ومنها قنطرة بين السوس وبين جندى سابور ذكرها صاحب المسالك والممالك (1) وقال: هى على واد عظيم منه أنهار جندى سابور والسوس، وطول هذه القنطرة أربعمائة ذراع بناها سابور وأساسها فى الأرض ثلاثون ذراعا وارتفاعها فى الهواء مائة ذراع، وبين صخورها الرصاص مصبوب، وفيها نيف وعشرون طاقا كلّ طاق عشرة أذرع، يخرج من تحت القناطر نيف وثلاثون نهرا تسقى رستاق السوس وجندى سابور ولا ينقص الماء شيئا. قلت: وهذه القنطرة أيضا مذكورة، وقال المسعودى: إنّها من بناية الفرس الأول، وإنّ الإسكندر لمّا ظهر أخربها، وكذلك كانت قنطرة على سيحون بناها الضحاك فأخرجها أيضا الإسكندر، هكذا قال المسعودى، والله أعلم. ومنها ما ذكره ابن حوقل فى كتاب الأقاليم فى صفة الدنيا، قال: (2) الخزر اسم إقليم وقصبته تسمّى آتل، وآتل أيضا اسم النهر الذى يجرى إليها من بلاد الروس وبلغار ويصبّ فى بحر الخزر وقد ذكرناه، وكذلك اسم أى من تملّكهم من ملوكهم أيضا آتل وقصره مبنىّ بالجص والآجرّ، ولا يسمح لأحد من رعيّته فى البناء بهما، وهو يهودى وعسكره اثنا عشر ألفا كلّهم يهود، (3) وحاشيته أربعة آلاف، وفى بلادهم مسلمون ونصارى ومجوس ومن يعبد الأوثان ومن يعبد الكواكب ومن يعبد الشمس والقمر، وعنده سبعة من الحكّام لهذه الأديان المتفرّقة يقضون بين الناس، وقال المسعودى فى ذكر ذلك: (4) وإنّ هؤلاء الحكّام السبعة متى اختلفوا فى شئ ولم يجدون عندهم لذلك قياس رجعوا فيه لحاكم المسلمين، قال ابن حوقل: ولا يصل أحدا (187) إلى الملك إلاّ فى النادر.

(1) المسالك 176 (2) صورة الأرض 1/ 15،15 (3) قارن صورة الأرض 2/ 390 (4) مروج الذهب 1/:21 مادة 451

ذكر عجائب العراق

وذكر ابن حوقل (1) حكاية طويلة ملخّصها أنّ رجلا ولد له ولد وكان له غلام يتّجر بماله، فمات الرجل بعد ما كبر الولد الغلام وبلغ حدود الرجال ووصل غلام أبيه فنازع الولد فى المال وقال: إنّه أبى دونك وإنّك ليس بولده، والمال لى أستحقّه دون استحقاقك! وأقاما يتحاكمان عند الحكّام سنة وأقام كلّ منهما البيّنة، ومن عاداتهم إذا امتدّت الحكومة سنة ولم تنفصل تولّى الملك الأمر بنفسه، قال: فأحضرهما بين يديه وأعيدت عليه الدعاوى وأحضر كلّ منهما بيّنته فلم يترجّح عند الملك لأحد منهما حقّ على الآخر فلم يجد ما يقضى به الترجيح بين البيّنتين فأفكر ساعة وقال للولد: أتعرف قبر أبيك؟ فقال: كنت غائبا لمّا مات، ولما قدمت قالوا هذا قبر أبيك، فقال للغلام المدّعى النبوّة: أتعرف قبر أبيك؟ قال: نعم أنا قدمت من سفرى قبل وفاته وتولّيت دفنه، فقال الملك: علىّ برمّته! فأحضرت، فقال: افصدوا الغلام الذى تولّى دفنه على هذه الرمّة ففصدوه فكان الدم يحيد عنها يمينا وشمالا لا يعلق منها بشئ، ثم أمر أن يفصد الولد ففصدوه عليها فعاد الدم يتعلّق بالرمّة وشربته شربا، فسلم الولد مال والده وعوقب المدّعى وقرّر فقرانه (2) مدّعى فأدّب وشهّد وكذلك بيّنته. ذكر عجائب العراق (3) قال ابن الجوزى رحمه الله: قال جدّى عن حميد الدهقان الفلّوجة السفلى قال: (4) كان ببابل سبع مدائن فى كلّ مدينة أعجوبة ليست فى الأخرى، فكان فى المدينة الأوّلة هيئة مثال الأرض كلّها، وفيها صورة أنهار فإذا التوى أهلها

(1) صورة الأرض 2/ 391،6 (2) فقرانه: وقرر أنه، تحريف (3) مأخوذ من مرآة الزمان 34 ب،1 (4) المسالك 182،14

خرق أنهارها المصوّرة فيتفجّر عليهم الماء حتى (188) يغرقهم فلا يستطيعون سدّه حتى يطيعونه وينقادون إليه. وكان فى المدينة الثانية حوض من رخام فإذا أراد الملك أن يجمعهم لطعامه يأتى منهم من أراد بما أحبّ من أنواع الأشربة فيصبّه فى ذلك الحوض الرخام فيختلط الجميع ثم تقوم السقاة فيصبّونه فى الأوانى فمن صبّ فى إنائه شراب كان شرابه بعينه لا يختلط بشئ. وكان فى المدينة الثالثة طبل محكوم من خاصّيّته إذا غاب أحد من أهل تلك المدينة غيبة منقطعة وأرادوا أهله يعلموا أحىّ هو أو ميّت أتوا الطبل وضربوه فإن صوّت فهو حىّ وإن لم يصوّت فهو ميّت. وكان فى المدينة الرابعة مرآة محكومة من الحديد الصينى ذات أخلاط مركّبة إذا غاب من أهل تلك المدينة غائب وأرادوا أهله يعلموا على أىّ حالة هو يأتوا إلى تلك المرآة فينظرونه على الحالة التى هو عليها. وكان فى المدينة الخامسة إوزّة محكومة من نحاس على باب المدينة، فإذا دخلها غريب صوّتت تلك الإوزّة صوتا يسمعه أهل البلد فيعلمون أنّ غريبا طرقهم. وكان فى المدينة السادسة صورة فاضيان جالسان على الماء فإذا تقدّم إليهما الخصمان ليتحاكمان يمشى المحقّ على الماء ولا تبتل قدماه ويغوص المبطل. وكان فى المدينة السابعة شجرة عظيمة إذا جلس تحتها ألف رجل أظلّتهم وإن زادوا واحدا عادوا الجميع فى الشمس، ومن عجائب العراق إيوان كسرى.

وأما عجائب بلاد الموصل

وأمّا عجائب بلاد الموصل (1) قال ابن الجوزى رحمه الله: بأرض الموصل جبل قريب منها من ناحية الشرق عليه دير يقال له دير الخنافس للنصارى فيه عيد فى السنة له ليلة فى السنة يجتمع إليه جميع الخنافس التى فى الدنيا حتى تعود أرضه مسوّدة (189) من كثرتهم حتى لا يعودون الناس يرون الأرض ولا يدوسون إلاّ عليهم طول تلك الليلة فإذا كان الصباح لم يوجد من تلك الخنافس شيئا، وقيل إنّ بأرض المعرض آخر مثله، والله أعلم. وأمّا عجائب بلاد اليمن (2) قال النوبختى فى كتابه: (3) إنّ ما بين الشحر وحضر موت شخص من نحاس على عمود من نحاس مادّا يده إلى خلفه كأنّه يشير أنّه ليس وراءه مسلك، قال: وهى أرض رجراجة لا تستقيم عليها الأقدام، يقال إنّ ذو القرنين وصل إليها فخرج عليه نمل كالبخاتى فكانت النملة تصرع الفارس فرجع وصنع ذلك الشخص ليعلم أنّه ليس وراءه مذهب. ومنها وادى برهوت بحضرموت فيه جبّ يقال إنّ فيه أرواح الفجّار، وفى هذا الوادى اطمة عظيمة تقذف بالجمر والنار كالتى بالهند المقدّم ذكرها. قال ابن الجوزى رحمه الله: حكى جدّى رحمه الله فى مجالس وعظه وأنا أسمعه وقد ذكر وادى برهوت فقال: قدم بغداد رجل من خراسان حاجّا وكان معه مال فأودع بعضه عند بعض الزهّاد ومضى إلى الحجّ فلمّا عاد وجد الزاهد قد مات

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 34 ب، -12 (2) مأخوذ من مرآة الزمان 34 ب، -8 (3) قارن التبصرة لأبى الفرج ابن الجوزى 2/ 189

وأما عجائب الشآم ومصر والمغرب

فاغتمّ فسأل بعض العلماء عن الطريق فى أمره وكشف الحال، فقال له: ما تمّ إلاّ أن ترجع إلى مكّة وتقف على زمزم وتنادى باسمه: يا فلان! فإن أجابك فاسئله عن وديعتك وإلاّ فاذهب إلى برهوت ففيه بئر فيها أرواح الفجّار وفى زمزم أرواح المؤمنين، فرجع الرجل إلى مكّة ووقف على زمزم ونادى: يا فلان! فلم يجبه فخرج إلى اليمن ووقف على البئر بوادى برهوت وإذا هو جبّ عميق مظلم يطلع منه الدخان وحمو النار واللهب فناداه: يا فلان! (190) فأجابه بانكسار وقال: لبّيك! فقال: وأين مالى؟ قال: تحت الدرجة الفلانيّة، اذهب إلى أهلى وأولادى وعرّفهم فإنّهم يعطوك مالك، فقال: ألست الزاهد العابد؟ فما الذى أوقعك هاهنا؟ فقال: كانت أعمالى لغير الله تعالى، قال: وعاد الرجل إلى بغداد وعرّف أهله وأولاده فحفروا المكان وأعطوه ماله. وأمّا عجائب الشآم ومصر والمغرب (1) قلت: نذكرها هنا من عجائب مصر نتفا لطيفة، وذلك ما ذكره الشيخ جمال الدين ابن الجوزى وغيره وتأخّر الجملة من عجائب مصر فى الجزء الثانى المختصّ بذكرها وعجائبها ومدنها وغرائب ما فيها من الحكم والأبنية والطلسمات والأسماء ليكون ذلك مذكورا مع من ملكها من ملوكها وكلّ ملك وما بنا وما صنع فى أيّامه من العجائب الغريبة والصنائع المحكمة، وبالله أستعين فإنّه خير معين. قال ابن الجوزى رحمه الله: (2) حكى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّه قال: عجائب الدنيا حمّام طبريّة، ومنارة إسكندريّة، وقال آخر: نهر الذهب،

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 35 آ،8 (2) قارن التبصرة لابن الجوزى 1/ 188

وجبّ الكلب، وقلعة حلب، فأمّا جبّ الكلب فيقال: إنّه فى الروم وماؤه يبرى من الكلب، وأمّا نهر الذهب فيقال نهر بزاعة فإنّه يسقى البساتين والأراضى وما يفضل عنه يصير فى البريّة ملحا، قلت: الأولى بتسمية نهر الذهب على هذا الحكم نيل مصر فإنّه يسقى من الأراضى أضعاف ما يسقيه نهر بزاعة وماؤه يحمل ويباع بالذهب. وكانت قلعة حلب تعدّ من العجائب حتى هدموها التتار لما نذكر. ويقال أيضا مع حمّام طبريّة ومنارة إسكندريّة: وجامع بنى أميّة وإن كان عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنه ما ذكره فإنّه لم يدركه وسنذكره عند ما بناه الوليد بن عبد الملك فى تأريخه إن شاء الله تعالى. (191) ومنها بمصر بئر البلسم التى تسقى حشيشة البلسم لا توجد فى غير هذه البقعة ويستخرج من هذه الحشيشة دهن عجيب يدخل فى كثير من المنافع ويعمل منه النفط الذى لا يوجد له نظير، ومن خاصّيّة هذا الدهن أنّه يقيم المقعد ولا يكون إلاّ فى خزائن الملوك وله عدّة منافع عجيبة. ومنها على ما قال ابن الجوزى الهرمين، قال: وسمك كلّ واحد منهما خمس مائة ذراع فى ارتفاع مثلها وكلّما ارتفع البناء دقّ علوّه حتى يصير أعلاه فى مقدار مفرش حصير، قال: وهما من المرمر وعليهما جميع الأقلام القديمة المعجمة من اليونانيّة والعبرانيّة والسريانيّة والمسندة والحميريّة وكذلك الروميّة والفارسيّة القديمان. قلت: أمّا قوله إنّهما من المرمر فلا وليس فيهما شئ منه وإنّما هما حجرا أصمّ مانع ولا تعمل فيه المعاول إلاّ بالجهد، وقوله سائر الأقلام، وذكرهم، فليس كذلك أيضا فإنّ الأقلام الذى ذكرهم يوجد من يحلّهم وهذا القلم الذى منقوش

فيهما قلم غريب قديم قد انقطع من يفهمه ولا يعلمه، ولعلّ أنّ العبد واضع هذا التأريخ يفهم شئ من حلّ بعض الأقلام الذى ذكرهم، ولقد نظرت ما على هذين الهرمين من الرقم فلم أفهم منه حرف واحد، ورأيت أيضا القلم الذى كان على تربات إخميم فهو هذا القلم الذى على الأهرام بعينه، والذى ظهر لى أنّ هذه الكتابة رموز زبروا فيها القوم علومهم بخلا منهم على ما ضمنوه وكان أولئك القوم يدينون بالرجعة فرمزوا علومهم على أن تكون لهم رجعة فخابت آمالهم وغابت أموالهم. وحكى أيضا ابن الجوزى رحمه الله قال: حكى عن بعض علماء مصر قال: إنّهم حلّوا بعض الأقلام فوجدوه: إنّى بنيتهما بملكى فمن ادّعى قوّة فليهدمهما فإنّ الهدم أيسر من البناء. (192) وقال ابن الجوزى أيضا: حكى جدّى فى المنتظم عن ابن <المنادى> رحمه الله أنّه قال: فحسبوا خراج الدنيا مرار فلم يف بهدمهما، قلت: (1) وهذا أيضا وهم فإنّ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيّوب رحمه الله أمر أن يؤخذ من حجارتهما وتبنى قنطرة فهدموا منها شئ كثير وبنى بذلك جسرا تمشى عليه الناس أيّام زيادة النيل بالديار المصريّة، وتولّى هدمها وعمارة الجسر والقنطرة بهاء الدين قراقوش الآتى ذكره عند ذكر دولة بنى أيّوب إن شاء الله تعالى، وفى هذا العصر أيضا قد هدم منهما شئ كثير، وإنّما فى هدمهما صعوبة وكلفة لصلابة الحجارة وكونها متداخلة ذكر فى أنثى، وقد شاهدتهما مرارا ولا أشكّ أنّهما نواويس الملوك الذين كانوا من قبل، يدلّ على قوّة سلطانهم وكثرة أعوانهم وطول آمالهم وسعة آجالهم وأموالهم، وسأذكر من أمر الأهرام ما وجدته فى تأريخ عتيق

(1) قلت: سبط بن الجوزى!

قبطى بالدير الأبيض قبالة سوهاى بصعيد مصر وأذكر سبب وقوعى على هذا التأريخ المذكور فى الجزء الثانى منه إن شاء الله تعالى. وقال ابن الجوزى أيضا: واختلفوا فى من بنى الأهرام، فقال بعضهم: يوسف عليه السلام، وقال آخرون: نمرود بن كنعان، وقال قوم: دلوكة الملكة الساحرة، وقال آخرون: إنّما بناها القبط من قبل الطوفان فإنّهم كانوا يروا أنّه سيكون كائن سماوى فبنوها ونقلوا إليها ذخائرهم ورمزوا فيها علومهم وجاء الطوفان فما أغنى عنهم شيئا. قلت: هذا قريب ممّا وجدته فى ذلك التأريخ: وإنّ الذى بناها هو سوريد ابن سلهوق بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام، هذا قول ابن الجوزى. (193) وأمّا ما وجدته فى التأريخ القبطى فسأذكره مفصّلا حسبما اشترطناه، ولعلّه الصحيح من أمرهم، ورأيت المسعودى وافق على كثير منه ولعلّه وقف على هذا التأريخ المذكور، وقد ذكرت ما استنسخته من الكتاب القبطى وقابلت عليه من تأريخ المسعودى يظهر صحّة ذلك لكلّ واقف عليه. وحكى ابن الجوزى أيضا: أنّ بعض شيوخ مصر ممّن كان يعرف لسان اليونان حلّ بعض الأقلام بالأهرام ونقلها إلى العربيّة فإذا هى: بنا هذان الهرمان والنسر الواقع فى السرطان، قال: فحسبوا من ذلك الوقت إلى زمان نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم فإذا هو ستّة وثلاثون ألف سنة وقيل اثنان وسبعون ألفا، وقيل إنّ القلم الذى عليها تأريخه قبل بناء مصر بأربعة آلاف سنة لا يعرفه أحد. وقال: إنّه قيس عرض الهرم الشرقى فكان خمس مائة ذراع ونيف وسطحه

تسعة أذرع وطوله فى الهواء مائة وثمانون صفّا من الحجارة كلّ حجر عرضه ثلاثة أذرع، قال: وعرض الهرم الغربى أربعمائة وستّون ذراعا وطوله كذلك. وبالقرب منها صخرة عظيمة قد صوّروا منها رأس شخص صفة صنم يسمّونه أبو الهول. قلت: ومن غريب ما حكى لى رجل شيخ من أهل الفيّوم عدل رافقنى فى وقت فى سفر فى مركب إلى نحو صعيد مصر قال: كان لى ابن أخت بمدينة الفيّوم وكان صعلوك يكرى على جمل له من الفيّوم إلى مصر ومن مصر إلى الفيّوم، قال: فهو ذات ليلة نائم بمدينة الفيّوم إذا أتاه آت وقال له: قم خذ رزقك من أذن أبو الهول! قال: فانتبه وتعوّذ ونام، فأتاه الآت يقول له كذلك ثلاث مرار، قال: فنهض ولم يذكر لزوجته (194) وأوصاها على الجمل وقال: لى أجرة عند فلان بالبلد الفلانيّة فإنّى أغيب اليوم والغد، قال: وخرج فلم يزل إلى أن وصل إلى الأهرام من طريق يعرف بطريق العبيد الآتى ذكرها، قال: ثم وصل إلى تحت أبى الهول وعاد يدور حوله ويقف وينظر إليه ولا يدرى ما يصنع وحار فى أمره، فبينا هو كذلك إذ وقف عليه جندىّ راكب فرس بعدّة حسنة، فقال له: أيش أنت؟ فقال: يا خوند عابر سبيل، فقال: أتالى زمان أنظر إليك وأنت دائر حول هذا الصنم وتنظر إليه فقل لى أيش أنت وإلاّ قتلتك، فإمّا تكون قاطع طريق أو مطالبى! ثم هوّل عليه بالدبّوس، فلم يقدر على الخلاص منه فقال له: والله يا خوند قصّتى كيت وكيت، قال: فترجّل الجندىّ وقال له: امسك فرسى أنا أطلع آخذ ما فى أذنه وأعطيك منه شئ! قال: فما هو إلاّ أن تسلّق ومدّ يده إلى أذن الشخص فضربته منه حيّة رمليّة جعلت ذلك الأذن وكرها، قال: فسقط ميّتا وقد صار كالفحمة السوداء، قال: فلمّا عرفه قد فرط فيه دوره

فوجد على وصطه كيس دراهم ألف درهم وأخذ حياصته وقلع فضّة سرجه وعدّته وسيّب فرسه وتوجّه عائدا إلى أهله، فكان ذاك سبب سعادته وعاد له دنيا كثيرة. وحكى لى ذلك العدل أيضا، قال: كان الجبّاس المشهور بالسعادة العظيمة التى كانت تحيّر العقول حتى من جملة ما كان له فى كلّ يوم بدينار ذهب فاكهة مشموم كلّ أوان بما فيه من الشموم يرمى من ليله ويجدّد غيره، وكان له أربعين حضيّة من سائر الأجناس، كلّ واحدة فى دار لا تعرف بها الأخرى، وحكى عنه أنّه ولد له ولد من بعض حضاياه وكانت أعزّهم عليه وأحضاهم عنده، فقال لها: أيش تشتهى يكون متبوعك؟ قالت: (195) أشتهى كلّ امرأة أمير فى الدولة تكون فى فرحى، فقال لها: حبّا وكرامة! فلمّا كان يوم الفرح سيّر سائر حضاياه فى أفخر الملابس من سائر ما ينبغى أن يلبسنه نساء الأمراء وأوصاهنّ أن تقول كلّ واحدة منهنّ: أنا امرأة الأمير الفلانى! فى ذلك الوقت، ومضى لهنّ يوم ما شهد مثله فلمّا انقضى واجتمع بتلك الحضيّة صاحبة الفرح سألها كيف كان يومها، فشرعت تحكى له على عادة ما تحكى النساء لأزواجهنّ: كانت امرأة الأمير الفلانى صفتها كيت وكيت وكان عليها من القماش والزركش والمصاغ ما من صفته كذا وكذا، حتّى ذكرت الجميع وهى تطنب فى حسنهنّ وملبوسهنّ، قال: فتبسّم وقال لها: جميع من نظرتى خشدا شيّتك وأنتى ستّهم. قلت: إنّما ذكرت هذه الواقعة قبل حكاية الشيخ عنه فى سبب سعادته ليعلم سعة سعادة هذا الرجل، ولقد أدركته بالمولد ورأيته وسأذكر ما سمعته عنه وعاينته منه بعد ما أذكر ما حكاه العدل عن سبب سعادته. قال: كان هذا ابن الجبّاس أبوه صاحب جبّاسة بمصر وتوفّى وخلف هذا

شابّا فودّر جميع ما تركه له أبوه فى مدّة يسيرة وركبه دين كثير فاختشى وخاف من الاعتقال، قال: فتزوّد رغيفين خبز وقليل جبن وعدا إلى برّ الجيزة على عزم التسحّب من الدين، قال: فهو عند قناطر الجيزة وجد ورقة عتيقة مرميّة فقرأها فإذا فيها يقول: باب الدينار: وهو أن تأخذ من البخور كيت وكيت وتأتى إلى عند أبى الهول فتبخر بذلك البخور وتتلوا هذه الأسماء سبع مرات والبخور عمّال فإنّه يخرج لك لسانه وعليه دينار فتناوله منه ولا يهولك ذلك فإذا صار فى يدك بخرّه بكيت وكيت وضعه فى كفّة الميزان تجد قبالته مثله فخذه واجعله معه تجد قبالتهما (196) مثلهما كذا حتى لا نهاية له، قال: فرجع إلى سوق الجيزة واشترى البخور وتوصّل إلى عند أبى الهول وفعل جميع ما أمر به فخرج له الدينار فكان سبب سعادته. قلت: هذا ما حكاه ذلك الشيخ العدل الفيّومى ولعلّه كان كذلك فإن سعادة ذلك الرجل كانت ممّا تحيّر العقول. ويقال إنّ سبب سعادته أنّه كان يخدم عند الطواشى فاخر الخزندار فى أيّام مولانا السلطان الملك المنصور فى دولة مولانا السلطان الشهيد الملك الأشرف، وكانت الخزانة فى ذلك الوقت فى تصرّف الطواشى المذكور، وكان هذا ابن الجبّاس الغالب على عقل الطواشى فحصل ما حصل، وعلى الجملة: إنّ العبد سمع من القاضى فخر الدين ناظر الجيوش المنصورة وكان فى ذلك الوقت فى كتابة المماليك السلطانيّة وصحابة الديوان برفقة القاضى بهاء الدين بن الحلّى يقول لوالدى وأنا أسمع: لنا اليوم ثمان ليال نقصد نخلى الحمّام ما نقدر، فقال الوالد: ولم ذاك؟ قال: لأنّها مخلية مع هذا الرجل السعيد النصبة ابن الجبّاس منذ ثمان ليال كلّ ليلة يدخل مع جوار له غير الذين دخلوا البارحة، وآخر أمره أنّه توفّى فى سعادته

رجع ما انقطع

ولم يعلم حقيقة حاله، ورأيت بعد ذلك ولده يخدم فى الفرع المعروف بالعطّارين من فروع دار الوكالة بمصر المحروسة من جملة القباض بدرهم كلّ يوم وأحكيت حكاية الفرع الذى تقدّم ذكره لوالده مع بعض حضاياه، فقال: يا سيّدى والله الفرح كان فى ولادة المملوك، يعنى عن نفسه، وهذه والدتى تعيش وأحكت لى هذه الحكاية بعينها، فقلت: فكيف حالها؟ قال: والله تنتظرنى بغير أكل حتّى أعود إليها آخر النهار بهذا الدرهم فتتبلّغ به، ثم بكا وقال: هذا بذاك ولا عتب على الزمن. رجع ما انقطع (197) قال ابن الجوزى رحمه الله: (1) وحول الهرمين الكبار أهرام صغار عدّة، ويقال إنّ ملك اليونان عمرها، ولمّا ملك أحمد بن طولون الآتى ذكره فى تأريخه الديار المصريّة حدّثته نفسه بالوصول إلى الأهرام من أبوابها فحفر عدّة حفائر حولها فلم يقع عليها ووجدوا فى بعض الحفائر قطعة مرجان منقوش عليها سطور باليونانى فأحضر من يعرف ذلك القلم وإذا هى أبيات شعر فترجمت فإذا هى (من الطويل): أنا بانى الأهرام فى مصر كلّها … ومالكها قدما بها والمقدّم تركت بها آثار علمى وحكمتى … على الدهر لا تبلى ولا تتثلّم وفيها كنوز جمّة وعجائب … وللدهر لين مرّة وتهجّم وفيها علومى كلّها غير أنّنى … أرى قبل هذا أن أموت فتعلم ستفتح أقفالى وتبدو عجائبى … وفى ليلة فى آخر الدهر تنجم

(1) قارن المسالك 159

ثمان وتسع واثنتان وأربع … وسبعون من بعد المبين تسلّم ومن بعد هذا آخر تسعين برهة … وتلقى البرابى تسحر وتهدم تدبّر فعالى فى صخور قطعتها … ستبقى وأفنى قبلها ثم تعدم قال: فجمع ابن طولون الحكماء والحسّاب وفضلاء الناس وأمرهم بحساب هذه المدّة فلم يقدروا على تحقيق ذلك فيئس وزال الطمع. ومن عجائب مصر المطالب، قال ابن الجوزى رحمه الله: (1) والمطالب بمصر كثيرة إلاّ أنّ الغالب عليها لها طلسمات تمنع من الوصول إليها، قال: وحكى الهيثم بن عدى وغيره أنّ رجلا جاء إلى عبد العزيز بن مروان وهو يومئذ أمير مصر من قبل أبيه مروان بن الحكم، فقال له: أيّها الأمير! إنّى قد وجدت كتابا قديما يشير إلى بعض الأماكن أنّ فيه كنزا به أموال جمة، (198) فخرج معه إلى ظاهر مصر على أميال وجاء به إلى تلّ عظيم فقال: تحت هذا! فقال: فمن أين لك؟ فقال: علامة ذلك إذا كشفنا هذا التلّ ظهر لنا بلاط مختلف الألوان ثمّ نحفر فيظهر لنا باب من صفر ففيه المطلب، قال: فأمر بحفر ذلك التلّ فأزالوا بعض التلّ فظهر البلاط ثم ظهر الباب وإذا عليه أقفال عجيبة فعالجوها حتى فتحوها، وإذا بدرج إلى بهوّ عظيم فيه قناطر ومجالس عليها أبواب الذهب المرصّعة بالجواهر التى تشعل كالسرج، وذلك الدرج من نحاس مسبّك، وفى أوّل درجة عمود من ذهب فى أعلاه ديك عيناه ياقوتتان تساويان خراج الدنيا وجناحاه من زمرّد أخضر، فضرب ذلك الرجل رأس الديك فلمع شئ منه كالبرق الخاطف وذلك بما فى عينى الديك من الياقوتتان فظهرت الدرج بأسرها والبهوّ فبادر واحد من الرجال فوضع قدمه على أوّل درجة فلمّا استقرّت قدماه عليها

(1) قارن مروج الذهب 2/ 95 مادة 823

ظهرت سيفان عظيمان غاديان عن يمين الدرجة وشمالها فالتقيا على ذلك الرجل فقطعاه نصفين فأهوى جسده إلى الدرج، فلمّا استقرّ على بعضها اهتزّ العامود وصفر ذلك الديك صفرة عظيمة رجفت لها القلوب ثم حرّك جناحيه وظهرت بعد ذلك أصوات مزعجة وصرخات هائلة نكرة قد عملت على الكواكب السبع بالحركات الفلكية ينزعج لها السامع ولا يكاد يثبت، قال: فشجّع الناس بعضهم بعضا، وتقدّم آخر فجرى عليه كذلك وقطع نصفين، وجرت تلك الأحوال النكرة وتلك الأهوال المزعجة، قال: وآخر وآخر حتى قتل نيف وألف رجل، فقال عند ذلك عبد العزيز: حسبنا الله هذا أمر لا يدرك ولا يوصل إليه، ثم أمر بردّ التراب بعد غلق الباب على تلك القتلى فكانت تلك الحفرة (199) قبورهم وموضع ترابهم. قلت: وقد يأتى فى الجزء الثانى منه ذكر عدّة من هذه الحفائر التى أودعوها ملوك القبط أموالهم وذخائرهم وأمتعتهم وجعلوها نواويسهم ومقابرهم، وذلك ما تضمّنه ذلك التأريخ القبطى المختصّ بذكر ملوك مصر، وكذلك قد ذكرت فى الجزء المختصّ بالعبيدين (1) خلفاء مصر قطعة جيّدة من كتاب حلّ الرموز فى علم الكنوز ومن اتّصل إلى بعضها من ملوك مصر وخلفائها ما فيه بلغة المتأمّل. قال ابن الجوزى رحمه الله: ومن عجائب مصر جبل الطير بصعيدها وهو جبل فيه مغار وفى ذلك المغار شقّ فإذا كان يوما معيّنا فى السنة اجتمع إليه طيور سودانيّة من جميع الأقطار فيأتى كلّ منهم إلى ذلك الشقّ ويضع منقاره فيه ثم يخرجه ويطير ويأتى آخر فيفعل كذلك، ولا يزالون يفعلون كذلك حتى يطبق ذلك الشقّ على

(1) بالعبيدين: بالعبيديين

منقار أحدهم فإذا تعلّق بمنقاره فى ذلك الشقّ طاروا الجميع بعد ذلك وتركوه معلّق بمنقاره إلى السنة الأخرى مثل ذلك اليوم فينفتح ذلك الشقّ ويسقط الميّت ويتعلّق غيره. قلت: هذا صحيح، وقد فحصت عنه وحكى لى جماعة لا أشكّ فى قولهم بصحّة ذلك، ولقد حكى للعبد إنسان كان متولّى منية بنى خصيب الذى هذا الجبل مقابلها يسمّى شمس الدين سنقر من مماليك كدت أنّه شاهد ذلك بعينه وأنّ الطير لا يبرح معلّق فى ذلك الشقّ وسألنى أن أتوجّه وأنظره فلم يتهيّأ ذلك لشغل الوقت، فقلت: قد اكتفيت <بقولك> عن المعاينة، وحكى أيضا أنّ فى سنة من السنين التى كان بها واليا تعلّق طائر منهم على العادة وطاروا البقيّة وتركوه فلم يبعدوا حتى لحق بهم ذلك الطائر وقد تخلّص، فعادوا على بدء إلى (200) ذلك المغار وأعرضوا أرواحهم فى ذلك الشقّ حتى طبق على واحد منهم فتركوه ومضوا لحالهم، وهذه من العجائب التى لا تكيّف. ومن عجائب مصر عمود بثغر الإسكندريّة يعرف بعمود الصوارى ليس يوجد له نظير فى الطول والجفاء وهو من حجر أسود أصمّ لا يوجد له معدن بالديار المصريّة حتى قيل إنّه معجون من أخلاط عدّة وكذلك جميع الأعمدة التى التى بالبرابى المصريّة من معدنه، لكن ليس فيهم مثله، وقيل إنّ أخاه بآخر أعمال أسوان وهى آخر حدود الديار المصريّة. قلت: ولعلّهما جعلا حدودا لأعمال الديار المصريّة أحدهما هذا المذكور وهو حدّ ديار مصر إلى البحر الرومى من هذه الجهة والآخر حدّ ديار مصر من بلاد النوبة، فهذا ما ظهر للعبد من أمرهما، والدليل على ذلك أنّى رأيت هذا العامود بثغر الإسكندرية على تلّ عال ليس إلى جانبه عمارة ولا منه شئ غامض فى ذلك التلّ، فيقال: قد كان عليه عمارة وزالت وأقام وإنّما إقامته إشارة لشئ مخصوص به، ولعلّه كما خطر للعبد، والله أعلم.

ذكر عجائب المغرب

ذكر عجائب المغرب (1) قال ابن الجوزى رحمه الله: (2) منها نار فى جزيرة صقّليّة تشعل فيها الحجارة ولا يمكن أحد الوقود منها، قالوا: وليس بصقّليّة نملة ترى حتى قيل إنّ بها طلسما بسبب ذلك، ومنها حجارة أيضا بأرض القيروان تقد فيها النيران ترى فى الليل من مسافة بعيدة وفى النهار دخانا صاعدا وذلك لغلبة شعاع الشمس، وهى فى جبل يقال له جبل البركان. ومنها بيتان بالأندلس يعرفان بالملوك، (3) ولمّا فتحت الأندلس فى زمان الوليد ابن عبد الملك حسبما نذكر ذلك فى تأريخه وجدوا هذين البيتين مختوم عليهما ففتحوا (201) إحداهما فإذا فيه أربعة وعشرون تاجا على كلّ تاج اسم صاحبه مكتوب عليه ومبلغ سنه ومدّة ملكه، ووجدوا فيه مائدة سليمان بن داود عليهما السلام وهى من الذهب، وقيل من الياقوت، وعليها أطواق الذهب مرصّع بالجوهر النفيس، فحملت إلى الوليد بن عبد الملك. قال: ووجدوا على باب البيت الآخر أربعة وعشرون قفلا، كان كلّ ملك يملك منهم تلك البلاد يزيد على ذلك الباب قفلا، ولا يعلمون ما فى ذلك البيت فسألوا عن ذلك فقال لهم بعض الرهبان: إنّ آخر ملوك الأندلس لمّا ملك قال: لا بدّ أن أفتح هذه الأقفال وأنظر ما فى هذا البيت، فنهاه الحكماء والوزراء والكبراء عن ذلك وقالوا: ما وضعت هذه الأنفال إلاّ لحكمة فخالفهم وفتحه وإذا فيه صفة رجال العرب قد صوّروا على خيولهم وعليهم العمائم والأسلحة، فدخلتم أنتم الجزيرة فى السنة التى فتح فيها ذلك البيت على صفة الصور التى كانت فى ذلك البيت.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 36 ب،5 (2) المسالك 155، -1 (3) المسالك 156،13

قلت: هذا ما حكاه ابن الجوزى فى تأريخه مرآة الزمان فى أوّل جزء منه، وسنذكر من أخبار الأندلس ما هو أكثر من هذا وأوضح وأشفى للطالب فى الجزء المختصّ بذكر بنى أميّة وكيف كان دخول عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس وتملّكه إيّاها مع من تلاه من ولده إلى آخر ما انقطع عنهم الملك بالجزيرة المذكورة إن شاء الله تعالى. ومن عجائب الدنيا أيضا ما ذكره ابن الجوزى رحمه الله قال: (1) إنّ برومية صفة طائر سودانى مصنوع من نحاس على عمود من نحاس على الباب الشرقى فإذا كان أوان الزيتون صفر ذلك السودانى فلا يبقى سودانيّة من الطيور إلاّ جاءت بثلاث زيتونات فى منقارها (202) زيتونة وزيتونتان فى رجليها فتلقى ذلك على تلك السودانية المصنوعة النحاس فيأخذه أهل رومية فيعصرونه لما يكفيهم لأدمهم ووقيدهم وضروراتهم إلى العام القابل فإنّ بلاد رومية ليست ببلاد زيتون ولا يفلح فى أراضيها. قلت: قد مضى القول فيما تقدّم من الفنون، المشنّف للمسامع، المنزّه للعيون، حسب الطاقة وجهد الاستطاعة بحكم التلخيص، وترك الإطالة والتفحيص، وإنّما أتبعنا من كلّ قول أحسنه، ومن كلّ فنّ أجمله، ولنردف القول الآن بذكر طبائع الأزمان، ونتلو ذلك بالمخلوقات من الأمم الفانيات، والرمم الباليات، ممّن أكل الدهر عليهم وشرب، ليعتبر بذلك الفاضل اللبيب الأرب، ونجمع إلى الأخبار نكت الآثار وما قيل عن زعم الفلاسفة الكبار، وما خلق بزعمهم قبل آدم عليه السلام، من الأمم الذين طحنتهم الأيّام، وأكلتهم السنون من الأعوام، وليكون قولنا فيما زعموا للتعجّب لا للتصديق، وبالله التوفيق.

(1) قارن كتاب التبصرة 188، -1

ذكر الطبائع

ذكر الطبائع (1) قال علماء الأوائل: العالم وما فيه أربعة أجزاء: فالربع الأوّل المشرق، وجميع ما فيه حارّ رطب، وله الهواء والدم، وله ريح الجنوب، وزمانه <الربيع>، ويختصّ من الكواكب بالقمر والزهرة، وله من البروج الحمل والثور والجوزاء. والربع الثانى: المغرب، وجميع ما فيه رطب، وله الماء وله البلغم، وله من الريح الديور، وزمانه الشتاء، وله من الكواكب عطارد والمشترى، ومن البروج الجدى والدلو والحوت. والربع الثالث: اليمن، وجميع ما فيه حارّ يابس، وله النار وله المرّة الصفراء وله من الريح الصبا وزمانه الصيف، وله من الكواكب الشمس، ومن البروج الأسد (203) والسرطان والسنبلة. والربع الرابع: شمالى: وجميع ما فيه يابس، وله التراب وله المرّة السوداء، وله من الريح الشمال وزمانه الخريف، وله من الكواكب زحل، وله من البروج الميزان والعقرب والقوس. قلت: (2) هذا تفسير الأوائل، والأصح أنّ الشمس تختصّ بالمشرق وكذا المرّيخ يختصّ بالترك والعقرب يختصّ بالحجاز. وقالوا فى القول الآخر: إنّ الطبائع أربعة، فالأولى طبيعة النار وهى حارّة يابسة مسكنها الرأس، والثانية: طبيعة الهواء وهى حارّة رطبة مسكنها الصدر، والثالثة: طبيعة الماء وهى باردة رطبة مسكنها الوسط، والرابعة: طبيعة التراب وهى باردة يابسة مسكنها السفل، فاثنتان منها يذهبان الصعداء وهما النار والهواء، واثنتان يرسبان سفلا وهما الماء والتراب.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 36 ب، -6 (2) قلت: سبط بن الجوزى!

ذكر سكان الأرض من أول زمان

ذكر سكّان الأرض من أوّل زمان (1) روى مجاهد عن ابن عبّاس قال: كان فى الأرض أمم قبل الجنّ والبنّ فانقرضوا، وقبل آدم أيضا. وقال الجوهرى: (2) الحنّ بالكسر حىّ من الجنّ، قال: ويقال: الحنّ خلق بين الجنّ والإنس، وروى مقاتل عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: أوّل من سكن الأرض أمّة يقال لهم: الحنّ والبنّ، ثم سكنها الجنّ، وأقاموا يعبدون الله زمانا طويلا فطال عليهم الأمر فأفسدوا فأرسل الله إليهم نبيّا منهم يقال له يوسف فلم يطيعوه وقاتلوه فأرسل الله تعالى الملائكة فأجلتهم إلى البحار، وكان مدّة إقامتهم فى الأرض ألف سنة، قال ابن الجوزى: قد ضعّف العلماء رواية مقاتل فإنّ الله تعالى لم يبعث نبيّا قبل آدم عليه السلام، وإنّما قيل إنّ يوسف كان ملكا لهم، وسأذكر من أمر ما ذكر عن الحنّ والبنّ والطمّ والرمّ فى تأريخ عتيق غريب الاسم والحديث لشخص يسمّى جدع بن سنان (204) الحميرى بإسناده إلى عامر بن شراحيل الشعبى رحمه الله بعد ذكرنا ما هو أهمّ وأصحّ ممّا وردت به الأخبار وتداولت به الآثار. قال ابن الجوزى رحمه الله: حدّثنا عبد القادر الرهاوى بإسناده إلى سعيد ابن المسيّب عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ بالمغرب أرضا بيضاء تسير الشمس فيها أربعين سنة بها أمّة من الناس لم يعصوا الله طرفة عين، قالوا: يا رسول الله فأين الشياطين عنهم؟ قال: لا يدرون خلق الشيطان أم لا، قالوا: فمن بنى آدم هم؟ قال: ما يدرون خلق آدم أم لا، قال ابن الجوزى: والأصحّ أنّه موقوف على بريدة عن أبيه.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 37 آ،7 (2) الصحاح 5/ 2106 آ

ذكر من ملكها وقطع سبلها وسلكها

ذكر من ملكها وقطع سبلها وسلكها (1) قال ابن الجوزى رحمه الله: (2) حدّثنا عبد العزيز بن محمود البزّاز بإسناده عن سعيد بن المسيّب عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ملك الأرض أربعة: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان سليمان وذو القرنين، والكافران نمرود وبختنصر وسيملكها خامس من أهل بيتى. وقيل إنّ هذا الحديث موقوف على ابن عبّاس، والمراد به العمران من الأرض فإنّ الخراب مفاوز ومهالك وقفار وبحار. وقال ابن المنادى رحمه الله: ملك الأرض من الجنّ والإنس ثمانية: ثلاثة من الجنّ والإنس ثمانية: ثلاثة من الجنّ، وخمسة من الإنس، فأمّا الذين من الجنّ: فطهمورث وكيمورث وأوشنج، ومن الإنس: جمشاد من ولد قابيل كان يقطع الدنيا فى يوم واحد كما تقطعها الشمس، ونمرود، وبيسو راسب وهو السفّاك المعروف بالضحّاك، والإسكندر وسليمان. قلت: (3) هذا وهم منه رحمه الله فإنّ أجمعت (205) أرباب التواريخ متقدّمهم ومتأخّرهم رحمة الله عليهم وعفى عنهم أنّ كيمورث وطهمورث وأوشنج من ولد يافث بن نوح، ومنهم من ادّعى أنّهم من ولد قابيل ابن آدم، وعلى القولين فليس هم بجنّ ولم يوافق <ابن> المنادى أحد من الناس أنّ هؤلاء الثلاثة من الجنّ، وسأذكرهم فى عداد ملوك الفرس من الطبقة الأولى وهم المسمّيون الفيشداديّة، وأمّا ما ذكره عن جمشاد ففى غاية البعد أيضا والعقول السليمة تأباه، ولا خلاف بين علماء السير أنّ الله تعالى طرد أولاد قابيل إلى جبال الهند ولعنهم، وقالوا إنّ لم

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 37 آ، -8 (2) قارن التبصرة لابن الجوزى 2/ 189 (3) قلت: سبط بن الجوزى

ذكر الحن والبن والطم والرم

يكن فى نسل قابيل ملك ولا رئيس على إحدى القولين، والاعتماد فى الباب على ما رويناه عن ابن عبّاس رضى الله عنه وإن ذكرنا غير ذلك، فنذكر ما قالوه الجمع من الناس وخلفهم فيه على عدّة وجوه لئلاّ نكن قد أخلينا بشئ من أقوالهم كون هذا التأريخ ملخّصا من عدّة تواريخ، الوارد أسمائهم فى الجدول الذى ضمنّاه فاتحة هذا الجزء المبارك، والله الموفّق لذلك. ذكر الحنّ والبنّ والطمّ والرمّ قال جدع بن سنان الحميرى وهو أحد أبناء أقيال اليمن: أجمع أهل التاريخ أن الله عزّ وجلّ خلق قبل آدم عليه السلام أمما: منهم الحنّ والبنّ والطمّ والرمّ، وأنّهم أفسدوا فى الأرض فأرسل الله تعالى إليهم ملكا فقاتلهم حتى بلغ الدم إلى لبب الخيل، ولم يذكروا صفة خلقهم غير أنّ هذا كلام يدلّ على أنّهم ليسوا بأرواح عرية عن أجسام كالملائكة والجنّ بل أجسام مركّبة فإنّ الدم لا يكون إلاّ فى جسد مركّب. وقد أوردنا فى هذا التأريخ عن عامر بن شراحيل الشعبى رحمه الله فصلا ذكره عند عودته من عند ملك الروم (206) لمّا كان توجّه رسولا من قبل عبد الملك بن مروان وهو: قال الشعبى رحمه الله، وقد تقدّم القول فى اسمه ونسبه: بعثنى عبد الملك بن مروان رسولا إلى ملك الروم فلمّا وصلت إليه وأقمت عنده جعل لا يسألنى عن شئ إلاّ أجبته، وكانت الرسل من قبل لا تطيل الإقامة عنده، قال: فحبسنى عنده أيّاما كثيرة حتى استحنت خروجى وسألته فى ذلك مرارا وهو لا يكاد بنعم لى بذلك، فلمّا أذن لى بالانصراف قال لى: أمن أهل بيت الملك أنت؟ قلت: لا! ولكنّى من العرب فى الجملة، قال: فهمس بشئ فدفعت إلىّ رقعة مختومة وقال لى: إذا أدّيت الرسائل إلى صاحبك فأوصل إليه

هذه الرقعة، قال: وجهّزنى بأحسن جهاز وأنعم علىّ بشئ كثير وتوجّهت من عنده مكرّما، فلمّا وصلت إلى عبد الملك بن مروان وأدّيته الرسائل وأنسيت (1) الرقعة فى طىّ عمامتى وخرجت من عنده فلمّا صرت فى بعض الدهليز أريد الخروج تذكّرتها فرجعت إليه وأوصلتها له، فلمّا قرأها قال لى: يا شعبى أقال لك قبل أن يدفعها إليك شيئا؟ قلت: نعم! قال لى: أمن أهل بيت المملكة أنت؟ فقلت: لا! ولكنّى من العرب فى الجملة، ونسبنى فانتسبت إلى قومى حمير، فقال: ملوك قد انقرضوا، ثم دفع لى هذه الرقعة بختمها كما رآها أمير المؤمنين، قال: أتدرى ما فيها؟ قلت: لا وحياة أمير المؤمنين! قال، فدفعها إلىّ فإذا فيها مكتوب: عجبت من قوم فيهم مثل هذا كيف ملكوا غيره، فقلت: والله لو علمت ما حملتها وإنّما قال ذلك ولم يرك ولا أحد من أهل بيتك! قال: أفتدرى لم كتبها؟ قلت: لا! قال: حسدنى عليك وأغرانى بقتلك، قال، فبلغ ذلك ملك الروم (207) فقال: والله ما أردت إلاّ ما قال! قال الشعبى رحمه الله: ثم إنّ عبد الملك سأل منّى بعد ذلك المجلس ما كان سبب احتباسى عند ملك الروم وعمّا كان يتحدّث به معى فى مدّة إقامتى عنده، فقلت: كان يخوض معى فى كلّ بحر غويص من كلّ فنّ ويدقّق علىّ المسائل فأخرج له منها بمعونة الله تعالى وبركة أمير المؤمنين، وسألنى عن قومى، فانتسب إلى حمير، فقال: ملوك من ولد سام بن نوح ونحن معاشر الروم من ولد يافث ابن نوح، ثم قال: هل تعلمون معاشر المسلمين أنّ الله تعالى خلق خلقا قبل آدم أبى البشر؟ فقلت: يورد أنّه عزّ وجلّ خلق خلقا عديدا لا يحصيهم غيره منهم: الحنّ والبنّ والطمّ والرمّ والجنّ، وذكرت له ما ورد فى ذلك من الأخبار والآثار،

(1) أنسيت: نسيت، لهجة

قال: فهمس بشئ لا أفهمه فأحضر كتاب عتيق بخطّ لا أفقهه وأحضر شيخا مبجّلا عنده فأمره بقراءته علىّ فأجده تأريخا يتضمّن بدء الأشياء كلّها بكلام غريب لم أسمع بمثله فى الإسلام، وذكر قصّة الحنّ والبنّ والطمّ والرمّ، فقال عبد الملك: فكيف سمعت؟ قال، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين: قال: إنّ الله عزّ وجلّ خلق قبل آدم عليه السلام أبى البشر وصاحب الذريّة الوارثون الأرض من الأمم المخلوقة بعظمة الخالق: الحنّ فكان شخصا ذكرا بديع الخلق من عنصر ليس كالعناصر الأربع فكان أصغر ما فى خلقه قدمه التى يسعى بها فكان مسيرة أثرها سبعة أيّام للراكب المجدّ ليلا ونهارا، وكان ظلّه فى عين الشمس إذا ساوت سمت رأسه مسيرة شهر كامل للراكب المجدّ فى سيره ليلا ونهارا، (208) وكان خلقه جسد شفاف دموى بين البياض والحمرة يصيف بالمشرق ويشتى بالمغرب، وكانت البنّ على خلقه من صفته وعظمه أنثى وركّب فيهما حبّ الشهوة فتزاوجا فكان من نسلهما عنق وعنقاء وولد عنق بالمشرق وعنقاء بالمغرب وهى عنقاء مغرب المذكورة، ثم كان من نسل عنق وعنقاء عوج ابن عنق، قال: وكثر فسادهم فى الأرض وطالت أزمنتهم ودهورهم ما شاء الله تعالى من ذلك. وكانت الملائكة تنزل إلى الأرض ويرونهم ويكلّمونهم فسطوا بشرّهم على الملائكة فشكوهم إلى الله عزّ وجلّ فخلق الله تعالى الطمّ والرمّ من عنصر ضدّا لذلك العنصر الذى خلق منه الحنّ والبنّ وذلك ما اقتضته الحكمة الإلهيّة ذات الاختراع، فكانا كصفتى طائر بن عظيمين إذا نشرا جناحيهما سدّا المشرق والمغرب، وخلق مخاليبهما من نار السموم، وسلّطهما على الحنّ والبنّ فقتلاهما وذريّتهما ولم يبق فى الأرض منهم غير عنقاء مغرب وولدها عوج، وذلك لمّا عاينا

ما نزل بقومهما تابا إلى الله عزّ وجلّ وكفّا عن الفساد، وكانت العنقاء لها عشرة أوجه كوجوه بنى آدم من أحسن الخلق وكان لها أربعين جناحا مكلّلة بأنواع الجواهر واليواقيت، وإذا حلقت فى فلك الهوى (1) يسمع لها دويّا كأعظم ما يكون ومن اللذّ (2) سماع يكون وكان لها فهما وعقلا تدرك بهما الأشياء، فلمّا سمعت تسبيح الملائكة فى فلك القمر تعلّمته فكانت تسبّح الله تعالى كتسبيح الملائكة بألذّ نغمة وأطيب حسّا وأطرب صوتا، قال: فمكثت فى الأرض إلى عهد سليمان بن داود عليه السلام. (209) وأمّا عوج فاستقرّ فى الأرض وكان من نسله الجبّارين، وكان فى عظم جدّه الحنّ بغير أجنحة، ولمّا كان الطوفان عاد يمشى فيه ويخوضه وهو إلى حقويه ويحاذى السفينة ويقول لنوح عليه السلام: يا عمّ أترانى أغرق قصيعتك هذه. قلت: هذا ما ذكره جدع بن سنان فى تأريخه بإسناده إلى الشعبى لما ذكرناه، وهو حديث غريب لم أرى أحد من المؤرّخين ذكره على هذا الوجه، وإنّما المذكور من قصّة عوج أنّه ابن عناق وأجمعوا أنّ عناق ولدتها حواء من آدم عليه السلام فوضعتها مشوّهة الخلق لها رأسان وفى كلّ يد عشرة أصابع وأنّها ولدتها بمفردها بغير توأم معها، وقد روى عن الإمام علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه أنّه قال: هى أوّل من بغا وعمل بالفجور وجاهر بالمعاصى، واستخدمت الشياطين وصرّفتهم فى وجوه السحر، وقد كان الله تعالى أنزل على آدم عليه السلام عوده وأسماء تطيعه بها الشياطين والمردة وأمره أن يدفعها لحواء تعلّقها عليها ويكون ذلك حرزا لها، ففعلت ذلك حواء فاعتقلتها عناق وهى نائمة

(1) الهوى: الهواء (2) اللذ: ألذ

فأخذتها منها واستجلبت بها الشياطين والعتاة من المردة، وصرّفت ذلك فى أنواع السحر وأضلّت كثيرا من ولد آدم عليه السلام، قال: فدعى عليها آدم عليه السلام فأرسل الله تعالى عليها أسدا عظيما فأهلكها. وأجمع جماعة من المؤرّخين أنّ عوج ولدها وأنّ الطوفان بلغ بعض جسده وأنّه عمر إلى زمان موسى بن عمران عليه السلام وأنّه قطع صخرة قدر عسكر موسى عليه السلام وكانوا (210) فى أكثر من مائتى ألف وأراد أن يطرحها عليهم، فأرسل الله تعالى طائرا فنقر تلك الصخرة فنزلت فى عنقه ولم يفارق حتى أتاه موسى عليه السلام فضربه بعصاه فى بزّ كعبه، وقيل: كانت العصاة سبعة أذرع وطول موسى عليه السلام سبعة أذرع وطاح فى الهواء سبعة أذرع حتى لحق بزّ كعبه فضربه فقتله. قال جدع بن سنان رحمه الله لما أسنده إلى الشعبى رحمه الله فى تتمّة قصّة الحنّ والبنّ والطمّ والرمّ والجنّ وما أضاف إلى ذلك من ذكر الزهرة وإبليس وهاروت وماروت: ولمّا كثر فساد الحنّ والبنّ فى الأرض وأرسل الله عليهما الطمّ والرمّ وأمرهم بقتل الحنّ والبنّ فقتلوهم قتلا ذريعا عامّا حتى إنّ الأرض اسودّت من دمائهم وكانت من قبل أشدّ بياضا من الكافور وأطيب رائحة من المسك إذا كانت بكرا لم يعصى الله تعالى عليها قطّ قبل الحنّ والبنّ ولمّا أهلكهم الله بفسادهم وشرورهم استقرّ فى الطمّ والرمّ وتوالدوا وكثر نسلهم وأقاموا فى الأرض ما شاء الله تعالى من الأزمنة والدهور، فأفسدوا وكثر شرّهم وعصوا وفعلوا كأقبح من فعل الحنّ والبنّ، فشكاهم الملائكة إلى خالقهم فخلق تعالى الجنّ من مارج من نار وأمرهم بهلاك الطمّ والرمّ ففعلوا، واستقرّت الجنّ فى الأرض

ذكر إبليس والزهرة وهاروت وماروت من تأريخ جدع بن سنان

مع عدّة مخلوقين لا تدرك فأفسدت الجنّ أيضا فى الأرض وبغا بعضهم على بعض وغارت القبائل منهم عليهم وكانت بينهم حروب وقتال وقتل وزاد الأمر فأهبط الله تعالى إليهم إبليس وجعله ملكا فى الأرض وأمره بقتال الجنّ وقتلهم (211) فقاتلهم وقتلهم قتلا ذريعا وأخلى منهم العامر من الأرض وأسكنهم خرابها لما نذكر من ذلك إن شاء الله تعالى. ذكر إبليس والزهرة وهاروت وماروت من تأريخ جدع بن سنان قال جدع بن سنان: إنّ إبليس من خلق الجنّ من مارج من نار، وكان عظيم الخلق حسنه وكان يسكن الأرض، وسبب اتّصاله بمحلّ الملائكة أنّه كان خادما للزهرة، وكانت الزهرة خلقا حسنا فى الأرض من جملة مخلوقات الله عزّ وجلّ، وكانت أنثى ذات جمال فائق ونور ساطع وبهاء وافر، وكانت الحروب يومئذ بين قبائل الجنّ متّصلة، فلمّا قال الله تعالى للملائكة: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً»} (1)، وقرئت: «خليقة» قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ»} (2)، بناء لما فعله الحنّ والبنّ والطمّ والرمّ والجنّ. قلت: هذا ما ذكر فى هذا التأريخ الغريب إذ قصدنا نورد هاهنا ما تضمّنه من القول وإنّما سأذكر من ذلك ما استخرجته من الصحيحين، وما ورد من تفسير هذه الآية من الوجوه الحسنة وذلك فى أوّل الجزء الثانى منه عند ذكرنا لخلق آدم عليه السلام، ومنها ورد هاهنا فهو جمع لما قالوه جماعة من المؤرّخين.

(1) القرآن الكريم 2/ 30 (2) القرآن الكريم 2/ 30

قال جدع بن سنان رحمه الله: فقال الله تعالى وهو أعلم بما يكون وبما كان وما هو كائن: فاختاروا أيّتها الملائكة من بينكم من ينزل إلى الأرض فيحكم بين مخلوقاتى ويأخذ القصاص ممّن بغا من بغى عليه فإنّى لا أحبّ الظلم وأنا القوى العزيز! قال: فاختاروا من بينهم الملكين هاروت وماروت، وكانا أشدّاء أهل السموات السبع عبادة وأكثرهم (212) تسبيحا وتقديسا. فكانا ينزلان إلى الأرض فيحكمان فيها بين مخلوقات الله عزّ وجلّ على اختلاف أنواعهم وتغاير أجناسهم وتباين خلقهم من عدّة أمم لا تحصى وخلائق لا تدرك فى البرّ والبحر، الجميع يفدون على هاروت وماروت ويحتكمون إليهما من خلق البرّ والبحر حتى إنّ الذرّة لتأتى إليهما وتقول: إن الذرّة مثلى غدت على قوت لى كنت قد ادّخرته لمشتاى فيحكمان بينهما بما ألهمها الله تعالى من فصل الخطاب، حتى إنّ السمكة الصغيرة تستغيث بهما من أذاء الكبيرة فيغيثاها ويمنعاها من أذاءها. ولا يزالا كذلك طول نهارها إلى آخره فإذا جنحت الشمس للغروب نهضا وقالا: سبحانك اللهم وبحمدك، فيكون ذلك منتهى حكمهما ذلك اليوم، ثم يتليان أسماء الصعود فيصعدان إلى محلّ عبادتهما. قال: فركّب الله تعالى فيهما حبّ الشهوة وأتت الزهرة تستغيثهما من حادث حدث عليها فامتحنا بها لمّا عايناها وعادا يردّدانها فى حكومتها ذلك اليوم أجمع وقد اشتغلا بها عن سائر الحكم بين الخلائق ولم يحكمان ذلك اليوم بين أحد من خلق الله عزّ وجلّ حتى نصراها على غريمها ومالا على غريمها وحكما عليه بغير الحقّ. قال جدع بن سنان: فلمّا كان وقت صعودهما قالت لهما الزهرة وقد تحقّقت

ميلهما إليها: لو علّمتمانى الأسماء حتى كنت أصعد معكما ولا أفارقكما، قال: فإنّى قد علمت مراد كما، قال: فعلّماها الأسماء، وكان إبليس قائما معها فاسترق الأسماء وسبقها صعودا ثم تبعته، فمسخت كوكبا فى السماء الثالثة وذلك كان مكان محلّ عبادة هاروت، وصعد إبليس إلى محلّ عبادة ماروت فى السماء الدنيا وتقرّب بالعبادة والتسبيح والتقديس حتى تعجّبت منه ملائكة (213) السماء الدنيا فاشتاق إليه أهل السماء الثانية فطلع وصعد إليهم وفعل من الاجتهاد فى العبادة فوق ما فعله فى السماء الدنيا، فاشتاق إليه أهل السماء الثالثة فصعد إليهم وفعل كذلك، ولم يزل يتقرّب بالعبادة وكثرة التسبيح والتقديس حتى سمّى طاؤوس الملائكة وعاد قريب القدرة ونديم الحضرة وعلم بإرادة الله عزّ وجلّ وبما سبق له فى غامض علمه الذى لا يعلمه سواه جميع المخلوقات فى السموات السبع والأرضين السبع. قال جدع بن سنان: (1) فلمّا كثر فساد الجنّ فى الأرض لما تقدّم فى ذلك من القول وقد ذكرت الهند والفرس واليونان فى كتبهم-من رواية المسعودى رحمه الله-قال: إنّ الجنّ كانوا أحد وعشرين قبيلة وإنّ بعد خمسة آلاف سنة من خلقهم ملكوا عليهم سبعة ملوك وجعلوا لكلّ يوم وليلة من أيّام الجمعة لملك من السبعة يحكم فيه عليهم بما شاء كحكم الملوك. قال الإمام فخر الدين الرازى المعروف بابن خطيب الرىّ رحمه الله: هؤلاء الملوك السبعة حكّام الأيّام السبعة خدّام الكواكب السبعة وهم من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، فيوم الأحد الحاكم فيه شمهورش، ويوم الاثنين الحاكم فيه برقان الأعظم، ويوم الثلاثاء الحاكم فيه زوبعة، ويوم الأربعاء الحاكم فيه ميمون

(1) أخبار الزمان 12

السحابى، ويوم الخميس الحاكم فيه الأبيض، ويوم الجمعة الحاكم فيه الأحمر، ويوم السبت الحاكم فيه المذهب. وقيل غير ذلك فى تنقّل الأيّام بين هؤلاء الملوك السبعة، والمتفّق عليه أنّ أسماءهم هذه، ومنهم من قال إنّهم جميعهم من أولاد إبليس ومنهم من قال إنّهم ملوك الجنّ من قبل هبوط إبليس إليهم وإنّ إبليس قاتلهم وأجلاهم (214) عن العامر من الأرض وأسكنهم خرابها. وأمّا الزهرة فمسخت كوكبا حسبما ذكرنا، وأمّا هاروت وماروت فإنّهما لمّا علّما الزهرة وإبليس الأسماء سلباها وعلما أنّهما قد عصيا فسألا الله عزّ وجلّ عذاب الدنيا دون عذاب الآخرة فهما يعذّبان بأرض بابل، ويعلّمان الناس السحر كما قال الله تعالى فى كتابه العزيز: {وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ»} (1)، الآية. وقد عنوهما الشعراء وذكروهما فى أشعارهم ونسبوا إليهما السحر ولذلك عرفت بابل بالسحر، ومن جملة من ذكرهما فى شعره من شعراء الدولة الأيّوبيّة كمال الدين ابن النبيه عفى الله عنه، فقال من قصيدة (من البسيط): (2) فلو رآ مقلتاه (3) … هاروت آيته الكبرى لآمن بعد الكفر ساحره وهذه القصيدة من قصائده الطنّانات التى أوّلها يقول (من البسيط): باكر صبوحك أهنى العيش باكره … فقد ترمّم فوق الأيك طائره والليل تجرى الذرارى فى مجرّته … كالروض تطفو على نهر أزاهره وكوكب الصبح نجّاب على يده … مخلّق تملأ الدنيا بشائره

(1) القرآن الكريم 2/ 102 (2) ديوان ابن النبيه 93؛ فوات الوفيات 3/ 69؛ رآ: رأت الديوان | (3) مقلتاه: مقلتا الديوان

فانهض إلى ذوب ياقوت لها حبب … تنوب عن ثغر من تهوى جواهره حمراء فى وجنة الساقى لها شبه … فهل جناها مع العنقود عاصره ساق تكوّن من صبح ومن غسق … فابيضّ خداه واسودّت غدائره سود سوالفه لعس مراشفه … نعس نواظره خرس أسواره (1) تعلّمت بانة الوادى شمائله … وزوّرت سحر عينيه جآذره منها: قامت أدلّة صدغيه لعاشقه … على عذول أتا فيه يناظره بنىّ حسن أظلته ذوائبه … وقام فى فترة الأجفان ناظره منها: فلو رأى مقلتاه (2) … هاروت آيته ال‍ كبرى لآمن بعد الكفر ساحره (215) خذ من زمانك ما أعطاك مغتنما … وأنت ناه لهذا العمر آمره فالعمر كالكأس تستحلا أوائله … لكنه ربما مجّت أواخره واجسر على فرص اللذّات محتقرا … عظيم ذنبك أن الله غافره وفى هذه القصيدة امتدح الملك الأشرف مظفّر الدين موسى بن العادل بن أيّوب لما نذكره فى تأريخه إن شاء الله تعالى، وأضربنا عن كثير من شعر ابن النبيه المذكور فى جميع أجزاء هذا التأريخ للعلّة التى يأتى ذكرها فى الموضع اللائق بها. ولبعض المصريّين من قصيدة امتدح بها القاضى المرحوم علاء الدين بن الأثير صاحب ديوان الإنشاء الشريف فى أوّل الدولة الناصريّة بالمملكة الثالثة أعزّها الله بالنصر والقهر، وأدام أيّام مولانا مالكها إلى آخر الدهر، تضمّن

(1) أسواره: أساوره الديوان (2) قارن ص 240،15

(216) رجع ما انقطع

بيت منها ذكر هاروت وهو فى غزلها: نسبوا لبابل سحر مقلته التى … هاروت منها ظل فى تعقيد وأوّلها (من الكامل): لولا الولوع بمقلة وبجيد … ما كحّلت جفناى بالتشهيد كلا ولا لذّ الملام لمسمعى … من عادل ومفنّد وحسود ما فى الغرام علىّ عار بالذى … فتن الأنام بحسنه المشهود منها: باتت بدور التمّ تحسد حسنه … فأصابها النقصان بعد مزيد باهنه فى إشراقة شمس الضحى … فرمى الكسوف بها إلى التسويد غارت غصون البان من أعطافه … حنقا فشانتها يد التعقيد لو سالمت تلك الغصون قوامه … لم تشك يوما آفة التجريد ما طال جنح الليل إلا أنّه … يهوى ذؤابة شعره الممدود تهوى الصبا لفتات واضح جيده … فلأجل ذا خصّت بحسن الجيد نسبوا لبابل سحر مقلته التى … هاروت منها ظلّ فى تعقيد (216) رجع ما انقطع قال المسعودى رحمه الله: (1) ثم كانت بين الجنّ اختلاف وغارات بين القبائل وعادت بينهم حروب ووقائع وفساد كثير، قال: وكان إبليس من خلقهم وكانت له عدّة أسماء على اختلاف لغاتهم، واسمه بالعربيّة الحارث وكنيته أبو مرّة، ومرّة هذه هى أوّل مولود ولد له فى الأرض على ما ذكره المسعودى،

(1) أخبار الزمان 12

وسنذكر ما قاله غيره بعد ذلك، وقال: وكان اسمه فى السماء عزازير، ولم يكن فى الجانّ أعظم من خلقه ولا أشدّ بطشا ولا أعظم طاقة، وكان يصعد إلى السماء ويقف فى صفوف الملائكة ويحتهد فى العبادة فلمّا بغا بعض الجنّ على بعض وكانت بينهم تلك الحروب أهبط إلى الأرض بإذن الله تعالى فى جند من الملائكة فقتل من الجنّ قتلا ذريعا وهزمهم إلى خراب الأرض وجعل ملكا من قبل الله عزّ وجلّ على الأرض يحكم بين خلقه من الجنّ بأمر الله وخافوه سائر قبائل الجنّ، وأقام فى الأرض ملكا ما شاء الله عزّ وجلّ من الدهور. وكان يصعد لمحلّ عبادته ليعبد الله تعالى ويهبط إلى الأرض لمحلّ ملكه، ولم يزل كذلك حتى بلى بمحنة آدم عليه السلام لمّا تجبّر وطغا وتمرّد، وكان من امتناعه من السجود لآدم صلوات الله عليه ما أخبرنا الله تعالى عنه فى كتابه العزيز على لسان نبيّه الكريم صلى الله عليه وسلم لما نذكر من ذلك فى موضعه. قال المسعودى: فأهبط إلى الأرض بعد قصّته مع آدم عليه السلام فى أقبح صورة وأشدّ تشويها فأنكره جميع قبائل الجنّ واستوحشوه واستبشعوه وامتنعوا عليه من الطاعة له فلمّا رأى ذلك سكن البحر المحيط وجعل له عرشا على الماء وألقى عليه (217) حبّ الشهوة وعاد لقاحه كلقاح الطير وله بيض يحضنه كما يحضن الطير، ورزق من الأولاد خلق كثير وهم الذين فى طاعته لوسوسة بنى آدم. قلت: هذا ما رواه المسعودى رحمه الله، ولنذكر الآن ما رواه فى هذا الفصل الشيخ جمال الدين ابن الجوزى رحمه الله فإنّه فصل حسن.

ذكر إبليس وأولاد وجنوده وحشوده

ذكر إبليس وأولاد وجنوده وحشوده (1) قال ابن الجوزى رحمه الله: اختلفوا فى اشتقاقه، قال علماء التفسير: اشتقاق إبليس من الإبلاس وهو الإياس وإبليس يأس من رحمة الله، وقال الجوهرى: (2) يقال: أبلس فلان إذا سكت غمّا. واختلفوا فى كنيته على قولين أحدهما: أبو مرّة، والثانى: أبو العمر، واختلفوا فى اسمه أيضا، فقال الجوهرى: كان اسمه عزازيل وهو قول ابن عبّاس، وقيل الحرث. واختلفوا هل كان من الملائكة، رواه سعيد بن جبير، والثانى أنّه من الشياطين، قاله الحسن البصرى، قال: ولم يكن من الملائكة قطّ، واحتجّ بقوله تعالى: {إِلاّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ»} (3)، الآية، والثالث: إنّه لا من الجنّ ولا من الملائكة بل هو خلق مفرد خلقه الله من النار كما خلق آدم من الطين، قاله مقاتل، وقد رجّح علماء التفسير قول ابن عبّاس إنّه كان من الملائكة، واحتجّوا بقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ»} (4)، وهذا استثناء متّصل فدلّ على أنّه منهم، وأمّا قول الحسن إنّه كان من الجنّ وما احتجّ به من الآية فقد فسّره ابن عبّاس قال: أشراف الملائكة والكبراء منهم يقال لهم الجنّ لأنّهم استتروا عن أعين الملائكة لشرفهم وكان إبليس منهم. قال: وكان له سلطان السماء الدنيا وسلطان الأرض وكان يسمّى طاؤوس الملائكة وليس فى (218) السماء الدنيا مكان إلاّ وقد سجد عليه، ولما عصت

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 39 آ، -4 (2) الصحاح 2/ 906 ب (3) القرآن الكريم 18/ 50 (4) القرآن الكريم 18/ 50

الجنّ فى الأرض بعثه الله فى طائفة من الملائكة فطردوهم إلى الجزائر وأطراف الجبال، فاغترّ فى نفسه وقال: من مثلى؟ ولم يسجد لآدم فمسخه الله شيطانا. قلت: (1) وظاهر الآيات تقتضى التعارض فينبغى التوقّف، قال ابن الجوزى: وقد قال: خلقتنى من نار وخلقته من طين، وإذا كان مخلوقا فى الأصل من النار فكيف يخلق من النور لأنّ الملائكة خلقوا من نور لما ذكرنا من قبل. وذكر أبو جعفر الطبرى رحمه الله فى تأريخه الكبير (2) الذى اعتماد أهل عصرنا عليه لثقته وفضله وتأييده فى هذا الفصل إنّ إبليس بعث حاكما فى الأرض يقضى بين الجنّ ألف سنة ثم عرج إلى السماء فأقام يتعبّد الله عزّ وجلّ حتى خلق الله آدم عليه السلام. وقال شهر بن حوشب: كان إبليس من الجنّ الذين يعملون فى الأرض بالفساد، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء، قلت: وهذا الوجه ضعيف جدّا لم أجد أحد من علماء السير وافقه عليه. وقال قتادة فى تفسير قوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ»}، أى: خرج عن طاعته، والفسق الخروج من قولهم: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها. وقال عبد الله بن أحمد بإسناده إلى ثابت البنانى قال: بلغنا أنّ إبليس ظهر ليحيى عليه السلام فرأى عليه معاليق من كلّ شئ، فقال له: ويحك ما هذه المعاليق؟ فقال: الشهوات التى أصيب بها بنى آدم! قال: فهل لى فيها شئ؟ قال: ربّما شبعت فتنقّلت فى الصلاة وتغلب على الذكر، فقال يحيى: فلله علىّ لا أملأ بطنى من طعام أبدا، فقال إبليس: ولله علىّ أن لا أفصح مسلما قطّ، وفى رواية: بشرا قطّ. وبه قال عبد الله بن أحمد بإسناده عن ابن عبّاس، قال: كان إبليس يأتى (219) يحيى بن زكريا طمعا أن يفتنه وعرف ذلك يحيى منه، وكان يأتيه فى

(1) قلت: سبط بن الجوزى (2) تأريخ الطبرى 1/ 85،13

صور شتّى فقال له: أحبّ أن تأتينى فى صورتك التى أنت عليها، فأتاه فيها فإذا هو مشوّه الخلق كريه المنظر جسده جسد خنزير ووجهه وجه قرد وعيناه مشقوقتان طولا وأسنانه كلّها عظم واحد وليس له لحية ويداه فى منكبيه وله يدان آخرتان فى جانبيه وأصابعه حلقة واحدة وله ضفيران كالليف، وعليه لباس المجوس واليهود والنصارى، وفى وسطه منطقة من جلود السباع فيها كيران معلّقة وعليه حلاحل، وفى يده جرس عظيم، وعلى رأسه بيضة من حديد معوّجة كالخطّاف، فقال له يحيى عليه السلام: ويحك ما الذى شوّه خلقك؟ فقال: كنت طاؤوس الملائكة فعصيت الله فمسخنى فى أنجس صورة وهى ما ترى، قال: فما هذه الكيران؟ قال: شهوات بنى آدم، قال: فما هذا الجرس؟ قال: صوت المعازف والنوح، قال: فما هذه الخطاطيف؟ قال: أخطف بها عقولهم، قال: فأين تسكن؟ قال: فى صدورهم وأجرى فى عروقهم، قال: فما الذى يعصهم منك؟ قال: بغض الدنيا وحبّ الآخرة! وقال الخطيب بإسناده عن ابن المنادى، قال: يجئ الشيطان الذى يقال له القرقيّة فى صورة طائر، وفى رواية: يجئ الشيطان فى صورة طائر يقال له القرقيّة فيخفق بجناحه على عين الرجال الذى يقر أهله على الفاحشة فلا ينكرها بعد ذلك. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله (1) بإسناده عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يضع إبليس عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجئ أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئا، ويجئ أحدهم (220) فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله فيدنيه منه

(1) المعجم المفهرس 2/ 461؛ صحيح مسلم 8/ 138، المنافقون

ويلتزمه ويقول: نعم أنت أنت، انفود بإخراجه مسلم. وذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه عن ابن مسعود أنّ الشيطان إذا طاف بأهل مجلس ذكر ليفتنهم فلم يقدر على التفرقة بينهم فأغرى بين أهل المجلس الآخر فاقتتلوا فقام أهل الذكر على التفرقة بينهم فحجزوا بينهم حتى تفرّقوا. وذكر عبد الله أيضا عن قتادة، قال: لإبليس شيطانا يقال له قبقب يحمّه أربعين سنة فإذا دخل الغلام فى هذا الطريق قال له: دونك وإيّاه فإنّما أحممتك لمثل هذا أجلب عليه وأفتنه. وقد ورد فى الشيطان حديث أنّه جاء إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم، قال ابن الجوزى: حدثنا جدّى حدّثنا محمّد بن عبد الملك بن جيرون بإسناده إلى عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل أقبح الناس وجها وثيابا وأنتنهم ريحا حافيا يتخطّى رقاب الناس فجلس بين يدى النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال: من خلقك؟ قال: الله، قال: فمن خلق السماء والأرض؟ قال: الله، قال: فمن خلق الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا إبليس جاء ليشكّككم فى دينكم! قال ابن الجوزى: قال جدّى: هذا حديث لا أصل له وعبد الله بن دينار ضعيف تهم فى الأحاديث، وهذا إنّما هو حديث أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الشيطان يأتى أحدكم فيقول: من خلق كذا من خلق كذا من خلق الله، وتمّ الحديث، وقد خلّطه ابن المدائنى، وحديث أبى هريرة صحيح، ولمسلم عن جابر عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: إذا أذّن المؤذّن هرب الشيطان حتى يكون بالروحاء من المدينة ثلاثون ميلا.

(221) ذكر أولاده الخمسة

(221) ذكر أولاده الخمسة (1) قال الله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي»} (2)، الآية، وروى مجاهد عن ابن عبّاس أنّه قال: بلغنا أنّ لإبليس أولاد كثيرة، واعتماده على خمسة منهم: ثير، والأعور، ومسيوط، وداسم، وزلبنور، وقال مقاتل: (3) لإبليس ألف ولد ينكح نفسه ويلد ويبيض كلّ يوم ما أراد، وقال كعب الأحبار: ومن أولاده: المذهب وخنزب، وهفاق، ومرّة، والولهان، والمتقاضى، فأمّا ثير فصاحب المصائب يأمر بلطم الخدود وشقّ الجيوب ودعوى الجاهليّة، وأمّا الأعور فصاحب الزنا يزّينه إلى الذكور والإناث، وأمّا مسيوط فصاحب الكذب والنميمة، وأمّا داسم فيرى الرجل عيوب أهله فيبغضهم إليه، وأما زلبنور فيركز رايته فى الأسواق ويأمرهم بالتطفيف والخيانة، وأمّا المذهب فموكل بالعلماء يردّ عم إلى البدع، وأما خنزب فموكل بالمصلّين يلقى عليهم النوم والسبات. وقد روى فى خنزب حديث فقال أحمد (4) بإسناده إلى أبى العلاء بن الشخير أنّ عثمان بن أبى العاص الثقفى قال: يا رسول الله: حال الشيطان بينى وبين صلاتى وبين قراءتى، قال: ذاك الشيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا، قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عنّى، انفرد بإخراجه مسلم، وهفاق صاحب الخمر، ومرّة صاحب اللواط، والولهان يوسوس فى الوضوء.

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 40 ب،5 (2) القرآن الكريم 18/ 50 (3) قارن التبصرة 2/ 190،4 (4) مسند أحمد بن حنبل 4/ 216؛ لسان العرب 1/ 354

ذكر الجن رواية ابن الجوزى

ذكر الجن رواية ابن الجوزى (1) قال علماء اللغة: أصل الجنّ من الاستتار ومنه الجنين لأنّه مستتر (222) فى بطن أمّه، ومنه المجنّ لأنّه يستر حامله من وقع السهام، ومنه الجنّة لاستتار أرضها بورقها، وقال الجوهرى: (2) إنّما سمّوا بذلك لأنّهم لا يرون. وأمّا الشيطان، فقال الجوهرى: (3) الشيطان كلّ عات متجبّر من الإنس والجنّ والدوابّ ومن بعد غوره فى الشرّ، واختلفوا فى اشتقاقه على قولين: أحدهما: من شطن، أى: بعد عن الخير فنونه على هذا أصليّة، والثانى: أنّه من شاط يشيط إذا احترق، ومنه شاطت القدر، وقال أحمد بن حنبل: (4) حدّثنا عبد الرزّاق، حدّثنا معمر، حدّثنا الزهرى عن عروة عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلق الجانّ من مارج من نار، وقد فسّره ابن عبّاس فقال: المارج لسان النار الذى يكون فى النار <طرفه> (5) إذا التهبت. وقال الجوهرى: (6) المارج نار لا دخان لها خلق منها الشيطان. واختلف الرواة عن ابن عبّاس: هل الجانّ إبليس أم غيره، فروى عنه عكرمة أنّه قال: (7) إبليس أصل الجنّ والشياطين وهو أبو الكلّ، وروى مجاهد عنه أنّه قال: الجانّ اسمه شومان، وهو أبو الجنّ كلّهم كما أنّ آدم أبو البشر كلّهم، وروى سعيد بن جبير عنه أنّه قال: هذا الفنّ خمسة أنواع: جانّ وجنّ وشيطان وعفريت ومارد، وأضعفها الجانّ وهو مسيخ الجنّ كما أنّ القردة والخنازير

(1) مأخوذ من مرآة الزمان 38 ب،2 (2) الصحاح 5/ 2093 آ (3) الصحاح 5/ 2144 ب (4) المعجم المفهرس 6/ 196؛ مسند أحمد بن حنبل 6/ 153؛6/ 168 (5) طرفه: مرآة الزمان (6) الصحاح 1/ 341 آ؛ الشيطان: الجان الصحاح (7) قارن كتاب التبصرة 2/ 189، -3

مسيخ الإنس وأقواها المارد، وقال الحسن البصرى: الشياطين أولاد إبليس لا يموتون إلاّ معه والجنّ يموتون قبله، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: خلق الله قبل آدم الجانّ بألفى سنة، وقد روى مرفوعا، والموقوف أصحّ. (223) وحكى السدّى رحمه الله عن أشياخه، قالوا: فى الجنّ المؤمن والكافر والقدريّة والمعتزلة والجهميّة والشيعة وجميع الفرق، وحكى مجاهد عن ابن عبّاس أنّه قال: هم قوم على أصناف على صور الحيات والعقارب والأسد والذباب والثعالب ونحوها، وقال الترمذى: (1) حدّثنا على بن حجر بإسناده عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقتلوا الأسودين ولو كنتم فى الصلاة: الحيّة والعقرب، ووفّاه أبو داود، وفيه: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهما، قال الترمذى: (2) وفى الباب عن رافع بن خديج وابن عبّاس، وحديث أبى هريرة صحيح حسن، والعمل عليه عند بعض أهل العلم من الصحابة وغيرهم من بعدهم، وكره بعضهم ذلك، والقول الأوّل أصحّ. قلت: وعامّة العلماء على جواز قتل الحيّة والعقرب فى الصلاة وكرهه إبراهيم النخعى لأنّه عمل كثير، وقد روى أنّ النبى صلى الله عليه وسلم أمر أن يؤذنوا قبل قتلهم، فقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه بإسناده عن جرير بن عبد الله قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه إذا ظهروا فى مكان أن يؤذنوا بالانصراف قبل قتلهم يقال: خلّ الطريق ومر بإذن الله يعنى إذا تصوّر الجنّ فى صورة كالحيّات والعقارب. وقال ابن أبى ليلى: الحيّة البيضاء التى تمشى مستوية هى الجانّ فتلك التى تنذر قبل قتلهم، أمّا غيرها فلا ينذر بل يقتل، قال أبو جعفر الطحاوى:

(1) سنن الترمذى 1/ 241، الصلاة، باب 283 (2) قارن المعجم المفهرس 3/ 20

والمختار عند أصحابنا قتل الجميع بغير إنذار بحديث أبى هريرة الذى رويناه فإنّه مطلق فى حقّ الكلّ، قال: لأنّه بلغنا أنّ النّبى صلى الله عليه وسلم عهد ليلة الجنّ إلى الجنّ وأكّد عليهم العهود والمواثيق أنّهم لا يدخلون بيوت أمّته ولا يظهرون فإن (224) ظهروا قتلوا، لكن الأولى هو الإنذار عملا بجميع الروايات فإن لم يرجع قتل. وروى عروة أنّ عائشة قتلت حية فأتيت فى منامها فقيل لها: قتلت مسلما! فقالت: لو كان مسلما لما دخل بيوت أزواج النبىّ صلى الله عليه وسلم فقيل لها: هل كان يدخل عليك إلاّ وعليك ثيابك فأصبحت فزعة فتصدّقت بأثنى عشر ألفا، فأوّل هذا الخبر إباحة قتله من غير إنذار وآخره استحباب ذلك، وروى مجاهد عن ابن عبّاس أنّ الكلاب من ضعفاء الجنّ، وقال أحمد بن حنبل (1) بإسناده إلى أبى ذرّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكلب الأسود شيطان، انفرد بإخراجه مسلم، وفيه: الكلب الأسود البهيم، وبهذا الحديث يحتجّ أحمد بن حنبل فى إحدى الروايتين عنه أنّ الكلب الأسود البهيم يقطع الصلاة، ويروى عن معاذ وطاووس ومجاهد، قال أحمد: وفى نفسى من المرأة والحمار شئ وعند أهل الظاهر يقطع الصلاة. قال ابن الجوزى: ومذهب أصحابنا ومالك والشافعى وعامّة الفقهاء أنّه لا يقطع الصلاة مرور شئ من ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: لا يقطع الصلاة مرور شئ، وحديث أبى ذرّ حجّة فيه وقد بيّنّا هذا فى شرح البداية، يقول ذلك ابن الجوزى رحمه الله، وقال الحسن البصرى: الجنّ ثلاثة أصناف: صنف فى البحر وصنف فى البرّ وصنف فى الهواء، وروى عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قال: هم أربعون خيلا كلّ خيل ستمائة ألف وهم مأمورون ومنهيّون.

(1) المعجم المفهرس 6/ 52؛ صحيح مسلم 2/ 59، الصلاة

ذكر الجن وعدة قبائلهم وأصنافهم

واختلفوا هل بعث فيهم نبىّ أم لا، على قولين: أحدهما: إنّه بعث إليهم نبىّ اسمه يوسف لقوله تعالى: {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ»} (1)، وقال تعالى: {فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ»} (2)، فعلى هذا هم يحشرون ويحاسبون، والقول الثانى: إنّه لم يبعث فيهم نبىّ (225) وإنّما كان فيهم منذرين بدليل قوله تعالى: {وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ»} (3)، قاله مجاهد، وقال الكلبى: كانت الرسل قبل محمّد صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الإنس والجن جميعا. ذكر الجنّ وعدّة قبائلهم وأصنافهم رواية المسعودى قال المسعودى رحمه الله: (4) زعموا أنّ الشياطين خمسة وثلاثون قبيلة، وأنّ الذين يطيرون فى الهواء خمسة عشر قبيلة، والذين يمشون على أرجلهم خمسة وعشرون قبيلة، والذين فى الماء عشرون قبيلة، والذين يمشون ويخرجون مع الزوابع اثنا عشر قبيلة، والذين خصّوا بلهب النيران عشر قبائل، ومسترقون السمع ثلاثون قبيلة، وسكّان الهواء وهم مثل الدخان ثلاثون قبيلة، ولكلّ طائفة من هؤلاء القبائل ملك يردّ شرّهم. قلت: وقد ذكرهم الإمام فخر الدين الرازى فى كتابه المعروف بالسرّ المكتوم المختصّ بعلم الأسماء والطلسمات وهو كتاب جليل القدر فى هذا الفنّ جميع أسماء هؤلاء الملوك والرؤساء من الجنّ واستنزالهم وعزائمهم وكذلك ذكر الحكّام عليهم من الكواكب السبع السيّارة وذكر تسابيحهم وكيفيّة الأعمال فى الأوقات المخصوصة ما إذا أراد المتمهّر فيها إنشاء ما شاء من سائر العزائم التى تطيعها الملوك

(1) القرآن الكريم 6/ 130 (2) القرآن الكريم 19/ 68 (3) القرآن الكريم 46/ 29 (4) أخبار الزمان 12، -2

السبعة وكبار الرؤساء فعل: مثل: استنزال شمحيائيل الرئيس، والسيد سقريطس وغيرهم من الرؤساء المطاعين فى جميع قبائل الجنّ ممّا يضيق هذا التأريخ عن وصفهم. وقال المسعودى أيضا: (1) ومن الجنّ صنفا يعرفون بالسعالى يتصوّرون فى صور النساء الحسان يتزوّجن برجال من الإنس، فما حكى من ذلك أنّ رجلا يقال له سعيد بن الجهم تزوّج امرأة منهم وهو لا يعلم بها (226) فأقامت عنده وولدت منه أولادا، وأنّها معه على سطح يشرف على الجبّانة إذا بصرت نيرانا فى أقصى الجبّانة تأتلق فطربت وقالت: أما ترى إلى نيران السعالى شأنك وبنيك أستوصى بهم خيرا! وطارت من بين يديه فلم تعد إليه. ومنهم من يظفر بالآدمى فى الأماكن الخالية وفى القفار وفى الأماكن الخربة فيرقصه حتى يسقط ويمصّ دمه ويتركه طريحا، ومنهم صنف لا يفارق صور الحيّات والأفاعى فربّما قتلها الرجل فيهلك لوقته وإن كان صغيرا وكان له ولد قتل به، وذكر جدع بن سنان فى تأريخه (2) عن عبيد الأبرص الشاعر الجاهلى الآتى ذكره وخبره فى أخبار الشعراء الجاهليّة آخر الجزء الثانى إن شاء الله تعالى، قال: إنّ عبيد بن الأبرص حرج فى سفر له يريد الشأم من الحجاز مع نفر من قومه فلمّا صار ببعض الطريق إذ هو بشجاع قد أقبل وهو يلهث عطشا وخلفه حيّة سوداء تطرده، فقال بعض أصحاب عبيد: لو نزلت إليهما فقتلتهما لرجوناك، فقال عبيد: هذا إلى أن أنضح عليه ماء أحبّ إلىّ من أن أقتله، ثم نزل فقتل ذلك الأسود وحلّ أداواته فشرب وسقّى الشجاع ونضح عليه من الماء وانساب ذلك الشجاع ودخل جحره، ومضى عبيد فقضى حجته بالشأم فلمّا انصرف عائدا أغفى فى مفازة فانتبه وقد ضلّ واستابت قلوصه ولحقت بالظعن وبقى حائرا وأيقن

(1) أخبار الزمان 13،3 (2) أخبار الزمان 13، -5

الموت فلمّا جنّه الليل إذا بهاتف يقول (من الرجز): يا صاحب البكر المضلّ مذهبه … ما عنده من ذى رشاد يصحبه دونك هذا البكر منّا فاركبه … حتى إذا الليل تولّى غيهبه (227) وأقبل الصبح ولاح كوكبه … فحطّ عنه رحله وسيبه فالتفت عبيد فإذا هو ببكر كأحسن ما يكون فركبه وسار ليلته فأصبح بمنزله وكان بينه وبين أهله إحدى وعشرين مرحلة، وسبق رفقته بهذه المدّة، فنزل عنه وأنشأ يقول (من البسيط): يا أيها البكر قد أنجيت من كرب … ومن فياف تضلّ المدلج الغادى ارجع حميدا فقد بلغت مأمننا … بوركت من ذى سنام رائح غادى فأجابه البكر يقول (من البسيط): أنا الشجاع الذى أبصرته رمضا … فى مهمه <نازح> (1) عن أهله صادى فجدت بالماء لما ضنّ صاحبه … أرويت (2) من ضماء ولم تهمم بأنكاد الخير يبقى وإن طال الزمان به … والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد ثم قال: إنّ الأسود الذى رأيته يطردنى فهو عبدى أراد قتلى فكفيتنى شرّا وأرويتنى من ضماء ولن يضيع الخير بين حرّين، وأستحلف الله عليك، ثم غاب فلم أره. قلت: وقرأت هذه الحكاية بعينها فى تأريخ صاحب حماة الملك المنصور الآتى ذكره وذكر تأريخه فى موضعه، وأورد البيت الثانى من قول الشجاع مكان: أرويت من ضماء: (3) رويت منه، والرواية الأوّلة أصحّ.

(1) نازح: أخبار الزمان (2) أرويت من ضماء: رويت منه أخبار الزمان ||ضماء: ظماء (3) ضماء: ظماء

وقال المسعودى (1) بإسناده عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ الجنّ وإنّ الكلاب من الجنّ فإذا رأوكم تأكلون فالقوا إليهم فإنّ لهم أنفسا يعنى أنّهم يأخذون بالعين. ومن تأريخ جدع بن سنان (2) أنّ رجلا من حمير كان بسوق عكاظ مع جماعة من قومه وغيرهم، قال: فوقف عليهم راكبا على جمل قدر (228) شاة وهو عليها كالطود العظيم فأنشد: ألا من يهبنى ثمانين بكرة هجانا … سود عيونها مغبرة الألوانا يكن له بها إلينا امتنانا … نجيبة فى ضيقه إذا دعانا قال: فلم يجبه أحدا فضرب جمله فطار به مثل البرق الخاطف حتى دهش وحار كلّ من حضر، قال: فقال رجل من فزارة كان حاضرا: ألا أحدّثكم أهل ذا النادى بشئ رأيته بعينى وسمعته بأدنى؟ فقالوا: بلى والله! فقال: لقيت رجلا فى بعض المعابر راكبا على نعامة وعيناه مشقوقتان طولا فى أم رأسه تتّقد كالجمر فراعنى والله! فاستوقفنى وقال: ألا أنشدك شيئا من شعرى؟ فقلت: بلى والله! فأنشد: أباركه تذللها قطامى … قطنا بالتحية والسلام قال: حتى أتى على آخرها، فقلت: هيهات سبقك إليها أخو بنو ذبيان فقال: أبالله أنا والله نطقت بها على لسانه بسوق عكاظ وقلتها قبله بأربعمائة سنة، ثم تركنى وطار على نعامته.

(1) أخبار الزمان 14، -4 (2) أخبار الزمان 14، -1

ذكر الأمم المخلوقة من رواية المسعودى

ذكر الأمم المخلوقة من رواية المسعودى (1) قال المسعودى رحمه الله: روى أنّ الله عزّ وجلّ خلق ألفا وعشرون أمّة حذاء الكواكب الثابتة، فى البحر منها ستمائة أمّة وفى البرّ أربع مائة وعشرون أمّة، فأحبّها إلى البارئ سبحانه وأفضلها عنده صورة الإنسان فإنّه خلقه على صورة إسرافيل عليه السلام، وفى الحديث أنّ الله خلق آدم على صورته، قلت: (2) قال العلماء رضى الله عنهم: معناه على صورة آدم التى عليها هو فى الأرض وقالوا: يعود الضمير (229) إلى أقرب مذكور، وكأنّ الحديث جواب عن سؤال مقدّر تقديره: هل تغيّرت صورة آدم عمّا خلقها الله كما جرى لإبليس والحيّة لما نذكر من ذلك، فقال: إنّ الله خلق آدم على صورته دفعا لهذا السؤال، وأمّا النقص من طوله إنّما هو تغيير لشكله إلى هيئة هى أليق بالأرض، وجاء فى الحديث: لا تضربوا الوجوه فإنّها على صورة إسرافيل. ذكر الأمم المخلوقة بإزاء منازل القمر قال المسعودى رحمه الله: (3) زعموا أنّ كانت الجملة ثمان وعشرون أمّة بإزاء منازل القمر وهى المنازل العالية التى تقدّم ذكرها يحلّها القمر، قال: لأنّه عندهم المتولّى لتدبير العالم الأرضى بإذن الله تعالى، فخلقت أمزجة مختلفة أصلها الماء والهواء والتراب والنار، فهى متباينة الخلق، فمنها خفاف طوال ذوات أجنحة، كلامهم قرقعة، ومنها أمّة أبدانهم كما يكون بدن السّبع ورؤوسهم رؤوس الطير لها شعور وأذناب طوال، كلامها دوىّ، ومنها أمّة لها وجهان: خلقها وقدّامها فى رأس واحدة وأرجل كثيرة، كلامها كلام الطير، ومنها أمّة من الجنّ

(1) أخبار الزمان 15،10 (2) المعجم المفهرس 3/ 438 (3) أخبار الزمان 10،5

فى صورة الكلاب لها أذناب، كلامهم همهمة، ومنها أمّة تشبه بنى آدم أفواههم فى صدورهم وكذلك أعينهم، يصفرون صفيرا، ومنها أمّة كخلق الحيّات الهائلات لها أجنحة وأرجل وأذناب، ومنها أمّة تشبه نصف شقّ الإنسان بعين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة يقفزون قفزا، كلامهم شبه كلام الغرانيق، ومنها أمّة وجوههم كوجوه الآدميّين وظهورهم كأصلاب السلاحف، فى رؤوسهم قرون طوال كلامهم كعوى (1) الذئاب، ومنها أمّة لكلّ واحد منهم رأسان (230) ووجهان كوجه الآدميّين طوال الجثث جدّا، كلامهم كالرعد يهول من يسمعه، ومنها أمّة مدوّرة الوجوه، لهم شعور بيض، وأذناب كأذناب البقر، يرزقون من أفواههم النار، كلامهم كهمهمة الأسود، ومنها <أمّة> (2) فى خلق النساء، لها شعور وثدى، وليس فيهم ذكر يلقحوا من الريح وتلد أمثالها، ولها أصوات مطربة يجتمع إليها كثير من هذه الأمم لحسن أصواتها، ومنها أمّة فى خلق الهوامّ والحشرات إلاّ أنّها عظيم الخلق تأكل وتشرب شبه الحيوانات العشبيّة، ومنها أمّة شبه دوابّ البحر لها أنياب محدّدة كالخنازير بارزة وآذان طوال كآذان الحمير. قال المسعودى: وتتمّة ثمانية وعشرون أمّة على صور مختلفة لا يشبه بعضها بعضا. قلت: لعلّ ما ذكروا من أمثال هذه الأمم أجروهم على اختلاف صور الكواكب التى ذكرناها فى المنازل القمريّة فاختلاف صور هذه الأمم لاختلاف صور الكواكب المذكورة، هذا إنّما ذكروه من طريق الحدس والظنّ لإثبات

(1) كعوى: كعواء (2) أمة: أخبار الزمان

قولهم إنّ الأمم المخلوقة ثمانية وعشرون أمّة بإزاء الثمانية وعشرون منزلة، فكان هذا القول يحتاج إلى ما ذكروه من اختلاف خلق هذه الأمم، وهذا عندى وعند كلّ ذى ذوق فاسد، وذلك أن قالوا إنّ هذه الأمم فى حكم البرّ لا البحر، والناس من عالم بنى آدم ما خلى منهم مكان من المعمور فى الأرض فلم يشهدوا ولا أمّة واحدة من هذه الأمم المذكورة فى جميع مسكون الأرض، ولا ورد عن أحد من العلماء ولا ممّن يثق به أنّه رأى شئ منها، هذا فى العامر من الأرض، وأمّا الخراب منها فأجمع الناس أنّه لا يمكن أن يكون فى الخراب من الأرض حيوان لما ذكرنا من قبل، فأين تكون هذه الأمم؟ (231) وقال المسعودى أيضا: وإنّ هذه الأمم أعنى الثمانية وعشرين أمّة جميعها ركّب فيها حبّ الشهوة، وإنّهم تناكحوا فيما بينهم بعضهم ببعض فصارو مائة وعشرون أمّة مختلفين الخلقة، -بالله العجب من رجل عالم مصنّف مطّلع يذكر مثل هذا القول ويحرّر العدّة مائة وعشرين لا تزيد ولا تنقص، من أين لنا هذا؟ فلو قال-عفى الله عنه: وإنّهم تناكحوا فصاروا عدّة كثيرة ولا حرّر عددها لكان أقرب. ومن رواية المسعودى رحمه الله أنّه قال: (1) ومن عجائب خلق الله تعالى خلق النسانس، وقد ذكر قوم أنّهم خلقوا كمثل نصف الإنسان يعدو عدوا أشدّ من الريح، وربّما كان ببلاد العجم ويصاد ويؤكل ومنه برّى ومنه بحرى. قال: وذكر قوم أنّ سيّارة وقعوا بنسانس كثيرة فى مكان هو موطنهم فصادو منهم واحد وذبحوه وأكلوا وكان سمينا، فقال أحد القوم: ما أسمنه! فناداهم آخر من النسانس وهو مختف فى شجرة كثيفة: لا يا كاذبين! فقال إنّه كان

(1) أخبار الزمان 16.5: وقارن مروج الذهب 2/ 364 مادة 1338

يأكل الضر وكثير فسمن لذلك، ففهمّهم مكانه ونمّ على نفسه حتى أخذوه وذبحوه، فقال بعض القوم: ما أحمر دمه! فأجابه آخر من النسانس مختف أيضا وقال: كان يأكل السمّاق كثير، فنبّه أيضا على نفسه فأخذوه وذبحوه، فقال آخر من النسانس: لو كان سكت ما علموا بمكانه، فصادوا الآخر فناداهم آخر منهم: أنا والله ساكت ما أعلّمكم بمكانى! فأخذوا الآخر. قلت: أمّا النسانس فقد ذكروهم جماعة من الناس والمسافرين وذكروا أنّ فيهم بريّا وبحريّا وقد ذكرهم ابن زولاق رحمه الله فى تأريخه، وقال: إنّ النسانس شبيه بالإنسان يكمل بسائر أعضائه غير أنّ ركبتيه مسح وهو أشدّ (232) عدوا من الغزال، وذكر أنّ رجلا من التجّار سفّارا ورد إلى بلاد هى بلاد النسانس البحريّة والبريّة، فاستضاف برجل من أهل المدينة، ودار الرجل مطّلعة على البحر، قال: فنزل الضيف فى علّيّة مطلّة على البحر، ونزل صاحب المنزل فى حاجته، قال: فسمع الضيف من صدر العلّيّة كلاما يقول: يا سيدى ارحمنى لله تعالى وافتح علىّ هذا الباب! قال: فنهط (1) ذلك الرجل وفتح باب مغلق فخرجت منه جارية عريانة الجسد فخرّت نفسها من طاق مطلّ على البحر فغاصت ولم تظهر، قال: فحزن ذلك الرجل الضيف وندم ندما عظيما وقال فى نفسه: هذه جارية هذا الرجل وقد كان محترزا عليها فما ألجأنى إلى التعرّض وفتحى لها الباب حتى أهلكت نفسها، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، فبينا هو كذلك إذ طلع صاحب المنزل بالغداء للضيف فوجده كئيبا فسأله عن أمره فقصّ عليه الأمر وقال: معذرة إليك يا أخى! وها مالى بين يديك خذ منها ما شئت! قال: يقول ذلك والرجل صاحب المنزل يتبسّم منه وقال: يا أخى خفّف عليك

(1) فنهط: فنهض

إنّما هى سمكة كان فى أجلها بعد بقيّة فنجت، فقال: كيف سمكة؟ فقال: هذه من نسانس الماء شربتها البارحة من صيّادها بخمس كراديخ يعنى خمس الدراهم لأطعمك هى شواء، ثم كشف عن ما أحضره وقال: بسم الله وناولنى معصم بكفّ قد طبخ فى ذلك الطعام مع بقيّته، فقلت: أعوذ بالله ما هذا؟ قال: فزاد ضحك الرجل وقال: كل وطيب نفسك فإنّه مأكول لذيذ وسمك جيّد وليس لأهل هذه البلاد مأكولا أفخر منه، قال: فأبيت فأحضر إلىّ من غير ذلك فأكلت وعدت أكرّر عليه السؤال فقال: إلى نهار الغد إن شاء الله أريك عجبا تصدق القول فيه. قال: فلمّا كان الثلث الأخير من الليل أحضر لى دابّة وركب (233) أخرى وخرجنا إلى ظاهر المدينة وصحبتنا جماعة من أهل الرجل وعلى أيديهم كلاب كالأسود فظهر لنا ثلاثة نسانس شابّين وكهل فأطلقوا عليهم الكلاب فأدركوا الكهل وفاتوهم الشباب، قال: فلمّا أدركوا الكلاب الكهل وعادوا يراوغونه سمعت الكهل ينوح وينشد: يا ما مرّ لى يا ما قد دهانى … قد غدر بى دهرى ورمانى زمانى آف لدهرى كيف عادانى … من بعد ما كنت منه فى أمان لو كنت شابّا لما أدركتمانى … ولكن لسنى وشيبى إلى علانى آه من فرقتى لصحبى وخلانى … ومراتعى ومرابعى وقيعانى قال: ثم أدركوه الكلاب وبطحوه ولحقوه القوم وذبحوه. ثم سرنا غير بعيد فظهر لنا رجل وامرأة ومعهما صغيرة تقدير سباعيّة العمر، قال: فأدركوا الصغيرة فأخذوها ونجا الرجل والمرأة، قال: فعادت المرأة تنظر إلى ولدها الصغيرة وتبكى وتولول والصغيرة أيضا كذلك، قال: فكدت

ومن عجائب الدنيا

أسقط عن الدابّة لما لحقنى من الرحمة على تلك الطفلة وقد قصدوا ذبحها والأمّ تنظر إليها وهى تستغيث لأمّها بأعذب كلام، قال: فلم أملك نفسى دون أن أطرحت عليها وسألتهم فيها وخلّصتها وأطلقتها لأمّها فأخذتها وعديا أشدّ عدوا من الغزال. ومن عجائب الدنيا ما ذكره صاحب كتاب ترصيع الأخبار وتنويع الآثار والبستان فى غرائب البلدان والمسالك إلى جميع الممالك تأليف أحمد بن عمر بن أنس العذرى رحمه الله، قال: (1) باليمن جبل ينبع منه ماء فتسيل على جانبيه فتجمد قبل أن يصل إلى الأرض فيكون منه الشب اليمانى. وقال: (2) ومن العجائب أنّ أهل (234) الحجاز واليمن يمطرون الصيف كلّه ويخصبون الشتاء ومطر صنعاء اليمن وما والاها حزيران وتموّز وآب، وبعض أيلول، من الزوال إلى المغرب لا يصحون ويلقى الرجل منهم صاحبه فيكلّمه فى حاجة وذلك يكون فى نصف النهار فإذا أطال معه الحديث يقول له: عجّل قبل نزول المطر! هذا والسماء صاحية والشمس ظاهرة تحرق بحرّها ولا غيم ظاهر ولا سحاب متراكم، فيكلّمه أيسر كلام لأنّه جرت عوائدهم أنّه لا بدّ من مطر فى مثل ذلك الوقت فإن طال كلامهم لحظة واحدة أدركهم المطر فلا تزال تمطر إلى المغرب مطرا مترادفا متراكما وتمتلئ السماء سحبا وتغيب الشمس عن الأبصار بالسحب والأمطار فى ساعة واحدة، هذا دأبهم دائما. قال: (3) وفى بلاد الروم مدينة يقال لها المستطلة المطر فيها وفى أعمالها دائما ليل

(1) المسالك 172،12 (2) المسالك 156،9 (3) المسالك 156،4

ونهار لا يصحون صيفا ولا شتاء حتى إنّ أهلها لا يقدرون على دراس زروعهم جملة كافية وإنما يجمعونها ويحزمونها بسنبلها فى بيوتهم فإذا احتاجوا لشئ منه فركوا منه كفايتهم، وهم على هذه الحالة فى جميع الزمان ليس يوجد عندهم قمحا ولا شعيرا ولا أرزّا إلاّ فى سنبله. قال: وفى أرض عاد منارة نحاس عليها راكب من نحاس فإذا كان أوّل الأشهر الحرم يهطل منها الماء فيشرب منها الناس ويسقون بهائمهم ويملأون منه جميع أجبابهم وحياضهم وصرفوه فى جميع مصالحهم واختزنوا منه كفايتهم، فإذا انقضت الأشهر الحرم انقطع سيلان ذلك الماء من تلك المنارة ولم يبق له أثر، قال: ذكر ذلك أبو الحسن الحبهانى، والله أعلم. (235) قال: وذكر أبو الحسن الحبهانى أيضا أنّه رأى بين بلحسان وبين ركن مندك فى جبل كبير عالى فرسا واقفا فى أوعر موضع يكون فى الجبل وصورته صورة فرس كليلة أشهب اللون مليح الكفل والأذنين حسن التناسب لم يوجد مثله فى الخيل لحسن صفته وهو فى موضع لا يقدر أحد أن يصل إليه قائم على صفاة هنالك، وذكروا رفقته الذين كانوا معه أنّهم لم يزالوا يرونه هنالك واقف فى نفس تلك الصخرة وأنّه لم يقدر أحدا أن يصل إليه بحيلة ولا بوجه من الوجوه. وقال أحمد بن عمر: وفى جزيرة فى المشرق يقال لها واق الواق أهلها مثل أهل الصين إلاّ أنّهم أعظم أجساما وأجمل ولسانهم غير لسان الصينّيين، وطعامهم الحنطة وشرابهم ممّا يتّخذونه من الحنطة، وذهبهم كثير حتى إنّ سلاسل كلابهم ذهب وكذلك أطواقهم ويأتون للتجّار بقمص منسوجة بالذهب للبيع ممّا يدلّ على كثرة الذهب عندهم. وذكر أنّ بهذه الديار مراسى ولكلّ مرساة منهم نهر عظيم تدخل فيه السفن،

وأنّه دخل قوم فى نهر من أنهار تلك المراسى وأخطئوا الطريق، فدخلوا فى بعض خلجان ذلك النهر فوقعوا فى جزيرة فرأوا أمّة من أمم الصين فصار الأبدان على مقدار أربعة أشبار، ولهم ملكا منهم يملكهم ويرجعون إليه، ولهم قرى حسنة بتلك الجزيرة كثيرة الخير والرزق والطير والبطّ والدرّاج، وأنّ أهل مملكته لمّا رأوهم استنكروهم لعظم أبدانهم فنادوا بلغتهم أنّ الشياطين قد أقبلوا فسمّوهم الشياطين. وسئلوا هؤلاء المسافرين عمّا رأوا من العجائب فذكروا أنّ البحّارين يشدّون نشّابة لها فصل على أعلا الصارى ويصيرون ريشها عاليا ونصلها (236) سافلا فإذا أصابتهم شدّة من عواصف الرياح وطغى عليهم البحر وترادفت أمواجه وكثر الرعد والبرق ويأسوا من كلّ شئ فيروا شيئا فى البحر كالكوكب الضخم على طرف النشّابة فيكون ذلك علامة السلامة وأمانا لهم من الغرق، وربّما رأوا ذلك فى الليل ثلاث مرّات وأكثر من ذلك، ولا يكون ذلك فى ليالى الصحو، وعامّة ما يرى ذلك فيما بين سرنديب إلى أن يجاوز ميكالوس. وقال أحمد بن عمر: وكذلك إذا كان وقت هيجان الربح واضطراب الأمواج فى البحر الشامى وجزع أهل السفينة نزل نور على رأس الصارى وربّما تنقّل ذلك النور إلى موضع آخر من السفينة فإذا رأوه البحريّون استبشروا بالسلامة وقالوا: نزل علينا مصباح السلامة. قال: وذكر أنّ سمكة يقال لها وال طولها مقدار مائة وأربعين ذراعا فإذا شربت الماء العذب ماتت، يكون رأسها قدر باعين وإذا كانت ملقاة بين رجلين قائمين لم يرى أحدهما الآخر ويكون طول جناحيها خمسة أبواع، وربّما كان جناحها الواحد إذا رفعته فوق الماء كالقلع الكبير، ولا تؤذّى هذه السمكة إلاّ

أن تكون نائمة فلذلك يتيقّضون (1) عامّة الليل لئلاّ يمرّون بها وهى نائمة فتخرق السفينة إن مرّت بها. وذكر أيضا أنّ سمكة يقال لها بث الأصمّ يزعمون أنّها لا تسمع ولا تؤذّى أحد ولا تعيش فى الماء العذب وإذا الزقت بالسفينة لم تفاوتها حتى يبدو لها البرّ. وذكر أنّ سرطانا يسمّى فشك يكون فى بلدة تسمّى شرارب قريب من سرنديب، وأنّها ما دامت فى الماء وهى حيّة يأكلونها فإذا خرجت صارت حجارة. وزعموا أنّه رأى رجلا فى غبّ سرنديب (237) فى موضع يقال له موزرة فى غياضها أراد أن يقطع خشبا لإصلاح مركبه فرأى جارية عريانة على طول أربعة أشبار صغيرة الفرج فى رأسها زغب وإنّها هربت منه، فلمّا وقف أقبلت تنظر إليه فلمّا عاود طلبها ضربت بيدها إلى بعض أغصان شجرة من تلك الأشجار الشاهقة الطول ثم تصلّقت (2) فيها من غير أن تضع رجلها على شئ من تلك الشجرة فرجع عنها ثم إنّه حكى ذلك لأهل تلك البلدة وسألهم عن ذلك فقالوا له: إنّ عند ملكنا رجل منهم فذهبوا به حتى رآه فإذا هو مثل تلك الجارية التى رآها على قدّها وصورتها وخلقها، وذكره مثل ذكر الرجال إلاّ أنّه صغير، وزعموا أنّ مثله فى تلك الغياض كثير يأكلون ثمر الشجر والجوز واللون وما أشبه ذلك ولا يتكلّمون إلاّ صغيرا. وذكر أنّه رأى بجزيرة بيومة التى منها إلى قشمير الهند مسيرة خمسة أيّام سنانيرا لها أجنحة كأجنحة الوطواط ولها شعر كشعر الخنازير وهى على صفة القطّ وهو السنّور.

(1) يتيقضون: يتيقظون (2) تصلقت: تسلقت

(238) ذكر النار أجارنا الله من عذابها

قلت: انتهى الكلام فيما وقعنا عليه من العجائب وذلك ما حققناه بالإسناد إلى الثقاة (1) من الرواة، وما عدى ذلك من الأحاديث الشادّة فأضربنا عنها لقلّة الثقة بناقليها، ونبتدئ الآن بذكر النار أجارنا الله من عذابها وما أعدّ الله فيها من العذاب للمجرمين الكافرين، وأخّرنا ذكرها إلى هاهنا كونهم أجمعوا على أنّها سفلا وليس بعلوّ، فاقتضى ذلك أن نذكرها فى الحقوق الأرضيّة، ونذكر ما ورد فى ذكرها من الأخبار ونتبعه من الآثار، ونسأل الله أن يجيرنا من عذابها ويجعلنا من أهل جنّته الداخلين من أبوابها والملتذّين بنعيمها وشرابها. (238) ذكر النار أجارنا الله من عذابها (2) قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (3) بإسناده عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: كنّا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعنا وجبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجرا (4) أرسل فى جهنم من سبعين خريفا والآن انتهى إلى قعرها، انفرد بإخراجه مسلم، والوجبة هى السقطة مع هذه، وهذا الحديث يدلّ على أنّ النار فى الأرض وقد نصّ عليه ابن سلام وقال: كذا هو فى التوراة، فإن قيل: ففى حديث المعراج أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال: رأيت الجنّة والنار ولم يقل رأيت النار فى السماء. قال ابن الجوزى رحمه الله: أنبأنا جدّى بإسناده إلى سعيد بن بشر عن قتادة

(1) الثقاة: الثقات (2) مأخوذ من مرآة الزمان 37 ب، -21 (3) المعجم المفهرس 7/ 140؛ مسند أحمد بن حنبل 2/ 371؛ صحيح مسلم 8/ 150، الحنة. (4) حجرا: حجر مسند ابن حنبل

وفى رواية عن ابن أبى الدنيا عن شعبة، قال: أخبرنى من رأى عبادة بن الصامت على حائط بيت المقدّس الشرقى يبكى ويقول: من هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه رأى جهنّم ليلة المعراج، قال: وكذلك سمّى وادى جهنّم، ويحتمل أنّ الله تعالى أراه إيّاها فى تلك الليلة كما جلّى له بيت المقدّس، وذلك أبلغ فى إظهار القدرة ولأنّ النار حبس والحبس يكون فى جهة السفل بخلاف الجنّة فإنّها بستان والبستان فى جهة العلوّ. وروى مجاهد عن ابن عبّاس فى تفسير قوله تعالى: {لَها سَبْعَةُ أَبْاابٍ»} (1)، قال: دركات بعضها فوق بعض، فأوّلها: جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. قال ابن الجوزى رحمه الله: (2) قرأت على شيخنا أبى اليمن زيد بن الحسن الكندى رحمه الله قال: قرأت على شيخنا أبى المنصور ابن الجواليقى (239) رحمه الله قال: اشتقاق جهنّم من قول العرب: ركيّة جهنّام، بكسر الجيم إذا كانت بعيدة القعر. وكذا قال فى الصحاح: (3) جهنّم من أسماء النار التى يعذب الله بها عباده، قال: ويقال: هو اسم فارسى معرّب، وركية جهنام بكسر الجيم والهاء، فأمّا لظى، فقال الجوهرى: (4) هى اسم من أسماء النار معرّفة لا تنصرف وأصلها من اللهب، وأمّا الحطمة فمن الحطم وهو الكسر لأنّها تحطم ما تلقى، وأمّا السعير فمن التسعّر وهو التوقّد، وأمّا سقر فمن البعد ويوم مسقر ومصقر شديد الحرّ، وأمّا الجحيم،

(1) القرآن الكريم 15/ 44؛ قارن الجامع لأحكام القرآن 10/ 30 (2) المعرب 107 (3) الصحاح 5/ 1892 آ (4) الصحاح 6/ 2483 ب

فقال الجوهرى: (1) كلّ نار عظيمة فى مهواة فهى جحيم من قوله تعالى: {قالُوا اِبْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ»} (2)، والجاحم المكان الشديد الحرّ، قال الجوهرى: (3) وأمّا الهاوية فإنّما يقال: هاوية أى مستقرّه فى النار، قال: والنار تجمع الكلّ وهى مؤنّثة من ذوات الواو، وتصغيرها نويرة وجمعها نور وأنور ونيران. وقد جاءت فى ذكر النار أحاديث قال: حدّثنا أحمد بن حنبل (4) حدّثنا عبد الرزّاق حدّثنا معمر عن همام بن منبّه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناركم هذه ما توقد بنى آدم جزءا واحدا من سبعين جزءا من حرّ جهنّم، قالوا: يا رسول الله والله إنّها لكافية، فقال: إنّها فضلت عليها بتسعة وستّين جزءا كلّهن مثل حرّها، أخرجاه فى الصحيحين. وفى الصحيحين (5) أيضا بهذا الإسناد عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشتكت النار إلى ربّها فقالت: يا ربّ أكل بعضى بعضا فنفّسنى فأذن لها أن تتنفّس نفسين نفسا فى الشتاء ونفسا فى الصيف فأشد ما تجدون من الحرّ فمن حرّ جهنّم وأشدّ ما تجدون من البرد من زمهرير جهنّم (240) فى أخبار كثيرة. قال أحمد بن حنبل (6) بإسناده إلى حميد بن عبيد يقول: سمعت ثابتا البنانى يحدّث عن أنس بن مالك عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال لجبرائيل: ما لى لم أر ميكائيل ضاحكا قطّ؟ فقال: منذ خلق الله النار لم يضحك، أخرجه أحمد بن حنبل فى المسند،

(1) الصحاح 5/ 1883 آ (2) القرآن الكريم 37/ 97 (3) الصحاح 6/ 2539 آ (4) المعجم المفهرس 5/ 158؛ صحيح البخارى 2/ 219، بدؤ الخلق، باب 10؛ صحيح مسلم 8/ 149، الحنة||ناركم-جهنم: ناركم هذا التى يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزء من حر جهنم صحيح مسلم (5) صحيح البخارى 2/ 219، بدؤ الخلق، باب 10 (6) مسند أحمد بن حنبل 3/ 224

ذكر من تحت الأرض من السكان وهل ذلك خلا أم ملا حسب الإمكان

وقال أحمد: حدّثنا أبو عبد الرحمن حدّثنا موسى بن على، سمعت أبى يحدّث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عند ذكر أهل النار: كلّ جعظرى جواظ مستكبر جماع مناع، الجعظرى: الفض الغليظ، وذكره الجوهرى: (1) وقال: قال ابن السكّيت: يقال للرجل إذا كان قصيرا غليظا جعظارة بكسر الجيم، والجواظ الجموع المنوع، قال الجوهرى: (2) الجواظ والجظ الرجل الضخم، قال: وفى الحديث: أهل النار كلّ حبط مستكبر، قال: وكذا الجعظ. ومذهب أهل الحقّ أنّ النار مخلوقة، وقالت المعتزلة والجهميّة: لم تخلق بعد لأنّها دار تعذيب وجزاء، وليس هذا وقته، ودلّنا قوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ»}، (3) والمعدّ ما يكون موجودا، وما ذكروه فنقول: جهنّم حبس العصاة فوجودها أبلغ فى الزجر من عدمها، وعلى هذا الخلاف الجنّة أيضا، وقد تقدّم القول بذكرها متّعنا الله بها بجواره بمحمّد وآله. ذكر من تحت الأرض من السكان وهل ذلك خلا أم ملا حسب الإمكان (4) روى السدّى (5) عن أشياخه أنّ لكلّ أرض سكّانا فسكّان الأرض الثانية: الريح العقيم، وهى التى أهلكت قوم عاد، وسكّان الثالثة: حجارة جهنّم التى ذكرها الله تعالى فى قوله: {وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجارَةُ»}، (6) الآية (241)، الرابعة: كبريت جهنّم، الخامسة: فيها حيّات جهنّم، السادسة: فيها عقارب جهنّم كالبغال الدهم وأذنابها مثل الرماح، السابعة: إبليس وجنوده.

(1) الصحاح 2/ 615 ب (2) الصحاح 3/ 1171 ب (3) القرآن الكريم 2/ 24 (4) مأخوذ من مرآة الزمان 37 ب،6 (5) قارن كتاب التبصرة 1/ 189 (6) القرآن الكريم 2/ 24

وروى عن عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قال: فى كلّ أرض آدم كآدمكم، وهذا القول بعيد ولم يرد به خبر ولا أثر، وإنّما هو آدم واحد وهو أبو البشر، وقد أخذ على أبى العلاء المعرّى قوله (من الطويل): وما آدم فى مذهب العقل واحد … ولكنه عند القياس أوادم ومن المستحسن فى المعنى قول الآخر (من السريع): افترق العالم من آدم … واجتمع العالم فى آدمى فجعلة العالم من واحد … وواحد من جملة العالم ومذهب الأوائل أنّ الأرض على صفة واحدة كالمحّة فى البيضة وإنّما تختلف أجناسها وليس تحتها سوى الماء، والله أعلم. قلت: قد انتهى القول فى ذكر الأرض وخلقها وجميع ما ورد واتّصل بنا من مخلوقاتها وسكّانها ببرّها وببحرها، وسهلها ووعرها، جهد الطاقة وحسب الاستطاعة، وذاك كلّه بمعونة الله تعالى وحسن توفيقه، ولنتبع ذلك بذكر مقامة من مقامات ابن الجوزى رحمه الله فيما يتعلّق بذكر الجنّة والنار، لما فيها من الأخبار والآثار، تبصرة وذكرى لأولى الأبصار. ثم نتلوها بما للعيون يجليها، وللقلوب يجلوها، لقول الإمام على عليه السلام: إنّ القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد فابتغوا لجلائها طرائف الحكم. وأثبتّ هذا الفصل آخر هذا الجزء لثلاث وجوه: الأوّل: اتّباعا لهذا الخبر الوارد عن مثل الإمام الأروع والبطل السميدع (242) الأسد الوائب، والليث الغالب، الإمام علىّ بن أبى طالب، الثانى: إنّا ذكرنا الأرض وجبالها، ورمالها وتلالها، وبحارها وأنهارها وسكّانها من أممها جنّها وإنسها من مخلوقاتها، فأحببنا أن نردف ذلك بذكر المحبوب من نباتها، من أزهارها وثمارها والمستحبّ من

المقامة الرابعة والأربعون لابن الجوزى رحمه الله

أوقاتها، وهو زمن الربيع وما قيل فى جميع ذلك ممّا اخترناه من الشعر البديع، ووطّئنا لذلك من قولنا منثورا يفوق المنثور، ويطابق القريض فى الأثمار والزهور، ممّا لعلّه يستحلا حين يستجلا. الثالث: أنّ شرطنا أن نتلو آخر كلّ جزء من أجزاء هذا التأريخ بذكر فضلاء أوانه، الكاتبين فى مدّة زمانه، من أهل المشرق والمغرب، ونذكر من أشعارهم ما استملحناه لما لمحناه من طبقتى المرقص والمطرب، ولما كان هذا الجزء الأول ليس يختصّ زمانه مخلوق ننقل عنه ما اشترطناه من هذه الآثار، ولا كائن من هذه الأمم المذكورة من نورد عنه أشعار، أثبتنا هذه المقاطيع الزهريّات المختصّة بذكر بعض ما فى الأرض من النباتات، ليكون لهذا الجزء النسبة بما يتلوه من أمثاله، وإن كان ليس فيهم إلاّ من يضاهيه فى مثاله، ويناظره فى حكمه وأمثاله. المقامة الرابعة والأربعون لابن الجوزى رحمه الله ما زلت أعاهد على أن أتعاهد المواعظ، وأسعى بوسعى حتى أملأ سمعى من كلّ واعظ، فخلت بلدتنا مع كثرة العالم من عالم، فبقيت فيها كالحوت فى البيداء، والضب فى البحر، ثم سمعت أنّ عربيّا غريبا قد قدّم وجلس، فزاحمت مزاحمة من صدم وصدم (243) حتى جلس، فحمّدك وسبّحك ودعا، ثم قال: رحم الله من سمع ودعا، فتأملته فإذا سوقب دملص، وإذا سحر كلامه لسحرى يعتضّ، فقلت: إنّ هذه لشجرة وريقة فأنا أغتنم لفظ هذا وريقه، فأروى بجزع مواعظه كلّ نسيس، وأهوى بزواجره خدع إبليس. فجعلت ذهنى إلى ما يقال، فأدرك حفظى من لفظه أن قال: يابن آدم تفكّر

فى أمرك، تعرف قصر عمرك وتلمح انقضاض قصرك عند انقضاء عصرك، فكأنّك بك وقد نودى راكب شؤونك ابرك، وسطت العلل، فانبسطت انبساط الفلل، من شونك إلى ظفرك فيا كثرة مرضك ويا قلّة صبرك، ثم جاء الملك فواقعها فانتزعها من صدرك، ثم ألغيت دليلا وألقيت فى قبرك، ورمت فى قفرك قد منيت بعقرك، ثم تقوم حزينا يوم نشرك لحشرك، وينصب لك ميزان ربحك وخسرك، وربّما امتدّت يد الفضيحة إلى هتك ستر سترك، ثم تمشى وأى قدم على جسرك. فقام شيخ فقال: حيّرتنى بزجرك، فقال: يا بعيدا عنّا أما تمّل طول هجرك، أما يكفيك بعد ظلام الشباب طلوع فجرك؟ قال: فما حيلتى؟ قال: أدرك واستدرك ويحك والله ما تساوى الملذّات أن تخاطر فيها باللذات، وأى راحة فى لقمات عند الحساب منتقمات، كم وقعت فى مهواة شهوات، ثم فارقت فأرقت وتبعت تبعات فدارك مادمت فى دارك هفوات الفوات، فما بينك وبين ما إذا نزل من الآفات آفات، إلاّ أن تعاين الوفاة وفات ويحك إنّما هو صبر مناعة عن الحرام أو للطاعات، فاز به المتيقّظون وفات أهل (244) الغفلات، وثبوا إلى الخير بين جمع وثبات، فنظر إلى ثباتهم فأعينوا بصبر وثبات، وتلقّتهم الراحة يوم التوفّى واندفعت الكربات، فلو رأيت العاصى وقد استلبته عند الرحيل أيدى النائبات، أصبح على الخمر والناى، فانظر أين بعد هذا النادى مات، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اِجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ»} (1). فقال السائل: بيّن لى أفعال القسمين! فقال: بين بيّن وسم الوسمين! أمّا الصالحون فخلّصوا نفوسهم من رقّ الهوى وأعتقوا، وسمعوا من ذا الذى يقرض

(1) القرآن الكريم 45/ 21

الله فصدّقوا فصدّقوا، فتراهم بين راكع وساجد إلى المساجد، قد سبقوا ولم يسبقوا، فلو عاينتهم فى الدجى وقد استغفروا وتملّقوا، وغربوا عن وادى الاعتذار عن الزلل وشرقوا، وجلوا مراد العين وخلوا، وطلقوا يتقلقلون كأنّهم غرقى قد تشبّثوا وتعلّقوا، فإذا جاء النهار هجروا مشتهاهم وطلقوا، حاسبوا أنفسهم على الكلمات والنظرات وحقّقوا، وبالغوا فى الورع وتناهوا ودقّقوا، وما كانت معاناة زرود إلاّ أيّاما وأعرقوا. قال: صف لى من حالهم، وقت ارتحالهم! فقال: لمّا نزل الموت وتيقّنوا أنّه آنه، وتقلقلت النفوس بين زفرة وأنّه، جاء ركابى: {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ»}، فكشف سجاف المنزل فحرّكوا الأعنّة، فرحلوا فوصلوا فدخلوا الجنّة، فأرواحهم فى حواصل طير تعلّق من تلك الشجر، وبقبورهم يستشفى ويستسقى المطر، فإذا نفخ فى الصور وأعيدت تلك الصور، جئ النجباء بنجائب مرحلة بالدرّ لا بالشعر فركبوا من قبورهم إلى قصورهم ما عندهم من (245) الحساب خبر، فتلقاهم الولدان، ومنع الجور البرور (1) الخفر، فإذا التقوا أحضرن مستبشرات بمن حضر، فلو رأيتهم متّكئين على الأرائك بعد بعد تعب السفر، والكؤوس دائرة والقطوف دانية بأنواع الثمر، يجرى تحت القصور جزاء ترك القصور نهر بعد نهر، فكم من ساقية جارية عليها جارية ساقية يحار فيها البصر، وعيدان الأشجار تغنّى فتغنى عن عيدان الوتر، فإذا اشتاقوا إلى الإخوان نفر نفر إلى نفر فحدّثهم ما كانوا فيه من صيام وسهر، نالوا بعد أن حدّق يأس ما لا يدخل تحت حدّ قياس من الطفر، والملائكة تدخل عليهم مسلّمة للجدال فى فضل البشر، وما كفاهم ما أعطاهم حتى تجلاّ مولاهم للنظر، فلا تعبّد مفترض ولا تكليف معترض، ولا يقال عرض قد انكسر، ولا شقاق ألفة

(1) البرور: كذا

ولا فراق طرمة، ولا مشاق كلفة، لطهارات البشر، ولا همّ يهمّ ولا غمّ يغمّ ولا تحريم يزمّ، عن قضاء الواطر، ولا عناء نصب ولا سقاء نعب ولا لقاء وصب يوجب دموع كدر، فسبحان من جاد عليهم غاية الجود، وبلغهم نهاية المقصود، ومنّ وما منّ بدوام الخلود، وهو آخر الأمل المنتظر. فقال السائل: اذكر لى حال القسم الآخر! فقال: كم بين من تقدّم ومن تأخّر، هؤلاء زلّوا بإيثار ما يزول، واستحلّوا ما يتغيّر ويحول، تكاسلوا عن الصلاة، فإن صلّوها نقصوا وأهملوا جانب الزكاة، فإن أخرجوا انتقصوا، غطوا أبصار البصائر بالخمر، وشغلوا أسماعهم عن الزواجر بالزمر، وبادروا بارد العيش فإذا البرد جمر، ورضوا فى الدين (246) بالوهى معرضين عن النهى والأمر. قال: صف لى مآلهم، وعرّفنى ما لهم! فقال: كلّما اشتدّ بالقوم عند الموت الألم، صاح لسان اللوم ألم أقلّ ألم، ثم تمزج لهم كؤوس الحسرات بدم ندم، فيتمنون لما قد صدم العدم، رحلت اللذّة عن الأفواه وتخلّفت مرارة الأسف، وصار بدر الأمل كالعرجون ثم أمحق وخسف، واشتدّ عليهم كرب الموت وتحسر به الفوت وعسف، فإذا الغصن الغضّ قد نحل وشسف، ثم نقلوا إلى قبر أخصب ما فيه العجب، وأزرى من تربة زرود النجف، فلو رأيته بالعاصى قد تزلزل ورجف، ثم يأتى منكر ونكير إلى مقرّ بذنوبه قد اعترف، فلا يجد مقرّا ولا مقرا أودى من الحيف، فعذابه دائم وعتابه قائم على الشرف، فإذا انشقّ ضريحه ظهر قبيحه، وانكشف فلقى فى القيامة ما يعجز عن وصفه من وصف، ثم يحمل إلى النيران فيلقى بين الأنتان والجيف، عقابها عميم، وشرابها حميم، وعذابها أليم، هذا وقد عكف، مقامعها حديد، وبلاؤها شديد،

تفسير الغريب من هذه المقامة

وقعرها قعر بعيد، والصديد مكان الصلف، فيها السلاسل والأغلال، والمقامع والأنكال، وهم بحال أى حال أصلح منها التلف، تولّى عنهم الأقارب، فتولّتهم حيّات وعقارب، كأنّها البغال أو نقارب، تدنو منهم وتقارب، فإذا اللحم مختطف، زمانهم ليل حالك، وضجيجهم ضجيج هالك، ويستغيثون يا مالك، وما التفت ولا انعطف، عقابهم عقاب وجيع، ونديمهم بئس القرين والضجيع، تجرى الدموع ثم النجيع، على القبيح الذى سلف، أفلا مميّز بين الدارين، أفلا فارق بين الفريقين (247)، أفلا مغتنم للحين بعد الحين، بلى من أحضر ذهنه عرف. فارتجن المجلس ثم ارتجّ، ولم يبق فيه عين إلاّ مجّ، فمنهم من تعلّق بالمنبر ومنهم من هجّ، فانحطّ الشيخ عن كرسيّه وانزجّ، فإذا أبو التقويم أعرفه بالحاجب الأزجّ، فأسرع فتبعته من فجّ إلى فجّ، فقال: ترانى أهرب وأنت تطلب يا فج، فقلت: الصحبة، قال: نوبت الحجّ، فاجتهدت وألححت فولج الدار ولجّ، فرجعت وما حظيت من حجّته إلاّ بالعجّ والثجّ. تفسير الغريب من هذه المقامة الشوقب: الطويل، والدملص: الأملس البراق، والنسيس: العطش، والغلل: الماء الذى يجرى تحت الشجر، ومنيت: ابتليت، وشسف: قحل، وارتجن: مثل ارتج. تمت ولله الحمد والمنّة.

ذكر المنظوم والمنثور فى الأثمار والزهور

ذكر المنظوم والمنثور فى الأثمار والزهور قلت: كنت قد ألّفت قبل هذا التأريخ عدّة كتب مفيدة تشتمل على جواهر فريدة: منها: كتاب وسمّيته: بحدائق الأحداق، ودقائق الحذاق، فى جزءين يجمع اثنتا عشرة حديقة، وتشتمل على معانى دقيقة وأشعار رقيقة كلّ حديقة لها عشرة أبواب، من فنون الآداب. ومنها كتاب سمّيته: تبر المطالب وكفاية الطالب: لخّصت فيه اثنى عشر كتاب، من كتب الآداب، مثل كتاب زهر الآداب، وكتاب تباشير الشراب، وكتاب الحيوان، وكتاب الخراج، وكتاب أبكار الأفكار، وكتاب ملح الملح، وكتاب كنز البراعة، وكتاب الكامل، وكتاب أدب الكاتب، وكتاب الصادح والباغم، وكتاب المستجاد من أفعال الأجواد، وكتاب جامع اللذّة، فى أربعة أجزاء. (248) وكتاب سمّيته ذخائر الأخائر يشتمل على ثلاثة ذخائر: الأوّلة: ذخيرة الدرّ الثمين فى ذكر الأوائل والمتقدّمين، الثانية: ذخيرة الياقوت البهرمان فى تأييد تنزيل القرآن بالدلائل القاطعة والبرهان، الثالثة: ذخيرة اللؤلؤ والمرجان فى خصائص البلدان فى جزء واحد. ومنها كتاب سمّيته: معادن الجوهر ورياض العنبر، يجمع ثلاث معادن فى عدّة فنون من الأدب فى جزء واحد، مع عدّة كتب هزليّة ألّفتها فى عصر الشباب الذى ذهب، فليتنى أقدر على استرجاعها ومحوها ولو بما أملك من فضّة وذهب، لكن سارت بها الركبان، وتعلّقت بأجنحة العقبان، وعادت كشبابى الذى لا أقدر على ردّه، الذى كان كأنّه عارية مستردّة، فلذلك لم أذكرها، وإن كنت لم أحضرها.

ومنها كتاب ألّفته قبل وضعى لهذا التأريخ المبارك، وله فى معانيه مشارك، وسمّيته أعيان الأمثال، وأمثال الأعيان، وذلك لما طالعت كتاب كليلة ودمنة لحكماء الهند، وعلماء السند، وإنّ جماعة من الفضلاء الإسلاميّين نسجوا على منواله، ولم يبلغوا أمثاله، فمنهم صاحب كتاب الصادح والباغم الشريف أبو يعلى محمّد بن الهبّاريّة رحمه الله، ومنهم كتاب سلوان المطاع لابن ظفر رحمه الله، ومنهم كتاب ثعلة وعفرة لسهل بن هارون الذى كان يسمّى بزرجمهر الإسلام، ولعمرى لقد أجادوا البلاغة، وأحسنوا الصياغة، وفضحوا بعدهم من رام الفصاحة، أو تجلاّ بملاحة، غير أنّ العبد على شعارهم، واقتبس من أنوارهم، وألّفت هذا الكتاب الذى سأذكر منه ما يليق بذكره فى هذا التأريخ وأقمت دعائمه على اسمين حسان، تورية عن القلب واللسان فأحدهما وتتمته ناطق الظّنين، والآخر سمّيته حاذق الأمين، (249) فوقع غريب فى أمثاله، لا يوجد مثاله، إذ هو إسلامى جاهلى، عربى عجمى، ملوكى سوقى، خاصّى عامّى. وجعلته عشرة محاضرات: الأوّلة: المحاضرة الربيعيّة ممّا تزهو على الدرّ المنثور فى تشابيه الفواكه والزهور، وهى التى أثبتها بجملتها فى هذا التأريخ إذ كلّ سمع للذّة سماعها يسيح. الثانية: المحاضرة الأوائليّة، التى بأخبار الأمم القديمة مليّة، وقد لخّصت منها فى هذا التأريخ أيضا، ممّا يزهو بحسنه على الفضّة البيضاء. الثالثة: المحاضرة النبويّة المشرّفة بذكر خير البريّة. الرابعة: المحاضرة الخليفيّة التى كلّ القلوب إلى سماعها مشتهية، وهذه المحاضرة والتى قبلها وما بعدها من هذا الباب، موفرة إجلالا لذلك الكتاب، للا (1) يكن قد أغرنا على جملته، وأضعنا حرمته.

(1) للا: لئلا

المحاضرة الأولة: وهى الربيعية

الخامسة: المحاضرة الملوكيّة، أولى المعانى الزكيّة. السادسة: المحاضرة الوزرائيّة، التى لأولى الفضل مرضيّة. السابعة: المحاضرة القضائيّة التى عن العلماء مرويّة. الثامنة: المحاضرة الشعرائيّة المشتملة على ذكر الشعراء الأوائليّة والعصريّة. التاسعة: المحاضرة الفلسفية الصادرة عن أقوال الحكماء المسميّة. العاشرة: المحاضرة النجوميّة، المشتملة على ذكر الأفلاك العليّة. المحاضرة الأولة: وهى الربيعية حدّث أنّه كان بجبل إصبهان، من بعد ما نسفته المزاود، وأفتنه المراود، تنّين، له عدّة من السنين، قد ألّف آلاف من الدهور، وألّف ألفا من الجحور، بين تلك الأحجار والصخور، وأخاف تلك المسالك، حتى جفل القاطن، وقفل السالك، وتحاماه الأقران، وتبادره الشجعان، إذ ليس يقطع فيه المران، ولا ينفع فيه سيف ولا سنان، (250) ودرست تلك الجادة الدوارس، ولا عاد يفترعها راجل ولا فارس، حتى عادت بكرا عذراء، لا تخطر على فكر عذراء، لعظم شرره وشرّه، وسمومه وحرّه، فلمّا تعطّلت تلك الربوع من الساكن والمسامر، وأمنت وطء الخفّ والحامر، عظمت أشجارها، وتكاثفت أثمارها، وطرز الأرض نباتها ونوارها، وأينعت أزهارها، وتجاوبت على أفنانها أطيارها، شحرورها وبلبلها وقمريّها وهزارها، وتكسّرت على حصبائها أنهارها، وأمالت الأرواح من الأشجار أغصانها، تقبّل فى الروض أوجه غدرانها، فكلّما زمر النسيم صفق الغدير على نغمات تلك الأطيار باختلاف ألحانها، فعادت كقول ابن وكيع فى زمن الربيع (من الكامل):

فرش الفضاء بأصفر وبأحمر … وبدت لنا حلل الربيع الأزهر (1) وافا على أثر الشتاء كأنّه … إقبال جدّ بعد أمر مدبر وكأنّ ذلك كان وجه محذّر … وكأنّ هذا جاء وجه مبشّر ورد كوجنة كاعب قد موزحت … فتراجعت خجلا بفرط تخفّر وكأنّما التأريخ فى أغصانه … أكر خرطن من العقيق الأحمر وكأنّ نور الباقلاء دراهم … قد ضمّخت أوساطها بالعنبر وكأنّما الأترجّ أكؤس عسجد … ولها مقابض من حرير أخضر والنرجس الريّان بين رياضة … يرنو بعين الباهت المتحيّر والجلّنار يريك من أثوابه … نوعين بين مزعفر ومعصفر فالآن فاغد إلى الخلاعة والصبا … لا تصفين إلى العذول المكثر أو كما ذكرنا من المنقول، لأبى إسحق الأندلسى حيث يقول: (من الكامل): (251) وعشيّة كم بتّ أرقب وقتها … سمحت بها الأيّام بعد تعذّر نلنا بها آمالنا فى جنّة … أهدت لنا سفها شميم العنبر والروض بين مفضّض ومذهّب … والزهر بين مدرهم ومدبر والورق تشدو والأراكة تنثنى … والشمس ترفل فى قميص أصفر فكأنّه وكأنّ خضرة شطّه … سيف تعلّق من نجاد أخضر وكأنما جنّاته محفوفة … بالآس والنعمان خدّ معذّر نهر يهيم بحسنه من لم يهم … ويجدّ فيه الشعر من لم يشعر ما اصفرّ وجه الشمس عند غروبها … إلاّ لفرقة حسن ذاك المنظر

(1) ديوان ابن وكيع 63، رقم 35؛ قارن حلبه 360

وقوله (من الخفيف): فى رياض أريضة تشرب فيها … السوارى أعلامها المعلمات بين صفر وبين حمر كلونى … أوجه الخائفات الخجلات ضاحكات إلى بروق توالت … إذ توالت فى شربها باكيات وكقول ابن وكيع أيضا فى الربيع (من الطويل): (1) ألست ترى وشى الربيع المنمنما … وما رصّع الربعى فيه وتظّما فقد حكّت الأرض السماء بنورها … فلم أدر فى التشبيه أيّهما السما فحضرتها كالجوّ فى حسن لونه … وأنوارها تحكى لعينيك أنجما قم فاسقنى ما حرّموه فما أرى … من العيش حلوا غير ما قيل حرّما وكقول ابن سهل فيه الذى كاسم أبيه (من الكامل): (2) الأرض قد لبست رداء أخضرا … والطلّ ينثر فى رباها جوهرا فاحت (3) … فخلت الزهر كافورا بها وحسبت فيها الترب مسكا أذفرا وكأنّ سوسنها يصافح وردها … ثغرا (4) يقبّل منه خدّا أحمرا والنهر (5) … فيه والنبات يحفّه سيف تعلّق من نجاد أخضرا (252) وجرت بصفحته الصبا فحسبته … كفّا تنمّق فى الصحيفة أسطرا والطير قد قامت عليه خطيبة … لم تتّخذ إلاّ الأراكة منبرا وكقول من صدق فى جلق (من البسيط): فى جلّق نزلوا حيث النعيم غدا … مطوّلا وهو فى الآفاق مختصر

(1) ديوان ابن وكيع 93، رقم 35 (2) ديوان ابن سهل الأندلسى 163،4، رقم 54/ 1 - 4 (3) فاحت: هاجت الديوان (4) ثغرا: تغر الديوان (5) والنهر-سيف: والنهر ما بين الرياض تخاله سيفا الديوان

رجع الكلام إلى التنين المسمى بظنين

القضب راقصة والطير صادحة … والنشر مرتفع والماء منحدر وقد تجلّت من اللذات أوجهها … لكنّها بظلال الدوح تستتر وكلّ واد به موسى يفجّره … وكلّ روض على حافله الخضر وكقول من شكره وجب فى حلب (من الكامل): خلع الربيع على الرياض ملابسا … رفلت بها فى جدّة وشباب فتباشرت أغصانها وتعانقت … حليها كتعانق الأحباب وكقول بعض القوم وقد أتى الربيع فى الصوم (من الكامل): انظر إلى نور الربيع وزهره … فى الصوم كيف يجيّش الأطرابا فكأنّه مستحسن مستطرف … نصب الصدود لعاشقيه حجابا وكأنّما سترت محاسن وجهها … معشوقة جعلت عليه نقابا وكأنّما خلق الربيع كواكبا … وكأنّما خلق الصيام سحابا والزهر يكتب فى الرياض لناظر … شوّال أفلح من أعدّ شرابا ولم يك أطبع من قول ابن القويع (من البسيط): هذا الربيع أبى والصوم فى قرن … وكيف يصنع دو الآداب والطرب كأنّما هو معشوق تى حدرا … فصدّ عنه المعهّا لحظ مرتقب (253) والله لولا أمور أنت تعلمها … هتكت بالراح ما أرخاه من حجب حتى الذّذ بالدنيا وزينتها … دى حرفة الفقه-لا-ما قيل فى الأدب رجع الكلام إلى التّنين المسمّى بظنين وكان ظنين قد خصّ بنطق اللسان، وعلّمه الرحمن علم البيان، وخلق ملهوما عالم، من غير امتزاج بالعالم، فخرج يوما من جحره، يميس إعجابا فى

كبره، ظانّا أنّ ليس له شبيه فى عصره، وأنّ لا سبيل إلى نفاذ عمره، فحدّق إلى تلك الحدائق بالأحداق، وكان من أدقّاء الحذّاق، والوقت وقت الخليع، كونه زمان الربيع، والنور فى كلّ يوم يزيد ويهيج، والأرض قد أنبقت من كلّ زوج بهيج، وحدائق النرجس قد حدقت بأحداقها لمّا رأت عرائس السرو وقد شمّرت عن ساقها، ورنت إلى الأقحوان، لمّا أراد لثم شقائق النعمان، فقال ما ألذّ أوقاتى، فهذا الوقت الذى قال فيه ابن الساعاتى (من الكامل): (1) ما الجوّ إلاّ عنبر والدّوح إلاّ … جوهر والروض إلاّ سندس سفرت شقائقها فهمّ الأقحوا … ن بلثمها فرنا إليه النرجس فكأنّ ذا خدّ وذا ثغر (3) … يحاوله وذا أبدا عيون تحرس وليس فى قوله متهم بل برئ ابن (4) الصنوبرى (من الكامل): (2) ياريم قومى الآن ويحك وانظرى … ما للرياض (5) قد أظهرت إعجابها كانت محاسن وجهها محجوبة … فالآن قد كشف الربيع حجابها ورد بدا يحكى الخدود ونرجس … يحكى العيون إذا رأت أحبابها والسرو تحسبه العيون غوانيا … قد شمرت عن سوقها أثوابها (254) لو كنت أملك للرياض صيانة … يوما لما وطئ اللثام ترابها ثم نظر إلى الورد وحقّق، فإذا هو بين مفتق ومحقّق، ومذهّب ومعقّق، كأحقاف ياقوت أحمر، فكعبة بزبرجد أخضر، قد ضمّت على شذور من التبر الأصفر، قد عطر بشداه الأكوان، وجمع من الحسن اللوان، (6) فبين أحمر قانى،

(1) ديوان ابن لساعاتى 2/ 164،4؛ جوهر الكبر (2) ديوان لصنوبرى 454،6، رقم 13 (3) فكأن-ثغر: فكأن ذا ثغر وذا حد الديوان (4) ابن: غلط ابن الدوادارى (5) للرياض: للربى الديوان (6) اللوان: ألوان

كحدود القيانى، أو كخمر القناتى، ومضاعف قيان، كوجنات الفتيان، المضرّجة بالاحمرار، أو كشعلة من نار، وأبيض يقق، قد كلّل الطلّ منه الورق، كواضح غيداء كلّله العرق، عند ما مازحها عاشقها، من بعد ما عانقها، فرشح جبينها اليقق خجل، حتى عاد يضرب به المثل، فصاح العاشق: يا لقومى! هذا والله كقول ابن الرومى (من البسيط): (1) قالت وفى كفّها ورد تجمّشنى … يا حسن حمرته سقيا لجانيه فقلت خدّك لو أبصرت حمرته … أدقّ والله عندى من معانيه الورد يقطف فى إبّان زهرته … وورد خدّك لا ينفكّ أجنيه ولابن المعتزّ فى تشبيه وردة مفردة (من الطويل): (2) سقانى وحيّانى حبيبى بوردة … على نغمة منه وحسن سماع فجاءت تحاكى وجنة ذهبيّة … وقدّ تقطعت من فوقها (5) باعى ولابن الحجّاج فى معشوق مليح القوام ممشوق: (من السريع): (3) جنى من البستان لى وردة … أحسن من إنجازه وعدى قال والوردة فى كفّه … مع قدح أذكى (6) من الندّ هنيئا لك يا عاشقى … ربقى من كفّى على خدّى ومن التشبيه فيه (من البسيط): (4) أما ترى شجرات الورد طالعة … منها بدائع قد ركبن فى قضب كأنّهنّ يواقيت يطيف بها … زبرجد وسطه شذر من الذهب

(1) الشعر ناقص فى ديوان ابن الرومى (2) الشعر ناقص فى ديوان ابن المعتز (3) حلبة 239، -7 (4) ديوان على بن جهم 111، -2، رقم 13؛ حليه 238،8 (منسوب إلى محمد بن عبد الله بن ظاهر)؛ نهاية الأرب 11/ 189،10 (منسوب إلى محمد بن عبد الله ابن طاهر وعلى بن جهم)؛ ديوان المعانى 2/ 23؛ معاهد التنصيص 1/ 171؛ زهر الآداب 524، -4؛ شرح المقامات الحريرية 1/ 151،15؛ ألف ليلة 2/ 410، -12 (5) فوقها-باعى: كذا (6) مع قدح أذكى: بكفه أزكى حلبة

(255) ونظيره لابن وزير الجزيرة (من الرمل): إن أتاك الورد لا تع‍ … تبه فى طول المغيب فقد (4) … كفاه خجلا فى خدّه الغضّ الخضيب لا تقابله بغير الراح … أو وجه الحبيب واطرد النرجس عنه … إذ حكا لحظ الرقيب ولأبى عامر فى الورد الباكر (من المتقارب): (1) أتتك أبا عامر وردة … يحاكى لك الطيب أنفاسها كعذراء أبصرها مبصر … فغطّت بأكمامها رأسها ومن محاسن التشبيه فيه (من المنسرح): (2) ووردة فى بنان معطار … جيابها فى ضمير (5) أسرارى كأنّها وجنة الحبيب وقد … نقطها عاشق بدينار ومن القول العلى للسقلى (من السريع): (3) كأنّما الورد الذى نشره … يعبق من طيب معاليكا دماء أعدائك مسفوكة … قد قابلت بيض أياديكا

(1) حلبة:240،11 (منسوب إلى أبى العلاء صاعد بن الحسن البغدادى)؛ نهاية الأرب 11/ 189،؛ مطالع البدور 1/ 95،9 (دون نسبة)؛ غرائب التنبيهات 83،2 (منسوب إلى صاعد اللغوى الأندلسى)؛ ألف ليلة 2،410،19 (دون نسبة) (2) حلبة 42،5 (منسوب إلى أبى طاهر الرفا)؛ نهاية الأرب 11/ 190، -5 (منسوب إلى أبى طالب الرقى)؛ ديوان ابن المعتز 2/ 289، رقم 139؛ غرائب التنبيهات 82،9؛ يتيمة الدهر 1/ 299 (3) حلبة:241/-10 (منسوب إلى أمية بن أبى صلط الدانى لكن لا يوجد فى الديوان) (4) فقد: كذا (5) فى ضمير: فى خفى ديوان ابن المعتز، غرائب التنبيهات، يتيمة الدهر

وقول ابن بسّام الذى بغيره لا نسام (من البسيط): (1) أما ترى الورد يدعو للورود على … حمراء صافية فى لونها صهب مداهن من يواقيت مركبة … على الزبرجد فى أجوافها ذهب خاف الملال إذا طالت إقامته … فصار يظهر أحيانا ويحتجب وممّا فيه ذكر الورد من هذا السرد لابن سكّرة (من المنسرح): (2) فى وجنة إنسانة كلفت بها … أربعة ما اجتمعن فى أحد الخدّ ورد والصدغ غالية … والريق خمر والثغر من برد وفى الورد الأحمر والأبيض لابن الرومى (من البسيط): (3) أهدت (5) … إلىّ يد نفسى الفداء لها الورد نوعين مجموعين فى طبق كأنّ أبيضه (6) … فى وسط أحمره كواكب طلعت فى حمرة الشفق (256) ولابن المعتزّ فى المعنى لمن يتمعنى (من الخفيف): (4) أطلع الحسن من جبينك شمسا … فوق ورد بوجنتيك أطلاّ وكأن العذار خاف على الور … د جفافا فمد عليه بالشعر ظلا

(1) حلبة 238/ 4 (دون نسبة)؛ نهاية الأرب 11/ 189، -2 (منسوب إلى ابن طاهر وابن بسام)؛ شرح المقامات الحريرية 1/ 151، -51؛ ديوان المعانى 2/ 23 (3 فقط)؛ محاضرات الأدباء 4/ 585 (منسوب إلى ديك الجن،4 فقط)؛ ديوان ديك الجن 152، رقم 9؛ نظم Basime Forgeron 89,51 :3،153 /4 (2) تأريخ بغداد 5/ 466؛ من غاب 82؛ خاص الخاص 167،6؛ إنجاز 82،15 (3) ديوان ابن المعتز 2/ 623، -2 رقم 1093، حلبة 241، -7 (4) طراز المجالس 116 (منسوب إلى طاهر الحداد أو معز الدولة) (5) أهدت-الفداء: أهدت إلى التى نفسى أعداء الديوان (6) فى وسط-طلعت: من فوق أحمره كواكب أشرقت الديوان

ومن هجو ابن الرومى فيه فى التشبيه (من البسيط): (1) يا مادح الورد ما ينفكّ من غلطه … أما (5) تأملته فى كفّ ملتقطه كأنّه سرم بغل (6) … حين أبرزه إلى الخراءة باقى الروث فى وسطه وقوله (من الكامل): (2) خجلت خدود الورد من تفضيله … خجلا تورّدها عليها (7) شاهد لم يخجل الورد المضاعف (8) … لونه إلا وناحله الفضيلة عائد أوّلها يقول: (3) للنرجس الفضل للبين وإن أبى … آب وحاد عن الطريقة حايد أين الخدود (9) … من العيون نفاسة ورياسة لولا القياس الفاسد إنّ الكواكب وهى التى ربّتهما … بحيا السماء كما يربّى الوالد فانظر إلى الولدين (10) … من أدناهما شبها بوالده فذاك الماجد فقال أبو الحسن المصرى فى الردّ عليه (من الكامل): (4) يا من تشبّه نرجسا بنواظر … دعج تنبّه إنّ ذهنك فاسد إن القياس لمن يصحّ قياسه … بين العيون وبينه متباعد او قلت إنّ كواكبا ربتهما … بحيا السحاب كما يربى الوالد

(1) ديوان ابن الرومى 4/ 1452، -3، رقم 1107،2 - 3 (2) ديوان ابن الرومى 2/ 643،3، رقم 470،1 - 2. (3) ديوان ابن الرومى 2/ 643،3 رقم 470،6،14،12،13 (4) سمط اللآلى،594، -11 (منسوب إلى أحمد بن يونس الكاتب)؛ زهر الآداب 523، -10؛ مطالع البدور 1/ 101، -3؛ عنوان المرقصات 73؛ حلبة 234 (5) أما-فى: ألست تبصرة فى الديوان (6) حين-الخراءة: حين يخرجه عند الرياث الديوان (7) عليها: عليه الديوان (8) المضاعف: المورد الديوان ||عائد: عاند الديوان (9) أين الخدود من العيون: أين العيون من الخدود الديوان (10) فانظر إلى الولدين: فتأمل الاثنين الديوان

فانظر إلى المصفرّ لونا منهما … وافطن فما يصفرّ إلاّ الحاسد وقوله ينتصر للورد ويقصد الردّ (من الرمل): أصبح الورد أميرا … وله النرجس عبد جالس هذا وهذا … قائم يقلق وجد وكذا كلّ أمير … هو فى الإمرة فرد وقول حمّاد بن بكر فى الورد (من الكامل): (1) الورد أحسن (2) … منظرا فتمتّعوا باللحظ منه فإذا انقضت أيّامه … أتت الخدود تنوب عنه وقول الطوسى (من المجتثّ): الورد عندى أحسن … من جوهر الياقوت فذاك لا عرف فيه … وذا كمسك فتيت وممّا يلتحق بذكر الورد من رقّة الشعر (من المنسرح): يا قبلة نلتها على دهش … من ذى دلال مهفهف غنج قد حيّر الحسف غنج مقلته … والورد توريد خدّه الضرج إذا انثنى (3) … أو قام معتدلا قال له الغصن أنت فى حرج قد قسم الحسن مقلتيك … بالفسم بين الفتور والدعج قل لهما يرفقا بقلب فتّى … طويت أحشاؤه على وهج وممّا فيه ذكر الورد (من الوافر): سقانى ثم نقّلنى بلثم … على عجل وحيّانى بورد

(1) نهاية الأرب 11/ 190،7 (2) أحسن-باللحظ: أحسن منظر تستمتع الألحاظ نهاية الأرب (3) انثنى: كذا

(257) النرجس

وشمّر ساعدا فيه رسوم … بقلبى مثلها من حرّ وجد فكان كفضّة سبكت عمودا … عليها أسطر اللازورد أوّله: وضبى (3) … زارنى من غير وعد نعمت بوصله بأتمّ سعد (257) النرجس وأمّا النرجس فقد قام على ساق، يرفو بنواظر كالأحداق فلمّا عاد كعيون الرقباء والحساد، جعل اصفراره فكان السواد لتتعانق غصون البان، ولتكن من ملاحظته فى أمان، وترشف الشمس ندا كالراح، فى كؤوس الأقاح، ويجتمع الورد والآس، فى سوالف خدود كلّ ذى قدّ ميّاس، فطامن البنفسج برأسه حنفا من الآس وحياء من الناس، فخاطبه الريحان، بقلب منكسر غير فرحان: أظنّك يا ملك الزهور، أضحيت غيور لإغارة الآس، على سوالف الأكياس، إذ أنت أحقّ بالتقدّم منّا، وبك غناء عنّا، وكلّ ذلك لإغضاء عيون النرجس فى هذا المجلس، فلذلك أمن الآس، لما تمعنى قول أبى نواس: (من الطويل): (1) لنا (4) … نرجس غضّ القطاف كأنّه إذا ما منحناه العيون عيون مخالفة فى شكلهنّ فأصفر (5) … مكان سواد والبياض جفون وكأنّه فاز لما فزّ بقول ابن المعتزّ (من الطويل): (2) وعجنا على الروض الذى طلّه الندا … وللصبح فى ذيل (6) الظلام حريق كأنّ عيون النرجس الغضّ بينه … مداهن درّ حشوهن عقيق إذا بلّهنّ القطر خلت دموعها … بكاء جفون كحلهنّ خلوق

(1) ديوان أبى نواس 599،4 - 5 (2) 2/ديوان ابن المعتز 2/ 619،2، رقم 1085 (3) ضبى: ظبى (4) لنا نرجس: لدى زجس الديوان (5) فأصفر: فصفرة الديوان (6) فى ذيل: فى ثوب الديوان

ولقوله (من المتقارب): (1) وأحسن ما فى الوجوه العيون … وأشبه شئ بها النرجس تظلّ تلاحظ عين النديم … فريدا وحيدا فيستأنس وكأنّ الآس وعى أيضا قول أبى نواس (من الكامل): (2) غضّى جفونك يا عيون النرجس … حتّى أفوز بقبلة من مؤنس فلقد تحير إذ رآك شواخصا … ترمقنه بلواحظ المتفرس فأجابنى بحلاوة وفصاحة لم تحرس … (7). . . . . . . . . . . . . قبل جبينك ما استطعت فإن من … عاداتنا كتمان سر المجلس (258) ومن التشبيه فيه لأبى فراس الحمدانى (من السريع): (3) كأنّما النرجس فى روضة … وقد أتته الريح من قرب أقداح ياقوت تعاطيكها … أنامل من لؤلؤ رطب ومن الفاخر قول الآخر: وهو ابن المعتزّ (من الوافر): (4) تنزّه (5) … فى رياض الأرض وانظر بدائع ما (6) صنع المليك عصىّ (8) … من زبرجد قائمات على أطرافها الذهب السبيك عيون (9) … من لجين شاهدات بأنّ الله ليس له شريك

(1) ديوان ابن الرومى 3/ 1234، -7، رقم 1011؛ ديوان عبد الله بن طاهر، رقم 22؛ حلبة 230، -4؛ نهاية الأرب 11/ 235،3؛ ربيع الأبرار 1/ 270 (دون نسبة)؛ مطلع الفوائد 241،6 (منسوب إلى ابن الرومى) (2) حلبة 229،5؛ مطالع البدور 1/ 99، -3؛ محاضرات الأدباء 2/ 337،13 (3) الجماهر 121، -2 (منسوب إلى الصنوبرى)؛ ديوان الصنوبرى، ذيل رقم 27،1 - 2 (4) ديوان ابن المعتز 3/ 405،4، رقم 396؛ حلبة 233، -7 (دون نسبة)؛ فتح الرحيم الرحمن 152، -7 (5) تنزه: تأمل الديوان (6) بدائع ما: آثار ما الديوان (7) كذا (8) عصى-السبيك: عيون من لجين ناظرات على أحداقها ذهب سبيك الديوان (9) عيون-شاهدات: على قصب الزبرجرد شاهدات الديوان

البنفسج

وقوله (من المنسرح): (1) نرجسة لا تزال قائمة (3) … لم تكتحل قطّ لذّة الغمض أمالها القطر وهى باهتة … تنظر فعل السماء بالأرض وإلى ذلك يومئ ابن الرومى (من الوافر): (2) قضيب زبرجد تعلو عليه … عيون لم تذق طعم اغتماض توهّمت السحاب لها رقيبا … فنكّست العيون إلى الرياض وممّا فيه ذكر النرجس (من الوافر): سعى ساق إلىّ بكأس خمر … وباقة نرجس فسقّى وحيّا فلم أر مثله بدرا منيرا … سقى شمسا وحيا بالثريّا البنفسج فقال البنفسج: إن كان الآس غار على السوالف، فأنا بالعذار آلف، فإذا انقضت دولتى بمرور الزمان، استنبتك تقوم مقامى أيّها الريحان، فإنّ لك بى فى العذار تشبّه، ولا بدّلك عليه من وثبة، ودع الآس ولا باس، فإنّه أخينا فى الاشتراك، ولا بدّ لك عند وثيبك أن تتّصل بذاك، ثم تقلعا جميعا وتقطع النزاع ويقع الاصطلاح، إذا طلعت نجوم الصباح، وأقبلت دولة الياسمين والأقاح، فكن فى أيّام دولتك مدارى، واعى لما قال خليل عذارى (من الطويل): أقول لخلّى حين ألقى بنفسجا … بقرب عذار للغرام يهيج (259) أعيذك فرّق بين هذين فارتأى … زمانا وقال الكلّ عندى بنفسج

(1) ديوان ابن المعتز 2/ 609، -22، رقم 1071 (2) حلبة 233 (دون نسبة)؛ المستطرف 2/ 282، -9 (دون نسبة) (3) قائمة: محدقة الديوان

هذا وقد نجم من جمعه وازهرّ، كياقوت أزرق فى أطباق زمرّد أخضر، وقد أمال برأسه، وعطّر الكون بأنفاسه، فيا حسنه من نشر صيّاح، وزهر إليه كلّ النفوس ترتاح، فرتبته بين الأزاهر، كالبدر بين النجوم الزواهر، فهو كما قال الشاعر (من البسيط): (1) للورد فضل على كلّ الرياض على … أنّ البنفسج أذكى منه فى المهج كأنه وعيون الناس ترمقه … آثار قرص <يد> (4) فى حدّ ذى غنج ومن البديع كقول ابن وكيع (من البسيط): (2) بنفسج جمّعت أوراقه فحكت … كحلا تشرّب دمعا يوم تشتيت كأنّه وضعاف القضب تحمله … أوائل النار فى أطراف كبريت ومن التشبيه فيه لابن الرومى (من الكامل): (3) اشرب على زهر البنفسج … قبل تأنيب الحسود فكأنّما أوراقه … آثار قرص فى خدود

(1) المستطرف 2/ 282، -9 (دون نسبة) (2) حلبة 247،4 (منسوب إلى ابن المعتز)؛ ديوان ابن المعتز 2/ 527، رقم 983،1 و 3؛ نهاية الأرب 11/ 226، -1؛ مطالع البدور 1/ 106،5 (دون نسبة)؛ ديوان المعانى 2،24؛ ديوان ابن الرومى 1/ 394،2 و 40، رقم 323،1 و 3 (3) نهاية الأرب 11/ 228،5 (مبسوب إلى أبى الحسن الشاطبى وابن الرومى؛ ديوان المعانى 2/ 25 (منسوب إلى ابن الرومى) (4) يد: المستطرف

الآس

وممّا يلتحق بالمعنى قول بعضهم (من الكامل): (1) ومعذّر (3) … قال الإلاه لوجهه كن جامعا للطيبات فكانه زعم البنفسج أنّه كعذاره … سفها (4) فسلّوا من قفاه لسانه الآس فلمّا وعى الآس من البنفسج مقاله، انتصر لحاله، وقال وهو بين الأزهار، وقد زاد فى الاخضرار، تأمّل إلىّ أيّها الأخ الخليل، والسيّد الجليل، كيف حاورت الورد، من بعد ما كنت فرد، وزمانى بزمانه متّصل، فمن قصد تشبيه حدّ بالاحمرار وعذار بالاخضرار، فباجتماعنا قد حصل، فلك الآن الاعتذار كيف صرت أحقّ منك بالعذار، وإنّما أنا قانع بالسوالف، حتى إنّى لا أخالف ولا عليك أحالف (260)، لكن أملك لقلب الخليع، ومستحقّا قول ابن وكيع (من الطويل): (2) خليلىّ ما للآس يعشق (5) … نشره إذا هبّ أنفاس الرياح العواطر حكى لونه أصداغ ريم معذّر … وصورته آذان خيل نوافر

(1) ديوان المعانى 2/ 24، -2 (منسوب إلى العسكرى)؛ ديوان المعانى 1/ 249؛ مطالع البدور 1/ 105؛ خاص الحاض 166 (منسوب إلى أبى العباس أحمد بن إبراهيم الضى)؛ إيجاز 82؛ أسرار البلاغة 264؛ شعر أبى هلال العسكرى 157، رقم 12،1 - 2؛ ديوان العسكرى 224، -3 (2) حلبة 250؛ نهاية الأرب 11/ 242، -6؛ ديوان ابن وكيع 63، رقم 34 (3) ومعذر-فكأنه: ومغنج قال الكمال لوجهه كن مجمعا للطيبات فكانه ديوان العسكرى (4) سفها: حسنا ديوان العسكرى (5) يعشق: يعبق نهاية الأرب

الريحان

وقوله (من السريع): (1) وغادة أهدت إلى إلفها … قضيب آس زاد فى ظرفها كأنّما خضرة أوراقه … بقيّة الحناء (2) فى كفّها ولابن المعتزّ فى الآس (من المجتثّ): يقول لى الآس قل لى … علام تكثر لثمى فقلت أشبهت عندى … عذار من لا أسمّى وله فيه (من الكامل): آس كأنّ غصونه … فى كفّ ظبى أغبد قضبان (3) … قد كللت فيها فصوص زبرجد الريحان فأجابه الريحان، وهو يتمايل فى دوحه كالسكران الفرحان، ذات نشر فيّاح، يحيى بشذاه الأرواح، بجماجم كجماجم الرؤوس، أو كبرادة الآبنوس، وقال: لقد تعدّيت طورك أيّها الآس على أولاد الناس، وليس من يباع بالفلوس كمن تفزع فى ثمنه الأكياس ليكون حضرة بين الكؤوس، فالعاقل من عرف قدره ليقام عذره، كيف تناظر أمير الرياحين فى كلّ وقت وحين، وإنّما أنت فاجر كما قال الشاعر (من الوافر): إذا عدل الأمير فلا عجيب … إذا جارت رعيّته عليه فأنا نظرك بل كبيرك، فلو تعلّقت مثلك بهذه الرتب، وأسأت الأدب، لكان يحقّ لى أن أهتزّ، إذا سمعت قول ابن المعتزّ (من الطويل):

(1) نهاية الأرب 11/ 242،4 (2) الحناء فى: الحنا على نهاية الأرب (3) قضبان-كللت: كنا

قضيب من الريحان شاكل (4) … لونه إذا ما تبدا للعين لون الزبرجد (1) فشبهته (5) … لما بدا متجعّدا عذار تبدا فى سوالف أغيد أو كالقول البديع لابن وكيع (من الكامل): وقضيب ريحان كأنّ نباته … عذراء تمرح فى قميص أخضر قد توّجت بدم وضمّخ رأسها … وتطيّبت من فوقه بالعنبر ولابن وكيع فى الريحان الحماحم (من المجتثّ): (2) هذا الحماحم زهر … فيه حياة النفوس كأنّه حين يبدو … برادة الآبنوس وله فيه (من الوافر): (3) وريحان يتيه (6) … بحسن زهر يطيب بشمّه شرب الكؤوس كسودان <كسوا> (7) … قمصان خزّ على قصب مغطّاة الرؤوس (8) وأنشدنى بعض فضلاء العصر فى الريحان، ويعرف فى العرب بالحبق (من البسيط): إن كنت تنعت نبتا فابدأ بالحبق … واستنشق المسك مفتوقا من الورق كأنّ أوراقه والقضب تحملها … زمرّد العقد منظوما على عنق

(1) ديوان ابن المعتز 3/ 268، -4، رقم 102؛ المستطرف 2/ 285،11 (2) ديوان ابن وكيع 80، رقم 42 (3) حلبة 251،13؛ (دون نسبة)؛ نهاية الأرب 11/ 254،4 (دون نسبة) (4) شاكل: شابه الديوان ||تبدا: بدا الديوان ||الزبرجد: الزمرد الديوان (5) فشبهته-أغيد: وشبهته لما تأملت حسنه عذارا تدلى فى عوارض أمرد الديوان (6) يتيه-زعر: يميس على غصون حلبة (7) كسوا-خز: لبسن ثياب خضر (8) على-الرؤوس: وقد وقفوا مكاشف الرؤوس حلبة

البان

وكقول من عزّ لما بزّ ابن المعتزّ (من الطويل): (1) وباقة (3) … ريحان كعقد زبرجد حوت منظرا للناظرين أنيقا إذا شمّها المعشوق حكت (4) … اخضرارها ووجنته فيروزجا وعقيقا وقوله (261) (من الوافر): (2) وريحان بدا فى حسن زهر … يطيب بشمّه شرب الكؤوس كسودان أتوا فى قمص خضر … وانطلقوا مكاشيف الرؤوس البان هذا والبان، قد تفتق أكمامه فبان، فعاد كتوت علاه اخضرار، لولا تزغّب ثوبه مع الاصفرار، وكلّ إليهما الأنفس تائفة، هذا لمشتمّه وهذا لذائقه، فيا حسنه من زهر قد فاق، وعطّر بذكا شذاه الآفاق، زمانه أطيب الدهور، كما إنّه أشرف الزهور، وهو مع ذلك صاغى، لما بين الآس والريحان من التناغى، فلمّا فهم منهما ذلك المقال، تقدّم وقال: أراكما منذ اليوم تتناغيان، وأنّما باغيان، أما تعلما أن لولا رشاقة القدود، لما استحسنت حمرة الخدود، ولا تحقيق اليهود، ولولا لين المعاطف، لما استملحت خضرة السوالف، ولا استعذبت خمرة المراشف. وأنا الذى بمدحى يتحلاّ كل مادح، وعلى أغصانى تغرّد الطيور الصوادح، وبى يشبه كلّ قدّ فتّان، من القدود الحسان، من القيان والفتيان، فيقال لكلّ

(1) حلبة 251، -11 (منسوب إلى أبى سعيد الإصفهانى)؛ نهاية الأرب 11/ 242،7 (دون نسبة)؛ نهاية الأرب 11/ 254، -1 (منسوب إلى الإصفهانى) (2) قارن ص 293،10 - 11 (3) وباقة-زبرجد: وشمامة مخضرة اللون غضة حلبة (4) حكت: خلت حلبة

الأقحوان

قوام فتّان، كقضيب البان، فأمّا الذى شبّهنى بأذناب الثعالب، فإنّه أبعد ولم يقارب، فمن أين لتلك الأذناب القباح أرجى الفيّاح، الذى إليه كلّ النفوس ترتاح، وهو هذا البيت الفذّ، الذى ظنّ قائله أنّه ليس له ندّ (من الكامل): والبان شبه ثعالب … مكسوحة قد كشّفت أذنابها وأمّا التشبيه المنصف، فقول المصنّف: (2) كأنّ البان والتوت تشابها … فى رؤية العين لا فى المخبر فهذا لنا ريحه عطرا … وذاك لنا طعمه كالسكر (262) وقوله: (3) انظر إلى البان فى دوحه مائسا … تميله الأرواح فى جنّة الخلد شبّهته لمّا انثنى فى رياضه … قوام قدّك فى أغصانه الملد الأقحوان فقطع عليه الأقحوان وصاح: أين أنت يا صاح عن الإقاح، ذى الأرج الفيّاح، وزين الرّبى والبطاح، المتشبّه به ثغور الملاح، فلولا نقاء الثغور لم يكن حسن مذكور، فالثغور غاية الأمل، ومحلّ اللثم والقبل، فأنا التشبيه بالشعراء، وفى وصفى بالثغو أكثرت الشعراء، وكلّ لقوله انتصر، فمنهم من أجاد ومنهم من قصر، وأجمع أهل المعانى، أنّه لم يقل كهذين البيتين للنابغة الذبيانى (من الكامل): (1) تجلوا بقادمنى حمامة أيكة … بردا أسفّ لثاته بالإثمد كالأقحوان غداة غبّ سمائه … جفّت أعاليه وأسفله ندى

(1) ديوان نابغة 94 (2) مضطرب الوزن (3) مضطرب الوزن

السوسن

وفى التشبيه فيه (من البسيط): تبسّم الأقحوان الغضّ إذ خجلت … خدود ورد بحسن اللون منعوت كأنّه عاشق قد سره محضر … المعشوق فافتر عن بيض. . . (2) وفيه والأقحوان مع الشقيق (من المتقارب): كأنّ الشقائق والأقحوان … خدود تقبلهن الثغور فهاتيك يخجلهن الحياء … وهاتيك يضحكهن السرور السوسن فقال السوسن، وقد يقق بياضه، وتقطّرت بشذاه أحواضه، وهو يميس، كخود فى ثوب نفيس، أو كخلق نضيف على جسم مليح، وقد لعبت بأذياله الريح وذلك الخلق النضيف، لبس المضيف، أنا شريكك فى اللون الأزهر، لكنّى أذكى منك وأعطر، فأنا الزهر النفيس، المتشبّه بى أذناب الطواويس، فاسمع ما قال الخليع، فى ذى المعنى البديع (من البسيط): (1) سقيا لأرض إذا ما نمت نبهنى … بها (3) الصبا وقرع النوانيس كأنّ سوسنها فى كلّ شارقة … على الميادين أذناب الطواويس (263) وسقيا وريّا لقول أبى زكريا (من المتقارب): مررت بسوسنة سحرة (4) … وقد رنّح الطلّ أهدابها

(1) حلبة 249، -7 (منسوب إلى أبى نواس)؛ نهاية الأرب 11/ 275، -1 (منسوب إلى الأخيطل الأهوازى)؛ ديوان ابن المعتز 3/ 307، رقم 184؛ ربيع الأبرار 1/ 269 (منسوب إلى مهرم بن خالد العبدى) (2) عن بيض: كذا (3) بها-قرع: بعد الهجوع بها ضرب حلبة||نبهنى بها الصبا: أرقنى بعد الهدو، نهاية الأرب 11/ 275، -1 (4) سحرة: كذا

الياسمين

تريك بمقلوبها خيمة … وقد مزّق الريح أطنابها وفى هديته (من السريع): بعثت بالسوسن لما غدا … تصحيفه المبهج سوء «يبين» وقلت لما غدا رافعا … أنمله يدعو بهذا آمين الياسمين فقال الياسمين وقد تطرّف بياضه بالاحمرار كشفق علا فى أوّل النهار أو كعضّة صبّ ذو لهيب فى أنامل الحبيب، فطاب حصاده لما حلّ فصاده، وعبق بنشره، فوجب مدحه وذكره، لما غلب على نشر كلّ زهر خدّاه بعطره وشذاه: أنا الياسمين، من بدائع خلقة ربّ العالمين، أيّها السوسن فلأنّك ملسّن فأنا منك أعطر وأحسن، بحضورى تطيب المجالس، وأنت قائم وأنا جالس، وأنا المشبّه بالكواكب، وبالنجوم الثواقب، وبنهود الكواعب، ولست أفارق حضرة الأجواد، واسمع ما قال فىّ ابن عبّاد (من المنسرح): (1) كأنّما ياسميننا الغضّ … كواكب فى السماء تنقضّ (2) والطرف (3) … المحمر فى جوانبه نهود عذراء مسها عضّ ومن المختار قول ابن الأبّار (من الوافر): حديقة ياسمين لا … تهيم بغيرها الحدق إذا خفن الغمام بكى … تبسّم ثغرها اليقق كأطراف الأهلّة سا … ل فى أفنائها الشفق

(1) نهاية الأرب 11/ 237، -2؛ شرح المقامات الحريرية 1/ 151،17 (2) تنقض: تبيض نهاية الأرب (3) والطرف-مسها: والطرق الحمر بواطنه كخد عذراء منه نهاية الأرب

(264) الشقيق

ولابن الرومى إلى تشبّهى يومئ (من المنسرح): كأنّما الياسمين حين بدا … من كفّ طيئ أتى به عجبا صلبان دير بدت معطرة … ينشرها ذو الدلال أن لعبا أو درهم الصرف حين ينثره … ذو جدّة يوم عرسه طربا (264) الشقيق هذا والشقيق قد جلك وأقنّ، فجلّ من أبدع وأتقن فحمرته كالعقيق، أو كخدّ عاينه أنيق، وقد زيّن من المسك بخال، إذا كان من الخال خال، أو كشبه خود هتكت حجابها، لفقد أحبابها، وضمخت بالدماء أثوابها: (من الرجز): فشعرها كقلبه اسودادا … وخدّها كلونه احمرارا أو ككؤوس من عقيق، بها بقيّة من أسود الخمر العتيق، أو كما قيل من البديع كقول ابن الرومى أو ابن وكيع (من السريع): يا هل ترى أطرف من يومنا … قد قلّد الأفق جيد العقيق وأنطق الورق على عيدانها … مرقصة كلّ قضيب وريق والشمس لا تشرب خمر الندا … فى الروض إلاّ بكؤوس الشقيق وروى:. . . . . . . . . . . . . . . . . … قلّد جيد الأفق طوق العقيق ويروى: وأنطق الورق بعيدانها …. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والأصحّ أنّه لأبى جعفر.

ومن التشبيه لابن الرومى فيه (من السريع): (1) شقيقة شقّت على الورد ما … قد ألبست من بهجة (4) الصبغ كأنّها من (5) … حسنها وجنة يلوح فيها طرف الصدغ وقول الآخر (من الخفيف): ما (6) … ترى الأرض خضراء من النبت وحمراء من نبات الشقيق كسماء من الزبرجد فيها … طالعات كواكب من عقيق ومنه للمعرّى (من الكامل): (2) هذا الشقائق قد أتانا زائرا … (7) من بعد جفوته وبعد مزاره فكأنّ أحمره وأسوده معا … خدّ الحبيب ملاصقا بعذاره أو وجه زنجىّ بثوب أحمر … لبس القميص فميق من أزراره ومنه لابن الرومى (من الكامل): (3) حيّيته بشقائق فى مجلس … ورأى الرقيب فشقّ ذاك عليه فاحمرّ من خجل فأنبت خدّه … أضعاف ما دفعت يداى إليه

(1) نهاية الأرب 11/ 284،8 (دون نسبة) (2) حلبة 252،14 (دون نسبة،8 و 9 فقط) (3) المستطرف 2/ 283، -9 (دون نسبة) (4) من بهجة: من كثرة نهاية الأرب (5) من: فى نهاية الأرب (6) ما-الشقيق: كذا (7) من-وبعد: من بعد غيبته وطول حلبة

النيلوفر

وله وأبدع (من الكامل): من شاء تشبيه الشقائق فليقل … كنساء ثكلى قد خرجن نوائحا (265) ألبسن أردية الدماء شناعة … ونشرن شعرا ثم قمن صوائحا ولابن المعتزّ فى الشقيق وأبدع (من المجتثّ): قم سقّنى يا رفيقى … من السلاف الرحيق أما ترى الظلّ يبدو … على احمرار الشقيق كلآلئ ضمنتها … مداهن من عقيق النيلوفر والنيلوفر قد أحسن كلّ الإحسان، وظهر فى عدّة ألوان، فعاد فى حسنه المنعوت، بين أحمر وأزرق كالياقوت، مع عدّة ألوان أخر، نزهة للبصر، يغيب وقت المغيب، وجلا من لحظ الرقيب، فإذا أمن من الظلام، ظهر ضاحكا ذو ابتسام، قد بات ليله فى عيش خصيب، إذ فاز بمعانقة الحبيب، أمنا من نظر الحسود الرقيب، فليله فى عناق، ونهاره ذات ألسن ظاهرة بنسيج الخلاّق، فلرقّة هذه المعانى قال فيه الإصفهانى (من السريع): (1) وبركة أحيا بها ماؤها … من زهرها كلّ نبات عجيب كأنّ نيلوفرها عاشق … نهاره يرمق وجه الحبيب حتى إذا الليل (2) … دنا جنحه وانصرف المحبوب خوف الرقيب أطبق جفنيه عسى فى الكرى … يبصر من فارقه عن قريب

(1) نهاية الأرب 11/ 221، -4 (منسوب إلى أبى بكر الزبيدى الأندلسى)؛ محاضرات الأدباء 2/ 581 (منسوب إلى أبى عبد الله) (2) الليل دنا: بد نجمه نهاية الأرب

ومن ذلك ما الجماد له يهتزّ قول ابن المعتزّ (من السريع): (1) وبركة تزهو بنيلوفر … نسيمه يشبه ريح الحبيب نهاره مبتسم ضاحك … حتى إذا الشمس دنت للمغيب أطبق كميّه على رأسه … وغاص فى البركة خوف الرقيب ولابن الرومى فيه (من السريع): ناولنى طاقة نيلوفر … محشوة من شعر الزعفران وقال شبّهها فشبّهتها … بحقّ ياقوت على خيزران وللملك السعيد ابن أرتق صاحب ماردين (من السريع): فى بركة الخابور أبصرت … ما يقصر عنه كلّ إبلاغ ولاح نيلوفرها حاكيا … تلوينه أنمل صبّاغ ولم يكن أكثر تلوينا من النيلوفر بالخابور. ولأبى إسحق الخولانى (من البسيط): نيلوفر شكله كشكلى … يعوم فى أبحر الدموع مثل مسامير مذهبات … فى حلقات من الدروع ولبعضهم وقيل هو الشافعى رحمه الله (من البسيط): باكرت يوما إلى النيلوفر النضر … إذ كان صبّا ورؤيا الصّبّ من وطرى فاصرن بكرا أجفانه برك … قد بات منها غريق الدمع والسهر حتى إذا أيقضته (2) … الشمس طالعة وأطلع الرأس إطلاع الفتى الحذر عانبته أينام المستهام كذا … حتى الصباح إن ذا منى أعجب الخبر

(1) نهاية الأرب 11/ 224،9 (دون نسبة)؛ حلبة 253 (دون نسبة)؛ المستطرف 2/ 283،4 (منسوب إلى تميم بن المعز) ديوان تميم بن المعز 82، -3 (2) أيقضته: أيقظته

النسرين

فقال لا رغبة فى النوم بل وعدوا … طيفا فتمنيت لهم نوما منظر أما ترى بين أجفانى احمرار دمى … إذ بتّ أغمضها غضبا على الاثر ولبعض المصريين ما فوق على الدرّ الثمين (من السريع): (1) وبركة حفّت (3) … بنيلوفر أوصافه بالحسن منعوته كأنّما كلّ قضيب له … يحمل فى أعلاه ياقوته ومن القول النفيس لابن حمديس (266) (من السريع): (2) اشرب على بركة نيلوفر … محمرّة الأوراق خضراء كأنّما أزهارها أخرجت … ألسنة النار من الماء ومن المستجاد قول أبى عبد الله الحدّاد (من السريع): رأيت فى الأزهار نيلوفرا … وقد أرانى منظرا أزهرا تفاءلت نفسى بتصحيفه … فعنده النبل لها والقرا وفى هديّته (من السريع): نيلوفر قدّمته متحفا … فاقبله يا مولاى من عبدكا أهديته إذ لاح لى كلّه … ألسنة تثنى على مجدكا النسرين والنسرين فاسمه إذا صحّفته تقرّ به العين، وإذا تفألت به كان يسرين، قد جمع بين الصفرة والبياض، فكأنّه العيون المراض، لولا الصفر بمكان السواد،

(1) حلبة 253،8 و 10؛ ديوان ابن المعتز 2/ 526، -4، رقم 982،1 و 4؛ ديوان المعانى 2/ 28 (دون نسبة) (2) ديوان ابن حمديس رقم 3؛ نهاية الأرب 11/ 222، -2 (دون نسبة)؛ ديوان ابن المعتز 2/ 17، رقم 599؛ عنوان المرقصات 69،4؛ كنز الدرر 7/ 394،1 (3) حفت: تزهو الديوان

الثامر

لكان هو القصد والمراد، فياحسنه من زهر ذكىّ الأنفاس، محبوب إلى قلوب الناس، كأنّما الطلّ على أوراقه، دموع كاعب آلمها إلفها بفراقه، فبياضه كدودها، ودموعها كطلّة لفقيدها، فياله من نبات لطيف، كما قال الطوسى الشريف (من السريع): كأنّما النسرين لما بدا … يصفرّ فى الأبيض عند المغيب متيم فارقه محبوبه … مستعجلا قبل حضور الرقيب الثامر وأمّا الثامر، ففى الربيع قد اضمحلّ، إذ ليس بزمانه، من بعد ما كان متلعّبا فى أغصانه، فعاد فى زهره مزرور، وهو فى أعالى شجره محصور، فهو بين الأزهار كالضيف، إلى أوان الصيف، فحينئذ يظهر فى (267) لونه الأصفر كنبات الأصفر، وقد عطّر نشره وفاح، على رؤوس الربا والبطاح، فيا له من زهر طريف، كما قال الطوسى الشريف (من السريع): كأنّما الثامر فى روضة … لو لم يكن ذا أرج طيّب مدّ به من شعر أصفر … يومى بها أو ذنب الثعلب الجلّنار والجلّنار، قد زاد فى الاحمرار، وحكى خدّ معشوق ذى خمار، من شرب العقار، كأنّه أحقاق من عقيق، على قضبان زمرّد أنيق، أو كخود بمعجز زعفران عذرا، على غلالة حمرا، تمرح بين أرّابها، وتميس بإعجابها، تملك قلب العاشق من غمزة، فهى كما قال ابن حمزة (من الرجز):

وجلّنار مشرق … على أعالى شجره (1) كأنّ فى رؤوسه (3) … أحمره وأصفره قراضة من ذهب … فى خرق (4) معصفره وما أحسن هذا الرجز لابن المعتزّ: (2) ألا ترى البستان كيف نوّرا … ونشر المنثور بردا أصفرا وفرج الخشخاش فيها (5) … وفتق كأنّه مصاحف بيض الورق أو مثل أقداح (6) … من البلّور تخالها تجسّمت من نور تبصره بعد انتثار الورد … مثل الدبابيس بأيدى الجند وضحك الورد إلى الشقائق … واعتنق الغصن (7) اعتناق الوامق والسّوسن المونق (8) … منشور الحلل كقطن قد مسّه بعض بلل وجلّنار كاحمرار الخدّ … أو مثل أعراف دبوك الهند وهى طويلة وهذا ملخّصها، والقصد منها ذكر الجلّنار.

(1) حلبة 254،1 - 3 (منسوب إلى أبى نواس)؛ نهاية الأرب 11/ 104، -2 (منسوب إلى أبى فراس الحمدانى)؛ محاضرات الأدباء 2/ 580 (منسوب إلى الحمدونى)؛ المستطرف 2/ 284، -3 (دون نسبة)؛ يتيمة الدهر 1/ 39، -5؛ غرائب التنبيهات 83، -1 (منسوب إلى أبى فراس)؛ معاهد التنصيص 1/ 169،17 (منسوب إلى أبى فراس) (2) ديوان ابن المعتز 2/ 540 - 544، رقم 996 (3) رؤوسه: أغصانه نهاية الأرب (4) خرق: خرقة حلبة، نهاية الأرب (5) فيها: جيبا الديوان (6) أو مثل أقداح: صار كأقداح الديوان ||تخالها: كأنما الديوان (7) الغصن: القطر الديوان ||الوامق: وامق الديوان (8) المونق: الأزاذ الديوان

(268) المنثور

(268) المنثور والمنثور، كالدرّ المنثور، فى الرياض مبثور، قد جمع بين النور والنور، قد تنوّع فى صبغته، فسبحان من ذى الصبغة صبغته، وذى الصنعة صنعته، فهو بين أزرق سماء، وأبيض ماء، وأحمر قانى، وأصفر فاقع، يسرّ الناظرانى، مع عدّة ألوان ملهيات، متنوّعة من هذه الأمّهات، تنزّه الناظر، وتهيم الخاطر، فأصفرها كالدينار، وأحمرها كالجلّنار، وأبيضها يقق، على خضرة ذلك الورق، وكذلك الفيروزج الأزرق، وهو فى رياضه ملتزّ، كما قال ابن المعتزّ (من السريع): أصبح ذا المنثور منثورا … يبهر فى الحسن الدنانيرا كأنّه منطقة فصلت … تبرا وياقوتا وكافورا وقوله: (من السريع): انظر إلى المنثور ما بيننا … وقد كساه الطلّ فصبّغا وقد أصاغته أيدى الحياء … من سائر الياقوت صائغا وعلى هذا القياس لأبى نواس (من الطويل): وأنواع منثور تحاكى … نعوته (2) إذا ما بدا فأبيضه يحكى الوصال … بمن (3) غدا يعذبنى بالمطل وأصفره (4) … جسمى العليل بهجره وأحمره دمعى ادا ومن القول المعتدل لابن المعذّل (من الوافر): (1) ومنثور حططت إليه رحلى … وقد طلعت لنا شمس النهار كأنّه جواهر من كلّ فنّ … مخلطه صغار مع كبار (5)

(1) ناقص فى ديوانه (2) نعوته-بدا: كذا (3) بمن-بالمطل: كذا (4) واصفره-ادا: كذا (5) مضطرب الوزن

(269) رجع الكلام إلى التنين المسمى ظنين

ومن غريب الأمثلة قول عرقلة (من السريع): (1) قد أقبل المنثور يا سيدى … كالدرّ والياقوت فى نظمه ثناك لا زال كأنفاسه … ومخّ من يسناك (2) مثل اسمه (269) رجع الكلام إلى التنين المسمى ظنين فلمّا انتهى تأمّله إلى تلك الرياحين والزهور، وفهم بمعقوله ما قيل فيها من منظوم ومنثور، فكان خاتمة هذا الفصل المنثور، رفع إلى العلوّ بصره، وحقّق نظره، فإذا الأشجار تميس، كأذناب الطواويس، وتلك الأشجار قد ثقل حملها بالأثمار، فالنخلة وجنيها، كالنحلة وجنيها، أو كالحبلة وجنيها، وكذلك سائر الأشجار، قد أوسقت من الثمار، ممّا ينزّه الأبصار، وتحيّر فى صفاته الأفكار، صنوان وغير صنوان، تسقى بماء واحد، فالويل كلّ الويل للكافر الجاحد، وإذا شجرات السرو بين تلك الربا والأزهار، كعرائس تجلا فى حلل الاخضرار، أو كغيد تجللوا بالشعور، وشمّروا أثوابهم عن سوقهم بين تلك المروج المنثور، أو كشموع مجلّلة، فى مشاهد مبجّلة، أو كرايات على سمر الرماح، كما قال ابن وضّاح (من الطويل): أيا سرو لا يعطش منابتك الحيا … ولا يرعن أشجارك ورق النضر لقد كسيت أعطافك الملد مثلها … يلفّ على الخطىّ رياته الخضر التفاح هذا، والتفّاح، قد عطر وفاح، وعاد فى خضرة أوراقه بين الأزاهر، كخضرة السماء وقد زيّنت بالنجوم الزواهر، فالأنفس إليه تتوق، إذ جمع بين لونى

(1) ديوان عرقله 94،5 (2) ومخ من يسناك: ومخ من يسنوك الديوان

عاشق ومعشوق، فيا حسنه من ثمر قد أينع، وأفنّ وافقع، وجمع من المحاسن صنوف وألوان، ما يكلّ لعدّتها لسان الإنسان، إن كان مأكولا، فكان مأكولا ظريف، أو مشموما، فكان مشموما لطيف، وإن بعث رسولا كان نجيح، وإن جعل نديما (270) كان مليح، ترتاح إليه النفس، وتسكن إليه الحواسّ الخمس، فهو لذيذ المسّ، حسن الاسم فى الحسّ، حلو المذاق، عطر الاستنشاق، نزه المنظر، كأنّه خدّ معشوق أحمر، فلمّا كملت نعوته، وجب ان نذكر من منعوته (من الطويل): (1) فتى جمع العلياء علما وعفّة … وبأسا وجودا لا يفوق فواقا كما جمع التفّاح حسنا ونظرة (3) … ورائحة محبوبة ومذاقا ومن النادر لعبد الله بن طاهر (من السريع): لم أر كالتفّاح فى مجلس … أذكا ولا أقضى لحاجات إنّ الذى يأكل تفّاحة … لجاهل حقّ التحيّات ولهذا يومئ ابن الرومى فى تفّاحة (من المنسرح): (2) أرسلنى عاشق لحاجته (4) … فجئت بين الرّجاء والأمل (5) لا تخجلنّى بالردّ حسبك ما … ترى بخدّى من حمرة الخجل

(1) نهاية الأرب 11/ 167،6 (منسوب إلى أبى الفتح البستى)؛ ديوان أبى الفتح 285،8؛ زهر الآداب 1011، -2؛ التمثيل والمحاضرة 270؛ يتيمة الدهر 4/ 298؛ تحفة الوزراء 26 (2) ديوان ابن الرومى 5/ 1894،3 رقم 1455 (3) ونظرة: ونضرة (4) لحاجته: بحاجته الديوان (5) والأمل: والوجل الديوان

السفرجل

وآخر (من المنسرح): (1) عضضت (3) … تفّاحة فعاتبنى فتّى (4) رآها كخد معشوقه فقال خدّ الحبيب تأكله … فقلت لا بل أمض من ريقه ولابن المعتزّ ممّا له يهتزّ (من الطويل): (2) وتفّاحة من سوسن صيغ نصفها … ومن جلّنار نصفها وشقائق كأنّ الهوى (5) … قد ضمّ من بعد فرقة بها خدّ معشوق إلى خدّ عاشق السفرجل ولا ينكر فضل السفرجل، إذ هو بين الأثمار الأمير الأجلّ، فعزّ خالقه وجلّ، فرياضه كرياض الجنان، وأشجاره كالحور الحسان، وزهره فى اللون كورد مضعف، وطعمه كالشهد حين يقطف، فإذا تكامل وراق، (271) وظهرت فواقع مفرداته بين اخضرار الأوراق، تخاله كأكزأ من عسجد، قد علت على كلّ غصن أملد، قد صاغها صانع بديع، حكيم عليم بصير سميع، قد أتقن ما صنع، وأحسن ما جمع، فألبسها ثوب من زغب، على حقّ من ذهب، تميس فى خضرة وشباب، تبصرة لأولى الألباب، فمن القول البديع لابن وكيع وقيل لابن حمزة وهو الصحيح (من المجتثّ): نصف السفرجل ثدى … والشعار تحسب سرّه فمن أحبّ رآه … فما يغادر درّه

(1) نهاية الأرب 11/ 167، -5 (دون نسبة)؛ محاضرات الأدباء 2/ 347،6 (منسوب إلى الحبزارزى)؛ ديوان المعانى 2/ 37 (منسوب إلى نصر بن أحمد) (2) حلبة 257،3 (دون نسبة)، نهاية الأرب 11/ 164، -2 (منسوب إلى أبى بكر بن دريد)؛ من غاب 45 (دون نسبة)؛ غرائب التنبيهات 106،9 (3) عضضت: أكلت نهاية الأرب (4) فتى: خل نهاية الأرب (5) الهوى: النوى نهاية الأرب

الكمثرى

وقوله وقد بدع (من الطويل): (1) ومصفرّة تختال فى ثوب نرجس (2) … وتعبق عن مسك ذكى التنفّس لها ريح محبوب وقسوة قلبه … ولون محبّ حلّه السقم مكتسى (3) فصفرتها من صفرتى مستعارة … وأنفاسها فى الطّيب أنفاس مؤنس فلمّا استتمّت فى القضيب شبابها … وحاكت لها الأوراق أثواب سندس مددت يدى بالطف أبغى اقتطافها … لأجعلها ريحانة وسط مجلس ولمّا تعرّت فى يدى من لباسها … ولم تبق إلاّ فى غلالة نرجس ذكرت لها من لا أبوح بإسمه … فأذبلها فى الكفّ من حرّ تنفّس الكمثرى والكمثرى قد تخلّق، وراق وتعبّق، وعاد فى أعالى الأشجار، كنهود الأبكار، قد جمع بين العطريّة والطعميّة، فهو من أشرف الفواكه الشأميّة، على أنّه فى الوجود موجود، تخاله فى عوده حين يباع، ككوز من فقّاع، لكن الفقّاع مصنوع (272) صنعه مخلوق من سكر وسذاب، والكمثرى صنعة خالق من ماء السحاب، فيا حسنه من ثمر رقّت معانيه، فسقيا وريّا لجانيه، ولقد أبدع ابن الرومى التشبيه فى معانيه (من الوافر): وكمّثرى حكى نهد الغوانى … وقد لبست غلائل زعفران تميل غصو ميل السكارى … وما شربت معتقة الدنان

(1) نهاية الأرب 11/ 170، -7 (2) نرجس: سندس نهاية الأرب (3) مكتسى: قد كسى نهاية الأرب

ومن التشبيه لابن المعتزّ فيه (من الطويل): لنا مجلس يحكى المحاسن كلّها … فما منه إلاّ لذّة وسرور ظللنا ندير الكأس والليل عاكف … إلى أن بدا ضوء الصباح نذير نحيّا بكمّثرى جنّى كأنّه … نهود عذارى مسّهنّ عبير وقوله (من الوافر): (1) وكمّثرى سبانى منه طعم … كطعم المسك سيب بماء ورد لذيذ خلته لما أتانا … نهود السمر فى لون وقدّ وقوله فى كمثراته (من السريع): (2) حيّا بكمثراته لونها … لون محبّ زايدا لصفره تشبه نهد البكر إن أقعدت … وهى لها إن قلبت سرّه وفيه ويعرف فى الأندلس بالإجّاص لأبى حفص (من الكامل): أهديت يا من يهتدى نصابه (3) … من يافع الإجّاص أجمل منظر كنهود غيد لخلخت أو ضمّخت … بالزعفران جماجم من سكر وله فى الإجّاص المعروف بعين البقر (من الكامل): فكّرت فى إتحاف مج‍ … دك من جنا ثمر الجنان فبعثت أحداق العيو … ن لمن غدا عين الزمان وله فى الخيرى (من السريع): سار لك الخيرىّ يا سيّدى … عنّى لما فاتنى السير وإنّ أولى تحفة أهديت … ما كان فى أوّلها خير

(1) حلبة 257، -12 (منسوب إلى عبد الله بن برغش)؛ المستطرف 2/ 287، -3 (2) حسن المحاضرة 2/ 437 (دون نسبة) (3) نصابه: كذا

(273) المشمش

ولأبى عامر فى الخيرى (من الطويل): (1) وخيريّة بين النسيم وبينها … حديث إذا جنّ الظلام يطيب لها نفس تسرى مع الليل عاطرا … كأنّ لها سرّا هناك ثريب يدبّ مع الإمساء حتّى كأنّما … له خلف أستار الظلام حبيب وتخفى مع لإصباح حتّى كأنّما … يظلّ عليه للصباح رقيب ولابن المعتزّ فى الإجّاص (من السريع): إنما الإجّاص فى صبغه … يسترق فى اللون صبغ المهج كأكر العنبر ملمومة … أو خرزات خرطت من سبج والإجّاص لمعروف بعين البقر لله طعمه ما أحلاه من ثمر، شبّهته لما ثناها فى العمر، نهود عذراء فى غلالة خمرى، فيا حسنه من تحفة زهيّة، وهديّة سنيّة، فهو كما قيل. (273) المشمش والمشمش قد أفقع بالاصفرار، وأقنّ بالاحمرار، فنصف كعاشق دنف، ونصف معشوق صلف، وعاد فى قشره الأملس، كثوبى أطلس، أو كبيادق من خالص الإبرار، فسبحان من صاغه من إبليز، قد رقّ وراق، وتجلاّ بين اخضرار الأوراق، تخاله جلاجل من ذهب، أو نجوم ذات لهب، فمن القول البديع، لابن وكيع (من الطويل):

(1) نهاية الأرب 11/ 272،5 (منسوب إلى ابن خفاجة)؛ ديوان ابن خفاجة رقم 24،1 - 2؛ الوافى بالوفيات 6/ 89،4

بدا مشمش الأشجار يذكو (5) … شهابه على خضر أغصان من الرىّ ميّد (1) حكى وحكت أوراقه فى اخضرارها … جلاجل تبر فى سماء (6) زبرجد ومن التشبيه لابن الرومى فيه (من الكامل): (2) قشر من الذهب المصفرّ (7) … حشوه شهد لذيذ طعمه للجانى ظلنا لديه ندير فى كاساتنا … خمرا تشعشع كالعقيق القانى فكأنّما الأفلاك من طرب بنا … نثرت كوابها (8) على الأغصان ولابن المعتزّ (من البسيط): (3) ومشمش بان فيه أعجب العجب … يدعو النفوس إلى اللذّات والطرب كأنّه فى غصون الدوح حين بدا … بنادق خرطت من خالص الذّهب وله (من الطويل): (4) بدا مشمش الأشجار فيها كأنّه … يلوح على خضر الغصون الموائل قباب بمخضرّ الدبابيج (9) … غشّيت وقد زيّنت من عسجد بجلاجل

(1) حلبة 258، -1؛ نهاية الأرب 11/ 141،7؛ المستطرف 2/ 288،1 (دون نسبة)؛ غرائب التنبيهات 107، -2، ديوان ابن وكيع 52، رقم 18 (2) نهاية الأرب 11/ 141، -3 (3) ديوان ابن المعتز 3/ 236،1، رقم 36 (4) حلبة 258، -4 (دون نسبة) (5) يذكو: يبدو حلبة||على خضر: على حسن حلبة||من الرى: من الدوح حلبة (6) فى سماء: فى قباب نهاية الأرب (7) المصفر: المصفى نهاية الأرب (8) كوابها: كواكبها، تحريف (9) الدبابيج غشيت: الرياحين عشبت حلبة

الخوخ الزهرى

الخوخ الزهرى والزهرى فى أعالى شجره، لمّا بدا فى أصفره وأحمره، كقينة تورّدت خدودها، لمّا أعلت الصوت عند جسّ عودها، بقناع أصفر علا على نهودها، أو نصفه كلون عاشق مهجور، ونصفه الآخر كخدّ معشوق مخمور، وفرقه كفرق معصم مخضّب، فعاد لمن تأمّله معذّب، فيا حسنه (274) من ثمر عجيب. كأنّ طعمه ريق الحبيب، لونه كثوب من القزّ، فهو كما نعته ابن المعتزّ (من السريع): (1) وخوخة يحكى لنا نصفها … وجنّة معشوق رآه الرقيب ونصفه (3) … الآخر يحكى لنا وجه محبّ صدّ عنه الحبيب وقوله (من السريع): (2) كأنّما الخوخ على دوحه … وقد بدا فى حمرة العندم بنادق من ذهب أصفر … قد خضّبت نصفها بالدم وقوله فيه (من البسيط): أما (4) … ترى فى الغصون خوخا منظره منظر أنيق فدواد (5) … يمين ذا بهار لمجتنيه وذا شقيق كوجنة لطخت (6) … خلوقا وزال عن نصفها الخلوق

(1) حلبة 259، -13 (دون نسبة) (2) ديوان الصنوبرى، رقم 374،1،5،6؛ نهاية الأرب 11/ 139، 3،6،7؛ محاضرات الأدباء 1/ 384،6؛ المستطرف 2/ 288،7 (دون نسبة) (3) ونصفه-صد: ونصفها الآخر شبهته بلون صب عاب حلبة (4) أما-خوخا: أهدى إلينا الزمان خوخا الديوان (5) فدواد-ذا: ذاث أديمين ذا الديوان ||لمجتنيه: لمجتليه الديوان (6) لطخت: ألبست الديوان

الرمان

ومن البديع لابن وكيع فى المشعر (من السريع): يا حبّذا الخوخ إذا ما بدا … فى القضب المخضّرة الملد كأنّه خدّ رشا لم يزل … نسرينه يقرن بالورد صوّره الله لنا فضّة … بيضاء تحكى خلقة النهد وكتب بعضهم مع بواكر خوخ (من الوافر): بعثت بها إليك نبات أيك … غداها فى الثرى درّ القطار لها لونان مخضرّ غضيض … وأحمر قانى كالجلّنار ولم تبصر أبا العبّاس حسنا … يروقك كاخضرار فى احمرار كمثل الخدّ أخجله التلاقى … فطرّز ورده آس العذار ولابن المعتزّ وأبدع (من السريع): خوخة بيضاء مقسومة … فنصفها الواحد من ورد كأنّما العجم فى جوفها … خصية مقرور من البرد الرمان (275) والرمّان، قد عاد فى أعالى الأغصان، كقيان ذوات نهود وقوف. فى غلائل مصبّغة تملأ الكفوف، أو كأحقاق من الذهب المنعوت، قد ضمّت على حبّ من الياقوت، فلفّاته مفلح النهود، فعاد كأعراف ديوك الهنود، فلولا حمرة جبّه الملصوق، لكان أشبه شيئا بثغر المعشوق، فمن المعنى اللطيف، قول الطوسى الشريف (من المجتثّ): أنظر لرمّان دوح … فيه لذى اللبّ سرّ حصّن له شرفات … فيه يواقيت حمر لولا احمرارا إذا <ما> … قبّلتها قلت ثغر

الكروم والأعناب

ومن بديع التشبيه لابن الرومى فيه (من الكامل): (1) رمّانة صبغ الزمان أديمها … فتبسّمت فى خضرة الأغصان فكأنّما هى حقّة من صندل … قد أودعت خرزا من المرجان ومن البديع الفاخر قول الآخر (من البسيط): (2) شبهت (4) … رمّانة من فوق دوحها مثالها يبديع الحسن منعوت القشر (5) … حقّ لها قد ضمّ داخلها والشحم قطن والحبّ ياقوت الكروم والأعناب والكرم بالشمس تحرّش، ومدّ أغصانه وعرّش، وعاد ظلّه غزير، على حسن خرير الغدير، وتهدّلت أقطافها، وتدانت لقطافها، وعادت الشمس من بين خلال الأوراق منقّطة، كدراهم ملتقطة، لكن ظلّها ظليل، فهى كما قيل (من الطويل): (3) ولا ظل إلا ظل كرم معرش … تغنّيك من قطر به أرقّ (6) الحمائم سماء غصون يمنع (7) … الشمس أن ترى على الأرض إلاّ مثل نثر الدراهم

(1) نهاية الأرب 11/ 102،11 (دون نسبة) (2) حلبة 260،7 (دون نسبة)؛ غرائب التنبيهات 115، -4 (6 فقط)؛ نهاية الأرب 11/ 102،8 (3) ديوان السرى الرفاء 242، -3؛ حلبة 261؛ شرح المقامات الحريرية 2/ 42،1 (4) شبهت-مثالها: رمانة صنع الرحمن خالقها أمثالها حلبة؛ لله رمانة من فوق دوحتها نهاية الأرب (5) القشر-ياقوت: والقشر من حولها قد صان داخلها والقطن حب لها والشحم ياقوت حلبة؛ حق نضار ضم قطن له نهاية الأرب (6) أرق: ورق الديوان (7) يمنع: تحجب الديوان

(276) العنب الأبيض

(276) العنب الأبيض والعنب الأبيض أوّل ما حصرم وعقد، كما يجمع الحمص الأخضر عنقودا للمنتقد، ثم ترقّ بشرته ويحلا مذاقه، فسبحان خلاّقه، الذى بخلقته افتخر، دون سائر الثمر، فأمّا قطوفها البعليّة بين عروسها فى أرضها، كنعامة قد فرشت جناحيها على بيضها، وأمّا قطوفها المعتلية فى كرومها، فكالسماء وقد زيّنت بنجومها، ومن المستحسن البديع، قول ابن وكيع (من الطويل): (1) شربت مجاج (2) … الكرم تحت ظلاله على وجه معشوق الشمائل أغيد كأنّ عناقيد الكروم وظلّها … كواكب درّ فى سماء زبرجد ومن ذلك ما حضر ولعلّه مبتكر (من الطويل): كأنّ التطوف الدانيات من الأرض … وقرب تراكم البعض منها على البعض نعامة فيحاء فى أرض قفرة … تضمّ جناحيها لحضانة البيض العنب الأسود والعنب الأسود بين أوراقه والعروش، كأطفال الحبوش فى خضر الفروش، ومن القول الفاخر، قول الآخر (من البسيط): وكرمة ذات أعناب مهدلة … تبين من أقطارها تحت الأفانين شبهت فيها العناقيد التى أينعت … أوالاد (3) زنجية فطس العرانين

(1) ديوان ابن المعتز 1/ 567،4، رقم 1004 (2) مجاج: عصير الديوان (3) أوالاد: أولاد، تحريف

(277) التين

ومن المطرب المستحسن قول ابن عبد المحسن وقد أهدى إليه محلّلا بأسود (من الخفيف): (1) جاءنا منك تحفة نحن فيها … أبدا فى تضاعف السرّاء عنب أسود كأنّ عليه … حلّلا من حنادس الظلماء خلته فى خلال أوراقه الخضر … ولون اسوداده والصفاء كقموع على أنامل خود … غنج (2) فى كمّ لاذة خضراء (277) التين وأما التين، فيا حسنه من ثمر فى حلاوته صادق، وكلّ لسان فى وصفه ناطق، فأبيضه كأحقاق كافور، تخالها تجسّمت من نور، وأزرقه كحماحم الريحان، أو كجماجم السودان، مخربشة الوجوه كالوحوش أو كأولاد الحبوش، فهو فى حلاوة طعمه مكمّل، قد جمع بين سكر وشهد مرمّل، فكلّ نفس له تشتهيه، ولقد أجاد ابن الرومى فى التشبيه (من الطويل): التين يعدل عندى كلّ فاكهة … إذا بدا باكرا فى حسنه الزاهى مخمّش الوجه قد مالت علاوته … كأنّه ساجد من خشية الله

(1) نهاية الأرب 11/ 151،5 (منسوب إلى عبد المحسن الصورى)؛ غرائب التنبيهات 109،9 (منسوب إلى محمد بن عبد المحسن الكفرطابى) (2) غنج: لحن نهاية الأرب

ومن التشبيه لابن المعتزّ فيه (من المنسرح): (1) قم (4) … بنا يا نديم فى الغسق قبل نزول (5) الندا عن الورق أما ترى التين فى الغصون ضحا (6) … ممزق الثوب (7) مائل العنق كأنّه ربّ نعمة سلبت … أصبح بعد الحديد فى خلق أو كأخى شرّة أغيض (8) … وقد خرق (9) جلبابه من الحنق منها: حشوه (10) … المسك والزعفران والعسل النحل وحبّ الخشخاش فى نسق وللأندلسى فيه (من المتقارب): (2) وسود الوجوه كلون الصدود … تبسّمن تحت ذيول (11) الغبش إذا ما تجلاّ بياض الضحى … تطلعن فى وجهه كالنمش كأنّى أقطّف منها (12) … قبيل ضحا صغار ثدى بنات الحبش وللقيروانى فى ذمّ التين المسكين (من السريع): (3) لا مرحبا بالتين لما أتى … يسحب كالليل عليه جناح (13) ممزّق الجلباب يحكى لنا … هامة زنجى عليها جراح

(1) نهاية الأرب 11/ 158، -2 (منسوب إلى أسامة بن منقذ)؛ غرايب التنبيهات 118،2 (منسوب إلى أسامة بن منقذ) (2) نهاية الأرب 11/ 159،8 (منسوب إلى ابن خفاجة)؛ غرائب التنبيهات 117، -3؛ ديوان ابن خفاجة 374؛ رقم 322 (3) نهاية الأرب 11/ 160،7 (منسوب إلى محمد بن شرف القيروانى) (4) قم-الغسق: فقم بنا نحوه فباكره نهاية الأرب (5) نزول: جفاف نهاية الأرب (6) ضحا؛ بدا نهاية الأرب (7) الثوب: الجلد نهاية الأرب (8) اغيض: أغيظ (9) خرق: مزق نهاية الأرب (10) حشوه-وحب: فالشهد والزعفران مع عرق الورد وحب نهاية الأرب (11) ذيول: عبوس الديوان (12) منها-ثدى: منها ضحى ثدى صغار الديوان (13) عليه جناح: عليه وشاح نهاية الأرب

النخيل وأثمارها

النخيل وأثمارها (278) وهنا حكاية طريقة فى التين نذكرها قبل ذلك: قيل: دخل مريد على بعض المشايخ القرّاء وقد أهدى للشيخ تين فى أوّل أوانه فلمّا أحسّ به جعل الطبق تحت السرير ثم قال لمريده: ما الذى جاء بك فى هذا الوقت؟ قال: يا سيدى مررت بباب أبى العبّاس الكاتب فسمعت جارية تقرأ بلحن ما سمعت أطيب منه فلم أزل مصغى لها حتى أتقنت حفظه وأتيتك لمعرفتى لمحبّتك فى القراءات، قال: هات وأوجز! فتنحنح وقال: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} {وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ»} (1)، فقال: ويحك وأين التين؟ قال: ها هو تحت السرير: فضحك منه وتواكلا (3) جميعا. ولنعود لذكر النخيل والنخيل بين تلك الأدواح، يتلاعب بسعفه الأرواح، قد تهدّلت قنوها، كوالدة حملت بينها من حنوها، أو كما ذكر أنّ ملكة للسودان فى بعض الجزائر عريانة الجسد وتاجها على رأسها منوّعا بأفخر الجواهر، فقلت فى ذلك ما حضر، وهو معنى مبتكر (من السريع): (4) كأنّما النخلة فى دوحها … وبسرها زاد فى أبهاجها كما حدث عن مليكة عريانة … وعلى رأسها تاجها ومن البديع قول ابن وكيع (من البسيط): (2) أما ترى النخل حاملات … بسرا (5) حكى صبغه الشقيقا كأنّما خوصه عليه … زبرجد مثمرا عقيقا

(1) القرآن الكريم 95/ 1 - 3 (2) حلبة 261، -4 (دون نسبة)؛ نهاية الأرب 11/ 127، -8 (دون نسبة)؛ غرائب التنبيهات 112،7 (منسوب إلى ابن وكيع) (3) تواكلا: تآكلا (4) مضطرب الوزن (5) بسرا-الشقيقا: ولونه قد حكى الشقيقا حلبة

البسر الأحمر

البسر الأحمر والبسر الأحمر الأنيق، كأنامل قد قمعت بالعقيق، وقد تطرف بسواد (279) فكأنّما تلك الأنامل المخضوبة قمعت بخضاب فعادت أعلق بالفؤاد، أو كفتية سمراء عليها غلالة حمراء، إذا تأمّلها العاشق اهتزّ، فهو كما قال ابن المعتزّ (من المتقارب): وبسر أتانا به أهيف … تميس بأعطانه قدّه كأنّ حلاوته ريقه … وحمرة أثوابه خدّه ومن البديع قول ابن وكيع (من المنسرح): (1) أما ترى النخل مثمرا بلحا … جاء بشيرا لدولة (3) الرطب مخارق من زبرجد خرطت … مقمّعات (4) الرؤس بالذهب وله فى الرطب (من الرجز): (2) يا حبّذا البرنىّ من بين الرطب … كأنّه حين تبدّى واقترب مخارق قد خرطت من الذهب … أو ركوة مملوءة من الصرب ولغيره فى الأصفر (من الرجز): انظر إلى البسر الذى … قد جاءنا بالعجب كيف غدا فى لونه … كعاشق مكتئب كأنّه من فضّة … قد طليت بالذهب

(1) حلبة 261،15 (دون نسبة)؛ نهاية الأرب 11/ 126، -1 (منسوب إلى ابن وكيع)؛ ديوان ابن وكيع 40، رقم 8 (2) غرائب التنبيهات 112، -1 (منسوب إلى ابن وكيع)؛ نهاية الأرب 11/ 127، -3 (منسوب إلى ابن المعتز)؛ ديوان ابن المعتز 3/ 234، رقم 33 (3) لدولة؛ بدولة حلبة (4) مخارق من زبرجد خرطت مقمعات: مكاحل من زمرد مقمعات حلبة

وممّا يشنف السمع لابن المعتزّ فى الطلع (من الخفيف): (1) قد أتانا الذى بعثت إلينا … وهو فى (5) وقتنا معدوم طلعة غضّة أتتنا تحاكى … سفطا فيه لؤلؤ منظوم ومن قوله فيه (من الكامل): (2) أفدى (6) … التى أهدت إلينا طلعة فأهدت إلى القلب المشوق بلابلا فكأنّما هى زورق من عسجد (7) … قد أوسقوه من اللجين سلاسلا وله فيه (من السريع): (3) كأنّما الطلع وقد جاءنا … للعين تشبيها وتقديرا درج من الصندل قد أودعت … فيه يد العطّار كافورا ومن البديع لابن وكيع (280) (من الطويل): (4) وطلع هتكنا عنه جيب قميصه … فيا حسنه (8) من منظر حين هتّكا حكى صدر خود من بنى الروم هزّها … سماع فقدّت عنه ثوبا ممسّكا

(1) نهاية الأرب 11/ 125، -4 (منسوب إلى كشاحم)؛ ديوان كشاحم رقم 431،1؛ غرائب التنبيهات 111،5 (منسوب إلى كشاجم) (2) ديوان ابن المعتز 2/ 645، -2، رقم 1116 (3) نهاية الأرب 11/ 124، -2 (منسوب إلى ابن وكيع)؛ غرائب التنبيهات 110، -3 (منسوب إلى ابن وكيع) (4) نهاية الأرب 11/ 125،2 (منسوب إلى محمد بن القاسم العلوى)؛ غرائب التنبيهات 111،2 (منسوب إلى ابن وكيع) (5) وهو فى: وهو شئ الديوان (6) أفدى-القلب: افدى الذى أهدى إلينا طلعة أهدت إلى قلبى الديوان (7) عسجد-أوسقوه: فضة قد أودعوه الديوان (8) حسنه-منظر: حسنه فى لونه نهاية الأرب

ومن ملح ابن الرومى (من الكامل): أفدى الذى سلبت فؤا … دى بالجمال وبالذوائب أهدت إلينا طلعة … شبها لأذناب الأرانب تحكى سلاسل فضّة … أو كالثغور من الحبائب ولابن المعتزّ فى الجمّار (من السريع): (1) جمّارة كالماء لكنّها (3) … ما بين أطمار من الليف كأنّها (4) … جسم رطيب وقد لفّف فى ثوب من الصوف ولابن وكيع فيه (من الكامل): (2) أهدى لنا جمارة … من لست أخلو من عذابه فكأنّما هى جسمه … لمّا تعرّى (5) من ثيابه وقال (من السريع): جمّارة جاءتك من نخلة … باسقة قد أفرطت فى لبسوق كأنّها فى كفّ معشوقة … قد خضّبت راحتها بخلوق مهاة بلّور وقد أشرقت … فى جامة مخروطة من عقيق فاشرب على الجمّار فى كفّها … والورد فى وجنتها الشقيق

(1) نهاية الأرب 11/ 124، -9 (دون نسبة)؛ غرائب التنبيهات 311، -5 (دون نسبة) (2) حلبة 261،9 (دون نسبة) (3) لكنها: تبدو لها نهاية الأرب (4) كأنها-لفف: جسم رطيب اللمس لكنه قد لف نهاية الأرب (5) تعرى: تجرد حلبة

اللوز الأخضر

اللوز الأخضر واللوز فتحفة لطيفة، وخلقة شريفة، فيا طول اشتياقى واكتئابى، إلى اللوز العقابى، فنهاية أربى، عند لوز ابن عربى، فنوره كالنور، أو كأقماع البلّور، فما أحلاه من ضيف، مبشرا بقدوم الصيف، فلهذا تتهاداه الأحباب، ولو على ورق السذاب، وفى ذلك قيل (281) (من المنسرح): (1) ما (3) … أحسن اللوز إذ بدا أخضرا فهو لعمرى من أحسن التحف وقد حبا قشره القلوب لنا … كأنّه الدرّ داخل الصدف وفى هديّته يقول (من الوافر): تقبّله فديتك فهو طعم … يميل إلى هديّته الظريف كأنّ زبرجدا يحوى نضارا … حوى درّا له صدف لطيف الجوز الأخضر والجوز فى المنظر، كأنّه بنادق من زمرّد أخضر، وداخله مقصوم، كالدرّ المنظوم، أو كالمستكا (4) المعلّقة فى اللون والبياض، وقد مضغتها خود ذات أعين مراض، أو كداخل الطلح، وقد اعترى كوزه الفلح، أو كحضيّة (5) مقرور، فى كانون من الشهور، فممّا قيل فيه، من التشبيه (من الكامل): (2) والجوز مقصوم (6) … يروق كأنّه لونا وشكلا مصطكا ممضوغ

(1) نهاية الأرب 11/ 88،8 (2) نهاية الأرب 11/ 90،8 (3) ما-التحف: أما ترى اللوز حين ترجله عن الأفاتين كف مقتطف نهاية الأرب (4) المستكا: المصتكا (5) حضية: حظية (6) مقصوم: مقشور نهاية الأرب

النبق

ومن التشبيه الفضيع (2) لابن وكيع (من السريع): لا تهد لى جوزا فاهدأوه … رفاعة فى عنق يبدو كأنّه فى قشره إذ بدا … خصّى وقد كرشه البرد النبق والنبق فى أشجاره كما، تكون نجوما صغارا فى خضرة السما، تزهر باحمرار، كأنّها شعل نار، فيا له من ثمر جمع بين نكهة الصهباء، وطعم الكمّثراء، حاويا لنزهة النضارة، إلى نشوة العطارة، وهو شريكا للوز فى البشارة، وقد أبدع فى التشبيه من قال فيه (من الكامل): (1) انظر إلى النبق الذى … فيه الشفاء لكلّ إذائق فكأنّه فى دوحه … والليل ممدود السرادق النشر منه طيّب … فأضحى على الكافور فائق (282) ذهب ببهرجه الصيا … رف صيغ (3) حبّا للمخانق ومن البديع لابن وكيع (من الرجز): أشبّه النبق على صفرته … وقد بدت حمرته الملمّعه بحسن أطراف بنان كاعب … نواعم قد أبرزت مقمعه ومن التشبيه لابن المعتزّ فيه (من السريع): كأنّما النبق إذا ما بدا … يلوح فوق الغصن الأملد بنادق المرجان مخروطة … أو كجلاجل من عسجد (4)

(1) نهاية الأرب 11/ 145،2 (منسوب إلى ابن المعتز)؛ ديوان ابن المعتز 3/ 335، رقم 237 (2) الفضيع: الفظيع (3) صيغ: صار نهاية الأرب (4) عسجد: العسجد

الفستق

الفستق والفستق فى أشجاره الرّيا، كنجوم الثريّا، معقد فى كلّ غصن مائس كقناديل معلّقة فى بيع الكنائس، تخال ثمره كمناقير، الدوريّة من العصافير، فمن التشبيه للمصنّف فيه (من السريع): كأنّما لفستق فى دوحه … ذات عناقيد كالأكاليل بيعة رهبان تجمعت … بها معلقة القناديل وفى الفستق المملوح (من البسيط): (1) كأنّما الفستق المملوح حين بدا … (3) قدامنا فى لطيفات الطيافير (4) والقلب ما بين قشريه يلوح لنا … كألسن الطير ما بين المناقير التوت لابن القيروانى (من السريع): (2) انظر إلى توت الجنان الذى … وافا به الناطور فى جسام يحكى جراحا دمها سائل … لدى جسوم من بنى حسام الموز لابن المعتز (من الكامل): يا طيب يوم مرّ بى متنزّها … ما بين موز ريحه كالعنبر (283) كمكاحل التبر البديع إذا بدت … محشوة بالشهد وبالسكر

(1) نهاية الأرب 11/ 94،9 و 6 (دون نسبة)؛ غرائب التنبيهات 124،8 (دون نسبة) (2) نهاية الأرب 11/ 162،2 (منسوب إلى محمد بن شرف القيروانى) (3) قدامنا: مشققا نهاية الأرب (4) الطيافير: الطوامير نهاية الأرب

العناب

وله فيه وأبدع (من الكامل): (1) موز حلا فكأنّه … عسل ولكن غير جارى ذو باطن مثل الأقا … ح وظاهر مثل النهار (2) يحكى إذا قشّرته … أنياب أفيلة صغار وقوله (من السريع): وموزة جاء بها شادن … ناولنيها وهو لا ينطق كأنّها كافورة ضمّها … من بعد فصح ذهب مخرق ومن ملح ابن القيروانى (من الطويل): ألا حبّذا البستان والطير ناطق … بأرجائه والروض طرّز بالورد وقد عبقت للزهر فيه نوافح … ورائحتها أذكى من الندّ (3) وقد قام يسقينا به الراح شادن … هظيم (4) الحش مخطوفه أهيف القدّ به ما حوى من وردتين بخدّه … وآس عذار ثم رمّانتى نهد كأنّ بنات الموز فيه وقد بدا … مخارق عقيان ملين من الشهد العنّاب لابن المعتزّ (من الرمل): إنّ فى العنّاب معنى … حسنا بين المعانى حسنا فى كلّ حين … وأوان وزمان فتراه أبدا كلّما … استحضرته وسط الصوانى كقلوب الطير رطبا … أو تطاريف البنان

(1) نهاية الأرب 11/ 107،10 (دون نسبة) (2) النهار: النضار نهاية الأرب (3) من الند: كذا (4) هظيم: هضيم

القسطل

أخذه من قول (من الطويل): (1) كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا … لدى وكرها العنّاب والحشف البالى القسطل لابن المعتزّ (من المنسرح): انظر إلى القصطل المقشّر من … قشرته بعد الجفاف فى الشجر (284) كأنّه أوجه الصقالبة الب‍ … يض وقد كرنشت من الكبر الأترجّ والأترجّ فى الأغصان، كعذارا عليهنّ غلائل زعفران، أو كقلوب مخلّقة، فى الأشجار معلّقة، أو كأمشاط من سمك تقلاّ، حين تجلاّ، أو كحماسيّات من زجاج رقيق، مملوءة من الخمر الأصفر الصافى العتيق، فريحها عن الأحزان يسلّى، فهى كما قيل للسقلّى (من المنسرح): أهلا بأترجّة ملعّبة … كأنّ فيها المدام قد خلطا كأنّها كفّ حاسب فرغت … فهى من الخوف تحسب الغلطا ولكشاجم فيه (من المنسرح): (2) يا حبّذا يومنا ونحن على … رؤوسنا نعقد الأكاليلا كأنّ أترجّها تميل به … أغصانه حاملا ومحمولا سلاسل من زبرجد حملت … من ذهب أصفر قناديلا فى جنّة ذلّلت أقطانها … أقطافها (3) الدانيات تذليلا

(1) ديوان امرؤ القيس 38،4، رقم 2،51 (2) ديوان كشاجم 388، -2، رقم 382؛ ديوان ابن المعتز 3/ 310، رقم 189؛ نهاية الأرب 11/ 113، -2 و 183،2؛ غرائب التنبيهات 101، -1؛ من غاب 42،2 (3) أقطانها أقطافها: لقاطفها قطوفها الديوان

النارنج

ونبعضهم فى الأترجّ أيضا (من المنسرح): (1) جسم لجين قميصه ذهب … زرّ على لعبة من طيب (4) فيه لمن شمّه وأبصره … لون محبّ وريح محبوب وفيه لأبى عامر (من الرجز): (2) يا حبّذا أترجّة ملعبة … تجذب (5) للنفس الطرب كأنّها كافور <ة … لها غشاء من> ذهب النارنج والنارنج فى أعالى الأشجار، ما بين تلك الأوراق التى زادت فى الاخضرار، كأكر من نار، فياله من عجب، يجب أن يكتب بالذهب، بأقلام البلّور، على صفحات النور، كيف أثمرت النار من النور، حتى عاد فى أغصانه ملتزّ، كما قال فيه ابن المعتزّ، وقيل لابن بهلول الكاتب (من السريع): (3) نارنجة (6) … حمراء أبصرتها فى كفّ ضبى مشرق كالقمر كأنّها فى كفّه (7) … جمرة قد أثرت فيها رؤوس الإبر

(1) نهاية الأرب 11/ 182، -3 (منسوب إلى ابن دريد)؛ ديوان ابن دريد 40، -2؛ المعصون 55،2 (دون نسبة) (2) نهاية الأرب 11/ 181، -5 (منسوب إلى ابن المعتز)؛ ديوان ابن المعتز 2/ 511، رقم 973؛ حلبة 263 و 266 (3) حلبة 264، -6 (4) طيب: الطيب نهاية الأرب (5) يا-تجذب: يا حبذا ليمونة تحدث الديوان (6) نارنجة-أبصرتها: نارنجة أبصرتها بكرة حلبة||ضبى: ظبى (7) كفه: يده حلبة

ولابن الرومى فى نارنجة (من الطويل): (1) ونارنجة فى كفّ ظبى رأيتها … كقطعة (5) نار وهى باردة اللمس فقرّبها من خدّه فتشاكلا (6) … فشبّهتها المرّيخ فى دارة الشمس وفيه لابن خفاجة (من السريع): (2) كأنّما النارنج لما بدت … حمرته (7) فى صفرة كاللهيب خجلة معشوق رأى عاشقا … فاحمرّ ثم اصفرّ خوف الرقيب ولأبى الفرج الوأواء (من السريع): (3) ناولنى ظبى لنا مرّة … نارنجة فى مجلس لنا مونق (8) (285) فخلتها فى كفّه جمرة … أو كرة من ذهب لم يحرق بل خلته بدر الدجى طالعا … فى يده الشمس من المشرق ومن التشبيه لابن المعتزّ فيه (من الكامل): (4) وكأنّما النارنج فى أغصانه … من خالص التبر (9) الذى لم يخلط كرة دحاها (10) … الصولجان إلى الهوى فتعلّقت فى جوّه لم تسقط

(1) حلبة 264، -3 (دون نسبة)؛ ديوان ابن المعتز 3/ 310، رقم 189؛ المستطرف 2/ 286،7 (2) حلبة 264، -10 (منسوب إلى ابن المعتز)؛ ديوان ابن المعتز 2/ 510، رقم 972 (3) ناقص فى الديوان (4) ديوان ابن المعتز 2/ 610،5، رقم 1072 (5) و-كقطعة: ونارنجة عاينتها بيمينه كشعلة حلبة (6) فتشاكلا: فتألقت حلبة (7) حمرته-صفرة: صفرة فى حمرته الديوان (8) لنا مونق: كذا (9) التبر: الذهب الديوان (10) دحاها: رماها الديوان

الباذنجان

ولأبى الفرج الوأواء أيضا (عن الطويل): ونارنجة تحكى كأكرة عسجد … ملمة يومى بها كفّ مشوق شبّهتها لما تأمّلت حسنها … بنهد عروس ضمخت بخلوق ولابن المعتزّ فى التشبيه وأبدع فيه (من السريع): مرّ بنا ظبى وفى كفّه … نارنجة من خلقة البارى فخلتها فى كفّه جمرة … من فوق ماء ليس بالجارى فصرت فى فكر وفى حيرة … كيف اجتماع الماء والنار وله فيه (من المتقارب): ألا سقّنى الراح فى روضة … طرائف أشجارها تثمر كأنّ تماثيل نارنجها … إذا ما تأمّله المبصر دبابيس من ذهب أحمر … ومقابضها (2) من سندس أخضر الباذنجان لابن المعتزّ (من المنسرح): (1) أهدت لنا الأرض من طرائفها … ابدنج يزهو بوصفه (3) وقتى إذا أراد (4) … الذى يشبهه يكثر نظم الصفات والنعت فالو كراه (5) … الأديم قد حشيت بسمسم قمّعت بكيمخت

(1) نهاية الأرب 11/ 44، -3 (دون نسبة)؛ غرائب التنبيهات 125، 2؛ ديوان ابن الرومى 1/ 392، رقم 318 (15 و 16 فقط) (2) ومقابضها: كذا (3) من-بوصفه: من عجائبها ما سوف يزهو بمثله نهاية الأرب (4) إذا أراد: إذا أجاد نهاية الأرب ||يكثر-النعت: وأحكم الوصف منه فى النعت نهاية الأرب (5) فالو كراه (كذا): قال كراة نهاية الأرب

والبديع فيه قول يزيد بن معاوية (من الطويل): ألا ربّ بستان أنيق رأيته … له منظر يزهى بغير نظير وأيدنجه بين الغصون كأنّه … قلوب ضباء (2) فى أكفّ صقور (286) وقوله (من الكامل): (1) وكأنّما الأبدنج سود حمائم … بكرت إلى عشب الربيع المبكر لقطعت مناقرها الزبرجد لؤلؤا … فاستودعته حواصلا من عنبر وإلى يزيد تنتهى رقّة الشعر وتأيّده قوله (من البسيط): يجمع جفنيك بين البرء والسقم … لا تسفكى من جفونى بالفراق دمى إشارة منك تكفينى وأفصح ما … ردّ السلام غداة البين بالغمّ تعليق قلبى بذاك القرط يؤلمه … فليسكر القرط تعليقا بلا ألم تضرّمت حمرة فى ماء وجنتها … فالجمر فى الماء خاف غير مضطرم حتى إذا طاح عنها المرط من دهش … وانحلّ بالظمء مسلك العقد فى الظّلم منها: تبسّمت فأضاء الجوّ فالتقطت … حبّات منتثر فى ضوء منتظم فظلت ألثم عينيها ومن عجب … أنّى أقبّل أسيافا سفكن دمى وقوله وتروى لغيره (من المنسرح): قد سترت وجهها عن البشر … بساعد حلّ عقد مصطبرى كأنّه والعيون ترمقه … عامود نور فى دارة القمر

(1) حلبة 268، -4 (دون نسبة)؛ نهاية الأرب 11/ 45،8 (دون نسبة)؛ المستطرف 2/ 289، -4 (دون نسبة) (2) ضباء: ظباء

القثاء

ولابن سارة فى الباذنجان (من الطويل): (1) ومستحسن عند الطعام مدحرج … غذاه غير الماء فى كلّ بستان تطلّع من أقماعه فكأنّه … قلوب نعاج فى مخاليب عقبان ولغيره فى ذمّه (من الكامل): (2) وإذا (5) … طبخت طعامنا فاجعله غير مبندج إيّاك هامة أسود … عريان أصلع كوسج القثّاء للموسى (من البسيط): (3) انظر إليه أنابيبا منضّرة … من الزبرجد خضرا ماله (6) ورق (287) إذا كتبت (7) … اسمه بانت ملاحته وكان مضمونه (8) إنّى بكم أثق الخيار (من الكامل): (4) انظر (9) … إلى لون الخيار وحسنه وروائح (10) الريحان فى المكسور (11) فكأنّ ظاهره زبرجد أخضر … وكأنّ باطنه من البلّور

(1) نهاية الأرب 11/ 45،5 (دون نسبة)؛ نفح الطيب 5/ 228 (2) حلبة 269،3 (منسوب إلى ابن رشيق القيروانى)؛ ديوان ابن رشيق رقم 39 (3) حلبة 270؛10 (منسوب إلى ابن المعتز)؛ ديوان ابن المعتز 2/ 623، 2 رقم 1092؛ المستطرف 2/ 289، -7 (4) نهاية الأرب 11/ 40، -1 (دون نسبة) (5) وإذا-طعامنا: وإذا صنعت غدانا حلبة (6) ماله: مالها حلبة (7) إذا كتبت: إذا قلبت حلبة (8) وكان مضمونه وصار مقلوبه حلبة (9) انظر-حسنه: انظر إلى عرف الخيار ولونه نهاية الأرب (10) وروائح: كروائح نهاية الأرب (11) فى المكسور: للمخمور نهاية الأرب

البطيخ الأصفر

البطيخ الأصفر لابن قلاقس (من المتقارب): (1) أتانا الغلام (3) … ببطيخة وسكينة قد أجيدت صقالا فقسّم (4) … بالبرق شمس الضحى وناول كلّ هلال هلالا وأنشدنى بعض الفضلاء (من الرمل): حبّذا أشباح تبر … ملئت ريقه نحله قد حنيناها شموسا … وقطعناها أهلّه ومن ملح ابن المعتزّ فيه (من المتقارب): أتانا الغلام ببطّيخة … فلم يك فيما أتا منه قلّه فشبّهته جالسا بيننا … يعدّ الشموس لدينا أهلّه وفى الأصفر أيضا (من الطويل): (2) رياحيّة مسكيّة ذهبيّة … لها ريح كافور وطعم مدام إذا فصّلت للأكل فهى أهلّة … وإن لم تفصّل فهى بدر التمام البطيخ الأخضر (من الطويل): وخضراء لمّا أن رأيت كمالها … كأنّا رأينا قبّة من زبرجد فباطنها الثلج الذى رصّعوا به … عقيقا ولفّوه بثوب زمرّد

(1) خلبة 271، -4 (دون نسبة)؛ غرائب التنبيهات 121،7 (منسوب إلى ابن قلاقس) (2) المأمونى رقم 64؛ غرائب التنبيهات 121،4؛ محاضرات الأدباء 2/ 344،10؛ نهاية الأرب 11/ 33، -1 (3) الغلام: الحبيب حلبة||اجيدت: أحكموها حلبة (4) فقسم: فقطع حلبة||و-هلال: وأهدى إلى كل بدر حلبة

ومن ملح ابن الرومى فيه (من الطويل): (1) وظبى أتى فى الكفّ منه بمدية … وقد لاح فى خدّيه شبه شقيق فمال إلى بطيخة ثم حزّها … وفرّقها ما بين كلّ صديق فشبّهتها لمّا علت فى أكفّهم … وقد علمت فيهم كؤوس رحيق صفائح بلّور بدت فى زبرجد … مرصّعة (5) فيها فصوص عقيق (288) وأعجبنى قول السلامى فيمن لم يحتفل بحمل السكّين فى زمن البطيخ (من السريع): (2) قال السلامىّ إذا شئت أن … تبصر محزونا ومسكينا ذاك الذى يفقد من وسطه … فى زمن البطيخ سكينا ولبعضهم فى الأصفر أيضا وصفته (من الوافر): (3) ثلاث هنّ فى البطيخ فخر (6) … وفى الإنسان منقصة وذلّه خشونة لمسه (7) … والثقل فيه وصفرة لونه من غير علّه إذا قطّعته (8) … إربا تراه كبدر (9) فصّلت منه أهله ولابن وكيع فى البطيخ الأخضر (من السريع): (4) وذات ريق إن ترشّفته … وجدته أحلا من الأمن إذا (10) … بدت فى يد جلاّبها رأيتها فى غاية الحسن كسلّة خضراء مختومة … على الفصوص الحمر فى القطن

(1) حلبة 271،9 (دون نسبة)؛ نهاية الأرب 11/ 33، -4 (دون نسبة)؛ غرائب التنبيهات 121، -3 (3 - 6 فقط) (2) ناقص فى الديوان (3) حلبة 271،12 (دون نسبة)؛ نهاية الأرب 11/ 31،1 (4) نهاية الأرب 11/ 33،2 (دون نسبة،16 - 17 فقط)؛ غرائب التنبيهات 122،2 (5) مرصعة: مركبة حلبة (6) فخر: زين نهاية الأرب (7) لمسه: جلده حلبة، حسمه نهاية الأرب (8) قطعته: شققته نهاية الأرب (9) كبدر-منه: بدورا أسرقت منها نهاية الأرب (10) إذا-الحسن: رأيتها فى كف جلابها وقد بدت فى غاية الحسن نهاية الأرب

الفول الأخضر

الفول الأخضر لابن المعتزّ (من السريع): كأنما الفول ونوّاره … فى منظر راق به كلّ عين زمرّد أخضر لكنّه … يفتر عن غالية فى لجين ومن غرائبه فيه (من الوافر): (1) فصوص (1) … زمرّد فى غلف درّ مقمعة (2) حكت تقليم ظفر وقد جاءك الربيع بيانا … موجهة فمن بيض وخضر ربيع فى الربيع لكل نفس … ونقل لا يملّ بشرب خمر ومن البديع لابن وكيع (من المجتثّ): كأنّ (3) … أوراق ورد للباقلاء بهيّه خواتم من لجين … فصوصها حبشيّه وله فى القول الأخضر (من الخفيف): نوّر الباقلاء نورا ظريفا … جلّ فى حسنه عن الأشكال قد حكى حسنه لنا إذ تبدّا … سرر الروم ضمّخت بغوال الكتّان لابن المعتزّ (من الكامل): أهلا بلون اللازورد ومرحبا … فى روضة الكتّان يعطفها الصبا لو كنت ذا جهل حسبتك لجّة … وكشفت عن ساق كما فعلت سبا

(1) محاضرات الأدباء 2/ 585 (منسوب إلى الصنوبرى)؛ ديوان الصنوبرى، ذيل، رقم 88، (6 فقط)؛ حلبة 269 (منسوب إلى الصنوبرى)؛ وفيات الأعيان 4/ 208 (منتسب إلى أبى الحسن الأنبارى) (3) ديوان ابن وكيع 100، رقم 82 (2) مقمعة: بأقماع محاضرات الأدباء

(289) ومن ملحه فيه (من البسيط): تالله ما عدل الكتّان بل جارا … إذ صاغ من أزرق الياقوت نوّارا هل أعلم الغيب إنّا سوف نجعله … لباسا فاحكم للأثواب أزرارا ثم اغتدى ناثرا ياقوته سفها … واعتاض منه جمان التبر إيثارا وله فى الآذريون، ولعله الكركيش (من الرجز): (1) كأنّ آذريوننا … (3) والشمس فيه كاليه مداهن من ذهب … فيها بقايا غاليه وفى الغريب أيضا من الأزهار والثمار لابن وكيع (من الخفيف): (2) صعترىّ أدقّ من أرجل النم‍ … ل وأذكى من نفحة الزعفران كسطور كسين شكلا ونقطا … من يدى كاتب دقيق المعانى ومن ذلك فى الخرشف للزبير بن الموسى (من المتقارب): وخرشفة سكنت روضة … تخاف القطاف من أربابها شكت للقنافذ ما تتّقى … فألبستها بعض أثوابها قال: ومن ملح هذا قول ابن عمّار (من البسيط): وبنت ماء وترب جودها أبدا … لمن يرجّيه فى ثوب من النحل كأنّها فى جمال وامتناع ذرا … خود من الروم فى حذر من الأسل قلت: لعلّ الخرشف من ثمار المغرب فإنّه لا يعرف بمصر ولا بالشام. وبعد أن انتهى القول بنا إلى هاهنا، وذكرنا من المستطرف البديع،

(1) ديوان ابن المعتز 1/ 373، -1، رقم 362 (2) ديوان ابن وكيع 98، رقم 74 (3) آذريوننا: آذريونها الديوان

فصل الربيع

ما جمعناه فيه من ذكر ثمار الصيف والخريف وزهر الربيع، فلنردف ذلك بذكر طبائع الأزمان الأربعة، وما ذكر فى كلّ فصل منهم من المنفعة ونلحقه بما قيل من مستحسن الشعر فى خاصّيّة زمانه وعصره وأوانه (290) ليكون هذا الكتاب بمجموعه لمحاسن الأشياء يتيه، إعجابا على ما سواه إذ جمع عدّة من أنواع التشابيه، بالله التوسّل، وعليه التوكّل. فصل الربيع إذا نزلت الشمس أوّل الحمل استوى الليل والنهار فى الأقاليم، واعتدل الزمان وطاب الهوى (2) وهبّ النسيم، وذابت الثلوج وسالت الأودية ومدّت الأنهار نبعت العيون، وارتفعت الرطوبات إلى أعلى فروع الأشجار، ونبت العشب، وطال الزرع، ونمى الحشيش، وتلألأ الزهر، وأورقت الأشجار، وتفتّح النور، واخضرّ وجه الأرض، وتكوّنت الحيوانات، ونتجت البهائم، ودرّت الضروع، وانتشرت الحيوانات فى أوطانها، وطاب عيش أهل الوبر، وطلع أعلا السطوح أهل المدر، وأخذت الأرض زخرفها، وفرح الناس والحيوان أجمع بطيب نسيم الهواء، وازدانت الأرض، وصارت الدنيا كأنّها جارية شابّة قد تزيّنت وتعطّرت تحلّت للناظرين وعادت كما قيل، للصنوبرى (من البسيط): (1) أنا ترى الأرض قد أعطتك زهرتها … مخضرة واكتسى بالنور عاريها وللسماء بكاء فى حدائقها … وللرياض ابتسام فى نواحيها

(1) حلبة 275،15 (منسوب إلى ابن المعتز وإلى الشامى)؛ ديوان ابن المعتز 2/ 654، رقم 1143؛ نهاية الأرب 11/ 267، -1 (منسوب إلى البسامى) (2) الهوى: الهواء

وله (من البسيط): (1) إن كان فى الصيف أثمار (4) … وفاكهة فالأرض مستوقد والجوّ تنّور وإن يكن فى الخريف النخل مخترفا … فالأرض مسحورة (5) والجوّ مأسور (6) وإن يكن فى الشتاء الغيم متّصل (7) … فالأرض عريانة الأفق مقرور (8) ما الدّهر إلاّ الربيع المستنير إذا … جاء (9) الربيع أتاك النّور والنور فالأرض يافوتة والجوّ لؤلؤة … والنبت فيروزج والماء بلّور (291) تبارك الله ما أحلى الربيع فلا … تغرر فقائسه بالصيف مغرور من شمّ ريح تحيّات الربيع يقل … ما المسك مسك ولا لكافور كافور وقول الرقّى فى معناه (من الخفيف): (2) طاب هذا الهوى (10) … وازداد حتّى ليس يزداد طيب هذا الهواء ذهب حيث ذهبنا ودرّ … حيث درنا وفضّة فى القضاء وقوله (من الطويل): (3) أظنّ ربيع العام قد جاء تاجرا (11) … ففى الشمس بزّازا وفى الريح عطّارا وما العيش إلاّ أن تواجه وجهه … وتقضى بين الوشى والمسك أطوارا (12)

(1) ديوان الصنوبرى 42،3 - 7،43،3 و 6، رقم 34،1 - 5، 13 و 16؛ حلبة 274،8 (منسوب إلى المعوج الشامى؛ خاص الخاض 138،9؛ إيجاز 69،12؛ من غاب Basim le Forgeron 96،1 ؛1،19 (2) حلبة 274، -9 (دون نسبة)؛ من غاب 19 منسوب إلى المعوج الرقى) (3) نهاية الأرب 1/ 170،9 (منسوب إلى الثعالبى)؛ من غاب 19؛ ديوان الثعالبى 160، رقم 77 (4) أثمار: ريحان الديوان (5) مسحورة: عريانة الديوان (6) مأسور: مقرور الديوان (7) الغيم متصل: الغيث متصلا الديوان (8) عريانة-مقرور: محصورة والجو محصور الديوان (9) جاء: أتى الديوان (10) الهوى: الهواء (11) تاجرا: زائرا من غاب (12) أطوارا: أوطارا من غيب

فصل الصيف

قلت: وقد تقدّم من وصف الربيع ومحاسنه فى أوّل الزهريّات ما فيه بلغة، فلا تزال تلك حال الدنيا وأهلها من الحيوان والنبات إلى أن تنزل الشمس أوّل السرطان. فصل الصيف يتناهى طول النهار وقصر الليل فى الأقاليم كلّها وأخذ النهار فى النقصان والليل فى الزّيادة، وانصرف الربيع ودخل الصيف، واشتدّ الحرّ وحمى الجوّ وهبّت السمائم، ونقصت المياه فى سائر الأقاليم خلا نيل مصر فإنّه يسرع فى الزيادة، ويبس العشب، واستحكم الحبّ وأدرك الحصاد والثمار، وأخصبت الأرض ودرّت أخلاف النعم وسمنت البهائم، واتّسع الناس فى القوت والثمار، والطير من الحبّ، والبهائم من العلف، وصارت الدنيا كأنّها عروس بالغة تامّة كاملة كثيرة العشّاق، وقد تقدّم من وصف الثمار ونعوت الأشجار فى هذا الفصل ممّا فيه لغة للمتأمّل يغنى عن تكرار القول فيه، فلا تزال تلك حال الدنيا وأهلها إلى أن تبلغ الشمس آخر السنبلة. فصل الخريف (292) إذا نزلت الشمس أوّل الميزان استوى الليل والنهار مرّة أخرى، ثم ابتدأ الليل فى الزيادة على النهار وانصرف الصيف ودخل فصل الخريف، وبرد الهواء وهبّت الشمال وتغيّر الزمان ونقصت المياه وجفت الأنهار، وعارت العيون، ونقص نيل مصر، وفنيت الثمار ويبس النبات، وأخذ الناس فيما يمونهم (1) للشتاء، وعرى وجه الأرض من زينتها، ومات الهوامّ وانجحرت الحشرات

(1) يمونهم: يمؤنهم

فصل الشتاء

وانصرف الطير والوحش يطلب البلدان الدفيّة، وأحرز الناس القوت لشتاءهم ودخلوا تحت السقوف واتّخذوا الجلود والجباب لأجل البرد، وتغير الهواء وأضرّ، وصارت الدنيا كأنّها كهلة مدبرة الشّباب قد تولّى عنها أيّام البشاشة وتولّتها ليال الكهولة. ولم أجد فى هذا الفصل من ذكر شئ من محاسنه إلاّ أن يكون فى ذكر ثماره الكائنة فى زمانه كالبلح والخوخ والرمّان والموز وما أشبه ذلك، وقد تقدّم القول فيه، ولم تزل الدنيا ذلك دأبها ودأب أهلها إلى أن تنزل الشمس أوّل الجدى. فصل الشتاء يتناهى طول الليل وقصر النهار، ثم يأخذ النهار فى الزيادة، ونصرف الخريف ودخل الشتاء، واشتدّ البرد وخشن الهواء وتساقط ورق الأشجار ومات أكثر الحيوان وانجحر أكثره فى باطن الأرض وكهوف الجبال من شدّة البرد، وتناشت الغيوم وأظلم الجوّ وأكلح وجه الأرض وهزلت البهائم وضعفت قوى الأبدان ومنع الناس البرد من التصرّف وتمرمر عيش أكثر الحيوان وصارت الدنيا كأنّها عجوز هرمة قد دنا منها الموت وقرب الأجل، وأمّا ما يتّصل (293) بذلك من ذكر الأمطار والثلوج والروق وقوّة البرد وما يتعلّق به، فمن أحسن ما قيل فى ذلك لابن المعتزّ (من المنسرح): (1) يوم من الزمهرير مقرور … عليه جيب السحاب بزرور كأنّما حشو أفقه إبر … والأرض من تحته قوارير وشمسه حرّة مخدّرة … ليس لها من ضياء نور

(1) محاضرات الأدباء 4/ 551 (منسوب إلى وهب الهمدانى)

وقوله (من السريع): (1) قد منع الماء من اللمس … وأمكن الجمر من المسّ فليس فلقى غير ذى رعدة … ومسلم يسجد للشمس وللحاتمى (من الكامل): (2) يوم خلعت به عذارى … فعريت من حلل الوقار وضحكت فيه إلى الصبا … والشيب يضحك فى عذارى وسماؤه تخبو الثرى … من درّ مكنون النجار تبكى فيجمد دمعها … والبرق يكحلها بنار وقوله (من الرجز): كأنّما سماؤه تأكله … تبكى بدمع ما جرى حتّى انعقد تبعته ريح الصبا فيبتدى … فى جوّه روحا فى الأرض جسد ولكشاجم (من البسيط): (3) أما ترى الثلج قد خاطت أنامله … ثوبا تزرّ (4) على الدنيا بأزرار نار ولكنّها ليست بمبدية … نور وماء ولكن ليس بالجار والراح قد عوزتنا فى صبيحتنا … <بيعا> ولو وزن دينار بدينار فجد بما شئت من راح تكون لنا … نارا فإنّا بلا راح ولا نار آخر (من الكامل): انظر إلى فرح وتحت سماءه … ثلج يذوب على البسيط فيجمد فكأنّه ندّاف قطن قد غدا … بالقوس يندفه إلى من يبرد

(1) ديوان ابن المعتز 3/ 306،2، رقم 181 (2) من غاب 65 (منسوب إلى السرى الرفاء)؛ ديوان السرى الرفاء 135، -4 (3) ديوان كشاجم 230،6، رقم 210،2 - 5 (4) تزر: يزر الديوان

وللشريف (من المتقارب): (1) تأمّل سحابا غدا جمده … يقبّل أرضا بدت كالعروس ولم أرا (3) … من قبلة لاثما بثغر يفارقه ادسوس (294) وقوله (من الطويل): يحلّ لنا ترك الصلاة بأرضكم … وشرب الحميّا وهو شئ محرّم فإن كنت ربّى مدخلى فى جهنّم … ففى مثل هذا اليوم طابت جهنّم ومن هاهنا أخذ المجد المرياطى (من المحتثّ): فى مثل هذا اليوم يا … سيدى تطيب جهنّم وفيه يا ألف مولا … ى يستحلّ المحرّم فجد بخمر وجمرا … ولا بعشرين درهم وإن توانيت عنّى … فالروح منّى تعدم فابعث براحك روحى … فليس والله تندم فإنّنى كلّما طب‍ … ت قلت درّا منظّم ولست أمدح إلاّ … من فى نداه الغمّ ومن الملح ذكر النار والاصطلاء بها من قوّة البرد لابن المعتزّ (من المنسرح): (2) كأنّما النار فى تشظّيها … والفحم من فوقها يغطّيها زنجيّة شبّكت أناملها … من فوق نارنجة لتخفيها

(1) طراز المجالس 130 (منسوب إلى ابن سارة) (2) مطالع البدرر 2/ 20 (دون نسبة)؛ سرور النفس 369،1 (منسوب إلى ابن المعتز) (3) ارا: أر||ادسوس: كذا

وقوله (من المنسرح): اشرب على النار فى الكوانين … قد انقضت دولة الرياحين كأنّما النار والرماد به … جمر عقيق فى أرض نسرين ولابن وكيع (من الخفيف): (1) فحم قدم الغلام فأدنى … فى كوانينه حياة النفوس كان كالابنوس غير محلاّ … فغدا وهو مذهب الآبنوس لقّى النار فى ثياب حداد … فكسته مصبّغات عروس ومن أحسن ما يحاضر به فى وصف السحاب والمطر والرعد والبرق لابن المعتزّ (من الرجز): (2) (295) باكية يضحك منها برقها … كمثل طرف العين أو بوق يحب جاءت بها ريح الصبا حتى بدا … منها إلى العين كأمثال الشهب تحسبه طورا إذا ما انصدعت … أحشاؤها عنه شجاعا يضطرب وتارة تحسبه كأنّه … أبلق مال جلّه حين وثب وقوله (من الطويل): (3) كأنّ (4) … السحاب لجون دون سمائه خليع من الفتيان يسحب مئزرا إذا لحقته خيفة (5) … من رعوده تذكّر فاستلّ الحسام المذكّرا

(1) ديوان ابن وكيع 80، رقم 41 (2) ديوان ابن المعتز 1/ 41،1، رقم 10 (3) ديوان ابن المعتز 1/ 108، -2، رقم 30 (4) كأن-سمائه: كأن الرباب الجون دون سحابه الديوان (5) خيفة-تذكر: روعة من ورائه تلفت الديوان

وقوله (من الطويل): (1) أرقت لبرق آخر الليل يلمع … يهبّ به طورا وتعبا فيهجم سرا كاقتداء الطير والليل نازع … حشاشته والصبح قد كاد يطلع وقول دعبل (من الطويل): (2) أرقت لبرق آخر الليل منصب … خفى كبطن الحيّة المتقلّب وقوله (من البسيط): (3) ما زلت أكلوّ برقا فى جوانبه … كطرفة العين يخبو ثم يختطف برق يجانس (4) … طبقا زار فى سحر يقضى اللبانة من قلبى وينصرف ومن محاسن هذا الباب قول أحمد الشيرازى (من المنسرح): كأنّما كلّ قطرة وقعت … منها لآل بدت من الصدف لو أنّ ماذاب منه يجمد لم … يصلح لغير العقود والسنف فيها من الرعد كالذباذب والص‍ … نج إذا ما ضربن فى شرف وأشعل البرق فى جوانبها … مثل السيوف انتصبن من غلف قد جمعت حالتين فى طلق … صوت عدول ودمغ ذى شغف

(1) التشبيهات:60،5 (دون نسبة)؛ البيان 2/ 328،7 (دون نسبة)؛ الزهرة 1/ 230،16 (دون نسبة)؛ ديوان حميد بن ثور 107 (3 فقط)؛ سمط اللآلئ 444 (2) ديوان دعبل 1/ 65، -5، رقم 34 (3) ديوان دعبل 1/ 150،2، رقم 147 (4) يجانس-سحر: تجاسر من خفان لا معه الديوان

ولأبى العبّاس (من الطويل): (1) خليلىّ هل للمزن مقلة عاشق … أم النار فى أحشائها وهى لا تدرى أشارت إلى أرض العراق فأصبحت … وكاللؤلؤ المنثور أدمعها تجرى سحاب حكت ثكلى أصيبت بواحد … فعاجت له نحو الرياض على قبر (296) تسربل وشيا من خزوز تطرزّت … مطارفها طراز من البرق كالتبر فوشى بلا رقم ونقش بلايد … ودمع بلا عين وضحك بلا ثغر ولابن الخيّاط (من الكامل): (2) راحت تذكّر بالنسيم الراحا … وطفاء تكسر للجنوح جناحا أخفى مسالكها الظلام فأرقدت … من برقها كى تهتدى مصباحا وكأنّ صوت الرعد خلف سحابه … حاد اذا ونت الركاب (3) صباحا ولأبى جعفر (من الرمل): عارض أقبل فى جنح الدجى … يتهادى كتهادى ذى الوجا بددت ريح الصبا لؤلؤه … فانبرى يوقد عنه سرجا

(1) حلبة 329 (منسوب إلى الزاهى وابن رشيق)؛ ديوان ابن رشيق رقم 71؛ زهر الأداب 195، -5 (منسوب إلى أبى العباس الناشئ Fruhe Muctazilitische Haresiographie 951,01 ؛(غرائب التنبيهات 52،1 (منسوب إلى الناشئ الأصغر)؛ يتيمة الدهر 1/ 247 (منسوب إلى أبى العباس النامى) (2) نهاية الأرب 1/ 82،8 (منسوب إلى ابن الخياط)؛ ناقص فى الديوان (3) الركاب: السحائب نهاية الأرب

ولكشاجم يصف الثلج (من الكامل): (1) الثلج يسقط أم لجين يسبك … أم ذا حصى كافور (3) ظلّ يفرك راحت له الأرض الفضاء كأنّها … من كلّ ناحية بثغر تضحك شابت (4) … مفارقها فأظهر شيبها طربا وعهدى بالمشيب ينسّك وقال يستدعى ويذكر الثلج (من الخفيف): (2) قد (5) … نظمنا السرور فى سمط أنس وجعلنا الزمان للهو سلكا ونزلنا (6) … الدنان فى يوم ثلج عزل الغىّ (7) فيه رشدا ونسكا فكأنّ السماء (8) … تنخل كافو را علينا ونحن نعبق مسكا ولابن طباطبا (من الكامل): لو كنت شاهدنا عشيّة أنسنا … والمزن تبكينا بعينى مذنب والشمس قد مدّت أديم شعاعها … فى الأرض راحلة لذيل المغرب خلت الرذاذ برادة من فضّة … قد غربلت من فوق نطع مذهب وللشريف (من المتقارب): كأنّ السحاب أمام الدجى … جمال غدت روعة تجفل يصيح من الرعد حاديها … وفى يده قبس يشعل النظّام (من المتقارب): كأنّ السحاب إذا أقبلت … نعام مشرّدة أو نعم تجود بما عندها كالكريم … يبغّض لا وتوالى نعم

(1) ديوان كشاجم 378، رقم 369،1 - 3 (2) من غاب 48 (منسوب إلى أبى الفتج البستى)؛ ديوان البستى 358، رقم 88 (3) كافور: الكافور الديوان (4) شابت-شيبها: شابت دوائبها فبين ضحكها الديوان (5) قد-أنس: كم نظمنا عقود أنس وقصف من غاب (6) ونزلنا: وفتقنا من غاب (7) الغى: الكأس من غاب (8) السماء: الزمان من غاب

والسابق إلى تشبيهها بالنعام ربيعة بن مقروم الضبّى قوله (من المتقارب): كأنّ السحاب دوين السماء … نعام تعلّق بالأرجل (1) ولابن المعتزّ (من الكامل): (2) لله طيب صباح يوم … غيّبت عنه الشوامت وتفاوحت أنفاسه … من طيب أرواح المنابت حثّ السقاة مدامه … والزير يطرب كلّ صامت يوم كأنّ سماءه … حجبت بأجنحة الفواخت وكأنّ قطر سحابه … درّ على الأغصان نابت وقوله (من السريع): باكية فوق رصيع الثرا … كأنّها أجفان مهجور تحسبها حين استوت فوقه … لا بسة دواح سمّور جبابها منتظم حامل … كأنّه أسحاف كافور

(1) ناقص فى شعر ربيعة؛ قوائد الشعر 42؛ الأغانى 19/ 156 (منسوب إلى زهير ابن عروة المازنى)؛ الكامل 3/ 92،4 (منسوب إلى المازنى)؛ شعر عبد الرحمن بن حسان الأنصارى 34 - 2، رقم 36،3؛ التشبيهات 162، -1؛ زهر الآداب 196،8 (منسوب إلى حسان بن ثابت)؛ إرشاد الأريب 6/ 165،10 (منسوب إلى عبد الرحمن ابن حسان)؛ سمط اللآلئ 441؛ الأزمنة 2/ 247،2 (منسوب إلى بعض بنى مازن)؛ النقائض 159،7 و 935،9 (دون نسبة)؛ لسان العرب 1/ 387، -1 (منسوب إلى عبد الرحمن بن حسان وإلى عروة بن جلهمة)؛ الأنواء 172 (دون نسبة)؛ نظام الغريب 191 (2) ديوان ابن المعتز 2/ 62 - 2، رقم 640

وللزاهى (من المتقارب): (1) أعنّى (4) … على بارق ناصب خفىّ كلمعك بالحاجب كأنّ (5) … تقلّبه فى السماء يدا حاسب أو يدا كاتب وممّا يلتحق بهذا الباب من بدائع التشبيهات الملاح فى وصف الليل والصباح لابن المعتزّ (من الطويل): ولاحت تباشير الصباح كأنّها … تفاريق شيب فى عذار ومفرق كأنّ بقايا الليل والصبح طالع … بقيّة كحل بين أجفان أزرق البحترى (من الكامل): (2) ولقد شربت (6) … مع الكواكب راكبا أعجازها بعزيمة كالكوكب حتى تجلاّ الصبح من جنباته … كالماء يلمع من خلال (7) الطحلب والغيش (8) … ينصل من دجاه كما انجلا صبغ المشيب (9) عن القذال الأشيب الأمير تميم (من الطويل): (3) ألا سقّنيها (10) … قوّة ذهبيّة فقد ألبس الآفاق جنح الدجى دعج كأنّ الثريّا والظلام يحفّها (11) … فصوص لجين قد أحاط بها سبج كأنّ (12) … طلوع الصبح تحت ظلامه وقد جن زنجىّ تبسّم عن فلج

(1) نهاية الأرب 1/ 92،8 (دون نسبة)؛ زهر الآداب 837،8؛ سمط اللآلئ 444؛ الأشباه 2/ 127 - 4 (2) ديوان البحترى 80،1، رقم 28،15،18،17 (3) ديوان تميم بن المعتز 89،10 (4) أعنى-كلمعك: أرقت لبرق عدا موهنا خفى كغمزك نهاية الأرب (5) كأن-كاتب: كأن تألقه فى السماء يدا كاتب أو يدا حاسب نهاية الأرب (6) شربت: أبيت الديوان (7) من خلال: من وراء الديوان (8) الغبش ينصل: والعيس تنصل الديوان (9) المشيب: الشباب الديوان (10) سقنيها: سقيانى الديوان (11) يحفها: يحثها الديوان (12) كأن-زنجى: كأن نجوم الليل تحت سواده إذا جنى زنجى الديوان

ومن أحلى ما سمعته لشرف الدين الديباجى (من الوافر): أتا بالكأس نحوى ذو دلال … شغفت به من الحبش الملاح فملت إليه فابتسم ابتساما … فقلت الليل يبسم عن صباح (298) ولابن وزير الجزيرة (من الكامل): اشرب وطب قد شقّ صدر الغيهب … بأيدى الصباح بصارم متلهّب واعجب لراكب أدهم قد راعه … لمّا تبدّا راكب للأشهب فكأنّه صبغ الشّباب وقد غدا … يرتاع من صبغ العذار الأشيب ومن المحفوظ (من الكامل): ضحك المشيب بلمّتى … مثل الصباح إذا سفر فكتمته والضحك ليس … يليق فى زمن الكبر ومن محاسن ما يحاضر به فى ذهبيّة الشروق والمسكيّة والورديّة: قول الركن (من الوافر): بدا قرن الغزالة والنواحى … موردة مسكيّة الغوالى فقلت دم البطاح مع الدياجى … وذاك المسك بعض دم الغزال قلت: وكنت فى سفر وقد أسفر علينا الصبح، وعطر نسيم السحر، فأهدا إلينا نشر العنبر، فقلت ونحن فى ذلك السرا، وفى الأجفان لذّة سنة الكرا (من البسيط): وهبّ عند الصباح عرف … أهدا سرورا لكلّ سارّ ما طاب هذا النسيم إلاّ … والجوّ من عنبر ونار

وما أحسن ما قال ابن المعتزّ (من البسيط): (1) ساروا وقد خضعت شمس الأصيل لهم … حتّى (5) تعلّق <فى> ذيل الدّجى الشفق يقول من قد رآه وهو ملتهب … إن دام هذا فإنّ الجوّ يحترق ومن محاسن تشبيهاته فيما يتعلّق بذكر الصباح والنجوم والليل (من الوافر): (2) (299) كأنّ سماءنا لمّا تجلّت … خلال نجومها عند الصباح رياض بنفسج خضل نداه … تفتّح بينه نور الأقاح (6) وقول ابن الزقّاق الذى يهزّ الأعطاف الرقاق (من الوافر): (3) أديرها (7) … على الروض المندّا وحكم الصبح فى الظلماء ماض وكأس الراح ينظر من حباب … ينوب لنا عن الحدق المراض وما غربت نجوم الأفق لكن … نقلن من السماء إلى الرّياض وقوله (من المنسرح): (4) وأغيد طاف بالكؤوس ضحا … وحثّها والصباح قد وضحا والروض أهدى (8) … لنا شقائقه وآسه العنبرىّ قد نفحا قلنا فأين الأقاح قال لنا … أودعته ثغر من سقا القدحا فظلّ ساق (9) … المدام ينكر ما قال فلمّا تبسّم افتضحا

(1) ديوان ابن المعتز 1/ 142 - 2، رقم 42 (2) ديوان ابن المعتز 2/ 534،7، رقم 991 (3) ديوان ابن الزقاق 197،2، رقم 61؛ نهاية الأرب 11/ 270،8 (منسوب إلى على بن عطية البلنسى) (4) ديوان ابن الزقاق 124،4، رقم 19 (5) حتى-الشفق: حتى توقد فى ثوب الدجى الشفق الديوان (6) نور الأقاح: ورد الأقاحى الديوان (7) أديرها (كذا): أديراها الديوان (8) أهدى: يبدى الديوان (9) ساق: ساقى ||ينكر يجحد الديوان

قلت: هذا من علوّ الطبقة فوق أن ينبّه عليه، واتّفق أن حضر هذا ابن الزقّاق فى غزوة مع الأمير أبى زكريا يحيى بن عاينة فعمل الأمير بسيفه العجائب وعاد من المجال والدم يقطر من حافتى سيفه فارتجل ابن الزقّاق وقال: والسيف دامى المضربين كجدول … فى حفّتيه شقائق النعمان قال: فطرب كلّ من حضر من أولى الفهم ورمى إليه الأمير بالسيف وقال: لا تخرج هذا من يدك حتى تعرضه على من يعرف قيمته فإنّك ربّ قلم. ومن محاسن هذا الشاعر قوله (من الكامل): (1) وتنهدت (4) … وقد استحرّ تنهدى فوشا بذاك الندّ هذا المجمر ومن أحسن ما يحاضر به فى تزيّن السماء بالكواكب وانطباعها فى المياه قول ابن طباطبا (من الكامل): (2) (300) كم ليلة ساهرت أنجمها على … عرصات أرض ماؤها كسمائها قد سيّرت فيها النجوم كأنّما … فلك السماء يدور فى أرجائها أحسن بها لججا إذا جاء الدجى … كانت نجوم الليل من حصبائها تصفو وترسب فى اصطفاق مياهها … لا مستغاث لها سوى إيمائها والبدر يخفق وسطها فكأنّه … قلب لها قد زيغ فى أحشائها وللبحترى (من البسيط): (3) إذا النجوم تراءت فى جوانبها … حسبت (5) أنّ سماء ركّبت فيها

(1) ديوان ابن الزقاق 162،5، رقم 42؛2 (2) حلبة 339، -7؛ نهاية الأرب 1/ 286،7؛ مطالع البدور 1/ 36، 11؛ مختار شعر بشار 321 (دون نسبة) (3) ديوان البحترى 4/ 418،4، رقم 915،21 (4) وتنهدت: وتنفست الديوان ||تنهدى: تنفسى الديوان (5) حسبت-سماء: ليلا حسبت سماء الديوان

وهو القائل (من المنسرح): (1) قم سقّنيها والظّلام منهزم … والصبح باد كأنّه علم والطير قد طربت فأفضحت ال‍ … ‍ألحان وجدا لكنّها عجم وميّلت رأسها الثريّا لإس‍ … رار إلى الغرب وهى تحتشم فى الشرق كأس وفى مغاربها … قرط وفى أوسط السماء قدم وممّا يلتحق بهذا الباب من رقائق الأشعار فى ذكر الأنهار الكبار: للنيل، لسيدوك الواسطى (من البسيط): (2) قم فانتصف من صروف الدهر والنوب … واجمع بكأسك شمل الأنس والطرب أما ترى الليل قد ولّت عساكره … مهزومة وجيوش الصبح فى الطّلب والبدر فى الأفق الغربىّ تحسبه … قد مدّ جسرا على الشطين من ذهب ومن ملح الصقلّى فيه (من الوافر): (3) شربنا من غروب الشمس شمسا … مشعشعة إلى وقت الطلوع وضوء الشمع فوق النيل باد … كأطراف الأسنّة فى الدروع

(1) سرور النفس 62،7 (منسوب إلى ابن المعتز)؛ ديوان ابن المعتز 3/ 367، رقم 304؛ ديوان الصنوبرى، تكملة الديوان، رقم 111؛ قطب السرور 685 (منسوب إلى ابن المعتز)؛ معاهد التنصيص 1/ 139 (منسوب إلى الصنوبرى) (2) حلبة 339،6 (منسوب إلى سيدوك الواسطى)؛ غرائب التنبيهات 27، -3 (منسوب إلى تمار الواسطى)؛ نوادر المخطوطات 1/ 23،11 (منسوب إلى ابن تمار الواسطى)؛ معجم البلدان، مادة دجلة (منسوب إلى ابن تمار الواسطى) (3) غرائب التنبيهات 33،6 (منسوب إلى أبى الحسن الصقلى)؛ نوادر المخطوطات 1/ 22،7 (منسوب إلى أبى الحسن على بن أبى البشر الكاتب)؛ معجم البلدان، مادة نيل (منسوب إلى أبى الحسن الكاتب)

أبو الصلت (من المنسرح): (1) (301) كأنّما النيل والشموع به … أفق سماء تألّقت شهبا قد كان من فضّة فصيّره (5) … توقّد الماء فوقه ذهبا ومن البديع لابن وكيع (من الكامل): (2) يوم لنا بالنيل مختصر … ولكلّ يوم مسرّة قصر والسفن تصعد كالخيول بنا … فيه وجيش الماء منحدر فكأنّما أمواجه عكر … وكأنّما داراته صرر (6) ولغيره (من الكامل): (3) نهر إذا <ما> عب فيه ناهل … فكأنّه من ريق حبّ ينهل متسلسل فى لونه فكأنّه … دمع بخدّى ثاكل يتسلسل وإذا الرياح جربن فوق متونه … فكأنّه درع جلاه صيقل ولابن المعتزّ (من الوافر): (4) كأنّ النيل حين جرى بمصر (7) … وساح بها وكسّرت التراع وفاض (8) … على الرّبا من كلّ فجّ سمادات كواكبها ضياع

(1) ديوان الحكيم أبى الصلط 55،7؛ غرائب التنبيهات 33، -4 (منسوب إلى أبى الصلط) (2) ديوان تميم بن المعز 241، -3؛ غرائب التنبيهات 61،4 (منسوب إلى تميم بن المعز)؛ نهاية الأرب 1/ 281،7 (منسوب إلى تميم بن المعز)؛ خطط المقريزى 1/ 271؛ معجم البلدان، مادة نيل (3) يتيمة الدهر (منسوب إلى القاضى التنوخى)؛ نهاية الأرب 1/ 284،9 (منسوب إلى القاضى التنوخى) (4) حلبة 305، -6 (منسوب إلى كشاجم)؛ ديوان كشاجم 328 (5) فصيره-الماء: فصار سما وتحسب النار الديوان (6) صرر: سرر الديوان (7) بمصر-بها: تفصت به مصر الديوان (8) وفاض-سمادات: وأحدق بالقرى من كل وجه سماوات الديوان

وللبحترى (من المتقارب): (1) شربنا على النيل لمّا بدا … بموج يزيد ولا ينقص فشبّهت تكسير أمواجه … بأرداف جارية ترقص ولابن الرومى وأجاد (من السريع): أما ترى الوقت والآفة … والنيل فى غاية إسعافه كأنّه الرقّ ونوتيّنا … يكتب واوات بمجدافه ولابن المعتزّ بيت فيه (من الرجز): كأنّنا الفلك على الأمواج … عقارب دبّت عن زجاج الدجلة: للحاتمى (من الكامل): (2) لم أنس دجلة والصبا متصوّب … والبدر فى أفق السماء معرّب فكأنّه فى الأرض ثوب أزرق … وكأنّه فيها طراز مذهّب (302) وأنشدنى بعضهم (من السريع): أقول للدجلة لمّا طغت … إذ زاد حسنا ماؤها الأزرق أراك سلّمت الوزير الذى … فى راحتيه الجود لا يعبق قالت لقد بالغت فى حتفه … وإنّما القرعة لا تغرق

(1) حلبة 306،5 (منسوب إلى تميم بن المعز)؛ ديوان تميم بن المعز 255، -2؛ ديوان الوأواء، رقم 323؛ غرائب التنبيهات 62،7 (منسوب إلى الوأواء) (2) نوادر المخطوطات 1/ 22، -5 (منسوب إلى القاضى التنوخى)؛ يتيمة الدهر؛ غرائب التنبيهات 27،4 (منسوب إلى القاضى التنوخى)؛ المصون 48، -4 (منسوب إلى أبى نضلة مهلهل بن يموت بن المزرع)؛ معجم البلدان، مادة دجلة

ولابن نحرير البغدادى (من الطويل): (1) خليلىّ ما أحلا صبوحى بدجلة … وأطيب منها بالصراة غبوقى على قمرى أفق وأرض تقابلا … فمن شائق حلو الهوى ومشوق شربت على الماءين من ماء وكرمة (4) … فكانا كدرّ ذائب وعقيق فما زلت أسقيه وأشرب ريقه … وما زال يسقينى ويشرب ريقى فقلت لبدر التمّ تعرف ذا الفتى … فقال نعم هذا أخى وشقيقى وقال ظافر الحدّاد وقد ركب دجلة مع عين الدولة وقد جعد الهواء وجه الماء (من الكامل): (2) عشية أهدت لعينك منظرا … نظم السرور به لقلبك وافدا وضا كمخضرّ العذار وجدولا … نقشت عليه يد الجنوب مباردا النخل كالغيد إحسان تزيّنت … ولبسن من أثمارهن قلائدا وملح ظافر وعجائبه وفوائده لا تكاد تحصى ومصداق ذلك قوله (من البسيط): (3) كأنّما الليل يخشى الفجر يغرقه … فكلّما همّ ان ينشقّ يشعبه أو النجوم عطاش وهو موردهم … فكلّما فاض نور منه يشربه منها: وما تغنّت حمامات العشاء لنا … إلاّ وجاء بها فى الصبح مطربه

(1) دمية القصر 1/ 340 (2) ديوان ظافر الحداد 92،5؛ غرائب التنبيهات 114،2 (11 فقط) (3) ديوان ظافر الحداد 64، -1،9 - 10،13 (4) ماء وكرمة: ماء كرمة دمية القصر

وله فى جزيرة مصر (من المتقارب): كأنّ الجزيرة إذ أوقدت … وطرفى لها باهت وشاخص (1) سماء مع الماء مخلوطة … كواكبها ذهب خالص وللقاضى ابن قادوس فيها وأجاد (من الوافر): ترى سرج الجزيرة حين تبدو … كأحداق تغازل فى المغازل كأنّ مجرّة الجوزاء حطّت … فأثبتت المنازل فى المنازل ومن أغرب ما سمعت له رحمه الله بيتان فى ذمّ بادهنج قليل الهواء (من الكامل): (2) لك بادهنج كاللهيب له … نفس يهيّج لوعة الحرق مات الهوى به فاجتمعنا … نبكى عليه بأدمع العرق (303) وأجاد ابن المعتزّ فى تشبيه غروب القمر على الماء (من الكامل): (3) عاد الزمان إلى السرور فمرحبا … يا صاحباى فسقّيانى واشربا من قهوة ما خامرت ذا لوعة … إلاّ تعرّض للحتوب تطرّبا قام الغلام يديرها فى كأسها … فرأيت بدر التمّ يحل كوكبا والبدر يجنح للغروب كأنّه … قد سلّ فوق الماء سيفا مذهبا وما أحسن ما قال الشريف (من البسيط): لله ليلتنا والبدر يضحك فى … وجه المدام كلا الغرين من حبب والبدر ألقى عليه من أشعّته … فصاغ منهنّ أوراقا من الذّهب

(1) وشاخص: وكذا (2) مطالع البدور) Vgl,Journa of Arabic Literatur Vlll 7791 8 Nr ,2 ؛6 - ،46 /1 منسوب إلى أبى الفتح بن قادوس) (3) ديوان ابن المعتز 3/ 230، رقم 23؛ غرائب التنبيهات 28،7 (منسوب إلى منصور بن كيغلع)؛ نوادر المخطوطات 1/ 22،10

ولصاحب الأندلس (من الرمل): طال عمر الليل عندى … مذ تولّعت بصدّى يا غزالا نقض العه‍ … د ولم يوف بوعدى أنسيت العهد مذ بت‍ … نا على مفرش ورد واعتنقنا كوشاح … وانتظمنا نظم عقد ونجوم الليل تحكى … ذهبا فى لا زورد ولأبى هلال العسكرى (من البسيط): (1) قم سقّنيها ولا تنقص ولا تزد … وعدّ عن ذكر أمس أو حديث غد وانظر إلى البدر قد ألقى أشعّته … كأنّه فضّة سالت على البلد ومن هاهنا أخذ ابن سناء الملك قوله (من البسيط): (2) ليل الحمى بات بدرى فيك معتنقى … وبات بدرك ملقيّا على الطرق ومن أحسن ما سمعته فى الغيم على الشمس للمجد المرياطى (من السريع): (304) انظر إلى الشمس وقد حجبت … فزاد عشقا فى سناها العيان كأنّها مجمر نار وقد … لاح عليها من غمام دخان فاغد لما أبصرته حاكيا … من سحب الندّ وشمس الدنان وللجمال الدمشقى (من البسيط): يوم لعمرك محوق من الطرب … الريح تلعب فوق النهر بالحبب والشمس تبدو كمرآة مذهبة … ولا غلاف لها إلا من السحب إن أدرجت فيه فالآفاق عابسة … أو أخرجت لاح وجه الشمس من حجب

(1) ناقص فى الديوان (2) ديوان ابن سناء الملك 496، -2

وكلّ ذلك مما يستخفّ بناؤه، والسابق إلى هذا الباب ابن المعتزّ بقوله (من الوافر): (1) تظلّ الشمس ترمقنا بطرف … خفىّ لحظه من خلف ستر تحاول فتق غيم وهو بأبا … كعنّين يحاول فتق بكر عبد الله بن فتح (من الكامل): غيم كثيف لا تشقّ جيوبه … أحداقنا منها رمته بأسهم متعرّض قدّام شمس نهاره … كالماء تبصر فيه نقش الدرهم وممّا أنشد لعلاء الدين بن دفتر خان فى الغمام على القمر ما لم أسمع مثله (من الكامل): انظر إلى قمر عليه غمامة … وتزحزحت عنه فلاح لمبصر كنعامة باضت <يبدو> (3) … بيضة وتكشّفت عنها بريح صرصر ولابن المعتزّ يصف القمر فى صبيحة مع الشمس (من السريع): (2) قل لصريع الكأس قم نصطبح … فالكأس تحيى كلّ مخمور ما أنت فى نومك يا سيدى … وقد أتى الصبح بمعذور لا سيما والشمس قد قابلت … بدر الدجى فى الأفق بالنور كأنّما تلك وهذا معا … جامان من تبر وبلّور

(1) ديوان ابن المعتز 2/ 580،3، رقم 1018 (2) سرور النفس 62،2 (دون نسبة) (3) بدو: بدو الأصل

وقال (من لمتقارب): (1) (305) وكأمر سبقت إلى شربها … عذولى كذوب عقيق جرا يشرّبها (4) … غصن ناعم من البان مغرسه فى نقا إذا شئت كلّمنى بالجفو … ن من مقلة كحلت بالهوى ومصباحنا قمر نيّر (5) … كترس لجين يشقّ السما وقال والقمر فى نصفه وهو السابق لهذا المعنى (من السريع): (2) ماذقت طعم النوم لو تدرى … كأنّ أعضائى (6) على جمر فى قمر مسترق نصفه … كأنّه مجرفة العطر ولابن الرومى فى معناه (من السريع): عانقت من أهوى وقد طالما … بتّ من الشوق على نار وفوقنا البدر على نصفه … كأنّه شقّة دينار ولابن المعتزّ فى محاقه (من الكامل): (3) فى ليلة أكل المحاق هلالها … حتى بدا (7) مثل وقف العاج والصبح يتلو المشترى فكأنّه … عريان يمشى فى الدجى بسراج

(1) ديوان ابن المعتز 1/ 12،4، رقم 1 (2) ديوان ابن المعتز 2/ 582،4، رقم 1021 (3) ديوان ابن المعتز 2/ 294،1، رقم 844 (4) يشربها: يسير بها الديوان (5) نيّر: مشرق الديوان ||السما: الدجى الديوان (6) أعضائى: حتى الديوان (7) بدا: بدى الديوان

وللقرطبى (من الكامل): (1) والبدر فى أفق (5) … السماء قد انطوت (6) طرفاه حتّى عاد مثل الزورق فتراه من تحت (7) … المحاق كأنّما غرق الكثير وبعضه لم يغرق ولابن دفتر خان (من الرجز): وقمر يلوح رأس الشهر … مثل قلامة بدر من ظفر ثم يرى مجرفة للعطر … وهو إذا تنعته بالبدر مرآة هند ضبّبت بتبر وأوّل من شبّهه بقلامة الظفر ابن المعتزّ (2) فى قصيدة ديرية تأتى فى مكانها إن شاء الله تعالى وكذلك بمجرفة العطر وقد تقدّم ذكره، (306) وجرت مذاكرة فأنشد بعض الحاضرين قول الأخطل (من الوافر): وليل بتّ أكلوه كأنّى … أقلّب فيه فوق شبا الإثافى (3) كأن هلاله مرآة تبر … لها شطر يلوح من الغلاف وهذا لا يخفى سبقه فى الحسن، فأنشدت لابن المعتزّ (من البسيط): (4) وليلنا (8) … طائر والأنس يعجله حتى بدا الصبح مبيضّ القواديم (9) وقام ناعى الدجى فوق <الجدار> كما … غنّا (10) على مرقب شاد بتنغيم (11) والبدر يأخذه غبم ويتركه … كأنّه سافر عن خدّ ملطوم

(1) حلبة 338،5 (منسوب إلى سعيد بن عثمان)؛ ديوان ابن المعتز 3/ 330. رقم 227؛ التشبيهات من أشعار أهل الأندلس 19، رقم 3 (منسوب إلى سعيد بن عمرون) (2) قارن ديوان ابن المعتز 2/ 111، رقم 693،8 (3) ناقص فى الديوان (4) ديوان ابن المعتز 2/ 226،2، رقم 797 (5) أفق: جو الديوان (6) انطوت: انطوى الديوان (7) تحت: محق الديوان (8) وليلنا-يعجله: قد مت ألثمه والليل حارسنا الديوان (9) القواديم: المقاديم الديوان (10) غنا: نادى الديوان (11) بتنغيم: بتحكيم الديوان

وهذا فى نهاية من الحسن فتأمل إشارته للطم تشبّها بالمحو الذى فى القمر، وما أملح ما قالت الجارية التى أراد المتوكّل على الله شراءها فقال: كنّا نشتريها لولا خنس فيها وكلف فأنشدت تقول (من السريع): (1) ما سلم الظبى على حسنه … كلا ولا البدر الذى يوصف الظبى فيه خنس ظاهر … والبدر فيه كلف يعرف فأمر بشرائها ولو بأغلا ثمن. ومن أحسن ما سمعت فى قصر الليل وطوله: فمن بديع النثر، ليلة فى لباس، بنى العبّاس، طرف يرعى النجوم مطروف، وفراش بشعار الهموم محفوف، النجوم شهود بسهاده، وتأمّله وعدم رقاده، هرم الليل وشمطت ذوائبه، وتقوس ظهره، وتصرم عمره، وأنشدوا (من البسيط): (2) عهدى بنا ورداء الوصل يجمعنا … والليل أطوله كاللمح بالبصر فاليوم ليلى قد غابوا فديتهم … ليل الضرير فصبحى غير منتظر وفى قصره (من المنسرح): (3) (307) يا ليلة كاد من تقاصرها … يعثر فيها العشاء بالسحر يسير (4) … فيها وصالها عجلا فيلنقى هجرها على قدر

(1) المستطرف 1/ 79،7؛ الفاضل فى صفة الأدب الكامل 2/ 99،3؛ الأذكياء 261؛ تحفة اليمن 9، -1؛ روض الأخيار 288،11 (2) يتيمة الدهر؛ رسالة الطيف 112،2 (منسوب إلى سيدوك الواسطى)؛ ديوان الصبابة 1/ 108؛ الحماسة الشجرية 214،8/ 2،739 رقم 670 (دون نسبة)؛ ديوان المعانى 1/ 348، -8 (دون نسبة)؛ من غاب 55 (منسوب إلى سيدوك الواسطى)؛ طراز المجالس 226 (منسوب إلى عبد الله القسوى الضرير)؛ ثمار القلوب 635 (منسوب إلى سيدوك الواسطى)؛ حلبة 344 (3) حلبة 344،1 (دون نسبة)؛ ديوان الشريف الرضى 1/ 518،5؛ الحماسة الشجرية 214،6/ 2 738 رقم 669 (منسوب إلى الرضى،14 فقط)؛ ديوان ابن المعتز 3/ 301، رقم 169 (14 فقط) (4) يسير-قدر: تطول فى هجرنا وتقصر فى الوصل فما نلتقى على قدر حلبة

وفى طوله (من البسيط): ما بال أنجم هذا الليل حائرة … أضلّت القصد أم ليست على فلك ظلّت رهائن جنّ لا حراك بها … كأنّها جثث صرعى بمعترك قم يا نديمى فهات الكأس مترعة … وسقّنيها ولا تسأل عن الدرك وما أحسن قول ذى الرمّة ها هنا (من الطويل): (1) ألمّت بنا والليل داح كأنّه … جناح حمام عنه قد نفض القطرا فقلت لعطّار ثوبى فى رحالنا … وما احتملت يوما سوى ريحها عطرا ولنعود إلى ذكر الجوّ والنجوم: ابن المعتزّ (من الرجز): قم سفنى صافية … تطرد عن قلبى الفكر أما ترى الصبح انجلى … عن منظر الطرف الأغر والجوّ صاح قد حكى … بأنجم فيه غرر (2) جام زجاج أزرق … قد نثرت فيه درر وقوله (من الرجز): (3) قم سقّنى صافية … تهتك ستر الغسق أما ترى الصبح بدا … فى ثوب ليل خلق أما ترى جوزاءه … كأنّها فى الأفق منطقة من ذهب … فوق قباء أزرق

(1) ناقص فى الديوان (2) ديوان ابن وكيع 75، رقم 39 (3) نهاية الأرب 1/ 66، -2 (منسوب إلى ابن وكيع)؛ ديوان ابن وكيع 83، رقم 52

وقوله فى غروب النجوم وأجاد (من الطويل): (1) كأنّ نجوم الليل فى فجرها … وقد جدّ منها للغروب عوازم عيون حماها الشوق أن تطعم الكرى … فأعينها مستضعفات نوائم (308) وقوله (من الرجز): وليلة فى لونها … مثل سواد مفرقى كأنّما سوادها … حشو العيون الرمق كأنّما نجومها … فى مغرب ومشرق دراهم قد نثرت … فوق بساط أزرق وقوله فى الثريّا (من الطويل): نجوم الثريا قد أسبلت مدامعى … وهيّجت لى ذكر البدور الطوالع كأنّ الثريا وهى فى الليل أعين … تلاحظنا من تحت زرق البراقع آخر (من الطويل): (2) وليل أقمنا فيه نعمل كأسنا … إلى أن بدا للصبح فى الليل عسكر ونجم الثريّا فى السماء كأنّه … على حلّة زرقاء جيب مدنّر ولابن المعتزّ (من الطويل): وليل جئتنا فيه خيل كؤوسنا … بميدان لهو والهموم تصرّع ولاحت لعينىّ الثريّا كأنّها … على هامة الظلماء تاج مرصّع

(1) ديوان الحالديين 144؛ غرائب التنبيهات 45،2 (منسوب إلى أبى عثمان الخالدى)؛ معاهد التنصيص 2/ 104 (منسوب إلى أبى عثمان الخالدى)؛ يتيمة الدهر (2) حلبة 347،2 (منسوب إلى الحاتمى)

وله فى الثريّا والهلال (من البسيط): قم سقّنى الراح يا نديمى … فإنّها مطراد الهموم فقد تبدّا هلال شهر … قدومه أيمن القدوم كأنّه فى السماء فخّ … ينتظر الصيد للنجوم وقوله (من الكامل): (1) وبدا (4) … الهلال بأفقه فكأنّه نون معرّقة على فيروزج وكأنّ أنجمه بقايا (5) … نرجس خضل تطلّع فى (6) رياض بنفسج السرىّ الموصلى وأجاد (من الوافر): (2) ألا عدلى بباطية وكاس … وإبريق (7) وجامات وطاس وذاكرنى بشعر أبى فراس (8) … على خمر كشعر أبى نواس ونهر (9) … مرهفات الغيم فيه عوار والرياض به كواسى ولاح لنا الهلال كشطر طوق … على لبّات زرقاء اللباس ومن البديع فى هذا المعنى (من المنسرح): (3) أهلا وسهلا بالنأى والعود … وقدّ ساق كالغصن مقدود قد انقضت دولة الصيام وقد … بشّر سقم الهلال بالعيد يتلو الثريّا كفاغر شره … يفتح فاه لأكل عنقود

(1) ديوان ابن المعتز 3/ 251،1، رقم 67؛ ديوان تميم بن المعز 87 (2) ديوان السرى الرفاء 152،5 - 7،9 (3) نهاية الأرب 1/ 53،8 (15 و 16 فقط، دون نسبة)؛ ديوان ابن المعتز 2/ 100، رقم 686 (4) وبدا-معرقة: وانظر إلى حسن الهلال كأنه نون مذهبة ديوان ابن المعتز (5) بقايا: فرادى ديوان ابن المعتز (6) فى: من ديوان ابن المعتز (7) وإبريق-طاس: ورع همى بابريق وصاس الديوان (8) أبى فراس على خمر: أبى نواس على روض الديوان (9) ونهر-فيه: وغيم مرهفات البرك فيه الديوان

وللسرىّ أيضا فى هذا المعنى (من المنسرح): (1) جاءك شهر السرور شوّال … وغال شهر الصيام مغتال سيرقب العيد والهلال معا … قوم لهم إن راأوه إهلال كأنّه قيد فضّة حرج (2) … فض عن (3) الصائمين فاختالوا وقالوا: بيد الكأس، تعرك أذن الوسواس، وأنشدوا (من الوافر): إذا ما جاء شوّال عكفنا … على كأس وساطيه ردوم وإن هم أضاف بنا عركنا … بأيدى الكاس آذان الهموم وأنشدوا (من الهزج): أشهر الصوم ما مثل‍ … ك عند الله من شهر وإنّى والذى فضّ‍ … ل أوقاتك بالذكر لمسرور بأن تفنى … على أنّك من عمرى وأحسن الذى قال فى مدحه (من الخفيف): إنّ شهرا يكون آخره العي‍ … د ومنهاج والجيه السرور لجدير بأن يظلّ على الأش‍ … هر طول الزمان وهو أمير وأحسن من هنّأ به إذ يقول (من الخفيف): (310) نلت فى الخير كلّ ما تشتهيه … وكفاك الإلاه ما تتّقيه أنت فى الناس مثل ذا الشهر فى الأش‍ … هر بل مثل ليلة القدر فيه

(1) من غاب 57 (منسوب إلى السرى)؛ ناقص فى الديوان (2) حرج: هزج من غاب (3) عن: على من غاب

رجع الكلام إلى التنين المسمى ظنين

الصابئ يهنّئ بالعيد (من المنسرح): يا عيد عد بالرجا على رجل … لنا به عصمة ومنتفع ويا صروف الردى ذريه لنا … يبقى ففى الأغنياء متّسع وقال يهنّئ بعيد الأضحى (من الهزج): مهنّئك وصابيكا … بذى الأضحى يهنّيكا ويدعو لك الله … مجيب ما دعا فيكا أرانى الله أعداءك … فى مثل أضاحيكا رجع الكلام إلى التنّين المسمّى ظنين فلمّا فهم ظنّين هذه المعانى، التى تعيد السليم عانى، ابتهج فرحا، وماس إعجابا ومرحا، وقال: إن كنت طردت من جنان الرحمن، فقد تعوّضت هذه الجنان، فى أمان من الزمان، وإن كنت أخرجت مع الطاووس وإبليس فقد عمّرت وملكت ما لا ملكته بلقيس، إذ الدرّ فى خزائنها مخزونا، والمرجان من غرّته يكلّل به أعالى التيجان، وها هو عندى حصباء هذه الأنهار، يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، فليلى به نهار، وجميع أوقاتى بظلال هذه الأشجار أسحار! وشمخت نفسه الرديّة، ووسوست له بالأبديّة، فتمرّد وتنمّر، وتعاظم وتكبّر، ولم يزل فى طغيانه يعمّه، وكفر تلك النعمة، إلى أن قربت الغزالة أن تذهب، وألبست رؤوس الربا كلّ تاج (311) وخلعت على تلك الغدران، غلائل زعفران، فعادت كأصباغ العروس، أو كذنب الطاووس فهى فى الإشارة كقول ابن سارة (من الخفيف): انظر النهر فى رداء عروس … صبغته فى زعفران العشئ ثم لما جرى النسيم عنيه … هزّ عطفيه فى دلاص الكمئ

ومن البديع لابن وكيع (من المتقارب): (1) غدير تدرّج أمواجه … هبوب النسيم ومرّ الصّبا إذا الشمس من فوقه أغربت … توهّمته جوشنا مذهبا وقوله (من الطويل): سقانىّ كأس الراح شاطئ جدول … تداريجه يحكين بطنا معكّنا إذا صافحته راحة الريح خلته … بتكسيرها إيّاه ثوبا معيّنا وأنشد صاحب القلائد (من الطويل): ركبنا سماء النهر والجوّ مشرق … وليس لنا إلاّ الحباب نجوم وقد ألبسته الأيك برد ظلالها … وللشمس فى تلك البرود رقوم وقوله (من البسيط): واها لها من بطاح روض … وحسن نهر بها مطلّ إذ لا ترى غير وجه شمس … أطلّ فيه عذار طلّ وقوله (من الكامل): والريح تلطم فيه أرداف الربا … عبثا وتقرص أوجه الغدران وقوله (من الكامل): والنهر لما راح وهو مسلسل … لا يستطيع الرقص ظل يصفق وفى البحر لابن وكيع أيضا (من البسيط): أما ترى البحر ما أحلا شمائله … يأتى إلى البرّ حينا ثمّ ينصرف كأنّه ملك رافت عساكره … تقبّل الكفّ منه ثم تنصرف

(1) ديوان ابن وكيع 39، رقم 4

وطلب ابن عبّاد من إشبيليّة ابن رشيق الأديب فاعتذر بركوب البحر وقال (من البسيط): (1) (312) البحر مرّ المذاق صعب … لا جعلت حاجتى إليه أليس ماء ونحن طين … فما عسى صبرنا عليه وأنشدنى بعض الأصحاب وقد ركبنا البحر لنزهة (من الخفيف): أى نهر رأيته مثل ميت … بعث الله فيه بالرّوح روحا قد ركبنا به من العود طرفا … بجناح به يروم الجنوحا فاض فيضا فقلنا طوفان نوح … وحكينا بفوزنا منه نوحا فأعجبنى واستعدته وسألته من أين أخذ معنى البيت الأوّل فقال: من قول ابن حبيب المصرى (من البسيط): إذا النسيم جرى فى مياهها (2) … اضطربت كأنّما ريحه فى جسمها روح وممّا يلتحق بهذا الباب ذكر البرك والنواعير: ابن هانئ فى بركة (من الكامل): ولقد طربت على محاسن بركة … زرقاء تحسبها مذاب الجوهر قد كلّلت حافاتها بربيعها … فتقيد للأبصار بهجة منظر فكأنّها المرآة فى تدويرها … قد طوّقوها طوق شمع أخضر وقوله فى الجداول (من الكامل): أرأت عيونك مثله من منظر … شمس وظلّ مثل خدّ مغدر وجداول كأراقم حصباؤها … كبطونها وحبابها كالأظهر

(1) ديوان ابن رشيق 226، رقم 212؛ نهاية الأرب 1/ 255، -8 (2) مياهها: ماءها

وقوله فى السمك الراى (من البسيط): كأنّما الراى والصيّاد يخرجه … بلطف حيلته من غامض اللجج أسنّة صقلت ما مسّها جرب … مخضّبات العوالى من دم المهج وقوله فى الرشال (من الوافر): (313) كأنّ الرشل إذ يبدو سريعا … بأذناب كمحمرّ العقيق بلسقنات بلّور لطاف … أسافلها بقايا من رحيق ومن أحسن ما سمعت فى النواعير: للسرى الموصلى (من السريع): (1) كم (2) … نعرت بالماء ناعورة <حنينها> كالبريط الناعر تحسبها (3) … فى شدوها قينة تردّد الصوت على زامر كأنّما كيزانها أنجم … دائرة فى الفلك الدائر (4) وأنشد الحاتمى (من الطويل): وناعورة بين البساتين أصبحت … قواديسها شبه الكواكب تزهر كأرملة ضمّت إليها بناتها … تنوح بشجو والمدامع تقطر وما أملح ما قال أبو عبد الله (من البسيط): وذى حنين تكاد شجوا … يختلس الأنفس اختلاسا إذا غدا للرياض راحا … قال لها المحل لا مساسا

(1) ديوان ابن الرومى 3/ 1150،7، رقم 926 (2) كم-كالبريط: تغرق بالكيزان ناعورة حنينها كالبريط ديوان ابن الرومى (3) تحسبها-الصوت: فتارة تحسبها قينة تردد اللحن ديوان ابن الرومى (4) فى-الدائر: فى فلك دائر ديوان ابن الرومى

يبسّم الزهر حين يبكى … بأدمع ما رأين ناسا من كلّ جفن يسلّ سيفا … صار له غمد رياسا وأنشد صاحب روح الشعر (من الكامل): (1) لله دولاب يفيض بسلسل … فى روضة قد أينعت أفنانا قد طارحته به الحمائم شجوها … فتجيبها وترجّع الألحانا فكأنّه دنف أطاف بمعبد … يبكى ويسأل فيه عمّن بانا ضاقت مجارى طرفه عن دمعه … فتفتّقت أضلاعه أجفانا وللشريف فى الطبقة العالية (من الهزج): (2) ودولاب إذا دار … يزيد القلب أشجانا سقى الغصن وغنّاه … فما يبرح نشونا (314) هنالك رجع ظنين طالبا وكره، طافحا فى نشأات سكره، ولم يعلم أنّه قد خاب فى حدسه، وغيّر به لما غيّر ما فى نفسه.

(1) حلبة 289،5؛ نهاية الأرب 1/ 288 (منسوب إلى أبى حفص ابن وضاح) (2) حلبة 290،13 (دون نسبة)

المحاضرة الثانية: الأوائلية وما لخص منها فى هذا التأريخ

المحاضرة الثانية: الأوائلية وما لخص منها فى هذا التأريخ وكان ظنين، فى تلك السنين، لمّا تحاذره الآدميّين، قد جعله صيده وغداءه وحوش الفلاة، لا يخشى كبيرها، ولا يرثى لصغيرها، حتى صار كلّ وحش شارد، عن المراعى والموارد، فلمّا زاد بهم البلاء، وتحاذروا الكلاء، وعطشوا من الماء، وهلكوا من الظماء، اجتمعوا بباب الملك الهمام، الأسد الضرغام، ملك الوحوش وقائد الجيوش، ورفعوا إليه حالهم، وما من ذلك التنّين قد نالهم، فلمّا علم شكواهم، وفهم نجواهم، زمجر بصولته، وجمع كبار دولته، وقال: اعلموا أنّ الملك أحقّ باصطفاء رجاله، منه باصطفاء ماله، لأنّه مع اتّساع الأمر وجلالة القدرة، لا يكتفى بالوحدة ولا يستغنى على الكثرة، ومثله فى ذلك مثل المسافر فى الطريق البعيدة الذى يجب عليه أن تكون عنايته بفرسه المجنوب، مثل عنايته بفرسه المركوب، ومشورة ذى التجارب، من بلغ المآرب. واعلم <أنّ> الملوك تحتاج إلى وزير، وأشجع الناس يحتاج إلى سلاح، وأجود الخيل يحتاج إلى سوط، وأجود الشفار يحتاج إلى مسنّ، ومثل الملك الصالح مع الوزير الفاسد مثل الماء الصافى العذب النمير الذى فيه التماسيح فلا يستطيع الناس وروده (315) وإن كان سائحا، ومن كلام فيثاغورس: معاشر الناس لا تضمروا غش الأئمّة! فإنّه من أضمر ذلك أظهره الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه وشجيّة أحواله، والإشفاق على حاشية الملك وخدمه، كالشفقة على ديناره ودرهمه، وإذا نصر الهوى بطل الرأى، وو الله ما عزّ ذو باطل ولو طلع من جبينه القمر، ولا ذلّ ذو حقّ ولو أصفق العالم عليه، وقد قال لقمان فى وصيّته:

يا بنىّ شاور من جرّب الأمور فإنّه يعطيك من رأيه ما قام عليه بالغلاء وأنت تأخذه بالمجون. واعلموا أنّ لا صلاح للخاصّة مع فساد العامّة، وأنّ لا سلطان إلاّ برجال ولا رجال إلاّ بمال ولا مال إلاّ بعمارة ولا عمارة إلاّ بعدل وحسن سياسة، وقد قيل: كن ليّنا من غير ضعف وشديدا من غير عنف. واعلموا أنّ الإرجاف مقدّمة الكون وبريد الفتنة، والعجم تقول: ينبغى أن يجتمع فى قائد الجيش وثبة الأسد، واستلاب الحدأة، وختل الذئب، وروغان الثعلب، وصبر الحمار، وحملة الخنزير، وحراسة الكركى، وبكور الغراب، ومع ذلك يحتاج إلى الوزراء ذو والرأى السديد فى الأمر الشديد والآن فقد اتّصل بنا ما الرعايا فيه من البلاء، ونزوحهم عن الماء والكلأ لتعرّض هذا التنّين المسمّى ظنين، وإنّه قد أفنى الجيوش، ولمّا يأس من الآدميين سطا بشرّه على الوحوش، وهو كما علمتم أنّه مرّ المذاق، وعدوّ لا يطاق، فما عندكم من الرأى فى أمره، فى حيلة نصل بها إلى إنفاد عمرء، من غير عناء ولا تعب ولا همّ ولا نصب؟ (316) فنهظ (1) أكبر وزراء الحضرة، النمر ذو الرأى ولخبرة، وقال: أيّها الملك العادل، والسلطان الفاضل، قد قيل لوزراء العجم: ينبغى للملك أن يبنى أمره مع عدوّه على أربعة أوجه: على البذل واللين، والكيد والمكاشفة، وذلك مثل الخراج فأولى علاجه التسكين، فإن لم ينفع فالإنضاح والتحليل فإن لم ينجع فالبط، فإن لم ينفع فالكىّ وهو آخر العلاج، وهذا العدوّ فليس ينفع فيه البذل ولا اللين، إذ البدل بالمال لا يرضيه، واللين له ممّا يزيده ويطغيه،

(1) فنهظ: فنهض

ولا بقى غير الكيد والمكاشفة، وتقديم الكيد أولى فإن نجح فأراح، وإلاّ فالمكاشفة والكفاح، وليس لهذا الأمر كالقاضى العدل، ذو العلم والفضل، الذى فاق بفضله المتقدّمين، أبو الحصين حاذق الأمين، فإنّه إن شاء الله تعالى يقوم بهذا الأمر، ويكون سببا لإخماد هذا الجمر. وكان بصحراء السند وجبال الهند ثعلب يسمّى حاذق يلقّب بالأمين، قد أتت عليه عدّة من السنين، نشأ ببلاد الحجاز، وقطن مدّة بالعراقين والأهواز، واطّلع على أخبار المتقدّمين، وصحب جماعة من العلماء الإسلاميّين، وأدرك شعراء الجاهليّة والمخضرمين، ومن تلاهم من المولّدين، وبعدهم من المحدثين، وقرأ كتب الحكماء والفلاسفة والمتكلّمين، وكان مع ذلك حسن الاعتقاد، خالى من الانتقاد، جيّد اليقين، من خيار عباد الله المتّقين. فلمّا سمع الملك قول الوزير ذو الرأى والتدبير، علم أنّه قد أصاب، ممّا أشار، فما خاب، من استشار، فقال: لقد نصحت أيّها الوزير الصالح، والصديق الناصح، ولقد دللت على الرأى الكبير ولا ينبئك (317) مثل خبير، وأمر فى وقته بإشخاص حاذق على البريد، ليكون أسرع لما يريد، وكان حاذق قد فوّض إليه تدبير الجيوش وقضاء والحكم بين الوحوش، ترجع إلى إشارته جميع الحكّام من أقصى الصين إلى خوارزم مع جبل القبخ وجبل اللكام، وقد استبارك بحسن سياسته الجماع، وصار عليه الورود وعنه الصدور والرجوع، حتى طارت بعلوّ طبقة بلاغته جنحة العقبان، وسارت بعذوبة منطقه وفصاحته عيس الركبان، ولم تكن إلاّ أيّام، وقدم حاذق فى غاية الإكرام، فسرّ الملك بقدومه ومأتاه، وأكرم نزله ومثواه، إلى أن زال عنه وعثاء السفر، وعناء السهر، ثم أحضره وبجّل مقامه، وزاد فى برّه وإكرامه، وسأله كيف كان طريقه، ولا طفه

حتى عاد كأخيه شقيقه، هذا وحاذق يقوم بأداء الفرض، من دعاية وتقبيل الأرض. ثم إنّ الملك قال: أيّها القاضى الفاضل، والبارع الكامل، إنّ أنفسنا كانت إلى لقائك تتوق، وأنا إلى مشاهدتك مشوق! فقال حاذق: هذه عوائد أنفس الملوك الحكماء الكرماء، أن يتوق إلى مشاهدة العلماء الحكماء، فقال الملك: محلّك عندنا محلّ الولد الشفوق، والأخ الصدوق، فنهظ (1) حاذق وقبّل الأرض بين يديه، وأثنى بما يليق به عليه، فقال الملك: خفّف عليك أيّها القاضى الفاضل، والرئيس الكامل، والعالم العامل، فإنّ كلّ الناس أحقّاء بالسجود لله عزّ وجلّ وأحقّهم بذلك من رفعه الله عن السجود لأحد من خلقه، وقد فهمت أنّ سجودك هذا إنّما هو لله شكرا لما أولاك من فضله، ومن عليك من طوله، فإنّنى جعلت مجلسى هذا للقبلة، ليكون السجود كلّه لله! (318) فقال حاذق: لست ممن أشكّ فى فضل الملك ودينه، وحسن اعتقاده ويقينه، وأنت السلطان، العظيم الشان، الكثير العدل والإحسان، المتواضع عن رفعه، والعفو عن قدره، المستحقّ فى هذا الزمان قول معاوية بن أبى سفيان: إنّى لآنف أن يكون فى الأرض جهل لم يسعه حلمى، وذنب لم يسعه عفوى، وحاجة لم يسعها جودى، ونحن الزمان من رفعناه ارتفع، ومن وضعناه اتّضع. وكان يقال: أخلق بدم المستخفّ بالملوك أن يكون جبّارا، فإنّ الملك خليفة الله فى بلاده وفى عباده، ولن يستقيم أمر خلافته مع مخالفته، والسلطان ظلّ الله فى الأرض، يأوى إليه كلّ مظلوم، ويأمن به كلّ خائف، ومن عصى السلطان. فقد أطاع الشيطان، وفساد الرعيّة بلا ملك كفساد الجسم بلا روح، وقد قيل: إذا زادك السلطان تأنيسا فزده إجلالا وتعظيما.

(1) فنهظ: فنهض

فقال الملك: لست ممّن يشكّ فى عقلك وفضلك، وعلمك وحلمك، لكن ما السبب فى انقصاعك عن مقامنا، وأنت من أجلّ حكّامنا، ومنزلتك عندنا عليّة، ومحبّتنا فيك أزليّة، فلو كنت بأبوابنا لم يكن أحد أقرب منك إلينا، وكنت آخر خارج من عندنا، وأوّل داخل علينا! فقال حاذق أيّها الملك الفاضل، والسلطان العادل، إنّ مثل أصحاب السلطان كقوم رقوا جبلا ثم سقطوا منه فكان أبعدهم فى المرقى أقربهم من التلف، ومثل السلطان كالجبل لصعب الذى فيه كلّ ثمرة طيّبة وكلّ أفعاء (1) قاتلة، فالارتقاء إليه شديد والمقام فيه شدّ، ومن تحسّى مرقة السلطان احترقت شفتاه ولو بعد حين، (319) وأشقى الناس بالسلطان صاحبه كما أنّ أقرب الأشياء إلى النار أسرعها احتراقا، ولا يدك الغنى بالسلطان إلاّ نفس حافية وجسم تعب ودين مثلم، وقد قيل: لا يلتبس بالسلطان فى وقت اضطراب الأمور عليه فإنّ البحر لا يكاد يسلم راكبه فى حال سكونه فكيف فى حال اضطراب أمواجه، وقد قيل: ليكن السلطان عندك لنار لا تدنو منها إلاّ عند الحاجة إليها، فإن اقتبست منها فعلى حذر، ولولا وثاقى بفضل الملك وعلمه، وجودة عفوه، وسعة حلمه، لما تجاسرت بموعظة، ولا تفوهت بكلمة مومضه. فقال الملك ليس عليك أيّها القاضى الفاضل من بأس، وكلامك محمولا على الرأس، لتحقّقى مقلك ورشدك، ودينك وزهدك، وإنّى الآن مسائلك عن ما كان يختلج بباطنى ولم أجد له شارح، ولم أكن لأحد غيرك به بائح إذ أنت ربّ كلّ مسألة وكاشف كلّ معظلة. (2) فقال حاذق سل أيّها الملك تجاب، بمعونة من إذا دعى أجاب!

(1) أقعاء: أى (2) معظلة: معصلة

فقال الملك: ما السبب فى امتناع إبليس عن السجود لآدم دون سائر الملائكة؟ فقال: فى ذلك عدّة وجوه وأقربها الحسد الذى داخله منه، فإنّ الحسد أوّل ذنب عصى الله به فى السماء والأرض، أمّا فى السماء فما كان من حسد إبليس لآدم صلوات الله عليه حين ترفّع عن السجود له كما أخبر الله عزّ وجلّ فى كتابه العزيز، وأمّا فى الأرض فما كان من حسد قابيل لأخيه هابيل على تقبّل القربان منه دونه حتى قتله فأصبح من النادمين. فقال الملك: فأخبرنى أيّها القاضى العالم العامل (320) الفاضل الكامل، عن أوّل كلّ شئ ومن استسنّه، حتّى عاد فى بنى آدم سنة بأوجز لفظ، ليكون أقرب للحفظ، فقال حاذق: حبّا وكرامة، ونسأل الله تعالى المعونة والسلامة، وأن يخصّنا فى دار الزلفى بالكرامة. (1) أوّل من غرس النخلة واستخرج القطنة أنوش بن شيث بن آدم، ويروى أنّه أوّل من بوّب الكعبة ونطق بالحكمة. أوّل من أظهر علم النجوم ودلّ على تركيب الأفلاك وقدّر مسير الكواكب وكشف عن وجوه تأثيرها ونبّه على عجائب الصنع فيها إدريس عليه السلام، وهو أوّل من خطّ الكتاب وخاط الثياب، وإنّما كان من قبله يلبسون الجلود، وهو أوّل من اتّخذ السلاح وجاهد بنى قابيل واسترقّ الرقيق. أوّل من قصّ شاربه وفرق شعره وتمضمض واستاك وقلّم الأظفار واستنجى فصارت سنّة فى الإسلام إبراهيم الخليل-صلوات الله عليه، وهو أوّل من أختن (2) لما نذكر من ذلك فى قصّته، وهو أوّل من أضاف الضيف لما نذكره، وهو أوّل من شاب لما نذكره أيضا

(1) مأخوذ من لطائف المعارف 6،3 - 7،6 (2) أختن: اختتن لطائف المعارف

فقال الملك: أيّها القاضى الفاضل فهل تعلم أنّ أحدا امتدح الشيب؟ فقال: نعم أيّها الملك الجليل، والسيد النبيل: منثورا ومنظوما، (2) فأمّا المنثور الذى كالدرّ المنثور، فقد قيل: الشيب حلّة (7) العقل، وشيمة الوقار، الشيب زبدة مخضتها الأيّام، وفضّة (1) سبكتها التجارب، الشيب رداء العلم والأدب، يا عائب الشيب لا بلغته، سرى فى طريق الرشد بمصباح الشيب (321) عصى شياطين الشباب، وأطاع ملائكة الشيب، ما خير ليل ليس فيه نجوم، للشيخ الرأى وللشباب الكيس، الشيخ يقول عن عيان، والشباب يقول عن سماع، ومن كلام عبد الله بن المعتزّ فى ذلك، عظّم الكبير فإنّه عرف الله تعالى قبلك، وارحم الصغير فإنّه أغرّ بالدنيا منك، ومن شعره فيه (من الخفيف): (3) قد يشيب الفتى وليس عجيبا … أن يرى النور فى القضيب الرطيب ولدعبل الخزاعى فيه (من البسيط): (4) إنى أنا السيف لا ترضيك جدّته … وليس يرضيك إلاّ بعد إخلاق ولأبى تمّام فى المعنى (من البسيط): (5) ولا يروعك (8) … إيماض القمير به فإنّ ذاك ابتسام الرّأى والأدب وله (من الكامل): (6) يا شيبتى دومى ولا تترحّلى … وتيقّنى أنّى بوصلك مولع

(1) -378 (2) مأخوذ من التمثيل والمحاضرة 383، -1 - 385،3 (3) ديوان ابن المعتز 3/ 242، -2، رقم 48؛ ديوان ابن الرومى 1/ 138، رقم 3؛ ديوان دعبل 342 (4) ديوان دعبل 158،1 (5) ديوان أبى تمام 1/ 110، -5، رقم 7،5 (6) ديوان أبى الفتح البستى 272، -1 (7) حلة: حلية التمثيل (8) لا يروعك: لا يؤرقك الديوان

وللبستى فى المعنى (من الكامل): (1) قد كنت أجزع من طلوعك (5) … مرة فالآن من خوف ارتحالك أجزع فقال الملك: إنّما هذا تعلّل بالمحال، وخوف من الارتحال، فما قيل فى ذمّه، لمن تجرّع سمّه؟ فقال حاذق: أمّا من ذمّه وهجاه ويحبّه مغرم ما قلاه، فكثير لا يحصى، وإنّما نذكر ما حضر لأنّ أمرك لا يعصى كما قال سلمة (6) بن الوليد (من البسيط): (2) الشيب كره وكره أن يفارقنى … فأعجب بشئ على البغضاء مودود (من الطويل): خليلىّ ما فى الشيب عار على الفتى … لو انّ لأيّام الصبا من يعيدها (3) ونحن الموالى فى القبائل كلّها … وفى حى ليلى نحن بعض. . . قيس بن عاصم يقول: الشيب خطام المنيّة. أكثم بن صيفىّ يقول: الشيب عنوان الموت. الحجّاج بن يوسف يقول: الشيب بريد الآخرة. مالك بن أنس يقول: الشيب تؤم (7) الموت. (4) عبد الله بن المعتزّ يقول: الشيب أوّل مواعيد الفناء وناعى الشباب ورسول البلاء وعنوان الفساد، وقناع المقت، وسفينة تقرب من ساحل المنية. (322) العتبى: الشيب مجمع الأمراض.

(1) ديوان أبى الفتح البسنى 273،1 (2) ديوان مسلم بن الوليد 311،1، رقم 97،2 (3) -379 (4) مأخوذ من التمثيل والمحاضرة 385،8 - 388،5 (5) طلوعك: حلولك الديوان (6) سلمة: مسلم، غلط ابن الدوادارى (7) تؤم: توأم

محمود الورّاق يقول: الشيب إحدى المنيتين. قلت: وهذا كلّه يجمعه كلمتين: الشيب وكلّ عيب، ونظر سليمان بن عبد الملك (4) فرأى فى المرآة شيبا قد لاح فى لحيته ولمّته فقال: عيب لا عدمناه، ويمثّل بقول أبى تمام (من الطويل): (1) هو الزّور يجفا والمعاشر يحتوى … وذو الإلف يقلى والجديد مرقّع (5) له منظر فى العين أبيض ناصع … ولكنّه فى القلب أسود أسفع ولأبى تمّام فيه أيضا (من الرجز): تضاحكت لما رأت … شيبا تلالا غرره قلت لها لا تعجبى … انبيك عندى حبره هذا غمام الردى … ودمع عينى مطره وقوله: (من البسيط): لو كان عمر الفتى حسابا … لكان فى شيبه فذلك (2) وللصابى (من الكامل): والعمر مثل الكأس ير … سب فى أواخره القذى مسلمة (6) بن الوليد (من البسيط): والشيب أعظم جرما عند غانية … من ابن ملجم عند الفاطميّين (3)

(1) ديوان أبى تمام 2/ 324،3، رقم 90،13 - 14 (2) التمثيل: منسوب إلى منصور الفقيه (3) التمثيل: دون نسبة (4) بن عبد الملك: بن وهب التمثيل (5) مرقع: يرقع الديوان (6) مسلمة: مسلم، غلط ابن الدوادارى

فقال الملك: (1) فما تقول فى الخضاب، الذى جعلوه حيلة لردّ الشباب؟ فقال حاذق: الخضاب أحد الشبابين، وهو تذكرة الشباب، والتسلّى عن وقوع الموت، والتعلّق بحبال الفتيان، ومن قول المتنبىّ فيه: (من الطويل): وما خضب الناس البياض لأنّه … قبيح ولكن أحسن الشّعر فاحمه (2) ولابن المعتزّ (من الكامل): للضيف أن يقرى ويقضى حقه … والشيب ضيفك فاقره بخضاب (3) وله (من المتقارب): (4) وقالوا للنصول شيب جديد … فقلت الخضاب شباب جديد إساءة هذا بإحسان ذا … فإن عاد هذا فهذا يعود (323) ولعبدان الإصفهانى وهو من أحسن ما قيل فيه (من الخفيف): فى مشيبى شماتة لعداتى … وهو فاع مبغض لحياتى ويعيب الخضاب قوم وفيه … لى أنس إلى حضور وفاتى لا ومن يعلم السرائر (5) … ما به رمت خلّة الغانيات إنّما رمت أن يغيّب عنّى … ما تزينه (6) كلّ يوم مرآتى وهو ناع إلىّ نفس ومن ذا … سرّه أن يرى وجوه النعات (7)

(1) مأخوذ من التمثيل والمحاضرة 388،7 - 389،9 (2) ديوان المتنبى 379،3، رقم 160،17 (3) التمثيل: دون نسبة (4) ديوان ابن المعتز 3/ 157،2، رقم 1266 (5) السرائر: السرور منى التمثيل (6) تزينه: ترينيه التمثيل (7) النعات: النعاة

ومن أحسن ما سمعت فى كره الشيب لبعضهم (من الكامل): وسألتها ملء المحاجر نظرة … منّى عساها أن ترقّ وترحما قالت لو انّ الشيب من نور الهدى … ما كنت أكحل منه عينى من عما أنا ما رضيتك بالمشيب ملثّما … أرضاك منه ملثّما ومعمما فرجعت مكاوم الحشى لكلامها … وجوانحى تبكى الدماء على الدما وروى أيّها الملك أن لمت نفر من المسلمين وفدوا على ملك الروم أحدهم قد خضّب بالوشمة والآخر بالحناء، والآخر تركها بياضا، فأعطى الذى خضّب بالوشمة عشرة آلاف درهم ولأبيض اللحية خمسة آلاف درهم ولم يعط الخاضب بالحناء شيئا، فسأله فى ذلك فقال: أمّا صاحب الوشمة فإنّه لما بلى تحيّل وأحسن الحيلة فى ردّ لون شبابه، وأمّا الأبيض اللحية فإنّه لمّا بلى صبر ولم يغير وأمّا أنت فلا صبرت ولا أحسنت. وروى أنّ الأوزاعى وهو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمّد الأوزاعى رحمه الله كان يخضّب بالحناء، ولمّا دخل على ملك كابل قال للترجمان: قل له: ما هذا الذى أراه؟ فقال: هذه سنّة نحن (324) نستسنّها عن آبائنا وجدودنا، فقال: قل له: ما أعرف ما السنّة إلاّ كان ينبغى لو خلقتم على هذه الصورة لغيّرتموها! ومن أحسن ما سمعت فى الخضاب: لابن الحسين الحزارمورا (من الوافر): وقالوا فى الخضاب عليك عار … فقلت دخلتم بينى وبينى أدبّر لحيتى مادمت حيّا … وأعتقها ولكن بعد عينى فقال الملك: فما قيل فى ذمّ الخضاب ليكون آخر هذا الباب؟

فقال: يقال: (1) الخضاب من شهود الزور وهو حدّاد الشباب إن خضّبت الشيب كيف تخضب الكبر، الخضاب كفن الشيب. ولبعضهم فى ذلك (من الوافر): تستّر بالخضاب وأى شئ … أدلّ على المشيب من الخضاب ولمحمود الورّاق (من الكامل): يا خاضب الشيب الذى … فى كلّ ثالثة يعود إن النصول إذا بدا … فكأنّه شيب جديد وله بديهة روعة … مكروهها أبدا عتيد فدع المشيب كما أرا … د فلن يعود كما تريد ويروى (2) أيّها الملك أنّ إبراهيم صلوات الله عليه أوّل من رمى الجمّار، وأنّه أوّل من جبا الخراج ويقال بل موسى عليه السلام. أوّل من نطق بالعربيّة إسماعيل عليه السلام وما على ظهرها عربىّ إلاّ من ولده اللهمّ إلاّ ثلاث قبائل وهم الأوزاع، وحضر موت، وثقيف، وهو أوّل من ركب الخيل وكانت وحوشا لا تركب. أوّل من أبيع (4) من الأحرار واسترقّ واستعبد يوسف بن يعقوب عليهما السلام لما نذكر من قصّته إن شاء الله تعالى. (325) أوّل من عمل الدرع ولبسها داود عليه السلام وكانوا يلبسون يوم حربهم تنانير من حديد، وهو أوّل من قال فى خطبته: أمّا بعد، ويقال إنّه فصل الخطاب الذى ذكره الله عز وجل فى كتابه العزيز. (3)

(1) مأخوذ من التمثيل والمحاضرة 389،7 - 390،3 (2) -فصل ذكر أشراف الكتاب من أول الزمان: مأخوذ من لطائف المعارف 7، -5 - 23،4 (3) القرآن الكريم 37/ 20 (4) أبيع: بيع لطائف المعارف

أوّل من اتّخذ الرحا والحمّام سليمان بن داود عليه السلام وهو أوّل من اتّخذ النّورة لما نذكر من سببها، وهو أوّل من اتّخذ الصابون. أوّل من خطب بعد داود ووعظ فأفصح وأوجز لقمان الحكيم وبه يضرب المثل فى الحكمة والموعظة الحسنة، ويقال إنّه ليس له ولا لغيره أبلغ وأوجز من قوله: يا ابن آدم: الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما. أوّل من تكلّم فى القدر عزير النبىّ عليه السلام ولمّا كثر (3) المناجاة فى ذلك ولجّ واحتجّ محى اسمه من صحيفة الأنبياء فليس يذكر فيهم وهو منهم وقد هجا ابن الرومى رجلا تشبّه به فقال (من السريع): (1) وفى ابن عمّار عزيريّة … ينازع (4) الله بها فى القدر أوّل من أطال ثيابه وسحبها قارون، وهو أوّل من اتّخذ الكيمياء وإيّاه عنى بقوله تعالى: {إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي»} (2)، لما نذكر من بقيّة خبره. أوّل من سنّ للضيف صدر المجلس وسمّاه مهمان بالفارسىّ بهرام جور، تفسيره بالعربىّ سيّد المنزل لما نذكر من ذلك. أوّل من اتّخذ السوبق الإسكندر المقدونى الآنى خبره فى موضعه، وهو أوّل من اتّخذ خصيان الخيل للكمين، وهو أوّل من بثّ الجواسيس فى عساكر الأعداء وأمر قوّاده بترك اتباع المنهزم. أوّل من جلس على السرير من ملوك العرب جذيمة الأبرش، وسيأتى ذكره فى موضعه وتأريخه، وهو أوّل من نصب المنجنيق (326) واستصبح بالشموع، وترفّع عن منادمة البشر فنادم الفرقدين وكان يشرب كأسا ويصبّ لهما كأسين

(1) ديوان ابن الرومى 3/ 913، رقم 686،1 (2) القرآن الكريم 28/ 78 (3) كثر: أكثر لطائف المعارف (4) ينازع: يخاصم الديوان

إلى أن وجد مالكا وعقيلا فاتّخذهما نديمين لما نذكر من خبرهما وسببه فى تأريخه إن شاء الله تعالى. أوّل من عمل له سنان من حديد ذو يزن الحميرى وإليه تنسب الرماح اليزنيّة، وإنّما كانت أسنّة رماح العرب صياصى البقر. أوّل من هشم الثريد عمرو بن عبد مناف فسمّى بذلك هاشما لما نذكر من خبره، وهو أوّل من سنّ الرحلتين فى التجار: (1) رحلة الشتاء والصيف الذى ذكرهما الله تعالى فى كتابه العزيز، وهو أوّل من خرج إلى الشأم من قريش، ووفد على الملوك وأبعد فى سفره ومرّ بالأعداء وأخذ منهم الإيلاف المذكور فى القرآن. (2) أوّل من كسى الكعبة الأنطاع والبرود أبو كرب أسعد الحميرى، وكان قد آمن بسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بزمان طويل، يقال إنّه عاش أكثر من ثلاثمائة سنة وهو القائل (من المتقارب): شهدت على أحمد أنّه … رسول من الله بارى النسيم (3) فلو مدّ عمرى إلى عمره … لكنت وزيرا له وابن عمّ أوّل من كسى الكعبة الحرير والديباج نفيلة (4) بنت حباب بن كليب أمّ العبّاس بن عبد المطّلب، وقد كان ضلّ عنها العبّاس فى صغره فنذرت إن وجدته لتكسو البيت الحرير والديباج فوجدته، فوفت (5) بنذرها. أوّل من خلع نعليه لدخول الكعبة فى الجاهليّة الوليد بن المغيرة، فاقتدى به الناس فخلعوا نعالهم فى الإسلام لا سيما أبو مسلم <الخراسانى> صاحب الدعوة

(1) التجار: التجارة لطائف المعارف (2) القرآن الكريم 106/ 1 - 2 (3) النسيم: النسم لطائف المعارف (4) نفيلة-حباب: نتيلة بنت جناب لطائف المعارف (5) فوفت: فأوفت لطائف المعارف

العبّاسيّة الآنى خبره فى تأريخه (327) فإنّه خلعها وقال: إنّ هذا المكان أكرم من طوى الذى أمر الله تعالى موسى بخلع فعليه به، والوليد أوّل من حرّم الخمر على نفسه فى الجاهليّة وأوّل من قطع فى السرقة التى (1) نزلت الآية فى الإسلام. أوّل من خضب بالسواد من أهل مكّة عبد المطّلب بن هاشم، وكان رجل من حمير خضّبه بذلك فى اليمن فلمّا استعمله بمكّة اقتدى به الناس وكانوا يخضّبون بالحناء من قبل. أوّل من آمن بسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم-وصحّ ذلك من الكهول- أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه، ومن الشبّان زيد بن حارثة رضى الله عنه، ومن الفتيان علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه، ومن النساء خديجة بنت خويلد رضى الله عنها، لا خلاف فى هؤلاء الأربعة بوجه من الوجوه. أوّل مولود ولد فى الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة عبد الله بن الزبير الآتى خبره فى تأريخه إن شاء الله تعالى. أوّل من أراق دما فى سبيل الله سعد بن أبى وقّاص رضى الله عنه، وهو الذى جمع له سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التفدية بين أمّه وأبيه، فكان يقول: ارم ارم فداك أبى وأمّى. أوّل من سمّى باسم سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب، ولد له مولود بأرض الحبشة فسمّاه محمّد، فأنكر عليه تسميته (2) بذلك، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سمّوا باسمى وكنّوا بكنيتى ولا تجمعوا بينهما.

(1) التى نزلت فنزلت لطائف المعارف؛ قارن القرآن الكريم 5/ 38 (2) عليه تسميته: على مسميه لطائف المعارف

أوّل لواء عقده (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عبد المطلّب رضى الله عنه، وقال خذه يا أسد الله. أوّل شهيد فى الإسلام (328) عمير بن الحباب الأنصارى، قتل يوم بدر، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذلك اليوم ثم قال: إنّ الله تعالى أوجب الجنّة لمن قتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر، فقام عمير وفى يده ثميرات فقال: بخ بخ ما بينى وبين دخول الجنّة إلاّ ريثما أمضغ هذه التّميرات، ثم جعل يطرحها فى فيه زوجا ويرمى بنواها وتناول سيفه فلم يزل يقاتل حتى قتل رحمة الله عليه. وأمّا أوّل (2) شهيدة من النساء فسميّة أمّ عمّار بن ياسر، وذلك أنّها أظهرت الإسلام بمكّة فعذّبتها قريش فلم ترجع فطعنها أبو جهل فى ثغرة لبّتها بحربة فماتت رحمها الله تعالى. أوّل من تسمّى (3) أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضى الله عنه وذلك أنّ أبا بكر رضى الله عنه كان يدعى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما توفّى وقد استخلف عمر على الأمّة قال عمر: كيف يقال: (4) يا خليفة خليفة رسول الله، وهذا يطول! فقال له المغيرة بن شعبة: أنت أميرنا ونحن المؤمنون فأنت أمير المؤمنين، قال: فذاك إذا. وهو أوّل من أرّخ بالهجرة لما نذكر من ذلك فى موضعه إن شاء الله تعالى، وأوّل من ختم على الطين، وفرض الخراج، وجعل أهل الجزية طبقات لم يدخل فيها النسوان (5) والهرمى والفقراء. أوّل من سلّم عليه بالإمرة المغيرة بن شعبة، وكانوا من قبل يكنّون أمراءهم، فقال ينبغى أن يكون بين الأمير والرعيّة فرق، وألزم أهل عمله أن

(1) عقده: اعتقده لطائف المعارف (2) أول: أولى لطائف المعارف (3) تسمى: سمى لطائف المعارف (4) يقال: يقال لى لطائف المعارف (5) فيها النسوان: فيها الصبيان والنسوان لطائف المعارف

يؤمّروه، ففعلوا واقتدى بهم سائر المسلمين فى أمرائهم. قال الثعالبى: وهو أوّل من رشا فى الإسلام. أوّل ما ظهر من الظلم فى أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم قولهم: نيح (1) عن الطريق، قال الثعالبى: ويقال إنّ ذلك حدث فى أيّام عثمان بن عفّان (329) رضى الله عنه. أوّل من اختزل من بيت مال المسلمين على ما ذكره الثعالبى رحمه الله أبو هريرة عبد الله بن عمرو السدوسى (2) وكان عمر رضى الله عنه استعمله على البحرين فاختزل من مال المسلمين بها فعزله وحاسبه وغرّمه ما حصل عليه وضربه بالدرّة عدّة خفقات حتى استخرج منه ألف دينار وخمس مائة دينار، فقال أبو هريرة: لا وليت لك والله عملا! فقال عمر رضى الله عنه: لقد وليه من هو خير منك- يعنى يوسف الصدّيق عليه السلام-لمن هو شرّ منّى، يعنى عزيز مصر. قلت: قد ذكر الطبرى والحافظ ابن عساكر والمسعودى رحمهم الله وأجمعوا أنّ الإمام عمر بن الخطّاب رضى الله عنه مرّ بالمدينة على دار قد أحدث بناؤها بالجصّ والآجرّ ولم يكن قبل ذلك بالمدينة دار بهذا البناء، فسأل عنها، فقيل: هى لبعض عمّال أمير المؤمنين فقال: أبت الدراهم إلا أن تمدّ أعناقهائم أشخص سائر عمّاله وشاطرهم أموالهم ومنهم أبى هريرة واستخرج منه ألف وستّمائة دينار وخفقه بالدرّة خفقات فقال: لو علمت لما ولّيت لك عملا، قال: قد ولى من هو خير منك لشرّ منى يعنى يوسف عليه السلام وعزيز مصر. أول من لبس الخزّ الأدكن من العرب فى الإسلام عبد الله بن عامر بن كريز، ولمّا لبس جبّة منه وخطب الناس على منبره بالبصرة وكان واليها لعثمان رضى الله قال الناس: قد لبس الأمير جلد دبّ.

(1) نيح: تنح لطائف المعارف (2) السدوسى: الدوسى لطائف المعارف

أوّل من غيّر قضيّة من قضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم معاوية بن أبى سفيان فإنّه ألحق زياد بأبى سفيان وغيّر قضيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قوله: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وهو أوّل (330) من اتّخذ المقصورة فى المسجد لما نذكر من ذلك فى تأريخه، وأوّل من استخلف ولده ولى عهده، وأوّل من استخلف ولى العهد فى صحّته، وأوّل من اتّخذ ديوان الخاتم لما نذكر من ذلك، وهو أوّل من عقد المغيرة بالسكر، وكان أبو هريرة رضى الله عنه يعجب بها ويستطيبها ويأكلها عنده فى مدّة أيّام صفّين الآتى ذكرها فى تأريخها إن شاء الله تعالى، ويصلّى خلف علىّ عليه السلام، فقيل فى ذلك، فقال: مضيرة معاوية أطيب والصلاة خلف علىّ أفضل. أوّل من أخذ الجار بالجار والبرئ بالسقيم زياد بن أبيه، وكان يقول: ربّ حقّ أخرج من خاصرة الباطل، وهو أوّل من مشى بين يديه بالأعمدة، وأوّل من لبس الثياب الدبيقيّة، وأوّل من بنى بالجصّ والآجرّ بالبصرة. أوّل من مشى بين يديه الرجال وهو راكب الأشعث بن قيس وكان سيّد أهل اليمن، وأسر مرّة فافتدى بثلاثة آلاف ناقة، وهو أوّل من دفن فى داره ولم ينقل إلى موسم الأموات، وذلك أنّه لمّا مات بالمدينة لم يقدر على إخراجه ودفنه من كثرة ازدحام العالم، ولم يقدر الحسن بن علىّ عليهما السلام أن يدخل عليه حتّى دخل من بعض دور لجيرانه، وكان (1) الرجل ينزل عن دابّته فيعقرها والآخر يجئ براحلته فينحرها فخاف الحسن أن يعقر الناس على قبره سائر دوابّهم فأمر بدفنه فى داره.

(1) وكان: ورأى لطائف المعارف

أوّل من أعطى شطر ماله فى الإسلام عبيد الله بن العبّاس بن عبد المطّلب، وكان معاوية قطع <صلاته> (1) عن الحسن عليه السلام مرّة فضاقت حاله فى تلك السنة فكتب إلى عبيد الله بن العبّاس يخبره فبكا عبيد الله، ثم قال: ويحك يا معاوية أصبحت ليّن المهاد رفيع العماد والحسن يشكو سوء الحال (331) وكثرة العيال! ثم قال لقيّمه: احمل إليه شطر جميع ما أملكه فإن أقنعه وإلاّ فاحمل إليه الشطر الآخر! فلمّا بلغ الحسن ذلك قال: إنّا لله حملت على ابن عمّى فليت لا كنت كتبت إليه! وأخذ الشطر من ماله، وعبيد الله أوّل من فطّر جيرانه فى شهر رمضان، وأوّل من وضع الموائد على الطريق ودعا إلى طعامه فى الإسلام، وأوّل من أمر بنهبه، (2) وأوّل من حمله على رؤوس الناس لكثرته. أوّل من نقش على الدراهم بالعربيّة عبد الملك بن مروان فإنّه عنى بذلك وكتب به إلى الحجّاج بن يوسف فى إقامة رسمه بذلك، وهو أوّل من تسمّى بعبد الملك فى الإسلام، وهو أوّل من لقّب من الخلفاء بالموفّق بالله. أوّل من من ضرب الدنوف (3) من الدراهم عبيد الله بن زياد حين وثب عليه المختار حسبما نذكره إن شاء الله تعالى وهرب من البصرة وكان إذا نزل بماء وخشى أن يثب عليه الأعراب قسمها بينهم. أوّل من اتّخذ البيمارستان الوليد بن عبد الملك، وهو أوّل من أجرى على القرّاء وقوّام المساجد الأرزاق، وكذلك على العميان وأصحاب العاهات وأخدم كلّ واحد منهم خادما، وهو أوّل خليفة تجبّر فى نفسه وسار فى الناس بالجبريّة والخيلاء لا ما (4) كان عليه من قبله لما نذكر من خبره فى تأريخه.

(1) صلاته: لطائف المعارف (2) أمر بنهبه: أنهبه لطائف المعارف (3) الدنوف: الزيوف لطائف المعارف (4) لا ما: لا بما لطائف المعارف

أوّل من رتّب المراتب من الخلفاء المنصور، وكان بنو أميّة لهم بيوت بلا منعة ولا إذن وإنّما كان الناس يقفون على أبوابهم حتّى يؤذن لهم أو يصرّفهم، فلمّا ولى بنو العبّاس وبنا المنصور مدينته اتّخذ فى قصره بيوتا للإذن فجرى الأمر عليه، وهو أوّل من اتّخذ الخيش فى الصيف لما نذكر من ذلك إن شاء الله تعالى. (332) أوّل من جمع له الحرب والخراج خالد بن برمك حين ولاّه المنصور فارس حربها وخراجها، وكانت الدفاتر فى الدواوين صحفا مدرجة فأوّل من جعلها دفاتر وجلود وقراطيس خالد بن برمك. أوّل من اتّخذ الأتراك من الخلفاء المنصور، اتّخذ حمارا (1) ثم اتّخذ المهدى مباركا ثم اقتدى بهما الخلفاء وسائر الناس. أوّل بنت (2) خليفة نقلت إلى زوجها من بلد إلى بلد العبّاسة بنت المهدى أخت الرشيد لمّا زوّجها من محمّد بن على بن سليمان نقلها إلى (3) البصرة. أوّل من جلس فى المصائب على البساط دون الأنماط الرشيد حين نغى إليه إبراهيم بن صالح بن على، فصار إلى داره وجلس على البساط وامتنع أن يجلس على شئ من النمارق والأنماط وأمر برفعها واتّكأ على سيفه وقال: لا يحسن بأحد أن يجلس فى دار حبيب له من أهل بيته فى يوم مصيبته على نمط ولا نمرقة، فأسنّ ذلك فى الناس. أوّل من وهب ألف ألف درهم فما فوقها معاوية ثم يزيد ولده لما نذكر من ذلك فى تأريخه وسببه. أوّل من صار جدّ جدّ فى الدولة العبّاسيّة معاذ بن مسلم، ثم الفضل بن الربيع على صفر سنّه.

(1) حمارا: خمار واخ لطائف المعارف (2) بنت: ابنة لطائف المعارف (3) نقلها إلى: ونقلها إليه بالبصرة لطائف المعارف

(333) ذكر أشراف الكتاب من أول زمان

أوّل من وسّع على الكتّاب الجرايات الفضل بن سهل ذو الرئاستين، وكانت أرزاق الكتّاب فى أيّام المنصور ثلاثمائة ثلاثمائة (1) ولم تزل على ذلك إلى أيّام المأمون حتى وسّع عليهم الفضل المذكور. أوّل قاض قتل فى الإسلام أبو المثنّى القاضى، وقد كان بايع ابن المعتزّ فلمّا زال أمره حسبما نذكر من خبره أمر المقتدر بإحضار أبى المثنّى وقتله صبرا، ولا يعرف مثل هذه فى دولة بنى أميّة ولا بنى العبّاس إلى ذاك التأريخ، والله أعلم. (333) ذكر أشراف الكتّاب من أوّل زمان (2) أوّل من خطّ بالقلم إدريس عليه السلام، وكان يوسف عليه السلام يكتب لعزيز مصر، وكان هارون ويوشع بن نون يكتبان لموسى عليهم السلام، وكان سليمان يكتب لأبيه داود عليهما السلام، وقد ذكر الله تعالى كتابته فأبان عن بلاغته وهو قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلاّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ»} (3)، وكان آصف بن برخيا يكتب لسليمان عليه السلام. ذكر كتّاب الإسلام جاء الإسلام ومنهم بضعة عشر رجلا يكتبون بالعربيّة وهم: عمر، وعثمان، وعلىّ، وطلحة، وعثمان وأبان (4) ابنا سعيد بن العاص، وأبو حذيفة بن عتبة

(1) ثلاثمائة ثلاثمائة: ثلاثمائة لطائف المعارف (2) -395،4 مأخوذ من لطائف المعارف 55 - 62 (3) القرآن الكريم 27/ 30 - 31 (4) عثمان وأبان: خالد وأبان لطائف المعارف

ذكر من كتب بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم

ابن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وابناه يزيد ومعاوية، وحاطب بن عمر (1) ابن عبد شمس، والعلاء بن الحضرمى، وأبو مسلمة بن عبد الأشهل، (2) وعبد الله ابن أبى سرح، وحوطب (3) بن عبد العزّى. ذكر من كتب بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عثمان وعلىّ رضى الله عنهما يكتبان الوحى بين يدى سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا غابا كتب أبىّ بن كعب ويزيد (4) بن ثابت، وإذا لم يشهد أحد منهم كتبه سائر الكتّاب، وكان خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية بن أبى سفيان يكتبان بين يديه الشريفتين فى حوائجه، وكان المغيرة بن شعبة بنوب عنهما إذا لم يحضرا. وكان عبد الله بن الأرقم والعلاء بن عتبة يكتبان بين الناس فى قبائلهم ومياههم وفى دور الأنصار بين الرجال والنساء، وكان ابن الأرقم ربّما كتب عن النبىّ عليه السلام (334) إلى الملوك. وكان حذيفة بن اليمان يكتب خرص ثمر الحجاز، وكان زيد بن ثابت يكتب إلى الملوك مع ما كان يكتب من الوحى. وكان معيقب (5) ابن أبى فاطمة حليف بنى أسد يكتب مغانم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عليها من قبله. وكان حنظلة بن الربيع بن المريع (6) بن صيفى بن أخى أكثم بن صيفى خليفة كلّ كاتب من كتّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غاب عن عمله فغلب عليه اسم الكاتب، وكان يضع عنده خاتمه صلى الله عليه وسلم.

(1) عمر: عمر ولطائف المعارف (2) الأشهل: الأسد لطائف المعارف (3) حوطب: حويطب لطائف المعارف (4) يزيد: زيد لطائف المعارف (5) معيقب: معيقيب لطائف المعارف (6) المريع: المرقع لطائف المعارف

ذكر الكتاب الذين صاروا خلفاء

وكان عبد الله بن أبى سرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتدّ ولحق بالمشركين، وقال: إنّ محمدا يملى علىّ فأكتب ما شئت فكان يكتب مكان العزيز الحكيم الرؤوف الرحيم وأنظار ذلك فأطلع الله تعالى نبيّه على ذلك فهرب وارتدّ ولحق بالمشركين، وكان أخا عثمان رضى الله عنه من الرضاع، فلمّا كان يوم فتح مكّة هدر النبىّ صلى الله عليه وسلم دمه مع من هدر فقيل إنّ عثمان رضى الله عنه استوهبه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فوهبه إيّاه، وسنذكر من خبره طرفا فى موضعه إن شاء الله تعالى. ذكر الكتّاب الذين صاروا خلفاء كان عثمان يكتب لسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبى بكر فصار خليفة، وكان علىّ يكتب له صلى الله عليه وسلم فصار خليفة، وكان معاوية يكتب له صلى الله عليه وسلم فصار خليفة، وكان مروان بن الحكم كاتب عثمان رضى الله عنه فصار خليفة، وكان عبد الملك بن مروان كاتبا على ديوان المدينة فصار خليفة. ذكر سائر أشراف الكتّاب من الصدر الأوّل فى الإسلام (335) كان عبد الله بن أوس الغسّانى سيّد أهل الشأم يكتب لمعاوية رضى الله عنه. وكان سعيد بن نمران الهمدانى يكتب لعلىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه. وكان عبد الله بن خلف الخزاعى أبو طلحة كاتبا على ديوان البصرة لعمر وعثمان رضى الله عنهما.

وكان زياد كاتب المغيرة ثمّ كاتب أبى موسى ثمّ كاتب عبد الله بن عامر بن كريز ثمّ كاتب عبد الله بن عبّاس ثمّ ولى العراقين. وكان خارجة بن يزيد (1) بن عبد الله بن ثابت على ديوان المدينة قبل عبد الملك ابن مروان وصار عمرو بن سعيد عليه بعد عبد الملك ثم كان بعد عمرو بن سعيد عثمان بن عنبسة بن أبى سفيان، وذلك كلّه فى زمان واحد وهو زمان معاوية رضى الله عنه. وكان عامر بن شراحيل الشعبى كاتب عبد الله بن مطيع ثم كاتب عبد الله بن يزيد عامل ابن الزبير على الكوفة. وكان سعيد بن جبير كاتب عبد الله بن عتبة بن مسعود ثم كاتب أبى بردة ابن أبى موسى الأشعرى وهو قاض (2) الحجّاج ولاّه بعد شريح. وكان الحسن بن أبى الحسن البصرى كاتب الربيع بن زياد لمّا كان بخراسان. وكان محمّد بن سيرين كاتب أنس بن مالك بفارس. وكان ميمون بن مهران كاتب عمر بن عبد العزيز. وكان روح بن زنباع الجذامى يكتب لعبد الملك بن مروان، وهو الذى يقول فيه عبد الملك: إنّ أبا زرعة شامى الطاعة، عراقى الخطّ، حجازى الفقه، فارسى الكتابة. وكان يزيد بن أبى مسلم يكتب للحجّاج وكان أخاه من الرضاعة وسنذكره. فهؤلاء كتّاب صدور الإسلام وكتب المصنّفين ناطقة بأخبار المتقدّمين منهم فمنها: كتاب أخبار الوزراء للجهشارى، (3) وكتاب الوزراء للصولى، وكتاب

(1) يزيد: زيد لطائف المعارف (2) قاض: قاضى (3) للجهشارى: للجهشيارى

ذكر الأعرقين من كل طبقة والمتنافسين فى أحوال مختلفة

يتيمة الدهر لأبى منصور الثعالبى ومن سلك طرقهم من أمثالهم رحمة الله عليهم، (336) وذكرنا لذلك فى هذا الجزء الأوّل وإن كانوا فى غير محلّهم فلفوائد منها أن يسهل ذلك على من يقصد حفظهم، ومنها أن يسهل أيضا الكشف عنهم ومنها أن يفهم أسماؤهم وأزمانهم لتحقيق ما يأتى من ذكرهم فى تواريخهم. ذكر الأعرقين من كل طبقة والمتنافسين فى أحوال مختلفة (1) قال أصحاب الأخبار والنقلة للآثار: إنّ أعرق الأنبياء فى النبوّة- ولسيّدنا محمّد الشرف الرفيع، والجمال البديع-يوسف فإنّه يوسف صديق الله ابن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحق ذبيح الله مع خلف فيه ابن إبراهيم خليل الله ولا يعرف نبى ابن نبى ابن نبى سواه صلوات الله عليهم. أعرق الأكاسرة فى الملك شيرويه بن أبرويز بن هرمز بن أنو شروان بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور بن يزدجرد الأثيم بن بهرام بن شابور بن هرمز بن نرشى بن بهرام بن بهرام بن شابور بن أردشير بن بابك، عدّة عشرين ملك إلى بابك جدّه. وأعرق الخلفاء فى الخلافة المنتصر ابن المتوكّل ابن المعتصم ابن الرشيد ابن المهدى ابن المنصور وكذلك أخواه المعتزّ والمعتمد. فمن عجائب التأريخ أنّ أعرق الأكاسرة فى الملك وهو شيرويه المذكور قتل أباه أبرويز واستولى على الملك فلم يعش بعده إلاّ ستة أشهر.

(1) -401 جمرد شئ: مأخوذ من لطائف المعارف 63 - 74

وأعرق الخلفاء فى الخلافة وهو المنتصر قتل أباه المتوكّل واستولى على الخلافة فلم يعش بعده إلاّ ستّة أشهر، وسيأتى ذكر ذلك مفصّلا معنعنا (1) إن شاء الله تعالى. أعرق ملوك العرب فى الملك: النعمان بن المنذر بن امرئ القيس بن النعمان ابن امرئ القيس بن عمرو بن عدىّ اللخمى. أعرق الناس فى الملك والخلافة من كلا طرفيه: يزيد بن الوليد بن عبد الملك ابن مروان، هو خليفة وأبوه (337) خليفة وجدّه خليفة وأبو جدّه خليفة وعمومته خلفاء، وأمّه شاه فرند بنت فيروز بن يزدجرد بن شهريار، وأمّها من بنات شيرويه، وأمّ فيروز بنت خاقان ملك الترك، وأمّ شيرويه مريم بنت قيصر ملك الروم سيرين (2) ابن ابردنير، ويزيد القائل (من الرجز): أنا ابن كسرى وأبى مروان … وقيصر جدّى وجدّى خاقان أعرق الوزراء فى الوزارة أبو (3) على بن الحسين بن القسم بن عبيد الله بن سليمان ابن وهب وأخوه أبو جعفر محمد بن القسم، فإنّ أبا علىّ وزر للمقتدر وأبا جعفر وزر للقاهر، وأباهما القسم وزر للمعتضد وللمكتفى بعده، وعبيد الله وزر للمعتضد أيضا، وسليمان وزر للمهتدى وبعده للمعتمد وكلّ من الحسين ومحمد وزير ابن وزير (4) ابن وزير ابن وزير، وفى أحدهما يقول الشاعر (من الرمل): يا وزير ابن وزير اب‍ … ن وزير ابن وزير نسقا كالدرّ إذ ينظم … فى عقد النحور أعرق الناس فى صحبة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الرحمن ابن أبى بكر ابن أبى قحامة فإنّ أربعتهم رأوا النبى صلى الله عليه وسلم وصحبوه.

(1) معنعنا: وكذا (2) سيرين-ابردنير: تحريف (3) أبو-الحسين: أبو على الحسين لطائف المعارف (4) ابن وزير ابن وزير: ابن وزير، غلط ابن الدوادارى

أعرق الأشراف فى العما عبد الله بن عبّاس ابن عبد المطلّب فإنّ كلاّ منهم عمى فى آخر عمره. أعرق الناس فى القتل عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير بن العوّام بن خويلد، ولا يعرف فى العرب والعجم ستّة مقتولين فى نسق إلاّ فى آل الزبير. وبيان ذاك أنّ عمارة وحمزة فتلا معا يوم قديد فى حرب الإباضيّة، وقتل مصعب بدير الجائليق فى معركة الحرب بينه وبين عبد الملك بن مروان لما نذكره، وقتل الزبير بوادى السباع فى حرب الجمل لما نذكره أيضا، وقتل العوّام فى حرب الفجار، وقتل خويلد فى حرب خزاعة. أعرق القضاة فى الصدر الأوّل بلال (338) ابن أبى بردة ابن أبى موسى الأشعرى، فإنّ بلالا كان قاضيا على البصرة، وأباه أبا بردة كان قاضيا على الكوفة، وأبا موسى كان قاضيا لعمر بن الخطّاب رضى الله عنه قبل أن ولى له البلاد وفتح الفتوح، وكذلك سوّار بن عبد الله بن سوّار، كان قاضيا للرشيد على البصرة وأبو عبد الله بن سوّار كان قاضيا للمهدى وأبوه سوّار بن قدامة كان قاضيا للمنصور. أعرق الناس فى الفقه إسماعيل بن حمّاد ابن أبى حنيفة كان فقيها وحمّاد كان فقيها وليس كأبيه وأبو حنيفة رحمه الله فى الفقه لم يسبق ولم يلحق. أعرق الناس فى حجابة الخلفاء العبّاس بن الفضل بن الربيع فإنّ العبّاس حجب الأمين والفضل حجب الرشيد ثم وزر له بعد البرامكة لما نذكر من ذلك، والربيع حجب المنصور والمهدى، وفيهم يقول أبو نواس (من الكامل):

(1) ساد الأنام (2) … ثلاثة ما منهم إن حصّلوا إلاّ أغرّ قربع ساد الربيع وساد فضل بعده … ونمت (3) بعبّاس الكريم فروع عبّاس عبّاس إذا حمى الوغا (4) … والفضل فضل والربيع ربيع أعرق الناس فى الجود: عمر بن عبد الله بن صفوان بن أميّة بن خلف كلّهم أجواد متناسقون وكلّ منهم له أفعال حسان فى الجاهليّة والإسلام. أعرق الناس فى الغدر: عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس بن معدى كرب فإنّ عبد الرحمن غدر بالحجّاج بن يوسف لمّا ولاّه البلاد فخرج عليه وواقعه زهاء وثمانين وقعة وكان آخرها دائرة السوء عليه لما نذكره، وغدر محمّد بن الأشعث بأهل طبرستان وكان عبيد الله بن زياد ولاّه إياها فصالح أهلها وعقد لهم ثم عاد إليهم غادرا فأخذوا عليه الشعاب وقتلوا ابنه أبا بكر وفضحوه، وغدر الأشعث بن قيس ببنى الحارث بن كعب غزاهم (339) فأسروه فقدى نفسه بثلاثة ألف بعير فأعطاهم ألفين وبقيت عليه ألف فلم يؤدّها حتى جاء الإسلام فهدم ما كان فى الجاهليّة. وكان بين قيس بن معدى كرب ومراد عهدا إلى أجل، فغزاهم فى آخر يوم من الأجل وكان ذلك يوم الجمعة وكان يهوديّا فقال: لا يحلّ لى القتال غدا لأنّه السبت فقاتلهم فقتلوه ومزقوا جيشه، وغدر معدى كرب بمهرة وكان بينهم وبينه عهدا فغزاهم ناقضا للعهد فقتلوه وبقروا بطنه فملأوه حجارة وحصى. أعرق الناس فى الشعر آل حسّان، قال المبرّد، وهو أبو العباس محمد بن يزيد بعيد المصوت فى الأعيان من الأدباء والنحويين الذين يؤخذ عنهم ويقتبس منهم،

(1) ديوان أبى نواسى 415،2 (2) الأنام: الملوك الديوان (3) ونمت: وعلت الديوان (4) حمى الوغا: احتمد الوغى الديوان

والناس فى سبب تلقيبهم إياه بالمبرّد على قولين أحدهما: أنّه استحقّ ذلك لقول الشاعر فيه (من البسيط): إنّ المبرّد ذو برد على أدبه … فى الجدّ منه إذا ما شبت أو لعبه وقلّ ما أبصرت عيناك من رجل … إلاّ ومعناه أن فكرت فى لقبه والآخر أنّه لقّب بذلك على الضدّ كما لقّب الغراب بالأعور والمثل يضرب به فى حدّة البصر. قال المبرّد: كان يقال: أعرق قوم فى الشعر آل حسّان فإنّهم يعدّون ستّة فى نسق كلّهم شاعر، وهم: سعيد ابن عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت بن المنذر بن حرام حتى جاء آل أبى حفصة وتوارثوا الشعر كابر عن كابر وتناسق منهم عشرة على الولاء مذكورين بالشعر، أنشدوا الخلفاء وأجزوا الجوائز، فأوّلهم أبو حفصة مولى عثمان كان شاعرا، وهو القائل يوم الجمل وقد شهد الموقف مع مروان بن الحكم من قصيدة رجز: إنّى لورّاد حياض الشرّ … معاودا للكرّ بعد الكرّ (340) ثم يحيى ابن أبى حفصة وهو القائل (من البسيط): يا ليت أيّام لذات الصبى رجعت … هيهات ذلك شئ ليس مرتجعا ثم سليمان بن يحيى وهو القائل (من الطويل): وقائلة ما بال مالك ناقص (1) … وأموال أقوام سواك تزيد فقلت لها إنّى أجود بما حوت … يداى وبعض القوم ليس يجود ثم مروان بن سليمان وهو القائل (من الكامل): أنّى يكون وليس <ذاك> (2) … بكائن لبنى البنات وراثة الأعمام ألقى سهامهم الإله فحاولوا … أن يشرعوا فيها بغير سهام

(1) ناقص: ناقصا لطائف المعارف (2) ذاك: لطائف المعارف

ثمّ أبو الجنوب ابن مروان وهو القائل يخاطب الرشيد فى خلافة الهادى (من الوافر): أمير المؤمنين <اليوم> (1) … موسى وأنت غدا أمير المؤمنينا سنختار الخلافة بعد موسى … وإن رغمت أنوف الحاسدينا رأيت أباك أورثها بنيه … وأنت كذاك تورثها البنينا فطلبه الهادى فهرب إلى البادية. ثم مروان ابن أبى الجنوب وهو القائل يخاطب المأمون (من الطويل): ولو علمت فوق الخلافة غاية … تنال بمحمد فى الحياة لنالها ويخاطب المعتصم أيضا (من البسيط): لمّا دخلت على معصوم أمّته … خليفة الله أدنانى وأغنانى مثل العطايا التى أعطى أبوه أبى … وجدّه المصطفى المهدىّ أعطانى ثم يحيى بن مروان وهو القائل (من البسيط): قل للاّلى جعلونى نصب أعينهم … لا تجعلونى من أغراضكم غرضا ثم مروان بن يحيى وكان من أنصب الناس وأحضاهم (2) بالشعر، وهو القائل (من الطويل): سلام على جمل وهيهات من جمل … ويا حبّذا جمل وإن صرمت حبلى وهى قصيدة طويلة صنت الكتاب عن تتمّتها. (341) ثم محمود بن مروان وهو القائل يخاطب المنتصر (من الطويل): لقد طال عهدى بالإمام محمّد … وما كنت أخشى أن يطول به عهدى فأصبحت ذا بعد ودارى قريبة … فيا عجبا من قرب دارى ومن بعدى

(1) اليوم: لطائف المعارف (2) أحضاهم: أحظاهم

ثم متوّج بن محمود بن مروان بن يحيى بن مروان ابن أبى الجنوب بن مروان ابن سليمان بن يحيى بن أبى حفصة، وكان ردئ الشعر لا يساوى بياضه، حكى الصولى قال: كنت يوما عند عبد الله بن المعتزّ فقرئ بحضرته شعر لمتوّج وكان رديئا فقال: أشبه لكم شعر آل أبى حفصة وتناقصه حالا بعد حال؟ فقلنا: إن شاء الأمير، فقال: كأنّه ماء سخّن لعليل فى قدح ثم استغنى عنه، فكان إلى أيّام مروان على حرارته ثمّ انتهى إلى أبى الجنوب وقد نقص حرّه، ثم انتهى إلى مروان وقد فتر، ثم انتهى إلى يحيى وقد تناقص فترة، ثم انتهى إلى أبى السمط وقد برد، ثم انتهى إلى محمود وقد ثخن لبرده، ثم انتهى إلى متوّج هذا وقد جمد وليس بعد الجمود شئ. وممّا يحكى أنّ بشّار بن برد الآتى ذكره فى تأريخه إن شاء الله تعالى دخل على عقبة بن مسلم بن قتيبة فأنشده مديحا وعنده عقبة بن رؤبة فأنشده أرجوزة ثم أقبل على بشّار فقال: هذا طراز لا تحسنه يا أبا معاذ! فقال بشّار: والله لأنا أرجز منك ومن أبيك! ثمّ غدا على عقبة بن مسلم من الغد فأنشده أرجوزة التى منها يقول: (1) يا طلل الحىّ بذات الضّمد … بالله خبر (2) كيف كنت بعدى منها: الحرّ يلحى (3) … والعصى للعبيد وليس للملحف مثل الردّ

(1) ديوان بشار بن برد 2/ 156،2 (2) خبر: حدث الديوان (3) يلحى: يوصى الديوان

وهى طويلة محشوّة غريب المعانى، فلمّا سمع ابن رؤبة ما فيها من الغريب (342) قال: أنا وأبى وجدّى فتحنا باب الغريب للناس وإنّى لخليق أن أنشده عليهم، فقال بشّار: ارحمهم يرحمك الله! فقال: أتستخفّ بى وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر؟ قال بشّار: أنت اذا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا فضحك كلّ من حضر. ولبشّار نوادر غريبة وأشعار عجيبة نذكرها إن شاء الله فى مكانها اللائق بها بمعونة الله وحسن توفيقه. وإلى هاهنا فى هذا الجزء حططنا حمول الكلام للتعريس، وأنخنا مطايا العيس، ووافق الفراغ منه اليوم المبارك الثالث والعشرين من شهر ذى الحجّة سنة اثنين وثلاثين وسبع مائة الهجريّة النبويّة على صاحبها فضل الصلوات وأزكى التحيات بخطّ يد واضعه ومصنّفه وجامعه ومؤلّفه أضعف عباد الله وأفقرهم إلى الله أبو بكر ابن عبد الله بن أبيك صاحب صرخد كان عرف الوالد بالدوادارى انتسابا لخدمة الأمير المذكور سيف الدين بلبان الرومى، الدوادار الظاهرى تغمّدهم الله برحمته وأسكنهم جنّته بمنّه وكرمه ورأفته. يتلو ذلك فى الجزء الثانى منه ما مثاله بعد التحميدة ذكر انقضاء مدّة العالم وابتدائه ويتلو ذلك بذكر خلق آدم عليه السلام، ومنه نستفتح الكلام والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه أجمعين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

مصادر التحقيق

مصادر التحقيق أخبار الزمان-أخبار الزمان ومن أباده الحدثان، منسوب إلى المسعودى، تحقيق عبد الله الصاوى، القاهرة 1357/ 1938. أخبار الشعراء-كتاب الأوراق، قسم أخبار الشعراء للصولى، تحقيق هيورث دن، القاهرة 1934. أدب الكاتب-أدب الكاتب لابن قتيبة، تحقيق محيى الدين عبد الحميد، القاهرة دون تأريخ. الأدكياء-كتاب الأذكياء لأبى الفرج بن الجوزى، دمشق 1391. إرشاد الأريب-إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب لياقوت بن عبد الله الرومى، 1 - 7، تحقيق، D .S .Margoliouth ليدن لندن 1907 - 1927. الأزمنة-الأزمنة والأمكنة للمرزوقى،1 - 2، حيدر آباد 1332. أسرار البلاغة-أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجانى، تحقيق، H .Ritter استنبول 1954. الأشباه-الأشباه والنظائر للخالديّين،1 - 2، تحقيق السيد محمّد يوسف، القاهرة 1958 - 1965. الأغانى-كتاب الأغانى لأبى الفرج الإصبهانى،1 - 20، بولاق 1285. ألف ليلة-ألف ليلة وليلة،1 - 2، بولاق 1252. الأمالى-الأمالى للقالى،1 - 2،3 - ذيل الأمالى، بولاق 1344/ 1926. الأنواء-الأنواء لابن قتيبة، تحقيق، CH .Pellat حيدر آباد 1375/ 1956. الإيجاز-الإيجاز والإعجاز للثعالبى، فى: خمس رسائل،2 - 100.

البيان والتبيين-البيان والتبيين للجاحظ،1 - 4، تحقيق عبد السلام محمّد هارون، القاهرة 1367 - 1370/ 1948 - 1950. تاج العروس-تاج العروس لمحمّد مرتضى الزبيدى،1 - 10، القاهرة 1306 - 1307. تأريخ بغداد-تأريخ بغداد للخطيب البغدادى،1 - 14، القاهرة 193. تأريخ الطبرى-تأريخ الرسل والملك الطبرى،1 - 15، تحقيق de Goeje وألح، ليدن 1879 - 1901. تأريخ مدينة دمشق-تأريخ مدينة دمشق لابن عساكر،1 - 2، تحقيق صلاح الدين المنجد، دمشق 1371 - 1373/ 1951 - 1955. التبصرة-كتاب التبصرة لأبى الفرج بن الجوزى،1 - 2، تحقيق مصطفى عبد الواحد، القاهرة 1390/ 1970. تحفة الوزراء-تحفة الوزراء للثعالبى، تحقيق، B .Heinecke بيروت 1975. التشبيهات-التشبيهات لابن أبى عون، تحقيق عبد المعيد خان، (GMNSXVIIl) لندن 1950. التشبيهات من أشعار أهل الأندلس للكتّانى، تحقيق إحسان عبّاس، بيروت 1966. تفسير ابن كثير-تفسير القرآن العظيم لابن كثير،1 - 7، بيروت 1978. تفسير مجاهد-تفسير مجاهد،1 - 2، بيروت دون تأريخ. تقويم-البلدان-تقويم البلدان لأبى الفداء، تحقيق، M .G .De Slane باريس 1840.

تهذيب ابن عساكر-تهذيب تأريخ ابن عساكر بعناية عبد القادر بن بدران، 1 - 7، دمشق 1329 - 1351/ 1911 - 1932. التيجان-كتاب التيجان فى ملوك حمير لعبد الملك بن هشام، حيدر آباد 1347. ثمار القلوب-ثمار القلوب فى المضاف والمنسوب للثعالبى، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1384/ 1965. جامع البيان-جامع البيان فى تفسير القرآن للطبرى،1 - 30، القاهرة 1321. الجامع لأحكام القرآن-الجامع لأحكام القرآن للقرطبى،1 - 20، القاهرة 1354 - 1369/ 1935 - 1950. الجماهر-الجماهر فى معرفة الجواهر للبيرونى، حيدر آباد 1355. جوهر الكنز-جوهر الكنز لنجم الدين بن الأثير، تحقيق محمّد زغلول سلام، الإسكندريّة. حسن المحاضر-حسن المحاضرة فى تأريخ مصر والقاهرة للسيوطى، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1387/ 1967. حلبة-حلبة الكميت للنواجى، القاهرة 1276. الحماسة الشجرية-حماسة ابن الشجرى، حيدر آباد 1949/ 1 - 2، تحقيق عبد معين الملوحى وأسماء الحمصى، دمشق 1970. حماسة الظرفاء-حماسة الظرفاء من أشعار المحدثين والقدماء لأبى محمّد عبد الله بن محمّد لعبد لكانى،1 - 2، تحقيق محمّد جبّار المعيبد (سلسلة كتب التراب 27،66) بغداد 1973 - 1978.

حياة الناشئ-الناشئ الأكبر، حياته وشعره، فى: مجلّة كلّية التربية، جامعة البصرة 1/ 1979،73 - 164، تحقيق مزهر السودانى. الحيوان-الحيوان للجاحظ،1 - 7، تحقيق عبد السلام محمّد هارون، القاهرة 1938 - 1945. خاصّ الخاصّ-خاصّ الخاصّ للثعالبى، تحقيق حسن الأمين، بيروت 1966. خريدة القصر-خريدة القصر وجريدة العصر للعماد الإصبهانى الكاتب، قسم شعراء الشأم،1 - 3، تحقيق شكرى فيصل، دمشق 1955 - 1964. خطط المقريزى-كتاب المواعظ والاعتبار فى ذكر الخطط والآثار، تحقيق. G .Wiet,in :MIFAO 03,33,64,94,35. درر التيجان-درر التيجان وغرر تواريخ الأزمان لابن الدوادارى، مخطوطة آل دمد إبراهيم باشا 913 دمية القصر-دمية القصر وعصرة أهل العصر لأبى الحسن الباخرزى،1، تحقيق سامى مكى العانى، بغداد 1391/ 1971. ديوان الأخطل-شعر الأخطل،1 - 2، تحقيق فخر الدين قباوة،1 - 2، حلب 1390/ 1970. ديوان امرؤ القيس-ديوان امرؤ القيس، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، (ذخائر العرب 24)، القاهرة 1964. ديوان أبى الصلت-ديوان الحكيم أبى الصلت أميّة بن عبد العزيز الدانى، تحقيق محمّد الرزوقى، تونس 1979. ديوان البحترى-ديوان البحترى،1 - 5، تحقيق حسن كامل الصيرفى، القاهرة 1972 - 1978.

ديوان بشّار بن برد-ديوان بشّار بن برد،1 - 4، تحقيق محمّد الطاهر بن عاشور، تونس 1976. ديوان تابّط شرّا-ديوان تأبّط شرّا، تحقيق سلمان داود القرغولى وجبّار تعبار جاشم، نجف 1393/ 1973. ديوان أبى تمّام-ديوان أبى تمّام بشرح الخطيب التبريزى،1 - 4، تحقيق محمّد عبده عزام (ذخائر العرب 5)، القاهرة 1951 وما بعدها. ديوان تميم بن المعزّ-ديوان تميم بن المعزّ لدين الله الفاطمى، القاهرة 1377/ 1157. ديوان الثعالبى-ديوان أبى منصور الثعالبى، فى: المورد 6،1977. ديوان جرير-ديوان جرير، تحقيق محمّد إسماعيل عبد الله الصاوى، بيروت 1353. ديوان جميل-ديوان جميل بثينة، تحقيق حسين نصّار، القاهرة 1967. ديوان حسّان بن ثابت-ديوان حسّان بن ثابت، تحقيق وليد عرفات، (GMNS 52) لندن 1971. ديوان ابن حمديس-ديوان ابن حمديس، تصليح إحسان عبّاس، بيروت 1960. ديوان حميد بن ثور-ديوان حميد بن ثور، تحقيق عبد العزيز الميمنى، القاهرة 1384/ 1965. ديوان الخالديّين-ديوان الخالديّين، تحقيق سامى الدعان، دمشق 1388/ 1969. ديوان ابن خفاجة-ديوان ابن خفاجة، تحقيق محمّد غازى، الإسكندريّة 1946.

ديوان ابن الخيّاط-ديوان بن الخيّاط، تحقيق خليل مردم بك، دمشق 1377/ 1958. ديوان ابن دريد-ديوان شعر الأمير أبى بكر بن دريد الأزدى، تحقيق محمّد بدر الدين العلوى، القاهرة 1365/ 1946. ديوان دعبل-شعر دعبل بن على الخزاعى، تحقيق عبد الكريم الأشتر، دمشق 1964. ديوان ديك الجنّ-ديوان ديك الجنّ، تحقيق أحمد مطلوب وعبد الله الجبورى، بيروت 1964. ديوان ذى الرمّة-ديوان ذى الرمّة وهو غيلان بن عقبة العدوى، تحقيق، C .H .Macartney كامبريج 1919/تحقيق عبد القدوس أبو صالح، دمشق 1392 - 1394/ 1972 - 1974. ديوان ابن رشيق-ديوان ابن رشيق القيروانى، تحقيق عبد الرحمن باغى، بيروت دون تأريخ. ديوان ابن الرومى-ديوان ابن الرومى،1 - 5، تحقيق حسين نصّار، القاهرة 1973 - 1979. ديوان ابن الزقاق-ديوان ابن الزقاق البلنسى، تحقيق عفيفة محمود ديرانى، بيروت 1964. ديوان ابن الساعاتى-ديوان ابن الساعاتى،1 - 2، تحقيق أنيس المقدسى، بيروت 1938. ديوان السرى الرفّاء-ديوان السرى الرفّاء، القاهرة 1355. ديوان ابن سناء الملك-ديوان ابن سناء الملك، تحقيق محمد عبد الحق، حيدر آباد 1377/ 1958.

ديوان ابن سهل-ديوان ابن سهل الأندلسى، بيروت 1387/ 1967، دار صادر. ديوان الشريف الرضى-ديوان الشريف الرضى الموسوى،1 - 2، بيروت 1961/ 1380، دار صادر. ديوان الصبابة-ديوان الصبابة لابن أبى حجلة، بهامش كتاب التزيين، القاهرة 1291. ديوان الصنوبرى-ديوان الصنوبرى، تحقيق إحسان عباس، بيروت 1970. ديوان ظافر الحداد-ديوان ظافر الحدّاد، تحقيق حسين نصّار، القاهرة 1979. ديوان العبّاس بن الأحنف-ديوان العباس بن الأحنف، تحقيق عاتكة الخزرجى، القاهرة 1373/ 1954. ديوان عبد الله بن طاهر-ديوان عبد الله بن طاهر، تحقيق قحطان عبد الستّار، فى: الخليج العربى 6/ 1979،25 - 54. ديوان أبى العتاهية-ديوان أبى العتاهية، تحقيق شكرى فيصل، دمشق 1384/ 1965. ديوان العرجى-ديوان العرجى، تحقيق خضر الطائى ورشيد العبيدى، بغداد 1956. ديوان عرقلة-ديوان عرقلة الكلبى، تحقيق أحمد الجندى، دمشق 1390/ 1970. ديوان العسكرى-ديوان أبى هلال العسكرى، تحقيق محسن فيّاض، بيروت 1975/تحقيق جورج قنلزى، دمشق 1980. ديوان على بن الجهم-ديوان على بن الجهم، تحقيق خليل مردم بك، دمشق 1369/ 1949

ديوان أبى الفتح البستى-ديوان أبى الفتح البستى، تحقيق محمّد مرسى الخولى، بيروت 1980. ديوان كشاجم-ديوان كشاجم، تحقيق خيرية محمّد محفوظ، بغداد 1390/ 1975. ديوان أبى فراس-ديوان أبى فراس الحمدانى،1 - 3، تحقيق سامى الدهّان، دمشق 1363/ 1944. ديوان مالك ومتمم-ديوان مالك ومتمم ابنا نويرة اليربوعى، تحقيق ابتسام مرهون الصفّار، بغداد 1968. ديوان المأمونى-قارن Epigramme des Abu Talib al-Ma muni,Gottingen 6691. Burgel :Die ekphrastischen : ديوان المتنبى-ديوان أبى الطيّب المتنبى بشرح الواحدى، تحقيق F .Dieterici ببرلين 1961. ديوان مسلم بن الوليد-شرح ديوان صريع الغوانى مسلم بن الوليد الأنصارى، تحقيق سامى الدهّان، القاهرة. ديوان المعانى-ديوان المعانى لأبى هلال العسكرى،1 - 2، القاهرة 1352. ديوان ابن المعتزّ-ديوان ابن المعتزّ،1 - 3، تحقيق يونس أحمد السامرّائى، بغداد 1977 وما بعدها. ديوان النابغة-ديوان النابغة الذبيانى، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم (ذخائر العرب 52)، القاهرة 1977. ديوان ابن النبيه-ديوان ابن النبيه، القاهرة. ديوان أبى نواس-ديوان أبى نواس، بيروت، دار صادر.

ديوان ابن هانئ-ديوان ابن هانئ الأندلسى، بيروت 1954، دار صادر. ديوان ابن وكيع-ديوان ابن وكيع التنّيسى، تحقيق حسين نصار، القاهرة. ديوان الوأواء-ديوان الوأواء الدمشقى، تحقيق سامى الدهّان، دمشق 1950. ربيع الأبرار-ربيع الأبرار الزمخشرى، تحقيق سليم النعيمى، بغداد 1976. رسالة الطيف-رسالة الطيف لبهاء الدين على بن الحسن الإربيلى، تحقيق عبد الله الجبورى، بغداد 1388/ 1968. روض الأخيار-روض الأخيار المنتخب من ربيع الأبرار، بولاق 1279. زهر الآداب-زهر الآداب وثمر الألباب للحصرى،1 - 2، تحقيق على محمّد البجاوى، القاهرة 1372/ 1953. الزهرة-كتاب الزهرة لأبى بكر داود الإصبهانى، تحقيق A .R .NykI وإبراهيم طوقان، شيكاغو 1932. الزيج-كتاب الزيج الصابى لمحمّد بن سنان بن جابر البتّانى، تحقيق، C .Nallino روما 1899. سرور النفس-سرور النفس بمدارك الحواس الخمس لابن منظور، تحقيق إحسان عباس، بيروت 1980. سمط اللآلى-سمط اللآلى فى شرح الأمالى لأبى عبيد البكرى،1 - 3، تحقيق عبد العزيز الميمنى، القاهرة 1935 - 1936. سنن الترمذى-سنن الترمذى وهو الجامع الصحيح لأبى عيسى الترمذى،1 - 5، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، المدينة 1384/ 1964.

السيرة النبوية-السيرة النبوية لابن هشام،1 - 4، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبيارى وعبد الحفيظ شلبى، القاهرة 1355/ 1936. شرح المقامات الحريريّة-شرح المقامات الحريريّة للشريشى،1 - 2، القاهرة 1314. شعر ربيعة-شعر ربيعة بن مقروم الضبّى، تحقيق نورى حمّودى القيسى، فى: مجلّة كلّيّة الآداب، بغداد 1968. شعر السلامى-شعر السلامى، تحقيق صبيح رديف، بغداد 1971. شعر زهير-شعر زهير بن أبى سلمى صنعة الأعلم الشنتمرى، تحقيق فخر الدين القباوة، حلب 1393/ 1973. شعر عبد الرحمان بن حسان-شعر عبد الرحمن بن حسان الأنصارى، تحقيق سامى مكّى العانى، بغداد 1971. شعر عبد الصمد-شعر عبد الصمد بن المعذل، تحقيق زهير غازى زاهد، نجف 1390/ 1970. الصحاح-تاج اللغة وصحاح العربيّة للجوهرى،1 - 6، تحقيق أحمد بن عبد الغفور عطّار، القاهرة 1376/ 1956. صحيح البخارى-صحيح البخارى بحاشية السندى،1 - 4، بيروت، دون تأريخ. صحيح مسلم-صحيح مسلم بن الحجّاج،1 - 8، القاهرة، دون تأريخ. صورة الأرض-كتاب صورة الأرض لابن حوقل النصيبى،1 - 2، تحقيق Kramers ليدن 1938 - 1939.

طراز المجالس-طراز المجالس لشهاب الدين الخفاجى، القاهرة 1937. عجائب المخلوقات-عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات،1 - 2، تحقيق جوتنجين. F .Wustenfeld ،1848 - 49 العصا-العصا لأسامة بن منقذ، تحقيق حسين عبّاس، الإسكندريّة 1398/ 1978. عنوان المرقصات-عنوان المرقصات والمطربات لابن سعيد، القاهرة 1286. عيون الأخبار-عيون الأخبار لابن قتيبة،1 - 4، القاهرة 1925 - 1930. غرائب التنبيهات-غرائب التنبيهات على عجائب التشبيهات، تحقيق محمّد زغلول سلام ومصطفى الصاوى الجوويرى، (ذخائر العرب 45)، القاهرة 1971. الفاضل-الفاضل فى صفة الأدب الكامل لأبى الطيّب الوشاء،1 - 2، تحقيق يوسف يعقوب مسكونى، بغداد 1972 - 1976. الفرق بين الفرق-الفرق بين الفرق لعبد القاهر البغدادى، تحقيق محمّد محيى الدين عبد الحميد، القاهرة، دون تأريخ. فوات الوفيات-فوات الوفيات للكتبى،1 - 5، تحقيق إحسان عبّاس، بيروت 1973 - 1975. فيض القدير-فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوى،1 - 6، القاهرة 1356 - 1357/ 1938. قصص الأنبياء-قصص الأنبياء للثعلبى، القاهرة، دون تأريخ. قطب السرور-قطب السرور للرقيق القيروانى، تحقيق أحمد الجندى، دمشق 1969.

قوائد الشعر-قوائد الشعر لثعلب، تحقيق رمضان عبد الوهّاب، القاهرة 1966. الكامل (ابن الأثير) -الكامل لعزّ الدين محمّد بن الأثير،1 - 13، بيروت 1965 - 1967، دار صادر. الكامل (مبرّد) -الكامل المبرّد،1 - 2، تحقيق، W Wright ليبزيغ 1864 - 1892. كنز الدرر-كنز الدرر وجامع الغرر لابن الدوادارى،6 - 9، تحقيق صلاح الدين المنجّد وألخ، القاهرة 1960 وما بعدها. اللآلئ المصنوعة-اللآلئ المصنوعة فى الأحاديث الموضوعة،1 - 2، القاهرة، دون تأريخ. لسان العرب-لسان العرب لابن منظور الإفريقى،1 - 20، بولاق 1300 - 1308. لطائف المعارف-لطائف المعارف للثعالبى، تحقيق إبراهيم الإبيارى وحسن كامل الصيرفى، القاهرة 1960. محاضرات الأدباء-محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء للراغب الإصبهانى،1 - 2، القاهرة 1287. مختار شعر بشار-المختار من شعر بشار للتجيبى، تحقيق محمّد بدر الدين العلوى، عليكره-القاهرة 1934. مختصر كتاب البلدان-مختصر كتاب البلدان لابن فقيه، تحقيق De Goeje ليدن 1885.

مرآة الزمان-مرآة الزمان فى تأريخ الأعيان لسبط بن الجوزى، مخطوطة أحمد الثالث 2907. مروج الذهب-مروج الذهب المسعودى،1 - 7، تحقيق، CH .Pellat بيروت 1965 - 1979. المسالك والممالك لابن خرداذبه، تحقيق، de Goeje ليدن 1889. المستطرف-المستطرف فى كلّ فنّ مستظرف للإبشيهى،1 - 2، القاهرة 1371/ 1952. مسند أحمد بن حنبل-مسند أحمد بن حنبل،1 - 6، بيروت، دار صادر. مسند الحميدى-مسند الحميدى،1 - 2، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمى، بيروت-القاهرة، دون تأريخ. المشترك وضعا-المشترك وضعا والمفترق صقعا لياقوت الرومى، تحقيق F .Wustenfeld جوتنكن 1846. المصون-المصون فى الأدب لأبى أحمد العسكرى، تحقيق عبد السلام محمد هارون (التراث العربى 3)، الكويت 1960. مطالع البدور-مطالع البدور فى منازل السرور للغزولى،1 - 2، القاهرة 1299. مطلع الفوائد-مطلع الفوائد ومجمع الفوائد، تحقيق عمر موسى باشا، دمشق 1972. معجم البلدان-معجم البلدان لياقوت الرومى،1 - 6، تحقيق، F .Wustenfeld ليبزيغ 1866 - 1870.

معجم ما استعجم-معجم ما استعجم لأبى عبيد البكرى،1 - 4، تحقيق مصطفى السقا، القاهرة 1364 - 1371/ 1945 - 1951. المعجم المفهرس-المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوى،1 - 7، ليدن 1936 وما بعدها. المعرّب-المعرب لابن الجواليقى، تحقيق أحمد محمد شاكر، القاهرة 1389/ 1969. معاهد التنصيص-معاهد التنصيص للعبّاسى،1 - 2، القاهرة 1316. مقامات الحريرى-كتاب المقامات للحريرى،1 - 2، تحقيق Silvestre de Sacy باريس 1847. من غاب-من غاب عنه المطرب للثعالبى، بيروت 1309. نحفة اليمن-نحفة اليمن للشروانى، القاهرة 1356. نفح الطيب-نفح الطيب للمقرّى، القاهرة 1369. النقائض-نقائض جرير والفرزدق،1 - 3، تحقيق، A .A .Bevan ليدن 1905 - 1909. نهاية الأرب-نهاية الأرب فى فنون الأدب للنويرى،1 - 21، القاهرة 1342 - 1396/ 1923 - 1976. النهاية فى غريب الحديث-النهاية فى غريب الحديث لمجد الدين ابن الأثير، 1 - 4، القاهرة 1322. نوادر المخطوطات-نوادر المخطوطات،1 - 2، تحقيق عبد السلام محمّد هارون، القاهرة 1370 - 1374/ 1951 - 1955.

الوافى بالوفيات-الوافى بالوفيات للصفدى،1 - 9،10،12،15، تحقيق H .Ritter وألخ، استنبول/دمشق/فيسبادن 1931 - 1980. الورقة-كتاب الورقة لابن الجرّاح، تحقيق عبد الوهّاب عظام وعبد الستّار أحمد فراج، (ذخائر العرب 9)، القاهرة 1953. وفيات الأعيان-وفيات الأعيان لابن خلكان،1 - 8، تحقيق إحسان عبّاس، بيروت 1972. يتيمة الدهر-يتيمة الدهر فى محاسن أهل العصر للثعالبى،1 - 4، دمشق 1885/ 1 - 4، تحقيق محمّد محيى الدين عبد الجميد، القاهرة 1956.

تصويبات ومستدركات

تصويبات ومستدركات ص \س \الخطأ\الصواب 27\ 12\قرست \قرشت 32\ (1 - 2) \المجاهد\مجاهد 46\ 2\يجولها\يحولها 49\ 14\ (16) \ (14) 49\ 15\ (17) البهيج \ (15) البهج 52\ (7 - 10) \قارن الأعلاق النفيسة لابن رسته 5،17\ (تحقيق ليدن 1891) 52\ (9) \مع: فى الأعلاق النفيسة\ 57\ 21\عرس \عرش 58\ 1\فيطورس \قنطورس 58\ 5\فيطورس \قنطورس 62\ 11\كبا\كعبا 64\ 1\قسر\فسر 68 - 72\العنوان \المقربين. . . \المقربون. . . 72\ 9\ (8 - 9) \ (9) 76\ 2\راتفع \ارتفع 78\ 14\خيل! \خيل؟ 80\ 13\على \عن

ص \س \الخطأ\الصواب 81\ 16\الأرض \الأرضين 88\ 19\يتر ماه \تير ماه 101\ 11\الفقحاق \القفحاق 105\ 10\بنوافحها\بنوافجها 112\ (15) \دمشق 11\دمشق 1/ 11 115\ 7\لحديث \الحديث 124\ 15\الهيثم: \الهيثم 127\ 12\وقد وقد\وقد 127\ 18\الإسكندرية\الإسكندر 130\ 2\بسيط\البسيط 136\ 2\نزله. \نزله 141\ (15) \ولست \وليست، كتاب الزهرة 147\ 17\وقيه فرود\وفيه قرود 147\ (9) \الان \الان: 148\ 19\للكهم \لملكهم 164\ 17\الكشك \اللشك 171\ 6\الريع \السريع 178\ 9\والسمور\السمور 179\ 9\اقريطس، اقريطسى \إقريطش، اقريطشى 181\ 7\أشرين \أشرس

ص \س \الخطأ\الصواب 192\ 20\المعرف \المغرق 194\ 15\كالطيطورى \كالطيطوى 204\ 8\بحير قامية\بحيرة فامية 206\العنوان \العرافى \العراق 206\ (5) و (9) \مارندى \بازبدى مروج الذهب 1/ 122 مادة 239 206\ 5\ (3) \ (5) و (9) 207\ 9\جفر\حفر 221\العنوان \الجباس \ابن الجباس 221\ 4\الجباس \ابن الجباس 224\ 15 و 19\بهوّ، البهوّ\بهو، البهو 230\ 2\الجن \الحن 231\ 9\والإنس ثمانية\ملغى! من الجنّ 248\ 4\ثير، مسيوط، \ثبر، مسوط \\زلبنور\زلبنور 282\ (17 - 18) \جهم \الجهم 283\ 12\ (12) للسقلى: للصقلى \ 283\ (13 - 14) \بن أبى الصلط\بن عبد العزير

ص \س \الخطأ\الصواب 284\ (12 - 13) \ديوان ظافر الحداد 267، -2، رقم 220؛ \ وفيات الأعيان 1/ 470؛5/ 228 (منسوب إلى تميم بن المعز 284\ 13\عليه \كذا، ناقص فى الديوان 288\ 13\ (3) \ (13) 290\ (11 - 12) \ابن أبى حجلة: كتاب سكردان السلطان \ 465؛ -11 (منسوب إلى الحسين بن الفضفاض) 295\ (4) \ابن أبى حجلة: كتاب سكردان السلطان \ 466؛4 (منسوب إلى شهاب الدين بن جلنك) 295\ (18 - 19) \نابغة\النابغة 313\ 13\ (10 - 11) \ (13 - 15) 315\ 12\قطربه \قطريه 321\ (8 - 9) \ديوان ابن الوكيع 56، رقم 24\ 327\ 11\ (11) للسقلى: للصقلى \ 330\ 1\عن \من 337\ 4\بممجوعه \بمجموعه 344\ 6\البسط\البسيط 351\ (11 - 15) \شعر ابن طبا طبا، رقم 11،1 - 3،8؛ تحقيق \ جابر الخاقانى، بغداد 1975 353\ (2 - 3) \الصلط\الصلت

ص \س \الخطأ\الصواب 356\ (2) \وكذا\كذا 367\ (8 - 9) \قلائد العقيان للفتح بن خاقان 329،8 (منسوب \ إلى أبى القاسم بن العطار)؛ طبع تونس 1966 379\ 11\وقوله: \وقوله 396\ (2) \وكذا\كذا رقم الإبداع بدار الكتب 1575/ 1982 32/ 1)

2 - الدرة اليتيمة، في أخبار الأمم القديمة

تصدير [لادوارد بدين] أودّ أن أبدأ هذا التصدير بالتعبير عن شكري الجزيل للأستاذ هانس روبرت رومر، رئيس اتّحاد المستشرقين الألمان سابقا ومؤسّس المعهد الألمانيّ للأبحاث الشرقيّة في بيروت الذي أوكل إليّ تحقيق «الدّرّة اليتيمة في أخبار الأمم القديمة» وهو الجزء الثاني من كتاب «كنز الدّرر وجامع الغرر» لابن الدواداريّ المتوفّى بعد سنة 736 هـ‍/1336 م، مقدّما لي كلّ مساعدة ضروريّة لإنجاز هذا العمل. ولا بدّ لي هنا أن أنوّه بأنّ الأستاذ رومر لم يأل جهدا في سعيه إلى تحقيق تعاون علميّ فعّال بين البحّاثة العرب وزملائهم الألمان في دراسات علميّة مثمرة لا تتأثّر بالتقلّبات السياسيّة. ويجدر القول هنا بأنّها لم تكن محض صدفة أن أوكل تحقيق الجزء السادس من هذا الكتاب إلى الأستاذ صلاح الدين المنجّد (1961)، والجزء السابع إلى الأستاذ سعيد عبد الفتّاح عاشور (1972) والجزء الثالث إلى الأستاذ محمّد السعيد جمال الدين (1981)، والجزء الثاني هذا إليّ، وقام الأستاذ رومر نفسه بتحقيق الجزء التاسع (1960)، وأوكل تحقيق الجزء الثامن للأستاذ هارمان (1971)، والجزء الأوّل للأستاذ راتكه (1982)، والجزء الخامس للأستاذة كرافولسكي (1992)، وللأستاذة غلاسن الجزء الرابع الذي أكملت تحقيقه الأستاذة غراف، وهو الآن تحت الطبع (1994). وفي هذا المجال أتقدّم بشكري وامتناني للأستاذ الصديق ألريش هارمان الذي لفت نظري لبعض فصول كتاب «أنوار علويّ الأجرام في الكشف عن أسرار الأهرام» للإدريسيّ والكتابي «طبقات الأمم» للقاضي صاعد و «الاستبصار في عجائب الأمصار» لمؤلّف مجهول، وذلك لمقارنتها ببعض ما ورد في «الدّرّة اليتيمة». وبالإضافة إلى ذلك قام بقراءة المقدمّة الألمانيّة مبديا ملاحظات قيّمة تبنّيتها بامتنان.

وأمّا صديقي الأستاذ بيرند راتكه فقد أرسل لي الصورة المتوفّرة لديه لجزء كبير من مخطوطة «كتاب الإنباء بأنباء الأنبياء» لأبي عبد الله محمّد بن سلامة القضاعي (مخطوط برلين 9433) وبعض صفحات الجزء الأوّل من تاريخ عبد الرحمن ابن الجوزيّ، فله منّي جزيل الشكر. وقامت الصديقة غودرون شوبيرت في إحدى رحلاتها إلى إستانبول باصطحاب قائمة ببعض المواقع الغير مقروءة في مصوّرة المخطوطة، فقامت بمعاينة الأصل ونسخت ما أمكنها قراءته، فلها منّي جزيل الشكر. وقامت الصديقة الدكتورة ريناته فورش بمساهمة قيّمة في تنقيح المقدّمة الألمانيّة بأناة وصبر منقطعي النظير، فلها منّي فائق الشكر والعرفان. كما وأشكر كلاّ من السيّدتين هيلين حمد وسيغريد أيادي اللتين قامتا بإعادة رقن مسوّدة المقدّمة الألمانيّة على الحاسوب. وكذلك أشكر أستاذي فريتس ماير الذي قرأ نصّ المقدّمة الألمانيّة بأناة مبديا ملاحظاته القيّمة، فله منّي جزيل الشكر. وقام الأستاذ غيور غ شولر أيضا بقراءة النصّ الألمانيّ فله شكري وتقديري. أمّا الأستاذة إيريكا غلاسن، مديرة المعهد الألمانيّ للأبحاث الشرقيّة في بيروت، فإنّي أشكر لها جميع ما اتّخذته من تدابير لتسهيل إقامتي في بيروت وإتاحة جوّ ملائم للعمل في مكتبة المعهد أثناء الإشراف على طباعه هذا الكتاب. كما وأقدّم جزيل شكري إلى جميع العالمين في المعهد هناك، وأخصّ بالذكر صديقي الأستاذ محمّد الحجيريّ والدكتورة إستر بيسكس والدكتور مارتينيانو رونكاليا والصديق سمير أبو الحسن، لما قدّموه لي من عون أثناء إقامتي في بيروت، كلّ في مجاله. كما وأشكر الأستاذ راينر شتادلمان، مدير المعهد الألمانيّ للآثار بالقاهرة الذي وقّع معي عقدا شخصيّا للعمل وذلك لتذليل العقبات البيروقراطيّة التي طرأت فجأة وكان هو السبب في الخروج منها. وأشكر له أيضا موافقته على أن يقوم المعهد الألمانيّ للآثار بالقاهرة بتحمل تكاليف طباعة هذا الكتاب.

ولولا الاهتمام البالغ من قبل إدارة «المؤسّسة الجامعيّة» (مجد) وموظّفيها وإخلاصهم ودقّتهم في العمل لما أمكن إنجاز طباعة هذا الكتاب وإصداره بهذا الرونق، فلهم منّي جميعا خالص تقديري وجزيل شكري. وأخيرا وليس آخرا، أتقدّم بامتناني وشكري إلى الجمعيّة الألمانيّة للأبحاث التي قامت بتمويل هذا المشروع، ولولا دعهما المادّيّ المتواصل لما تمكنّا من إنجازه. إدوارد بدين بيروت في 1 نيسان/أبريل 1994

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات تصدير أ فهرس الموضوعات د نزر فما ورد في المقدّمة الألمانيّة م مقدّمة المصنّف 5 ذكر انقضاء مدّة العالم وابتدائه واختلاف العلماء في ذلك 8 ذكر ما لخّص من مقامه لابن الجوزيّ، رحمه الله، وهي الباينة ممّا يتعلّق بذكر آدم، عليه السلام 16 نستفتح الكلام بذكر آدم، عليه السلام 20 فصل: في إعلام الله تعالى الملائكة بخلقه 22 فصل: في الخليفة 24 فصل: في قوله تعالى: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها} الآية 25 فصل: في قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ} 27 ذكر خلق آدم، عليه السلام 27 فصل: في تعليمه الأسماء كلّها 36 فصل: في سجود الملائكة، عليهم السلام 37 فصل: في قوله تعالى: {إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى وَاِسْتَكْبَرَ} 39 فصل: ذكر حوّاء، عليها السلام 41 فصل: في مقام آدم في الجنّة 43 فصل: ذكر الشجرة المنهيّ عنها 44

فصل: في احتيال إبليس على دخول الجنّة 45 فصل: قوله تعالى: {وَقُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} الآية 52 فصل: في ذكر المكان الذي أهبطوا إليه 53 فصل: فيما تجدّد لآدم بعد هبوطه من الجوار 55 فصل: فيما نزل مع آدم من الجنّة 58 ذكر قابيل بن آدم وما كان من أمره بعد أن قتل أخاه هابيل 63 ذكر شيث بن آدم، صلوات الله عليهما، وعدد الكتب والصحف التي أنزلت عليه 63 ذكر أنوش بن شيث بن آدم، عليه السلام 65 ذكر قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، عليه السلام 65 ذكر برد بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، عليه السلام 66 ذكر أخنوخ، وهو إدريس النبيّ، صلوات الله عليه وسلّم (كذا) 66 ذكر متوشلح بن إدريس، عليه السلام 69 ذكر لامك، أبو نوح، عليه السلام 70 ذكر نوح، عليه السلام، وقصّته مع قومه 71 ذكر أولاد نوح، عليه السلام، وهم سام وحام ويافث وما ولد كلّ إنسان من الأمم 78 ذكر كنعان بن حام وأولاده وشعوبه والفراعنة منهم 80 ذكر ملوك مصر من ولد حام، رواية المسعوديّ 81 ذكر أولاد يافث بن نوح، عليه السلام، وقبائلهم وشعوبهم وأخبارهم 82 ذكر يأجوج ومأجوج 83 ذكر السدّ الذي سدّه ذو القرنين على يأجوج ومأجوج 83 <ذكر الصقالبة> 90

ذكر اليونانيون الأوّلون (كذا) من ولد يافث بن نوح، عليه السلام 91 <ذكر مملكة الروم> 92 ذكر ملوك الصين من ولد يافث 94 <ذكر الإفرنج> 95 <ذكر مملكة الأندلس> 95 <ذكر مملكة الترك> 97 <ذكر مملكة خراسان> 98 ذكر أولاد سام بن نوح، عليه السلام 99 ذكر تفرّق الطوائف من الناس بعد الطوفان 101 <ذكر عاد> 102 ذكر الكهّان القديمة (كذا) بمصر من قبل الطوفان 102 ذكر قومة الكاهنة وما صنعت من العجائب في وقتها 107 ذكر الأهرام وأوّل بناها (كذا) والسبب في ذلك وما فيها من العجائب 109 ذكر ملوك من ولد سوريد واتّصال بعضهم ببعض إلى آخر وقت 120 ذكر الكهّان من بعد الطوفان إلى حين خراب مصر 125 ذكر ملوك مصر بعد الطوفان من وجه آخر 130 ذكر الوليد بن دومغ، أوّل الفراعنة بمصر 177 أخبار الوليد بن دومغ 183 <ذكر نهراوس> 188 <ذكر دريوش> 197 <ذكر مقاريوس> 200 <ذكر أقسامين> 202 <ذكر ظلما بن فرموس> 203

ولنبتدئ بذكر بقيّة الأنبياء، صلوات الله عليهم، بعد نوح، عليه السلام 206 ذكر هود، عليه السلام 207 ذكر صالح، عليه السلام 209 ذكر إبراهيم الخليل، صلوات الله عليه 210 ذكر لوط، عليه السلام 216 ذكر إسماعيل، عليه السلام 217 ذكر يعقوب، عليه السلام 218 ذكر يوسف، عليه السلام 219 ذكر أيّوب، عليه السلام 225 ذكر شعيب 226 ذكر الخضر، عليه السلام 226 ذكر موسى وهارون، عليهما السلام 227 ذكر أشمويل، عليه السلام، وداود، عليه السلام (كذا) 239 ذكر سليمان بن داود، عليه السلام 241 <وملك بعده ابنه رحبعم> 243 ذكر أخبار آل داود 244 ذكر يونس بن متّا (كذا)، عليه السلام 248 ذكر زكريّا، عليه السلام 248 ذكر عيسى ابن مريم، صلوات الله عليه 250 ذكر أهل القرية 254 ذكر ذو (كذا) الكفل 255 <ذكر لقمان الحكيم> 255 <ذكر> أصحاب الرسّ 256

<ذكر أصحاب الأخدود> 256 <ذكر أصحاب الكهف> 257 ذكر سائر ملوك الأرض وأسماهم (كذا) ومدد تملّكهم إلى آخر وقت 258 ذكر الطبقة الأولى لملوك الفرس 259 ذكر الطبقة الثانية من ملوك الفرس وهم الكيسانيّة 263 ملحق من الأصل 267 ذكر الطبقة الثالثة من ملوك الفرس 268 ذكر ملوك الطبقة الرابعة، الساسانيّة 273 ذكر نبذ من أخبارهم 276 <ذكر الخبر الأوّل عن بهرام جور> 299 ذكر الخبر الثاني عن بهرام جور 303 <ذكر شابور ذي الأكتاف> 311 ذكر ملوك البطالسة، وهم اليونانيّون 317 ذكر ملوك رومية، وهم المعروفون بالقياصرة 320 ذكر ملوك القسطنطينيّة، بحكم الاختلاف 324 ذكر من ملك مصر من ملوك بعدما غرّق الله تعالى فرعون 328 ذكر بخت نصّر وسنة دخوله مصر وسبي بني إسرائيل 334 ذكر سبب انكشاف فارس عن الروم 340 ذكر ملوك العرب وأصولها وفروعها وبطونها 343 ذكر ملوك الخميّين، وهم ملوك الحيرة، عرب العراق 343 ذكر ملوك العرب من آل جفنة 350 ذكر التبابعة من حمير، ملوك اليمن 353 ذكر ملوك كندة بحكم التلخيص 364

ذكر كليب ومهلهل ابنا (كذا) ربيعة، وهو (كذا) حرب البسوس المذكور (كذا) 365 ذكر حرب عبس وبنو (كذا) عامر والسبب في ذلك 385 هذا ذكر حرب داحس والغبراء المشهور من أيّام حروب العرب 395 ذكر حاتم الطائيّ ونبذ من أخباره 419 ذكر أيضا (كذا) حاتم من وجه آخر 435 ذكر عنترة العبسيّ من وجه آخر 437 ذكر عروة بن الورد، جاهليّ 439 ذكر دريد بن الصمّة والخنساء بنت عمر (كذا) بن الشريد السلميّ 449 ذكر ذو (كذا) الإصبع العدوانيّ، جاهليّ 453 ذكر تأبّط شرّا وطرفا (كذا) من خبره 458 ذكر الفحول من شعراء الجاهليّة ولمعا (كذا) من شعرهم 460 ذكر امرء (كذا) القيس بن حجر 461 ذكر النابغة الذبيانيّ ولمعا (كذا) من أخباره وأشعاره 465 ذكر زهير بن أبي سلمى وطرفا (كذا) من شعره 477 ذكر طرفة بن العبد، جاهليّ 482 ذكر علقمة بن عبدة الفحل، جاهليّ 484 ذكر الملتمّس وبعض أخباره وطرف من أشعاره، جاهليّ 486 ذكر الأعشى، جاهليّ 488 ذكر عبيد بن الأبرص، جاهليّ 495 ذكر لبيد بن ربيعة وطرف من أخباره 499 ذكر عمرو بن كلثوم، جاهليّ 505 ذكر المرقّشان (كذا): الأكبر والأصغر، جاهليّين 507

ذكر الأسود بن يعفر الدارميّ، جاهليّ 508 <ذكر عمرو بن قميئة> 511 ذكر أبو (كذا) دؤاد الإياديّ، جاهليّ 512 ذكر عديّ بن زيد 513 ذكر الأفوه الأوديّ، جاهليّ 517 ذكر أبو (كذا) كبير الهذليّ، جاهليّ 519 ذكر من تلا هؤلاء من المبشّرين بظهور سيّد المرسلين 520 ذكر زيد بن عمرو بن نفيل، جاهليّ، وفيه حديث 520 <ذكر مدرج الريح، عامر المجنون الجرميّ> 534 <ذكر سعية بن غريض> 525 ذكر أبو (كذا) الصلت، جاهليّ 527 ذكر ورقة بن نوفل، جاهليّ، وفيه حديث 529 ذكر ما ألخّص من كهّان العرب في الجاهليّة 531 ذكر عدد الأنبياء والمرسلين والكتب المنزلة عليهم، صلوات الله عليهم أجمعين 534 ذكر التواريخ من لدن آدم، عليه السلام، إلى آخر وقت 535 ملحق 539 سرد المصادر والمراجع 543 فهرس الفهارس 559

نزر مما ورد في المقدمة الألمانية حول ما غير في كتابة بعض الكلمات

نزر ممّا ورد في المقدّمة الألمانيّة حول ما غيّر في كتابة بعض الكلمات من معالم كتابة ابن الدواداريّ الفوضى في كتابة الهمزة والمدّة والألفين: المقصورة والممدودة، واسم العدد، وأحيانا الضاد بدل الظاء أو العكس، والدال بدل الذال غالبا، والتنقيط الناقص أو الخاطئ، وكتابة بعض الكلمات بشكلين: أحدهما صحيح والآخر غلط، والأغلاط الإملائيّة أو النحويّة كرفع المنصوب أو المجرور أو العكس. أمّا بالنسبة لاسم العدد فلقد آثرت أن أبقي على معظم الأخطاء فيه كما هي، أو الرسم المختلف- مثل: «سبعميّة» و «سبعمائة» و «سبع مائة» (كنز 2،8/ 3،9/ 1،31/ 3، 16) -مع الإشارة إلى بعضها فقط في الهوامش، وخصوصا عندما يكون الأصل الذي ينقل عنه ابن الدواداريّ صحيحا. وكذلك أبقيت على الأخطاء النحويّة في النصّ وأشرت إلى صحيحها في الهامش اللهمّ إلا إذا كان ذلك معيقا للفهم فحينئذ أذكر الصحيح في النصّ وأشير إلى الأصل في الحاشية. وإليكم فيما يلي قائمة ببعض الكلمات التي صحّح رسمها أو غيّر إلى رسم معاصر دون أن يشار إلى ذلك في الهامش: ورد في المخطوطة التغيير بدو (69/ 14) بدء ناووسه (99/ 18) ناؤوسه هولاى (59/ 2) هولآى (99/ 3) هؤلاء باللولو (69/-1) باللؤلؤ

مملوه (68/ 11) مملوءة انشا الله (69/ 14) إن شاء الله السلم (72/ 9) السلام معوية (68/ 12) معاوية الفرا (31/ 2) الفرّاء عدرا (119/ 10) عذراء الراى (79/ 11) الرائي جآها (75/ 13) جاءها مآوه (96/ 11) ماؤه والآشياء (25/-6) والأشياء مآء (94/ 1) ماء الاسمآ (25/-6)، الآسما (25/-2) الأسماء السمآ (99/ 4) السماء مرآأة (93/ 5)، مرآاه (119/ 2) مرآة ليلآ (24/ 6) لئلاّ جزءوا (96/ 13) جزءا ملوفى (99/-2) فكوفئ المدلى (96/ 4) المدائن الراسه (69/ 16) الرئاسة الرق (92/ 12) الزئبق ادم (24/-5) آدم وفي حال ورود اسم ما بأكثر من صيغة اخترنا الصيغة الصحيحة منها وتجاهلنا الصّيغ الخاطئة دون الإشارة إلى ذلك في الهامش. أمّا الأسماء

أسلوب الكتاب

التي تكتب بحذف الألف منها مثل: إسمعيل، فقد كتبناها جميعا بالألف (إسماعيل) ما عدا «عبد الرحمن». أسلوب الكتاب يضمّ الكتاب بين دفّتيه أساليب مختلفة، تعكس أساليب الكتب التي أخذ عنها المصنّف. فهنالك الأسلوب الرزين على نمط كتب الحديث، حيث تتعدّد أسماء الرواة والكتب المقتبسة في النصّ، وخير ما يمثّل هذا الأسلوب كتاب «مرآة الزمان» لسبط ابن الجوزيّ. وهناك أسلوب يتّسم بالاختصار الشديد يتلوه شيء من التوسّع، وهو هنا أسلوب حمزة الإصفهانيّ في كتابه «تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء» وفي كلا الكتابين نجد أنّ ابن الدواداريّ يضفي عليهما من أخطائه اللغويّة والكتابيّة، إذ إنّه لم يكن من مجيدي العربيّة الفصحى. وهذا ما يفعله أيضا حين يقتبس بشيء من الاختصار من كتاب «الأغاني» الذي يشعرنا حين نبدأ بقراءة النصوص المقتبسة منه بأننا نتعاطى مع أسلوب أدبيّ جزل الألفاظ. ثمّ إنّنا نواجه أسلوب الأدب الشعبيّ حين نقرأ ما يقتبسه ابن الدواداريّ من كتب هذا الأدب، ولكن بدون سابق إنذار أو إقرار لاحق بذلك، وللأسف لم أتمكّن من التعرّف على تلك المصادر الشعبيّة. مصادر «الدرّة الثمينة في أخبار الأمم القديمة» إليكم فيما يلي قائمة بالمصادر المباشرة التي أخذ عنها ابن الدواداريّ إمّا مقرّا أو غير مقرّ، أمّا المصادر الغير مباشرة والمعطيات المختلفة عنها وعن حجم الاقتباسات ومصادرها فيمكن الرجوع إليها إمّا في المقدّمة الألمانيّة وإمّا في الهوامش على الصفحات التي تبدأ عليها تلك الاقتباسات. 1 - السّفر الأوّل من «مرآة الزمان في تاريخ الأعيان» لشمس الدين أبي المظفّر يوسف بن قزاوغلي، المعروف بسبط ابن الجوزيّ، المتوفّى سنة 654 هـ‍/1256 م. 2 - «تاريخ الرسل والملوك» لأبي جعفر محمّد بن جرير الطبريّ، المتوفّى سنة 310 هـ‍/923 م.

3 - «كتاب الإنباء بأنباء الأنبياء وتواريخ الخلفاء» لمحمّد بن سلاّم بن جعفر بن عليّ القضاعيّ، المتوفّى سنة 454 هـ‍/1062 م. / 4 - «أخبار الزمان ومن أباده الحدثان وعجائب البلدان والغامر بالماء والعمران» المنسوب لأبي الحسن عليّ بن الحسن المسعوديّ، المتوفّى سنة 346 هـ‍/957 م. 5 - محمّد بن إبراهيم بن حبيب الفزاريّ، المتوفّى سنة 180 هـ‍/796 م؛ لم أعثر على الكتاب الذي يقتبس عنه. 6 - مختصر «المقامة الباينة» لجمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزيّ، المتوفّى سنة 597 هـ‍/1201 م. 7 - أبو العلاء المعرّيّ، أحمد بن محمّد، المتوفّى سنة 449 هـ‍/1057 م. 8 - عمر بن أبي ربيعة، المتوفّى سنة 93 هـ‍/712 م أو 103 هـ‍/721 م. 9 - «تاريخ» جدع بن سنان الحميريّ. 10 - «كتاب الجمهرة»؛ لعلّه يقصد الجمهرة من تأليف أبي المنذر هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ، المتوفّى سنة 204 هـ‍/819 م. 11 - «كتاب التيجان لمعرفة ملوك الزمان في أخبار قحطان» لأبي محمّد عبد الملك بن هشام، المتوفّى سنة 213 هـ‍/828 م. 12 - «تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء عليهم الصلاة والسلام» لحمزة بن الحسن الإصفهانيّ، المتوفّى قبل 360 هـ‍/970 م. 13 - «أنباء نجباء الأبناء» لأبي عليّ أو أبي عبد الله محمّد بن علاء الدين، المعروف بابن ظفر الصّقلّيّ، المتوفّى سنة 565 هـ‍/1169 م. 14 - ابن كردان (؟) 15 - «كتاب الأغاني» لأبي الفرج عليّ بن الحسين بن محمّد بن أحمد، المتوفّى سنة 356 هـ‍/967 م. 16 - «كتاب زهر الآداب» لأبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن تميم

كيف يتعامل ابن الدواداري مع مصادره؟

الحصريّ، المتوفّى سنة 413 هـ‍/1022 م. 17 - «درر الآداب ومحاسن ذوي الألباب» للملك المنصور أبي المعالي محمّد بن عمر بن شاهنشاه بن أيّوب المتوفّى سنة 617 هـ‍/1221 م. 18 - اقتباسات من الأدب الشعبيّ. من بين هذه المصادر ما يأخذ عنه ابن الدواداريّ بيتا من الشعر أو أكثر، أو بعض الجمل فقط، مثل أبي العلاء المعرّيّ وعمر بن أبي ربيعة أو كتاب «زهر الآداب» أو «درر الآداب». ثمّ إنّه يذكر بعض الأسماء التي لسنا متأكدين حتّى من قراءتها، مثل «ابن كردان» (انظر ص 365/ 15 والهامش هناك). وبعض المصادر قد تكون ملفّقة من اختراعه مثل «الكتاب القبطيّ» الذي هو في واقع الأمر كتاب «أخبار الزمان» المنسوب للمسعوديّ، أو «تاريخ» جدع بن سنان الحميريّ الذي لم نجد لاسمه أي ذكر في أمّهات المصادر والمراجع. كيف يتعامل ابن الدواداري مع مصادره؟ 1 - «قلت» حين تمرّ كلمة «قلت» في مكان ما في النصّ فحذار أن تسلّم بأنّ المصنّف، أي ابن الدواداريّ، هو الذي يتكلّم إلى القارئ. إذ إنّ ابن الدواداري يدخل أحيانا كلمة «قلت» في النصّ الذي ينسخ منه ليوحي للقارئ بأنّه هو المتكلّم فعلا. وأحيانا يبقى على كلمة «قلت» التي يقدّم بها المؤلّف الأصليّ تعليقه، وذلك لنفس السبب. ولكنّ هذا لا يعني بأنّ ابن الدواداريّ لا يعطي رأيه أبدا (انظر المقدّمة الألمانيّة ص 3 الهوامش 13 إلى 18). 2 - مدحه لذاته في أماكن عديدة من الكتاب يطري ابن الدواداريّ على نفسه وعلى كتابه بألفاظ طنّانة رنّانة أحيانا (انظر مثلا ص 6/ 5 - 7/ 2 وص 100/ 11 - 13 و 100/ 13 - 14، ولمزيد من التفاصيل انظر ص 4 من المقدّمة الألمانيّة والهوامش هناك).

3 - إساءة فهم

3 - إساءة فهم أحيانا يسيء فهم بعض الكلمات أو يقرؤها خطأ فيحاول أن يضعها في إطار يلائم قراءته لها، فيزيد بذلك إمعانا في الخطأ (انظر على سبيل المثال ص 92/ 12 - 93/ 1 وص 108/ 6 - 7 والهوامش المتعلّقة بها هناك).

[مقدمة المصنف]

[مقدمة المصنف] بسم الله الرحمن الرحيم ربّ اختم بخير الحمد لله الذي خلق آدم من غير بشر، وحوّاء من ضلعه الأيمن لا الأيسر، ثم أسكنهما {جَنّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} ثم قضى عليهما بما سبق لهما في القدر، فأخرجهما منها إلى دار العبر، ثمّ تلقّا {مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ} وغفر، وجعل من نسلهما جميع البشر، ثمّ أظهر عيسى من غير ذكر، آية لمن اعتبر، ثمّ نقل النور الأزهر، في كلّ صلب مطهّر، إلى أن ظهر، سيّد ولد آدم من بدو وحضر، الذي سبّح في كفّيه الحصى وكلّمه الحجر، وسعت إلى خدمته الشجر، وقبّل البعير قدمه المطهّر، المبعوث من مضر، المنعوت في السّير، محمّد، صلّى الله عليه كلّما بزغ شمس وقمر، وسلّم عليه في كلّ عشيّ وأصيل وسحر، وعلى آله الذين لا تدرك محاسنهم الفكر، وعلى أصحابه الذين من امتدحهم فقد افتخر، أبي بكر وعمر، وحيدر الخلفاء الراشدين، والأئمّة المهدين، وعلى أصحابه الباقين، رضوان الله عليهم أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد، فإنّ القول قد تقدّم من العبد الحقير، المعترف بالتقصير، واللسان القصير، واضعه ومصنّفه وجامعه ومؤلّفه، أضعف عباد الله وأفقرهم إلى الله، أبو بكر بن عبد الله بن أيبك، صاحب صرخد، المعروف والده بالدّواه داري، غفر له ولقارئه، ورحم كلّ من تجاوز عن كلّ خطاء فيه. ولمّا مضى القول في الجزء الأوّل ممّا أوردنا، فأوردنا العطاش إلى كلّ منهل كاف، وأروينا، فأروينا كلّ صاد من مورد صاف، وأبدعنا، فأبدعنا إلى آخر الأبد، وأبرعنا، فأبرعنا كلّ والد الولد، وأوسعنا، فأوسعنا شكرا على طول المدد، وأودعنا، فأودعنا ذكرا كلبيد ولبد، وأعربنا ممّا أعربنا بجومنى كلام، وأفصحنا، فما أفصحنا مشايخنا الأعلام، وقدّمنا، فقدّمنا أنواع الأدب، ورفعنا، فرفعنا كلّ حديث منتسب، يروى لمسلم والبخاري، ويروي المسلم البخاري، ممّا يشرح صدر القاري، إذا سرّح فيه النظر القاري، واستحضر مع سواد ناظره سويداه، واستغفر ناظره، ممّا قدّمت سود يداه، هناك يرتفع الحجاب، ويندفع الحجّاب، ويفتح باب

التوّاب ويفوز التائب بالأجر والثّواب، فالحمد لله على هدايته، التي من اهتدى بها لا يقال عنه: هذا يته. ثمّ لمّا مضى الكلام بخلق الكائنات، وأتبعنا ذلك بذكر العناصر الفانيات، ومن كان في الأرض من الأمم والمخلوقات، الذي حكم عليهم بذلك القهّار القائل: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ثمّ يردّ على نفسه {لِلّهِ الْااحِدِ الْقَهّارِ}. ثمّ استفتحنا هذا الجزء الثاني، بكلام يلهي شامله عن المثالث والمثاني، وقدّمنا القول بذكر انقضاء مدّة العالم وابتدائه، واختلاف العلماء في البداية، إلى مدّة هذه النّهاية، التي انتهينا إليها في هذا العصر، واختلاف أقوالهم عن جملة الحصر. ثمّ أتبعنا ذلك بذكر مقامة، لابن الجوزيّ خصّه الله بدار المقامة، وجعل فيها مقامه، لتكون مفتاحا للكلام، وتوطئة لذكر خلق آدم عليه السلام، ومن تلاه من الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين، وما في ضمن ذلك من ذكر الأمم الخالية، والرّمم البالية، وسمّينا هذا الجزء بالدّرّة اليتيمة، في أخبار الأمم القديمة، يتلو الدّرّة العليا، في أخبار بدء الدّنيا. (4) وخصّصنا هذا الجزء بذكر مصر وأخبارها، وملوكها وكهّانها، وأممها وسكّانها، وأخبارها وآثارها، وكنوزها ورموزها، وعمارها ونواحيها وأقطارها. واعتنينا بذلك كلّ العناية، وأسّسنا لذلك أساسا حسنت عليه البناية، وتتّبعنا سائر من ملكها، من أوّل زمان إلى هذا الأوان، من ملوك الأعيان، العظيمين الشان، أرباب الدول والحول والأعوان، والنوّاب عن

ذكر انقضاء مدة العالم وابتدائه واختلاف العلماء في ذلك

الخلفاء العباسيّين، ومن استقلّ بها من الخلفاء الفاطميّين، ومن تلاهم من الملوك الأيوبيّة، واستبدّ بها بعدهم من الملوك التركيّة، إلى آخر سنة خمس وثلاثين وسبعميّة، المخصوصة بالدولة الشريفة الناصريّة، أدام الله أيّام مورد سلطانها إلى آخر الأبد، وعمّره كعمري لبيد ولبد، بمحمّد وآل محمّد، وذاك آخر الجزء التاسع من هذا التاريخ المبارك، المسمّى ذاك الجزء بالدرّ الفاخر، في أخبار سيرة الملك الناصر، فتح الله له فتحا مبينا، وجعل له من الملائكة حافظا وحارسا ومعينا. ذكر انقضاء مدّة العالم وابتدائه واختلاف العلماء في ذلك قال الشيخ جمال الدين ابن الجوزيّ، رحمه الله: اختلف العلماء في ذاك على أقوال، أحدها: أنّ عمر الدنيا من هبوط آدم، عليه السلام، إلى الهجرة سبعة آلاف سنة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: هي جمعة من جمع الآخرة، قد مضى منها ستّة آلاف سنة وبقي ألف سنة.

الثاني: أنّ عمر الدنيا ستّة آلاف سنة وسبع مائة سنة، قاله كعب الأحبار، وذهب وهب بن منبّه كذلك. الثالث: أربعة آلاف سنة وستّمائة سنة (5) واثنان وأربعون سنة، وهو نصّ التّوراة. الرابع: خمسة آلاف سنة وخمس مائة واثنتين وثلاثون سنة، وهذا قول النّصارى. الخامس: أربعة آلاف سنة وستّمائة سنة، وقيل: أربعة آلاف سنة ومائة واثنان وثمانون سنة، وهذا قول اليونان. السادس: حكاه أبو جعفر الطّبريّ عن المجوس، قال: وأمّا المجوس فيزعمون أنّ قدر مدّة الزمان من لدن كهومرت إلى وقت الهجرة النبويّة ثلاثة آلاف سنة ومائة وتسعا وثلاثين سنة، ولا يذكرون شيئا فوق كهومرت، وهو آدم عندهم. قال ابن الجوزيّ، رحمه الله: وقد اختار الطبريّ القول الأوّل، وهو سبعة آلاف سنة. واحتجّ بأخبار، منها ما رواه في تاريخه، فقال: حدّثنا

محمّد بن بشّار بإسناده إلى ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أجلكم في أجل من قد كان قبلكم من صلاة العصر إلى مغرب الشمس». انفرد بإخراجه البخاريّ. قال الطبريّ، رحمه الله: وقدّر ما بين صلاة العصر في أوسط أوقاتها بالإضافة إلى باقي النهار مقدار نصف سبع يوم. فإذا كانت الدنيا سبعة آلاف سنة، فنصف يوم خمس مائة سنة. وقد بقي خمس مائة سنة. وذكر الطّبريّ كلاما طويلا. يقول ابن الجوزيّ: وما ذكره الطبريّ ضعيف لوجوه، أحدها لأنّه قال: حدّثنا أبو الحسن بإسناده إلى شعبة. قال: سمعت قتادة يحدّث عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «بعثت أنا والساعة كهاتين». وأشار بإصبعيه: السّبابة والوسطى. وهذا حديث متّفق على صحّته. والثاني: أنّ الغالب على

النّهار أن يكون اثنتي عشرة ساعة وأقلّ وأكثر. فكيف يقدّر من العصر إلى غروب الشمس مقدار (6) نصف سبع اليوم، مع اختلاف العلماء في دخول وقت العصر؟ ثمّ على حسابه يقتضي مثل ما قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «إنّه قد بقي من الدنيا خمس مائة عام»، على تقدير ما قاله الطبريّ، وليس كذلك، بل قد زاد على ذلك مبين أعوام. والثالث: لأنّ الأخبار الواردة في مخالفة للكتاب، وهو قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ}. وكقوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْساها} الآية، ونحو ذلك. وقد روى أيضا في قوله، عليه السلام: «بعثت أنا والساعة كهاتين». فلم يقدّر وقتا. وقد أنكر أحمد بن حنبل، رحمه الله، ما روى في قوله، عليه السلام: بعثت، في آخرها ألفا. وقال: لا يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، في التّقدير حديث. وما رواه أنس عنه صلى الله عليه وسلّم، أنّه قال: «عمر الدنيا سبعة أيّام من أيّام الآخرة». قال ابن الجوزيّ: فقد روى هذا الحديث جدّي في الموضوعات. وقال في إسناده: ريدك كان يضع الحديث باتّفاق ابن المدينيّ وأبي داود وأبي حاتم. وقد ثبت أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم، قال: «ما المسؤول

عنها بأعلم من السائل». قلت: هذا من رواية ابن الجوزيّ، رحمه الله، ونحن نذكر ما رواه غيره أيضا. قال محمّد بن سلاّم، رحمه الله، روى سعيد بن جبير عن عبد الله بن عبّاس، رضي الله عنه، قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة، ستّة آلاف سنة وليأتينّ عليها مئون من سنين ليس عليها موحّد. فإن كان هذا ثابتا عن ابن عبّاس فلن يقوله إلاّ موقوفا. وقد اختاره الطّبريّ لما رواه ابن عمر، رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم، أنّه قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وقابل بين إصبعيه، يعني أنّه جمع بين الوسطا والسبّابة. قال ابن سلاّم: قال الطّبريّ: وقدّر ما (7) بين أوسط أوقات <صلاة> العصر، وهو إذا صار ظلّ كلّ شيء مثليه على التحرّي وبين غروب الشمس نصف سبع اليوم، يزيد قليلا أو ينقص قليلا. وكذلك بين السبّابة والوسطا. وعن أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم، أنّه قال: «ما بقي لأمّتي من الدنيا إلاّ كمقدار الشمس إذا صلّيت العصر». فهذا دليل لما رواه الطّبريّ، والله أعلم. وقال ابن سلاّم في تاريخه أيضا: اختلف الناس في مدّة ما مضى من الزمان، من لدن هبوط آدم، عليه السلام، إلى هجرة نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلّم،

اختلافا متباينا، ونحن نذكر بعض ما قيل في ذلك. روى ابن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس، رضي الله عنه، أنّه قال: إنّ مدّة ما بين آدم، عليه السلام، إلى نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلّم، خمسة آلاف سنة وسبع مائة وخمسين سنة. فمن آدم إلى نوح، عليهما السلام، ألفان ومائة سنة. ومن نوح إلى إبراهيم، عليه السلام، ألف ومائة سنة وثلاث وأربعون سنة. ومن إبراهيم إلى موسى، عليه السلام، خمس مائة سنة وخمس وسبعون. ومن موسى إلى داود، عليه السلام، مائة سنة وتسع وسبعون سنة. ومن داود إلى عيسى، عليه السلام، ألف سنة وثلاث وخمسون سنة. ومن عيسى إلى محمّد صلى الله عليه وسلّم، ستّمائة سنة. وروي عن الواقديّ، رحمه الله، أنّه قال: من هبوط آدم إلى مولد نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلّم، أربعة آلاف سنة وستّمائة سنة. وروي عن وهب بن منبّه، رحمه الله، أنّه قال: مضى من الدنيا خمسة آلاف سنة وستّمائة سنة. هذا ما رواه محمّد بن سلاّم القضاعيّ، وقال: وأمّا أصحاب التاريخ فيزعمون (8) أن برهان التاريخ من لدى الطوفان إلى الهجرة واضح عندهم من جهة تقويم الكواكب على ذلك، وأنّه لا برهان عندهم على تاريخ آدم، عليه السلام. وذكروا أنّ من أوّل يوم من الطوفان إلى أوّل يوم من الهجرة ثلاثة آلاف سنة وسبع مائة سنة وخمس وعشرون سنة فارسيّة وثلاثمائة وتسع وأربعون يوما.

وزعموا اليهود أنّ جميع الماضي من الدنيا من لدن آدم إلى وقت الهجرة أربعة آلاف سنة وستّمائة سنة واثنتان وأربعون سنة. وقال اليونانيّون من النّصارى: إنّ الصحيح عندهم في الماضي من الدنيا إلى الهجرة خمسة آلاف سنة وتسع مائة سنة واثنتان وتسعون سنة وأشهر. وزعموا أنّ اليهود إنّما نقّصوا ما نقّصوه دفعا لنبوّة عيسى، عليه السلام، إذ كانت صفته في التوراة. وقالوا: لم يأت الوقت الذي وقّت له. وقال المجوس من الفرس: إنّ الماضي من الزمان بعمر الدنيا أربعة آلاف سنة ومائة واثنتان وثمانون سنة وعشرة أشهر وتسعة عشر يوما إلى تاريخ هجرته صلى الله عليه وسلّم. قلت: هذا ما رواه محمّد بن سلاّم القضاعيّ، رحمه الله، في تاريخه. وأمّا ما ذكروه المتفلسفين وأرباب علم الرّصد والنجوم، فليذكر من ذلك أيضا طرفا ليكون سماعه للتعجّب، لا للتّصديق، وبالله التّوفيق. زعموا أنّ في كتاب السّند هند، الذي معناه: الدهر الداهر، وهو الذي عمل منه المجسطيّ وغيره من الزّيجات التي نذكر منها ما يليق بذكره في موضعه، إن شاء الله تعالى، فقالوا: إنّ دوران الشمس من أوّل مسيرها (9) من الحمل، إنّما ينقضي مسيرها على ما حسبوا: أربعة آلاف ألف ألف

وأربع مائة ألف ألف وعشرون ألف ألف دورة، لكلّ دورة سنة، والسنة ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم. وقالوا: إنّ أصل الدورة أربعة آلاف ألف وثلاثمائة ألف وعشرون ألفا عند بدء كلّ ألف سنة. وقد نقل عن محمّد بن إبراهيم الفزاريّ، الآتي ذكره في موضعه، وهو أوّل من عني بحلّ علم الفلك من اللّغة الهنديّة إلى اللّغة العربيّة، يقول: إنّ الله سبحانه خلق جميع الكواكب والأوجات والجوزهرات في أوّل نقطة من برج الحمل، وقدّر لكلّ واحد منها سيرا معلوما، فسارت من هناك. وإنّها لا تجتمع في المكان الذي بدت منه، إلاّ بعد أربعة آلاف ألف ألف وثلاثمائة ألف ألف وعشرين ألف سنة. ثمّ يقضي الله، عزّ وجلّ، فيها ما شاء ممّا سبق في علمه وقدرته، وإنّ الماضي من هذه الجملة، أعني المدّة المذكورة إلى الهجرة، ألف ألف ألف وتسع مائة واثنان وسبعون ألف ألف وتسع مائة وسبعة وأربعون ألفا وسبع مائة وثلاث وعشرون سنة. وهذا شيء افترد به هذا الرجل، وقليل من وافقه عليه من أصحاب الأرصاد، متقدّمهم ومتأخّرهم. والأصل في ذلك أنّ تلك المدّة مبنيّة على مقادير الحركات بمذهب السند والهند. وإن ثبتت تلك المقادير في نفس الأمر، كان من لوازمها أنّ في تلك المدّة تدور كلّ واحدة من تلك الدورات دورات متساوية، لا كسر فيها. وليس هذا موضع الإطناب، والله أعلم. (10) وقال أبو معشر: إنّ أكثر التواريخ القديمة مدخول فاسد،

ذكر ما لخص من مقامة لابن الجوزي، رحمه الله وهي الباينة مما يتعلق بذكر آدم، عليه السلام

ولفسادها أسباب، منها تشابه رقوم الخطّ في الأعداد كالسبعة والتسعة والسبعة عشرة والتسعة عشرة والسبعين والتسعين، هذا في اللّغة العربيّة وما تركّب منها. ومنها ما يعترضها إذا نقلت من لسان إلى لسان. فإنّ اليهود والنّصارى مختلفون فيما ينقلونه عن التّوراة. قيل: وأصحاب التّوراة الباقية بزعمهم على اللّسان العبريّ مختلفون أيضا فيما بينهم. فإنّ الذي بأيدي السّمرة مخالف ما بأيدي عامّة اليهود. وكذا المنقول إلى اللسان اليونانيّ مخالف فيه، والله أعلم بالصواب. ذكر ما لخّص من مقامة لابن الجوزيّ، رحمه الله وهي الباينة مما يتعلّق بذكر آدم، عليه السلام حضرت ليلة مع فريق منتخب الأصادق، ليس فيهم إلاّ صديق منتخب صادق. فكانت ليلتنا أمتع ليالي السّنة. فطلب جماعتنا أن نقطع بلآلئ حسنة. فقلت: لو كان لكم أبو التّقويم، فإنّه بكلّ علم عليم. فقالوا: ذكرت أشرف نابه، ولكن من لنا به؟ فكتبت إليه (من الكامل): عندي فديتك سادة أحرار … وقلوبهم شوقا إليك حرار وشرابنا شرب العلوم وروضنا … نزه الحديث ونقلنا الأشعار فما كان بأسرع، من أن أسرع. فقلت للجماعة: قد اجتمع، مقصودكم أجمع. فلمّا رأوا خلجانه من الناس قد عسى، استعبدوا الإصابة

وردّدوا بين اليأس وعسى. فقلت: كلّ فنّ من الفنون عند هذا اليقن، فالتقطوا من أفنانه أفانين ليس فيها أفن. (11) لا تحقّروا من قد بدا لكم، وتفرّوا عمّا بدا لكم. فجملة العمّة على القمّة. وقالوا هم: بعيد الهمّة. ثمّ وقع اختيار الوئام، على سماع القصص. فقال لهم: إنّها لأوفى الأقسام، وأوفر الحصص. فأحمد، من محامد الجبّار، أحمد حصّة. وحسر، وابتدأ بعد الاذّكار، بقصّة أبي البشر. فقال: لمّا خلق الله، عزّ وجلّ، آدم اللقاه كاللّقا، فلمّا نفخ فيه الروح مات الحاسد. ثمّ أمر الملائكة بالسّجود، فتطهّروا من غدير {لا عِلْمَ لَنا}، وغودر الغادر نجيا لكبرياء {أَنَا خَيْرٌ}، فلمّا جرى على آدم القدر بالزّلل، نزل فخدّ خدّ الفرح، بدمع التّرح، حتّى أقلق الوجود، فقال جبريل: ما لك؟ فصاح لسان حاله يقول (من الرّمل): ما رحلت العيس عن أرضكم … فرأت عيناي شيئا حسنا هل لنا نحوكم من عودة … ومن التّعليل قولي هل لنا فقيل له: لا تحزن لقولي: {فَاهْبِطْ مِنْها}، فلك خلقتها. اخرج إلى

مزرعة المجاهدة، وسق من دمعك ساقية، ساقية لشجرة ندمك. فإذا عاد العود خضرا، فعد (من الخفيف): إن جرى بيننا وبينك عتب … أو تناءت منّا ومنك الدّيار فالغليل الّذي علمت مقيم … والدّموع الّتي عهدت غزار يا معاذ اذهب إلى اليمن، أقدام الرسول تنزل إلى سماء الدّنيا. وا عجبا لقلق آدم بلا معين على الحزن، هوامّ الأرض لا تفهم ما يقول وملائكة السماء عندها بقايا {أَتَجْعَلُ} فهو في كربه، «لا رحيم من آل ليلى فأشكوا». إخواني إيّاكم والذّنوب، فإنّها أذلّت عزّ {وَاُسْجُدُوا}، وأخرجت مقطع {اُسْكُنْ}، استراح إلى بعض العناقيد، فإذا به في العناء قيد، (12) جرّت جرجرة جرّ الهوى، أن فارق المقام الأسنى من الحسنى وهوى. ثمّ ما زالت تلك الأكلة تعاذه، حتّى استولى داؤه على أولاده. فنمت هينمة الملائكة بعبارة نظر العاقبة، فنشروا مطويّ {أَتَجْعَلُ}،

وتبقى حزازات النّفوس كما هيا، فدعّوا بعصيّ الدّعاوى ظهور العصاة، فقيل لهم: لو كنتم بين أفاعي الهوى وعقارب اللذّات، لبات سليمكم سليما، فأبوا للجرأة إلاّ جرّ جرير الدّعاوى، وحدّثوا أنفسهم بالتّقا والتّقاوى، فقيل لهم: نقّبوا عن نقبائكم، وانتقوا ملك الملكوت، فما رأوا لمثلها مثل هاروت وماروت، فابا لسفر البلايا ليله، فما نزلا حتّى نزلا من مقام العصمة، فنزلا منزل الدّعوى، فركبا مركب البشريّة، فمرّت على المرين امرأة يقال لها: الزّهرة، بيدها مزهر زهرة الشّهوة، فغنّت الغانية بغنّة أغنّ، فرنّت فتاب الهوى، فهوى الصّوت في صوب قلب قلبيهما <فقلبهما> عن تقوى التّقويم، فانهار بناء حزم هاروت، ومار همّ حزم ماروت، فأرادها على الرّدا فراوداها، وما قتل الهوى نفسا فوداها، فبسطت نطع التّنطّع، وإمّا أن تشركا، وإمّا أن تقتلا، وإمّا أن تشربا. فظنّا سهولة الأمر في الخمر، وما فطنا. فلمّا امتدّ ساعد الخلاف فسقا، فسقا، فدخلا سكك السّكر، فزلاّ في مزالق الزّنا، فرآهما مع الشخصة شخص، فقتلاه. ففشت فتنتهما في فئة الملائكة. فاتّخذوا لتلك الواردة وردا، من تضرّع {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ}.

نستفتح الكلام بذكر آدم، عليه السلام

قلت: هذا ما اخترته من هذه المقامة، إذ هو كلام منصوص، (13) وبذكر آدم صلوات الله عليه مخصوص، ليكون لاستفتاح الكلام مفتاح، ولما فيها من الألفاظ الفصاح، التي لمثلها النفوس ترتاح، ارتياح الأشباح، إلى الأرواح، والخليع اللطيف إلى شرب الرّاح. وجعلناه توطئة لذكره، عليه السلام، ولما يأتي بعده من الكلام. نستفتح الكلام بذكر آدم، عليه السلام اختلفوا لم سمّي آدم على قولين، أحدهما: أنّه خلق من أديم الأرض، وهو وجهها. قاله ابن مسعود وزيد بن ثابت، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عبّاس. والثاني: أنّه مشتقّ من الأدمة، وهي سمرة اللّون. رواه مجاهد عن ابن عبّاس. وذكر أبو إسحاق الثّعلبيّ رحمه الله، أنّ التّراب بلسان العبريّة يقال له: أدام. وقال الجوهريّ رحمه الله: آدم اسم عربيّ وليس بعجميّ. وقال أبو منصور ابن الجواليقيّ رحمه الله، في كتاب

المعرّب: أسماء الأنبياء كلّها أعجميّة، إلاّ أربعة، وهي: آدم وصالح وشعيب ومحمّد، صلوات الله عليهم أجمعين. والمشهور من كنية آدم أنّه أبو البشر. وروى الوالبيّ عن ابن عبّاس أنّه قال: كنيته أبو محمّد. وقال قتادة: ولا يكنى في الجنّة إلاّ آدم، يقال له: يا با محمّد، لشرف نبيّنا صلى الله عليه وسلّم. ولا ينصرف آدم، لأنّه على وزن أفعل. وقد صرفه أبو العلاء المعرّيّ لضرورة الشعر، فقال (من الطويل): وما آدم في مذهب العقل واحد … ولكنّه عند القياس أوادم وقد أخذ عليه القول في ذلك، وقد تقدّم القول فيه في الجزء الذي قبله. وقال سهل التّستريّ: ألفه من الألفة، ودالة من الداء، وميمه من الموت.

فصل في إعلام الله تعالى الملائكة بخلقه

وقيل: إنّ الله تعالى ذكره في القرآن (14) في سبعة وعشرين موضعا. فصل في إعلام الله تعالى الملائكة بخلقه قال الله تعالى: {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}. واختلفوا في الملائكة الذين قال لهم هذا على قولين، أحدهما: أنّهم جميع الملائكة. رواه عكرمة عن ابن عبّاس. والثاني: أنّهم الملائكة الذين كانوا مع إبليس في الأرض خاصّة. قاله مجاهد. والأوّل أصحّ. لأنّ الألف واللام للاستغراق. واختلف العلماء في المقصود بإعلام المليكة بخلقه، على أقوال، أحدها: أنّ الله أراد أن يبلوا طاعة الملائكة، وهو أعلم بهم، قاله الحسن <البصريّ>. الثاني: أنّه أراد إظهار ما في باطن إبليس من الكبر، لما يرون تعبّده واجتهاده وتواضعه. رواه العوفيّ، رحمه الله، عن ابن عبّاس، رضي الله عنه. والثالث: أنّ الملائكة ظنّت أنّه لا يخلق خلقا أكرم منهم، فأخبرهم بوجود غيرهم ليوطّنوا أنفسهم على العزل. قاله مجاهد، رحمه

الله. والرابع: أنّه أراد تعظيم آدم بالخلافة قبل وجوده، ليعظّموه إذا وجد. قاله الرّبيع بن أنس، رحمه الله. والخامس: أنّه لمّا خلق النار، جزعت الملائكة، وقالوا: ربّنا لمن هذه؟ قال: لمن عصاني. قالوا: أو يأتي علينا زمان نعصيك فيه؟ فأخبرهم أنّه يخلق لها من يعصيه، فاطمأنّوا. قاله الرّبيع زيد بن أسلم، رحمه الله. والسادس: لأنّه أراد إظهار عجزهم عن ما يعلم، لأنّهم قاسوا على من كان قبل آدم. قاله مقاتل، رحمه الله. والسابع: أنّه أعلمهم بما يكون في المستقبل ليعلموا علمه بالحوادث. قاله الوالبيّ، رحمه الله. والثامن: (15) أنّ الملائكة لمّا طردت المفسدين من الأرض، أقاموا يعبدون الله تعالى، وذلك قبل خلق آدم، فأخبرهم أنّه جاعل في الأرض <خليفة> غيرهم. قاله <مقاتل> ابن حيّان، رحمه الله. التاسع: أنّه أعلمهم أنّه يسكن آدم الأرض، وإن كان ابتداء خلقه في الجنّة. قاله السّدّيّ، رحمه الله. العاشر: أنّه خبر أخبرهم به وليس بمشورة، وهو أجود الأقوال. وقيل: إنّ فيه إشارة إلى إخراج هذه الخليفة من الجنّة، بذنبه قبل أن يسكنها، فدلّ على أنّ الكلّ بقضائه وقدره، قاله أهل المعاني. وروى مجاهد عن ابن عبّاس بمعناه، فإنّه قال: أخرج الله آدم من الجنّة بذنبه قبل أن يسكنه إيّاها، ولو لم يرد إخراجه لما نوّه بقوله: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}.

فصل في الخليفة

فصل في الخليفة قال علماء اللّغة: الخليفة هو القائم مقام غيره، فهو خلف عمّن تقدّمه. وقال الجوهريّ: ويقال: خلف فلان فلانا، إذا كان خليفته؛ يقال: خلّفه في قومه خلافة. قال: الخليفة السّلطان الأعظم. وقيل: إنّ الله تعالى ذكر خمسة نفر بالخلافة: آدم وداود وهارون وصلحاء هذه الأمّة، قوله: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}. وصلحاء الأمم قوله تعالى: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ}. وفي معنى خلافة آدم، عليه السلام، قولان، أحدهما: أنّه خليفة عن الله في إقامة شرعه. روي عن ابن مسعود وابن عبّاس. والثاني: أنّه خلف عن من تقدّمه في الأرض قبله، وهو مرويّ عن ابن عبّاس أيضا. والأوّل أصحّ وأظهر، لأنّ آدم كان بهذه المثابة. وقال أبو إسحاق الثّعلبيّ، رحمه الله (16): سأل عمر بن الخطّاب طلحة والزّبير وسلمان الفارسيّ وكعب الأحبار: أخليفة أنا، أم ملك؟ فقال طلحة والزّبير: ما ندري. وقال سلمان الفارسيّ: الخليفة الذي يعدل في الرّعيّة، ويقسم بينهم بالسّويّة، ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله، ويقضي بينهم بكتاب الله. وفي رواية: إن جبيت من أرض المسلمين درهما

فصل قوله تعالى: {أتجعل فيها من يفسد فيها} الآية

ووضعته في غير حقّه، فأنت ملك ولست خليفة. فبكى عمر، رضي الله عنه، فقال كعب: ما كنت أحسب أنّ في المجلس من يعرف الخليفة من الملك غيري، ولكنّ الله ألهم سلمان حكما وعلما. فصل قوله تعالى: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها} الآية روى يحيى بن أبي كثير عن أبيه، قال: الذين قالوا هذا كانوا عشرة آلاف ملك، فأرسل الله عليهم نارا فأحرقتهم، فإن قيل: فهلاّ أحرق إبليس لمّا خالف؟ قلنا: لما سبق في الأزل من امتحان بني آدم. وقوله: {إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}. وقال قتادة: غضب الله عليهم فطافوا بالعرش سبع سنين يقولون: لبّيك اللهمّ لبّيك، اعتذارا إليك. فتاب الله عليهم، فذلك بدء التّلبية. والثاني: استفهام إيجاب تقديره: ستجعل. قاله أبو عبيد. والثالث: أنّه استفهام استعلام. ثمّ في مرادهم بذلك أقوال، أحدها: أنّهم استفهموا وجه الحكمة، فكأنّهم قالوا: كيف يعصونك وقد استخلفتهم؟ وإنّما ينبغي أن يسبّحوا كما نسبّح نحن. والثاني: أنّهم قالوه تعجّبا من استخلاف من يفسد. والثالث: أنّهم استفهموا عن حال أنفسهم، وتقديره: أتجعل فيها من يفسد فيها ونحن نسبّح أم لا؟ ذكره ابن الأنباريّ والحسين بن الفضل (17) ونظيره

{أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ} في النار، ومعناه كمن ليس بقانت؟ فإن قيل: فكيف قطعوا على بني آدم بالفساد وما رأوهم، وذكر الغائب غيبة؟ وهل علموا الغيب حتّى قالوا ذلك؟ فالجواب من وجوه، أحدها: ما روي عن ابن عبّاس، أنّه قال: لما قال {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ}، قالوا: وما يكون من ذلك الخليفة؟ قال: ذرّيّة يفسدون في الأرض ويتحاسدون، ويقتل بعضهم بعضا. فقالوا عند ذلك: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ}؟ والثاني: أنّهم قاسوا على فعل من تقدّمهم من الجنّ الذين أفسدوا في الأرض، فقاسوا بالشاهد عن الغائب. الثالث: كان لهم علم التجربة وعلم الفراسة والظنّ، فتحقّق ظنّهم. والرابع: أنّه لمّا أخبرهم بوجود هذا الخليفة وأنّه مخلوق من الطبائع الأربع المختلفة، والهوى والغضب إنّما يثوران من الحرارة، والهوى يفسد والغضب يسفك، فحكموا بذلك. والمراد بالفساد: العمل بالمعاصي، وسفك الدم: صبّه وإراقته، والتسبيح: التوبة لله من كلّ سوء، والتقديس: التطهير، والمعنى: ننزّهك ونعظّمك.

فصل في قوله تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون}

فصل في قوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ} اختلفوا فيه على أقوال، أحدها: إنّي أعلم أنّه سيكون من ذرّيّته أنبياء وعلماء وصالحون. قاله ابن عبّاس، رضي الله عنه. الثاني: إنّني أعلم أنّه سيكون من ذرّيّته من يذنب فيتوب فأغفر له، قاله مقاتل، رحمه الله. والثالث: إنّني أعلم بوجوه المصالح في استخلافي إيّاهم، فلا تعترضوا عليّ في حكمي وتدبيري. قاله الحسين بن الفضل، رحمه الله. (18) الرابع: إنّني أعلم أنّهم يسفكون الدماء، ولكن بجور رئيسكم. ذكر خلق آدم، عليه السلام قال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي موسى عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم، قال: «خلق الله آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنوه على قدر ذلك. فمنهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيّب، والسّهل والحزن وبين ذلك» قال التّرمذيّ: هذا حديث حسن صحيح. ولهذا اختلفت ألوان بنيه. وروى عكرمة عن ابن عبّاس، قال: خلق الله الصالحين من عذبها والكافرين من ملحها. وروي عنه أنّه قال: الروم والعرب من الأبيض، والتّرك من الأحمر، والحبش من الأسود. وقال أهل المعاني: الكافر من الأسود، والمنافق من الأحمر، والمؤمن من الأبيض. وقيل: الظالم من الأسود، والمقتصد من الأحمر، والسابق من الأبيض.

وقال أحمد بن حنبل، رحمه الله، حدّث عبد الرّزّاق بإسناده، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه دخل الجنّة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلاّ يوم الجمعة». انفرد بإخراجه مسلم. هذا قدر ما أخرج في الصحيح. وقد روي فيه زيادات من طريق أبي لبابة بن عبد المنذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال: «سيّد الأيّام يوم الجمعة، وفيه ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئا إلاّ أعطاه إيّاه، ما لم يسأل إثما أو قطيعة رحم؛ وما من ملك مقرّب ولا جبل ولا أرض ولا سماء إلاّ وهو مشفق من يوم الجمعة أن تقوم فيه الساعة، وفيه توفّي آدم». ولمسلم عن أبي هريرة (19) عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أنّه قال: «وخلق الله آدم بعد العصر من يوم الجمعة آخر الخلق، ما بين العصر إلى اللّيل». وقال ابن سعد بإسناده عن سعيد المقبريّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الناس ولد آدم وآدم من تراب». واختلفوا في من جاء بالطين الذي خلق الله تعالى منه آدم على

قولين، أحدهما: إبليس. قاله ابن مسعود وابن عبّاس. قال: وكذاك قال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً}. ومعناه: أنا جئت به، فكيف أسجد له؟ والثاني: ملك الموت، فروى السّدّيّ عن أشياخه، قال: لما أراد الله تعالى أن يخلق آدم، بعث جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها، ليخلق منه آدم. فجاء إليها فناشدته الله وقالت: أعوذ بالله منك أن تنقصني وتشينني وتكون سببا لإدخال جزء منّي إلى النار. فرقّ لها جبرائيل واستحيى ورجع إلى الله وقال: إنّها قالت كذا وكذا، واستعاذت بك فأعذتها. فبعث إليها إسرافيل فاستعاذت منه فأعاذها. فبعث إليها ميكائيل ففعلت كذلك. فبعث إليها ملك الموت فقالت له كذاك، واستعاذت بالله منه فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولا أنفّذ أوامر ربّي. فأخذ من وجهها تربة بيضاء وحمراء وسوداء، ولم يأخذ من مكان واحد بل من عذبها وملحها، وكلّ شيء أخذه من عذبها صار في الجنّة، وإن كان ابن كافر، وكلّ شيء أخذه من ملحها صار إلى النار، وإن كان ابن مؤمن. فلمّا جاء ملك الموت بالطين إلى بين يدي الله عزّ وجلّ، وأخبره بما قالت وما قال-وهو أعلم-قال الله تعالى: وعزّتي لأسلّطنّك عليها إذ أطعتني وخالفتها. (20) ولا يختلفون أن خلقه يوم الجمعة في آخر ساعة من ساعات النهار، سادس نيسان، وقد تقدم القول في ذلك. واختلفوا كم أقام مصوّرا على أقوال، أحدها: أربعين سنة، قاله ابن عبّاس. والثاني: أربعين ليلة، قاله الضّحّاك. والثالث: لم يقدّر شيء، قاله

مقاتل. والأوّل أظهر لوجهين، أحدهما: لأنّها تمام الخلق ومنتها الأشدّ، ولهذا لم يبعث الله نبيّا إلاّ بعد أربعين سنة، قاله السّدّيّ. والثاني: لتدور عليه الأفلاك بالنجوم السبعة {فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً}، فتستحكم أجزاؤه ويكمل خلقه. وقال بعضهم: أمطر عليه الحزن أربعين سنة، والسّرور يوما واحدا. وقد نصّ ابن عبّاس على أربعين سنة، فقال: خمّر الله طينة آدم قبل التصوير أربعين سنة. واختلفوا أين صوّره، قال ابن عبّاس: في السّماء على باب الجنّة، المدّة التي ذكرها. وقال السّدّيّ: ألقاه بين مكّة والطائف، وكان إبليس إذا مرّ به فزع وضرب برجله فيظهر له صوت وصلصلة فيزداد فزعه. قال مقاتل: كان يدخل في فيه ويخرج من دبره ويقول: لأمر ما خلقت، ولإن فضّلت عليّ لأهلكنّك. قال مسلم ابن الحجّاج بإسناده عن أبيّ بن كعب وأنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم، قال: «لمّا صوّر الله آدم تركه ما شاء أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به وينظر إليه، فلمّا رآه أجوف عرف أنّه خلق لا يتمالك». وقد روي أنّه وكّل به ملك الموت أربعين سنة ثمّ أربعين سنة ثمّ أربعين سنة، حتّى استحكم في مائة وعشرين سنة، فلذلك تقول الأطبّاء: إن العمر الطبيعيّ مائة وعشرون سنة. فإن قيل: فقد قال الله تعالى في موضع {مِنْ طِينٍ لازِبٍ} (21) وفي موضع آخر {مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخّارِ} ومن {حَمَإٍ مَسْنُونٍ} و {مِنْ}

{تُرابٍ}، فكيف الجمع بين هذه الآيات؟ فالجواب: إنّ الألفاظ وإن اختلفت فالمعاني قد اتّفقت، لأنّه كان أوّلا ترابا ثمّ صار حماء، ثمّ جفّ فصار صلصالا أو صلصلا، والصّلصلة الصوت كان ينقر فيطنّ ويسمع له صوت؛ واللازب: اللاصق، والحماء المسنون: المتغيّر المنتن، والسّلالة: القليل ممّا ينسلّ، وآدم استلّ من الأرض. فإن قيل: فلم خصّ بالتراب خلقه؟ فالجواب: لتكمل به الاستقصّات الأربع، فتجتمع فيه الطبائع الأربع المختلفة. ولم يكن قبله خلق من التّراب، بل من النار والماء والريح. وذكر الحافظ أبو القاسم في تاريخ دمشق عن سعيد بن جبير، قال: خلق الله آدم من دحنا ومسح ظهره بنعمان السّحاب. وأخرج ابن سعد بمعناه، فنذكر أرضا يقال لها: دحنا. قلت: لعلها الدهناء، فإنّها أرض معروفة بالسعة. وأمّا (أن) نعمان، فقد ذكرنا جبلي نعمان في باب الجبال في الجزء الأوّل منه. وقال الحافظ أبو القاسم أيضا: في حديث الحسن البصريّ أنّه خلق جؤجؤة من نقا ضريّة، ومعناه: صدره من رمل ضريّة، وهي منزلة بطريق مكّة من ناحية البصرة واليمامة. وكذا روى ابن سعد عن الحسن.

والجؤجؤ: الصدر، وقال الجوهريّ، ضريّة: قرية لبني كلاب على طريق البصرة، وهي إلى مكّة أقرب. وروى أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم، أنّه قال: «خلق آدم من تراب الجابية وعجن بماء الجنّة». قال ابن الجوزيّ، رحمه الله، في الموضوعات: هذا حديث لا يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، (22) في إسناده إسماعيل بن رافع، ضعّفه أحمد وابن معين. وذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه عن عليّ، عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أكرموا عمّتكم النّخلة فإنّها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم، وليس من الشجر شيء يلقّح غيرها؛ وأطعموا نساءكم الولّد الرّطب، فإن لم يكن الرّطب فالتّمر؛ وليس من الشجر أكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم بنت عمران». قال ابن الجوزيّ، رحمه الله: وهذا أيضا ضعيف. وقال مسلم بإسناده إلى عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «خلقت الملائكة من النور {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ} وخلق آدم ممّا وصفت لكم»، أي من التّراب.

وفي الحديث بالإسناد إلى أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لمّا نفخ في آدم الروح، مارت فطارت فصارت في رأسه فعطس، فقال: الحمد لله؛ فقال الله، عزّ وجلّ: يرحمك الله». وأخرجه ابن سعد عن أبي هريرة قال: «فلمّا جرى الروح في خياشيمه عطس، فلقّنه الله حمده، فحمد ربّه». وقد رواه ابن عبّاس وفيه: «يرحمك ربّك أبا محمّد». قال مقاتل: وهذا معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين». وقال سهل بن عبد الله: لمّا قال يرحمك الله، علم أنّه سيذنب، لأنّ الرحمة إنّما تكون بعد الذنب والزّلّة. وقال السدّيّ: لمّا وصلت الروح إلى عينية، نظر إلى الجنّة وما فيها، فوثب قبل أن يصل الروح إلى رجليه؛ فذلك قوله {خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ}. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أنّه قال: لمّا بلغ الروح عيني آدم ولسانه وأعلاه ولم تبلغ أسفله، قال: يا ربّ، استعجل خلقتي (23) قبل غروب الشمس، يعني من يوم الجمعة؛ فذلك قوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ}. وقال ابن سعد بإسناده عن سلمان الفارسيّ وابن مسعود، قال: خمّر الله طينة آدم أربعين ليلة-أو قال: أربعين يوما-ثمّ ضرب بيده فيه، فخرج كلّ طيّب في يمينه وخرج كلّ خبيث في يده الأخرى، ثمّ خلط بينهما؛ قال: فمن ثمّ يخرج الحيّ من الميّت والميّت من الحيّ.

وروى ابن سعد بإسناده إلى وهب بن منبّه، أنّه سمعه يقول: خلق الله آدم كما شاء ممّا شاء، فكان كذلك، {فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ} خلق من التراب والماء، فمنه لحمه ودمه وشعره وعظامه وجسده كلّه، فهذا بدء الخلق الذي خلق الله تعالى منه آدم، عليه السلام. ثمّ جعل فيه النّفس، فبها يقوم ويقعد ويعلم ويسمع ويبصر، ثمّ ركّب فيه الروح فعرف الحقّ والباطل والرّشد من الغيّ. وقال ابن عبّاس: أتته النفخة من قبل رأسه، فجعلت لا تجري في شيء من جسده إلاّ صار لحما ودما. وروى ابن سعد بإسناده عن إبراهيم قال: قال سلمان: أوّل ما خلق الله من آدم رأسه. فجعل يخلق جسده وهو ينظر إليه، قال: فبقيتا رجلاه عند العصر، فقال: يا ربّ عجّل، فقد حلّ الليل. قال الله تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} أي عجولا. وقال ابن سعد بإسناده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ الله خلق آدم بيده». فإن قيل: فقد قال تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}، فقد ردّ العلم إلى الله تعالى. فالجواب من وجهين، أحدهما: أنّ

اليهود أرادوا امتحان (24) النبيّ صلى الله عليه وسلّم بذلك، فكان سكوته عن الجواب من إمارات معجزاته، لأنّهم قالوا: إن أجاب فليس بنبيّ. والثاني: أنّه لا يسعنا أن نقول: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لم يعلم سرّ الروح، مع قوله، عليه السلام: أورثني علم الأوّلين والآخرين، وكان معناه: إنّني لا أخبر من ليس بأهل عن هذا السرّ، كاليهود. أمّا من هو أهل العلم، فنعم، لئلا يقع التناقض بين الآية والحديث. وإنّما قالوا: إنّه لا داخل ولا خارج ولا متّصل ولا منفصل، لأنّ الدخول والخروج والاتّصال والانفصال من صفات الأجسام، وهو ليس بجسم. وقال أحمد بن حنبل بإسناده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ الله خلق آدم على صورته، طوله ستّون ذراعا، وقال له: اذهب فسلّم على أولائك النّفر من الملائكة وهم جلوس، واسمع ما يجيبونك، فإنّها تحيّة ذريّتك. فجاء، فسلّم، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله. فزادوه: ورحمة الله. فكلّ من يدخل الجنّة على صورة آدم وطوله؛ فلم يزل الخلق ينقص بعد ذلك». أخرجاه في الصحيحين. ومن تاريخ جدع بن سنان رحمه الله: لمّا خلق الله الروح، وأمرها أن تكون في فخّارة آدم، فنظرت مكانا حرجا ضيّقا، فقالت: يا ربّ، أهذا سجن لي وعذاب؟ فيما أستحقّ ذلك، وأنت العدل الذي لا تحبّ الظلم؟ فقال الله تعالى: «وعزّتي وجلالي، لم أخلق خلقا هو أعزّ عليّ من هذا المخلوق، وإنّك لتنعمي بنعمة في جناني بطاعته لي، وتشقي بشقاه

فصل في تعليمه الأسماء كلها

بجحيمي بعصيانه إيّاي»؛ وأمر جبرائيل، (25) عليه السلام، أن يخفق تلك الفخّارة بخافقة من جناحه. فسمعت الروح لتلك الخفقة حسّا لذيذا، فجزّت فيه جزّا، ولذلك إن الصوفيّة لهم في ذلك معنىّ دقيقا، وهو في قبول السماع، وإنّ النفس-أعني الروح-إذا سمعت شيئا من مطربات الدنيا، ظنّت أن ذلك بعضيّة تلك الخفقة، فتتحرّك في الجسد وتضطرب، فيتحرّك بتحريكها الجسد. فإذا اشتدّ بها الحال، طلبت الصعود والخلاص من ذلك السجن؛ وكثير ممّا يوجد وقد فاضت نفسه في تلك الحالة وأنشدوا (من الطويل): وما أطرب الأرواح منّا لذي الغنا … سوى نغمات أدركتها قديمة فلمّا أحسّت في السّماع بمثلها … تذكّرت العهد القديم فحنّت وجاد بها الجسم الزّمام وأقبلت … تجاذب فاهتزّت لذاك برقصة فصل في تعليمه الأسماء كلّها اختلفوا في الذي علّمه على أقوال، أحدها: أنّها أسماء الملائكة. قاله الرّبيع بن أنس. والثاني: أسماء ذريّته. قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. والثالث: أنّه علّمه جميع الأسماء والأشياء، فقال: هذا فرس؛ هذه دابّة؛ هذه قصعة؛ هذا بغل؛ هذا جمل؛ هذا كذا؛ هذا كذا، حتى أتى على آخرها. قاله ابن عبّاس، وهو الأصحّ لوجهين، أحدهما: لأنّ لفظ كلّ للعموم. والثاني: ليظهر فضل آدم على الملائكة. وفي تعليم البعض

فصل في سجود الملائكة، عليهم السلام

نقص. وقد نصّ ابن عبّاس على هذا <التفضيل>، فقال: علّمه الأسماء، أسماء الخلق والقرى والمدن والجبال، وأسماء الطيور والأشجار وما (26) كان ويكون وكلّ نسمة الله خالقها إلى يوم القيامة. وقال الطبريّ في تاريخه: علّمه كلّ شيء، حتّى الفسوة والضّرطة، وقد أخذ ابن الجوزيّ، رحمه الله، في هذه اللفظة على الطبريّ، وقال: أما كان في مخلوقات الله ما يعبّر عنه بعبارة تليق بالله، إلاّ هذه العبارة؟! وقال السدّيّ: لمّا قال الله: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} قال الملائكة فيما بينهم: ليخلق ربّنا ما شاء، فلن يخلق خلقا أفضل ولا أكرم عليه منّا، وإن كان خيرا منّا فنحن أعلم منه، لأنّا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره. فلمّا أعجبوا بعلمهم وعباداتهم، فضّل عليهم آدم بالعلم، فعلّمه الأسماء كلّها، وهذا قول الحسن وقتادة وعامّة العلماء. وقال أبو القاسم الورّاق، رحمه الله: علّمه ألف حرفة، ثمّ قال له: قل لأولادك إن لم يصبروا فليطلبوا الدنيا بهذه الحرف، ولا يطلبوها بالدين، وويل لمن طلب الدنيا بالدين. فصل في سجود الملائكة، عليهم السلام ثمّ أمرهم الله تعالى بالسجود لآدم، لقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ} الآية. وقال ابن عبّاس: لمّا اعترفوا بالعجز، أمر الله آدم أن

يخبرهم بالأسماء. فلمّا أخبرهم، قال: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} يا ملائكتي {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماااتِ وَالْأَرْضِ} أي ما كان فيها وما يكون {وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ} من الطاعة والخضوع لآدم {وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} في أنفسكم له من العداوة. وقال ابن عبّاس أيضا: المراد به إبليس، فإنّه كان إذا مرّ على جسد آدم وهو ملقى بين مكّة والطائف، يقول لمن معه من الملائكة: (27) أرأيتم إن فضّل عليكم هذا ماذا تصنعون؟ فيقولون: نطيع أمر ربّنا. فيقول في نفسه: إلاّ أنا؛ والله لإن سلّطت عليه لأهلكنّه، ولإن سلّط عليّ لأعصينّه. وقال الحسن وقتادة رحمهما الله: {ما تُبْدُونَ} من قولكم {أَتَجْعَلُ فِيها} {وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} من قولهم: أن تخلق خلقا أفضل منّا. واختلفوا في السجود لآدم على أقوال: أحدها: أنّه سجود تعظيم وتحيّة، لا سجود صلاة وعبادة، كقوله في قصّة يوسف، عليه السلام {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} وكان ذلك تحيّة الناس وتعظيم بعضهم بعضا. ولم يكن وضع الوجه على الأرض، وإنّما كان انحناء وإيماء ووضع اليد على الصدر. وأصل السجود الانحناء والميل، يقال: سجدت النّخلة إذا مالت. فلمّا جاء الإسلام أبطل ما كانوا يصنعونه وعوّضهم بالسلام. ولمّا رجع معاذ بن جبل من اليمن سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فتغيّر وجهه وقال: «ما هذا

(28) فصل في قوله تعالى: {إلا إبليس أبى واستكبر}

يا معاذ؟» فقال: رأيت اليهود يسجدون لأحبارهم، والنصارى لرهبانهم وقسّيسيهم، ففعلت مثلهم، وأنت أولى. فقال: «مه يا معاذ، كذبوا. إنّما السجود لله تعالى». وقاله ابن عبّاس كذاك. والثاني: أنّه كان سجودا على الحقيقة لآدم، قاله مجاهد. والثالث: أنّه جعل آدم قبلة لهم وسجودهم لله تعالى، كما جعلت الكعبة قبلة للصلاة المختصّة بالمؤمنين، والصلاة لله ربّ العالمين. وقال ابن مسعود: سجدت الملائكة لآدم، وسجد هو لله تعالى. وقال أبيّ بن كعب: معنى سجودهم أنّهم أقرّوا لآدم أنّه خير وأكرم على الله منهم. وعن عمر بن عبد العزيز: لمّا أمر الله الملائكة بالسجود لآدم، أوّل من سجد له إسرافيل، فأثابه الله أن كتب القرآن في جبهته. (28) فصل في قوله تعالى: {إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى وَاِسْتَكْبَرَ} أي امتنع وتعظّم، وكان بمعنى صار في علم الله أنّه من الذين وجبت عليهم الشقاوة. وقال السّدّيّ: لمّا امتنع إبليس من السجود قال <له> الله تعالى: {ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} له؟ {قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} قال: بماذا؟ قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} ألست الذي استخلفتني في الأرض وجعلتني حاكما عليها وعلى الملائكة، وألبستني الريش ووشّحتني

بالنور وتوّجتني بالكرامة، وجعلتني خازن السموات، وعبدتك ثمانين ألف سنة، وكنت من المقرّبين؟ فقال الله تعالى: {فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ، قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}. وقال ابن عبّاس: قال الله تعالى: {ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} لما خلقت من يدي؟ منهم من أجراه على ظاهره ومنهم من قال: بقدر القدرة. وقال أبو إسحاق الثّعلبي، رحمه الله، بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا قرأ ابن آدم السّجدة، وسجد، اعتزل الشيطان يبكي ويقول: يا ويله، أمر ابن آدم بالسجود فسجد، فله الجنّة، وأمرت بالسجود فأبيت فله النار». واختلفوا في الاستثناء المذكور في قوله: {إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى} على قولين، أحدهما: أنّه استثناء من الجنس، فعلى هذا يكون إبليس من الملائكة. والثاني: أنّه استثناء من غير الجنس، فيكون إبليس من الجنّ، وقد بيّنّاه. وذكر صاحب الملل والنّحل: أنّ أوّل شبهة وقعت في الخليقة شبهة إبليس. ومصدرها استبداده بالرأي في مقابلة النصّ (29) ومعارضة الأمر واستكباره بالمادّة التي خلق منها، وهي النار، على مادة آدم، وهي التراب.

فصل ذكر خلق حواء، عليها السلام

قال وتشعّب من هذه الشبهة شبهات، منها أنّه قال: قد علمت أنّه إلا هي وإله الخلق، وقد علم ما يصدر منّي من قبل خلقي؛ فلم خلقني؟ وما الحكمة في خلقي؟ وكونه كلّفني ما لا منفعة له فيه، فإنّه لا تنفعه طاعتي ولا تضرّه معصيتي؛ ثمّ إنّه سلّطني على آدم، فأخرجته من الجنّة بقضائه وإرادته، فطردني ولعنني، وسألته الإنظار فأنظرني، ثمّ كان عاقبة أمري ما أنا فيه. ولو سجدت لآدم كان ماذا؟ وإنّما له إرادة يظهرها. قال: فقال الله تعالى للملائكة، «قولوا له: لو كنت صادقا أنّي إلاهك لما اعترضت ولا خالفتني، ربّي؟؟؟ إله العالم، لا أسأل عمّا أفعل، وهم يسألون». فصل ذكر خلق حوّاء، عليها السلام قال ابن سعد بإسناده عن عكرمة مولى ابن عبّاس، قال: إنّما سمّيت حوّاء لأنّها أمّ كلّ شيء حيّ. وقال مقاتل: لحوّة وجهها وهو الحسن. وروى عطاء عن ابن عبّاس، قال: لمّا أسكن الله آدم الجنّة أقام مدّة فاستوحش، فشكا إلى الله الوحدة، فنام، فرأى في منامه امرأة حسناء، ثمّ انتبه فوجدها جالسة عنده، فقال: من أنت؟ فقالت: حوّاء؛ خلقني الله لتسكن إليّ وأسكن إليك. قال: وخلقت من ضلع آدم، ويقال لها: القصيرى. قال الجوهريّ، رحمه الله: القصيرى الضّلع التي تلي الشاكلة، وتسمّى الواهنة، في أسفل الأضلاع.

وقال مجاهد: إنّما سمّيت المرأة مرأة لأنّها خلقت من المرء وهو (30) آدم. وقال مقاتل بن سليمان: نام آدم نومة في الجنّة، فخلقت حوّاء من قصيراه من شقّه الأيمن، من غير أن يتألّم؛ ولو تألّم لم يعطف رجل على امرأة أبدا. وقال ابن عبّاس: لأم الله موضع الضلع لحما، ولمّا رآها آدم قال: آثا بثا-منقوطة بثلاث من فوق-وتفسيره بالسريانيّة: امرأة. وأخرجه ابن سعد عن مجاهد. ولمّا خلقت قال له الملائكة: أتحبّها؟ قال: نعم. قالوا لها: فتحبّيه؟ قالت: لا. وفي قلبها أضعاف ما في قلبه منها، فلو صدقت امرأة في حبّ زوجها لصدقت حوّاء. وفي التوراة: فقال آدم: هذه عظام من عظامي، ولحم من لحمي ودم من دمي. قال كعب: ومن أجل ذلك يترك الرجل أباه وأمّه ويتبع امرأته. وقال الرّبيع ابن أنس: إنّما خلقت حوّاء من طينة آدم. واحتج بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ}، ولأنّ الرجل لم يخلق من المرأة وكذا المرأة لم تخلق من الرجل. قلت: والأوّل أصحّ، لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ ااحِدَةٍ} الآية، والمراد به آدم، وحوّاء خلقت من ضلعه، وما ذكره فقياس

فصل (31) في مقام آدم في الجنة

في مقابلة النصّ ومخالف لإجماع الأمّة، ولقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ ااحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}. وذكر مقاتل <بن سليمان> في كتاب المبتدأ، قال: لمّا أراد الله أن يزوّج حوّاء من آدم، قال: «يا آدم، لا بدّ من المهر». فقال: يا ربّ، وما مهرها؟ قال: «أن تصلّي على ولدك محمّد صلى الله عليه وسلّم، عشر مرّات». فصلّى عشرا. قال مقاتل: فذلك قوله، عليه السلام: «من صلّى عليّ مرّة صلّى الله عليه عشر مرّات». فصل (31) في مقام آدم في الجنّة قال الله تعالى: {وَقُلْنا يا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} قال الفرّاء رحمه الله: أهل نجد يقولون لامرأة الرجل: زوجة، ويجمعونها: زوجات، وهي لغة تميم. قال: وأهل الحجاز تقول لامرأة الرجل: زوج، ويجمعونها: أزواج. وقال الجوهريّ: زوج المرأة بعلها، وزوج الرجل امرأته. قال الله تعالى: {اُسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}، والرّغد: الرزق الواسع، و {حَيْثُ شِئْتُما} أي كيف ومتى وأين شئتما.

فصل: ذكر الشجرة المنهي عنها

فصل: ذكر الشجرة المنهيّ عنها اختلفوا فيها على أقوال، أحدها: أنّها شجرة الكافور، قاله عليّ، عليه السلام. والثاني: شجرة البرّ، وهو الحنطة، قاله ابن عبّاس. والثالث: الكرمة، قاله ابن مسعود وابن عبّاس أيضا وسعيد بن جبير ومجاهد، قالوا: ولذلك جعلت فتنة لولده. والرابع: التّينة، قاله عطاء والحسن وابن جريج. والخامس: النخلة، قاله أبو مالك. والسادس: حيّ العلم، وقيل: إنّما هي بكسر العين وفتح اللام، وهي الحنطة بلغة قيس، وهو الأصحّ، لأنّ الحنطة ملائمة لجميع بني آدم، وقد نصّ عليها عامّة العلماء. وقال وهب: هي شجرة الخلد، وهو وهم، لأنّ الله تعالى سمّاها بذلك، وإنّما الكلام في جنسها. فإن قيل: فلم خصّ الشجرة المشار إليها بالنّهي؟ فالجواب: لأنّ لها ثفلا والجنّة لا تحتمل الثفل. وقال مجاهد: لمّا أكل منها لعبت معدته، فقال جبريل: أما تستحي؟ أين تضع هذا، على السّرر أو على الفرش أو على شواطئ أنهار الجنّة من رياض المسك والعنبر والكافور (32) والزعفران؟ ولكن انزل إلى دار تصلح أن يكون فيها هذا. قال ابن الجوزيّ، رحمه الله: وهذا معنى قول عليّ، عليه السلام: الدنيا كنيف يملى. وقال النّضر، رحمه الله: إنّما أكل آدم من الشجرة لأنّه منع منها، والآدميّ حريص على ما منع منه. وقد ذكرها في التوراة، فقال:

فصل في احتيال إبليس على دخول الجنة

ونصب الله شجرة الحياة وسط الجنّة، وقال لآدم: كل ما شئت إلاّ منها، فإنّك تموت يوم تأكل منها. وقال الحسن البصريّ: لم يكن له بدّ أن يأكل منها، لأنّه خلق للمقام في الأرض. فصل في احتيال إبليس على دخول الجنّة قال الله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها} الآية. قال ابن عبّاس: أي حملهما على الزلّة. وقرأ الأعمش: فأزلّهما الشيطان عنها، أي نحّاهما عن الطاعة والجنّة، فأخرجهما ممّا كانا فيه من النعيم. واختلفوا في كيفيّة دخوله إلى الجنّة. قال الحسن البصريّ، رحمه الله: وقف على باب الجنّة وناداهما، لأنّه كان ممنوعا من دخولها، بقوله تعالى: {اُخْرُجْ مِنْها}. وقال ابن عبّاس، رضي الله عنه: إنّما احتال بطريق الحيّة، وكانت من أحسن دوابّ الجنّة، ولها جناحان كجناحي الطّاووس ولون جلدها لون السّندس والإستبرق، وكانت من خزّان الجنّة تدخل إليها وتخرج، وكانت صديقة لإبليس، فخرجت ذات يوم فتعرّض لها وخدعها

وقال لها: قد اشتقت إلى الجنّة. فقالت: أنت مطرود عن الجنّة، فكيف أدخلك إليها؟ فقال: وما يضرّك؟ فإنّي مطرود عنها حيث لم أسجد لآدم، فأدخليني لأسجد له، لعلّ الله أن يرضى عليّ. ففتحت فاها، فوثب فقعد على ناب من أنيابها، ومرّت به على (33) الخزنة، فأنساهم العلم السابق والقدر المحتوم أن يفتقدوا ناب الحيّة، فدخلت به. وكان آدم لمّا رأى نعيم الجنّة قال: لو أنّ لنا خلدا! فأتاه من قبل الخلد، فجاء فوقف بين يدي آدم وحوّاء وهما لا يعلمان أنّه إبليس، فناح عليهما نياحة أحزنتهما-وهو أوّل من ناح، فقالا له: ما الذي بك؟ وما يبكيك؟ فقال: أبكي عليكما، تموتان وتفارقان هذا النعيم. فوقع ذلك في نفوسهما واغتمّا، ومضى عنهما، ثمّ جاءهما بعد ذلك فقال: {يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى} فقال: إنّ ربّي نهاني عنها، {وَقاسَمَهُما} أي حلف لهما {إِنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِينَ} فاغترّا. قال ابن عبّاس: ما ظنّ آدم أنّ أحدا يحلف بالله كاذبا. فبادرت حوّاء إلى الأكل من الشجرة، ثمّ ناولت آدم فأكل منها. وقال مقاتل <بن سليمان>: قال لهما إبليس: ما نهاكما ربّكما عن هذه الشجرة إلاّ حسدا لكما، لأنّه علم أنّكما متى أكلتما منها علمتما الغيب وزاحمتماه في ملكه.

وقال مجاهد: جاء إبليس وذكر ألفاظا رقيقة معناها يقول (من البسيط): يا عين أبكي على زهراء طاهرة … نقيّة العرض من عار ومن دنس خود مكرّمة في الخلد زاهرة … كأنّ غرتّها المصباح في الغلس ماتت ومات التّقيّ المصطفى فأرى … الجنّات موحشة من جيرة الإنس فقالت حوّاء: من هما؟ فقال: أنتما. فخافا. فحلف لهما لإن لم يأكلا من هذه الشجرة ليموتنّ، وحلف لهما سبعين يمينا، فذلك قوله: {وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِينَ}. قال مقاتل: فأخذت حوّاء من الشجرة خمس حبّات، فأكلت اثنتين وأخفت ثلاثا، قال: فلذلك صار النساء يسرقن. وفي رواية عنه: إنّها أخذت سبع حبّات، فدفعت إلى آدم (34) حبّتين، وقالت: إنّما أخذت واحدة، فلذلك صار للذّكر مثل حظّ الأنثيين. وقال مقاتل أيضا: تقدّمت إلى الشجرة فأكلت منها، ثمّ قالت: يا آدم، قد أكلت فلم يضرّني، فتقدّم فأكل. وحكى <أبو إسحاق> الثّعلبيّ، رحمه الله، في تفسيره عن سعيد بن المسيّب: أنّه كان يحدث ويحلف بالله، لا يستثنى أن آدم ما أكل من الشجرة وهو يعقل، ولكن حوّاء سقته الخمر حتّى سكر، ثمّ قادته إلى الشجرة فأكل منها.

قلت: والعجب من حكاية الثّعلبيّ مثل هذا عن ابن المسيّب، وهو إمام، وفيه العلم والزهد والورع والتحرّز في أقواله عن مثل هذا. وقد اتّفق العلماء، رضي الله عنهم، على أنّ خمر الجنّة لا يسكر ولا يذهب بالعقل. قال الله تعالى: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ} وقال: {يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ} وهو السكر. والمراد من الخمر هو حصول اللذّة المطربة، وذلك حاصل في الجنّة بدون السكر، فإنّه مباح لأهل الجنّة مع بقاء عقولهم، وبهذا فارق خمر الدنيا. وإنّما اللائق بحال آدم أنّه إنّما أكل من الشجرة متأوّلا لا للكراهة دون التحريم، وذلك قبل النبوّة، لأنّه نهي عن شجرة فأكل من جنسها ظنّا منه أنّ المراد غير تلك الّتي نهي عنها، لا الّتي أكل منها، على أنّ الله تعالى قد عذره بكونه أكل ناسيا، فقال: {وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}. فإن قيل: فإن كان آدم تعمّد فمعصيته كبيرة، والكبائر لا تجوز على الأنبياء، وإن كان نسي فالنسيان معفوّ عنه، فكيف وقعت المؤاخذة؟ فالجواب من وجوه ذكرت، أحدها: أنّ الأنبياء قد أمروا بتجويد الحفظ، ومثل آدم لا يسامح. الثاني: لأنّه خالف، ومخالف الأمر يعاقب وإن كان ناسيا، فإنّ (35) من طلّق امرأته ناسيا أو ساهيا أو هازلا وقع طلاقه.

فالنسيان معفو عنه في رفع الإثم دون المؤاخذة، وهذا معنى قوله، صلّى الله عليه <وسلّم>: «عفي لأمّتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». الثالث، أنّ بعض العلماء قال: إنّه أكل متأوّل للكراهة دون التحريم. وقال قتادة: لمّا أكلا منها بدت لهما سوآتهما وولّى آدم هاربا يستتر بورق الجنّة، فناداه الله: «يا آدم، أفرار منّي؟» قال: لا يا ربّ، بل حياء منك. فقال: «يا آدم، أخرج من جواري، فإنّ من عصاني لا يجاورني في داري». فقال: يا ربّ، هل بعد هذا العتاب رضا؟ قال: «نعم». فقال: الحمد لله. وقال الرّبيع بن أنس: امتنع من الخروج من الجنّة، فجاءه جبرائيل فجذب بناصيته للإخراج، فقال بالأمس تسجد لي واليوم تسحب بناصيتي؟ أرفق بي، فقال: لا أرفق بمن عصى الله. وذكر في التوراة وقال، قال الله تعالى: أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها. فقال: إنّ المرأة أطعمتني. وقالت المرأة: إنّ الحيّة أطعمتني، يعني أنّ إبليس كان يخاطبها على لسان الحيّة، وهو قاعد على نابها. فقال الله للحيّة: من أجل فعلك هذا أنت ملعونة، وعلى بطنك تمشين، وتأكلين التراب، وسأغري بينك وبين ولد المرأة فيطأ رأسك وتلدغين عقبه. وقال لآدم: أخرج من مشرف جنّة عدن إلى الأرض التي أخذت منها. وقال الله لحوّاء: أنت التي غررت الرجل، وعزّتي لأعاقبنّك بالحيض والنّفاس

والولادة ونقصان الشهادة، ولا تحملين إلا كرها ولا تضعين إلاّ كرها. ثمّ مسخ الحيّة على هذه الصورة، وسنذكر عقوبة كلّ منهم بعد ذلك. وقال وهب: كان لباس آدم في الجنّة الظّفر يزداد كلّ يوم جدّة وحسنا، (36) فلمّا أخرجه من الجنّة ألبسه الجلود والصوف. وكان آدم أمردا فعوقب بإنبات اللّحية. وقال أحمد بن حنبل: حدّثنا عبد الرّزاق عن معمّر، ينتهي الحديث إلى أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ألتقى آدم وموسى، فقال له موسى: أنت آدم الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنّة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وكلامه، وأنزل عليك التورية؟ قال: نعم. قال: أتلومني على أمر كان قد كتب عليّ قبل أن أفعله؟ -أو قال: قبل أن أخلق؟ -قال: فحجّ آدم موسى مرّتين»؛ أخرجه في الصّحيحين. فإن قيل: فلم لم تعاقب حوّاء قبل آدم عند الأكل؟ فالجواب من وجوه، أحدها: أنّها لو عوقبت في حالة الأكل قبل أن يأكل آدم، لتوقّف عن الأكل، وأخطى علم الله فيه وإرادته وسرّه الخفيّ، فلمّا وافقها، ظهر علم الله فيه. والثاني: لأنّ حوّاء كانت ضعيفة، فلم تقدر على العقوبة،

ولم تحتملها، بخلاف آدم لأنّه كان قويّا. والثالث: أنّها عوقبت بما يليق بها من الحيض وأمثاله، وهنّ عشرة خصال كما يذكر منهنّ. فإن قيل: فآدم وحوّاء اشتركا في المعصية، فلم لم تذكر معه في التوبة؟ فالجواب من وجهين، أحدهما: أنّ العرب إذا كان فعل الاثنين <واحدا> جاز أن يذكر أحدهما، ويكون المعنى لهما، لقوله: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}، وكقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ} ونحو ذلك. وقد قالت المعتزلة وجهم بن صفوان: إنّ الجنّة التي سكنها آدم إنّما كانت بستانا من بساتين الدّنيا في جزيرة سرنديب، ولهذا يسمّى آدم السرنديبيّ، واحتجّوا بقوله تعالى: {وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ} فمن دخلها يستحيل عليه الخروج منها، (37) لأنّها دار راحة، لا يكون فيها ابتلاء ومحن. ولنا أن نقول: إنّ الله وصف الجنّة التي أخرج منها آدم بأوصاف لا تكون لبساتين الدنيا، على ما ذكرناه فيما تقدّم. وأمّا الآية، فآدم ما دخلها للثواب، ومن دخلها للثواب لا يخرج منها أبدا. ألا ترى أنّ رضوان وبقيّة الخزّان يدخلونها ويخرجون منها؟ وقولهم: دار راحة، قلنا: ودار تكليف <لإجماعنا على أنّهم مكلّفون> فيها بمعرفة الله، عزّ وجلّ.

فصل قوله تعالى: {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو} الآية

فصل قوله تعالى: {وَقُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} الآية قال أهل اللّغة: الهبوط هو الحدور من علوّ إلى سفل، والهبوط بفتح الهاء: المكان الذي يهبط فيه. وهذا الخطاب لآدم وحوّاء وإبليس والحيّة، لأنّه ذكرهم بالواو، وهو الجمع؛ قاله ابن عبّاس. فإن قيل: فقد كرّر الهبوط في أمر القصّة، بقوله: {اِهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً}، فما فائدة هذا التكرار؟ فالجواب: إنّهم أهبطوا هباطين، أحدهما من الجنّة إلى السماء الدنيا والثاني من السماء الدنيا إلى الأرض. حكاه أبو صالح عن ابن عبّاس. وقال مقاتل: إنّما كرّره لتعظيم الذنب، كما يقال للإنسان إذا أذنب ذنبا عظيما: اخرج، اخرج. فكان تأكيد في الإخراج. والمستقرّ: موضع القرار. والمتاع: البلغة. وإلى حين: أي إلى حين انقضاء آجالكم ومنتهى أعماركم. وقال الثّعلبيّ فيما حكاه عن إبراهيم بن أدهم، أنّه كان يقول: أورثتنا تلك الأكلة حزنا طويلا. وعن ابن عبّاس قال: لمّا أهبط آدم إلى الأرض قال: يا ربّ، كنت

فصل في ذكر المكان الذي أهبطوا إليه

جارك في دارك، وليس لي رقيب ولا ربّ سواك، (38) آكل منها حيث شئت رغدا، فأهبطتني إلى دار العناء والشقاء والنّصب والتّعب، فقال الله: «يا آدم: لشؤم معصيتك»؛ وذكر كلاما طويلا. قال: ولمّا أهبط إلى الأرض كان على رأسه إكليل من الجنّة، فيبس وتناثر في الأرض، فكلّ طيب في الدنيا، فمن ذلك الإكليل. فصل في ذكر المكان الذي أهبطوا إليه قال علماء السّير: أهبط آدم على جبل بالهند يقال له: واشم، وقيل: بوذ، وقيل: الراهون، وقيل: الحلوس، عند وادي سرنديب، واسم الوادي بهيل بين الدهنج والمندل، وهما بلدان بأرض الهند. قال مقاتل: وهذا الجبل أقرب جبال الأرض إلى السماء. وأهبطت حوّاء، بجدّة من أرض مكّة، والحيّة بنصيبين الجزيرة، وقيل بأصبهان، وإبليس بميسان، وقيل: بالأبلّة. قال الجوهريّ: وميسان اسم كورة بسواد العراق. قال: والأبلّة- بالضّم: بلد مدينة إلى جانب البصرة ووزنها: فعلّة. وقد ذكرها ابن الجواليقيّ في المعرّب، قال: بلدة قديمة. وقال أبو عبيدة: هي آخر أعمال البصرة. واختلفوا في تعريبها، فقال الجوهريّ: الأبلّة: القدرة من التمر، وبها سمّيت الأبلّة، وهو الأصحّ، لكثرة التمر بها.

وقال ابن زيد، رحمه الله: أهبط إبليس بالبصرة، وكذا قال الحسن البصريّ، رحمه الله، قال: ولهذا هي معدن المعتزلة واليهود والقدريّة. فإن قيل: فقد عصوا جملة في مكان واحد، فما الحكمة في كونهم أهبطوا متفرّقين؟ فالجواب: إنّهم لمّا عصوا في ذلك المكان الشريف، بدّد الله شملهم في أقطار الأرض، وهو أبلع في العقوبة من اجتماعهم في مكان واحد، ولهذا (39) بقي آدم مدّة حتّى اجتمع بحوّاء بجمع؛ فلذلك سمّيت جمعا على قول بعض الناس. ثمّ ازدلفت إليه بالمزدلفة، فسمّيت أيضا بذلك. ثمّ التقيا بعرفات فتعارفا، وسمّيت بعرفات؛ ورجعا إلى الهند. وحكى الحافظ أبو القاسم ابن عساكر، رحمه الله، في تاريخه: أن آدم كان يسكن ببيت من أبيات قرية بسفح قاسيون وإليه ينسب مسجدها، وأنّ حوّاء كانت تسكن ببيت لهيا، وهذا شيء لم أر أحدا وافقه عليه، لإجماعهم على أن آدم كان بالهند ويتردّد إلى مكّة ولم يدخل الشام، <والله أعلم>. وروي عن ابن عبّاس موقوفا عليه، قال: لمّا أهبط آدم إلى الأرض

فصل فيما تجدد لآدم بعد هبوطه من الجوار

حزن عليه كلّ شيء في الجنّة إلاّ الذهب والفضّة، فأوحى الله عزّ وجلّ إليهما: جاوركما عبد من عبادي، فحزن عليه كلّ شيء إلاّ أنتما. فقالا: إلهنا، ما كنّا لنحزن على من عصاك. فقال الله: «وعزّتي وجلالي، لأعزّنّكما في الدنيا، فلا ينال شيئا إلاّ بكما». وقال الجوهريّ: الدينار أصله دنّار-بالتشديد، فأبدل من أحد حرفيه بضعفه ياء، لئلا يلتبس بالمصادر التي تجيء على وزن فعّال، كقوله تعالى: {وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذّاباً}. قال: وأمّا الدرهم ففارسيّ معرّب، وكسر الفاء فيه لغة، وبرعا قالوه بالألف: درهام. قال: وجمع الدرهم: دراهم، وجمع الدرهام: دراهيم. فصل فيما تجدّد لآدم بعد هبوطه من الجوار حكى سعيد بن جبير، رحمه الله ورضي عنه، عن ابن عبّاس، رضي الله عنه، قال: لما أهبط آدم إلى الدنيا لم <يكن> فيها سوى حوت ونسر، فكان النسر يطير نهارا ثمّ يأوي في الليل إلى جانب البحر، يستأنس بالحوت. فرأى النسر آدم (40) فاستغربه، فلمّا أوى إلى الحوت، قال له:

قد نزل إلى الأرض حيوانا يمشي على قدميه ويبطش بيديه. فقال الحوت: إن كنت صادقا، فما لي في البحر منه مهرب، ولا لك في البرّ منه مذهب. وحكى الطبريّ، رحمه الله، في تاريخه، قال: جاع آدم، فاستطعم ربّه، فأتاه جبريل بسبع حبّات حنطة، فوضعها في يده، فقال: ما أصنع بها؟ فقال: أضعها في الأرض، فوضعها، فأنبتها تعالى من ساعته، ثمّ أمره فحصدها وفركها بيده، ثمّ ذرّاها وأتاه بحجرين فطحن، وأتاه جبريل بنار وخبزه ملّة، وآدم أوّل من خبز الملّة. وروى سفيان بن عيينة بإسناده إلى ابن عبّاس، رضي الله عنه، قال: لمّا أنزل الله تعالى آدم الأرض جاع، فقال: يا ربّ، أطعمني. فأوحى الله إليه: لا تنال دون أن تعمل عملا يعرق منه جبينك. فخبز خبز الملّة. وقال أبو صالح عن ابن عبّاس، قال: لمّا رأى الله تعالى عري آدم وحوّاء أمره أن يذبح كبشا من الضأن، من الأزواج الثمانية، فذبحه، ثمّ أخذ صوفه، فغزلته حوّاء ونسجه آدم، فعمل منه جبّة لنفسه ودرعا وخمارا لحوّاء؛ وهو أوّل من حاك في الأرض وخاط. ثمّ أنزل الله عليه الكلبتين والمطرقة، فكان يكسر الأشجار بالمطرقة، وعمل التّنّور الذي ورثه نوح وفار الماء منه كما نذكر من خبره في قصّة نوح، عليه السلام، إن شاء الله تعالى.

وقال مجاهد: أتاه جبرائيل بالجلم فجزّ الشاة، وغزلت حوّاء صوفها، وحاكه آدم عباتين فلبساهما. ثمّ جاء جبرائيل بثورين فعمدهما، ثمّ زرع عليهما، ثمّ حصد ودرس، ثمّ ذرّى، ثمّ صفّى، ثمّ طحن وعجن، ثمّ خبز وأكل. وقال سعيد بن جبير: (41) ثمّ جاءه جبرائيل بثور أحمر، فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه ويقول لحوّاء: أنت عملت بي هذا. قال سعيد: فليس أحد من ولد آدم يعمل على ثور إلاّ ويقول: حو، حو. قال: فحينئذ قال آدم: هذا ما وعدني ربّي من قوله: {فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى}. قال قتادة: جاءه جبرائيل بنار، فأخذها بيده فاحترقت يده، فقال: يا جبرائيل، احترقت يدي ولم تحترق يدك! فقال: لأنّ يدك خاطئة. قال: وجبرائيل جاءه بالمقدحة وغيرها. وروى مجاهد، قال: عن ابن عبّاس، لمّا هبط آدم إلى الأرض على جبل سرنديب فقد كلام الملائكة وتسبيح أهل السموات ونظر إلى الأرض وسعتها واستوحش، فقال: يا ربّ، املأ هذه الأرض من يسبّحك ويقدسّك. فأوحى الله تعالى إليه: قد استجبت دعاءك، وسأفعل ذلك. ومن الحوادث <بكاؤه. حدّثنا عبد الرحمن بن أبي حامد الحربيّ

(42) فصل فيما نزل مع آدم من الجنة

بإسناده> عن الحسن البصريّ، رحمه الله، قال: لمّا أهبط آدم من الجنّة بكا ثلاثمائة عام، لا يرفع إلى السماء رأسه حياء من الله تعالى، ولا وضع يده على حوّاء ولا ألفها ولا سكن إليها، ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوما. فجاءه جبرائيل، فقال: يا آدم، ما هذا الجهد الذي بك؟ وما هذه البليّة التي أجحفت بك؟ وما هذا البكاء؟ فقال: كيف لا أبكي؟ (42) فصل فيما نزل مع آدم من الجنّة نزل معه الحجر الأسود، وكان أشدّ بياضا من الثلج، ونزل معه الركن والمقام، وهما ياقوتتان من ياقوت الجنّة. ونزل معه عصا موسى، وكانت من آس الجنّة، طولها عشرة أذرع-هذا ما رواه ابن الجوزيّ، رحمه الله. وروى المسعوديّ وغيره: أن أهبط آدم على جبل بالهند بسرنديب، وعليه الورق المخصوف من الجنّة، فتحاتّ الريح الورق فنبت منه بأرض الهند أنواع الطيب والأفاويه والثّمر الذي لا يوجد إلاّ هناك.

وكنّا الله تعالى آدم بأبي محمّد، وكان من صفته أنّه طويلا أجعد الشعر، أجمل ما يكون وأحسن، فلمّا أنزله الله إلى الأرض نقّص من حسنه ولونه وكان يتكلّم في الجنّة بالعربيّة، فحوّله الله تعالى إلى السّريانيّة. ونقّص من حسن حوّاء، وكان بيدها قضيب من الجوهر، فتناثر فكان الجوهر منه. وكان مع آدم قبضة من برّ وعصي من بعض شجر الجنّة، يقال: إنّها العوسجة ويقال: إنّها من آس الجنّة، وهي التي عادت بيد موسى، عليه السلام. ونزل مع آدم ثلاثين قضيبا من قضبان الجنّة، جعلها إكليلا على رأسه، هذه رواية المسعوديّ وغيره، قال: منها عشرة طاهرة القشر، وهي: الجوز واللّوز والفستق والبندق والبلّوط والقسطل وجوز الهند والرّمّان والشّاهلوك والموز والخشخاش. ومنها عشرة لهم نوا، وهي: الخوخ والمشمش والإجّاص والرّطب والغبيراء (43) والزّعرور والمقل والنّبق والقراسيا وعين البقر. ومنها عشرة لا قشر لها ولا نوا، وهي: التّفّاح والكمّثرى والسّفرجل والعنب والتّين والأترجّ والخيار والبطّيخ والنارنج واللّيمون، وقيل: أوّل ما أكل في الأرض: الكمّثرا.

وتاب الله عزّ وجلّ، على آدم بعد مضيّ مائة عام، وقيل: أقلّ. ثمّ أتاه جبريل، عليه السلام، وعلّمه الكلمات، وهي: لا إله إلاّ أنت، عملت سوءا وظلمت نفسي، فاغفر لي وأنت خير الغافرين. وعلّمه استخراج الحديد وسبكه، وعمل العدد، والزراعة والتسبّب فيما يأكله في دوابّ البحر ودوابّ البرّ، وما يتجنّبه. وأمره بالمشي إلى مكّة، فكان موضع قدمه عمرانا، وما بينهما مفازة. وأتا إلى جدّة، وإذا بحوّاء تبكي، فقال: هذا عملكي. وقيل له: إيت الكعبة وطف بها. فتلقّته الملائكة في الأبطح، فقالوا له: حيّاك الله، يا آدم، لقد طفنا بهذا البيت قبلك بمائة ألف عام. وعلّمه جبريل المناسك، وأنزل عليه إحدى وعشرين صحيفة، وفرضت عليه الصلاة والزّكاة والاغتسال من الجنابة والوضوء والصوم، وزرع وحصد وعجن وخبز. وقيل له: دأبك أنت وذرّيّتك، فقال: يا ربّ، ما بلغت هذا إلاّ بشقّ النفس، فقال: هذا بخطيّتك. وعوقبت حوّاء بعشر خصال: بوجع العذرة، وطلق المخاض، ووجع الولادة، والحيض، وحزن الموت، وقناع الرأس، والملك تحت أيدي الرجال، والوله عند المصيبة، وتكون أسفل من الرجل وقت الجماع. وجمع بين آدم وحوّاء بجمع وتعارفا بعرفات.

وعوقب آدم بنقصان طوله وحسنه ولونه، وخوفه من السباع (44) بعد أن كانت تخافه، وحكم عليه وعلى ذرّيّته بالموت. وعوقبت الحيّة بقصّ جناحيها، وعدم يديها ورجليها، وأن تمشي على بطنها، وشقّ لسانها، وأعدمها نطقها، وخوّفها من الناس، وجعل غذاءها التراب. ثمّ إنّ آدم، عليه السلام، غشي حوّاء فولدت له قابيل وتؤمته، ثمّ ولدت له هابيل وتؤمته <قليما>. وكانت ولادتها ذكرا وأنثى في كلّ بطن. وكان اسم تؤمة هابيل: لبودا. وشغل قابيل بالحرث، وشغل هابيل برعي الغنم. ثمّ أمر آدم أن يزوّج قابيل من أخت هابيل، فظنّ قابيل بأخته وقال: أنا أحقّ بأختي منه، فأمرهما آدم أن يقرّبا قربانا، فأيّهما يقبل قربانه كان أحقّ بها من صاحبه، فرضيا بذلك. فقرّب هابيل أسمن كبشا كان في غنمه، وقرّب قابيل أرذل ما كان في زرعه، وكانا بمنا يوم الجمعة، فجاءت النار إلى القربان، فحملت كبش هابيل ولم تقبل قربان قابيل. فأغضبه ذلك، وعزم على قتله، فلم يدر كيف يقتله. فعمد إبليس إلى طائر فرضخ رأسه بحجر فقتله. فأغفل قابيل هابيل حتّى نام عند غنمه وهي ترعا، فحمل حجرا فطرحه على رأسه فقتله: {فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ}.

ثمّ أرسل الله غرابين، فقتل أحدهم الآخر، ثمّ حفر له أخدودا في الأرض حتّى دفنه، ففعل بأخيه كذلك. وكان لمّا طال تحسّر آدم على الجنّة، أنزل الله عليه خيمة من خيم الجنّة، من ياقوتة حمراء، وضعت موضع الكعبة. فلمّا تمّ ثلاث وثلاثين سنة من هبوطه ولد له شيث، عليه السلام، وهو هبة الله، وتؤمته. وأجمعت أهل التاريخ أنّ حوّاء ولدت لآدم مائة وعشرين بطنا تؤمان. وأمر آدم بكتب الصحيفة، وعلّم اللغات كلّها، (45) والأسماء التي تقهر بها الجنّ والشياطين، وحساب الأزمنة، وسير الكواكب. وسأل ربّه أن يريه مثال الدنيا وما يكون فيها من خير وشرّ، فمثلت له برّا وبحرا، فنظر إليها ومن يملكها ومن يسكنها من ولده، وصور الأنبياء وما يكون في العالم من خير وشرّ. ولمّا كثر ولده وولد ولده، أرسله الله تعالى إليهم يأمرهم بما أمر الله، وينهاهم عمّا نها الله. ويقال: إنّه أرسل وهو ابن سبعمائة وسبعين سنة.

ذكر قابيل بن آدم وما كان من أمره بعد أن قتل أخاه هابيل

ولمّا أراد الله أن يتوفّاه أمره أن يسند وصيّته إلى شيث، عليه السلام، ويعلّمه جميع العلوم التي علّمها. ففعل ذلك. وكان وفاته، عليه السلام، أنّه انصرف هو وبنوه من الفلاحة موعوكا بحمّى. ومرض إحدى وعشرين يوما، والملائكة تختلف إليه. ويقال: إنّه اشتهى قطفا من عنب الجنّة، ووجّه بعض بنيه في طلبه، فلقيه جبريل، عليه السلام، فعزّاه وقال: ارجع، فإنّ أباك مات. وكان سنّة يوم مات تسع مائة سنة وخمسين سنة، بعدما وهب لداود، عليه السلام، من عمره خمسين سنة. وأتاه جبريل، عليه السلام، بكفن من الجنّة، وعلّم شيث كيف يغسله ويحنّطه. وقيل له: هذا سنّة في موتاكم، يا آدم. وحمل إلى غار الكوكب في <جبل> أبي قبيس. وكانت وفاته، عليه السلام، يوم الجمعة. ومات وولده وولد ولده أربعون ألفا. ورفعت الخيمة الياقوت التي كانت أهبطت عليه من الجنّة، وحزنت حوّاء عليه حزنا شديدا، وتوفت بعده بسنة واحدة، وصلّى عليها شيث، عليه السلام، ودفنت إلى جانبه صلى الله عليه وسلّم. ذكر قابيل بن آدم وما كان من أمره بعد أن قتل أخاه هابيل كان قابيل أوّل ولده، وهو أوّل من عصى على وجه الأرض وقتل

ذكر شيث بن آدم، صلوات الله عليهما، وعدد الكتب والصحف التي أنزلت عليه

(46) وكفر من الإنس. ولمّا فعل بأخيه ذلك، هرب ناحية وبنا قرية يقال لها: جمرة. وقابيل هو أوّل من عبد النار، وقيل: إنّه أشقى البريّة كلّها، وأنّ عليه نصف عذاب الخلق كلّهم. وقيل: إنّه لا يسفك دم بغير حقّ إلاّ كان شريكا لصاحبه فيه إلى يوم القيامة. ذكر شيث بن آدم، صلوات الله عليهما، وعدد الكتب والصحف التي أنزلت عليه هو هبة الله بن آدم، عليهما السلام، بعثه الله عزّ وجلّ إلى ولد أبيه، وأنزل عليه تسعة وعشرين صحيفة لتتمّة خمسين صحيفة عليه وعلى أبيه آدم، هذه رواية المسعوديّ. وأمّا القضاعيّ، فقال: أنزل على شيث خمسين صحيفة. وأمر ببناء الكعبة، وهو البيت الحرام، فبناه هو وولده بالحجارة والطين، وأمر بالحجّ إليه، وكان أوّل من اعتمر، وأمر بمجاهدة بني قابيل. وولد له أنوش، وهو بكره ووصيّه، وولد له أبي بكيش. ومن ولد أبي بكيش: يغوث ويعوق ونسرا وودا وسواع. وكان هؤلاء النفر صالحون، فلمّا ماتوا حزن أولادهم عليهم، فتمثل لهم إبليس، وصوّر

ذكر أنوش بن شيث بن آدم، عليه السلام

صورهم في بيوتهم يذكرونهم، فلمّا هلكوا أولادهم ونشأ غيرهم من أولاد الأولاد، أخرجهم إبليس إليهم وقال لهم: هؤلاء آلهة آبائكم الذين كانوا يعبدونهم. واستهواهم إبليس فعبدوا تلك الصور والتماثيل. ومات شيث وعمره تسع مائة سنة واثنتا عشر سنة، وكان قد أسند وصيّته إلى ولده أنوش. ذكر أنوش بن شيث بن آدم، عليه السلام وكان علّم ولده أنوش الصحف وبيّن له، فشهد الأرض وما يكون فيها، وأمره بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحجّ والصوم ومجاهدة بني قابيل. ففعل جميع ما أمره به. ومات وعمره ثمان مائة سنة وخمس وسبعون سنة، (47) وأسند وصيّته إلى ولده قينان. ذكر قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، عليه السلام وكان قد علّمه الصّحف وسائر الأحكام والشرائع وجميع ما كان أبوه وجدّه عليه من عمل الخير. ومات وعمره سبع مائة وخمسة وستّون سنة. وجعل وصيّه ولده برد بن قينان. ذكر برد بن قينان بن أنوش بن آدم، عليه السلام استقرّ برد بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، وصيّ أبيه قينان، بعد

ذكر أخنوخ، وهو إدريس النبي، صلوات الله عليه وسلم

ما علم سائر المنافع من عمل الخير وتجنّب الشرّ وجميع ما يحدث في العالم، وتمّ للعالم في وقت وصيّة برد بن قينان ألف سنة وستّمائة سنة وأربعين سنة. هذه رواية محمّد بن جرير الطّبريّ. وولد له أخنوخ وهو ابن مائة سنة، ومات وله من العمر سبع مائة وسبعين سنة، وأوصى إلى ولده أخنوخ. ذكر أخنوخ، وهو إدريس النبيّ، صلوات الله عليه وسلم هو إدريس، عليه السلام، وسمّاه الله تعالى إدريس لكثرة دراسته للصحف، وأنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة. وكان أوّل من أعطي النبوّة، وأوّل من خطّ بالقلم، وأوّل من خاط الثياب، وأوّل من أظهر علم النّجوم ودلّ على تركيب الأفلاك وقدّر سير الكواكب ونبّه على عجائب الصنع فيها، وأوّل من جاهد، وأوّل من استرقّ الرقيق من ولد قابيل. قال: وكان ذلك كلّه في حياة آدم، عليه السلام. ورفع إلى السماء وله من العمر ثلاثمائة وخمس وستّون سنة. ويقال: إنّه قبضت روحه في السماء الرابعة، وصلّت عليه الملائكة، وبدنه في السماء الرابعة، تصلّي عليه الملائكة كلّما هبطت. وقيل: مات وأحياه الله تعالى وأدخله الجنّة، وهو فيها إلى الآن.

(48) هذا ما رواه محمّد بن سلاّم القضاعيّ في تاريخه. وأمّا رواية المسعوديّ، فقال: إنّ الله تعالى أنزل على إدريس، عليه السلام، ثلاثين صحيفة، فتمّت الصحف يومئذ: ثمانون صحيفة. وكان أبوه برد قد دفع إليه صحف السرّ، وقال: إن إدريس، عليه السلام، لم يدرك عهد آدم ولا شيث، عليهما السلام. ولم يفتح صحف السرّ بعد شيث إلاّ إدريس، عليهما السلام. ووافق محمّد بن سلاّم في بقيّة ما رواه، وزاد عليه، أن قال: وإنّه جمع جميع الصحف، وتركها في هيكل، وأمر بني آدم وولدهم بدراستها. ومن رواية الطبريّ والقضاعيّ: أنّهم كانوا يلبسون قبل إدريس عليه السلام، الجلود، وأنّ إدريس أوّل من خاط الثياب. ومن رواية المسعوديّ، فقال: إنّهم كانوا يلبسون الخزّ والحرير وغيره من القمص الملوّنات والمنسوجات بالذهب والجوهر، ويلبسون التيجان المرصّعة بذلك. وقد كانت حوّاء أمرت بالغزل والنسيج من القطن والكتّان والوبر، وكست أولادها.

ولمّا ولد إدريس، عليه السلام، سقط صنم عظيم من أصنامهم كانوا يعبدونه ويعتكفون عليه ويذبحون له الذبائح. وأتاهم إبليس في صورة شيخ قد شاب، وكان الشيب لا يعرفونه من قبل؛ وقيل: إنّ إبليس أتاهم في زيّ روحانيّ له جناحان، فأخبر محويل الملك يومئذ، أنّه قد ولد لبرد مولود، يكون عدوّا للآلهة، وسبب فسادها، وعدوّ الملك. فقال له محويل الملك: أفلا تقدر على هلاكه؟ قال: سأحرص على ذلك. فوكّل الله تعالى بإدريس، عليه السلام، ملائكة يحفظونه، فإذا أتاه إبليس وجنوده، منعوهم منه. وظهر في وقته كوكب له عدّة ذوانب، أقام نيّفا وثلاثين يوما. ولمّا كبر إدريس جعله أبوه سادن الهيكل، وعلّمه الصحف، ولم (49) يزل على ذلك حتّى بلغ أربعين سنة، فأتاه وراييل الملك، فعلّمه علم الفلك والكواكب وسعودها ونحوسها وصور البروج والمنازل والدرج. وهو أوّل من نظر في النجوم بعد آدم، عليه السلام، وسمّي خادم الله. وفي التوراة مكتوب: إدريس أحسن خدّام الله. ولمّا رأى إدريس انهماك بني قابيل في المعاصي وعبادة الأصنام سأل الله أن يرفعه إليه ويطهّره من خطاياهم، فأجابه الله تعالى إلى ذلك، وأوحى إليه أنّ: لازم الهيكل أنت وشيعتك أربعين يوما-وكانوا سبعين رجلا أحبارا. فاغتسلوا ودخلوا هيكل الله المنصور، فدرسوا فيه أربعين

ذكر متوشلح بن إدريس، عليه السلام

يوما. وأوصى إدريس ابنه متوشلح بأمر الله تعالى، فإنّ الله تعالى أوحى إليه: إنّي سأخرج من ظهره نبيّا أرضى فعله. ثمّ رفع إدريس إلى السماء، إلى: {مَكاناً عَلِيًّا}، وقيل: إنّه كان له مع ملك الموت قصّة، وقد سأله أن يذيقه طعم الموت. ثمّ سأل الله أن يريه رضوان ويدخله الجنّة، ففعل له ذلك؛ ثمّ إنّه لم يخرج منها. ورفعه الله تعالى وله من العمر ثلاثمائة وخمس وستّون سنة، والله أعلم. ذكر متوشلح بن إدريس، عليه السلام فقام متوشلح مع إخوته وبني أبيه قدّام الهيكل يعبدون الله، هو والنقابة السبعون الذين كانوا مع إدريس، عليه السلام. ولمّا رفع الله تعالى إدريس كثر الاختلاف والتنازع، وأشاع إبليس عنه أنّه هلك، وأنّه كان كاهنا أراد الصعود إلى الفلك فأحرقته الأنوار. وحزن عليه ولد آدم المتمسّكون بدينه، وسرّ بفقده محويل الملك. وأظهروا أن صنمهم الأكبر أهلكه، فزادوا في عبادة الأصنام وتخليقها، وذبحوا لها الذبائح وقرّبوا القربانات وعملوا عيدا لم يبق أحد إلاّ حضر فيه. (50)

ذكر لامك، أبو نوح، عليه السلام

وكانت لهم يومئذ سبعة أصنام وهم: يغوث ويعوق ونسرا وودا وسواع وسرهد وسند. وانقطع عن بني أبي متوشلح الوحي. وماتت أولئك النقابة، وكلّما مات واحد صوّروه أهله وبنوه في بيت لهم ليذكرونه ويستغفرون له. وقد كان متوشلح أراد فساد تلك الصور فامتنعوا عليه. فلمّا حضرته الوفاة أوصى لولده لامك، وكان عمر متوشلح يوم وفاته تسعمائة سنة واثنتين وثلاثين. وانتقلت الوصيّة إلى لامك <وهو> أبو نوح، عليه السلام. ذكر لامك، أبو نوح، عليه السلام وقد كان لامك قد رأى في نومه أنّ نارا تخرج من إحليله حتّى أحرقت العالم. ورأى في وقت آخر كأنّه على شجرة في وسط بحر لا قرار له. ولمّا ولد نوح، عليه السلام، كان ثمّ في زمانه علوج الكاهن، فأتا إلى الملك محويل وعرّفه أنّ العالم يهلك في زمانه وأنّه يكون طويل العمر، وقد كانوا رأوا أن طوفان يكون حتّى يغرق الأرض ومن عليها. فأمر

ذكر نوح، عليه السلام، وقصته مع قومه

محويل الملك أن تبنا المعاقل على رؤوس الجبال والبنيان العالي ليتحصّنوا فيها. فعملوا سبعة معاقل، بعدد الأصنام التي لهم وعلى أسمائهم. وزبروا فيها علومهم وادّخروا أموالهم، وذلك شيء عمله الملك لنفسه خاصّة. وكبر نوح، عليه السلام، ونبّأه الله عزّ وجلّ. ذكر نوح، عليه السلام، وقصّته مع قومه ولمّا صار لنوح، عليه السلام، من العمر خمسين سنة، أرسله الله تعالى إلى قومه. وكان نوح، عليه السلام، دقيق البشرة، في رأسه طول، عظيم الساعدان والساقان، كثير لحم الفخذين، طويل اللحية عريضها، جسيما. (51) فكان أوّل نبيّ بعد إدريس، عليهما السلام؛ وهو من أولي العزم من الرسل. وفي بعض الأخبار أنّه عمّر ألف ومائتان سنة وخمسون سنة. وكانت شريعته التوحيد والصلاة والصيام والحجّ والجهاد والأمر بالحلال والنّهي عن الحرام، ولم يفرض عليه أحكام ولا حدود ولا مواريث. وأمر أن يدعوا الناس إلى الله تعالى ويحذّرهم من عذابه ويذكّرهم آلاءه. وعلى رأس مائتي سنة من عمره هلك محويل الملك. وملك

الدرمشيل بن محويل، فشدّد الدرمشيل عبادة الأصنام وأعلا أمرها وجمع الناس إليها وأخذهم بالتعبّد لها. فأظهر نوحا، عليه السلام، دين الله تعالى، وكان يدور بحاله وأسواقه يدعوا الناس إلى عبادة الله تعالى وترك الأصنام. وكانوا يطوون ذلك عن ملكهم ويزجرون نوحا ويهزلون به، وهو مع ذلك يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ، إلى أن انجلت قضيّته وظهر أمره وشاع وعلن وفشا ذكره في الناس، تخاطبوا في أمره إلى أن وصل ذلك بملكهم، فأحضره وانتهره وقال: لا تعاود ذكر ذلك. وقيل: إنّ الذي فعل ذلك هو محويل الملك قبل وفاته، وأنّه سجن نوحا. فلمّا ملك الدرمشيل أخرجه من السجن وتقدّم إليه أنّه لا يعاود في ذلك. وكان لأصنامهم في كلّ سنة عيد عظيم، لكلّ صنم منهم يوم من السنة. فاجتمع الناس على عيد من أعيادهم، فأتاهم نوحا، عليه السلام، وقام في وسطهم، وكان ذلك عيد صنمهم الأكبر يغوث، وقال: قولوا: لا إله إلاّ الله. فوضعوا أصابعهم في آذانهم وأدخلوا رؤوسهم في ثيابهم، وسقطت الأصنام عند نداء نوح، عليه السلام، (52) عن كراسيّها، فوثبوا إليه ثمّ ضربوه وشجّوه حتّى سقط على وجهه وجعلوا يسحبونه إلى قصر الملك. فأدخلوه إليه، وكان في مجلس مصفّح بالذهب، ملوّن بجميع الألوان. فلمّا مثل بين يديه قال: إلى كم أحسن إليك وأنت تأبى إلاّ

المخالفة ولما كانوا عليه بنو أبيك وأجدادك، ولا يقنعك ذلك حتّى تنادي في الناس في يوم عيدهم وتدعوهم إلى ما لا يعرفون، وزاد أمرك حتّى سحرت الآلهة وألقيتها عن كراسيّها ومواضع شرفها. من علّمك ذلك؟ ومن أين وصل إليك هذا؟ فقال نوح، عليه السلام، وهو مخضّب بدمائه: لو كانت آلهتكم آلهة لما سقطت. فاتّق الله يا درمشيل ولا تشرك به، فإنّه يراك. قال: وكيف قدرت أن تخاطبني بهذا الخطاب؟ وأمر بحبسه إلى أن يحضر عيد لصنم لهم فيذبحونه تقريبا. وأمر أن تردّ الأصنام إلى كراسيّها. ثمّ إنّ الدرمشيل رأى رؤيا هالته في أمر نوح. فأطلقه من السجن وأعلمهم أنّه مجنون. وكان في زمانه سوريب الكاهن، فعرّفهم أمر الطوفان، وكان يأمرهم بقتل نوح، والله يمنعهم منه. وولد نوح-بعد خمسمائة سنة من عمره-ولده سام وبعده حام وبعده يافث، وأمهم بنت أنوشي بن أخنوخ. ثمّ طال أمر نوح، عليه السلام، معهم ولم يجبه إلاّ نفر يسير من العامة. ثمّ إنّهم قالوا له: أنؤمن بك وقد اتّبعك الأرذلون؟ وقيل: إنّ الذين آمنوا بنوح، عليه السلام، كانوا من أهل صنعته، وكان نجّارا. ومضت له ثلاث قرون وهو يدعوهم إلى الله تعالى فلا يزدادون إلاّ تجبّرا واستكبارا، وقتلوا نفرا ممّن كانوا معه. فأوحى الله

عزّ وجلّ إليه: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ} فحينئذ يأس منهم. (53) فدعا عليهم وقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيّاراً}. فأمر بعمل السفينة. وقطع الله تعالى عنهم النّسل، فما عاد يلد لهم ولا لمواشيهم. وأكثر فيهم القحط وقلّل العمارة وقطع المطر وعادون يستسقون بأصنامهم فلا تنفعهم. وأخذ نوح في عمل السفينة، وكانت من خشب الساج، أقام يقطع خشبها ويكسره ويصلحه ألواحا في مدّة ثلاث سنين. وطبع المسامير وأصلح جميع ما احتاج إليه. ونصبها في رجب، وجعل طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعا، وتلك الأذرع سوداء. وجعل عمقها سبعون ذراعا. ويقال: إنّه لم يدر كيف يعملها، فأتاه جبريل، عليه السلام، فعلّمه كيف يصنعها. فصاروا يمرّون به وهو يصنع الفلك، فيضحكون منه ويسخرون به ويرمونها بالحجارة. وجعل بابها في جنبها. فأقامت بعد عملها على البرّ سبعة أشهر، إلى أن أخذوا المئة نفر ممن كانوا آمنوا بنوح، فذبحوا للأصنام لترفع عنهم القحط وما هم فيه من البلاء، فحقّ عليهم العذاب. فأمر نوح عند ذلك أن يحمل معه في السفينة {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ}

{اِثْنَيْنِ} من سائر المخلوقات، ففعل ذلك. وكانت الطبقة السفلى للدوابّ والأنعام والوحوش، والثانية للطعام والشراب. وحصل معه جسد آدم وكان في تابوت من خشب. وكانت الطبقة الثالثة له ولبنيه وكنائنه ولمن آمن معه، وكانوا ثمانون نفسا. وحملت الملائكة إلى السفينة تابوت آدم، عليه السلام، من تهامة. وكان في السفينة معهم فليمون الكاهن-كاهن مصر-لأنّه كان حضر رسولا من قبل ملك مصر إلى الدرمشيل يأمره أن يمنع نوحا من التعرّض إلى الأصنام، فآمن بنوح وركب (54) معه في السفينة وبعض الذين آمنوا به من ولد أبيه وجدّه إدريس. ولمّا اتّصل الخبر بدرمشيل الملك أن نوحا ركب السفنية ومن معه وحمل زاده، ركب الملك في جميع خاصّته وأرباب دولته، وأتاه فناداه، فاستجاب له، فقال: وأين الماء الذي يحمل سفينتك هذا؟ قال: هو يأتيك في موقفك الذي أنت به؛ وكان الملك قد عزم على إحراق السفينة وسائر من بها. فقال الملك: وهذا أعجب: إنّك تقول: إنّ الماء يكون في أرض يبس فيكون غمرا حتّى يحمل هذه السفينة العظيمة! إنزل منها، ويحك أنت ومن معك، وإلاّ أحرقكم بالنار أجمعين. فقال له نوح: ويلك، ما أشدّ إغرارك بالله عزّ وجلّ. عجّل بالإيمان واخلع الأنداد تسلم وترشد، وإلاّ فالعذاب واقع بك وبمن معك. فبينما هما في المحاورة، إذ أتاه من أخبره أن امرأة كانت تخبز في

تنّور، فنبع الماء منه. فقال: وما عسى أن يكون من ماء فار من تنّور؟ فقال له نوح: ويلك، إنّها علامة السخط، كذلك أوحى الله عزّ وجلّ، إليّ، ربّي سبحانه. وآية ذلك أنّ الأرض تتحلحل ويأتي الماء، فحرّك فرسك ينبع الماء من تحت قوائمه. فحرّك فرسه فنبع الماء من تحت قوائمه، فعدل إلى موضع آخر، فكان كذلك. وأتاه رسوله فأخبره أنّ الماء قد كثر وتزايد، فرجع إلى داره ليأخذ أهله وولده ويمضي بهم إلى تلك المعاقل التي بنيت برسمه، وكان قد أعتد بها من الزاد والشراب ما يكفيه عدّة سنين. فأخذ أهله وأتا إلىّ نحو الجبل، فكانت الحجارة تنحطّ عليهم، على رؤوسهم، وفتحت أبواب السماء عليهم، فخرجوا لا يدرون أين يتوجّهون. وقيل: إنّه كان ماء حارّا منتنا. وقد كان بعض ولده لم يامن به، وهو الذي أخبر الله تعالى عنه. وقيل: بل كان ولد (55) الكاهن أفليمون. وأنّ المخاطب له كان نوحا دون أبوه. وكان فوران التنّور بالكوفة. وغرّق الله الكافرين أجمعين، ولم تغن عنهم معاقلهم شيئا. وقيل: إنّ السفينة أقامت في الماء خمسين ومائة يوما. وقال قوم من أهل الأثر: أحد عشر شهرا. وقال آخرون: كان الطوفان في رجب. ووقفت {عَلَى الْجُودِيِّ} يوم عاشوراء، فجمع نوح جميع ما كان تبقّى معه من أصناف الحبوب، وطبخ قدرا، فمن ثمّ كانت سنّة الحبوب في يوم عاشوراء.

وفي التوراة أنّ الله تعالى آلا على نفسه أن لا يعذّب أمّة بعدها بالطوفان. وكان بين هبوط آدم، عليه السلام، والطوفان ألفا سنة ومائتي سنة وستّة وخمسون سنة. ثمّ أرسل الله تعالى ريحا طيبا فنشّف بها الأرض. ولمّا {اِسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} أمر نوحا أن يفتح باب السفينة. ثمّ أرسل الغراب لينظر فلم يعد إليه. فدعا عليه أن يكون مباعدا ورزقه الجيف. ثمّ أرسل الحمامة فرجعت إليه وقد انصبغت رجلاها بالطّين. فدعا لها أن تكون إلفا لبني آدم. وعادت رجلاها منذ ذلك اليوم مصبوغتان. ثمّ أبعدها بعد ذلك اليوم سبعة أيام، فعادت إليه وفي منقارها ورق الزّيتون أخضرا، وقيل: بل كان من عشب الأرض. وفي التوراة أنّ الأرض جفّت في سبعة وعشرين يوما من الشهر الحادي عشر. ونزل نوحا وبنوه سام وحام ويافث ومحظبون، وهو الذي ولد له في السفينة. ولمّا استقروا على الأرض بنوا قرية وسمّوها: سوق ثمانين، فسكنوها. وقال الله عزّ وجلّ، لهم: اسكنوا واكثروا واعمروا واملوا الأرض {وَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً} فقد باركت فيكم (56)

ذكر أولاد نوح، عليه السلام، وهم سام وحام ويافث وما ولد كل إنسان منهم من الأمم

{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ} و {الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} وما ذبح لغيري {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاّ بِالْحَقِّ}. ثمّ وجّه نوح التابوت الذي لآدم، عليه السلام، إلى مكانه بغار أبي قبيس. ثمّ قسّم الأرض بين بنيه. فقال لحام ويافث، إنّه أعطى لولده سام خير الأرض وأعلاه عليّا، فتعادوا منذ ذاك، وتحاربوا، وقتل بعضهم بعضا. ذكر أولاد نوح، عليه السلام، وهم سام وحام ويافث وما ولد كلّ إنسان منهم من الأمم ونبتدئ بذكر حام وبعده يافث وبعده سام، ليكون متّصلا بالعرب والأنبياء، صلوات الله عليهم أجمعين. فأمّا حام، فيقول أهل الأثر: إنّ نوحا، عليه السلام، دعا عليه بتشويه الولد وسواده، وأن يكونوا عبيدا لولد سام. ففرقة من أهل العلم يدّعون أنّ سبب الدعوة كشف سوءة نوح، عليه السلام فغطّاها وسترها سام، وضحك وسخر منها حام. قلت: وهذا كلام ضعيف جدّا. وأمّا المستحسن في هذه الحالة، ما رواه عبد الملك بن هشام في كتاب التّيجان، المختصّ بملوك التبابعة من حمير بن كهلان، وذلك أن السفينة، لمّا كان أوان الحجّ، قذفتها الرياح إلى أرض تهامة. وأوحى الله إلى نوح: إنّكم بالحجّ، فاعتزلوا النساء. فجعل النساء بمعزل والرجال

بمعزل، وجعل بينهم حاجزا من تراب. فلمّا كان الليل تخطّا حام ذلك التراب ووقع على أهله. فلمّا كان الغد رأى نوح الأثر، فقال: سوّد الله نطفة من فعله، ولم يعلم أنّه ولده، فأدركته الدعوة، فولدت زوجة حام غلاما أسودا فسمّي كوشا. فهو أوّل أسود كان بالدنيا. وربّما أنّ هذا الكلام يقع في النفس، (57) بخلاف غيره، والله أعلم. ثمّ إنّ حام أراد قتل زوجته، لمّا رآه أسودا، فمنعه سام ويافث، وذكّراه بدعوة أبيه، فكفّ عن ذلك. وقال آخرون: إنّ أوّل مولود ولد لحام هو كنعان. وقيل: إنّ بنوا نوح تحاملوا على بعضهم البعض بسبب قسمة الأرض، وتفرّقوا، ووقعت العداوة بينهم من ذلك العهد. وكان آخر أمر حام أنّه هرب إلى ناحية مصر، وتفرّق بنوه، ومضى على وجهه يؤمّ المغرب حتّى انتهى إلى الغرب الأقصى، إلى موضع يعرف اليوم أصيلا، وهو آخر مرسى المراكب من بحر الأندلس إلى ناحية القبلة، وليس بعده للمراكب مذهب. ويقال: إنّ بنوه اغتمّوا لمفارقته، وندموا على تركه، فخرجوا في أثره يطلبونه في النواحي التي أمّها. ويقال: إنّ طائفة منهم وقعوا عليه وصاروا عنده إلى أن مات، وقطنوا بعده تلك الديار، وتناسلوا فيها، وهم أصناف السودان. وكلّ طائفة من

ذكر كنعان بن حام وأولاده وشعوبه والفراعنة منهم

ولده بلغت موضعا، وانقطع خبره عنهم. وكانوا بنو قفط قد خرجوا وأقاموا بمكان البربر وتناسلوا هنالك. وقيل: إنّ حام عاش أربع مائة سنة وإحدى وأربعين سنة. وقال آخرون: إنّ حام عاش سبع مائة سنة وإحدى وسبعين سنة. ولمّا مات دفنوه في شجرة منقورة في لجف جبل أصيلا، والله عزّ وجلّ أعلم. ذكر كنعان بن حام وأولاده وشعوبه والفراعنة منهم قيل: إنّ كنعان بن حام أوّل من غيّر ذكر نوح، عليه السلام، وهو في رواية كثير من العلماء، أنّه الأكبر من ولد حام، وأنّه عمل بعمل ولد قابيل. وهو أوّل من اغترّه إبليس بعد الطوفان، وألقى العداوة بين (58) ولد جدّه، ومنه كان الجبابرة الكنعانيّون، الذين كانوا بالشام. ويقال: إنّ فراعنة مصر منهم، وجالوت الذي قتله داود، عليه السلام، أيضا منهم. وهؤلاء غير العمالقة الذين من ولد سام، وسنذكر أخبارهم عند ذكر ولد سام، إن شاء الله تعالى. من هؤلاء الكنعانيّين الذين قاتلهم موسى، عليه السلام، ويوشع بن نون من بعده، وهم الذين عيّنهم الله، عزّ وجلّ، في قوله {قَوْماً جَبّارِينَ}، وكانوا عظام الخلق فيما يقال. ومنهم فلسطين وصيدا وبيروت، وبهم سمّيت تلك الأرض. ومن ولده نبيط، وبه سمّي نبيط السودان، وقيل: إنّهم سمّوا بذاك كونهم استنبطوا الأرض وعصروها، وكانوا أصحاب عمارة وتدبير.

ذكر ملوك مصر من ولد حام،

ثمّ ولد حام من كنعان أمما، منهم: الأسبان والزنج وعدّة أجناس تناسلوا بالمغرب نحو من سبعين جنسا. وهم مختلفون في أفعالهم، ولهم ملوك. فمنهم أجناس يلبسون الجلود، ومنهم من يتّزر بالحشيش، ومنهم من يعمل لأنفسهم قرونا من عظام الدوابّ، وعندهم فأر يأكلونه ويسمّونه: ابن السماء. ويتزوّج الواحد منهم العشرين من النساء، فيبيت كلّ ليلة مع اثنتين منهم، فإن جامعهنّ وإلاّ طلّقهنّ منه الملك. وربّما أجدبوا، فإذا أرادوا أن يستسقوا، جمعوا العظام فكوّنوها تلاّ عظيما وضرموها بالنار، ورفعوا أيديهم إلى السماء، ويتكلّموا بكلام لا يدر معناه، فيسقوا. ولهم أحوال كثيرة أضربنا عنها للاختصار، والله أعلم. ذكر ملوك مصر من ولد حام، رواية المسعوديّ أمّا ملوك مصر من ولد حام، فإنّهم أربعة من رواية. . . وهم قفط بن مصر بن بيصر بن حام، وأشمن بن مصر بن بيصر بن حام، وصا بن مصر بن بيصر بن حام، وأترب بن مصر بن بيصر بن حام، وسنورد عند ذكر

ذكر أولاد يافث بن نوح، عليه السلام، وقبائلهم وشعوبهم وأخبارهم

(59) مصر وأخبارها رواية غير رواية المسعوديّ في أنساب ملوك مصر من وجه آخر، إن شاء الله تعالى. قال المسعوديّ: فقسمت مصر بين هؤلاء الأربعة. فكان حيّز قفط من مصر إلى حدّ بلد النوبة، وحيّز أشمن من مصر الربع الثاني إلى دهشور، وحيّز صا من مصر الربع الثالث من مصر إلى البحيرة والإسكندريّة، وحيّز أترب من مصر الربع الرابع من مصر إلى الشجرتين، إلى أيلة من الحجاز. وبنى كلّ واحد من هؤلاء مدينة وسمّاها باسمه. وجعلوا أسفل الأرض خمسا وثمانين كورة مقسومة على أربعة أعمال. وفي كلّ كورة كاهن يجلس على منبر من ذهب، مرتبته فيه. وكانت الإسكندريّة، واسمها وقوده، جعل لها خمسة عشر كورة، وجعلوا فيها كبار الكهنة، ونصبوا فيها هياكل معظّمة عندهم، بخلاف غيرها. فكان بها مائة صنم من ذهب. وجعلوا الصعيد ثمانون كورة على أربعة أقسام. وكانت مدن مصر نيّفا وثلاثين مدينة، فيها جميع العجائب والكور، مثل: قوص وأسوان وإخميم وقفط وأسيوط ومنفلوط وأسمونين وأنصنا وبهنسا، وما أشبه ذلك. وكلّ كورة من هؤلاء سمّيت باسم الكاهن الذي كان بها من قبل تلك الملوك الأربعة أولاد مصر، والله أعلم. ذكر أولاد يافث بن نوح، عليه السلام، وقبائلهم وشعوبهم وأخبارهم وأمّا يافث بن نوح فإنّه أمّ شرق الأرض، وولد له الولد العظيمة، وسكن منهم أرمينية وما جاوز جبالها إلى خلف الأبواب. ونقل أصحاب

ذكر يأجوج ومأجوج. . .

التاريخ: أنّ أولاد يافث سبعة وثلاثون بطنا، لكلّ واحد منهم لغة يتكلم بها هو ونسله. منهم: الانسار والروس وبرجان والحرز (60) والترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج وفارس ويونان وأصحاب جزائر البحر والصين والثغور وأمم لا تحصى. ذكر يأجوج ومأجوج. . . يأجوج ومأجوج: فقد زعموا أنّ العامر من الأرض مائة وعشرين سنة. فقالوا: إنّ سبعون سنة منها ليأجوج ومأجوج، واثنا عشرة للسودان وثمانية للروم، والبقيّة لسائر الأمم، منها للعرب ثلاثة. ويأجوج ومأجوج أربعين أمّة مختلفة الألوان والقدود، ومنهم المشوهين الخلق. ذكر السدّ الذي سدّه ذو القرنين على يأجوج ومأجوج قال الشيخ جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن الجوزيّ في تاريخه المعروف بمرآة الزمان: روى أبو الحسين ابن

المناديّ بإسناده: لمّا عزم ذو القرنين الأكبر على المسير إلى مطلع الشمس، أخذ طريق كابل والهند وبلاد تبت، فتلقّته الملوك بالتّحف والأموال والهدايا، فانتهى إلى الحصون المعطّلة، وقد بقيت فيها بقايا. فسألوه أن يسدّ الرّدم. فنزل ومعه الصّنّاع، واتّخذ قدورا من حديد، كبار كالخوابي. وأمر أن يجعل كلّ أربعة من تلك القدور على ديدكان، طول كلّ واحد خمسون ذراعا. وأمر الصنّاع أن يضربوا لبن الحديد، فضربوها، طول كلّ لبنة ذراع ونصف، وسمكها شبرا بالكبير. وبنوا السّدّ وجعلوا من وسطه بابا عظيما، عليه مصراعين، كلّ مصراع خمسون ذراعا، وعليه قفل نحو عشرة أذرع. فلمّا فرغ من بناء السدّ، أضرم عليه النار، فصار معجونا كأنّه حجر واحد. قال أبو الحسين ابن المنادي: حدّثني أبي، قال: سمعت ابن خرداذبه، قال: سمعت سلاّم التّرجمان يحدّث، وأنا أسمع: أنّ الواثق بالله، أمير المؤمنين، (61) لمّا رأى في المنام أنّ السدّ الذي سدّ على يأجوج ومأجوج قد انفتح، أمر في أن أتوجّه إليه وآتيه بخبره عيانا،

وضمّ إليّ خمسين رجلا من أرباب البيوت، كبار في قومهم. ووصلني بخمسة آلاف دينار، وأعطاني بعدها دية نفسي: عشرة آلاف درهم، وأمر أن يعطى كلّ رجل توجّه معي عطاءة عن سنتين معجّلة، وأنعم على كلّ واحد بعد ذلك بمائة دينار، وجهّزني في مائتي بغل تحمل زادنا وماءنا. فشخصنا من سرّ من رأى وعلى أيدينا كتاب من الواثق إلى إسحاق ابن إسماعيل، وهو يومئذ صاحب أرمينية. فكتب لنا إسحاق إلى صاحب السرير، وكتب لنا صاحب <مملكة> السّرير إلى ملك اللاّن، وكتب لنا ملك اللان إلى قيلانشاه، وكتب لنا قيلانشاه إلى ملك الخزر. فأقمنا عند ملك الخزر أيّاما لأجل الراحة، ثمّ وجّه معنا خمسين رجلا أدلاّء، فسرنا من عنده خمسة وعشرون ليلة، ثمّ انتهينا إلى أرض سوداء منتنة الريح. وقد كنّا تزوّدنا معنا قبل دخولنا إليها طيبا نشمّه لمنع تلك الرائحة الكرهة. فسرنا فيها عشرة أيّام، ثمّ صرنا إلى مدن خراب، فسرنا فيها تسعة وعشرون أيام. فسألنا عن تلك المدن فخبّرونا أنّها المدن التي كان يأجوج ومأجوج يطرقونها حتّى أخربوها. ثمّ صرنا إلى حصون خربة وبعضها عامرة بالقرب من الجبل الذي فيه السدّ، وفي تلك الحصون قوم يتكلّمون بالعربيّة

والفارسيّة، مسلمون يقرؤون القرآن، لهم كتاتيب ومساجد. فسألوا: من أين أقبلتم؟ فأخبرناهم أنّا رسل أمير المؤمنين. فأقبلوا يتعجّبون لذلك ويقولون: أمير المؤمنين؟! قلنا: نعم. فقالوا: وكم يكون له من العمر الطويل كذا من عام؟ فقلنا: بل ممات حسن. فتعجّبوا لذلك (62) وقالوا: أين يكون مقامه؟ قلنا: بالعراق، في مدينة يقال لها: سرّ من رأى. فقالوا: ما سمعنا بهذا قطّ. ثمّ أكرمونا وعادوا يتبرّكون بنا. ووجّهوا معنا من جهتهم من وصّلنا إلى ذلك الجبل، فإذا هو جبل أملس، ليس به خضرا، شاهق إلى العنان، ليس عليه طريق، ولا إليه تسليق، مقطوع بواد عرضه مائة وخمسون ذراعا. وإذا عضّادتان مبنيّتان ممّا يلي شعب في ذلك الجبل، من جنبي ذلك الوادي، عرض كلّ عضّادة خمسة وعشرون ذراعا، الظاهر من تحتها عشرة أذرع خارج الباب، وعليه بناء بلبن من حديد مغيّب في نحاس، في سمك خمسين ذراعا. وإذا دروند من حديد، طرفاه على العضّادتين، طوله مائة وعشرون ذراعا، قد ركّب على العضّادتين، على كلّ واحدة بمقدار عشرة أذرع في عرض خمسة أذرع، وفوق الدّروند بناء بذلك البن الحديد المغيّب في النحاس إلى رأس الجبل، في ارتفاعه مدّ البصر، وفوق ذلك شرف حديد، في كلّ شرفة قرنان، تنثني كلّ واحدة منهما على الأخرى، وإذا باب من حديد بمصراعين مغلقان، عرض كلّ مصراع خمسون ذراعا في ارتفاع مائة ذراع في سماكة عشرة أذرع وقيامتاهما في دوّارة قدر

الدروند، وعلى الباب قفل طوله عشرة أذرع في سمك ذراعين ونصف في الاستدارة وارتفاع القفل من الأرض خمسون ذراعا. وفوق القفل بمقدار خمسة أذرع غلق طوله أكثر من طول القفل، وقفيز كلّ واحد منها ثلاثة أذرع، وعلى الغلق مفتاح معلّق طوله ذراعين ونصف، وله اثنا عشر سنّة، كلّ سنّة كالهاون، معلّق في سلسلة طولها ثمان أذرع في استدارة أربعة أشبار. (63) والحلقة التي فيها السلسلة مثل حلقة المنجنيق العظيم، وعتبة الباب علوّ عشرة أذرع في بسط مائة ذراع، سوى ما تحت العضّادتين، الظاهر منها خمسة أذرع. وهذا الذرع كلّها بالذراع السوداء. ورئيس تلك الحصون يركب في كلّ جمعة في عشرة فوارس، مع كلّ فارس مرزبّة حديد، وزن كلّ واحدة خمسون ومائة منّا. فيضرب القفل تلك المرزبّات في كلّ جمعة عدّة ضربات، ليسمع من وراء ذلك الباب الصوت وحسّ الضرب فيعلمون أنّ هنالك حفظة، ويعلموا أنّ هولائك لم يحدثوا في الباب حدثا؛ فهذا دأب سكان تلك الحصون.

فلمّا كان من غد يوم، وصلنا إلى السدّ، حضر رئيس تلك الحصون ومعه تلك الفوارس، وضربوا ذلك القفل، وصنتنا، فإذا من وراء الباب غوير ودويّ عظيم، يدلّ على عالم كبير جدا. . . من بعد المكان حصن كبير، يكون بقدر عشرة فراسخ تكسير مائة فرسخ. وعند ذلك الباب حصنان، يكون كلّ حصن منهما مائتي ذراع ارتفاع، مع دور. وعلى باب هذين الحصنين شجرتين، وبين الحصنين عين ماء عذبة. ورينا في أحد الحصنين آلة البناء الذي كان قد بني به السدّ، من القدور الحديد والمغارف الحديد والآلات التي كانت لتلك الصنّاع. والقدور شبه قدور الصابون، لكن أكبر منهم، مركّبة على كلّ ألفيّة أربع قدور. وهناك بقيّة من اللّبن الحديد، وقد التزق بعضها ببعض من الصدأ وطول العهد. والبنة ذراع ونصف طول، في نصف ذلك عرض، في سمك شبر ونصف. فتحيلنا حتى خلّصنا لبنة، وأحضرناها معنا للواثق. وسألنا من تلك الأقوام: هل رأيتوا أحدا من يأجوج ومأجوج؟ فذكروا أنّهم رأوا مرّة عددا منهم فوق الشّرف، فهبّت ريح سوداء فألقتهم (64) إلى جانبهم الذي يليهم، وكان مقدار الرجل منهم في رأي العين من هذا البعد وعلوّه تقدير الشبر ونصف ذراع، ولحاهم تلعب بها الريح.

قال سلاّم التّرجمان: فلمّا عاينّا ذلك وكتبنا بذلك أوراقا، ووضعنا خطوطا، وأخذنا خطوط تلك القوم المجاورون لتلك الديار، ثمّ أخذتنا الأدلاّء إلى ناحية خراسان، فسرنا إليها حتّى خرجنا من خلف سمرقند سبع فراسخ، وقد كان أصحاب الحصون زوّدونا ما كفانا. ثمّ صرنا إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، فوصلني بمائة ألف درهم، ووصل لكلّ واحد من أصحابي بألف درهم، وزوّدنا أتمّ زوادة، ورجعنا إلى سرّ من رأى، بعد غيبة ثمانية وعشرون شهرا، حتّى أتينا الخليفة فأخبرناه بذلك. ومن رواية المسعوديّ: أنّ يأجوج ومأجوج فيهم من طوله الشّبر والشبران، ومنهم من هو أطول من ذلك، ومنهم من يفرش إحدى أذنيه ويتغطا بالأخرى، ومنهم من له ذنب وقرن وأنياب بارزة، ومنهم مشيته وثب، ويأكلون سائر اللحوم نية، بغير شيّ ولا صلق، ويأكلون لحوم الناس من بني آدم وجميع حساش الأرض. وكانوا قبل ذلك يغيرون على تلك الحصون والمدن المذكورة حتّى أخربوها، حتّى سدّ عليهم ذي

<ذكر الصقالبة>

القرنين، وسيفتحونه آخر الزمان، كما أخبر الله عزّ وجلّ. ويأكلون بعضهم بعضا. والزلازل عندهم كثيرة. وذكر أنّ منهم أمم تعرف بمنسك وناسك. وسأل النبي صلى الله عليه وسلّم، عن يأجوج ومأجوج: هل بلغتهم دعوتك يا رسول الله؟ فقال: «نعم، إنّي جزت بهم ليلة أسري بي فدعوتهم فلم يجيبوا، فهم جلّ أهل النار». <ذكر الصقالبة> وأمّا الصقالبة من ولد يافث، فمنهم قوم مجوس وقوم يعبدون الشمس. والآن، ففيهم قوم نصارى، ولهم بحر يجري من ناحية الشمال (65) إلى الجنوب. ولهم أيضا بحر يجري من الغرب إلى الشرق. وهم أمم لا تحصى. وما جاوزهم إلى الشمال فلا يسكن لبرده، والزلازل به كثير، وأكثر قبائلهم مجوس يحرقون أنفسهم بالنار. ولهم مدن كثيرة وقلاع عدّة. والليل عندهم في غاية الطول، والنهار في غاية القصر. ومنهم فرقة على دين الصابئة يعبدون الكواكب. ولهم عقول وصناعات لطيفة من كلّ فنّ. ويحاربون الترك وبرجان. ولهم في السنة سبعة أعياد بأسماء الكواكب السبعة بلسانهم، وأجلّ أعيادهم: عيد الشمس، وله أحوال كثيرة أضربنا عن حملها للاختصار، والله أعلم.

ذكر اليونانيون الأولون من ولد يافث بن نوح عليه السلام

ذكر اليونانيّون الأوّلون من ولد يافث بن نوح عليه السلام وأمّا اليونانيّون الأوّلون فهم من ولد يونان بن يافث، وهم حكماء الأمم، ولهم النّجامة والحساب والهندسة والطبّ وصناعات المنطق. وعقولهم راجحة، وصناعاتهم لطيفة جدّا، وكلّ حكيم مذكور. فمنهم مثل أبقراط الأوّل وأبقراط الثاني وبرطن وسقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس وأقليدس وبطلميوس وجالينوس وجماعة يطول تعدادهم. وكانت الإسكندريّة والأندلس ومن جاورهم من الأمم يدينون بطاعتهم، إلى أن

<ذكر مملكة الروم>

غلب على بلدهم روميّ من ولد الأصفر بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، صلوات الله عليه. وكان عيصو لمّا فارق أخاه يعقوب، خرج إلى العدوة القريبة، وهي من مساكن الروم اليوم، وغلبوا على تلك الأرض. ومن ولده رومي هذا، وهو الذي بنا رومه وإليه ينسب كلّ الروم، وهم بنو الأصفر بن عيصو. وقيل: بل كان عيصو نفسه يعرف بالأصفر. وكان قد أخذ ملكهم بعد الإسكندر إيلاوبطره، الملكة بنت بطليموس، صاحب الحكمة والطلّسمات وكتاب الزند. ثمّ رجع الملك إلى الروم، وكان قد ملك منهم عدّة كثيرة، حتّى عاد الملك أرجع إلى الروم الثانية. <ذكر مملكة الروم> (66) فأوّلهم قسطنطين الذي أقام دين النصرانيّة وجمع الأساقفة،

وعمل العمّورية. ثمّ تفرّقت النّصارى بعده فرقا. ولهم طبقات، فأوّلهم البطرخ، وبعده الأسقف والقسّيس والشّمّاس والمطران والرستر وصاحب الحرب. ومن الحكماء اليونانيّين ديسوديقوردس، الذي كان من عنن زربه، صاحب كتاب هيولى الطبّ في منافع الحشائش والحيوانات، الذي افترد به. وكان لمّا وضعت هذا التاريخ، وقعت على هذا الكتاب بجملته في ثلاثة أجزاء، بخطّ ابن مقلة مولد الكوفيّ، مصوّر فيه سائر الحشائش والفواكه والنباتات الغيطيّة والبرّيّة، وسائر الحيوانات البرّيّة والبحريّة، بتصوير ابن عبدوس الكاتب، نسخة عجيبة لم يوجد لها نظير في العصر، والله أعلم.

ذكر ملوك الصين من ولد يافث

ذكر ملوك الصّين من ولد يافث وأمّا ملوك الصين فإنّهم قوما من ولد يافث، يقال لهم: بني عامر بن يافث، قطعوا إلى ناحية الصين وكانوا قد عملوا فلكا، حكاية عن سفينة جدّهم نوح، عليه السلام، وركبوا وقطعوا البحر إلى اليمن، ثمّ إلى الهند. وكان فيهم كبير ويسمّى صين بن عامر بن يافث بن نوح، وأخوه هند بن عامر بن يافث. فقطعوا تلك الديار، وبنوا البلدان، وعملوا الحكم، ودقّقوا الصناعات والعلوم، وثوّروا معادن الذهب هنالك، فسمّيت تلك الديار بهم. وملك صين بن عامر ثلاثمائة سنة، ثمّ هلك. وعبدوا الكواكب على دين الصابئين. وهم الذين صنعوا أجساد ملوكهم في تماثيل الذهب. وعاد ذلك سنّة لسائر ملوكهم. ولهم حكماء يتكلّمون في سائر علومهم الدقيقة. ولهم أحوال وغايات لا تدرك. ومن خرج إليهم في البحر يقطع سبعة أبحر، لكلّ بحر لون وريح وسمك ودوابّ يطول شرحها. ولهم سنن وشرائع ومذاهب لا يكيف، ويطول (67) الكلام فيها. ولهم عند دخول الشمس الحمل عيدا جليلا، يأكلون ويشربون فيه مدّة سبعة أيّام. وأحد هؤلاء هم أصول الترك قديما، لا كما يزعمون من أصل جدّهم

<ذكر الإفرنج>

الآتي ذكره آخر هذا التاريخ عند ذكر بدو التّتر ومنشاهم، حسبما ستقرأه، والله أعلم. <ذكر الإفرنج> فأمّا الإفرنجة فهم أيضا من ولد يافث، ومملكتهم واسعة، وهم أيضا من بني الأصفر، ويحاربون بني عمّهم الروم، وطائفة أخرى تعرف بالإفرندة، وعندهم معادن الذهب الإفرندي. ومن ورائهم أجناس مختلفة، جميعهم من ولد يافث، وأكثر إعزامهم للصقالبة، ولهم امتناع، ويحاربون الروم. وفيهم سحر عظيم. ومنهم نصارى ومجوس وزنادقة، ومنهم من يحرق نفسه، والله أعلم. <ذكر مملكة الأندلس> وأمّا مملكة الأندلس فيعزوا إلى أربعة وعشرين قبيلة على ما كانوا عليه قديما. وكان ملكها ملك واحد، إلاّ أن دينهم كان دين الروم والصابئة، وفي هياكلهم أصنام الكواكب. وكان في شريعتهم، إذا ولي منهم ملك قفل على مكان عندهم في بعض الهياكل فعلا، ولا يفتح ذلك المكان، ولا زال أمرهم كذلك حتّى ولي عليهم لذريق، فطلب فتح ذلك

المكان، فاجتمعوا إليه. وكان على ذلك المكان إلى حين ولاية لذريق أربعة وعشرون قفلا. فسألوه ألاّ يفعل، ولا يفتح ذلك المكان، وأن يجعل عليه قفلا، كعادة من تقدّمه من الملوك، وبذلوا له على ذلك أموالا جمّة، فأبا إلاّ فتحها. فلمّا علموا بصحة تشدّده في ذلك تشاءموا به، وغلب على أمرهم، ففتح تلك الأقفال بأسرها، فوجد في ذلك البيت تابوت من حديد، فيه صور العرب، عليهم العمائم الحمر على خيل شهب. ووجد مكتوب فيه: إذا فتح هذا المكان، ملكت هؤلاء القوم هذه البلاد. ففتحت الأندلس تلك السنة، فتحها طارق بن زياد، مولى موسى بن نصير، في سنة اثنتين وتسعين، أيّام الوليد (68) بن عبد الملك بن مروان، وقتل لذريق ملكهم، وسبا ونهب وغنم من الأموال ما <لا> يعلمه إلاّ الله عزّ وجلّ. ووجد في ذلك البيت الذي كان فيه صور العرب مائدة ذهب، عليها أطواق من جوهر مفصّلة، أجمعوا أنّها كانت مائدة سليمان بن داود، عليه السلام، والمرآة العجيبة التي تنظر منها الأقاليم السبعة، وهي مدبّرة من عدّة أخلاط. وآنية سليمان بن داود، عليه السلام، من ذهب مرصّع بأنواع الجواهر واليواقيت. ووجدوا الزّبور منسوخا بخطّ يونانيّ جليل، بين ورقات من ذهب مفصّل بالجواهر. ووجد فيه اثنين وعشرين مصحفا

<ذكر مملكة الترك>

مجلّدات كلّها، منها التوراة والإنجيل ومصحف آخر محلا بفضّة، فيه منافع الأحجار والأشجار والحيوانات وطلّسمات عجيبة. فحمل ذلك كلّه للوليد ابن عبد الملك. وكان فيهم مصحفا يتضمّن عمل الصنعة وأصباغ اليواقيت. ووجد فيه فقّاعة كبيرة مملوءة بإكسير الكيمياء. ولمّا فتحت، تفرّقت المسلمين في مدنها واستوطنوها، ولم يزالوا بها إلى أن صار إليهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان في سنة ثمان وثلاثين ومائة. فغلب عليها، ولم تزل ذرّيّته بها إلى آخر وقت، والله أعلم. <ذكر مملكة الترك> وأمّا الترك فهم من أولاد يافث أيضا. وهم أجناس كثيرة، ومنهم أصحاب مدن وحصون، ومنهم قوم في رؤوس الجبال والبراري والصحاري، في خراثي لبد، ليس لهم ما يموّنهم إلاّ ما يصيدونه، ويأكلون سائر الحيوانات، وسائر الطيور. وملكهم الأكبر يقال له: خاقان. وله سرير من ذهب، وهو الذي يعرف بصاحب التخت. وله تاج ومنطقة ذهب مرصّعة، ولباسه الحرير. وقيل: إنّ ملكهم الأعظم لا يكاد يظهر، وسائر القبائل يعظّمونه

<ذكر مملكة خراسان>

ويحترمونه. وفي هذه القوم سحر وعقل ودهاء وشدّة وبأس. ودينهم أنّ الملك فيهم يومئذ توقد له نار عظيمة، ويتكلّم بنفسه (69) كلام يعلمه، وهو مقبل على كلّ تلك النار، فيرتفع له منها وجه عظيم، فإن كان إلا الخضرة، كان الخصب والغيث عندهم كثير ذلك العام، وإن كان إلى البياض، كان جدب وقحط، وإن كان إلى الحمرة، كان إراقة دماء وحروب وشرور، وإن كان إلى الصفرة، كان وباء وعلل وأمراض، وإن كان أسود، فيعزّى الملك في نفسه، ويوصّي غيره، ويموت في تلك السنة، والله أعلم. <ذكر مملكة خراسان> وأمّا ملوك خراسان، مثل الأسروسة والبرجاس والدّيلم وفرغانة والأورا والأكراد والشاس وماوراء النهر، فقد كانت لهم ملوك عدّة، ومذاهب، وأكثرهم كانوا يعبدون النار ويتمجّسوا. ويقال: إنّ أردشير بن بابك رأى شيطانه، فقال له: علّمني علما أنتفع به. فقال: على أن تنكح أمّك وتتّخذها. فصار أصل المجوس

ذكر أولاد سام بن نوح، عليه السلام

والفرس كذلك. والفرس تزعم أنّ نكاح الأخوات من وقت آدم، لم ينسخ من عندهم. ويقولوا: إنّ ذلك من حمله من البرّ، وأنّ الأمّ أولى بالبرّ من الأخت، ففعلوا ذلك. ولهم القول في كيمورث وأنّه عندهم آدم، وأنّ خروجه كان مبداه من غار في جبل عندهم، وسيأتي ذكر دعواهم في ذلك، عند ذكر بدء خروج التّتر، إن شاء الله تعالى، والله أعلم. ذكر أولاد سام بن نوح، عليه السلام وأمّا سام وأولاده فإنّ الله تعالى جعل الرئاسة والكتب المنزلة وجماعة الأنبياء المرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين، فمن ولد سام بن نوح، عليه السلام، خاصّة، دون إخوته. فولد سام أرفخشد، فكان عمره أربع مائة سنة وخمسا وستّين سنة. وولد أرفخشد شالح، وولد شالح عابر، وعاش شالح أربع مائة سنة وثلاثين سنة. وولد عابر فالغ وقحطان. وعاش عابر أربع مائة سنة وأربعة وثلاثين سنة. وولد قحطان يعرب. وقيل: إنّه أوّل من تكلّم بالعربية، (70) وكان لسانهم من قبل السّريانيّ. فولد يعرب سبا، وهو أوّل من سبا العرب، فسمّى سبا. وإنّما اسمه دارم بن يعرب، هكذى وجدت في كتاب جدع بن سنان الحميريّ. وكان الملك قحطان، ثمّ ولد يعرب سبأ، ثمّ بعده حمير.

وسمّي حمير لأنّه كان له تاج يلبسه، فيه حرير أحمر وجوهر أحمر، فإذا لبسه أضاء عن بعد، فكان يقال له: الملك الأحمر، ثمّ غيّر اللفظ، فقيل له: حمير. وإنّما اسمه كالم بن يعرب، على ما ذكر جدع بن سنان في تاريخه. ثمّ ولد لحمير كهلان وسبأ الثاني. وهذا اسمه سبأ حقّا، فإنّه سمّاه على اسم عمّه. فمنهما كان ملوك اليمن من التّبابعة، ومنهم كان أبرهة ذي المنار، وذي الأدعاد بن أبرهة. وغزوا البلاد واقتتلوا مع أولاد يافث سنين كثيرة، وقد افترد بذلك عبد الملك بن هشام في كتابه المسمّى بكتاب التّيجان في ملوك التّبابعة، ممّا لو شرحنا بعض ذلك، لكان تاريخا بذاته. وإنّما نحن نذكر من كلّ فنّ طرفا، بحيث لا يخلوا تاريخنا هذا من شيء قد ذكر، ليعلم الواقف عليه أنّني لم أترك تاريخا مشهورا، أو وقفت عليه بعون الله تعالى وكرمه. وأنّ هذا التاريخ جامع لذيذ جميع ما وقفت عليه، وبالله الحول والقوّة، والمستعان به على وصول الغرض فيه، إنّه وليّ ذلك، والقادر عليه. قلت: ومن هؤلاء التّبابعة إدريس، الملك الذي بلغ آخر المغرب،

ذكر تفرق الطوائف من الناس بعد الطوفان

وسيأتي ذكره في موضعه، إن شاء الله. انتهى الكلام في أولاد نوح، عليه السلام، الثلاث: سام وحام ويافث، وأولادهم ونسلهم وشعوبهم وقبائلهم ومواطنهم، حسب ما اشترطنا، وذلك حدّ الطاقة وجهد المجتهد بحكم التلخيص، لا الإطناب. وأبتدئ من ها هنا في ذكر تفرّق الطوائف من الناس من نسل سام، ثمّ نتلوا ذلك بذكر كهّان العرب، وكهّان مصر، وعجائبها وأحوالها، ما لعلّه من غريب الكلام، ممّا لم يصغ (71) بتاريخ قبله. ويستفتح الآن بذكر تفرّق الطوائف. ذكر تفرّق الطوائف من الناس بعد الطوفان كان الناس مجتمعون بعد الطوفان في مكان واحد بأرض بابل ولغتهم السّريانيّة. فأرسل الله تعالى ريحا ترفعهم، فتفرّقوا. فسلك قحطان وعاد وثمود وعملاق وطسم وجديس طريقا، وألهمهم الله تعالى اللسان العربيّ، وساقهم الريح إلى اليمن، وجازت عاد إلى الأحقاف، ونزل ثمود بن عابر بولده ناحية الحجر، ونزل جديس أخو ثمود اليمامة، ثمّ شخص طسم بن

<ذكر عاد>

لاوذ بن سام بن نوح، واتّبعهم عمليق، فنزلوا بأرض الحرم، وصار عندهم صخم بن ادم بن سام بن نوح، فنزل الطائف، ونزل جرهم بن قحطان بولده مكّة. فهؤلاء ونسلهم يسمّون العرب العاربة. وبنو إسماعيل، عليه السلام، يسمّون العرب المستغربة، لأنّهم تكلّموا بلغتهم. <ذكر عاد> ثمّ إنّ قوم عاد طغوا وأفسدوا، فأرسل الله تعالى إليهم هود، عليه السلام، بالأحقاف، وملكهم يومئذ الخلجان بن الدهم. وكانوا يعبدون ثلاثة أصنام. فكذّبوا هودا، فدعا عليهم. فحبس الله تعالى عنهم المطر ثلاث سنين فأجهدهم ذلك. فوجّهوا إلى مكّة منهم رجالا يستسقون لهم في الحرم، ولم تزل الناس تعظّم البيت الحرام من أوّل الدهر. وكان موضعه بعد الطوفان ربوة حمراء، وكانوا الذين سيّروهم، فيهم لقمان بن عاد، حسبما يأتي ذكره في موضعه، إن شاء الله تعالى. ذكر الكهّان القديمة بمصر من قبل الطوفان لمّا اشترطنا ذكر الكهّان القديمة بمصر، ذكرناهم من قبل الطوفان، ليكون سماعهم للتعجّب، لا للتّصديق؛ فإنّ هذا الكلام لم أجده في كتب أحد (72) من أرباب التاريخ، وإنّما نقلته من كتاب قبطيّ وقع لي، لمّا وجّهني. . . الكبير رحمه الله، إلى الوجه القبليّ، بسبب ترميم الكنائس

والأديرة، فوجدت هذا الكتاب في الدّير الأبيض الذي مقابل سوهاي، وكان به رجل راهب فاضل، يقال له: برصوما. فلمّا تجارينا في أمر تاريخ مصر، أحضر هذا الكتاب وقرأه عليّ وفسّره بالعربيّ، فاستنسخت منه لي طول مدّة إقامتي بذلك الدّير، ما أنا ذاكره ها هنا، فإنّ فيه من العجائب والغرائب ما لا يسمع بمثله، فهذا الذي حثّني حتّى وضعته في هذا التاريخ، وأنا أرجوا من الله تعالى المسامحة، والآخرة الصالحة، بمنّه وعونه وكرمه. أمّا هؤلاء الكهنة قبل الطوفان بمصر، <فكانوا> ينحون في كهانتهم نحو الكواكب بزعمهم، ويدّعون أنّ الكواكب إذا خدموها جدّ الخدمة، أفاضت عليهم خصائص العلوم المكنونة، فعملوا الطّلّسمات المشهورة، والنواميس الجليلة، وولّدوا المولّدات الماشية، والصّور المتحرّكة، وبنوا العالي من البنيان، وزبروا علومهم في الصّلب من الصّخور، وافتردوا لعمل البرابي، وتحصّنوا بها من الأعداء، وعجائبهم ظاهرة، وحكمهم باقية واضحة. وكانت مصر خمسة وثمانين كورة، فيها بأسفل الأرض خمسة وأربعين، وبالصّعيد أربعين. وكان في كلّ كورة رئيس من كهّانهم يرجعون

إليه، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في قصّة فرعون، في قوله تعالى: {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ، يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ} يريد هؤلاء الرؤساء. وكان الذي يتعبّد منهم الكواكب السبعة المدبّرة بزعمهم، يخدم كلّ كوكب سبع سنين، فإذا بلغ هذه المرتبة وقطع هذه المدّة في خدمة السبع كواكب بجملتها يسمّى حينئذ: قاطيرا، وكان يجلس مع الملك في مرتبته، ويصدر الملك عن رأيه، ويكون (73) له المنزلة العالية التي لا بعدها غاية. ثمّ كلّ من يتبتّل بخدمة كوكب من الكواكب السبعة ويقطع في خدمته تلك المدّة يسمّى: كاهنا، ويعرف بعبد الكوكب الفلانيّ. وكان أكبرهم الذي ينفرد بخدمة الشمس. وقد كانت العرب في الجاهليّة قديما يسمّون بأسمائهم، فيقولون: عبد شمس، عبد العزّى، عبد مناف، وأشباه ذلك. وكانوا يجتمعون في مجلس الملك، فيجلس القاطير إلى جانب الملك وعلى مرتبته، وتقف الكهّان خدّام الكواكب السبعة، كلّ أحد بقدر منزلة كوكبه الذي يعبده، فيقول القاطير للكاهن: أين صاحبك اليوم؟ فيقول: في البرج الفلانيّ، في الدّرجة الفلانيّة، في دقيقة كذا. ويسأل الآخر، حتّى إذا عرف مستقرّ الكواكب السبعة، قال للملك عند ذلك: ينبغي أن يعمل اليوم كذا، وأن يصنع كذا، وأن يوجّه الجيش إلى الجهة الفلانيّة؛ وينصّ عليه جميع ما يراه إصلاحا لأموره، والكاتب قائم يكتب بجميع ما يقوله له القاطير. ثمّ يلتفت إلى أهل الصناعات، فيقول: انقش أنت صورة كذا على حجر كذا. واغرس أنت كذا. واصنع أنت كذا. حتّى يمرّ على أهل الصناعات، فيخرجون من بين يديه إلى دار الحكمة المرصدة لهم، ويضعون أيديهم في تلك الأعمال، ويستعمل جميع ما قاله لهم القاطر،

ويؤرّخ ذلك اليوم في الصحيفة وتطوى وتودع في خزانة الملك. وعلى ذلك كانت تجري سائر أمورهم. وكان الملك إذا حدث حادث، جمعهم بخارج مدينة منف واصطفّ لهم الناس في شارع المدينة، ثمّ يدخلون ركبانا يتقدم بعضهم بعضا، ويضرب بين أيديهم بطبل الاجتماع، فيدخل كلّ واحد بأعجوبة: منهم من يعلوا وجهه نورا مثل نور الشمس، فلا يقدر <أحدهم> على الدنوّ منه، (74) ومنهم من تكون يده جوهر لونا من الألوان، ومنهم من يعمل جسده ذهبا إبريزا، ومنهم من يدخل راكب أسدا، متوشّحا بحيّات عظام، ومنهم من يكون عليه قبّة من نور شعشعانيّ أو من جوهر نفيس. وكلّ واحد يدخل بقدر ما ند له كوكبه الذي يتعبّده، لا يقدر <أن> يتعدّاه. فإذا دخلوا على الملك، قالوا له: أردتنا لمهمّة كذا وكذا، وقد أضمر الملك كذا وكذا، والرأي فيه كذا وكذا؛ فيفعل ما أمروه به، ولا يخرج عن إشارتهم. وكان بمصر القديمة من قبل الطوفان ومن قبل تسميتها مصر-وكان اسمها: أمسوس-ملك كاهن، قد تعمّق في علم الكهانة، يقال له: عيقام،

من ولد عرثاث بن آدم، عليه السلام. وكان قد اقتبس من علم الأسماء التي كانت تعمل بها عناق بنت حوّاء المقدّم ذكرها. وحكى عنه القبطيّون من أهل مصر في كتبهم المدّخرة عندهم حكايات كثيرة تخامر العقول، لخروجها عن حدّ القياس. وهذا الملك عيقام، كان من قبل الطوفان بدهر طويل، فرأى في علمه كون الطوفان، فأمر الشياطين الخادمة لتلك الأسماء أن يبنوا له مكانا خلف خطّ الاستواء، بحيث لا يلحقه فساد هذا الكائن. فبني له القصر الذي في صفح جبل القمر، وهو قصر. . النّحاس الذي فيه التماثيل النحاس المشهور ذكرها بين العوامّ بمدينة النحاس. يشتمل هذا القصر على خمس وثلاثين تمثالا، لا يخرج ماء النيل إلاّ من حلوقها، وينصبّ في بطيحة. ومن تلك البطيحة يتشعّب ويجري إلى عدّة أماكن، غير هذا النيل الواصل بمصر. فلمّا عمل له هذا القصر، أحبّ أن يراه قبل سكناه إيّاه. فجلس في قبّة، وحملته الشياطين على كواهلهم إلى ذلك القصر. فلمّا (75) رأى حكمة بنيانه وزخرفته، وإلى حيطانه وما فيها من النقوش وصور الأفلاك وغير ذلك من صنوف العجائب-وكان يسرج بغير مصباح، وينصب فيه

ذكر قومة الكاهنة وما صنعت من العجائب في وقتها

موائد عليها من كلّ الأطعمة والألوان من سائر الأصناف، لا يعلم من صنعها، وكذا كلّ الأشربة في أواني تستعمل ولا تنقص، وفي وسطه بركة من ماء جامد، تراه ظاهرا متحرّكا وهو جامدا، وأشياء كثيرة أضربنا عنها للاختصار-ممّا يحيّر العقول. فأعجبه ما رآه، ورجع إلى مصر على كواهل الشياطين. واستخلف ابنه عرياق، وأوصاه بما يجب أن يفعله، وقلّده الملك، ورجع إلى ذلك القصر، وأقام به حتّى هلك، واستقرّ القصر بحاله. وإلى هذا الملك عيقام تعزى مصاحف القبط، التي فيها تواريخهم، وأكثر اعتمادهم في ذلك على ذكره. ذكر قومة الكاهنة وما صنعت من العجائب في وقتها قومة الكاهنة وأنّها كانت تجلس في عرش من نار، وإذا جاءها من يحتكم إليها، وكان محقّا صادقا، خاض النار إليها ولم تضرّه شيئا، وإن كان كاذبا مبطلا وقدم عليها أحرقته النار. وكانت تتصوّر لهم في صور كثيرة كيف شاءت. ثمّ بنى لها قصرا واحتجبت عن الناس، وجعلت في حيطانه أنابيب نحاس طاهرة مجوّفة، وكتبت على كلّ أنبوبة فنّا من الفنون التي يتحاكم إليها فيه. فكان الذي يتحاكم إليها يأتي إلى الأنبوبة، فيأتيه الجواب لكلّ ما يريد. ولم يزالوا يستعملون ذلك دهرا طويلا، حتّى هلكت قومة الكاهنة، والله أعلم.

كذلك عرياق بن عيقام الملك، قد تكهّن أيضا، وعمل العجائب الكثيرة، منها: شجرة صفراء، لها أغصان حديد بخطاطيف حادّة، إذا اقترب إليها (76) الظالم أو الكذّاب اختطفته تلك الخطاطيف وتعلّقت به وتشبّكت فيه، فلا تفارقه حتّى يحدّث في نفسه بالصدق ويعترف بظلمه ويخرج عن ظلامة خصمه. وعمل أيضا صنما من صوّان أسود وسمّاه عبد قرويس، أي عبد رجل كاهن كانوا يعظّمونه ويحتكمون إليه، وكان معلّم هذا الملك عرياق. فمن زاغ عن الحقّ ثبت مكانه، ولا يقدر على الخلاص والخروج حتّى ينتصف من غريمه، ويخرج عن الحقّ. ومن كانت له حاجة أو طلب شيء، يصنع عملا يشاكل مطلوبة، ويأتي إلى ذلك الصنم ليلا، وينظر إلى الكواكب، ويذكر اسم الملك عرياق الكاهن <وتضرّع>، فيصبح وقد وجد حاجته على باب منزله. ومن الكهنة قبل الطوفان أفليمون الكاهن؛ الذي ركب السفنية وآمن بنوح، عليه السلام، وبرسالته. ومنهم سنون الكاهن القبطيّ، وهو الذي يقد النار، ويتكلّم عليها، فيطلع منها صورا بادية. ولم يزل هذا سنون كاهنا، إلى وقت فردان

(77) ذكر الأهرام وأول بنائها والسبب في ذلك وما فيها من العجائب

الملك، الذي كان في زمانه الطوفان. وكان هذا الكاهن يسكن الهرم الكبير البحريّ. وكان هذا الهرم هيكل الكواكب: وكان فيه صور الشمس ناطقة، والقمر ناطق. وكان الهرم القبليّ ناؤوسا لأجساد الملوك. وهؤلاء الأهرام التي عمّرها سوريد الملك، وفيها من العجائب والتماثيل والمصاحف ما لا يحصى. وكان فيه التمثال الذي يضحك، وكان من الجوهر الأخضر، وأودع فيه خوفا عليه من الطوفان. فهؤلاء ما أمكن من ذكرهم من الكهنة قبل الطوفان. وسنذكر منهم جماعة بعد الطوفان، بعد ذكرنا للأهرام، ومن بناهم، والسبب في بنائهم، وما أودعوا من العجائب والأهوال والذخائر، ممّا تضمّنه هذا الكتاب القبطيّ، والله عزّ وجلّ، أعلم. (77) ذكر الأهرام وأوّل بنائها والسبب في ذلك وما فيها من العجائب كان سوريد بن سهلون ملكا على مصر قبل الطوفان بثلاثمائة سنة. فرأى رؤيا: كأنّ الأرض انقلبت بأهلها، وكأنّ الكواكب السبعة تتساقط وقصدت بعضها بعضا بأصوات هائلة مفزعة. فانتبه مذعورا، وزاد غمّه، ولم يذكر ذلك لأحد في ذلك الوقت. وعلم أنّه سيحدث في الأرض

والعالم حدثا عظيما. ثمّ رأى بعد ذلك كأنّ الكواكب الثابتة نزلت في صور طيور بيض، وكلّها تتخطّف الناس، وتلقيهم بين أرجلها ما بين جبلين عظيمين، وكأنّ الجبلين انطبقا عليهم، وكأنّ الكواكب النيّرة <مظلمة> كاسفة. فانتبه وقد تزايد ذعره. فدخل إلى هيكل الشمس، وجعل يمرّغ خدّيه <في التراب> ويبكي. فلمّا أصبح، أمر بجمع رؤساء الكهنة من جميع أعمال مصر. فاجتمعوا، وكانوا يومئذ مائة وثلاثين كاهنا. وهذا عند القبط أنّه أوّل اجتماع كان في الدنيا، ثمّ استثنوا ذلك. فخلا بهم وحدّثهم بجميع ما رآه أوّلا وآخرا. فعظّموه، وقالوا: لا بدّ من حدث عظيم يكون بالعالم الأرضيّ. فقال أبو فليمون الكاهن-وكان أكبرهم، وهو إذ ذاك القاطير في ذاك الوقت: أنا أقصّ على الملك أيضا رؤيا ريتها من سنة، ولم أذكرها لأحد من الناس. وذلك أنّي رأيت: كأنّي مع الملك على رأس جبل المنار الذي في

وسطاسوس، وكأنّ الفلك قد انحطّ من موضعه، حتّى قارب سمت رؤوسنا، وكأنّه علينا كالمكبّة على المائدة، محيط بنا، وكأنّ الكواكب قد خالطتنا في صور مختلفة، وكأنّ الناس مستغيثون بالملك، وقد انجفلوا إلى قصره، وكان الملك رافعا يديه ليرفع الفلك (78) <إلى> أن يبلغ رأسه، وأمرني <أن> أفعل كذلك، ونحن على وجل شديد، إذ رأينا موضعا قد انفرج والشمس قد طلعت علينا منه، فكأنّا استغثنا بها، فخاطبتنا: إنّ هذا يكون بعد مضيّ ثلاثمائة وثلاثون دورة لي، ثمّ سيعود الفلك إلى مكانه. فانتبهت، أيّها الملك، مذعورا، ولم أذكره إلاّ في ساعتي هذه. فعند ذلك أمر الملك أن يؤخذ الارتفاع، وأن ينظر ويبحث ويدقّق النظر في أمر هذا الكائن، ما هو؟ فاجتمعوا، وفعلوا ما أمرهم به الملك، فظهر لهم أمر الطوفان، <وبعده النار التي تحرق العالم> فعندها أمر ببناء الأهرام. ونقل إليها جميع ما أحبّ. وزبروا فيها سائر علومهم وحكمهم، ورمزوا ذلك في صور مختلفة الأشكال، يصل إلى حلّها كلّ ذي ذهن وفهم ثاقب وعقل وافر، والله أعلم.

هذا ما تضمنّه الكتاب القبطيّ في بناية الأهرام. وأمّا ما ذكره أبو معشر في ذلك، في كتابه المعروف بكتاب الألوف، فقال: إنّ السبب في بناية الأهرام، أنّ الملك سوريد بن سهلون، ملك مصر. وهذا الكلام مطابق للكلام الذي ذكرناه من الكتاب القبطيّ. وذكر أيضا صورة المنام الذي رآه الملك، والرؤيا التي رآها أبو أفليمون الكاهن، لكن سمّاه: أكرباه الكاهن. ثمّ قال: إنّ الملك لمّا أمر ببناء الأهرام، وزبروا فيها سائر علومهم وحكمهم من جميع ما يحتاج إليه، قال للحكماء والكهنة: انظروا متى تكون هذه النازلة. فقالوا: إذا نزل قلب الأسد بأوّل دقيقة من رأس السّرطان، وتكون الكواكب عند نزولها في هذه المنازل من الفلك، والقمر والشّمس في أوّل دقيقة من رأس الحمل، ونزوس-وهو زحل-في أوّل درجة وثمانية وعشرين ثانية من الحمل، وراوهن-وهو المشتري-في الحوت، في تسعة

(79) وعشرين درجة، والمرّيخ في الحوت، في ثمانية وعشرين درجة وثلاث دقائق، وأفرودتكني-وهي الزّهرة-في تسعة وعشرين درجة وثلاث دقائق، وهرمس-وهو عطارد-في الحوت، في تسعة وعشرين درجة وثلاث دقائق، والجوزهر في الميزان، في خمس درج ودقائق خمس. فلمّا علمنا ذلك، طالعنا به الملك. فقال: انظروا، هل يكون بعد هذه النازلة بمكان <في> الدنيا آفة غيرها؟ فنظروا، فرأوا أنّ الكواكب تدلّ على آفة تنزل من السماء إلى الأرض، وأنّها بحدّ الأولى، وهي نار تحرق أقطار العالم إلاّ القليل. فعرّفوه ذلك. فقال: انظروا متى تكون. فنظروا، فوجدوا أنّ ذلك يكون عند نزول قلب الأسد آخر دقيقة من الدرجة الخامسة عشر من الأسد، ويكون أقليدس-وهي الشمس-معه في دقيقة متّصلة بقزوس من تثليث الرائي، ويكون راوس في الأسد، مستقيم السير معه في رأس دقيقة، وهو القمر في الدلوا، ومعه الذنب في اثني عشر جزءا، ويكون كسوفا إطباقا،

ويكون اغرونطي بعده من ايكس، ويكون هرمس في بعده الأبعد أمامها، وأمّا افرود يصلى؟؟؟ الاستقامة، وأمّا هرمس فبالدرجة الخامسة. فعرّفوا الملك ذلك. فقال: هل من خبر تطلعونا عليه من العظائم، غير هاتين الآفتين: المائيّة والناريّة؟ فنظروا، فإذا قلب الأسد، إذا قطع ثلثي أدواره، لم يبق في الأرض من حيوان متحرّك إلاّ تلف. فإذا استتمّ أدواره، تحلّلت عقدة الفلك، فعاد الأمر مستقيما. فعرّفناه ذلك. فقال: أي يوم يكون انحلال الفلك؟ قال: اليوم الثاني من حركة الفلك. فعجب الملك من ذلك. فعندها أمر بقطع الصخور والأساطين العظام، والبلاط (80) العظيم في الكبر، واستخراج الرصاص من أرض الغرب، واستجلب الصخور السود من ناحية أسوان، وكانت تحمل على الأطواق. وقيل: إن كان لها مداخل من خصوص قريبة من مكان الأهرام، ثمّ

تغيّرت معالمها. وقيل: بل كانت تقطع بأسوان، وتهندس، ويكتب عليها أسماء. فكانت تأتي بذاتها، فتكون في المكان المعدود لها، المخصوص بها. وكانوا يجعلون في وسط البلاط قلب من حديد، فتطبّق عليه الأخرى، منقوبة في الوسط، فيكون ذلك القلب في ذلك النّقب من الأخرى، ويذاب الرصاص ويصبّ حول الثقب، بعد أن تؤلّف كتابتها بعضها ببعض. وجعلوا أبواب الأهرام من تحت الأرض بأربعين ذراعا سوداء، في أزج معقود، مبنيّ بالحجارة تحت الأرض، طول كلّ أزج منها مائة وخمسون ذراعا. فأمّا باب الهرم الشرقيّ، فإنّه من ناحية الشرق، على مائة ذراع من وسط الحائط الذي للهرم. وله باب آخر من ناحية وسط الحائط الغربيّ بمقدار مائة ذراع. وعلامة ذلك صخرة سوداء، كأنّما ثبتت ثباتا، فيحفر من تحتها عشرة أذرع، فيجد باب الأزج إلى الهرم. وأمّا الهرم المبنيّ لونين من الحجارة، فإنّ بابه من الناحية الغربية، يقاس أيضا من وسط الحائط البحريّ مائة ذراع، وعلامة ذلك صخرة بيضاء، فيحفر من تحتها عشرة أذرع، فيظهر له باب الأزج إلى الهرم الأبلق. وهذا الأزج درج نازلة.

هذه الأدلّة التي ذكرتها على أبواب الهرمين وجدتها في ذلك الكتاب القبطيّ المقدّم ذكره، ولعلّها صحيحة، والله أعلم. . . . في كتابه المقدّم ذكره: أن النّسر الواقع طائر بالسّرطان. وجعل طول كلّ هرم منهما: خمس مائة ذراع بالمالكيّ، وهو تقدير ذراعنا (81) هذا. وجعل تربيع كلّ واحد منهما أربع مائة ذراع، وبناهما في <الاستواء> إلى أربعين ذراعا ثمّ هرمهما. وكان أوّل بنائهما في طالع سعد ثابت. فلمّا فرغا، كساهما ديباجا ملوّنا من فوقهما إلى سفلهما، وعمل لهما عيدا عظيما في كلّ سنة، في أوان فروغهما. وأودع في الهرم الشرقيّ من الأموال والكنوز والآلات الزبرجديّة والتماثيل المصنوعة من فاخر الجواهر الملوّنة، والسلاح الذي لا يصدأ، والزجاج الذي يطوى طيّا، والنواميس المودات، والعقاقير المفردات، والمؤلّفات النافعة لسائر الأغراض: من الأمراض الجسديّة الظاهرة والباطنة والسّموم القاتلة بسائر وجوهها، والأواني من الجواهر التي لا قيمة لها، وأربعين كرة مملوءة من تبر الصنعة، وكتب مزبورة في اللواح القشم المعدني، في سائر العلوم الروحانيّة والعمليّة، وأشياء لا تدرك بالعبارة، ممّا ادّخرته الملوك الأوّل. وأمّا الهرم الغربيّ فجعل فيه أجساد الملوك في جوبات صوّان أسود، وهم الملوك من الكهنة المذكورين. وجعل عند كلّ كاهن منهم مصحفه

وعجائبه وسيرته، وما عمل في زمانه من غرائب صناعته. وعدّتهم سبعة نفر، وهم القاطريون الذين كانوا يعبدون الكواكب حسبما تقدّم من ذكرهم. ولكلّ واحد من هؤلاء ناحية من نواحي هذا الهرم ومرتبة به مصوّر فيها الأشاير بالذي فعله في زمانه، وخزن معه ماله وذخائره. ثمّ جعل على كلّ هرم من هؤلاء خازن قد استخدم من جهة الكواكب في وقتها. فصاحب الهرم الشرقيّ مجزّع من جزع أسود وأبيض، له عينان مفتوحتان، جالس على كرسيّ، معه شبيه الحربة. إذا نظر إليه الناظر سمع من جهته صوتا، فلا يكاد يفارق حتّى (82) يموت غمّا. وأمّا خازن الهرم الغربيّ <فهو> صنم من حجر صوّان مجزّع، بيده حربة، وفي عنقه حيّة، مطوّق بها، ثمّ تعود إلى عنق الصنم. وأمّا الهرم الثالث، فإنّه مختصّ بالملك سوريد بن سهلون، فهو ناؤوسا له، وخزن فيه جميع أمواله وذخائره وكنوزه الذي جمعها في أيّام ملكه. فإن كان من عادتهم أن لا يتعرض ملك إلى مال ملك قبله، ولا إلى شيء من ذخائره، ولا يتصرّف إلاّ فيما يملكه لنفسه في زمانه.

وأمّا خازن هذا الهرم الثالث صنما صغيرا من حجر، المهمد على قاعدة منه. من نظر إليه اجترّه حتّى يلصق به، فلا يفارقه حتّى يموت. قلت: ومن العجب في ذلك أنّي وجدت في هذا الكتاب القبطيّ يقول: إنّ سوريد الملك، لما أخبروه منجّموه، أن لا بدّ بعد تلك الآفة المائيّة من آفة ناريّة، وقدّروا له الوقت الكائن فيه، صنع في الأهرام أزجا معقودا مبنيّا بالحكم العويصة، ووصله بالنيل حتّى دخل إليه الماء. وحمل ذلك إلى الجبل بأطراف صعيد مصر، وهو ما بين صفحتي الجبل الغربيّ- هكذا يقول في هذا الكتاب القبطيّ-ليكون ذلك حرزا لهم من تلك الآفة الناريّة. فو الله لم أرا أعجب من هذا الكلام، ودليله أنّ في البهنسا انخسف خسفا في الجبل المجاور لمدينة البهنسا. وكان الوالي يومئذ عليّ بن قيصر العلاليّ، فنزلوا إليه فوجدوه أزج معقود بين صفتحي الجبل جميعه فساقي ماء عذبا من ماء النيل، وهم عدّة فساقي متداخلة في بعضها البعض، ليس منهم إلاّ بقدر ما يمشي عليه الرجل، وليس لهم انتهاء بين صفحتي ذلك الجبل. وربّما مشوا فيهم اليوم واليومين ولا انتهوا إلى آخرهم.

ولكلّ فسقيّة درج (83) نازل من ناحيتها، ليس لها قرار تدرك. ولعل هذه الفساقي هذا أصل أمرهم وهذا سببهم. وهم إلى حين وضعي هذا التاريخ بالبهنسا. وينزلوا إليهم المتفرجين من أهل البهنسا. وربّما في هذا الوقت أنّ الوالي سدّ ذلك الخسف، فإنّ أهل البلاد من البهنسا وغيرها عادوا يعبروا إلى تلك الفساقي ويفسدوا فيها. ومن كان في خاطره من عدوّه أمرا بلغة هناك، ولا يطّلع له على خبر. فعادوا كالمهالك، فأمر الوالي بردم ذلك، فردموه، حسبما بلغني في هذا الوقت. وفي هذا الكتاب القبطيّ أنّ سوريد الملك قال لمنجّموه وكهنته: انظروا آخر أمر بلادنا، إلى ماذا يؤول أمره بعد الطوفان المائيّ والآفة الناريّة؟ فقالوا: يقيم خرابا قرنان كاملان، ثمّ يعمّر، فيقيم دورا كاملا، فيأتيه قوم مشوّهون الخلق من الشرق، فيخرّبون الأقاليم السبعة، ثمّ يكون عليهم نازلة من صيحة سمائيّة، فلا يبقى منهم ديّارا، ثمّ تعمّر الأقاليم السبعة كأحسن ما كانت عليه أوّلا، فيقيم دورا كاملا ونصف دورا كاملا. ثمّ ينقطع عن مصر نيلها، فلا يعود. فتجلوا عنها أهلها. وتنشف حتّى تعود

ذكر ملوك من ولد سوريد واتصال بعضهم ببعض إلى آخر وقت

أرضها مفاوز إلى آخر اجتماع الكواكب بقلب الأسد، فيكون خراب الكون بأسره إلى حين انحلال عقدة الفلك في اليوم الثاني منه. فأمر أن يكتب جميع ذلك ويزبر في أعلا الأهرام؛ وهو بها إلى الآن، والله عزّ وجلّ أعلم. وذكر أنّ روحانيّ أحد الأهرام في صورة امرأة عريانة، مكشوفة الفرج، حسناء، لها ذؤابتان، فإذا رآها الإنسان ضحكت في وجهه، فتطالبه نفسه بمضاجعتها، ويظنّ أنّها إنسيّة، فعندما يصل إليها تستهويه، فيتلف حاله في الوقت الحاضر، ويزول عقله ويهيم. وقد رأى جماعة من أهل مصر هذه المرأة تدور حول الهرم عدّة مرار. وروحانيّ (84) الهرم الآخر غلام أجرد أصفر، له ذؤابتان، وقد رئي أيضا يطوف حوله. ولكلّ هرم منهم روحانيّ بذاته. وكذلك البرابي لهم روحانيّين ممّا يطول الشرح في معناهم. وجميع ما ذكرته فليكن سماعه للتّعجب ولا للتّصديق. فإنّي لم أذكر ذلك أعتقادا منّي في صحّته، لكن ذكرت ما قالوه في كتبهم وما نقلوه عن عقولهم. وليس الاعتماد إلاّ بما جاء به الكتاب والسّنّة وقوله عزّ وجلّ {ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. ذكر ملوك من ولد سوريد واتّصال بعضهم ببعض إلى آخر وقت وأقام سوريد ملكا مائة وسبع سنين، وأوصا بالملك لولده هرجيب.

وإنّ هرجيب سار سيرة أبيه في العدل والعمارة، وبنى الهرم الكبير الذي بدهشور، وحمل إليه كثيرا من المال، وكان هذا دهشور كاهنا في وقته، فأنزله بالقرب من الهرم، وبنا دهشور لنفسه الهرم الصغير الذي إلى جانبه، وأودعه علومه وعجائبه. وكان دهشور الكاهن صاحب علم الكيمياء وإكسيرها، فصنع من الإكسير أربعة عشر قرة مملوءة إكسيرا، وأودعها الهرم الصغير. وملك هرجيب بن سوريد تسعا وسبعين سنة. وملك عليهم ابنه مناوس، وكان مناوس جبّارا سفّاكا للدماء، يغتصب نساء أهل مملكته. واستخرج في زمانه كنوز بابل. وبنا قصورا من الذهب والفضّة، وفجّر فيها الأنهار وجعل حصباؤها من أصناف الجوهر. وتجبّر وعتا، فبغضه أهل دولته. وأباح للخصّيصين به نساء العامّة من الناس وكان يفتضّ عذرة كلّ بكر قبل بعلها، فامتنع عليه بعض القوم في ذلك فأحرقهم بالنار، فخافوه الناس. وكانت مدّته يسيرة، ثمّ هلك ودفن مع أبيه وجدّه بجميع أمواله وذخائره بالهرم الثالث. (85) وملك على الناس ابنه أفروس. وكان أفروس عالما محنّكا بخلاف ما كان عليه أبيه، فعدل في الناس، وردّ نساءهم إليهم، وصنع في

وقته قبّة قدرها مائة ذراع سوداء في طول خمسون ذراعا سوداء. وركّب في جوانبها أطيارا تصفر بأنواع اللّغات المطربة. وعمل في وسط المدينة منارا من صفر، عليه صورة رأس إنسان من صفر، كلّما مضت ساعة من النهار صاح ذلك الرأس، وكذلك في ساعات الليل. وعمل منارا آخر، وجعل على رأسه قبّة من صفر مذهّب، ولطّخه بلطوخات محكمة، فعادت إلى غربت الشمس اشتعلت تلك القبّة نارا فتضيء على المدينة بأسرها، فلا يحتاجون معها إلى مصابيح، ولا تطفئها الرياح ولا الأمطار. وإذا كان النهار سكنت، لغلبة ضوء الشمس وشعاعها. وهذا الملك كان تملّك في زمان الدرمشيل الذي في زمانه كان الطوفان. وأهدا إلى الدرمشيل هديّة من زبرجد طولها سبعة أشبار، فجعلها في هيكل الصنم الكبير الذي كان له. وكان هذا الملك أفروس يطلب الولد، فينكح ستّمائة امرأة يبتغي الولد، فلم يولد له. وكانت في عصره قد عقمت أرحام النساء، لما أراد الله تعالى من هلاك العالم بالطوفان. وعقمت أرحام البهائم، ووقع الموت فيها. وكثرت الأسود حتّى عادت تحلل البيوت وتفترس الناس. فاحتالوا

بالطّلّسمات المانعة لذلك، فعجزوا عن دفعها لعظمة قدرة الله عزّ وجلّ. وكذلك تسلّط عليهم الفار، فكان يأكل كلّما كانوا يزرعون من سائر أصناف الحبوب، حتّى قحطوا أشدّ قحط. وذكر أنّ ساحرا من سحرتهم قد كان مناوس الملك اغتصب ابنة عمّه، وهي زوجته. وكانت أحسن أهل زمانها. فشرع ذلك الساحر، وكان يسمّى حيزاه، وكان يسكن البرّ الغربيّ (86) بشاطئ النيل، فكان يعمل الحيلة قليلا قليلا، في إفساد طلّسماتهم. لأنّ لكلّ طلّسم شيئا يفسده ويحلّ روحانيّته، وبهذه العلّة دخل البخت نصر الفارسيّ مصر، وكانت ممتنعة من جميع الملوك، فقوي عليها البخت نصر بإفساد طلّسماتهم، فكان من أمره ما كان. وكان حيزاه الساحر قد أفسد طلّسمات التماسيح، فهاجت عليهم أيضا، حتّى منعتهم ورود الماء، وأشرفوا على الهلاك. ففطنوا له من بعض تلاميذه، فأنفذ الملك له جيشا يحضره. فلمّا نظر القوم مقبلين عليه، دخّن بدخن غشي أبصارهم، وارتفعت منه عجاجة من نار حالت بينهم وبينه، وكادوا يهلكون من شدّة حرّها، فهالهم أمره ورجعوا إلى الملك أفروس بالخيبة. فجمع الملك السّحرة أجمعين، وعرّفهم أمر حيزاه الساحر، فأقرّوا كلّهم له باليد الطولا في علمه، وأنّ لا طاقة لهم إلاّ المسالمة. فأمرهم الملك أن يتلطّفوا به، فتوجّهوا إليه ولاطفوه في حديث طويل هذا آخره.

ثمّ إنّ الملك أعطاه أمانا وردّ عليه زوجته التي كان استصفاها أبوه لنفسه. فأبا مثولها، وقال: لا يحلّ لي في ديني مراجعة من وطئها الملك. فسألوه أن يرفع عنهم ما كان أفسده من أمرهم. فقال: أمّا السباع والتماسيح وما أشبه ذلك فقادر على إزالة مكروهه. وأمّا عقم الأرحام فليس من عملي، وإنّما ذلك من عمل ربّ السماء. وملكهم أفروس أربعا وستّين سنة. ولم يعقب، فملّكوا عليهم أرمانوس. فملكهم أرمانوس وأحسن في سيره، وغزا أعدائهم، وقهر من ناوأهم. وقد كان أصيب بعلّة في جسده، فأوصى لابن عمّ له، يقال له: فرعان بن ميسور. ويقول القبطيّون القدم من أهل مصر: إنّ أوّل من سمّي فرعون (87) غلام كان للوليد بن دومغ العمليقيّ وكان يسمّى عونا. وقد كان هرب من مولاه الوليد لمّا رجع من جدّ النيل وطلبه، وبنى المدينة التي يقال لها: مدينة العقاب، وتحصّن بها من مولاه الوليد بن دومغ، فقيل فرّ عون من مولاه. وسنذكر خبره في موضعه، إن شاء الله تعالى. ونعود إلى قصّة أرمانيوس الملك وفرغان ابن عمّه. وذلك أنّه لمّا طال علّة أرمانوس ولا عاد ينفع النساء، وقعت عين زوجته على فرغان، وكان شابّا جميلا، فطلبته لنفسها ودقّقت الحيلة حتّى اجتمعت به في

ذكر الكهان من بعد الطوفان إلى حين خراب مصر

حديث طويل. ثمّ اتّفقا على قتل أرمانيوس فسقته سمّا في شرابه، فعجّلت عليه بهلاكه. واستقرّ فرغان بالملك؛ وإنّه تجبّر وعتا وغصب الناس أموالهم وعمل ما لا يفعله ملك غيره، وأسرف في القتل وإهراق الدماء، وهابته الناس والملوك. وكتب إلى الدرمشيل <ملك بابل> يشير عليه بقتل نوح، عليه السلام، وذلك أنّ الدرمشيل كان كتب إلى سائر الآفاق من الملوك يقول: هل تعلمون آلهة غير الأصنام؟ ويذكر لهم ما جاء به نوح، عليه السلام. فأجاب فرغان، وأشار عليه بقتل نوح، صلوات الله عليه، فأحماه الله، عزّ وجلّ، منه حسبما تقدّم من الكلام. وفي زمان فرغان كان الطوفان، وغرّق الله فرغان الملك، وهلك مع جملة من هلك بالطوفان، ولم تغن عنه معاقله ولا أهرامه شيئا. واستقرّت الأرض بولد نوح، عليه السلام، حسبما ذكرنا من قبل، والله أعلم. ذكر الكهّان من بعد الطوفان إلى حين خراب مصر فأمّا الكهّان بعد الطوفان إلى حين خراب مصر على يد بخت نصر الفارسيّ فكثير، ونحن نذكر ما تصل إليه القدرة ملخّصا، إن شاء الله تعالى، ليكون تاريخنا هذا يتلوا بعضه بعضا، زمان بعد زمان، بعون الله وحسن توفيقه.

(88) فأوّلهم كارباه بن أفليمون، كان ركب السفينة مع أبيه أفليمون، وتزوّج أخته كركندة بنت أفليمون الكاهن مصر بن بيصر بن حام، وهم الذين خرجوا إلى مصر في عدّة ثلاثين نفر. وعمّروا منف واسمها: مأفه، تفسيرها: ثلاثين. وكانوا مؤمنين موحّدين على دين نوح، عليه السلام. ولم يكن اسم الكهانة عندهم عيبة، بل كان الكاهن كالحاكم الذي لا يعصى. وأوّل من عمل بالكهانة بعد كارباه بن أفليمون، وغيّر الدين، وتعبّد الكواكب: البودشير بن قفطريم بن مصريم بن بيصر بن حام، وكان ملكا بعد أبيه. وهذا الملك تذكره جميع الكهنة من المصريّين والقبطيّين، يعظّمونه في مصاحفهم ويقولون: إنّه من أجلّ ملوكهم، وأعظم حكمائهم، وأعلم كهنتهم. وعمل النواميس العظام، وبنا البرابي، وزبر العلوم وتعبّد للكواكب. وتزعم القبط أنّ الكواكب كانت تخاطبه، وله عجائب كبيرة، منها أنّه استتر عن الناس بعد سنين من ملكه، وكان يظهر لهم وقتا بعد وقت في

السنة، عند نزول الشمس الحمل، فيدخل الناس إليه، ويخاطبهم، ويأمرهم بما يفعلونه، ويحذّرهم بما يكون من أمر أعدائهم، وهم لا يرونه، بل يسمعون خطابه من غير أن يروا شخصه. ثمّ إنّه ظهر لهم يوم نزول الشمس الحمل، وكانوا يخرجون له وعليهم الحليّ والحلل من الجواهر واليواقيت والذهب السبك، وبأيديهم الجواكين الذّهب، ومعهم سائر أصنام الملاهي والمطربات، ويخرجون إلى ظاهر البلد في الأماكن المستترة، ويتلون أسماء علّمهم <إيّاها>، ويقولون في مخاطبة الشمس، ويقطعون هذه الحشيشة المعروفة بكركاوش، ويبخّرونها بأنواع الطيب ويدعونها في جيوبهم، ويتقدّمون قليلا قليلا وهم في سمت ووقار (89) وهيبة عظيمة، والملاهي تضرب بحشمة ورئاسة، والناس على مراتبهم، وكلّ طبقة على قدر طبقها عند الملك. ويخرج من العامّة من له حاجة عند الملك، فيفعل كفعلهم. فعندما تنزل الشمس بنقطة الحمل، يظهر لهم الملك في عين الشمس، جالس على سرير من الجوهر، فيكلّمهم بما يختارونه، ويعطى كلّ أحد سؤلة. فهذا كان أصل قطع هذا الكركيش، والله أعلم. ثمّ إنّ هذا الملك غاب عنهم، فلم يعودوا يرونه، واختلفت فيه الأقاويل. ثمّ ظهر لهم وأمرهم: أنهم لا يقطعون هذه السنّة يوم نزول الشمس الحمل، فإنّ سائر حوائجهم تقضا، وعرّفهم أنّه لا عادوا يرونه

بعدها، وأمرهم أن يقلّدوا الملك للملك عديم بن قفطريم، ففعلوا ذلك. واستسنوا الخروج في كلّ عام إلى خدمة الشمس، وقطع بعده الحشيشة، وقد زعموا أنّ من حفظ هذه الأسماء التي لعزيمتها وفعل هذا الفعل، فإنّ حاجته تقضا، كائن ما كان، والله أعلم. وأمّا مرورة الكاهنة، فإنّها امرأة منهم، من أهل بيت الملك، يقال: إنّها بنت أخت البودشير، وأنّه ألقى إليها كهانته. وهي التي بنت برباة إخميم. وكان المتكفّل ببنائها: إخميم الكاهن من قبل مرورة الكاهنة. وعملت الطلسمات العظيمة، والأصنام الناطقة بمدينة منف. ولم تزل الكهانة في أهل بيتها. وذكر في هذا الكتاب القبطيّ، أنّها عملت طلّسما منعت الوحوش والطير أن تشرب من ماء النيل. وسبب ذلك، أنّها التي بنت الحيط الحجوز، ومنعت من أن يرد النيل بهائم إلاّ بأمرها، وبما قرّرته عليهم. فسمعت راعيا يقول: لم لا تمنع الوحش والطير، إن كان لها يد؟ ففعلت ذلك، حتّى هلك أكثر الوحش والطير عطشا. وإنّ الله تعالى أرسل ملكا، فصاح بها صيحة ارتجّت الأرض بها،

(90) وتشقّقت جبالها، وأهلكها الله تعالى. وقيل: إنّها كانت تطير في الهوى، والملائكة تضربها بأجنحتها. ولها أحوال كثيرة منكرة، أضربت عنها، والله أعلم. وقيل: إنّ التي بنت حيط الحجور: دلّوكة، الكاهنة. والله أعلم أيّهما كانت. وأمّا شموان الأشمونيّ، فيقال: إنّه هرمس الأوّل، الذي بنا بيت التماثيل التي يعرف بها مقادير النيل عند جبل القمر. وعمل للشمس هناك هيكلا. وتنقل عنه أقوالا تخامر العقل. وكان يختفي عن أعين الناس وهو بينهم، ولا يرونه. وهو الذي بنا الأشمونين. وإنّما سمّيت باسمه: شموان الأشموني، فثقل هذا الاسم، فقيل: الأشمونين. وبنا مدينة أنصنا، واتّخذ فيها الأعلام والملاعب. وعمل في سفح الجبل الشرقيّ مدينة يقال لها: أوطراطيس. وجعل فيها من العجائب شيئا كثيرا، وجعل لها أربعة أبواب من أربعة جهات. فجعل على الباب الشرقيّ صورة عقاب، وعلى الباب الغربيّ صورة ثور، وعلى القبليّ صورة أسد، وعلى البحريّ صورة كلب. وأسلك فيهم الروحانيّات، فكانت تنطق إذا قصدها قاصد من تلك الجهات، أو تحرّك عدوّا من تلك الجهات الأربع، فيصيح ذلك التمثال،

(91) ذكر ملوك مصر بعد الطوفان من وجه آخر

فيعلم أن عدوّا قد تحرّك من تلك الجهة، فيفعل فيه ما شاء، فيصيب ذلك العدوّ ما فعل في ذلك التمثال. وعمل فيها شجرة تحمل من كلّ صنف من سائر أصناف الفواكه، كلّ فاكهة في أوانها. وعمل منار طويل وعلى رأسه قبّة تتلوّن كلّ يوم لون، حتّى تنقضي الأيّام السبعة من الجمعة، فتعود إلى اللون الأوّل، وتكسوا المدينة من ذلك اللّون. وجعل حول ذلك المنار بحيرة، وولّد فيها سمكا، كلّ سمكة لون من ألوان المعادن الجوهريّة، حتّى لا يشكّ أنّها جوهرا، فإذا صادها عادت سمكا طريّا من أحسن ما يكون السمك. وأقام كذلك دهرا طويلا، والله أعلم. (91) ذكر ملوك مصر بعد الطوفان من وجه آخر فأمّا ملوك مصر بعد الطوفان، فقد تقدّم الكلام في ولد نوح، عليه السلام، وتملّكهم الأرض بعد قسمتهم. وذكرنا كلّ منهم ونسله وما كان منه. ونحن الآن نذكر ملوك مصر منهم. وذلك أن مصر بن بيصر بن حام بن نوح، عليه السلام، كان أوّل من حلّ مصر بعد الطوفان. وكان بيصر قد تزوّج ببنت فليمون الكاهن، حسب ما ذكرنا، فولدت له مصر. ونكح مصر امرأة من بنات الكهنة

أيضا، فولدت له أربعة نفر: قفط وأشمن وأترب وصا. وكان بيصر قد استقطع أرض مصر، مسيرة شهرا عرضا في شهر طول، وهي من الشجرتين إلى أسوان، ومن أيلة إلى برقة. وأوصا لولده مصر، وكان أكبر ولده. فلمّا صار الأمر إليه قسم شاط النيل بأربعة. وجعل لكلّ واحد وولده قطعة. ولمّا هلك، خلفه ابنه قفط، وخلف قفط أشمن، وخلف أشمن أترب، وخلف أترب صا. ثمّ كان لصا أولاد ستّة، فأكبرهم قبطيم، وهو جدّ القبط أجمع، وإليه ينتسبون. وإخوته: رادس بن صا، وماليون بن صا، وماليا بن صا، ولوطين ابن صا. فكان الملك في قبطيم دون إخوته. وهو أوّل من تملّك من ولد صا، وأثار الكنوز، ونصب الأعلام، وعمل العجائب، وزبر الطلّسمات، وحذا في ذلك حذو من كان قبل الطوفان من كهنة مصر. وملك ثمانين سنة ومات، فاغتمّ ولده عليه. ودفن في سرب تحت

الجبل الداخل الأحمر، وجعل فيه هيكل المريخ. وجعل فيه الأكؤس النحاس، المطليّة بأدوية من الحكمة، فهي تشعل ليلا ونهارا، ولا تنطفئ أبدا. ولطّخوا جسده بالمرّ والكافور والموميا. وجعلوه في حرز من ذهب في ثياب منسوجة باللؤلؤ الكبار، (92) والفصوص البلخس، والياقوت البهرمان. وكشفوا عن وجهه تحت قبّة على عمد من مرمر ملوّنة، وفي وسط القبّة جوهرة معلقة تقد كالسراج، وبين كل عمودين تمثال في يده أعجوبة. وجعلوا حول الحرز توابيت من الحديد الصينيّ، مملوءة جوهرا نفيسا. وجعلوا كراسيّ من ذهب عليها مصاحف الحكمة في اللواح اليشم المعدنيّ، وسدوا عليها الصخور العظام والرصاص، وزبروا عليه كما زبروا على ناؤوس أبيه صا من قبله. وتولّى بعده الملك قفطويم. وكان هذا قفطويم جبّارا، وكان أكبر

ولد قبطيم، وكان عظيم الخلق، وهو الذي وضع أساسات الأهرام بدهشور وغيرها، وقصد أن يبني أهراما كما عمل الأوّلون قبل الطوفان، وهو الذي بنا مدينة زرزورة بالواحات، ومدينة الأصنام. وفي أيّامه كان هلاك عاد بالريح العقيم. وعمل من العجائب شيء كثير، وعمل منارا عاليا على جبل قفط، يرا منها البحر الشرقيّ. ووجد هناك معادن الزئبق، فعمل منه بركة، فقيل: إنّها هناك إلى هذا العصر. وقيل: إنّ أبيه قبطيم هو الذي بنا المدائن الداخلة بالواحات، وعمل فيها العجائب. فمنها البركة التي تعرف بصيّادة الطير، ذلك أنّ إذا مرّ عليها طيرا سقط فيها، ولا يبرح حتّى يؤخذ. وعمل أيضا على تلك البركة عمودا من نحاس عليه صورة طائر، إذا قرب منه الوحوش والهوامّ إلى تلك المدينة، صفر ذلك الطير صفيرا عاليا، فيرجع ذلك الوحش أو الهوامّ هاربة. وعمل على أربعة أركان هذه المدينة أربعة أصنام. فلا يقدر غريب أن يقترب إليها إلاّ ألقي عليه السّبات من النوم، فلا يزال كذلك حتّى يأتوا البوّابين فيأخذونه ويحضرونه إلى الملك. وعمل صورة صنم على منار لطيفة من زجاج محكوم ملوّن، في يده قوس، فإن عاينه غريب (93) وقف

في موضعه حتّى يؤخذ أو يهلك. وكان هذا الصنم يدور بنفسه إلى مهبّ الرياح الأربع. وقيل: إنّ هذه المدينة باقية إلى عصرنا هذا، ومن وقع بها وقرب منها هلك بواحدة من هذه الحكم، وهي بالواحات. وفيها من الأموال والذخائر والجواهر ما لا يقع عليه حصر. وذكر أنّه عمل في بعض المدن الداخلية مرآة يرا فيها جميع ما يسأل الإنسان عنه. وبنا عدّة مدن بالواحات الداخليّة، وعمل فيها عجائب كثيرة ووكّل بها الروحانيّين الذين يمنعون منها، فما يستطيع أحدا أن يدنوا منهم، ولا يدخل أو يعمل القرابين لتلك الروحانيّين، فيصل إليها حين إذن ويأخذ من كنوزها ما أحبّ من غير مشقّة ولا تعب. وقيل: إنّ قفطويم أقام ملكا أربع مائة سنة، وأكثر العجائب عملت في وقته. ومات قفطويم، ودفن في ناؤوس عمل له في الجبل الغربيّ قرب مدينة العبد، بطريق الفيّوم، ودفن معه نظير ما دفن مع أبيه قبطيم وأزيد، ممّا يضيق عنه هذا المختصر. وزبر على باب الأزج الذي للناؤوس: هذا المدخل إلى جسد الملك العظيم المهيب الكريم الشديد، قفطويم بن الملك قبطيم، ذي اليد والغلبة والفخر والقهر. أفل نجمه وبقي ذكره وعمله، فلا يصل إليه أحد ولا يقدر عليه بحيلة، وذلك بعد سبعمائة وسبعين دورة، ودورات مضت من الطوفان الأعمّ الخارب لكائنات الوجود. ثمّ ملك بعده ابنه البودشير، وقد تقدّم ذكره في الكلام المختصّ

بكهنة مصر بعد الطوفان. وقد كان أولاد أعمام أبيه، وهم أشمن وأترب، ملوكا على أجنادهم، إلاّ أنّه قهرهم بجبروته، فكان الذّكر له دونهم. ويقال: إنّه أرسل إلى هرمس المصريّ، فبعثه إلى جبل القمر الذي يخرج النيل من تحته (94) حتّى عمل هناك هيكل التماثيل من النحاس، وعمل البطيحة التي ينصبّ إليها ماء النيل، وهو الذي عدّل جانبي النيل، وقد كان ربّما قيض فلا يجري. وكانوا يسقون أراضيهم من الآبار المعينة، على أعناق الأبقار. وربّما كان النيل منقطع فلا يجري في مواضع كثيرة منه، حتّى اللهم الله، سبحانه وتعالى، هذا الملك، فكان سبب إصلاح هذا النيل حتّى عاد يجري، وحصل به النفع الذي لا عليه من مزيد. ثمّ إنّ هذا الملك خالط الغرب، وبنا المدن العظيمة، واختلط بهم البربر، ونكحوا منهم، ثمّ عاد بينهم حروب وقتال حتّى خرجت أكبر تلك المدن. وأيضا، إنّ هذا الملك عمل في وقته قبّة لها أربعة أركان، في كلّ ركن منها كوّة يخرج منها الدخان الملتفّ في ألوان شتّا. فما خرج منها أخضرا دلّ على العمارة، وحسن النبات وصلاحه مع الخصب. وإن خرج الدخان أبيضا دلّ على الجدب، وعلى قلّة العمارة، وعدم البركة. وإن

خرج أحمرا دلّ على الدماء والحروب وقصد الأعداء. وإن كان أسودا دلّ على كثرة الأمطار والمآه، وفساد بعض الزرع، وخراب بعض الأرض. وإن كان أصفرا دلّ على النيران وآفات تحدث في الفلك. وما كان مختلط اللون دلّ على تظالم الناس بعضهم على بعض، وأشياء من هذه الأشباه. وأقامت تلك القبّة زمانا طويلا. وكانت الوحوش بالغرب كثيرة ضارية على الناس. فعمل تمثال من نحاس، صفة شجرة، وعليها صفة تلك الوحوش، من خنازير وغيره، ملجمة أفواهها بسلاسل من نحاس. فما جاز بها من الوحش إلاّ ساهي الحراك والبراح من مكانه، حتّى يؤخذ قنصا بالكفّ، وأشبع الناس من لحوم تلك الوحوش. وقيل: عمل في وقته غرابا نقر عين بعض أولاد الكهنة فقلعها. فعمل شجرة من نحاس وعليها غراب، في منقاره حيّة بادية الطرفين، (95) والغراب منشور الجناحين، وكتب على ظهره كتابة، فكان الغربان تجذبهنّ تلك الشجرة، فلا يبرحن حتّى يؤخذن بالكفّ قبضا ويقتلن، حتّى زالت الغربان من تلك الأرض. ولم يزل الأمر كذلك حتّى أصاب بعض ملوكهم داء، فوصف له لحم غراب، يطبخه ويشرب مرقته. فلم يوجد إلى آخر أعمال مصر، حتّى نفذ إلى الشام من أحضر له بغراب،

فأبطأ عليه، وزادت العلّة به، فأمر بنزع تلك الشجرة حتّى رجعت الغربان من ساعتها، فأخذ منها حاجته، وعولج به قبل وصول قاصده من الشام، فخرج من علّته. وقيل في وقته: إنّ الرمال كانت كثرت عليهم من ناحية الغرب حتّى طمعت على بعض زروعهم، فعمل لذلك صنما من صوّان أسود على قاعدة منه، في كفّيه كالقفّة فيها مسحاة، ونقش على جبهته وصدره وذراعيه وساقيه <كتابات>، وأقامه الكاهن في بطالع، أخذه ووجهه به إلى الغرب، فانكشفت تلك الرمال، ورجعت إلى ورائها. فتلك الأكداس العالية من جهة الغرب منها. ولم تزل الرمال تندفع عنهم إلى وراء ذلك الصنم <إلى أن زال> من موضعه. وأقام هذا الملك البودشير ثلاثمائة سنة، ثمّ غاب عن الناس حسبما تقدّم من ذكره عند قطع الكركيش، والله أعلم. عديم بن البودشير. جلس العديم المذكور على سرير ملك أبيه، بإشارة أبوه حسبما تقدّم. وكان عديما ملكا جبّارا لا يطاق، عظيم الخلق. وكان في وقته يزعمهم الملكان اللذان أهبطا من السماء، وكانا في بئر يقال <لها>: أقساوة. وكانا يعلّمان الناس السّحر بمصر. ويقال: إنّ عديما استكثر من العمل به، ثمّ انتقلا إلى بابل. وأهل مصر من القبطيّين يقولون: إنّما هما كانا شيطانان، يقال

لأحدهما: مقلة، والآخر: مهالة، وأنّ الملكان غيرهما اللذان هما: هاروت وماروت. والملكان في بئر في بابل نعشاهما السحر إلى أن تقوم الساعة. وقيل: (96) إنّ عديما بن قيطريم. فإنّ البودشير ما وطئ امرأة قطّ، ولا أعقب، وإنّه أخ للبودشير. وفي زمان عديم أوّل ما عبدت الأوثان بعد الطوفان. وقيل: إنّ الشياطين كانت تظهر وتنصبها لهم، وأنّ أوّل صنم أقيم: صنم الشمس. وعمل في زمان عديم عجائب كثيرة، ومن ذلك أنّه عمل في إحدى المدائن الداخلة حوضا من صوّان أسود مملوءا ماء عذبا، لا ينقص ولو ورده العالم بأسره على مرور الدهر، ولا يتغيّر بما اجتلب إليه من رطوبة الهواء. وكان أهل تلك النواحي ليس لهم ورد غيره. وذكر بعض كهنة القبط، أنّ ذلك إنّما تمّ لهم لبعده عن النيل وقربهم من المالح، لأنّ الشمس، فيما ذكروا، يرتفع نحوها بخارا من البحر المالح، وينحسر من ذلك البخار جزوا بالهندسة-وقيل: بالسحر- فجعله ينحطّ في ذلك الحوض شبه الطلّ، ويمدّه الهواء <برطوبته>، فلا ينقص ماؤه على مرور الدهر، ولو شرب منه العالم جميعا. وقد عمل أمام السند بالهند حوضا مدوّرا لطيفا، وجعله على قاعدة،

وملأه بالماء، وحصر عليه جزءا من البخار الرطب، فعاد الخلق يشربون منه، وهو لا ينقص شيئا، وهو هناك إلى وقتنا هذا، وهذه رواية المسعوديّ عن هذا الحوض الذي بالهند وأنّه شاهده بعينه. وقيل: إنّ عديم دفن في إحدى المدائن ذوات العجائب، وإنّه ملك مائة وأربعين سنة. وذكر قوم من القبط أن ناؤوس عديم في صحراء قفط على وجه الأرض، <وهو> قبّة عظيمة من زجاج أخضر برّاق، معقودة على ثمان أرماح من زيها، وعلى رأس القبّة كورة من ذهب، وعليها طائر من ذهب، موشح بجوهر، منشور الجناحين، يمنع من الدنوّ منها، وهي في علوّ مائة ذراع سوداء. وجعل جسده في وسط القبّة على سرير من الذهب مشبّك باللؤلؤ العظيم القدر، وهو مكشوف الوجه، عليه ثياب منسوجة بالذهب (97)، مفصّلة بالجوهر الثمين. والآزاج مفتّحة، طول كلّ أزج ثمانية أذرع. والقبّة تلقي شعاع خضرتها على ما حولها من الأرض. وجعل حوله في القبّة مائة وسبعين مصحفا من مصاحف الحكمة، وتسع موائد، منهم مائد حمراء من ياقوت أحمر، وأوانيها منها. ومنهم مائدة

ذهب فليموني يكاد يخطف بالبصر. وهو الذهب، تعمل منه تيجان الملوك وأوانيها كذلك. ومنهم مائدة من حجر الشمس المضيء، لا تكاد تملكه الأبصار ضياء. ومنهم مائدة من زبرجد الذي يخلط لونه شعاع أصفر، وهذا اللون الذي إذا نظرت إليه الأفاعي سألت عيونها. ومنهم مائدة كبريت أحمر، مدبّر على ما اقتضته حكمهم من تدبيره. ومنهم مائدة ملح برّاق، لا يقدر أن يتأمّل إليه لشدّة أخذه بالبصر. ومنهم مائدة زئبق معقود محكم. وكلّ مائدة مكمّلة ثانيتها. وجعل في القبّة معه جواهر كثيرة ملوّنة، وبراني حديد صيني مملوءة من تبر الصنعة، وجعل حوله سبعة أسياف صواعق، في أيد سبعة خيّالة على أفراس يدورون كالبرق الخاطف، لو مرّ بهم الطير في الجوّ لاختطفوه وبضعوه؛ وسبع توابيت من حديد مملوءة دنانيرا من ذلك الذهب المذكور، منقوشة عليها اسمه، وصوّر عليها صورته. قلت: وقد رأيت في بعض المجاميع، أن قوما من أهل سجلماسة، من المغرب وقعوا بكتب فيها صفة هذا الملك وهذه القبّة، وصفة الوصول

إليها. فتوصّلوا، واستدلّوا بما في كتبهم حتّى قربوا من تلك القبّة، فكانوا على مقدار خمسين ذراعا، فرأوا من أمرها ما هالهم، ووجدوا تلك الخيّالة والصواعق تأتيهم كالبرق الخاطف، والقبّة أيضا تدور كدوران تلك الخيّالة. وذكروا أنّهم شاهدوا وجه الملك في قدر ذراع ونصف ولحيته تلعب بها الريح كالمدية الطويلة، وطول بدنه على السرير قدر عشرة أذرع وزيادة، وأنّهم رأوا بها عجائب كثيرة، أضربت عنها لما فيها من طول. وذكروا أنّ الوصول إليها: (98) أن يذبح لها ديكا أبيضا أفرق، ويبخّر بريشة من جهة الريح الواصل إلى القبّة، حتّى يصل البخور إليها، وتكون الكواكب النيّرة على مثل ما كانت عليه وقت نصبها واجتماعها في البروج. وذاك أن يكون زحل والمشتري والمرّيخ في برج واحد، والشمس والقمر في برج واحد، والزهرة وعطارد في برج واحد. ويتكلّم على البخور بكلام الكهنة سبع مرّات، فحينئذ تبّطل تلك الحركات ثلثي ساعة، فيأخذ في تلك المدّة ما شاء، ولا يقف حتّى ينتهي الثلاثين، <وإلاّ> فيهلك.

وإنّ تلك الأقوام لم يتّفق لهم هذا الاتّفاق من الرصد، وإنّهم أقاموا بناحية قفط سبع سنين يرصدوا فلم يتّفق، غير أنّهم كانوا يأتوا في كلّ حين وينظروا القبّة حسبما تقدّم. ثمّ إنّهم خاطروا بأنفسهم، وكان معهم شخصا وولده من أهل قفط، فأمّا الشيخ، فإنّه جسر مع القوم، وأمّا الفتى فإنّه تأخّر. فذكر ذلك الفتا أنّه كان ينظر لتلك الأقوام، وكانوا ستّة نفر، وهم يتقطعوا بتلك الأسياف، حتّى عادوا كالعهن المنقوش، ولا عاد رأى لهم خبرا، فعاد إلى ناحية قفط مذعورا، وخبّر بما شاهده. شدّات: وملك شدّات بن عديم، بعد أبيه عديم المذكور، وهو الذي بنا الأهرام الدهشوريّة من الحجارة التي قطعت في زمان أبيه. وأمّا من أنكر أنّ العادية دخلوا مصر، أنّهم غلطوا باسم شدّات هذا، فقالوا: شدّاد بن عاد، لكثرة ما تجري ألسنتهم عليه، وإلاّ فما قدم أحدا من آل عاد مصر، ولا قدر أحدا من الملوك على الدخول إلى مصر، ولا قوي على أهلها، غير بخت نصر الفارسيّ.

وقد وجدت في هذا الكتاب القبطيّ يقول، وإن كان كلاما لا يصوغه الشرع، ولا نصدّقه نحن، فإنّنا نقوله بطريق التعجّب في ما أوردوه الأوائل في كتبهم: إنّ البودشير بن قفطويم لمّا أجهد نفسه في عبادة الأنوار العالية وعرف روحانيّاتها <وقد صارت فيه>، تهذّبت نفسه، واستغنى جسده عن الطعام والشراب، فلمّا تأمّن ذاك، واشتاقت إليه الأنوار (99) واشتاق إليها، رفعته إلى محلّها الأعلى، ودبّرته من شرور الأرض المؤلمة لأهلها، وجعلته نورا ساميا في نورها، يتصرّف بتصرّفها. فطوباه من كاهن عرفت له كهانته، وأكرم به ملكا نال بغيته. وقد كانت هؤلاء الأمم كلّهم على التوحيد والمعرفة بالربوبيّة لإله السماء، وإنّما كانوا يقولون: إنّ مدحنا بهذه الكواكب المدبّرات، لا يضرّ خالقها ولا ينقصه في ملكه، وإنّما نعظّمها لتقرّبنا منه، كما قال الهند والجهلة من العرب، كما أخبر الله، عزّ وجلّ، عنهم في كتابه العزيز: {إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى}. وعمل شدّات في مدّة ملكه أعمالا كثيرة ممّا فاق بها على من تقدّمه، وممّا يطول الشرح في ذكرها، ومن جملتها المدائن التي بالغرب، وعجائبها، وعمل الصنم الذي له إحليل بيده، ما أتاه معقود أو عاجز عن الباه فتمسّح به إلاّ زال عنه ما يشكوه، وكذاك صنع الصورتين الملتصقتين لكثرة التناسل.

وهو أوّل من أحبّ الصيد وأخذ الجوارح من الطير، وولّد الكلاب السلاق من الذئاب والكلاب الأهليّة. وعمل البيطرة وجميع ما تعالج به الدوابّ. وعمل الأعمال الكثيرة، التي لا تدرك لها غاية. وعمل طلسم التماسيح، ومنعها من الوصول إلى مصر. ويحكى: أنّه عمل لمصر أربعون أعجوبة من الغرائب العجيبة. وأقام سبعين سنة ملكا. وخرج في صيد له، فكب به جواده في وهدة فقتله. وفي هذا الكتاب القبطيّ: أنّ شدّات هذا أخذ بعض خدمه، وقد غضب عليه، فألقاه من أعلا جبل إلى أسفله فتقطّع جسده، فندم على ذلك من فعله، ورأى أنّه سيصيبه مثل ذلك، فكان يتوقّى أن يعلو مكانا مرتفعا. وأوصى إن أصابه شيئا من ذلك أن يجعل ناؤوسه في المكان الذي يلحقه به، ويزبر عليه: ليس ينبغي لذي قدرة أن يخرج عن الواجب، ولا يفعل ما لا يجوز له فعله، وهذا ناؤوس شدّات بن عديم بن قفطويم، عمل ما لا يحلّ، فكوفئ عليه بمثله. ولمّا هلك زبر ذلك على ناؤوسه ودفن في صفح جبل، مكان كبا به جواده، وجعل معه من الأموال (100) والجواهر والتماثيل وأصناف الحكم، وعاش أربع مائة سنة وأربعين سنة، وأوصى بالملك لولده منقاوس.

ولمّا ملك منقاوس الملك، قام مقام أبوه فيما كان يفعله، وأظهر مصاحف الحكمة. وقيل: إنّه أوّل من صنع الحمّام. وأمّا أهل الأثر فيقولون: إنّ سليمان بن داود، عليه السلام، أوّل من صنع الحمّام، وهو الأصحّ. وكان كثير النّكاح، فاتّخذ مائتي امرأة من بنات أعمامه وبنات الكهنة، وعمل عند كلّ امرأة عجيبة من عجائبه. وقيل: إنّه الذي بنا مدينة منف لبناته، وكانوا ثلاثون بنتا، فسمّيت باسم عدّة ثلاثين. وعمل في السنة أحد عشر عيدا، في كلّ عيد من الأعمال ما يصلح فيه توافقا لبرج ذلك الشهر. وكان يطعم الناس في مدّة تلك الأعياد سائر أصناف الأطعمة الملوكيّة، ويوسع عليهم. ففرح الناس به، ورأوا معه ما لم يروا مع غيره. وفتح عليه في أيّامه بعدّة معادن من ذهب وفضّة. وألزم أصحاب عمل الكيمياء العمل، فكانوا لا يفترون. واجتمعت عنده أموالا جمّة. فدعا أخ له، فقال: قد ترا كثرة هذا الذهب والجوهر، وما عملناه من التماثيل، الذي تحصل لغيرنا، ولست آمن أن تسمع بنا الملوك فيغزونا، ونقع في الحروب بسببه، فتوجّه به، وأمعن في أرض الغرب، ثمّ انظر مكانا حريزا، فأحرزه به وأخفي أثره، وعلّم المكان بعلامات تقفوها إذا احتجنا إليه، وكذلك طرقه.

وذكروا أهل الأثر من العلماء بأحوال ملوك مصر أنّه حمل معه اثنا عشر ألف عجلة، منها من الجوهر النفيس ثلاثمائة عجلة، وسائرها ذهب إبريز، من صفائح وتماثيل وصور وعجائب مصنوعة من ذهب عسجد. فسار في الجنوب يوما، ثم أخذ مغرّبا اليم الثاني وبعض الثالث، وانتهى إلى جبل منيف أسود، ليس له مصعد، بين جبال مستديرة. فجعل تحت ذلك الجبل أسرابا ومغائر، ودفن فيها جميع (101) ذلك، وزبر عليها، ورجع. فمكث بعد ذلك أربع سنين، وبعث كلّ سنة عجلة عظيمة، فتدفن هناك. وهو الذي صنع امرأة في مدينة منف مبتسمة، فلا يراها أحد وبه همّ إلاّ أفرج عنه ما يجده في ساعته، ونسي همّه. فكان الناس يأتونها ويطوفون بها، ثمّ عبدوها بعد ذاك. وهو الذي صنع تمثالان روحانيّان من صفر مذهّب، لا يمرّ بهما زان ولا زانية إلى كشف بيده عن عورته، فيعلم أنّه زان. فارتدع الناس في أيّامه عن الزناء، ولا زال كذلك إلا أيام. . . الملك، وذلك أن بعض نسائه كانت تحبّ الزنا، وخشيت من الفضيحة من جهة تلك التمثالين. فدقّقت الحيلة مع زوجها الملك في حديث طويل، حتّى اقتلع تلك التماثيل من مواضعها، ونصبها في قصره، وظنّ أنّهما يفعلا ذلك في المكان الذي نصبا

به، فبطل فعلهما بذلك، وحصل لها ما كانت تقصده. وهذه الأشياء إنّما كانت تعمل على رصد الكواكب ومطالعها وأوقات سعودها. ثمّ إنّ منقاوس الملك بنا هيكلا للسحرة على رأس الجبل القصير. وقدم عليه رجل منهم يقال له: مسيس، فكانوا لا يطلقون المراكب المقلعة إلاّ بضريبة يأخذونها من أهله. وأقام ملكا أحد وسبعين سنة، ومات من طاعون أصابه، وقيل: بل سمّ في طعامه. وعمل له ناؤوسا في صحراء الغرب، وقيل: في غربيّ قوص، ودفن معه شيء عظيم، ممّا لا يعدّ ولا يحدّ، ممّا زاد عمّن تقدّمه من الملوك، واستخلف ولده مناوش الملك. وكان مناوش ملكا جبّارا، ويطلب الحكمة كأبيه وأجداده. وكان كلّ واحد من ملوكهم يجهد في أن يعمل في أيّامه عملا لا سبق إليه من أصناف العجائب والصنائع. وهذا الملك أوّل من أظهر عبادة البقر في أهل مصر. وكان السبب في ذلك أنّه اعتلّ علّة، يئس منها الحياة، وأنّه رأى في منامه صورة روحانيّ عظيم يخاطبه ويقول له: إنّه لا يخرجك من علّتك هذه إلاّ عبادة البقرة، لأنّ

الطالع كان في وقت (102) حلول برج الثور. ففعل ذلك، وأمر أن يأتي بثور حسن أبلق اللون، كامل الصورة في الحسن، وعمل له مجلسا في قصره، وعمل عليه قبّة عظيمة، مصفّحة بذهب إبريز، وعاد يبخّره ويطيّبه. ووكّل به سادنان لخدمته، وعاد يعبده سرّا من أهل مملكته، فبرئ من علّته، وعاد في أحسن أحواله. وقيل: إنّه كان في علّته لا يقدر على ركوب على الدواب، وكان يجلس في قبّة وتجره البقر بالعجل، فنظر إلى ثور حسن، من الذي كان يجرّونه، أبلقا، حسن التركيب، فأعجب به. فأمر بنزعه، وأن يجرّ من يديه إلى كلّ موضع، إعجابا به. وجعل عليه من الحليّ والحلل الدماج الملوكيّ المفصّل بالجوهر في شريط <من> الذهب الإبريز. فلمّا كان في بعض الأيّام، وقد خلا به في موضع متنزّه، والثور قائم بين يديه، إذ خاطبه الثور وقال: لو عبدتني كفيتك جميع ما تريده، وعافيتك من علّتك هذه، وتكفّلت بجميع مصالح ملكك، وأزلت عنك سائر عللك وأمراضك. فأمر عند ذاك أن يغسل الثور ويطيّب ويدخل الهيكل، وعبده. فأقام ذلك الثور على ذلك الحال مدّة، ثمّ عاد آية: لا

يروث ولا يبول ولا يأكل إلاّ أطراف ورق الشجر، في كلّ شهر مرّة. وافتتن الناس، وصار ذلك أصلا لعبادة البقر. وبنا هذا الملك المدينة التي يقال <لها>: ديماس، وأقام عجائب كثيرة، وكنز فيها كنوزا عدّة. ويقال: إنّ قوما جازوا بها من نواحي الغرب، وقد أضلّوا الطريق، فسمعوا بها فريق الجنّ، ورأوا صور نيرانهم. وأمّا ذلك الثور، فقد ذكره صاحب الكتاب القبطيّ، فقال: ولمّا مضى للناس مدّة على عبادة ذلك الثور، أمرهم أن يعملوا صورة من ذهب مجوّفة، ويؤخذ من رأسه شعرات، ومن ذنبه ومن ثخانة فروته وأظلافه، ويجعل في ذلك التمثال. وعرّفهم أنّه لاحق بعالمه، فيجعلوا جسده في حرز من حجارة المرمر، ويجعل في ذلك الهيكل، وينصب ذلك التمثال عليه، ويكون ذلك وزحل في شرفه، والشمس مسعودة تنظر إليه من تثليث، والقمر (103) زائد، وينقش على ذلك التمثال صور الكواكب

السبعة. ففعلوا ذلك، وعملت الصورة من ذهب، وكلّلت بأنواع الجواهر، وجعلوا عينيه من عنبر أسود، وبياضه من جوهر شفّاف. وحرزوا جسد الثور في حرز من مرمر، في الأوقات التي ذكرها لهم، ونصبوهما في الهيكل، وأوقدت عليه الشموع ليلا ونهارا، وبخّر بأنواع الطيب، ونذرت إليه النذور، وقرّبت إليه القرابين، وقصده الناس من سائر الآفاق، من جميع أعمال مصر. وأقام مناوش ملكا تسعا وثلاثين سنة، وهلك بالعلّة التي كان أصيب بها أوّلا. وأوصا بالملك إلى ابنه مرنيس. فملك مرنيس الملك عشرة سنين، وكان ضعيفا منهوك البدن. فلم يبن بنيانا، ولا نصب علما ولا منارا. ثمّ هلك بعد هذه المدّة، وأوصى إلى ابنه. وقيل: إنّ هذا الملك لم يعقب، وأن الملك عاد من هذا البيت إلى ولد أشمن بن قبطيم؛ ووجدت مكان اسمه بياضا، فلم أعلمه. وقيل: إنّ هذا الملك أقام دهرا طويلا، وأنّه أوّل من صنع الدّرياقات من لحوم الأفاعي، وأنّه أوّل من أمر بالنيروز في مصر. وكان الناس يقيمون سبعة

أيّام، لا يصنعون صنعة ولا يفتحون لمعيشة. وكان هذا الملك يكفيهم في هذه المدّة سائر ما يحتاجون إليه من أكل وشرب. وكان يزعم أنّ هذه السبعة أيّام خدمة للسبع كواكب. وإذا انقضت أخلع على سائر الناس أجمعين، وغيّر جميع لباسهم على أقدار منازلهم ومراتبهم عنده. وفي زمانه بنيت البهنسا. وكانت له زوجة مغري يحبّها تسمّى بهاء النساء؛ فبنا هذه المدينة لها، وسمّيت باسمها. وأقام بها أسطوانات، وجعل فوقها مجلسا من زجاج أصفر محكم، وعليه قبّة من ذهب إبريز، فكانت الشمس إذا طلعت ألقت القبّة شعاعها على المدينة، فتكون المدينة كلّها صفراء. ويقال: إنّه ملك ثمان مائة وثلاثين سنة، ودفن في إحدى الأهرام الصغار القبليّة، ودفن معه من المال (104) والجوهر والعجائب شيء كثير. ويقال: إنّ هذا الملك بنا في شرقيّ الصحراء مدينتين ونسبهما إلى هرمس، أي: عطارد. وجعل فيهما من العجائب ما يطول شرحه، أضربت عنه لطوله. وقرأت في تاريخ عتيق أنّ رجلا أتا عبد العزيز بن مروان، وهو أميرا

بمصر، فعرّفه أنّه تاه في صحراء الشرق، وأنّه وقع بمدينة خراب وأنّه وجد فيها شجرة تحمل كلّ صنف من أصناف الفاكهة، وأنّه أكل منها وتزوّد، وأتا معه بشيء من فاكهة لم تكن في أوانها. فقال له رجل من قبط مصر: هذه إحدى مدينتي هرمس، وفيها كنوز عظيمة. فوجّه عبد العزيز صحبة ذلك الرجل أقواما وزادا وماء، وأقاموا يطوفون تلك الصحارى شهرا كاملا، فما وقعوا لها على أثر. ولمّا هلك هذا الملك قام بالأمر بعده ولده الشاد. وولي الشاد الملك وهو غلام وله من العمر خمسة وأربعين سنة. وكان جبّارا معجبا طمّاع العين، فافتتن بامرأة من نساء أبيه، وانكشف أمره معها. وكان أكثر همّه اللهو واللعب، وجعل تدبير ملكه إلى وزير كان له، واشتغل بلهوه. ورفض العلوم والهياكل والنظر في مصالح الناس. وصنع له قصور من خشب مموّهة بالذهب، وجعلها على أطراف النيل، وكان يتنزّه عليها. وولّد من الشجر والفواكه شيء كثير. وأنفد أكثر الأموال والذخائر جوائز لأرباب اللهو. وكان الخاصّة به متسلّطون على أموال الناس وحريمهم. وقتل من الناس خلقا كثيرا في شرح طويل، فاحتالوا عليه حتّى سمّوه في طعامه، فهلك وهو ابن مائة وعشرين سنة، وكان ملكه خمسة وسبعين سنة. وأوصى بالملك بعده لولده صا، وهذا الاسم على اسم عمّ جدّه

أوّلا. وأكثر القبط تزعم أنّه صا بن مرقويس، وهو أخو الشاد الملك، ليس ولده. فملك وهنّأه الناس بالملك، فوعدهم بالإحسان إليهم والنظر في حالهم. وسكن مدينة. . .، وأظهر العدل والإحسان، وعمل العجائب، وقرّب العلماء والكهنة ونفى الملهبيّين، (105) ونصب العقاب الذي كان أبوه عمله، وشرّف هيكله. وعمل في منف مرآة يرا منها الأوقات التي تخصب فيها بلده، والأوقات التي فيها تجدب. وبنا بداخل الواحات مدينة عظيمة، يقال لها: طرطورة. وجعل فيها من العجائب ما يضيق حصره. وصنع خلف الجبل المقطّم صنما يقال له: صنم الحيلة. وكان كلّ من تعذّر عليه أمرا يأتيه فيبخّره ببخوره، فيبيّن له أمره. ويقال: إنّه الذي بنا المدينة النحاس التي وقع عليها موسى بن نصير في زمان بني أميّة لمّا قلّد المغرب، فلمّا دخل مصر أخذ على الواح الأقصى بالنجوم. وقد كان وقع عندهم علم منها، فأقام سبعة أيّام في مهامه ورمال وصحاري بين سمت الغرب والجنوب. وظهرت لهم مدينة فيها حصن، وأسوارها من نحاس وأبوابها كذلك. فأقصد إليها الرجال ليقفوا على ما فيها، وتسوّروا بالحيلة العظيمة على سورها لمّا أعيا فتح أبوابها. فكان من على على سورها ورآها صفّق بيديه وأهوى بنفسه إليه، ثمّ لم

يعود له خبر، فهلك خلق من الرجال على هذه الصورة. فلمّا أعياه أمرها، تركها ومضى. ولم يسمع أنّ أحدا غير موسى بن نصير وقع بها، لا من قبله ولا من بعده. وهذا الأمر ذكر وشهر، فلا ينبغي أن ينكر. وكان القوم ذو استطاعة وقدرة على سائر الأعمال العجيبة. وكان الغالب على مدنهم التي كانوا يبنونها بالغرب من الواحات، قوّة تسليط الرمل. فكان كلّ ملك يقوم، لا بدّ أن يصنع عملا لدفع الرمل عن تلك المدن التي بنيت، وإنّ في هذا الوقت أكثرها تحت آكام من الرمل الغالب عليها، والله أعلم. وقرأت في مجموع أنّ قوما من فلاّحين الواحات الخارجة، تغلّب عليهم عاملهم، وعنّف بهم، فهربوا ودخلوا في صحراء الغرب، وحملوا معهم زادا، إلى أن تصلح أمورهم ويعودوا. فكانوا على يوم وبعض آخر، فلجؤوا إلى جبل، فوجدوه غير أهل، فدخلوا تحت شعابه. فوجدوا مساكن طيّبة، وأشجار باسقة، (106) وأنهر متفجّرة، وأرض لم يروا أطيب منها، ولا أللد نسيم، وبها قوم يسكنونها ويزرعون ويرفعون. فخاطبوهم، فلم يعرفون بكلامهم، فأتوهم برجال عندهم، ففهموا كلامهم وقالوا: يا قوم، نحن أيضا كنّا مثلكم فلاحون، خارجا عن هذه الأرض،

جار علينا العمّال، فدخلنا هذه الأرض، وجميع من بها يزرعون ويرفعون، ولا لهم من يظلمهم بخراج، ولا يعرفون لهم مالك. فإن شئتم تكونوا عنها، فعلى الرحب والسعة. فعزموا تلك الناس أن يعودوا ويأخذوا أهلهم وأولادهم ويرجعوا يسكنون عندهم. فلمّا عادوا بأهاليهم وأولادهم ومواشيهم، فأقاموا مدّة أيّام يطلبون تلك الأرض، فلم يجدونها وضلّوا عن الطريق، ولا تاتا لهم الوصول إليها، فعادوا إلى بلادهم، وقد ندموا على مفارقة تلك الأرض. ولم يزالوا يهذون بما عاينوا وبما رأوا منها. وقيل أيضا عن آخرين ضلّوا في الطريق بالغرب من هذه النواحي، فوقفوا على مدينة كثيرة الناس والمواشي والنخل والشجر والأمياه، فأضافوهم وأكلوا عندهم وشربوا، وأباتوهم في معصرة خمر عندهم، فسكروا من خمرهم، وناموا، فلم ينتبهوا إلى طلوع الشمس، فوجدوا أنفسهم في مدينة خراب، ليس بها أحد ولا عامر. فارتاعوا لذلك، وخرجوا على وجوههم كالهاربين. وساروا يومهم على غير سمت طريق، حتّى قرب المساء. فظهرت لهم مدينة عظيمة، أكبر من الأولى وأعمر، وأكثر أهلا ودوابا ونخلا وشجرا. وأنسوا بهم وأخبروهم بخبر المدينة الأولى، فجعلوا يعجبون منهم ويضّاحكون، وإذا لبعض أهل تلك المدينة، وليمة، فانطلقوا بهم معهم إليها، وأكلوا من أفخر طعام تلك الوليمة،

وشربوا من نبيذهم، وغنّوهم بأصناف الملاهي، وسألوهم، فأخبروهم أنّهم ضالّون عن الطريق. فقالوا لهم: الطريق بين أيديكم، ليس ببعيد منكم؛ فإن أحببتكم <أن> تتوجّهوا نفّذنا معكم من يدلّكم، وإن أحببتم الإقامة عندنا، فعلى الرحب والسعة. فسرّوا (107) بقولهم سرورا كثيرا، وأجمعوا على المقام عندهم، لما رأوا من كثرة الخير عندهم وأجمع من كان له أهل أو ولد أن يتوجّه فيحضر بأهله وولده ويأتوا عندهم على أحسن مبيت وأهناه. فلمّا كان من الغد، انتبهوا فوجدوا أنفسهم في مدينة ليس فيها أنيس، وقد تشعتث حصنها ودورها، إلاّ أنّ حولها نخلا، وقد تساقط ثمره وانكدس حولها. قالوا: فلحقنا من الخوف ما لحقنا بالأمس وأزيد؛ وخرجوا منها هاربين متوجّمين مفكّرين فيما عاينّاه من أهلها. وإنّا لنجد بقيّة رائحة الشراب معنا، ومعاني الخمار فينا ظاهر. فلم نزل نسير يومنا أجمع، وليس بنا جوع ولا عطش، حتّى إذا كان المساء، وافينا راعيا يرعا غنما، فسألناه عن العمارة والطريق، فأوقفنا عليه. وإذا بنقّار من المطر، فشربنا منه وبتنا عليه. فإذا نحن في خلاف موضعنا الذي كنّا فيه، وإذا بالعمارة والناس. وما سرنا إلاّ بعض يومنا حتّى دخلنا مدينة الأشمونين بالصعيد. فكنّا نحدّث الناس، ولا يقبلوا منا، ومنهم من يصدّق ويتعجّب لذلك. وهذه مدائن القوم الداخلة؛ ربّما غلب على سكّانها الجنّ. ومنها ما هو مستتر عن العيون، والله أعلم.

ولنعود إلى <ما> ساقه التاريخ من <ما> يفيد <عن> ملوك مصر، إن شاء الله تعالى. ثمّ تملّك تدارس الملك. وكان تدارس الملك جبّارا محنّكا، ذو بطش وقوة ومعرفة بالأمور. فأظهر العدل، وساس الأمور أحسن سياسة، وأقام الهياكل، وزبر العلوم، وبنا غربيّ مدينة منف بنيانا عظيما للزّهرة، من لازورد محكم مذهّب، وصورة سواري زبرجد أخضر. وكان الصورة امرأة لها ظفيرتان في ذهب أسود مصنوع مدبّر في رجليها خلخالان من حجر أحمر شفّاف ونعلان من ذهب إبريز في يدها قضيب مرجان مكلّل، وهي تشير بسبّابتها كالمسلّمة على من في الهيكل. وصنع من الصور والتماثيل ما فاق به على من تقدّمه من آبائه وجدوده. وكانت هذه الصورة يستشفى بها من كلّ داء يعرض. (108) وفرش الهيكل بحشيشة الزهرة، يبدّلونها في كلّ سبعة أيّام، وقرّب إليها القرابين من الضأن والمعز والوحش والطير. وكان في قبّة الهيكل صورة رجل راكب على فرس له جناحان وبيده حربة، في سنانها رأس إنسان

معلّق. واستمرّ هذا الهيكل إلى زمان بخت نصر الفارسيّ، وهو الذي هدمه، والله أعلم. وقيل: إنّ تدارس <هو> الذي حفر خليج سنحار، وارتفع خراج مصر على يديه: ألف ألف وخمسون ألف دينارا. وقصده بعض عمالقة الشام فخرج إليه واستباحه ودخل فلسطين، فقتل منها خلقا كثيرا وسبى بعض حكمائها وأسكنهم مصر. وهو الذي غزا السودان وقتل منهم مقتلة عظيمة، وتبعهم إلى أرض الفيلة، وكانوا في زهاء ألف ألف مقاتل. وعمّر مكان وصل منارا، وزبر عليها اسمه وظهوره على السودان. ولمّا عاد إلى مصر رأى رؤيا يدلّ بها على موته، فعمل لنفسه ناؤوسا ونقل إليه شيئا كثيرا من الأموال والجواهر وأصنام الكواكب، وزبر عليه اسمه، وجعل عليه موانع تحفظه، وعهد إلى ابنه ماليك. وكان ماليك ولده عاقلا أديبا كريما حسن الوجه، مخالفا لأمّه ولأهل ملكه في عبادة الكواكب والبقر، وكان موحّدا على دين قبطيم ومصريم وكانت القبط تذمّه لذلك. وكان سببه ما ذكره المسعوديّ في روايته: أنّه رأى، فيما يرا النائم،

كأنّه أتاه رجلان، ولهما أجنحة، فاختطفاه وحملاه إلى الفلك السابع. فأوقفاه بين يدي شيخ أسود اللون، أبيض الرأس واللحية، فقال: هل تعرفني؟ فدخلته فزعة الحداثة، وكان سنّه نيّفا وثلاثين سنة، فقال: ما أعرفك. فقال: أنا فورس-يعني: رجلا. فقال: قد عرفتك؛ أنت إلهي. فقال: إنّي لست بإلهك ولا إله أحد من الناس، وأنا مربوب مثلك، وإلهي وإلهك الذي خلق السموات والأرض، وخلقني وخلقك. فقال: فأين هو؟ فقال: في العلوّ الأعلى، (109) لا تراه العيون، ولا يحويه مكان، ولا تدركه الأوهام، حيّ لا ينام، وهو جعلنا سببا لتدبير العالم الأرضيّ. فقال الملك: فبماذا تأمرني أن أفعل؟ قال: تضمر في نفسك ربوبيّته علينا وعلى الخلق الجميع، وتخلص في وحدانيّته، وتعترف بأزليّته. ثمّ أمر تلك الرجلين فأنزلاني، فانتبهت مذعورا وأنا على فراشي. فدعي برأس الكهنة، وقصّ عليه ذلك. فقال: قد نهاك أن تتّخذ الأصنام معبودا، فإنّها <لا> تضرّ ولا تنفع. فقال: من أعبد أيّها الحكيم الفاضل؟ قال: الذي دلّك عليه، وهو الذي خلق السموات والأرض والكواكب والفلك، الذي هم به، والأرض ومن عليها. فعاد ذلك الملك إذا حضر إلى بيت الأصنام، انحرف عن الصنم، ونوى سجوده لخالق السموات والأرض، وخالق الكواكب السبع. ثمّ إن الله تعالى أيّده بملائكة تعضده وتحرسه وترشده إلى مصالح أحواله. وكان يأتيه في نومه من يرشده إلى سائر مصالح ملكه.

وأمر الناس باتّخاذ الفارة من الجندل. وجيّش الجيوش، وصنع الفلك في البحر، ولقي جموع البربر، فقتلهم وهزمهم واستأصل أكرهم، وبلغ إلى إفريقيا وإلى ناحية الأندلس، ووقع بصاحب إفرنجة، فحاربه شهرا، ثمّ طلب صلحه، وأهدا إليه هدايا عظيمة <تليق> بملك عظيم، حتّى رجع عنه. ووصل بالأمم المتّصلة بالبحر الأخضر، ودخل في طاعته أكثرها. ووصل إلى أمّة لهم أنياب بارزة من أفواههم، وحوافر كالخيل، وقرون في رؤوسهم، فقالتهم وهزمهم إلى التخوم المظلمة. والقبط تذكر: أنّه رأى سبعين أعجوبة من مخلوقات الله، عزّ وجلّ، ممّا يطول الشرح في وصفهم، فأضربت عنهم للاختصار، إذ القصد: سياقة التاريخ، ملك بعد ملك من ملوك مصر، منذ بدء الدنيا وإلا آخر ما يقف عليه وعنده هذا المختصر، إن شاء الله تعالى، بمعونة الله وحسن توفيقه. وأقام ماليك هذا مؤمنا بالله تعالى، لا يشرك به غيره، بريئا من عبادة الكواكب وللأصنام والبقر، لا يعبد إلاّ الله وحده، لا شريك له، موقنا

بالبعث والنشور والحساب، (110) والقصاص والممات، كتب صحيفة بخطّ يده، وأمر أن تكون في ناؤوسه، فيها مكتوب: ها ناؤوس ماليك، ملك مصر؛ مات مؤمنا بالله خالق السموات والأرض، لا يعبد غيره، بريئا من الأصنام وعبادتها، موقنا بالبعث والحساب والمجازاة على الأعمال، عاش أربع مائة سنة وثلاثين سنة ومات على ذلك؛ فمن أحبّ النجاة فليدن بما دان به. وأوصى أن لا يدفن معه في ناؤوسه أحدا من أهل بيته. وقد كان كنز كنوزا عظيمة، وزبر عليها ألاّ يخرجها إلاّ أمّة النبيّ المبعوث في آخر الزمان. فمن وقع منها بشيء فإنّه سيكون له منها نصيبا، حسبما زبره هذا الملك. ثمّ إنّه استخلف ابنه جريبا. وكان جريبا هذا ليّنا سهل الخلق. ولم يمت أبوه حتّى شرح له دين التوحيد بالله، عزّ وجلّ، وأمره أن يدين به، ونهاه عن عبادة الأصنام. وكان معه في حياته على ذلك، ثمّ رجع عنه إلى دينهم بعد وفاته. وكان سبب رجوعه إلى ذلك أنّه هوي بنت أحد الكهّان، وهو كان الرمم، فنقلته إلى دينها لغلبة الهوى عليه ودرك الشقاوة. وأمرت بتجديد الهياكل، وشدّدت في عبادة الأصنام.

ثمّ إنّ هذا الملك غزا بلاد الهند بسبب فيه كلام كثير ليس به فائدة، فأضربت عنه لذلك. وبلغ سرنديب، وأوقع بأهلها، وكسب جواهرا عظيمة، وحمل معه حكيما منهم. وبلغ جزيرة بين الهند والصين، فرأى قوما طوال جدّا، سمر يجرّون شعورهم جرّا. وأقام في سفره سبع عشر سنة، ورجع بعدما يئس منه أهل مصر. وكان قد استخلف ولده كلكن، فوجده مستمرّا على أحسن ما تركه، فسرّ بذلك. وجدّد عشرة هياكل، وزاد في ذلك. وحمل معه من تلك البلاد أشياء يطول تعدادها من الأموال والجواهر وذخائر الملوك الذين قهرهم واستأصل ممالكهم. ثمّ أقام سنينا وغزا <بعدها> ممالك الشام إلى أن وصل في الشرق إلى أولاد يافث بن نوح. وملك بعد ذلك خمسمائة وسبعين (111) سنة، وعمل لنفسه في صحراء الغرب ناؤوسا، وبنا إلى جانبه مدينة برفود. وصنع فيها من العجائب والحكم، وادّخر فيها جميع ما أحضره معه من الأموال والجواهر والأمتعة والأواني والآلات، ممّا يحيّر السامع في بعضه، وممّا لو شرحته لكان كراريسا بذاتها، فأضربت عنه لكثرته. وأقام بتلك المدينة إلى أن هلك، وابنه المذكور على المملكة بمنف. فلمّا هلك أبوه، ضمّد جسده بالموميا والكافور والمرّ، وجعل في تابوت من ذهب، وحمل إلى ناؤوسه. ودفن معه أموال كثيرة وجوهر

نفيس، ما لا يعدّ ولا يحدّ، ومصاحف الحكمة، ومصاحف زبر فيها سيرته وغزواته وحروبه وشدّة قوّته وبطشه، وإقامته في مملكته، ومدّة حياته إلى حين وفاته. وجلس بالملك ولده كلكن، وعقد التاج على رأسه بعد موت أبيه بالإسكندريّة، وأقام بها شهرا، ثمّ رجع إلى مدينة منف. وكان حكيما فاضلا كاهنا عالما، وعظّم العلماء من الكهنة والحكماء، وألزم أصحاب علم الكيمياء بعمل ذلك. فخزن أموالا عظيمة، لا يحصيها إلاّ الله تعالى. وهو أوّل من أظهر عملها بمصر بعد أولئك الملوك الأوّل؛ فإنّ أبوه وجدّه وغيره ممّن تقدّمه، كانوا منعوا عملها، أبطلوها جملة كافية، خوفا <من> أن تنتقل عنهم إلى ملوك غيرهم. فعملها كلكن هذا، واجتهد في كثرة عملها، حتّى لم يكن أكثر من الذهب في أيّامه بمصر. ويحكي عنه القبطيّين أنّهم أظهر في زمانه حكما لا يعرفونها، مما يذهل العقول، حتّى إنّهم يسمّونه حكيم الملوك. وغلب جميع الكهنة في كهانتهم وعلومهم، وكان يعرّفهم بالمغيّب عنهم فيما سيأتي، فخافوه خوفا شديدا. وكان في أيّامه نمرود إبراهيم، صلوات الله عليه. ويقال: إنّه لمّا اتّصل بنمرود خيره وسحره وحكمته، استزاره. وكان نمرود جبّارا مشوّه الخلق، يسكن العراق من الأرض. وكان الله تعالى آتاه قوّة وقدرة وبطشا، فغلب على كثير من الأرض.

فتقول القبط، فيما يزيدون (112) في تعظيمه: إنّ النّمرود لمّا استزاره وجّه إليه أن يلقاه منفردا من أهله وحشمه بموضع كذا. وكان ملتقاه له بأصناف السحر. فلمّا التقاه النمرود، أقبل كلكن الملك على أربعة أفراس تحمله، ذوات أجنحة، وقد أحاط به هالة من نور كالنار، وحوله مشوّهة هائلة المنظر، من رآهم لا يملك نفسه فرقا، وهو متوشّح بتنّين محتزم ببعضه، والتنّين فاغر فاه، وبيد الملك قضيب آس أخضر، كلّما رفع التنّين رأسه ضربه بذلك القضيب. فلمّا رآه النمرود في هذه الصورة، هاله أمره وأعظمه، فخاطبه وهو كبير الوجل منه، واعترف بجليل قدره وعظيم حكمته، وسأله أن يكون له ظهيرا. وتقول القبط: إنّ كلكن كان أعظم الملوك من بعد البودشير، ثمّ إنّه استتر عنهم مدّة، حتّى توهّموا أنّه هلك لكثرة جولانه في سائر بقاع الأرض، حتّى طمع الملوك المجاورة له في ملكه. فقصده ملك من ملوك الغرب، يقال له: ساروم بن بيدوم في جيش عظيم، وأقبل من نحو وادي هيت. وبلغ أهل مصر ذلك، فخافوا خوفا شديدا لغيبة كلكن عنهم، وليس لهم ملك يرجعون إلى تدبيره. فلم يشعر ذلك الجيش العظيم إلاّ وقد ركبتهم غمامة حمراء شديدة الحرارة، وغشيتهم حتّى عادوا لا يعلمون أين يتوجّهون. ونشف جميع ما كان معهم من ماء، وزاد بهم الحرارة، فهلكوا بأجمعهم مع سائر دوابّهم.

وظهر كلكن بمصر، وعرّفهم أنّه أهلك عدوّهم، من غير أن يعينهم لقتال ولا حرب. وأمرهم بالخروج إليهم ليعرفوا حقيقة أمرهم. فخرجوا، فوجدوهم أموات بأجمعهم ودوابّهم في قاع واحد. فعرف الناس له ذلك وهابوه سائر الملوك وهابته الكهنة هيبة لم تهب قبله ملكا قطّ. وصوّروا صورته في جميع الهياكل. وملكهم زمانا طويلا، وبنا في آخر عمره هيكلا لزحل من صوّان أسود، في ناحية (113) الغرب. وجعل له عيدا، وجعل فيه ناؤوسا، وحمل إليه من الأموال والجواهر ما أحبّ واختار. وزبره بالطّلّسمات والموانع القاطعة. ثمّ غاب عنهم، فلم يقفوا له على موته. وأوصا إلى أخيه ماليا. وكان ماليا كثير الأكل والشرب، متفرّدا بالرفاهية، غير ناظر في شيء من الحكمة. وجعل أمر الناس إلى وزير له، فكانت هيبة أيّامه لهيبة أخيه كلكن. وتقديرهم أنّه لم يمت، وإنّما ذكر له موته لينظر ما تجري عليهم من الأحوال. وكان ماليا معجب بالنساء، فكان له ثمانون امرأة. ثمّ اتّخذ امرأة من بنات ملوك منف وكانت عاقلة سديدة الرأي، وكان بها معجبا. وكان له بنون وبنات، وكان أكبر بنيه يقال له: طوطيس، وكان يستجهل أباه، فأعمل الحيلة في قتله، وحملته على ذلك زوجة أبيه وجماعة من نسائه

ووزرائه. فقحم عليه في رواقه وهو سكران فقتله، وقتل امرأة إلى جانبه وصلبها. وجلس طوطيس. والملك طوطيس كان جبّارا، شديد البأس مهيبا، فدخلوا عليه أرباب الدولة وهنؤوه ودعوا له. فأمرهم بالإقبال على مصالحهم وأوعدهم بالإحسان إليهم. والقبط تزعم أنّه أوّل الفراعنة بمصر، وهو فرعون إبراهيم الخليل، صلوات الله عليه وسلم. وقالوا: الفراعنة سبعة، طوطيس هذا أوّلهم. ثمّ تذاكروا الناس ما فعله بأبيه وصلبه للمرأة، فاستقبحوا ذلك وأنكروه، كونهم لم يعهدوا أحدا من قبله قتل أباه ولا شهّر بامرأة قطّ، فلمّا بلغه ذلك أمر بالامرأة فأنزلها ودفنها. ثمّ إنّه استخفّ بأمر الهياكل والكهنة. وكان من خبر إبراهيم، صلوات الله عليه وسلم، ما سيأتي ذكره عند ذكر إبراهيم، عليه السلام، مع ذكر الأنبياء، صلوات الله عليهم أجمعين. وإنّما قصدنا بسوق ذكر ملوك مصر على التوالي، إذ شرطنا يقتضي أن لا تخرج من حديث إلى ما سواه حتّى ينتهي ما قبله، ليكون ذلك سياقه. (114) ثمّ إنّ هذا الملك طوطيس أكثر القتل حتّى قتل قراباته وأهل بيته وبني عمه وخدمه ونسائه وكثيرا من الكهنة والحكماء. وكان حريصا

على الولد، فلم يرزق غير ابنته حوريا، وكانت عاقلة لبيبة فطنة حكيمة، وكانت تأخذ على يده كثيرا وتمنعه من سفك الدماء. وأبغضته وأبغضه الناس: الخاصّ والعامّ. فلمّا رأت أمره كذلك، خافت على زوال ملكهم، فسمّته في طعامه فهلك. وكان مدّة ملكه سبعون سنة. واختلفوا في أمر الملك، فقالوا: لا نملّك علينا أحدا من أهل بيته. وأرادوا تمليك بعض ولد بني أتريب، فقام بعض الوزراء ودعا إلى تملّك ابنته حوريا، ووصف عقلها وحكمتها وصنيعها في أبيها ولما كانت تنكره عليه من أمواله، فرضوا القوم بها فتمّ لها الأمر. وملكت حوريا ابنة طوطيس، وجلست على سرير الملك، وأوعدت الناس حسنا، وأخذت في جمع الأموال وحفضتها، وعمارة المواضع والأماكن، وقدّمت الكهنة والحكماء ورؤساء السحرة ورفعت من أقدارهم. وصار من لم يرض بأمرها إلى مدينة أتريب، وملّكوا عليهم رجلا من ولد أتريب يقال له: أنداحس. فعقد على رأسه تاجا، وتلفّف إليه جماعة من ولد عمّه وأهل بيته. وكبر سلطانه، فسيّرت إليه جيشا، فلم يكن لهم به طاقة. فدعاها إلى نفسه وخطبها، وذكر لها أنّ الممالك لا تقوم بالنساء، وخوّفها أنّ يزول ملكها. فعملت صنيعا وأمرت أن يحضروا الناس على

منازلهم، فحضروا وأكلوا وشربوا وبذلت لهم الأموال، وعرّفتهم ما جرا من ذلك الرجل انداحس وخطبته لها. فبعض صوّب الرأي وبعض امتنع، وقالوا: لا نولّي علينا غيرها، لمعرفتنا بعقلها، وهي وارثة الملك. ووثبوا على قوم ممّن خالفها وقتلوهم، وخرجوا في جيش كثيف، فلقوا جيش انداحس فهزموه، وقتلوا كثيرا من أصحابه. فهرب إلى أرض الشام، وبها الكنعانيّين من ولد عمليق، فاستغاث (115) بملكهم، وأخبره خبره، وضمن له فتح مصر، فجهّزه في جيش عظيم. فلمّا بلغ أهل مصر ذلك، اجتمعوا بأسرهم إلى حوريا، ففتحت خزائن أبيها وفرّقت أكثرها، وقوّت أمر السحرة والكهنة، وأوعدتهم بالإحسان العظيم إليهم. وكان على ذلك الجيش الذي يصحبه انداحس قائدا عظيما قدره عند الملك ابن عمليق. فبعثت إليه حوريا تعرّفه رغبتها في تزويجه، لأنّها لا تختار أحدا من أهل بيتها. وكان اسم القائد حمرون. وإن هو قتل انداحس تزوّجته، وسلّمت إليه ملك مصر. فلمّا بلغ القائد ذلك، فرح به، وأسمّ انداحس بسمّ سيّرته إليه، فقتله. فسيّرت إليه: إنّه لا يجوز أن أتزوّجك، حتّى تظهر في بلدي قوة

حكمتك، وتبني لي مدينة عجيبة-وكان افتخارهم حينئذ بالبناء العظيم وإقامة الأعلام وعمل العجائب-وقالت: انتقل من موضع أنت به إلى غربيّ بلدي، فثمّ <لنا> آثار كثيرة، فاقتف بتلك الأعمال الغريبة. ففعل ذلك، وبنا مدينة بصحراء الغرب يقال لها: اندوبة حمرون، وجرا إليها من النيل نهرا عجيبا وغرس حولها غروسا كثيرة. وكانت تمدّه بالأموال وتكاتب صاحبه عنه وهو لا يعلم. فلمّا فرغ منها، قالت: ابن لنا مدينة أخرى كانت لأوائلنا وقد خربت. فامض على إصلاحها، حتّى أنتقل إليها سريعا، وأبعد عن أهل مملكتي وأكون أنا وأنت بها. وكانت هذه المدينة الإسكندرية وكانت قد خربت. قلت: وقد رأيت أنّ أهل التاريخ لا يذكرون شيئا من أمر انداحس ولا هذا حمرون. ويقولون: إنّ الذي قصدها كان الوليد بن دومغ العمليقيّ، وهو ثاني الفراعنة بمصر، وإن كان سبب قصده مصر لعلّة اعتلّها. فوجّه من ينظر له مكانا يصلح لعلّته، فوصفت له مصر، فأتاها في جيش كثيف، وهو الذي خطب حوريا لنفسه وإنّها اشترطت عليه بني

المدينة. ولمّا (116) انتهت المدينة، وأنفذ جميع ما كان معه من الأموال على بنائها-وهي الإسكندريّة الثانية-بعد ما رحلت عنها الصادية وخربت. وكان كلّما بناها خرجت دوابّ من البحر فيهدمونها. فأقام على ذلك مدّة طويلة وهو لا يوري نفسه عجزا. وكانت حوريا قد نفذت إليه في حملت أقامتها له بألف رأس من المعزى اللبون، تستعمل ألبانها في مطبخه. فكانت مع راع له يثق به. فكان ذلك الراعي يطوف بها ويرعاها هنالك. وكان إذا أراد <أن> ينصرف بها وقت العشاء، خرجت إليه من البحر جارية حسناء، تشوّق نفسها إليه. فإذا كلّمها شرّطت عليه أن تصارعه، فإن صرعها كانت له، وإن صرعته أخذت من تلك المعزى رأسين. وكانت على طول الأيّام تصرعه وتأخذ الغنم، حتّى أخذت أكثر من نصفها، وتغيّر باقها لتعلّق الراعي بحبّ الجارية وشغله عن رعيتها. فمرّ به صاحبها، فسأله عن حاله، وكيف نقص غنمه، وهزالها. فخبّره بخبره وخبر الغنم والجارية خوفا من سطوته. فقال: أيّ وقت تخرج إليك؟ فقال: قرب المساء. فلبس الملك ثياب الراعي، وتولّى

رعايته إلى المساء، وإذا بالجارية خرجت وكلّمته واشترطت عليه، فرضي وصارعها، فصرعها وقبض عليها فشدها كتافا. فقالت له: إن كان لا بدّ من أخذي فسلّمني إلا صاحبي الأوّل، فإنّه ألطف بي منك، وقد عذّبته مدّة طويلة. فردّها إليه. فقال: سلها عن البنيان الذي نبنيه، من يقتلعه وما الحيلة فيه؟ قالت: نعم، تعملون توابيت من زجاج كثيف ولهم أغطية، وتجعلون فيها قوما حذّاق بالصنعة في التصوير، وتجعلون معهم صحفا وما ينقشون به، وزادا يكفيهم أيّاما، وتدعونهم في الماء بحبال مشدودة إليكم، وألقونهم في البحر. فإنّهم ينظرون تلك الصور التي تخرج وتهدّم البناء، فيصنعون كهيئتهم، واعملوا لهم أشباها من صفر ومن الحجارة والرصاص، وانصبوها قدّام ما تبنونه (117) من جانب البحر. فإنّ تلك الدوابّ إذا خرجت ورأت صورها، هربت. فعرّف الراعي صاحبه بذلك، ففعله وتمّ أمر البنيان. وقال قوم من أصحاب التاريخ: إنّ صاحب البنيان هذا، والتي جرت له هذه الحكاية، هو جيرون المؤتفكيّ، كان قصدهم قبل الوليد، وإنّما الوليد قصدهم وأتاهم بعد حوريا، وقهرهم وملك مصر. وذكروا أنّ الأموال التي كانت مع جيرون المؤتفكي نفدت جميعها في عمارة هذه المدينة حسبما تقدّم من الشرح في ذلك.

وقيل: إنّ جيرون-وقيل: بل هو حمرون المقدّم ذكره، وقيل: بل هو الوليد بن دومغ-وجد ملعبا مستديرا وحوله تسعة عمد، على رأس كلّ واحد تمثال. فقرّب لكلّ واحد تمثال. فقرّب لكلّ تمثال ثورا سمينا، وألطخ العمد التي تحتهم بدم الثور، وبخّره بشعرة من ذنبه وشيء من نحاتة فقرونه وأظلافه. وقال له: هذا قربانك، فأطلق لي ما عندك فظهر له لوح من صفر منقوش عليه: إذا أنت فعلت ذلك، فقس من جهة كلّ تمثال مائة ذراع من الجهة التي هو متوجّه إليها، واحفر. وليكن ذلك في اجتلاء القمر واستقامة زحل. فإنّك تنتهي بعد خمسين ذراعا إلى بلاطة عظيمة، فألطخها بمرارة ذلك الثور الذي قرّبته لذلك التمثال، واقلعها. فإنّك تنزل منها إلى سرب طوله خمسون ذراعا، في آخره خزانة مقفلة، ومفتاح القفل تحت عتبة الباب. فخذه وألطخ الباب ببقيّة مرارة ذلك الثور ودمه، وبخّر بنحاتة قرونه وأظلافه وشعره، وادخل الباب، فإنّه يستقبلك صنم في عنقه لوح صفر معلّق، مكتوب فيه جميع ما في الخزانة من مال وجواهر وتمثال وآنية وأعجوبة. فخذ ما شئت، ولا تعرض ميّتا تجده ولا ما عليه. وكذلك فافعل بكلّ عمود منهم وتمثاله. وهؤلاء خزائن نواويس سبعة من (118) الملوك وكنوزهم. فلمّا سمع ذلك وامتثله، فوجد ما لا يدرك وصفه،

ووجد من العجائب شيئا كثيرا، فتمّ بناء الإسكندريّة من ذلك المال. فلمّا بلغ حوريا ذلك ساءها؛ وإنّما أرادت إتعابه في غير بلوغ قصده، وإهلاكه بالحيلة عليه. وذكر أنّه وجد فيما وجد من العجائب بهذه الخزائن: درج ذهب مختوم، فيه مكحلة زبرجد، فيها ذرور أخضر، ومعها عروق جوهر أحمر. من اكتحل من ذلك الذّرور وكان أشيب، عاد شابّا واسودّ شعره ولحيته وأضاء بصره حتّى يدرك النظر إلى أصناف الروحانيّات. ووجدوا تمثال نمس من ذهب إذا ظهر من صندوقه تعتّمت الدنيا وأمطرت. وكذلك غراب من حجر أسود إذا سئل عن شيء صوّت وأجاب عنه. وقيل: إنّه كان في كلّ خزانة عشر أعجوبات. فلمّا فرغ من بناء المدينة، وجّه إلى حوريا يعلمها بذلك ويحثّها على الحضور إليه. فأنفذت إليه فرشا فاخرة وأواني عجيبة، وقالت: افرش هؤلاء الفرش وجهزت هذه الآنية وسير إليّ بثلث جيشك إلى ثلث الطريق والثلث الآخر في نصف الطريق، ليكونا من ورائي لحفض خزائني ومملكتي حتّى أحضر إليك. فإنّي أوافيك في جواريّ، فلا تدع عندك من أحتشم منه. ففعل ذلك. ولمّا لقيها ثلث جيشه، قدّمت إليه الطعامات المفتخرة

وسمّتهم فيه، فماتوا عن آخرهم، وكذلك فعلت بالثّلث الثاني. ثمّ قدمت إليه وحضرت عنده، فلمّا جلس معها نفخت في وجهه فبهت، ورشّت عليه ماء كان معها، مشحونا بالسحر، فارتعدت مفاصله، ثمّ قالت: من ظنّ أنّه يغلب النساء، فقد كذبته نفسه. ثمّ أفصدت عروقه وأسالت دمه، وقالت: دم الملوك شفاء. ثمّ هلك، فأخذت رأسه فوجّهت به إلى قصرها، فنصبته على شرافته، ونقلت سائر تلك الأموال والجواهر (119) وبنت منار الإسكندريّة، وزبرت عليه اسمها واسمه وما فعلته معه، وتاريخ ذلك. وصنعت في المنار مرآة تنتظر سائر الجزائر البحريّة عند حركة أهلها، فتكون على حذر من الأعداء. قلت: وهذه المنار كانت بها هذه المرآة إلى قريب من هذا العهد، وربّما ذكر أنّ بعض الإفرنج تحيّل حتّى كسرها، ورمى بنفسه من أعلا المنار إلى البحر فهلك. وهذا مشهور لا ينكر. ولمّا انتقل خبرها إلى الملوك هابوها واحترموها وهادوها. وعملت بمصر عجائب كثيرة، وبنت على آخر ناحية النوبة حصن وقنطرة يجري ماء النيل من تحتها. ثمّ اعتلّت حوريا، فاجتمع إليها أهل مملكتها، وسألوها أن تقلّد

الملك من تراه-ولم يكن من ولد أبيها أحدا ذكرا. فقلّدت عليهم ابنة عمّها دليقة ابنة ماموم. فكانت هذه دليقة عذراء عاقلة رزينة. وأخذت لها المواثيق على أهل مملكتها بالسمع والطاعة لها، وأوقفتها على كنوزها. وأمرت <إذا ماتت> أن يضمد جسدها بالكافور والموميا والمرّ، كما كانوا يفعلون بأجساد ملوكهم. ونقلت إلى مدينة بنتها في صحراء الغرب، وجعلت لها بها ناؤوسا، ونقلت إليه أصنام الكواكب وزيّنته بأحسن زينة، ونصبت له قومه يخدمون ذلك الناؤوس، وزبرته بالأسماء والطّلّسمات، بعدما أودعته من الأموال والجواهر والأمتعة ما لا يقع عليه قياس ولا حدّ. ثمّ جلست دليقة ابنة ماموم على سرير الملك، وأجمعت الكلمة عليها، وأحسنت إلى الناس، ووضعت عنهم خراج سنتهم هاتيك. ثمّ ظهر عليها رايمين المويسيّ يطلبها بثأر خاله انداحس، واستنصر بملك العمالقة. فوجّه معه قائدا من قوّاده في جيش كثيف، وأخرجت إليه دليقة بعض قوّادها. فالتقوا بالعريش، وفعلت سحرة الفريقين العجائب من

التخاييل (120) الهائلة والعجائب الغريبة والأصوات المفزعة، وأقاموا كذلك يتكافئون الحرب ويتراجعون عدّة أشهر، وهلك منهم عالم عظيم من الناس. ثمّ إنّهم هزموا أصحاب دليقة الملكة، وأتوا إلى منف. وصار أصحاب رايمين في آثارهم، ومضت دليقة في جميع جيوشها إلى ناحية الصعيد ونزلت الأشمونين واستعانت بالكهنة وجمعت الجيوش ووقعت الحرب بينهم، ثمّ انهزموا أصحاب رايمين وخرجوا عن منيف وتبعوهم. وقد كان معهم ساحر من أهل قفط، فأحال بينهم وبين عسكر دليقة بالنيران ومشاهيبها. ولما زاد الأمر بين الفريقين، اتفقا على أن يجعلوا البلاد بينهما نصفين بالسويّة، وأجاب كلّ منهما إلى الصلح. ثمّ إنّ دليقة أخرجت الأموال والذخائر، واستخدمت الجيوش وحاربت رايمين، فأقاما في الحروب ثلاثة أشهر. ثمّ ظهر رايمين عليها وهزمها إلى ناحية قوص وتمكّن من المملكة بمصر. فلمّا ظهر لها الغلوبة أسمّت نفسها فهلكت. واستقرّ رايمين بالملك وتجبّر وقتل الجيش الذي كان قد أتا معه من جهة الوليد بن دومغ. فلمّا بلغ الوليد ذلك سيّر من قبله غلام له يقال له:

ذكر الوليد بن دومغ، أول الفراعنة بمصر

عون. فافتتح مصر وقتل رايمين وأكثر أعوانه-ومولاه لا يعلم بذلك. وظنّ الوليد أن عونا هلك من سحرة مصر. فسار الوليد بنفسه، فتلقّاه غلامه عون، وعرّفه أنّه ملك مصر، وما كان سبب تأخّره إلاّ لإصلاح أمورها. فقبل قوله ودخل مصر. ذكر الوليد بن دومغ، أوّل الفراعنة بمصر هذا عند أكثر أهل العلم بتاريخ مصر أنّه أوّل الفراعنة بمصر، فاستباح أهلها وأخذ أموالها وأخذ جماعة من كهنتهم وحكمائهم، وسنح له أن يخرج ليقف على مصبّ النيل ويغزوا من بناحيته من الأمم. فأقام (121) ثلاث سنين يتجهّز ويستعدّ لخروجه ولما يحتاج إليه. واستخلف عونا على مصر وخرج في جيش كثيف، فلم يمرّ بأمّة إلاّ أبادها. فيقال: إنّه أقام في سفرته عدّة سنين كثيرة. ومرّ على أرض الذهب، وفيها قضبان نابتة، وهي آخر بلد علوة. ولم يزل الوليد في سيره إلى أن بلغ البطيحة التي يصبّ منها ماء النيل، من التماثيل التي تخرج من سفح جبل القمر. ثمّ سار حتّى بلغ هيكل الشمس، فدخله. ويقال: إنّه خوطب فيه بخبر، أضربت عنه. وبلغ جبل القمر؛ وإنّما سمّي

جبل القمر لأنّ القمر لا يطلع عليه، لأنّه خارج عن خط الاستواء. ونظر إلى النيل تخرج من سفحه، من تلك التماثيل المذكورة، فيمرّ في طرائق، ويصير إلى فم النيل المنهّر له، ثمّ يجوز خطّ الاستواء، فيجري في نهر النيل، وتمدّ منه عين أخرى من ناحية مكرام الهند. وتلك العين أيضا من جبل القمر، وفيه قول قد قدّمناه في الجزء الأوّل. ويذكر عن الوليد أنّه رأى القصر النحاس الذي فيه التماثيل التي صنعها هرمس الأوّل الذي ذكرناه، وأنّ النيل يخرج من حلوق تلك التماثيل الذهب، وهم ستّة وثلاثين تمثالا، ثمّ يصبّ إلى بطيحة قد دبّرت بتدبير تلك الأمم القديمة. وإنّ صلاح جريان النيل أصله من هذه التماثيل، وقد أجري إلى تلك البطيحة، مع ما نهر من فم النيل، مصبّات من عدّة برك، كمجاري السيول. وبتلك البرك أمياة محتبسة محضّرة، فإذا كان أوان الأمطار مطرت في تلك البرك والأودية، فتفيض وتجري في تلك المصبّات وترمي إلى تلك البطيحة، معما نهر من فم النيل، مع طول المسافة إلى إقليم الحبشة. ولا يزال يجري إلى أن ينتهي في فصل الصيف إلى الديار المصريّة، في الوقت المحتاج فيه إلى زيادته، لانتفاع الأراضي التي تركها ويرويها. فيكون مدّة جريانه من مبدأ تلك البرك إلى أن يصل إلى الديار المصريّة: ثلاثة شهور وزيادة. (122) وكذلك مدّة الأمطار في فصل الشتاء بتلك الأراضي، وهي

أيضا مدّة الزيادة في الديار المصريّة، لاتّصال إمداد السيول من تلك الأودية والبرك. فزيادة النيل تكون لكثرة الأمطار في تلك السنة، ونقصانه لقلّتها. وكثرة الأمطار من رحمة الله، عزّ وجلّ، على عباده. وقال أيضا: إنّ هرمس أحكم هذه التماثيل وجعلها ستّة وثلاثين تمثالا. وحكّم لكلّ تمثال ذراع من الماء في الزيادة، وأن تكون زيادة النيل من مبداه ستّة وثلاثين ذراعا وإلى منتهاه ثمانية عشر ذراعا، لتدرك بهذا التقدير منفعة الريّ في البلاد، والأراضي المجاورة له، من مبداه إلى أن يصبّ في البحر الروميّ المالح، ويفترق عند آخره فرقتين: أحدهما ذات تعريجة تنتهي إلى فم رشيد وتصبّ في المالح، والأخرى في الاستقامة إلى فم دمياط وتصبّ في المالح. وقال جدع بن سنان الحميريّ، صاحب هذا النقل: وإنّ بالنيل سبعة آلاف تعريجة من مبداه إلى منتهاه، وذلك من حكم الله تعالى التي لا تدرك لها غاية. وفائدة هذه التعاريج لمسك زيادة النيل، ليحصل الانتفاع بمسكه. إذ لو كان غير ذي تعاريج لما ظهرت فيه زيادة، لانصبابه في المالح. وعادت الأراضي تنتفع بزيادته، غير أنّه لم يكن يروي سائرها. فأمر الوليد أن تحفر في الأراضي التي لا يركبها النيل آبار، وتروى على أعناق الأبقار، فحفرت. واستمرت الديار المصريّة كذلك إلى أيّام الإسكندر المقدونيّ وأرسطاطاليس الحكيم، فصنع بفم دمياط سدّا محكوما غائصا في الماء كهيئة اللاهون بالبحر اليوسفيّ. فعاد يمسك ما كان يصبّ في المالح، وتتراكم الزيادة بالنيل فيطف ويروي سائر تلك الأراضي التي تروى

بالقادوس من الآبار المعينة، وأغنى عن ذلك. وجعل في ذلك السدّ خرقا ليصرف منه ما زاد عن منفعة البلاد، خوفا من الغرق. قلت: وقد صوّرت صورة النيل حسبما رأيتها في ذلك التاريخ مصوّرة: (123) <رسم لصورة جبل القمر وصفة التماثيل التي تصبّ إلى البطيحة والمسار إلى أن يصل إلى فم رشيد وفم دمياط ومن ثمّ إلى البحر، انظر هنا ص 179>. (124) قال جدع بن سنان: قال القبطيّون من أهل مصر. ولمّا بنا الإسكندر هذا السدّ بفم دمياط، قصد به ثلاث منافع، أحدها: منع المالح أن يغلب على الحلو، لانتفاع الناس بالحلو دون المالح. والثاني: ما ظهر من الانتفاع بالنيل لركوبه سائر الأراضي التي كانت تروى من الآبار المعينة، كما ذكرنا. قال: وكان جلّ قصده منع مراكب العدوّ من دخولها النيل. فعاد هذا السدّ كالقفل للديار المصريّة من تطرّق الأعداء. قال: ثمّ جدّد للماء مقياسا عند حلوان، كما نذكر من خبره، وكيف هدمه الماء على طول مرور الدهر عليه. وهذا المقياس الآن <هو> عاشر مقياس بني للنيل المبارك، وسنذكر ذلك في موضعه اللائق به، إن شاء الله تعالى. ولهذا المقياس عمد في وسط فسقيّة، مقسوم بأصابع مقدّرة على أذرع إلى حدّ اثني عشر ذراع، مقسوما بثمانية وعشرين إصبعا. ومن حدّ الاثني عشر ذراعا إلى حيث تنتهي الزيادة، مقسوما بأربعة وعشرين إصبعا؛ والذراعان متساويان. فما الحكمة من ذلك؟ ولقد سألت جماعة من مشايخ العصر عن ذلك، فلم أجد عنده شيء من صحّته. ولذلك سألت ابن أبي الردّاد، الذي هو وأباه وأجداده متوارثون قياس هذا النيل من تاريخ ما يأتي ذكره عند

ذكرنا لهم، عندما بنا هذا المقياس المتوكّل، جعفر بن المعتصم بن الرّشيد، كما نذكر، وكان ذلك بحضرة القاضي المرحوم فخر الدين، ناظر الجيوش المنصورة، رحمه الله، ونحن عنده بسطح الجامع النّاصريّ بمصر المحروسة، ولم يجبني بما يقارب، خصوصا إن يكن القصد بعينه، وكان بحضور جماعة من المشاهير بالدّيار المصريّة، فبحثوا في ذلك، فلم يقعوا منه على شيء، ولعلّها من الحكم العويصة. وقال قوم من <أهل> الأثر: إنّ هذه الأنهار الأربعة: سيحون وجيحون والفرات والنيل، تخرج من أصل واحد، وقد تقدّم ذكرها. وقيل: إنّها تخرج من قبّة (125) في أرض الذهب، من وراء البحر المظلم. وقيل: إنّهم من الجنّة، وأن القبّة من زبرجد. ويذكر أنّ رجلا من ولد العيص بن إسحاق بن إبراهيم، عليهما السلام، وصل إلى القبّة، وقطع البحر المظلم، يقال له: جابر، وله خبر طويل. ذكر ذلك: أبو صالح، كاتب اللّيث بن سعد، من المحدّثين. وقال آخرون: تنقسم هذه الأنهار على اثنين وسبعين فرقة للأمم المقدّم ذكرها.

أخبار الوليد بن دومغ

وقال آخرون: هذه الأنهار تخرج من أنهار تتكاتف وتذيبها الحرارة، فتسيل إلى هذه الأنهار وتسقي من عليها، لما يريد الله تعالى من تدبير خلقه. أخبار الوليد بن دومغ قالوا: إنّ الوليد بن عمليق لمّا بلغ إلى جبل القمر رأى جبلا عاليا، فأعمل الحيلة إلى أن صعد عليه ليرا ما خلفه، فأشرف على البحر الأسود الزّفتيّ المنتن، ونظر إلى النيل يجري عليه كالأنهار الرقاق، وأنّه أتته من تلك النواحي روائح منتنة حتّى أهلكت كثير من أصحابه، فأسرع النزول بعد أن كاد يهلك. وذكروا قوما أنّهم لم يروا هناك شمسا ولا قمرا إلاّ نورا لا يعلمون ما هو. وزعموا أنّ الوليد أقام في غيبته هذه سبعين سنة وأنّ عونا غلامه، بعد مضيّ سبع سنين من مسير الوليد، ادّعا الملك، وأنكر أن يكون غلاما للوليد، وأنّه أخوه من دومغ، ووثب على الناس وغلب عليهم بالسّحر. فإنّهم أطاعوه، واستباح نساءهم، ولم يترك امرأة من نساء ملوك مصر حتّى نكحها، ولا مالا إلاّ أخذه وبقتل صاحبه. وكان مع ذلك يكرّم الهياكل

ويعظّم الكهنة، وأطاف به من السحرة ما لم يطوفوا بغيره لكثرة إكرامه لهم وتعظيمه إيّاهم. ثمّ إنّه رأى في منامه كأنّ الوليد بن دومغ قد عاد، وهو قائم بين يديه، وهو يقول له: من أمرك أن تتسمّى بالملك، وأن تنكح نساء الملوك، وأخذ الأموال لغير (126) واجب؟ ثمّ أمر به أن يضع في قدر قد ملئت زيتا قد غلى عليه حتّى طار لهبه. فأتا طائرا في صورة عقاب فاختطفه من بين يديه وحلّق به في الجوّ حتّى جعله فوق أعلا جبل، وأنّه سقط من الجبل إلى واد فيه كمأة مشنبة. فانتبه مذعورا، وقد كان في فعله ذلك كلّما ذكر الوليد وعودته وخطر بقلبه، يكاد عقله أن يطير فرقا منه، لما يعلمه من فضاضته وقوّة بطشه. فاختلا ببعض من يثق به من السّحرة الكبار، وأظهره على سرّه، وقصّ عليه رؤياه. فقال الساحر: إنّ هذا العقاب روحانيّ قد أوراك صفته، وإنّك إذا عبدته خلّصك من جميع ما يضرّك. قال عون: أشهد لقد قال لي العقاب وأنا أسمع: اعرف لي هذا المقام ولا تنسه. فقالوا: قد نبّهك على مصلحتك. فصنع تمثال عقاب من ذهب، وجعل عينيه من جوهرتين، وكلّله بأنواع اليواقيت، وعمل له هيكلا لطيفا، وأرخى عليه الستور <من> الديباج الملوّن، وأقبل أولئك على سحره وقربانه إلى أن نطق لهم. فأقام

عونا على عبادته ودعا الناس إلى ذلك، فأجابوه من خوفهم من شرّه. فلمّا مضا لذلك مدّة أمره العقاب أن يبتني له مدينة يحول إليها وتكون له معقلا وحرزا من كلّ أحد. فأمر عند ذلك بكلّ صانع بمصر وأن ينظروا له مكان بالصحارى ويطلبوا له أرضا سهلة صعبة، ذات طرق وعرة، وتكون قريبة من مغيض الماء، وهي التي ابتناها يوسف، عليه السلام، بعد ما صارت مغيض ماء، وهي الفيّوم. فلمّا خرجوا أصحابه ووجدوا هذه الأرض، أمرهم ببنائها وأخرج إليهم سائر ما يحتاجون إليه. وأخرج السحرة ليكون في معونتهم الروحانيّين الذين في طاعتهم. وأقام يحمل إليهم الزاد على العجل شهورا على الطريق من وراء الأهرام، وهي التي يقصدها أصحاب المطالب، وتسمّى بطريق العبيد. وذلك (127) كون أنّ عبيد عون كانوا يحملون على العجل الزاد للصنّاع في هذه الطريق، فسمّيت بهم. فلمّا تكامل بنائها، حفروا بها بئرا وجعلوا فيه بيوتا وجعلوا في تلك البيوت تمثال خنزير من نحاس بأخلاط ممنوعة، ونصبوه وجعلوا وجهه في شرقيّة. وأخذوا خنزيرا فذبحوه ولطّخوا وجهه بدمه، وبخّروه بشعره. وأخذوا أشياء من شعره وعظامه ودمه ولحمه ومرارته، فجعلوه في جوف ذلك الخنزير التمثال ونقشوا عليه آيات زحل. ثمّ شقّوا في البئر أخدودا،

وكان ذلك بطالع زحل واستقامته وسلامته من المضادّين له وهو في شرفه. ثمّ شقّوا ذلك الأخدود من أربعة أوجه: شرق وغرب وجنوب وشمال. ومدّوا تلك الأخاديد إلى حيطان المدينة، وعملوا على أفواهها مسارب تجلب الرياح إليها. ثمّ سدّوها وعملوا عليها قبّة على عمد مرتفعة، وجعلوا حول القبّة تماثيل فرسان من نحاس، بأيديهم حراب ووجوهم مقابلة لتلك الأبواب. وجعلوا أساس المدينة من حجر أسود وفوقه أحمر وفوقه أصفر وفوقه أخضر وأعلا الجميع أبيض، مبنيّة كلّها بالرصاص المصبوب بين الحجارة، وقلوبها أعمدة من حديد، على ترتيب بناء الأهرام، وجعل طول حصنها ثمانين ذراعا. ونصّب على كلّ باب من أبوابها في أعلا الحصن تمثال عقاب كبير من صفر وأخلاط، مجوّف ناشر الجناحين. وعمل كلّ ركن صورة فارس بيده حربة، متوجّه إلى الباب. وقرّب لذلك العقاب عقبانا ذكورا ولطّخه بدمائهم واجتلب الرياح إلى أبواب التماثيل. فكانت الرياح إذا دخلتها سمعت لها أصواتا شديدة، ولا يسمعها أحد إلاّ هالته. وصفحدها بعفارت تمنع الداخل إليها إلاّ أن يكون من أهلها. ونصب ذلك العقاب الذي كان يتعبّد له تحت قبّته التي صنعها له في وسط المدينة على قاعدة لها أربعة أركان، (128) في كلّ ركن منها وجه شيطان. وجعلها على عمود تدور. وكان العقاب يدور إلى كلّ جهة من الأربع الجهات ويقيم في كلّ جهة ربع السنة. وصنع له أربعة أعياد، عدد دوراته في السنة. ولمّا فرغ من ذلك كلّه حمل إليها سائر أمواله وذخائره وما كان في خزائن الملوك من الذخائر

النفيسة، وحوّل إليها كبار السحرة والكهنة وسائر أصحاب الصنائع والتجارات وأرباب الزراعات، وقسّم لهم مساكن بحيث لا تختلط طائفة مع غيرها. وعقد على تلك الجسور قناطر يمشي عليها الداخل إلى المدينة. وجعل الماء يدور حول الرّبض وعلها أعلاما وحرسا. ثمّ أمر فغرست من وراء تلك المدينة النخيل والأشجار من سائر الأصناف. وجعل من وراء ذلك مزارع الغلاّت من سائر الحبوب. وكان يرتفع منها كلّ سنة ما يكفيه لعشر سنين. كلّ ذلك خوفا من الوليد بن دومغ. وبين هذه المدينة وبين مدينة منف ثلاثة أيّام. وعاد يخرج إليها ويقيم بها الأيّام ثمّ يعود إلى منف. فلمّا تمّ لعون ذلك اطمأنّ قلبه وسكتت نفسه، إلى أن وافا الوليد إلى ناحية النّوبة، وورد على عون كتابا يأمره <فيه> أن ينفّذ إليه الأزواد وينصف له الأسواق. فوجّه ذلك كلّه في المراكب وعلى الظّهر. ثمّ حول جميع عياله ومن اصطفاه من بنات ملوك مصر وكبرائها إلى المدينة المذكورة، حتّى إذا قرب دخول الوليد إلى مصر تحوّل إلى المدينة وتحصّن بها وخلّف الوليد من بعده خليفة يلقاه ويكون بين يديه. ودخل الوليد مصر فتلقّاه أهلها وشكوا إليه ما لا قوة من عون وما حلّ بهم منه. قال: فأين عون؟ قالوا: فرّ عون. فاستقرّ هذا الاسم بعد ذلك لمن يلي ملك مصر.

<ذكر نهراوس>

ثمّ إنّ الوليد نفّذ إليه جيشا كبيرا، فلم يقدروا عليه بحيلة ولا بكثرة لتحصّنه في (129) تلك المدينة. ثمّ نفّذ إليه يقول: متى لم تحضر وظفرت بك قطعت من لحمك وأطعمتك. فورد جوابه يقول: ما على الملك منّي مؤنة وأنا عبد من عبيد الملك، وأنا في هذا المكان أردّ من يرد عليه من الأعداء من جهة الغرب، ولا أقدر على المسير إليه خوفا من سطوته ولسوء اعتمادي في غيبته. فليقرّ بي في هذا المكان كأحد عمّاله وأوجّه إليه ما يلزمني من خراج أرضيّ التي أستنبطها. ووجّه إليه بأموالا كثيرة وجواهر نفيسة وترفّق له، فكفّ عنه. واستقرّ الوليد بمصر واستعبد أهلها وأباح حرمتهم وأولادهم وأموالهم مائة وعشرين سنة. وكان ابنه نهراوس، وهو الريّان صاحب يوسف، عليه السلام، ينكر عليه فعله. فاتّفق مع أهل المملكة فسمّوه في طعامه فهلك. ولمّا مات عمل له ناؤوسا بقرب الأهرام ودفن به كعادة الملوك الأول. وقيل: بل دفن في هرم النّواويس، والله أعلم. <ذكر نهراوس> ثمّ ملك ابنه نهراوس. وهذا نهراوس هو الريّان بن الوليد بن دومغ، وهو فرعون يوسف، عليه السلام. فجلس على سرير الملك، وكان عظيم الخلق جميل الوجه، عاقلا متمكّنا. فتكلّم ومنّا الناس وضمن لهم الإحسان وأسقط عنهم الخراج مدّة ثلاث سنين. فحبّوه الناس

وأثنوا عليه بخير. وأمر بفتح الخزائن وفرّق ما فيها من الأموال على الخاصّ والعامّ. وتمكّنت منه رائحة الصبا فملّك على البلاد رجلا من أهل بيته يقال له: اطغين، وهو الذي يسمّونه أهل الأثر: العزيز. وكان من أولاد الوزراء، عاقلا أديبا لبيبا، حسن الرأي كثير النزاهة، مستعمل للعدل والعمارة. وأمر أن ينصّب في قصر الملك سريرا من فضّة ويجلس عليه ويغدو أو يروح إلى باب الملك ويخرج إلى أعماله. وجمع الوزراء والكتّاب بين يديه. فكفا نهراوس جميع أموره وخلا بنفسه، لما هو فيه من لذّته، وعاد معتكفا (130) على لهوه منعّما في لذّاته، لا ينظر في شيء من أمور ملكه. فأقام كذلك حينا من الدهر والبلد عامر كثير الخير، بحسن تدبير العزيز. وقيل: إنّه انتهى الخراج في وقته: تسع وتسعون ألف ألف ألف دينار، فجعلها. فما كان له ولأهل بيته ومائدته حمل إليه، وما كان في أرزاق جيوشه والكهنة والفلاسفة وأصحاب الجوامك صرف إليهم، ومهما فضل أرصد لمصالح الأراضي ونوائب الزمان.

وبنا لنهراوس مجالس الزجاج الملوّن وجرّوا حولها الماء يدور، وأرسلت فيه الأسماك من أنواع الجواهر والبلّور. وكان إذا وقع الشمس عليها أرسلت من شعاعها نورا يخطف بالأبصار. وعملت له ثلاثمائة وستّين مجلسا متنزّها بعدد أيّام السنة، كلّ مجلس لا يشبه الآخر، مكمّل بسائر فروشه والالاته وأوانيه، من حوله بستان قد جمع سائر أصناف الفواكه وسائر الأطيار المطربة. فكان ينتقل كلّ يوم في مجلس منهم، إلاّ أوّل السنة يعود لأوّل مجلس. فلمّا اتّصل ذلك بملوك النواحي واشتغاله بما ذكرناه، قصده رجل من العمالقة يقال له: علكن بن شموم؛ وكان يكنا أبا قابوس. فسار قاصدا إلى مصر في جيوش كثيفة حتّى نزل على حدودها. فأنفذ إليه العزيز جيشا وجعل عليه قائدا يقال له: فوناس. فأقام يحاربه ثلاث سنين. فظفر العمليقيّ به فقتله ودخل مصر وهدم أعمالها وأعلامها ومصانع كثيرة. وتمكّن طمعه في ملك مصر واتّصل خبره بأهل البلد فأعظموه وأكبروه واجتمعوا إلى قصر الملك وجعلوا يصيحون، فسمعهم، فسأل عن خبرهم، فأخبروه بخبر العمليقيّ وما فعله.

وتزعم القبط أنّه سمع نوح الجنّ وبكاءها على أهل مصر، ويذكرون أبوه في نواحهم عليه، فارتاع لذلك. فعرض جيشه وأصلح أمره وخرج للعمليقيّ في ستّمائة ألف مقاتل. فالتقوا (131) من وراء الأجراف، فاقتتلوا قتالا شديدا. ثمّ انهزم العمليقيّ واتّبعه نهراوش إلى حدود الشام، وقتل عامّة أصحابه. ودخل بلاده وأفسد زروعه وأشجاره. ونصب علما على المكان الذي وطئته خيله وزبر عليه: إنّي لمن تجاوز هذا المكان بالمرصاد. لمّا فعل ذلك هابته الملوك ولاطفوه وعظّموه. وقيل: إنّه بلغ الموصل وصرف عن أهل الشام خراجا، وبنا على العريش مدينة لطيفة وشحنها بالرجال. ثمّ رجع إلى مصر، فحشد جنوده من جميع الأعمال واستعدّ لغزو ملوك الغرب. فخرج في تسع مائة ألف مقاتل خارجا عن الأتباع. واتّصل خبره بالملوك، فمنهم من تنحّى عن طريقه ومنهم من دخل تحت طاعته. ومرّ بأرض البربر، فأخذ كثيرا منهم. ووجّه قائدا له-يقال له: مريطس-في سفن؛ فركب من ناحية أرض البربر، فقتل منهم، وصالحه

بعضهم، وحملوا إليه من الأموال ما لا يعدّ كثرة. ثمّ مضى إلى إفريقية وقرطبة، فصالحوه أهلها وأهدوا له أموالا ولطف وهدايا. ومرّ حتّى بلغ مصبّ البحر الأخضر إلى بحر الروم، وهو موضع الأصنام النحاس. فأقام هناك <صنما> وزبر عليها اسمه وتاريخ الوقت الذي وصل فيه. وضرب على أهل تلك النواحي خراجا. ثمّ عدل إلى ناحية الأرض الكبيرة، وسار إلى إفرنجة والأندلس. فخرج ملكها وحاربه أيّاما وقتل من أصحابه خلقا كثيرا، وصالحه بعد ذلك ودخل تحت طاعته. وقرّر عليه ذهب مضروب يحمل في كلّ عام إليه، وعلى أن لا يغزو مصر، ويمنع من رام ذلك ممّن يجوز به، وانصرف عنه راجعا. وسار مشرقا، يشقّ بلاد البربر. فلم يصل إلى مكان إلاّ خرجوا إليه وتلقّوه ومشوا بين يديه. ثمّ أخذ ناحية الجنوب، ومرّ بناحية الكرمابيّين، وحاربوه وقتل منهم خلقا كثيرا. ووصل في الجنوب إلى مكان لم يصله ملك غيره. وتعجّبوا أهل تلك الديار منه، ودخلوا في طاعته. وسأل منهم: هل ركبت هذا البحر أحد قطّ (132) فقالوا: ما يستطيع أحدا أن يركبه. وأنّه تظلّله غمامة فلا

يرونه أيّاما. وأتوا للملك بهدايا وفواكه، أكثرها الموز، وحجارة سوداء فإذا وضعت في الماء عادت بيضاء، وحجارة بشبه السّمك، إذا كسرت كانت حجارة وإذا وضعت في الماء يوما وليلة عادت سمكا طريّا من أحسن سمك يكون. ثمّ تركهم وسار على أمم السودان حتّى بلغ الزمزم الذين يأكلون الناس من بني آدم. فخرجوا إليه عراة بأيديهم حرابا من حديد. وخرج ملكهم على دابّة عظيمة ذات قوائم ستّة وقرون معقّقة. وكان جسيما بالغ الطول الغاية، أحمر العيون. فظفر نهراوش بهم، فانهزموا إلى جبل ذات أوغار، فلم يتهيّأ اتّباعهم. وجاوزهم إلى قوم على خلق القرود، لهم أجنحة خفاف يثبون بها من غير ريش. ومرّ على البحر المظلم، فغشيتهم منه غمامة حتّى لا عادوا يرون بعضهم بعضا. فرجع شماليا حتّى انتهى إلى جبل عظيم. ورآا فيه تماثيل من الحجر من حجر أحمر، يومئ بيده أن ارجعوا. وعلى صدره مزبورا: ما ورائي مسلك ولا خلق ولا عالم. فعرّج إلى القصر النحاس فلم يصل

إليه. ومضى حتّى وصل الوادي المظلم، فكان يسمعون منه جلبة عظيمة، ولا يرون شيئا لشدّة الظلمة. ثمّ سار حتّى انتهى إلى وادي الرّمّان، فوجدوا <أنّ> كلّ شجرة تضلّ مائة فارس تحمل رمّانا، كلّ رمّانة تفرط كيلا كاملا، لم يروا أحسن من طعمه ولا أحلا. ورأى به أصناما وعليها مزبور أسماء الملوك الذين وصلوا إلى هناك من قبله. فأقام عليها صنما وزبر عليه اسمه. ثمّ توصّل إلى البحر المظلم من ذلك الجانب، فسمع به جلبة وصياحا هائلا يجزع من يسمعه. ووجد على شاطئه آجاما ودجالا، فخرج في شجعان من قومه حتّى أشرف على السباع المقرّنة الأنوف، وبعضها يزأر على بعض. كلّ أسد منهم (133) كالنحتيّ العظيم ويأكل بعضهم بعضا، فعلم أن لا مذهب له من ورائهم. فرجع وغزا وادي الرّمل، ومرّ بأرض العقارب، فكان كلّ عقرب كاللّجأة البحريّة. فهلك بعض أصحابه منهم، ودفعوا عن أنفسهم بالرّقا حتّى جاوزوهنّ.

وسار حتّى انتها إلى أرض ساوقة، وهي الحيّة العظيمة التي لا يعلم لها ابتداء من العمر وطول الدهر. فهجموا عليها وهم لا يعرفونها، وظنّوا أنّها قطعة جبل في تلك الوطاه، حتّى تحرّكت وخرج من مناخرها مشاهب نيران، فأهلكت خلقا عظيما من عسكره، وخرجوا من تلك الأرض وهم لا يصدّقون بالنّجاة منها، وتعوّذوا منها بالرّقا الذي يعرفونه وإلاّ كانت أهلكتهم عن آخرهم. وذكر القبط أنّه منعها بعد ذلك هذا الملك من الحركة بسحره وقيّدها في مكانها. وذكروا أنّ تقدير ما يحويها من الأرض ستّة أميال، وأنّه لم يكن لها غذاء إلاّ من تلك السباع، وقد ركّب الله تعالى فيها خاصّيّة تجتذب بها من البحر والبرّ ما شاءت لقوتها، وأنّ هذا الملك كان سبب هلاكها بسحره. ثمّ سار إلى مدينة الكند، وهي مدينة الحكماء. فلمّا رأوه تهاربوا إلى أعلى جبل عندهم في أماكن حصينة. فأقام عليها أيّاما لا يقدر على الصعود إليهم وكادوا يهلكون عطشا. فنزل إليهم من الجبل رجل حكيم يقال له: مندويس. وكان أكبرهم، وقد لبس شعره جسده. فقال للملك: أين تريد أيّها المغرور، المحدود له في الأجل، المرزوق فوق الكفاية؟ أتعبت

نفسك وجيشك، وأنت مطلوب بهم. هل لا قنعت بما تملكه، وأتّكلت على خالقك، وأرحت نفسك من بعد العناء والغرر بهذا الخلق؟ فعجب نهراوس من قوله وسأله عن الماء فدلّه عليه ونما له عن موضعهم، فقال: موضع لا يصل إليه أحد ولا بلغة قبلك أحد حتّى تبلغه أنت. قال: فما معاشكم وقوتكم؟ (134) قال: من أصول نبات الشجر ممّا تنبت الأرض. قال: فمن أين تشربون؟ قال: من نقار من ماء الأمطار والثلوج. قال: فهل تحتاجون إلى مال أتركه عندكم؟ قال: إنّما يريد المال أهل البذخ. ونحن فلا نستعمل منه شيء وعندنا ما لو رأيته لحقّرت ما عندك. قال: أرنيه. فانطلق بنفر من أصحابه إلى أرض في سفح جبل فيها قضبان الذهب نابتة، وأتى بهم إلى واد على حافّتيه حجارة الزبرجد والفيروزج والياقوت العظيم القدر. فأمر أصحابه أن يحملوا من كبار تلك الأحجار. ثمّ سأله نهراوش على الطريق، فدلّ بهم وعاد. فلم يمرّ على أمّة إلاّ وتلقّونه حتّى وصل إلى أرض النوبة. ثمّ سار إلى منف. فلم يبق أحدا من أهل ديار مصر حتّى خرج إليه، وتلقّونه بأصناف الطّيب والرّياحين. وكان العزيز قد بنا له عدّة مجالس من الزجاج الملوّن وفرشه بأنواع الفرش.

<ذكر دريوش>

وعرض جيشه فنفد منه سبعين ألفا، وقد كان خرج في ألف ألف عيال. ولمّا سمع الملوك به وبقوّة عزمه هابوه وخافوا شدّة بأسه، فهادوه وتلطّفوا في إصلاح شأنهم معه. وقيل: إنّ خراج مصر بلغ في أيّامه تسعة وتسعين ألف ألف ألف. وهذا فرعون يوسف، عليه السلام، وسيأتي خبره معه، عند ذكر يوسف، عليه السلام، إن شاء الله تعالى. وفي أيّامه ابتنا يوسف، عليه السلام، مدينة الفيّوم، كما يأتي بيانه في موضعه. <ذكر دريوش> ولمّا مات نهراوش استخلف ولده دريوش. وهذا دريوش تسميّه أهل الأثر من العلماء: داروم بن الرّيّان. وإنّما وجدت اسمه: دريوش بن نهراوش في هذا الكتاب القبطيّ الذي ذكرته، وجميع هذا الكلام فهو منه بعدما أصلحت منه ألفاظا أدرتها إلى العربيّة بعقلي، ولعلّها الصواب، والله أعلم. وداروم هذا هو الفرعون الرابع بمصر، ولمّا ملك خالف سنّة أبيه. وكان يوسف، عليه السلام، خليفة، أمره الرّيّان بذلك. وكان يشدّد ويطلب سنّة (135) العدل، وكان ربّما وافقه حينا، وربّما نقض أمره حينا.

وطهر في وقته معدن فضّة على ثلاث أمثال من النيل وأثار منه شيء كبير. وعمل منه صنما على اسم القمر، لأنّ طالعه كان السّرطان، ونصبه على قصر الرخام الذي كان أبوه بناه في شرقيّ النيل مع عدّة أصنام أخر. وعمل للصنم الكبير عيدا في كلّ سنة، وهو إذا حلّ القمر السرطان. وكان كلّما أراد <أن> يضرّ بالناس بحال منعه يوسف، عليه السلام، ودفعه عنه، إلى أن مات يوسف، عليه السلام، في أيّامه، وله من العمر ثلاث وعشرون ومائة سنة. فأمر داروم أن يكفّن في ثياب الملوك، وجعل في تابوت من رخام، ودفن في الجانب الغربيّ <من النيل>، فأخصب ونقص <الجانب> الشرقيّ. فنقل إلى الشرقيّ، فأخصب ونقص الغربيّ. فاتّفقوا أن يجعلوه في الغربيّ عاما وفي الشرقيّ عاما. ثمّ حدث لهم رأيا أن يجعلوا له حلقا وثاقا، ويشدّوا التابوت بحبال من حديد من جانبي النّيل ويلقوه في النيل. ففعلوا ذلك، فأخصبت الجانبين. وإنّه وزر بعده بلاطيش الكاهن، فوافق الملك على أخذ أموال الناس، فبلغ من ذلك مبلغا عظيما. وعمل الوادي المنحوت بين جبلين في الناحية الغربيّة من النيل، وكنز الأموال، فلا يوصل إليها بحيلة. وجع لذلك صقالة من ذلك الوادي إلى الحيّ، وجعل له بابا يصل إليه ويدخل إليه، وترى الأموال موضوعة مكشوفة مضروبة في كلّ مثقال من المائة إلى عشرة مثاقيل عليها صورة

الملك. وفي الوجه الآخر اسمه وتاريخ وقته. فإن التمس أحدا منها شيئا انطبق عليه الباب، فلم يقدر على الخروج حتّى يردّ ما أخذه. وقيل: إنّه إلى الآن كذلك. ثمّ زاد أمره في التجبّر حتّى اقتلع نساء الناس منهم غصبا. واجتمع الناس على خلعه، وامتنعوا الناس من عمل سائر الصنائع حتّى الزراعات والغروس، فخاف الوزير من إفساد (136) أمور المملكة. فدخل إليه وأشار عليه أن يردّ إلى الناس نساءهم ويتودّد لهم، فأبا عليه وهمّ بالخروج عليهم في خاصّته، وقال: إنّما هم عبيدي. فلم يزل يرفق به حتّى رجع. ثمّ إنّ أهل الصعيد حشدوا عليه وحاربوه، فخرج عليهم وأهلك منهم خلق كثير. وعاونته امرأة أبيه بسحرها وأظهرت من أنواع السحر ما أضعف أبصارهم، وغشيهم ما لا طاقة لهم به. ثمّ قتل عالما كثيرا منهم، وصلب على غربيّ النيل. ورجع إلى ما كان عليه من الظلم وأخذ الأموال والنّساء وسفك الدماء واستخدام الأشراف من القبط والإسرائيليّين. وكان قد صنع له قصرا من خشب مضبّب بالفضّة والذهب. وجعله في النيل يركب فيه مع وجوه خواصّه. فأراد أن يعدوا من العدوة الأخرى، وكان زمان قوّة نيل مصر، فلم يوافقه القصر بالسرعة لثقله. فركب زورق

<ذكر مقاريوس>

وركبت معه الساحرة معمن اختاره من خواصّه. ولمّا توسّط النيل هاج عليه البحر بالرياح، فاقلبه ذلك الزورق فغرق هو ومن معه، وأصبح الناس شاكّين في أمره، لا يعلمون ما نزل به، إلى أن وجدت جثّته طافية، وعرف بخاتمه وبجوهر كان متقلّدا به، فحمل إلى ناؤوسه في غربيّ النيل، وقدّم الوزير ولده مقاريوس. <ذكر مقاريوس> وجلس مقاريوس على سرير الملك وهو صبيّا، وبايع له الجيش على كره منهم، ثمّ أوعدهم الخير فرضوا به. ويسميّه أهل الأثر: معدان. وهو خامس الفراعنة بمصر. وكان في زمانه طوفان أضرّ ببعض البلاد فكرهه بعض الناس واستاشموا به. وكبر بنو يوسف، عليه السلام، وعابوا الأصنام وباينوها. وهلك أيضا وزير أبوه فاستوزر كاهنا يقال له: املاده. فلمّا رأى فعل الإسرائيليّين أنكره، وأشار أن يفردوا بناحية من البلد ولا يختلطوا مع القبطيّين. فقطعوا لهم موضعا في قبليّ منف، اجتمعوا إليه وعملوا لأنفسهم متعبّدا. (137) وكانوا يتلون صحف إبراهيم، عليه السلام. وإنّ رجلا من القبط رأى امرأة

من الإسرائيليّين فهويها وطلبها من قومها ليزوّجوه بها، فأبوا ذلك. فعظم على القبط ذلك واجتمعوا إلى الوزير وقالوا: إنّ هؤلاء الإسرائيليّين يعيبونا ولا يرضونا. فقال الوزير: قد علمتم ما كان من إكرام طوطيس الوزير لهم من قبلي ونهراوش الملك، ووقفتم على بركة يوسف، عليه السلام، حتّى جعلتم قبره وسط النيل، فأخصب جانباه. فلا تخوضوا في شيء ممّا يكرهون. وكان ملوك الكنعانيّين على الشام، وامتنع أهلها أن يؤدّوا ما كان مقرّر عليهم. فأنكر أهل مصر ذلك، وشكوا للوزير، فعرف الملك، فقال: إن تجاوزوا حدود أرضنا غزوناهم، وإنّما نحن في غناء عمّا في أيديهم. وكان هذا الملك كثير التعبّد في الهيكل مواضبا على العبادة. وتقول القبط: إنّه كان-فيما يزعمون-ذات يوم قائما في هيكل زحل، وكان قد أجهد نفسه في التعبّد له، فغشّاه نور، وتراا له رجل وخاطبه وقال له: قد جعلتك ربّا على أهل بلدك، وحبوتك بالقدرة عليهم. فعظم عند نفسه. قلت: وهذا جميعه كان من فعل الشيطان بهم، إن صحّ ذلك عنهم، لما يريده الله تعالى من شقائهم. فنعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فأمر الناس أن يسمّونه ربّا، ولم يرجع ينظر في شيء من أمر الملك، وجعل أمر الملك لولده اقسامين.

<ذكر اقسامين>

<ذكر اقسامين> وجلس اقسامين على السرير وجعل عليه تاج أبيه، وأقام القاطريّون، وجعل لكلّ أحد مرتبة على ما كانوا عليه قديما. وقسم الكور على ما كانت عليها، وأمر بالعمارات وإظهار الصنائع. ووسّع على الناس في أرزاقهم، فعظم في أعين الناس وأحبّوه. وزاد في تنضيف الهياكل وقرابينها. فقدّروا الناس من الكهنة أنّ ذلك جميعه عن رأي أبيه له. واحتجب أبوه عن الناس؛ وهو الذي تسميّه أهل الأثر: كاشم بن معدان، وهو الفرعون السادس من فراعنة مصر. (138) وهو كاشم بن معدان بن داروم بن الريّان بن الوليد بن دومغ. هذا عن أهل الأثر في تسمية هؤلاء الفراعنة. وأمّا ما وجدته في هذا الكتاب القبطيّ فأسماؤهم: اقسابين بن مقاريوش بن أدريوش بن فهراوش بن ايمين-وهو الوليد بن دومغ؛ ليس كان يدعى بفرعون، وإنّما حدث هذا الاسم عن غلامه، حسبما تقدّم من الكلام. قال القبط: وعمل هذا اقسامين الملك من العجائب ما يطول الشرح في تعدادها، وأقام أعلاما كثيرة حول منف. وجعلها أساطين يمشى من بعضها إلى بعض إلى رفوده التي بداخل الواحات. وصنع كرة من فضّة

<ذكر ظلما بن فرمس>

كهيئة كورة الفلك، ونقش عليها صور الكواكب الثابتة ودهنها بالدهن الصينيّ وركّبها على منار في وسط منف. وصنع في هيكل أبيه روحانيّ زحل من ذهب أسود مدبّر. وعمل في وقته الميزان الذي يعتبر الناس قيّما، وكفّتاه من ذهب وعلاّقتاه من فضّة، وكان معلّقا في هيكل الشمس. وكتب على إحدى كفّتيه: حقّ، واالغرى: باطل. وتحته فصوص قد نقش عليها اسم كلّ شيء <من الكواكب>. فيدخل الظالم والمظلوم، ويأخذ كلّ أحد منهما فصّا من تلك الفصوص، ويسمّي عليه ما يريد، ويجعلا <ن> في كفّتي الميزان، فتثقل كفّة الظالم وتخفّ كفّة المظلوم. وكذلك من أراد سفرا أو فصامرا فيأتي ويجعل خيرته ويذكرها على فصّين ويضعها في كفّتي ذلك الميزان، فيظهر له خيرته في ما يرومه. ولم يزل هذا الميزان بمصر إلى أيّام بخت نصر، فاقتلعه وحمله إلى بابل وجعله في بيت من بيوت الميزان. <ذكر ظلما بن فرمس> ثمّ إنّ هذا الملك مات ولم يعقّب، واستخلف على الناس رجلا من أهل المملكة يقال له: ظلما بن فرمس. وكان شجاعا كاهنا حكيما داهية متصرّفا في كلّ فنّ. وكانت نفسه تنازعه الملك في حال تملك اقسامين، فلمّا مات اقسامين أوصا له بذلك. (139) وهذا هو فرعون موسى، عليه

السلام. وأهل الأثر يسمّونه: الوليد بن مصعب. وإنّما وجدت اسمه في هذا الكتاب: ظلما. وكان قد رأى في كهانته أنّه سيكون جدبا في زمانه وغرقا لقومه. فأمر ببناء المعاقل واستعمل ما استعمله نهرواش الملك في زمانه. وبنا بناحية رفوده والصعيد ملاعب ومصانع. وشكى القبط إليه رجال الإسرائيليّين، فقال: هم لكم عبيد. فكان إذا أراد القبطيّ حاجة سخّر الإسرائيليّ، فلا يقدر <أن> يمتنع عليه، وإن ضرب الإسرائيليّ القبطيّ قتل. وكان أوّل من أذلّ الإسرائيليّين ظلما هذا. وكان، فيما حكي عنه، قصيرا جدّا، طويل اللحية، أشهل العينين أزرقهما، صغير العين اليسرى، في جبهته شامة سوداء، وأنّه كان أعرج. وزعم قوم أنّه من الكنعانيّين. وقال قوم: بل <هو> من القبط. والذي وجدته في هذا الكتاب القبطيّ أنّه من القبط، من أهل بيت المملكة. والدليل على أنّه منهم ميله إليهم واستعباد الإسرائيليّين لهم ونكاحه فيهم. وذكر قوم أنّه دخل منف على حمار أتان عليها نطرون. وكانوا بعد موت اقسامين اختلفوا فيمن يلي الملك عليهم. وكون اقسامين لم يعقّب، فرضوا بأيّ من طلع عليهم. فطلع عليهم هذا ظلما على أتان، قد جلب عليها أطرونا، فلمّا راه ملّكوه عليهم. وهذا كلام ضعيف، لأنّ القوم أدهى

وأعلم من أن يملّكوا عليهم من هذا سبيله، وإنّما أوردت جميع الاختلاف في أمره. وكان أوّل ما تملّك اضطرب الناس عليه، فساسهم أحسن سياسة، ودبّر أحوالهم أتمّ تدبير، فرجعوا لطاعته. واستخلف هامان وزيره. وقيل: إنّه كان ابن خالته؛ هكذا رأيت في الكتاب القبطيّ، ولم أر أحدا ذكر ذلك. وأثار بعض الكنوز، وعمل في مصر أعمال كثيرة، وعمل العمائر الهائلة، وحفر <خليج> السردوس. وقيل: إنّ تعاريجه إنّما كانت أهل البلاد يبذلوا له الأموال حتّى يجرّه على نواحيهم، (140) فاجتمع له من ذلك مال كثير. فلمّا بلغه من وزيره ذلك، أمره أن يردّ كلّ مال إلى أهله، ففعل ذلك. وبلغ الخراج في زمانه تسعة وتسعون ألف ألف دينار. وكان ينزل الناس على مراتبهم. وهو أوّل من عرّف العرفاء على الناس. وكان ممّن يصحبه من الإسرائيليّين رجل يقال له: عمرون، وهو عمران أبو موسى، عليه السلام. فجعله حارسا على قصره ومتولّي حفظه وحامل مفاتيحه، وإليه فتحه وغلقه. وكان أنّه رأى في كهانته أنّه يجري هلاكه على يدي مولود من الإسرائيليّين، فمنعهم المناكح ثلاث سنين،

ولنبتدئ بذكر بقية الأنبياء، صلوات الله عليهم، بعد نوح عليه السلام

لأنّه رأى أنّ ذلك المولود يكون في تلك المدّة، وأنّ امرأة عمرون أتته في بعض الليالي بشيء قد أصلحته له، فواقعها، فحملت بموسى، عليه السلام. وكان أنّه رأى أنّ المولود قد ولد-أو سيلد. فشرع يذبح المولودين من الذكور لبني إسرائيل، ولم يتعرّض لعمرين حارس قصره، إلى أن ولدت <زوجته> موسى، عليه السلام. والقبط تسميّة وهسيس؛ هكذا وجدت في الكتاب القبطيّ. وإلى ها هنا انتهى ما نقلته منه. وأخّرت منه كلاما في ذكر إبراهيم ويوسف وموسى، صلوات الله عليهم أجمعين، آتي به معما يليق معه من الكلام في قصصهم مع الفراعنة عند ذكرهم، إن شاء الله تعالى. ولنبتدئ بذكر بقيّة الأنبياء، صلوات الله عليهم، بعد نوح عليه السلام قلت: قد أتيت بعون الله تعالى وحسن توفيقه بجميع ما اشترطته في ذكر ما قدّمته في هذا التاريخ من غريب الكلام وحسنه، ما لعلّه ما جمع في تاريخ غيره. ومع ذلك فإنّي معترف بالتقصير، واللسان القصير. وليس الاعتماد إلاّ على إسبال ذيل الفتوّة من كلّ واقف عليه، وأسأله سؤال متضرّع إليه، أن يدعو لي بالمسامحة فيما اقترفت، فإنّني عبد بالخطاء قد اعترفت. ولا يبخل عليّ بما قد سألته فيه، وبعض هذا السؤال لكلّ ذي بصيرة يكفيه.

ذكر هود، عليه السلام

(141) والآن فقد تقدّم الكلام من بدء الأشياء كلّها إلى حين أولاد نوح، عليه السلام، وتلونا ذلك بذكر مصر وكهّانها وملوكها وفراعنتها وعجائبها، يتلو بعضه بعضا. فإنّي وجدت كثيرا ممّن يقف على التواريخ تشمأز نفسه من الواقعة أو الحكاية إذا ساقها صاحب التاريخ، وأفصلها قبل إحكام تمامها، وينتقل إلا ما سواها في غير وقتها. فاشترطت على نفسي أنّني لا أذكر كلاما قد استفتحت فيه وأتركه إلاّ حتّى أنهيه. فلمّا ذكرنا بدء الكائنات أنهينا فيها الكلام حدّ الطاقة، وتلونا ذلك بخلق الأمم قبل آدم، عليه السلام، على السياقة. ثمّ أتبعنا ذلك بخلق آدم وبنيه، وذرّيّته ومن يليه، إلى الطوفان، ومن كان فيهم من الملوك والكهّان. ثمّ ذكرنا أولاد نوح، عليه السلام، وملوك مصر إلى آخر الكلام. ووقفنا عند فرعون في زمن موسى، صلوات الله عليه، كونه آخر فراعنة مصر ومنتهاهم إليه. ولنبتدئ الآن بذكر الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين. نستفتح الكلام، بذكر هود، عليه السلام. ذكر هود، عليه السلام روي عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنّ هودا، عليه السلام، اسمه عابر، وإليه ينسب العبرانيّون. وفي كتاب الجمهرة: إنّه عابر بن شالح بن

أرفخشد. وروى محمّد بن سلاّم في تاريخه أنّه ولد بعد مضيّ ستّمائة سنة وسبع وستّين سنة من عمر نوح، عليهما السلام. وقال المسعوديّ: إنّه ولد بعد وفاة نوح بثلاثمائة سنة. وقيل: إنّه هود بن عبد الله بن رباح بن الحلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح، بعثه الله تعالى إلى حيّ من ولد إرم بن سام، وهم عاد بن عوص بن إرم، وهم عاد الأولى، فكذّبوه ولم يستجيبوا له، فأهلكهم الله بالريح العقيم، وهي التي لا تلقح الشجر، (142) استمرّت {عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيّامٍ حُسُوماً}. وقيل: لم تخرج الريح قطّ إلاّ بمكيال إلاّ ذلك اليوم، فإنّها عتت على الخزنة فغلبتهم. فلمّا هلكوا بأجمعهم، بعث الله طيرا أسودا فنقلهم إلى البحر، {فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاّ مَساكِنُهُمْ}. وكان هود، عليه السلام، أشبه ولد آدم بآدم، عليه السلام، خلا يوسف، عليه السلام. ولمّا هلك قومه، لحق هو ومن آمن معه بمكّة، شرّفها الله تعالى. فلم يزل بها حتّى مات وله من العمر مائة وخمسين سنة، وقيل: أكثر. وقبره بحضرموت؛ روي ذلك عن عليّ بن أبي طالب، كرّم الله وجهه.

ذكر صالح، عليه السلام

ذكر صالح، عليه السلام هو صالح بن عبيد بن آسف بن إرم بن سام بن نوح، بعثه الله إلى قومه، وهم ثمود بن حاش بن إرم. وكانت مساكنهم الحجر بين وادي القرا والشام. قال وهب بن منبّه: بعثه الله حين راهق الحلم. وكان يمشي حافيا ولا يتّخذ حذاء. وقال ابن مسعود: بعث وله أربعون سنة؛ ولم يبعث نبيّ إلاّ بعد الأربعين. وكانت أتته ناقة خرجت من هضبة من الأرض يتبعها فصيل لها. فكانت تتفجّج لهم، فيحلبون منها ريّهم، وتشرب ذلك اليوم جميع مياههم، وهم يشربون الماء في اليوم الثاني ولا تأتهم. فلمّا طال عليهم أمرها ملّوها. فاجتمع تسعة رهط من شرّارهم على عقرها. فخرجوا إليها فعقروها. وقيل: إنّ رجلا منهم كان اسمه قدار، وكانت له قينة فاشتهت عليه وهم يشربون الخمر، من لحم الناقة التي هي آية صالح. فخرج في تسعة نفر من قومه، وكان أحمر أزرق، فعقروا الناقة، وأتا لقينته. فكان كلّما

ذكر إبراهيم الخليل، صلوات الله عليه

شوى من لحمها وأراد أكله، وجدوه حجرا صمّا. فلمّا علم صالح بذلك، وعدهم الله تعالى بالعذاب (143) بعد ثلاث. فأصبحوا في اليوم <الأوّل> -وكان يوم خميس-ووجوههم مصفرّة؛ وأصبحوا في اليوم الثاني ووجوههم محمرّة، وفي اليوم الثالث مسودّة. وصبّحهم العذاب الأحد، فأتتهم صيحة من السماء، فماتوا وهلكوا جميعا. ولحق صالح ومن آمن معه بمكّة، ومات بها وله من العمر مائة وثمانين سنة. وقيل: أقلّ من ذلك. وإنّ قبورهم بين دار الندوة والحجر. وقيل: عمّر صالح مائتي وثمانون سنة، والله أعلم. ذكر إبراهيم الخليل، صلوات الله عليه إبراهيم، خليل الله، بن آزر، وهو تارخ بن ناحور بن ساروع بن قالع بن عابر، وهو هود بن شالح بن سوساح بن أرفخشد، وسنوصله بآدم، عليه السلام، عند ذكر سيّدنا ونبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلّم.

ولد إبراهيم، صلوات الله عليه، ببابل. وكان مولده في زمن نمرود ابن كنعان بن كوش بن حام، مع اختلاف في نسب نمرود. وكان لنمرود ملك المشارق. ولمّا بلغ إبراهيم ثلاثين سنة ألقاه نمرود في النار، فنجّاه الله تعالى منها وجعلها {بَرْداً وَسَلاماً}، بعد أن احتبسه ثلاث عشر سنة. ولمّا كان لإبراهيم، عليه السلام، سبعين سنة خرج ومعه ابن أخيه لوط وابنة عمّه سارة-وهي زوجته-إلى الشام، فوجدوا بها الجوع. فساروا إلى مصر وبها فرعون يقال له: سنان. هذا عن أهل الأثر، أن اسم فرعون إبراهيم يقال له: سنان. وسيأتي الكلام من ذلك الكتاب القبطيّ، بعد ما ننهي ما جاء عن أهل الأثر. أقاموا بمصر ثلاثة أشهر، ورجعوا إلى الشام، وقد أهدى فرعون مصر لسارة هاجر، فتولّوا السّبع من أرض فلسطين. وفارقه لوط وسكن سدوم. ثمّ تحوّل إبراهيم، عليه السلام، فنزل الرّملة. وارتحل فنزل إيليا. فلمّا بلغ إبراهيم، عليه السلام، خمسا وثمانين سنة، فوهبت سارة (144) له جاريتها هاجر، فولدت له إسماعيل، عليه السلام، ولإبراهيم من العمر حين ولد له إسماعيل ستّة وثمانين سنة، واختتن وله تسع وتسعون سنة. وقيل: اختتن بالقدوم، وهي قرية من قرا كنعان، لا ما يذهب إليه الناس أنّها الآلة التي كالفأس. وختن أيضا إسماعيل. ثمّ ولدت له سارة إسحاق، عليه السلام، وله مائة سنة، وأنزل الله

عليه عشر صحائف. وولد لإسحاق يعقوب، عليهما السلام، والعيص تؤما بعد مضيّ مائة وستّين سنة لإبراهيم. ومات، صلوات الله عليه، وله من العمر مائة وخمس وسبعون سنة. وماتت سارة ولها من العمر مائة وسبع وعشرون سنة. وكان وفاتها قبل وفاة إبراهيم، بعد مضيّ سبع وثلاثين سنة من عمر ولدها إسحاق. ودفنها في مزرعة جيرون من الشام. . . . أوّل من شاب. وذلك أنّه كان إسحاق على شبهه لا يفرق بينهما المتأمّل الحاذق، فوسمه الله تعالى بالشّيب حتّى تميّز به عنه. وروي أنّه لمّا رأى الشيب، راعه، قال: يا ربّ، ماذا؟ فأوحى الله، عزّ وجلّ، إليه: إنّ هذا وقاري. فقال: اللهمّ زدني وقارا. فأصبح أبيض اللّحية والرأس. وما أحسن قول بعض البلغاء في هذا المعنى، وهو: سبحان من بيّض القار وسمّاه الوقار. هذا عن أهل الأثر، أنّ اسم فرعون إبراهيم كان اسمه سنان وسيأتي الكلام عن ذلك. (من الطويل، مع خلل في الوزن): رأين الغواني الشّيب لاح بعارضي … فأعرضن عنّي بالخدود النّواظر وكنّ إذا ما أبصرنني أو سمعن بي … سعين فرفعن اللّواء بالمحاجر لإن حجبت عنّي خدود نواظر … نظرن بأحداق المها والجآذر

فإنّي من قوم كرام أعزّة … لأقدامهم صيغت رؤوس المنابر وقال الطّبريّ: إنّ من هبوط آدم، عليه السلام، إلى إبراهيم، (145) عليه السلام، ثلاثة آلاف سنة وثلاثمائة سنة وسبعا وثلاثين سنة. فتكون إلى حين وفاته ثلاثة آلاف سنة وخمس مائة سنة واثنتا عشر سنة، والله أعلم. وأمّا قصّة إبراهيم، صلوات الله عليه، مع طوطيس ملك مصر، ممّا تظمنه ذلك الكتاب القبطيّ، فإنّه قال: إنّ أبراهام لمّا خاف على نفسه وزوجته من قومه ونمرود الكنعانيّ، فإنّه كان من أهل قرية من القرا العراقيّة، تسمّى: لوذاها؛ وكانت هذه القرية في خاصّ ملك نمرود الكنعانيّ؛ فخرج طالبا للشام. فلمّا نزل بارمنيدا-وهي الغوطة-خشي أيضا لا يلحقوه هنالك، <وذلك ل‍> كون حكم نمرود نافذا إلى هناك. فتوصّل إلى مصر، وبها أحد الفراعنة يسمّى طوطيس، أبو حوريا الكاهنة. فوصل إليه الخبر من البوّابين أن قد دخل إلى المدينة رجل من شرق الأرض ومعه امرأة لم يرا مثلها. وذكر أنّ حسن يوسف كان جزءا منها. فأمر الملك بإحضاره، وسأله عن خبره، فقال: رجل قاصد لديارك. وخبّره

عن بلده، وكتم أمره مع نمرود. فقال: وما تكون هذه المرأة منك؟ قال: أختي. فقال: أحضرها لأراها. فامتنع. ثمّ لم يمكنه المخالفة لغربته في مصر، وعلم أنّ الإله لا يفضحه في أهله ولا يسؤه. فقال لسارة: توجّهي معي إلى الملك فقد طلبك ليراك. قالت: وما يفعل بي الملك؟ إنّي أخشاه على نفسي. فقال: إنّ إلاهنا يمنعه منك. فقامت على كره منها. فلمّا دخلت إليه، ونظر منها منظرا أراعه، فافتنته بحسنها. فأمر بإخراج إبراهيم. فخرج، وهو لا يكاد <. . .> خوفا عليها منه. وندم على قوله: هي أختي. وتمنّى أنّه لم يدخل مصر. فقال: يا ربّ، لا تفضحني في أهلي. فكشف الله تعالى له عن الملك وسارة حتّى عاد ينظر إليهما. ثمّ إنّ الملك راودها عن نفسها فامتنعت عليه. فذهب يمدّ يده إليها، فقالت: إنّك (146) إن وضعت يدك عليّ أهلكت نفسك، لأنّ لي ربّا يمنعني منك. فلم يلتفت إلى قولها ومدّ يده إليها، فجفّت يده وبقي حائرا. فقال لها: أزيلي عنّي ما قد أصابني. فقالت: على أن لا تعود إلى مثل ما فعلت. قال: نعم. فدعت إلى الله تعالى، فزال عنه. فلمّا وثق بالصحّة، منّاها وعاودها، فامتنعت وقالت: قد علمت ما نزل بك. ثمّ مدّ يده إليها، فجفّت، واضطربت عليه عصبه. فاستغاث بها، وأقسم بآلهته، أنّها إن أزالت عنه ذلك لا يعاودها فيما تكره. فسألت الله، عزّ وجلّ، فزال عنه، ورجع إلى صحّته. فقال لها: إنّ لكما لربّا عظيما لا يظيعكما. ثمّ إنّه أعظم قدرها وسألها عن إبراهيم، فقالت: هو بعلي وأنا زوجته وابنة عمّه.

قال: فإنّه يقول: إنّك أخته. قالت: صدق؛ أنا أخته في الدين، وكلّ من كان على ديننا فهو أخ لنا. قال: نعم الدين دينكم. ووجّهها إلى إبراهيم بعدما أنفذها لابنته حوريا. فأضافتها أحسن ضيافة، ووهبت لها هاجر لخدمتها. وكان هاجر ابنة ملك عين شمس، وأغار عليهم هذا الملك، وأخذها، وكانت عنده بمنزلة ابنته حوريا. فلم تجد حوريا عندها أعزّ من هاجر، فأهدتها لسارة، ووهبت لها مالا وجوهرا. فقالت سارة لإبراهيم، فأمرها أن تردّ ذلك المال والجوهر، فردّته. وذكرت <حوريا> ذلك لأبيها. فتعجّب منه، وقال: إنّ هؤلاء لكرام من أهل بيت طاهر. فتحايل الملك في برّهما بكلّ حيلة، حتّى صنع لهما سلاّ وجعل فيه حلوا ومأكولا وجعل المال والجوهر في أسفل السلّ، وقال: ليكون هذا برسم زوّادتكما. فقبلاه على أنّه مأكولا؛ وخرج إبراهيم، عليه السلام. فلمّا أبعدوا وأمعنوا في السير، أخرجت سارة بعض السلال، فوجدوا فيه ذلك المال. فحفر منه البئر التي جعلها للسبيل، وفرّق بعضه في وجوه البرّ. وكان يضيف كلّ من مرّ به حتّى كنّي أبا الضيفان. (147) وادّخرت منه سارة لولد كان لها قبل إسحاق، عليه السلام. وعاش طوطيس الملك إلى أن وجّهت إليه هاجر من مكّة تعرّفه أنّها في مكان جدب وتستعينه. فأمر بحفر نهر في شرقيّ مصر، بسفح الجبل، حتّى انتهى إلى مرفأ السفن في البحر المالح. وكان يحمل إليها الحنطة وأضاف الغلّة، فتصل إلى جدّة وتحمل من هناك على الظهر. فأحيت بلد الحجاز بعدما كان قحط.

ذكر لوط، عليه السلام

وذكر أنّها سيّرت إليه من الحجاز تذكر له ولادتها، فسرّ بذلك، ووجّه إليها ذهبا وجوهرا لتتّخذ منه زينة لولدها. فحلّت الكعبة ببعضه، وهي أوّل من حلّت الكعبة بالذهب والجوهر ممّا أهداه لها ملك مصر. قيل: إنّه أكثر من إنفاذه إليها حتّى سمّته العرب: الصادق. وربّما وجدت كثير من أهل الأثر يذكرون أنّ اسم ملك مصر الذي أهدا هاجر لسارة <هو> صادق، وهذا أصله. ثمّ إنّ طوطيس هذا سأل إبراهيم، عليه السلام، أن يبارك له في بلده، فدعا بالبركة لمصر. وعرّفه إبراهيم أنّ ولده سيملكونها ويصير أمرها إليهم قرنا بعد قرن إلى آخر الزمان، والله أعلم. ذكر لوط، عليه السلام وأمّا لوط فهو ابن أخي إبراهيم، عليهما السلام. وقيل: بل ابن أخته. وهو لوط بن هاران، بعثه الله تعالى إلى أهل سدوم. وكان هؤلاء القوم يأتون الذّكران، وما سبقهم بها أحد من العالمين. وقيل: إنّما تعلّموا اللّواط من الحمير. فإنّ الذكر يركب الذكر من الحمير. وذكر الجاحظ في كتاب الحيوان أيضا، أن هذه خاصّيّة في الحمير.

ذكر إسماعيل، عليه السلام

كما أنّ الحمام من الطير، تركب الأنثى للأنثى. ومن ذلك علمت النساء ذلك. وقيل: إنّ أوّل من فعل ذلك من العرب هند بنت النّعمان، كما يأتي بيان ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى. فلمّا كذّبوا لوطا، عليه السلام، قومه، ولم ينتهوا عمّا كانوا يعملون، كما أخبر الله تعالى عنهم في كتابه العزيز. (148) فبعث الله عليهم جبريل، عليه السلام، فاختلع أرضهم من سبع أرضين، فجعلها مقلوبة بعد ما بلغ بها سماء الدنيا. وسمع أهل سماء الدنيا نياح كلابهم وأصوات ديوكهم. ثمّ قلبها عليهم فدمّرهم جميعا. وذلك قوله تعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى}. وكان ذلك بعد مضيّ تسع وتسعين سنة من عمر إبراهيم، عليه السلام، وكانوا خمس قرا. وهم ضبعة وضعوة وعمرة ودوما وسدوم، وهي مدينتهم العظما. ونجّا الله تعالى لوطا وأهله، إلاّ امرأته، فإنّها هلكت، كما أخبر الله تعالى، والله أعلم. ذكر إسماعيل، عليه السلام هو إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام. ويروي جماعة من الصحابة والتابعين، رضوان الله عليهم: أنّ الذبيح <هو> إسماعيل.

ذكر يعقوب، عليه السلام

منهم ابن عمر وابن عبّاس بلا خلاف في قولهما: وأنّه فدي بكبش من الجنّة قد رعا فيها أربعين خريفا، وأنّ الإسلام جاء ورأس الكبش معلّق بقرونه في ميزاب الكعبة الحرام. وهو أوّل من تكلّم بالعربيّة بعد يعرب بن قحطان، على خلاف فيه. وكذلك يقال: إنّه أوّل من ركب الخيل، وكانت وحوشا لا تركب. وولد لإسماعيل اثنا عشر رجلا من الجرهميّة. وبعثه الله نبيّا إلى العماليق وإلى قبائل اليمن. ولمّا حضرته الوفاة أوصى إلى أخيه إسحاق، وكان عمره يومئذ مائة وسبعا وثلاثين سنة. ودفن في الحجر إلى جانب قبر أمّه هاجر، والله أعلم. وأمّا إسحاق بن إبراهيم، مرويّ عن ابن مسعود وأبي هريرة، رضي الله عنهما، أنّ الذبيح هو إسحاق، وهو قول جماعة من التابعين، وأنّه عرض على الذبح وعمره سبع سنين. ولمّا علمت سارة ما أريد بابنها إسحاق، بطنت يومين وماتت في الثالث. وقيل: أمر بذبحه وهو ابن ستّ وعشرين سنة، (149) وهو الأشهر. ولمّا بلغ إسحاق، عليه السلام، ستّين سنة ولد له العيص ويعقوب، وكانا تؤمين. فولد العيص الروم، وقد تقدّم الكلام في ذلك. وولد يعقوب، عليه السلام، الأسباط. ومات إسحاق وله مائة وثمانون سنة، وكان ضريرا. وكان وفاته في السنة التي ظهر فيها يوسف، عليه السلام، بمصر واستوزره العزيز. ودفن <إسحاق> عند قبر أبيه، والله أعلم. ذكر يعقوب، عليه السلام هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم السلام. وولد الأسباط

ذكر يوسف، عليه السلام

وهم اثنا عشر ذكرا. ومرويّ أنّ الأنبياء جميعهم من ولده، اللهمّ إلاّ أحد عشر، وهم: نوح وهود وصالح ولوط وإبراهيم وأيّوب وشعيب وإسماعيل وإسحاق ويعقوب نفسو محمّد، صلّى الله عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. وتوفّي يعقوب بمصر وله من العمر مائة سنة وسبع وأربعون سنة، وحمله يوسف، عليه السلام، ودفنه عند قبر أبيه إسحاق. ولم تزل النبوّة والملك متّصلين بالشام ونواحيها في ولد إسرائيل بن إسحاق، إلا أن أزال الحكم عنهم بخت نصر الفارسيّ، ثمّ الروم من بعده. وكان آخر أنبياء بني إسرائيل يحيى وزكريّا وعيسى، عليهم السلام. ذكر يوسف، عليه السلام أمّا يوسف، عليه السلام، فهو أعرق الأنبياء أصلا، ولسيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم، الشرف الرفيع والجمال البديع. فإنّ يوسف صديق الله، ابن يعقوب إسرائيل الله، ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله. ولا يوجد نبيّ ابن نبيّ ابن نبيّ ابن نبيّ، أربعة على نسق سواه. . . إنّه لمّا بلغ سبع عشرة سنة رأى الشمس والقمر وإحدى عشر كوكبا، له ساجدين. فقصّ (150) رؤياه على أبيه، فحسده إخوته، فوضعوه في غيابه <في> الجبّ، وابتيع من أهل مصر. وقد تمثّل به بعض الشعراء فقال (من الطويل): أقول وقد ضاقت بأحزانها نفسي … لإن بعت يا مولاي ودّي بالوكس لقد بيع بعض الأنبياء عليهم … صلاة إله النّاس بالثّمن البخس

واشتراه قائدا من قياد فرعون مصر. فمكث عنده مدّة، ثمّ كان من أمره مع امرأة العزيز ما يأتي ذكره، وسجن. وكان من رؤيا فرعون ما كان، ثمّ أطلقه واستوزره. وصاحبه الرّيّان بن الوليد، ويقال: إنّه آمن به. ومات فرعون ويوسف حيّ. وولي بعده قابوس بن مصعب وكان كافرا. هذا ما روي عن أهل الأثر. وأمّا ما وجدته من قصّته في هذا الكتاب القبطيّ، فإنّه قال: وإنّ في زمان نهراوش الملك دخل إلى مصر غلام قد ألبس ثوب الجمال من أهل الشام، احتوا عليه إخوته وباعوه. وكانت القوافل تأتي من الشام وتفرش بالموقف. فأوقف الغلام، ونودي عليه، وهو يوسف بن يعقوب، فبلغ وزنه ذهبا وورقا. فاشتراه طغين العزيز وزير نهراوش الملك ليهديه إلى الملك. فلمّا أتا به منزله، رأته امرأته زاريخا، وهي زليخا، وهي ابنة عمّ العزيز، قالت: اتركه لنا نربّيه، ففعل. فهويته، وكانت تكتم ذلك عليه، حتّى غلبها هواها. فجاءت وتزيّنت له وعرّفته أنّها تحبّه، وإن وافقها على ما تريد منه، حبته بمال عظيم، واصطفته لنفسها. فامتنع من ذلك. ورأت أن تقبّله؛ ولم تزل تعاركه وهو يمتنع عليها إلى أن أتا زوجها العزيز ورآه وهو هارب منها. وكان العزيز عنّينا لا ينال النساء. فجعل يوسف يعتذر إليه. وقالت <زليخا>: كنت نائمة، فأتاني وراودني عن نفسي. ففطن العزيز وعلم أنّ الأمر منها. فقال ليوسف: دع اعتذارك، وأعرض عنه. والتفت (151) إليها فقال لها: استغفري لذنبك.

كلّ هذا الكلام بالقبطيّ، وهذا معناه لمّا جلبته إلى العربيّة. وقد كان خبر الغلام اتّصل بالملك نهراوش. فسأل العزيز عنه فأنكره منه ومنعه من الخروج من قصره. وكان نهراوش قد عاود الاعتكاف على اللذّات و <سلّم> إلى العزيز الملك وتدبير الرعيّة. ولمّا اتّصل خبر زليخا ويوسف بنساء من أصحاب الملك، فعيّروها بذلك. فأحضرت جماعة منهنّ، وعملت لهنّ وليمة وشرابا، وجلست في مجلس قد فرشته بأنواع الديباج في إيوان عظيم، وأمرت المواشط بتزين يوسف، <عليه السلام>، وإخراجه من المجلس على تلك النّسوة، بعدما أخذ الشراب منهنّ. فأخرجنه بعدما زيّنّه بأتمّ زينة، وجعلن عليه الثياب المنسوجة بالذهب على ثوب من الديباج الأحمر، وسرّحن ذوائبه، والتبر من خلفه ومن قدّامه. ودفنّ إليه مذبّة ذهب وشعرها أخضر، وكانت قد قدّمت لكلّ واحدة منهنّ أترجّة، وبيدها سكّينا يقطع بها. فلمّا خرج يوسف عليهنّ في تلك الزينة-وكان محاذيا للشمس-فأشرق المجلس وجميع ما فيه من جمال يوسف وقوّة نور وجهه، حتّى كاد يخطف بأبصارهنّ ذلك النور. وأقبل يوسف والمذبّة في يده حتّى وقف على رأسها وعاد يذبّ عنها. وعادت تخاطب النّسوة، وهنّ لا يعين لكلامها، بل <كنّ> شاخصات ليوسف. فقالت: ما لكنّ اشتغلتنّ عن مخاطبتي بالنظر إلى عبدي. فقلن لها: ليس هذا من الإنس، وإنّما هذا روحانيّ عظيم قد ظهر

بهذا الزيّ العظيم. ولم يبق منهنّ واحدة إلاّ وسلب قلبها وحاضت في وقتها وأنزلت الشهوة من محبّته. فقالت لهنّ زليخا: هذا عبدي الذي لمتنّني عليه وعبتنّني فيه. فقلن لها: ما ينبغي لأحد أن يلومك بعد هذا. ومن لامك فقد ظلمك، فدونكه. فقالت: قد فعلت وخاطبته فأبا عليّ. فخاطبنه لي أنتنّ، لعسى <أن> يعطيكنّ رضا. فعادت (152) كلّ واحدة منهنّ تعرض نفسها عليه وتدعوه إليها وهو يمتنع. فإذا يئست منه لنفسها، خطبته لزليخا، وهو لا يرا ذلك أبدا. فلمّا رأين ذلك أجمعن على أخذه غصبا. فقالت مرة العزيز: لا يجوز هذا. ولكن، إن لم يفعل ما آمره به لأمنعنّه جميع اللذّات ولأسجننّه. فاختار السجن ومنع اللذّات. ثمّ أمرت بنزع ثيابه وألبسته الصوف وسألت زوجها أن يسجنه لتزول عنها التّهمة به. فمال إلى قولها وسجنه. وأقام في السجن سبع سنين. ورأى الملك في منامه كأن آتيا أتاه، فقال: إنّ فلانا وفلانا قد عزما على قتلك، يريد صاحبي طعامه وشرابه. فأمر بهما إلى السجن، بعدما اعترف الواحد، والآخر أنكر ذلك. وكان اسم صاحب الطعام كاسان وصاحب الشراب مرطيس. وكان يوسف يعرف بأهل السجن ويعدهم الفرج: وإن ذلك الفتيان رأيا رؤيا، فقصّاها على يوسف ففسّرها لهما. ولما خرجا من السجن وجدا ما قاله يوسف لهما قد أتا. فقتل أحدهما وقرّب الآخر إلى ما كان عليه من مرتبته.

فلمّا رأى الملك الرؤيا، وهي سبع بقرات يأكلن السنابل من الزرع، عرّفه الساقي خبر يوسف، ومضى إليه إلى السجن، ففسّرها له. فقال الملك: ائتوني به. فقال يوسف: لا أخرج، أو يكشف أمر النّسوة اللّواتي من أجلهنّ حبست. فلمّا بلغ <الخبر> زليخا اعترفت بالحقّ. وقيل: إنّ مولودا نطق في المهد ببراءة يوسف، فأخرج وغسل من درن السجن وألبس ما يجب أن يدخل به على الملوك. فلمّا رآه الملك امتلأ قلبه من حبّه وإيثاره. وسأله عن الرؤيا. ففسّرها له وأخبره أمر الغلاء الواقع، فقال الملك: وكيف الخلاص في ذلك؟ قال يوسف: إن فوّظتني أمر ملكك كفيتك هذا الهمّ، فإني عليم به. فأمر الملك، فخلع عليه وتوّج، وأمر أن يكون مكان العزيز بمصر. (153) وعن أهل الأثر فيما اختلفوا فيه، في مدّة فراقه من أبيه. قال بعض الرّواة: إنّه أبيع وله من العمر سبع عشرة سنة، وأقام في الرّقّ ثلاث عشرة سنة، واستوزر وله ثلاثون سنة، وأقام بعد ذلك تسع سنين. واجتمع بأبيه، فكان مدّة الفراق اثنتين وعشرين سنة، وكان معه أبوه سبع عشرة سنة. وقال سلمان الفارسيّ: كان مدّة فراقهما أربعون سنة. وقال الحسن البصريّ: ثمانون سنة. وقال ابن إسحاق: ثماني عشرة سنة. وإنّهم قالوا: مات يوسف، عليه السلام، وله مائة وعشر سنين.

وكان يعقوب وأهل بيته يوم دخلوا مصر سبعون رجلا وامرأة. وخرج من مصر بني إسرائيل مع موسى، عليه السلام، وعدّتهم يومئذ ستّمائة ألف مقاتل. وبين دخول يعقوب مصر وأهل بيته وبين خروج موسى، عليه السلام، ببني إسرائيل أربع مائة سنة وستّ وثلاثون سنة. وذكر أنّ موسى، عليه السلام، حمل معه تابوت يوسف، عليه السلام، حين خرج ببني إسرائيل، وأنّه دفنه عند آبائه وأجداده، والله أعلم. وكان-كما صحّ-يعقوب، عليه السلام، مبجّلا عند الملك نهراوش. وقيل: إنّه آمن به، وكان يخفي ذلك من أرباب دولته. وأشار عليه الكاهن قسمين بقتله وقتل ذرّيّته، وقال: هذا الذي يكون خراب بلدك على يديه ويدي ذرّيّته. فقال الملك: فإذا كان الأمر كما زعمت، كيف لنا بقتله وقتل ذرّيّته؟ فلمّا وشوا بيوسف عند الملك، بعد موت يعقوب، وقالوا: إنّ يوسف قد كبر ولا عاد له رأي يدبّر به الملك. فاستمحنه الملك في بناية

ذكر أيوب، عليه السلام

الفيّوم-وكانت مغايض الماء لإقليم مصر-فعمّرها في مدّة أربعة أشهر. وقيل: إنّ جبريل، عليه السلام، هندسه في عمارتها، وعمل الأهون، وأتقن عمارتها. (154) وفي رواية أخرى، في مدّة تسعين يوما، بالمعونة الآليّة والمساعدة الربّانيّة. فلمّا نزل الملك ورأى حسن إتقانها، سأل: في كم كان إنجازها؟ فقيل: في تسعين يوما. فقال: بل في ألف يوم. فسمّيت الفيّوم لقول الملك وتعجّبه في سرعة بنائها، وزاد يوسف عنده أضعاف ما كان، حتّى قبضه الله إليه، والله أعلم. ذكر أيّوب، عليه السلام كان أيّوب، عليه السلام، رجلا من الروم. وهو أيّوب بن أموص بن رازح بن عيصو بن إسحاق. وكانت زوجته إيليا، وهي التي يسمّيها أهل الأثر رحمة، من ولد يعقوب بن إسحاق. وقيل: بل بنت إفرايم بن يوسف بن يعقوب. وكانت أمّ أيّوب، عليه السلام، بنت لوط، عليه السلام، وأنّه أقام معافا ثمانين سنة، وابتلاه الله تعالى سبع سنين، فيما ذكر الحسن البصريّ. . . . الطبريّ: إنّ عمره ثلاثا وتسعين سنة. . . غيره: عاش مائتي سنة وعشر سنين. وكان نبيّا في عهد يعقوب، عليهما السلام. وبعث الله بعده ابنه بشر بن أيّوب، وسمّاه ذو الكفل. وكان مقيما

ذكر شعيب، عليه السلام

بالشام. ومات وله خمس وسبعون سنة مع الاختلاف فيه. قيل لأيّوب: ما أشدّ ما مرّ بك من البلاء؟ فقال: شماتة الأعداء. وكان مسكنه بأرض حوران، والله أعلم. ذكر شعيب، عليه السلام كان شعيب من أولاد مدين، أرسله الله لأصحاب الأيكة، فكذّبوه. فأرسل الله تعالى عليهم سحابة فأظلّتهم فاستلذّوا بها وببردها، واجتمعوا بأسرهم تحتها، فعادت نارا وأحرقتهم جميعا. وأهلكهم الله تعالى بتكذيبهم إيّاه. وهو حمو موسى، عليه السلام، زوج ابنته صفرا. وقيل: إنّه عاش أربع مائة سنة. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أنّه قال: «شعيب خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته (155) لقومه، لمّا أن كذّبوه، حتّى أهلكهم الله تعالى. ذكر الخضر، عليه السلام قيل: إنّه كان على مقدّمة ذي القرنين الأكبر الذي كان أيّام إبراهيم الخليل، صلوات الله عليه، وبلغ معه نهر الحياة. فشرب منه وهو لا يعلم، فخلد. وهو حيّ إلى الآن؛ هذا قول الطبريّ. ويروي بعضهم: أنّه ولد بعد

ذكر موسى وهارون، عليهما السلام

ما كان من أمر إبراهيم الخليل ما كان، واتّبعه وهاجر معه. وقيل: هو صاحب موسى بن عمران الذي لقيه عند مجمع البحرين؛ هذا حكم الشّرع المطهّر. وقال ابن إسحاق: إنّ الله تعالى بعث الخضر، عليه السلام، بعد شعيا. وكان من سبط هارون، عليه السلام. وقيل: إنّ الذي بعثه الله بعد شعيا أرميا، وهو الصحيح. وعن عبد الله بن شوذب: الخضر من ولد فارس، وإلياس، عليه السلام، من بني إسرائيل، يلتقيان في كلّ عام بالموسم على عرفات. وزعم أهل التوراة-وهم البعض منهم-أنّ موسى الذي لقي الخضر، عليه السلام، هو موسى بن منسّا بن يوسف. وكان نبيّا قبل موسى بن عمران. والأوّل أصحّ، والله أعلم. ذكر موسى وهارون، عليهما السلام هو موسى، عليه السلام، بن عمران بن يصهر بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، عليه السلام، وهارون أخوه لأبيه وأمّه، واسم أمّهما ياخية، وقيل: يوخايد. قال ابن إسحاق: اسمها نجيب. وكان ملك مصر تتوارثه الفراعنة، وكان قابوس صاحب يوسف، الثاني من الريّان، قد مات، وقام مكانه أخوه الوليد بن مصعب وكان عاتيا

جبّارا كثير الإساءة لبني إسرائيل. وكانت الفراعنة قد استعبدوهم، فأخبره الكهنة: إنّه سيظهر مولود (156) يكون زوال ملكك على يده. فكان يقتل الذّكران سنة، ويستحييهم سنة. فولد هارون في السنة التي ستحيا فيها الغلمان. ثمّ ولد موسى بعده بثلاث سنين، في السنة التي يذبح فيها الغلمان. فجعلته أمّه في تابوت وقذفته في البحر بإلهام من الله، عزّ وجلّ. فصار إلى زوجة فرعون، وربّي في دار فرعون. فلمّا بلغ إحدى وأربعين سنة وقتل القبطيّ، خرج إلى مدين خائفا يترقّب. فأقام بمدين تسعة وثلاثين سنة، ثمّ سار بزوجته إلى مصر، وهي صفرا بنت شعيب، وقيل: اسمها صفور. فلمّا أراد <أن> يقتبس من تلك النار التي ظهرت له، فكلّمه الله تعالى بطور سيناء، وأيّده بالمعجزات، وبعثه رسولا إلى فرعون مع أخيه هارون. فأقام بمصر أحد عشر شهرا، ثمّ خرج ببني إسرائيل، واتّبعه فرعون، وغرّقه الله تعالى في بحر القلزم. وصار موسى وهارون وبنو إسرائيل بالتّيه أربعين سنة، وخسف الله بقارون في التّيه. ومات هارون في التّيه وله مائة وسبع عشرة سنة، وقيل: مائة وثلاث وعشرون سنة. ومات موسى، عليه السلام، أيضا في التّيه وله مائة وعشرون سنة، بعد أن استخلف يوشع بن نون، عليه السلام. قلت: هذا النّقل عن محمّد بن سلاّم القضاعيّ، عن أهل الأثر. وأمّا ما وجدته في هذا الكتاب القبطيّ، فأنا أذكره أيضا، بعد ما تقدّم من الكلام فيه عند ذكر فرعون موسى وأصله، والاختلاف في فرعون،

وبدء موسى، عليه السلام، وأنّه ابن عمرون، حارس قصر الملك، ما يغني عن إعادته ها هنا. فلمّا كان من أمر موسى ما كان، وتربّى في قصر، وكبر وشبّ، وردّ إليه فرعون كثيرا من أمره، وجعله من قوّاده، وكانت له سطوة. ثمّ وجّهه لغزو الكنعانيّين، وقد كانوا عاثوا في أطراف مصر. فخرج في جيش كثيف، ورزقه الله تعالى (157) الظّفر بهم، وأسر خلقا منهم، ورجع سالما مؤيّدا. فسرّ به فرعون وامرأته. ثمّ إنّه تسلّط على القبط حتّى وشوا به إلى فرعون، وغيّروه عليه. وكان من الذي وشا به إلى فرعون رجلا من القبط من أهل بيت الملك، فوقع عليه موسى حتّى قتله. وكان يقرب من فرعون، وكان يسمّى إدريس. فلمّا قتله اختفى في المدينة خوفا من فرعون لأن يقتله به. وإنّ فرعون طلبه أشدّ طلب، فلم يقدر عليه. ثمّ إنّ موسى خرج ذات يوم مختفيا، فلقي بعض أعوان ذلك الذي قتله. فاستغاث على موسى، فأراد موسى قتله، فاستغاث عليه. فخرج موسى خابقا، وخرّج خلفه الخيل ليلحقوا به، فكان بين أيديهم وهم لا ينظرونه. ولم يزل موسى حتّى لحق بمدين، وتزوّج ابنة فيروز، وهو شعيب، عليه السلام. وأقام عنده يرعا له غنمه تسع وعشرون سنة. ثمّ أخذ أهله وعاد إلى مصر، فكلّمه تعالى، وأرسله إلى فرعون، وبعث معه أخيه هاران. فترك امرأته، وقد ولدت، بحالها، ومضى لأمر ربّه. فأرسل الله إليها ملكا بما يصلحها من آلة الولادة، وختن ابنها، وكانت

الغنم تغدوا من عندها وتروح إليها بغير راع. وحمل الملك الغلام حتّى أراه موسى وهو سائر إلى مصر. فقبّله، وتفل في فيه، وبارك عليه، وردّه إلى أمّه. ومرّ بها رجل من آل فيروز، فردّها إلى مدين، إلى أبيها. ووصل موسى إلى مصر، فلقي أخاه هاران، فلم يعرفه لطول غيبته، وكان يغسل على شاطيء النيل. فاستضافه، فأضافه وأطعمه جلبانا قد ثرد فيه ثريدا. فتعارفا وسرّ بعضهما ببعض، وعرّفه أنّ الله تعالى أرسله ونبّأه وأمره أن يكون معه أخيه هارون، وجعله له عضدا. ثمّ إنّهما غدوا إلى فرعون، وأقاما أيّاما، وعلى كلّ واحد منهما جبّة صوف، ومعه عصاه التي أخذها من شعيب (158) وهي إحدا معجزاته. فأقاما أيّاما لا يصلان إلى فرعون، لشدّة حجّابه، إلى أن دخل عليه مضحكا له، فعرّفه <حالهما وقال:> إنّ بالباب رجلان يطلبان الإذن منك، ويزعمان أنّ إلاههما أرسلهما إليك. فأمر بإدخالهما. وخاطبه موسى وأراه آياته في العصا وآيته في يده وبياضها، وهما آيتان من تسع. وكان من أمر خطابه لهما: أنتما ساحران تريدان أن تخرجا أهل مدينتي عن طاعتي. وهمّ

بقتله، فأحماه الله تعالى منه، وشغله عنه. ورأى ظلما كان في صورة قد، أتت فمسحت على أعينهم، فعموا. ثمّ أمر قوما آخرين بقتلهما. فرأى نارا أتت عليهم فأحرقتهم، فازداد غيضا وحنقا. فقال له: من أين لك هذه النواميس العظام؟ أسحرة بلدي علّموك؟ أو تعلّمته بعد خروجك من عندنا؟ قال له: هذا ناموس ربّ السماء وليس من نواميس الأرض. قال: ومن صاحبه؟ قال: صاحب البنيان الأعلا. قال: بل تعلّمتهم من بلدي. وأمر بجمع السّحرة والكهنة وأصحاب النّواميس، وقال: ارفعوا إليّ أعمالكم، فإني أرى نواميس هذا الساحر رفيعة جدّا. فعرضوا عليه أعمالهم، فسرّه ذلك. وأحضره وقال: قد وقعت على سحرك، وعندي من يربي عليك بأعظم منه. وأوعدهم يوم الزينة، وهو يوم عيده الأعظم. وكان يخرجوا أصنام الكواكب مزيّنة بأنواع الملابس والحليّ. واتّفق: من غلب منهما تبعه الآخر. وكان جماعة من أهل البلد قد تبعوا موسى، عليه السلام، فقتلهم ظلما. وإنّه جمع بينه وبين سحرة مصر جميعا، وكانوا مائتي ألف وأربعين ألف ساحر. فعملوا من الأعمال ما حيّروا به العيون، وصنعوا من الدّخن عدّة ما يقبلون به النظر. فمن ذلك ما يروا الوجوه ملوّنة ومشوّهة في الطول

والعرض، ومنها المقلوب جبهته إلى أسفل ولحيته إلى فوق، ومنها ما له قرون وخرطوم كالأفيلة (159) ومن مثل ذلك وأنظاره، وأجسام هائلات تصل إلى السحاب، وحيّات عظام بأجنحة تطير في الهواء وترجع بعضها إلى بعض، وأسود ضاريات مفتّحة الأفواه تملأ الأرض بزئيرها، وحيّات تخرج من أفواهها النار تكاد تحرق العالم، وأكثروا من ذلك التّخايل. ثمّ صنعوا دخانا يغشى أبصار الناس، فلا ينظر بعضهم بعضا. فلمّا رأى فرعون ذلك سرّه هو وجماعة من حضره، واغتمّ موسى، عليه السلام، وجماعة ممّن كان آمن معه، وكتم ما به خوفا من فتنة الناس بما رأوا. وكان للسّحرة اثنان وسبعون رئيسا من كبارهم. وعندما رأى موسى ذلك وضاق به ذرعا، أتاه ملك من إله السماء العليّ الآعلاء، وقال: لا تخف، إنّك أنت الغالب. وادفع عصاك إلى العلوّ لترى عجبا. فسرّ بذلك موسى وأمن بعد الخوف. وطمع في إيمان فرعون. فأسرّ إلى عظماء السحرة، وقال: وأنتم، ماذا تفعلون إن قهرتكم؟ قالوا: نؤمن بك. فرآه فرعون وقد أسرّ لهم، فغاظه <ذلك> وأراد أن يبدرهم بالقتل، ثمّ مهّل على نفسه ليرى ما يكون من موسى. هذا، والناس يهزؤون من موسى وأخيه هارون، وعليهما درّاعتان من صوف، وقد احتزما. ووضع موسى عصاه وسمّا باسم الربّ القديم، ربّ

موسى وإبراهيم، ثمّ لوّح بالعصاة وحلّق بها في الجوء. فرفعها الملك حتّى غابت عن العيون، ثمّ أقبلت في صورة ثعبان عظيم له عينان كالترسين العظيمين يتوقّدان، ويخرج من فيه ومنخريه مثل الحراب وهو يرتعد غضبا لله تعالى، ولا يقع من زنده شيء على أحد إلاّ برصه لوقته، وبرصت من ذلك بنت فرعون. والثعبان فاغر فاه-والقوم ينظرون-حتّى قرّب منهم فابتلع جمع ما عمله السحرة ومائتي مركبا مملوّة عصيّا وحبالا، وجميع ما كان فيها-وكانت المراكب في النهر الذي يتصّل إلى دار فرعون- (160) وعمدا كثيرة وحجارة، إلى ما هناك من عمائر فرعون. وأقبل الثعبان إلى قصر الملك، وكان فرعون في قبّة إلى جانب القصر يشرف على عمل السحرة. فوضع الثعبان نابه تحت القصر وأراد أن يبتلع قصر فرعون، بكلّ ما فيه. فصاح فرعون عند ذلك، واستغاث بموسى، وقام هاربا. فرأوه أهل مملكته وهو يعرج، ولم يكن رأوه قبلها. فتبسّم موسى، وزجر الثعبان عنه. فعطف على الناس ليبتلعهم، فسقط بعضهم على بعض. فمسكه موسى، عليه السلام، فعاد في يده عصا كما كان أوّلا. وقد كان موسى أيضا ارتاع منها فقال له الملك الموكّل بها: لا ترتاع يا موسى، وأمسكها تعود عصا، على ما كانت عليه أوّلا. ففعل. فلمّا رأوا السحرة ذلك هالهم، و <لمّا> لم يروا للمراكب أثرا، ولا تلك العمد ولا

الحجارة، قالوا: ما هذا من عمل الآدميّين، وإنّما نصنع نحن تخاييل لا تغيب عن العيان إذا انتهى فعلنا، وهذا من فعل جبّار عنيد قدير على الأشياء. فقال موسى: أوفوا بعهدكم وإلاّ سلّطها عليكم، فتبتلعكم كما ابتعلت ما رأيتم، وتصيروا إلى النار بعدها. فآمن به السحرة وجاهروا فرعون بالمعصية عليه. فقال <فرعون>: قد علمت أنّكم واطيتموه عليّ وعلى ملكي، حسدا لي. وأمر، فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبوا. فكانوا يرون أماكنهم في الجنّة قبل أن يموتوا. وجاهرته امرأته أيضا، ففعل بها مثل ذلك. وإنّ الروحانيّ قال له: إنّك ربّ الأرض وقد استخلفتك فيها، فأنت ربّ كلّ شيء يسكنها من الخلق. فتجبّر وادّعا الربوبيّة وفعل ما فعل. فلمّا علت آيات موسى، عليه السلام، من الطوفان على زروعهم والجراد والقمل والضفادع والدم. وكانت الإسرائيليّة تسقي القبطيّة من فيها ماء فيعود دما في فم القبطيّة، وتعض على (161) الرغيف لتأكل منه، فتعض على ضفدع. وعاد القمل على أجسادهم وهم لا يكادون يقرّون من أكله لهم. وكلّما نزعوه زاد عليهم. وعادوا كلّما تحيّلوا في شيء يزرعونه يأكله الجراد. وهدم الماء بساتينهم ومنازلهم وتبيّن للناس أنّ فرعون عاجز عن إزالة ما نزل بهم، فضاق صدر فرعون لذلك، فرجع إلى مداراة موسى، عليه السلام، ووعده أن يستخلفه على ملكه. فأشار عليه هامان والكهّان أن: لا تفعل. وأمر الرعيّة أن يقتلوا موسى. فخرجوا إلى الموضع الذي هو

فيه، فأتت نار فأحرقتهم. ورأى فرعون أنّه أخذ برجليه ونكّص به على رأسه في حفيرة نار، وكان يستغيث ويقول: أنا مؤمن بموسى، فخلّوا عنه. فقصّ على هامان وعرّفه ذلك، وقال: لم يبق بعد هذا شيء، أريد أن أومن بموسى. فقال له: هو الذي عمل لك الرؤيا ليهوّل عليك، فتريد أن تكون عبدا بعد إذ أنت ربّا، وتستخفّ بك الرعيّة، ويعود الحكم لموسى من دونك؟ قال: فتلطّف به ووعده أنّه يؤمن به. وكان يبعث إليه <سرّا> ويستنظره، فكلّما مرّ الأجل ولم يفعل، عظم البلاء عليهم. فكان الناس قد خافوا موسى وهابوه، وكانوا يؤمنون به سرّا، فمن آمن به زال عنه الأذاء. فلمّا زاد الأمر على فرعون، أحضر موسى وقال له: إن أجبتك، فما لي عندك؟ قال: أردّ شبابك وأضعّف عمرك وأومنك من جميع العلل والأعراض ومن زوال ملكك، وأعلي يدك على كلّ من ناوأك من الملوك، وأكثر نشاطك وأكلك وشربك. قال: إن فعلت فقد أنصفت، فأنظرني إلى الغد. ثمّ شاور هامان فمنعه من ذلك. فقال له موسى: أطلق لي بني إسرائيل. فقال: إنّما تريد إخراجهم من بلدي لتكون عليهم ملكا، وأنا أنتفع بهم (161 أ) وبخدمتهم، وإنّما هذا حسد منك لي. قال: فانتقل من ادّعائك الربوبيّة. قال: إذا، أنقص من أعين الناس. قال: فإنّ إلهي سيهلكك أنت وقومك وتصير أرواحكم إلى النار. قال: فإنّي أستعمل ذلك سرّا ولا أستعمله علانيّة، وأقرّب لإلهك قربانا عظيما. قال: لا يقبله منك

وأنت على هذا الحال، دون تركك ادّعاك وإقرارك بها ظاهرا. فوعده بتخلية بني إسرائيل من العبوديّة والإحسان إليهم. ثمّ أزال عن بني إسرائيل الخدمة وحضر عيد لهم. فأمر موسى أن يستعيروا الإسرائيلات حليّ القبطيّات ليتزيّنّ به في عيدهم. ففعل نساء الإسرائيلين ذلك. وأكلوا معهم وشربوا وألقى <الله تعالى> على القبطيّين السّبات. فأمرهم موسى بالتّعدية إلى المشرق ليكون عيدهم هناك. ثمّ سار بهم من <أوّل> الليل، وكانوا ستّمائة ألف ونيّف وأربعون ألفا. وأخرجوا تابوت يوسف من النيل، دلّتهم عليه عجوز مؤمنة، فحملوها معهم ومضوا إلى ناحية بحر القلزم ليخفي آثارهم. فلمّا كان في آخر الليل عرف <فرعون> خروجهم لمّا سقط الأصنام والأعلام. وكان موسى قد عرّف فرعون أنّ ذلك علامة هلاكه ومن معه. ثمّ أمر الناس بالتّعدية، وركب خلفهم تابعا لآثارهم. فلم يبق أحدا من أولاد الملوك ولا من أبنائهم إ <لاّ> وركب. فيقال: إنّه ركب في ألف ألف ونيّف. فلم يمرّوا على شيء من الأعلام والأصنام إلاّ وسقط. ولم يزالوا مجدّين حتّى لحقوهم على معبر البحر. فقال موسى لهارون:

قف بالبحر وكنّه بأبي العبّاس ومره أن يكفّ عنّا موجه. وضربه بعصاه فانكشف أرضه ولحقه موسى ومعه بنو إسرائيل. فمشوا في وسط الماء وهو عن أيمانهم وأيسارهم. وجعل لكلّ سبط طريقا، وجعل فيه طاقات ليرا بعضهم بعضا. فأقبل جبريل، عليه السلام، على فرس بلقاء فدخل قّدام (161 ب) حصان فرعون. فطلبها الحصان وغلب على أمر فرعون. فعبر من خلفه، فلم يبق أحدا منهم في البرّ إلاّ وعبر لعبور فرعون. فلمّا توسّطوا البحر- وقد خرج موسى، عليه السلام، بجميع بني إسرائيل إلى الجانب الآخر- فأمر الله، سبحانه وتعالى، البحر أن يأخذ فرعون وقومه. فلمّا عاين فرعون الغرق قال: آمنت أنّه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل. وكان قوله غير صحيح النيّة، فألحمه جبريل، عليه السلام، بكفّ من حصاة البحر ضرب بها وجهه، فغرق الجميع، ومرّ بأرواحهم إلى النار. وطرحهم البحر بعد هلاكهم إلى ذلك الجانب الذي به موسى وبنو إسرائيل. وألقي جسد فرعون حتّى رآه موسى وقومه وعرفوه. وانتقم الله، عزّ وجلّ، منهم ونجّا عباده المؤمنين، والحمد لله ربّ العالمين. قلت: وسيأتي ذكر من ملك مصر من بعد فرعون موسى عند ذكر فتوح مصر في الإسلام، بكلام يتلوا هذا الكلام، سياقه إلى حين ولاية عمرو بن العاص سنة عشرين الهجريّة، إن شاء الله تعالى، بحول الله وقوّته

ومنّه وكرمه ورحمته. وأجمع أهل التاريخ أنّ يعقوب، عليه السلام، دخل مصر في سبعين نفرا من أهل بيته، وأنّ بنيه خرجوا من مصر في سبع مائة ألف مقاتل، وأنّ بين مولد الخليل، عليه السلام، وبين خروج بني إسرائيل من مصر: خمس مائة سنة وخمسين سنة. وقيل: خمس مائة سنة وخمس عشرة سنة. وقد زعم كثير من العبريّين أنّ من مولد إبراهيم، عليه السلام، إلى دخول بني إسرائيل مصر: مائتان وسبعون سنة، وذلك بعد وفاة إسحاق عليه السلام، بعشر سنين. وذكروا أنّ حزقيل، هو الذي أصاب قومه الطاعون، فخرجوا من ديارهم حذر الموت. فقال الله: موتوا. فماتوا، ثمّ أحياهم. ولمّا مات حزقيل كثرت الأحداث في بني إسرائيل، وتركوا عهد الله وعبدوا الأوثان. فبعث الله إليهم (162) ابن العبرانيّ، فلم يطيعوه. فدعا الله عليهم فأقحطوا ثلاث سنين. فسألوه الدعاء بسؤال ذلك، ويرجعون عن معاصيهم، ففعل، ولم يرجعوا. وكان لإلياس تلميذ يقال له: أليسع بن أخطوب، وقد عرفه البعض بابن العجوز، ودعا له إلياس فنبّئ بعده. وأقاموا كذاك يتوبون وقتا فيصلح

ذكر أشمويل، عليه السلام، وداود، عليه السلام

حالهم وينصرون على أعدائهم وتخصب بلادهم، ثمّ ينهمكون بالمعاصيّ وعبادة الأوثان وقتا فيسلّط الله عليهم أنواع البلاء من القحط تارة ومن الفناء تارة ومن تسليط الأعداء تارة، حتّى أنّ تابوت الميثاق انتزع من بين أيديهم وغلبوا عليه. وكان أهل غزّة وعسقلان هم الذين انتزعوه منهم، وكانوا يتبرّكون به وشملتهم السّكينة عند حضوره. ولم يزالوا كذاك أربع مائة سنة ومائة سنة، ما بين وفاة يوشع بن نون إلى أن عاد الملك والنّبوّة إليهم، حسبما أسوقه آخر ذكر الأنبياء، صلوات الله عليهم، من المدد. ذكر أشمويل، عليه السلام، وداود، عليه السلام أمّا أشمويل فإنّه كان أسنّ من داود مائتين وعشرين سنة؛ هكذا وجدت في كتاب القضاعي. وبعث الله إليهم طالوت ملكا، وردّ إليهم التابوت، وكان من خشب السمشار معمولا بالصّفر، مموّها بالذّهب.

وأمّا داود، عليه السلام، فهو ابن منسّى بن عبيد، من ولد يهوذا بن يعقوب. وقيل: هو داود بن منسّى بن عويلي بن يهوذا، والله أعلم. وقال وهب بن منبّه: كان داود، عليه السلام، قصيرا، أزرق، قليل الشعر، طاهر القلب، فقيه ملكه-ملك طالوت ونبوّة شمويل. وأطاعه بني إسرائيل، وفتح لهم الفتوحات الكثيرة، وأنزل الله عليه الزّبور، وعلّمه صنعة الحديد، وأمر الجبال أن تسبّح معه، وأعطاه من حسن الصّوت ما لم يعطه أحدا من خلقه. واتّسع ملكه وكان له تسع وتسعون زوجة. ولمّا بلغ ثمان وخمسين سنة ابتلي بقصّة أوريّا، وتزوج زوجته، وولدت له سليمان، (163) عليه السلام، وبكا على خطيئته أربعين يوما، حتّى نبت العشب من دموعه، فتاب الله عليه. وقيل: إنّه أخذ في بناء بيت المقدّس، ومات ولم يتهيّا بنايه. وعاش مائة سنة، وكان ملكه أربعون سنة. وشيّع جنازته أربعون ألف راهب؛ هذا

ذكر سليمان بن داود، عليه السلام

ما ساقه الطّبريّ، وذكر ذلك القضاعيّ. وذكر أن شيّع جنازته من سائر الناس أربعون ألف ألف ألف، ثلاث مرار. وقيل: إنّ ملك طالوت كان أربعين سنة. وقد كان قبل داود وجالوت في صدر ملك طالوت، وفي هذا شيء من المناقضة، والله أعلم. ذكر سليمان بن داود، عليه السلام وأمّا سليمان بن داود، عليه السلام، <فلقد> أجمع الطّبريّ والقضاعيّ والمسعوديّ أنّه ملك بعد أبيه وله من العمر اثنتي عشر سنة. وسخّر الله تعالى معه الإنس والجنّ والطّير والوحش والرّيح، وأتاه النّبوّة، إلاّ أنّ اليهود لا تعدّه من الأنبياء. وسخّر الله له الريح، فكان إذا أراد سفرا لغزو أمر فنصب له آلة من خشب وحمّل عليه جميع ما يريد من الناس والدوابّ وآلة الحرب، وعكف الطّير على رايته، وقام الإنس والجنّ في خدمته. ثمّ يأمر الريح العاصف فيدخل تحت الخشب فتحمله. فإذا استقرّ أمر الرحا تحمله غدوّها شهرا ورواحها شهرا، إلى حيث شاء. ولمّا مضى من ملكه أربع سنين بدأ ببناء بيت المقدّس، وفرغ منه في سبع سنين. ولمّا مضى من ملكه خمس وعشرين-وقيل: من عمره خمس وعشرين-سنة،

جاءته ملكة سبأ، وهي بلقيس. وكان من قصّته معها ما حكاه وقصّة <الله> في كتابه العزيز. عن ابن عبّاس أنّ سليمان تزوّجها؛ وسليمان أوّل من اتّخذ الحمّام والرّحا والصّابون والنّورة. وكان على ساق بلقيس شعرات تستقبح وتستحسن، فأمر بعمل النّورة من أجله. وقد هجا بعض الشعراء قوما بالبخل فقال (من البسيط): الخبز عندهم أيّام ميسرهم … أعزّ من نورة أيّام بلقيس (164) قال السّدّيّ: إنّ الشّيطان أخذ خاتم سليمان وجلس على كرسيّه أربعين يوما، وخرج سليمان هاربا على وجهه يستطعم الناس- فكانت هذه فتنته التي ذكرها الله تعالى، ثمّ ردّه الله إلى محلّ سلطانه، وذلك بعدما استطعم من الناس-فتصدّق عليه حوت سمك، فشقّ بطنه فوجد الخاتم في جوفه، فردّه الله إلى ملكه. روي عن ابن عبّاس عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم، أنّه قال: «بينما <كان> سليمان يصلّي ذات يوم فرأى شجرة، قال لها: ما اسمك؟ قالت: الخرّوب. قال: لأيّ شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت. فقال سليمان: اللهمّ غمّ على الجنّ موتي حتّى تعلم الإنس أنّهم لا يعلمون الغيب. ونحت من الخرّوب عصا وتوكّأ عليها حولا وهو ميّت والجنّ لا يعلمون. فأكلتها الأرضة، فسقط»، وكان جميع عمره اثنين وخمسين سنة.

<ذكر رحبعم>

<ذكر رحبعم> وملك بعده ابنه رحبعم سبع سنين، وقيل: ثمان سنين. ثمّ اتّصل الملك بآل داود، واستمرّ من حين كمل بناء بيت المقدّس وإلى أن أخربه بختنصّر الفارسي وسبى بني إسرائيل-على الرأي اليونانيّ-أربع مائة سنة وإحدى وأربعين سنة ونصف وأيّام. وعلى ما يدّعيه العبريّون: أربع مائة سنة وعشرون سنة ونصف. وعن القضاعيّ أنّ الملك استمرّ في آل داود أربع مائة سنة وثلاث وخمسين سنة، وهذا شديد الموافقة لزعم اليهود. فإنّ داود وسليمان سبق لهما في الملك قبل بناء بيت المقدّس أربعا وأربعون سنة. وقال الإصفهانيّ: إنّ البيت المقدّس استمرّ معمورا أربع مائة سنة وعشرين سنة. وفي مكان آخر: إنّ الملك استمرّ في ولد سليمان وولد ولده حتّى أجلاهم بختنصّر عن أورشليم ثلاثمائة وستّا وثلاثين سنة ونصف؛ وتناقض هذا ظاهرا، والله أعلم.

ذكر أخبار آل داود. . .

ذكر أخبار آل داود. . . وأمّا أخبار آل داود وملوكهم، فإنّ الملك الثالث بعد سليمان عليه السلام، (165) وهو آشا بن آشاش بن رحبعم بن سليمان بن داود كان رجلا صالحا، وكان أعرج من عرق الانسا. وإنّ أحربا بن يورام، وهو السادس بعد سليمان، قتل واستولت أمّه عثليا على الملك، وقتلت الداودين بأسرهم، ما عاد ابن ابنها يواش بن احربا-فإنها أهملته أو سهت عنه، وكان له من العمر سنة واحدة. فضمّه إليه يهربدع الهارونيّ وأخفى أمره، وربّاه حتّى صار له من العمر ثمان سنين. فبايعه الرؤساء والأجلاّء. وقلت عثليا في دهليز البيت المقدّس. ثمّ ملك أمصبا بن يواش، وكان ضعيفا. ثم ملك ميشا بن حزقيا، وهو الرابع عشر بعد سليمان، فإنّ ملك بابل أسره وحبسه في تمثال

نحاس، وأمر أن يوقد عليه، فتاب من عصيانه فأعانه الله وخلّصه ونجّاه. وأمّا يوشا-وهو السادس عشر بعد سليمان-فإنّه كان أصلح الجماعة. وهو الذي أجار فتيان أهل مصر، فسباه ملك مصر، فمات هناك. وأمّا يهوياخي بن يهوياقيم، فإنّ بختنصّر أجلاه-قبل خرابه البيت المقدّس-إلى بابل. ثمّ رفع شأنه في بابل بعد ذلك وأقطعه حظّه نهر الملك. وأمّا صدقيا-وهو آخرهم-فإنّ بختنصّر استخلفه بعد أن استحلفه على الطاعة وأداء الخراج إليه، فأقام على ذلك برهة ثمّ مرق من الطاعة. وكان ذلك سببا لأن قصدها بختنصّر واستأسره بعد أن أخرب بيت المقدّس، فلم يدع فيه حجرا على حجر. ثمّ أكحله، ومات في أسره، وصار ملك أورشليم لبختنصّر. وقال القضاعيّ: لم يزل الملك في آل داود إلى صاحب شعيا. فقال ابن إسحاق: اسمه صديقه. وقال غيره: اسمه حزقيا. وإنّ شعيا نبيّ بعثه الله تعالى إلى صديقه ليبشّر بعيسى ومحمّد، صلّى الله عليهما. وإنّ سنحاريب، ملك بابل، قد سار يريد قتال صديقه. فكفاه الله أمره، وأوحى

إلى شعيا: قد أخّرت أمر صديقه خمس عشر سنة. وأمّا قول ابن اسحاق، فذكر أنّ بني إسرائيل ملّوا شعيا بعد موت صديقة، (166) فأرسل الله عليهم عدوّهم، فأفناهم وشرّدهم. قال ابن اسحاق: نشروه بالمنشار. ولمّا عظمت أحداث بني إسرائيل وأكثروا من البدع ورغبوا عن البيت المقدّس، وصار عودهم سيحد ضران، فغزاهم بختنصّر، فتابوا إلى الله تعالى، فردّه عنهم أوّلا، ثمّ نكثوا وعادوا إلى ما كانوا عليه، وأكثروا من الأحداث. فأرسل الله إليهم أرميا، فأخبرهم بغضب الله عليهم، فضربوه وقيّدوه. فبعث الله إليهم بختنصّر، فقتل منهم وصلب وحرق وسبا الدراري وأخرب بيت المقدّس وحرثه، وأخرج أرميا إلى مصر، فأقام بها. ثمّ أمره الله تعالى بالعود إلى الشام، فسار حتّى أشرف على بيت المقدّس. فقال: إنّا نحيي هذه المدينة بعد موتها. فأماته الله مائة عام، ثمّ بعثه بعد أن عمر بيت المقدّس. قال ابن إسحاق: إنّ أرميا هو الخضر. وقال قتادة: الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها هو العزيز. وقال قوم: إنّ بختنصّر كان بعد قتل يحيى بن زكريّا، وأنّه وجد دمه يغلي على الأرض، فقتل عليه سبعين ألف فسكن الدم.

قلت: وفساد هذا القول ظاهر. وقد كان في جملة السّبي الذي حمله بختنصّر إلى العراق: دانيال والعزيز، عليهما السلام. وإن بختنصّر رءا رؤيا هالته، فعبّرها له دانيال. واتّفقوا على مدّة إقامة السّبي ببابل، فكان سبعين سنة، إلى أن ملك كورش الفارسيّ، واسمه في اللغة الفارسيّة: بهمن. فأذن لهم في العودة إلى أورشليم، وفي بناء بيت المقدّس. إلاّ أنّ الملك <كان> قد زال عنهم. وكانت المدّة منذ عود بني إسرائيل إلى أورشليم وإلى أوّل التاريخ اليونانيّ-الذي أوّله ظهور الإسكندر-أمّا على رأي اليونان فمائة وسبعون سنة، وأمّا على الرأي العبريّ فمائة وخمس وثمانون سنة. ولمّا رجع بنو إسرائيل إلى أورشليم، أقام العزيز التوراة بعد دروسها، وإنّ بختنصّر كان أحرقها، فأملاها العزيز من حفظه. وقيل: إنّه كان (167) من زعمائهم، ولم يكن نبيّا. قال العتبيّ: كان قد أكثر من المناجاة في القدر، فمحي اسمه من ديوان الأنبياء. وكان ذلك سببا لقول اليهود فيه: إنّه ابن الله-تعالى <الله> عمّا يقول المشركون. وزعم بعض اليهود أنّ عزره وهو العزيز، وأنّه دبّر بني إسرائيل هو وثلاثة نفر معه أربعين سنة، وأنّ من ولادة داود إلى موت العزيز: خمس مائة سنة وأربع وستّون سنة. فكان عدّة ملوك آل داود من رحبعم بن سليمان إلى صاحب شعيا- وهو صديقة-عشرون ملك. والمتّفق عليه في مدّة ملكهم أربع مائة سنة

ذكر يونس بن متا، عليه السلام

وثلاث وخمسون سنة، والله، عزّ وجلّ، أعلم. ذكر يونس بن متّا، عليه السلام أمّا يونس، عليه السلام، بعثه الله تعالى بعد <أن> التقمه الحوت، على قول. وقال وهب: إنّه قبلما التهمه الحوت؛ وهو المتّفق عليه. وإنّه أرسل إلى أهل مدينة نينوى-وقيل: هي الموصل-وأنّه في أوّل الأمر كذّبوه، فتوعّدهم بالعذاب، وخرج من بين أظهرهم. فلمّا رأى قومه إمارات العذاب ضجّوا وبكوا وتابوا إلى الله تعالى وآمنوا. فكشف الله، عزّ وجلّ، عنهم العذاب. وسأل عنهم يونس، فقيل: إنّهم لم يعذّبوا، ولم بعلم بما كان من توبتهم، ف‍ {ذَهَبَ مُغاضِباً}، كما أخبر الله تعالى عنه، خوفا أن يرجع إليهم. فقال له: كذبت. وركب دجلة، فكان من أمره ما قصّه الله تعالى في كتابه العزيز. ذكر زكريّا، عليه السلام وأمّا زكريّا، عليه السلام، فهو ابن حنّا من ولد سليمان بن داود، ويقال: زكريّا بن أدن. وكان هو وعمران، أبو مريم، قد تزوّجا أختين، إحداهما عند زكريّا، وهي أم يحيى، والأخرى عند عمران، وهي أم مريم. ولمّا ولدت مريم، كفلها زكريّا لموت أبيها، وقيل: بل لضعف أبيها عن

كفالتها. ولمّا بلغ زكريّا الكبر، رزقه الله تعالى يحيى من زوجته، وكانت عاقرا لم تلد ولم ترزق ولدا سواه. وولدت (168) مريم عيسى، عليه السلام، بعد ولادة يحيى بثلاث سنين، وقيل: ستّة أشهر. فاتّهموا بني إسرائيل زكريّا بمريم، وهمّوا به، فاختفى منهم في جوف شجرة، فنشروها بالمنشار وزكريّا في داخلها؛ هذا قول وهب. وقال ابن إسحاق: ذكر لي بعض أهل العلم أن زكريّا مات موتا سويّا. وأمّا يحيى، عليه السلام، فهو ابن خالة أمّ عيسى، عليه السلام، مريم. ويقال: ابن أختها. وكان حصورا لا يعرف النساء. وقيل: إنّ يحيى عليه السلام، صبغ عيسى، عليه السلام، أي عمّده، فإنّه غمسه في نهر الأردنّ. فيقال له: يحيى الصابغ. وقيل: إن ملكا من ملوك بني إسرائيل، شاور يحيى في تزويج امرأة، فقال: إنّها بغيّ. فاحتالت عليه المرأة حتّى قتله الملك، وبقي دمه يغلي على الأرض، وذلك بعد رفع المسيح، حتّى غزاهم ملك من ملوك بابل يقال له: حردوش. ويقال: بل غزاهم طيطوش

ذكر عيسى ابن مريم، صلوات الله عليه

الروميّ وظهر عليهم، فرأى دم يحيى يغلي فقتل عليه سبعين ألف، فسكن. وأخرب بيت المقدّس، والله أعلم. ذكر عيسى ابن مريم، صلوات الله عليه وأمّا عيسى، صلوات الله عليه، فإنّ مولده سحر يوم الأربعاء الخامس والعشرين من كانون الأوّل سنة ثلاثمائة من تاريخ الإسكندر اليونانيّ، ويقال: سنة تسع عشرة وثلاثمائة. وقيل: إنّ مريم، عليها السلام، حملت به ولها ثلاث عشرة سنة. وقال الحسن: حملت به تسع ساعات، ووضعته من يومها. وقال الجمهور من العلماء والمفسّرين وأهل الكتاب: حملت به تسعة أشهر، وكانت ولادته في بيت لحم. ولمّا مضت له ثمانية أيّام ختن على سنّة موسى، وسمّوه يسوع. ولحقت به أمّه مصر، وأقامت هناك اثنتي عشرة سنة. ثمّ عادت به إلى ناصرة، من جبل الجليل، عليه السلام. وأمّا اليهود نسبوه إلى رجل يقال له: يوسف النّجّار، من دار داود، كانت مريم مسمّاه. وقال أبو هريرة، رضي الله عنه: وكانت مريم لها (169) ابن عمّ يقال له: يوسف. وكانت هي وإيّاه يليان خدمة كنيسة. وكانت مريم إذا نفذ مايها وماء يوسف، يأخذ كلّ واحد منهما قلّته وينطلق إلى المغارة التي فيها الماء ويعودا. فلمّا كان اليوم الذي لقيها فيه جبريل، عليه السلام-قال: وكان ذلك اليوم أطول يوم في السنة وأشدّ حرّا-ونفد ماء مريم، فقالت ليوسف: أما ننطلق بنا إلى الماء؟ قال يوسف: إنّ عندي لفضلة. فأخذت

قلّتها وانطلقت حتّى دخلت المغارة، فوجدت جبريل، عليه السلام، عند المغارة، قد مثّله الله {لَها بَشَراً سَوِيًّا} فقال لها: إنّ الله، تبارك وتعالى، قد أنفذني إليك ليهب {لَكِ غُلاماً زَكِيًّا}. {قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا}، وهي تحسبه رجل كان عندهم وكان اسمه تقيّا، وكان مشهورا بفسق. ف‍ {قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا قالَتْ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ وَرَحْمَةً مِنّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا}. فلمّا سمعت ذلك استسلمت لأمر الله، فنفخ في جيبها ثمّ انصرف عنها. وملّت قلّتها وعادت. وكانت مريم لم يكن في أهل زمانها أحد أشدّ عبادة منها ولا أكثر اجتهادا. فكان أوّل من أنكر حمل مريم صاحبها يوسف. فإنّه لمّا رأى الذي بها عظم عليه ولم يدر ما يصنع. فكان إذا أراد أن يتّهمها، يذكر صلاحها وعبادتها وأنّها لم تغب عنه ساعة قطّ. وإذا أراد أن يبرّئها ينظر إلى الذي قد ظهر عليها. قال: فلمّا اشتدّ به الأمر-وهو يستحي من كلامها في ذلك-قال لها: يا مريم، إنّه قد وقع في نفسي منك أمرا، وقد نويت أن أكتمه في نفسي، فغلبني ذلك، وإنّ الكلام فيه شفاء للصدر. فقالت مريم: قل قولا جميلا. فقال: يا مريم، هل بنيت زرعا

بغير بذار؟ قالت: نعم. قال: فهل بنيت شجرا بغير غيث يصيبها؟ قالت: نعم. ثمّ قالت: ألم تعلم أنّ الله، عزّ وجلّ، أنبت (170) الزرع يوم خلقه من غير بذر؟ وخلق آدم وحوّاء من غير ذكر ولا أنثى؟ قال: فلمّا قالت له ذلك، وقع في نفسه أنّ الذي بها من الله، عزّ وجلّ، وأنّه لا يسعه أن يسألها أكثر من ذلك. قال: ثمّ تولّى خدمة المسجد وحده، وكفاها كلّ عمل كانت تعمله، لمّا رأى عجزها عن القيام بذلك. فلمّا دنا فقاسها، أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك، فإنّهم إن ظفروا بك عيّروك وقتلوا ولدك، وكانت أختها يومئذ حبلى وقد بشّرت بيحيى. فوضعته وهو ساجدا معترفا بعيسى، عليهما السلام. قال: ثمّ حملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له، حتّى إذا كان بأرض مصر في منقطع أدرك مريم المخاض، فألجأها إلى أزاي حمار-أي إلى مذوذه-في أصل نخلة نخرة، وكان ذلك في زمان الشتاء، فاشتدّ بمريم المخاض، فالتجأت إلى النخلة فاحتظنتها، وأحاطت الملائكة بها قائمين صفوفا، محدّقين بها. فلمّا وضعت، حزنت. قيل لها: لا تخافي ولا {تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاِشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}. ثمّ كان الرّطب يتساقط عليها رطبا حيّا من تلك النخلة النّخرة، في غير زمانه، آية من الله تعالى. قال وهب: إنّه تكلّم في المهد ثلاث مرار، ثمّ لم يتكلّم حتّى بلغ حدّ الكلام. ولمّا بلغ ثلاثين سنة، جاءه الوحي. فكانت مدّة نبوّته ثلاث

سنين. وإنّ اليهود طلبوه، فدلّ عليه بعض الحواريّين، واسمه يودش، ويقال: يهوذا واريسي؛ ويقال: ابن العجوز. وارتشا من اليهود ثلاثين درهما. وألقى الله شبهة على الذي دلّ عليه، فأخذوه وصلبوه وقتلوه بعد أن بالغوا في تعذيبه. وصلبوا عن يمينه لصّا وعن شماله لصّا. وزعم المؤرّخون أنّه حدث ذلك اليوم ظلمة عظيمة مزعجة، وكانت سبب تنصّل المسيح من أيديهم، وصعوده حيّا. وزعم النّصارى (171) أنّ تلك الظّلمة كانت بعد موته. وقيل: كان بعد سبع، ظهر لأمّه وقال: لم يصبني إلاّ خير. وأمرها أن تأتيه بالحواريّين، فبثّهم في الأرض ووصّاهم. ويقال: إنّ مريم عاشت بعده ستّ سنين. وبعد عشرين سنة من رفعه سمّيت المؤمنون به نصارى. وكان أهل هذه التّسمية بأنطاكية. وبعد ذلك بثلاث عشرة سنة قتل بطرس وبولص تلميذاه؛ وقيل: جميع من كان في مملكة الروم من النصارى. ولم يزل الأمر كذلك إلى أن ملك قسطنطين ابن هيلاني، وذلك بعد رفع المسيح بمائتي وسبعين سنة. وقسطنطين أوّل من فارق عبادة الأصنام وتنصّر. وكان سبب ذلك أنّه رأى في منامه كأنّ رماحا نزلت من السماء عليها صور صلبان، فجعل على رماحه مثل ذلك، وقاتل أعداء كانوا لم يزل له غالبون، فقهرهم وظفر بهم. فندس في النّصرانيّة، وجمع ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا وأربعة بطارقة في

ذكر أهل القرية

بيعة كان قد عملها، وتناظروا في مقالات النصارى، ووضعوا الشرائع بعد أن لم تكن، وقنّنوا القوانين، وأمر ببناء الكنائس. وإنّ أمّه هيلاني خرجت إلى فلسطين لسبع سنين مضت من ملكه، فبنت كنائس الشام، ودخلت بيت المقدّس، فسألت عن خشبة الصّليب التي صلب عليها شبه المسيح، فقيل: إنّها كانت تحت ردم كبير. فدلّت عليها ونثرت الذهب على ذلك الردم حتّى عادت الناس يتناهبون التّراب، حتّى ظهرت وظفرت بها. ووسمت ليوم وجدتها عيدا سمّته عيد الصليب. والخشبة هي: صليب الصّلبوت. في السنة الحادية والعشرين من ملكه طبّق جميع ممالكه بالكنائس. وكانت أمّه هيلاني قد سباها أبوه من الرّها، فلذلك تعرف بهيلاني الرهاويّة. ويسمّى هذا قسطنطين المظفّر، ويقال: المطهّر، والله أعلم. ذكر أهل القرية قال وهب بن منبّه: كانوا ثلاث نفر بعثهم الله إلى أهل أنطاكية، واسم الرجل (172) الذي جاء من أقصى المدينة: حنين. وقال قتادة: هم ثلاثة من الحواريّين، بعثهم الله على لسان عيسى ابن مريم إلى أهل أنطاكية. وكان الرجل الذي جاء من أقصى المدينة مجذوما، آمن بالرّسل وأيّد قولهم، فوطئوه أهل القرية بأقدامهم حتّى مات. وأهلك الله تعالى أهل تلك القرية بصيحة جاءتهم من السماء {فَأَصْبَحُوا} فيها {جاثِمِينَ}.

ذكر ذو الكفل

ذكر ذو الكفل أمّا ذو الكفل؛ قال العتبيّ: بعثه الله تعالى إلى ملك من ملوك بني إسرائيل، فدعاه إلى الإيمان وكفل له الجنّة، فآمن به، فسمّي ذو الكفل. وقال مجاهد: تكفّل أليسع بنيط، فوفا لهم، ولم يكن نبيّا. وقيل: تكفّل بعمل رجل صالح، فكان يصلّي كلّ يوم مائة ركعة. وقال الطّبريّ: إنّه بشر بن أيّوب، عليه السلام. <ذكر لقمان الحكيم> وأمّا لقمان الحكيم، فإنّه لم يكن نبيّا عند أكثر المفسّرين والعلماء، لكنّه كان حكيما. وكان عبدا حبشيّا لرجل من بني إسرائيل فأعتقه. وكان خيّاطا معاصرا لداود، عليه السلام. وقال سعيد بن المسيّب: كان نبيّا، وقد كان في زمن عاد رجل يقال له: لقمان بن عاد، وهو أحد رجال الوفد الذين قدموا مكّة يستسقون لقومهم. وانفرد هو عن قومه من الوفد بالدعاء لنفسه بطول العمر، فأعطي عمر سبعة أنسر. وكان عمره يومئذ مائتا سنة، وهو صاحب لبد-وهو النّسر السابع-فعاش ألفي وسبعمائة سنة. وقيل: أكثر. وقيل: أقلّ، والله أعلم.

<ذكر> أصحاب الرس

<ذكر> أصحاب الرّسّ وأمّا أصحاب الرّسّ اختلف فيهم. قال ابن عبّاس: هي قرية من قرى ثمود. وفي كلام قتادة ما يدلّ على أنّ أصحاب الرسّ هم أهل مدن أصحاب شعيب. وقال عكرمة: هم قوم قتلوا نبيّهم ورسّوه ببئر، أي دسّوه فيها من الرّسّ، والرّسّ عند العرب هي البئر التي لم تطيّن أو لم تطبّق. وقال الطّبريّ: لا نعرف قوم كانت لهم قصّة بسبب حفيرة إلاّ أصحاب الأخدود، وقد اختلف (173) فيهم. <ذكر أصحاب الأخدود> وقال الرّبيع عن أنس: إنّ أصحاب الأخدود هم قوم اعتزلوا عن الناس في الفترة، وأنّ جبّارا من عبدة الأوثان أرسل إليهم وعرض عليهم الدخول في دينه وخيّرهم بين ذلك وبين إلقائهم في النار؛ فاختاروا الإلقاء في النار. فنجّى الله تعالى المؤمنين من الحريق بأن قبض أرواحهم قبل أن تمسّهم النار، وخرجت النار على شفير الأخدود فأحرقت الكفّار، وذلك قوله تعالى: {فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ}. وقال الطبريّ: صاحب الأخدود ذو نواس، ملك اليمن، كان على دين اليهود. وقدم اليمن رجل كان على دين المسيح، فأعلن بذلك وكثر أتباعه. فجعل ذو نواس الملك يطلب من يقول بهذا الدين ويخدّ له في الأرض ويحرقهم حتّى أتى عليهم. فأنفذ الله النّجاشيّ بجيش عظيم فانهزم هو وأصحابه

<ذكر أصحاب الكهف>

واقتحم البحر فهلك. فكان ذلك سبب تملّك اليمن، والله أعلم. <ذكر أصحاب الكهف> أصحاب الكهف هم فتية من الرّوم كانوا على دين المسيح، وكان ملكهم كافر يعبد الأصنام. فدعاهم إلى عبادة صنمه فأبوا {فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماااتِ وَالْأَرْضِ} وفرّوا معتزلين لأجل العبادة في كهف. ثمّ طلبوا، فقيل: إنّهم في كهف كذا وكذا. فأمر الملك، فبني عليهم على باب الكهف بناء يمنعهم الخروج. فأقاموا ثلاثمائة سنة وتسع سنين، وكانوا {فِي فَجْوَةٍ} من الكهف، بمتّسع منه، وكانوا في مقابله بني نعش، فلم تكن الشمس تصيبهم. وكانوا يقلبون في كلّ سنة مرّتين. وكانوا سبعة نفر وكلبهم قطمير. وقد كانت قصّتهم كتبت في لوح من حجر أو رصاص، وهو الرّقيم، وجعل على باب الكهف؛ وقيل: في خزانة الملك. فلمّا أراد الله، عزّ وجلّ، أن يطلع الناس على أمرهم {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السّاعَةَ} آتية {لا رَيْبَ فِيها}، وكان ذلك في زمان ملك على دين المسيح، أيقظهم الله تعالى وقد تساقط البناء الذي على باب الكهف. فتسالوا بينهم {كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}، وأصابهم الجوع (174) فأرسلوا أحدهم يبتاع لهم طعاما ويأتيهم به. فلمّا دخل المدينة أنكر ما رأى وأنكروا عليه دراهمه، فقبضوا عليه وأتوا به الملك. وقيل له: أصبت كنزا؟

ذكر سائر ملوك الأرض وأسمائهم ومدد تملكهم إلى آخر وقت

فأخبرهم بخبره. وكان خبرهم عند الملك في لوح في خزانته، فسار الملك معه حتّى دخل على أصحابه. فلمّا نظروا إليه، ضرب الله على آذانهم، فعادوا كما كانوا عليه، فبنى عليه مسجدا. وقيل: إنّ هذا الكهف في بلاد الروم، بينه وبين طرسوس ثلاثة أيّام، بموضع يعرف بالحان. وقيل: إنّه بمكان يعرف بافلس في عدوة القسطنطينيّة. وأمّا ابن قتيبة: إنّ أهل الكهف كانوا قبل المسيح وظهر أمرهم في الفترة، والله، عزّ وجلّ، أعلم. ذكر سائر ملوك الأرض وأسمائهم ومدد تملّكهم إلى آخر وقت قلت: قد انتهى الكلام فيما اشترطناه من ذكر الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين، حسبما وصلت إليه القدرة بمعونة الله تعالى وحسن توفيقه وبركة إلهامه. ونحن نتلوا ذلك بذكر سائر الملوك وطبقاتهم وأزمنتهم ومددهم وأديانهم، كلّ طبقة وما أتا بعدها من الملوك من أوّل وقت إلى حين مبعث سيّدنا ونبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلّم. ولعمري إنّه قد جمع من الفنون ما لا جمعه تاريخ غيره. ولست أقول ذلك استكبارا ولا أدّعي، وإنّما جمع ذلك كثرة المطالعة لأخبار الناس، مع المبالغة في الاجتهاد. فمن أكثر من شيء عرف به.

ذكر الطبقة الأولى لملوك الفرس

ولعلّ الفاضل، قارئ هذا التاريخ، إذا انتهى في قراءته، صدّق زعم العبد فيما ادّعاه، وإلى الله الرغبة والتوسّل أن يسدّد أقوالنا وأفعالنا، ويختم بالصّالحات أعمالنا، إنّه بالإجابة جدير {وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. ذكر الطّبقة الأولى لملوك الفرس هؤلاء أوّل طبقة ملوك فارس المسمّيون بالفيشداديّة. فأوّلهم كيومرث، أقام، على رأي بهرام، ثلاثون سنة، وعلى رأي حمزة الأصفهانيّ، أربعون سنة. ثمّ أقامت الناس لا ملك لهم ولا رئيس يرجعون إليه إلى تملّك فيشداني وسهنج (175)، على رأي بهرام، مائة سنة وأربع وأربعون سنة وثمانية أشهر، بحكم التحرير. ثمّ ملك بيشهنج، على رأي بهرام أربعون سنة؛ برأي حمزة أيضا أربعون سنة. ثمّ ملك طهومرت بن ونوبجهان بن هوبلد بن أوسهنج؛ رأي بهرام ثلاثون سنة، وكذلك حمزة ثلاثون سنة. ثمّ ملك أخوه الجم بن ونربجهان ستّمائة سنة وستّة عشر سنة

على رأي بهرام، ورأي حمزة سبعمائة سنة وستّة عشر سنة. ثمّ ملك بيوراسب ألف سنة، متّفق عليه. ثمّ ملك أفريدون بن أثفيان خمسمائة سنة، متّفق عليه. ثمّ ملك منوشجهر مائة وعشرون سنة، برأي بهرام، منها لقراسيان التركيّ اثنا عشر سنة داخلة في جملة ملك منوشجهر؛ ورأي حمزة: مائة وعشرون سنة كاملة لمنوشجهر. ثم ملك افراسياب برأي بهرام اثنا عشر سنة في مدة أيّام ملك منوشجهر، ورأي حمزة: اثنتا عشر سنة خارجة عن مائة وعشرين سنة ملك منوشجهر. ثمّ ملك زاب بن طهماسف ثلاث سنين؛ متّفق عليه. ثمّ ملك كرشاسف ستّ سنين، برأي بهرام؛ ورأي حمزة الإصبهانيّ سبع سنين. وعدّة هؤلاء الملوك، وهم الطبقة الأولى، تسعة نفر، مدّت ملكهم على رأي بهرام بن بردانشاه، موبد كورة شابور من بلد فارس، ألفان سنة وخمس مائة سنة وأربعون سنة. وأمّا رأي حمزة الإصفهانيّ، صاحب تاريخ إصفهان، ألفان وأربع مائة سنة وسبعون سنة. قال الموبد بهرام في كتابه: إنّي جمعت بين سبعة وعشرين نسخة من

الكتاب المسمّى: خداه اه؟؟؟، حتّى أصلحت منه تواريخ ملوك فارس من لدن كهومرت والد البشر وإلى أن زال الملك عنهم وانتقل إلى العرب. فكان مدّة هؤلاء الملوك الأول ما قدّمناه، وباقي الملوك على ما يأتي عند ذكرهم، إن شاء الله تعالى. فأوّل من يعتبر له الملك من هذه الطبقة وشهنج ولقبه فيشداد، وإليه ينسبون هؤلاء التسعة، فيقال: الفيشداديّة. ومعنى ذلك: (176) أوّل حاكم في الملك. وعقد له في إصطخر؛ وهو الذي استخرج الحديد وعمل بعض أدوات الصنّاع وبعض الأسلحة، وأمر الناس بقتل السباع الضارية. وقيل: إنّه هو أوّل من حمل السلاح، وهو الذي بنا مدينة بابل. وقيل: بل الذي بناها طهرمرت. ويقال: إنّه بنا كردينداد، وهي أحد المدن السبعة. قال حمزة: لعل الصواب في اسمها: كرداباد. وبنا بإصفهان مدينتين عظيمتين، أحدهما مهرين و <الثانية> سارويه. فأمّا مهرين فإنّه غلبه عليها وساوبخت، وأمّا سارويه فإنّه أحاط بها بعد

ألوف سنين سور مدينة حي، وأثرها باق. وقيل: في زمانه حدث عبادة الأصنام. وكان أصل ذلك أنّ أناسا أصابهم ثكل بأحبّائهم، فاتّخذوا تماثيل يتسلّون بها بالنظر إليها على صور أحبّائهم. وامتدّت بهم الأزمان حتّى زيّن لهم عبادتها. وفي زمانه حدث الصوم. وأمّا أخوه جم، ويلقب: جم شيد؛ ومعنى شيد: النّيّر، ولذلك تسمّى الشمس خرشيد. ويزعمون أنّه كان يصطنع من وجهه نور. وله آثار كثيرة مذكورة. ومن بديع ما أحدث قنطرة عقدها على دجلة فعبرت دهرا طويلا حتّى هدمها الإسكندر. وأمّا سوارسب فهو ابن أوبداسف بن وسكان بن ساسره. وأمّا أفريدون فإنّه الذي انتزع الملك من الضحّاك، وتسمّيه العرب: السفّاك، لما كان عليه من الفساد وسفك الدماء، فأراح الناس منه. وقيل: إنه هو الذي سجنه بجبل دنبا. وقيل: إنّه إلى الآن حيّ، وهو مسجون بهذا الجبل، حتّى زعموا قوما أنّه هو الدّجال الذي يخرج آخر الزمان، والله أعلم.

(177) ذكر الطبقة الثانية من ملوك الفرس وهم الكيسانية

وأمّا منوشجهر فهو من ولد أبرح بن أفريدن، وهو الذي نهر الفرات ونهر مكران-وهو أعظم من الفرات-وشقّ من الفرات أنهارا كبارا. وفي زمنه تغلّب قراشيان التركيّ وأزعج منوشجهر عن سريره وأحجره في غياض طبرستان. وبقي قراشيان اثنا عشر سنة وهدم أكثر المعاقل والأبنية الحسان، والله أعلم. (177) ذكر الطبقة الثانية من ملوك الفرس وهم الكيسانيّة هذه الطبقة الثانية من ملوك فارس وعددهم أيضا تسعة نفر، ومدّتهم، على ما يراه بهرام الموبد، سبع مائة سنة وثماني عشرة سنة، وعلى ما يراه حمزة الإصفهانيّ، سبع مائة سنة وأربع وستّين سنة. فأوّلهم كيقباد، وإنّه لمّا ملك، أخذ الناس بعمارة الأراضي وإذا العشر من غلاّتها وصرفه في أرزاق الجند ودفع العدوّ وسدّ الثغور. وكان إصفهان مذكورة على كورة واحدة مثل الراي، فزاد فيها كورة أخرى وسمّاها استان، وهي التي فيها الرّساتيق المجاورة إلى عمل قم. ملك

كيقباد على رأي بهرام مائة سنة، وعلى رأي حمزة مائة وستّ وعشرون سنة. ثمّ ملك بعده كيكاوس. وقد رفع بهرام الموبد نسبه، فقال: كيكاوس بن كياقوه بن كيقباد. وكان نزل بلخ. <و> ملك مائة وخمسون سنة؛ متّفق عليه. ثمّ ملك بعده كيخسرو ستّون سنة، على ما يراه بهرام. وقال الإصفهانيّ: ثمانون سنة. وكانت مدّة كيقباد أيضا في ملكه، على رأي بهرام، مائة سنة، ووافقه الإصفهانيّ على ذلك. وكانت مدّة كيكاوس في الملك مائة وخمسون سنة؛ متّفق عليه من كلاهما. ثمّ ملك بعد كيخسرو كيهراسف مائة وعشرون سنة؛ متّفق على ذلك. وأمّا كيخسرو فإنّ الفرس تزعم أنّه كان نبيّا، وأنّه انتهى إليه في زمانه أنّ نبيّا ظهر بجبل كوشيد-وهو جبل أحمر فيما بين أوّل إصبهان وآخر فارس-وأنّه قد عظمت نكايته. فسار إليه كيخسرو بنفسه في خاصّيّته

وانتصب له بنفسه حتّى قتله. ونصب في جانب الجبل المنار المعروفة بمنار كوشيد. وقيل: إنّ سليمان بن داود، عليه السلام، كان في زمنه. وأمّا كيهراسف، فإنّه كان خليفة كيخسرو على مملكته، وهو ابن عمّه. فإنّ كيهراسف بن كياوحان بن كيمش بن كبقين. وهو أوّل من وضع ديوان الجند وجعل للأساورة الأساور، وهم المسمّيون: المرازبة. فلمّا سوّرهم وحلاّهم بالأسورة الذهب، سمّوا: الأساورة. ووضع لهم سورا؟؟؟ في محلّته. (178) وهو أوّل من اتّخذ السرادقات. وفي سنة ستّين من ملكه توجّه بختنصّر إلى أرض المغرب، فغزا فلسطين وأخرب مدينة أورشليم، وسبا بها اليهود، وجعلهم خدما لأهل مملكته، وصرّفهم في المهن. ثمّ ملك بعد كيهراسف كشتاسف. فأقام هذا كشتاسف في الملك مائة وعشرين سنة؛ متّفق عليه. ولمّا تمّ لكشتاسف في ملكه ثلاثين سنة، وكمل عمره خمسين سنة، أتاه زرادشت الأذربيجانيّ بكتاب الآيسا، وهو

الشايورقان، وعرض عليه المجوسيّة ودعاه إلى دينها، فقبله. وهو أوّل من مجّس من ملوك فارس. ثمّ ملك بعده أردشير مائة سنة واثنا عشرة سنة؛ متّفق عليه. وهذا أردشير الذي يقال له: بهمن بن اسفندباد؛ وكان يسمّى الطويل الباع. ويقال: إنّه بلغ في غزواته رومية، وأنّه غزا من ناحية الجنوب <ذابولستان>. وتزعم اليهود أنّ بهمن بلغتهم وفي كتب أحبارهم هو كورش، وهو الذي أذن للسّبي من بني إسرائيل الذين كانوا بالأصفاد بالعود إلى مدينة أورشليم، وأذن لهم في بناء البيت المقدّس. وإنّ هذه المدّة الّتي بين هذا وبين الإسكندر الروميّ تقصر قصورا بيّنا عن المدّتين اللّتين ادّعاهما اليهود والنّصارى من وقت رجوع السّبي إلى ظهور ذلك الملك، فلذلك يعرض الفساد في التواريخ، وهو فساد من بين التاريخين الفارسيّ والإسرائيليّ، من وقت ظهور الخليل، عليه السلام، وإلى ثلاثين سنة من ملك أفريدون الملك من الطبقة الأولى من ملوك فارس، والله أعلم. ثمّ ملك بعد أردشير هذا. . . ثلاثون سنة، متّفق على ذلك. ثمّ ملك بعده دارا بن بهمن اثنا عشر سنة؛ متّفق عليه. ثمّ ملك بعده دارا بن

ملحق من الأصل

دارا أربع عشر سنة؛ متّفق عليه، وهو الذي قتله الإسكندر الروميّ حسب ما يأتي من ذكره، والله، عزّ وجلّ، أعلم. ملحق من الأصل وإنّ كي أردشير لمّا دنت وفاته، كانت زوجته حاملة منه بدارا، وهو دارا بن بهمن، فأسند الملك إليها وهلك. فقامت بالأمر أحسن قيام، وسيّرت جيشا من جيوشها <إلى> الروم فسبوا سبيا، فيهم عملة حذّاق. فأمرت ببناء مصانع إصطخر، وهي ثلاثة: أحدها بجانب إصطخر، وثانيها على المدرجة الأخيرة إلى كورة دارا الجرد، وثالثها على المدرجة النافذة إلى طريق خراسان وأنشأت بإصفهان، مدينة لطيفة، مجيدة البناء، تسمّى المثمرة، وهي ما أخرب الإسكندر، <وسمّتها حمهين>. <وأمّا> دارا ولدها فهو أوّل ملك وضع سكك البريد، ورسم فيها بإقامة دوابّ مجدّمة الأذناب فسمّيت: برثه ذنب. ثمّ عرّبوا الكلمة وحذفوا منها ما نقل، فقالوا: بريد. وبنا بالكورة الأخرى <من بلد فارس مدينة وسماها دارا بجرد التي أنشأها دارا فسمّى الكورة باسمه وكانت تسمّى قبل ذلك استان فركان، وهو أعلم>.

ذكر الطبقة الثالثة من ملوك الفرس

ذكر الطبقة الثالثة من ملوك الفرس (179) هؤلاء الطبقة الثالثة من الملوك فأوّلهم الإسكندر ذو القرنين؛ مدّة ملكه أربع عشرة سنة، رأي حمزة. اسكا بن اسكان اثني وخمسون سنة، شابور بن اشك أربع وعشرين سنة، جودر بن شابور خمسون سنة، <ثمّ ملك ابن أخيه ونحن> بن بلاس أحد وعشرين سنة، <ثمّ ملك> جودر الأصغر ابن ونحن بن بلاس تسع عشر سنة <ثمّ ملك> نرسي بن ونحن أخو جودر الأصغر ثلاثون سنة، <ثمّ ملك> هرمز بن بلاس بن شابور سبع عشر سنة، <ثمّ ملك> فيروز بن هرمز اثنتا عشر سنة، <ثمّ ملك> خسرو بن فيروز أربعون سنة، <ثمّ ملك أخوه> بلاس بن فيروز، مع اختلاف فيه، أربع وعشرين سنة، وقيل: مروان اردوان بن بلاس خمسون سنة، هذا رأي حمزة، ولم أر لغيره في ذلك قول.

وهؤلاء هم الطبعة الثالثة من الملوك، ويعرفون بالأشغانيّة وهم ملوك الطوائف، وأوّلهم الإسكندر الروميّ المقدونيّ. وذلك أن كانت أرض المغرب تحمل الإتاوة إلى ملوك فارس. فلمّا ملك الإسكندر، نفذ دارا بن دارا يطلب منه الإتاوة على جري العادة. فقال الإسكندر لرسوله: قل له: إنّ الدجاجة التي كانت تبيض إلى الآن انقطع البيض عنها. فكان ذلك سبب الحرب بينهما. ثمّ خرج الإسكندر وقصد دارا بن دارا وناصبه الحرب. فغدر بدارا بعض حماة ظهره ورماه بسهم فقتله تقرّبا للإسكندر، وقيل غير ذلك، ما ذكره ابن ظفر، صاحب كتاب نجباء الأبناء، وكتاب سلوان المطاع، فإنّه قال: إنّ الإسكندر قتل دارا بن دارا بيده مبارزة في ميدان الحرب. وعلى الجملة انضاف ملك فارس إلى الإسكندر وتزوّج بابنته. وقال حمزة الإصفهانيّ: وإنّ الإسكندر أسرف في إهراق الدماء واجتمع في عسكره من وجوه فارس وأشرافها سبعة آلاف أسير مقرّنين في الأصفاد، يدعوا بهم كلّ يوم فيقتل أحد وعشرين نفرا، ثمّ يردّ الباقي. وجعل يطوف البلاد، فوصل الهند والصان (180) وأطاعه ملوك تلك الأقاليم.

وقال القضاعيّ: بلغ الظّلمات وسار فيها ثمانية عشر يوما يطلب عين الخلد، ثمّ قفل راجعا نحو العراق، فمات بشهرزور قبل وصوله إلى بابل، وكان قد جعلها تلّ تراب. ولمّا مات حمل في تابوت من ذهب إلى أمّه بالإسكندريّة. وكان عمره ستّا وثلاثين سنة ومدّة ملكه أربع عشرة سنة. ولمّا وصل إلى مقصده وحصل على غرضه من قتل الأشراف وذوي الأقدار من الملوك، كتب إلى أرسطوطاليس يقول: إنّي قد قدرت على جميع من في الشرق بقتلي ملوكهم وتخريبي معاقلهم، وقد خشيت أن يظافروا بعدي على قصد بلاد المغرب، فهممت أن ألحق بأولاد الملوك والرؤساء بمن قتلت من آبائهم، حتّى لا يبقى طالب لهم، فما الرأي؟ فكتب إليه يقول: إن أنت قتلت أبناء الملوك أفضى الملك إلى السّفّل والسّقّاط؛ وهؤلاء إن ملكوا قدروا، وإذا قدروا جاروا وطغوا وظلموا، أفكان الذي يخشى من مغزاهم أفضع؟ ولكن الرأي أن تجمع أبناء الملوك، فتملّك كلّ واحد منهم إقليما محدّدا وكورة واحدة، فإنّهم ليتنافسوا فيما بينهم ولا تجتمع لهم كلمة، وتتولد بينهم العداوة على ما بأيديهم من الأعمال، ويمنعهم ذلك من التفرّغ والقصد عن ما بعد عنهم. قال: فكان هذا سبب قسمة الإسكندر ممالك الشرق على ملوك الطوائف.

ونقل من بلدانهم علم النجوم والفلسفة والطبّ والحراثة، بعد أن حوّلها إلى اللسان اليونانيّ والقبطيّ. وقيل <عن الإسكندر> إنّه قال لأرسطوطاليس: ضع لي كتابا في السياسة أنتفع به. فوضع له كتابا. فقال: إنّ الحروب شغلتني عن استيعاب مطالعته، فلو اختصرته بكلمات يسهل حفضها عليّ. فاختصره في سبع كلمات، جعل كلّ كلمة آخرها أوّل الأخرى، وجعلها كالدائرة، وهي هذه: العالم بستان سياجه الملّة؛ الملّة شريعة يقوم بها الملك؛ الملك راع يعضده الجيش؛ الجيش أعوان جمعهم المال؛ المال رزق تجمعه الرعيّة؛ الرعيّة عبيد يسترقّهم العدل؛ العدل (181) مألوف، به قوام العالم. وقيل له: لم تعظّم معلّمك أكثر من أبيك؟ فقال-وهو في سنّ طفولته: لأنّ أبي سبب حياتي الفانية، ومعلّمي سبب حياتي الباقية. وقيل: إنّه هو هذا المذكور في القرآن، وأصله من أهل قرية بقرب الإسكندريّة تعرف بلوبية. وفي تسمية ذي القرنين عدّة أقوال، الأوّل: أنّه رأى في منامه أنّه أخذ بقرني الشمس فسمّي بذلك. الثاني: أنّه بلغ قرني الأرض، وقيل: غير ذلك، والله أعلم. وأمّا ذوي القرنين الأكبر، فيقال: إنّه أوّل القياصرة وهو من ولد سام بن نوح. وقيل: بل من أولاد يافث. ويقال: إنّه لقي إبراهيم، عليه السلام، وطاف البلاد والخضر على مقدّمته، وهو الذي سدّ على يأجوج ومأجوج، حسبما تقدّم من الكلام أوّل هذا الكتاب، وأنّه حكم

لإبراهيم، عليه السلام، ببئر كان احتفرها لماشيته ونازعه فيها أهل الأردنّ. هذا ما رواه الطّبريّ. وروى ابن عبّاس، رضي الله عنه، أنّ اسمه: عبد الله ابن الضحّاك. وفي تسميته ذي القرنين أيضا أقوال، أحدها ما رواه ابن عبّاس عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم، قال: «لم يكن نبيّا، لكن كان عبدا صالحا، بعثه الله إلى قومه فضربوه على قرنه فقتلوه، ثمّ أحياه الله تعالى وبعثه إلى قومه فضربوه في قرنه الآخر فقتلوه، فسمّى بذلك». وقيل: إنّه كان له شبه القرنين. وقيل: إنّه كانت صفحتي رأسه من نحاس. وقيل: إنّه بلغ قطري الأرض، وكان موته ببابل. وروي أنّه قيل له: إنّك لا تموت إلاّ على أرض من حديد وسماء من خشب. وكان يدفن كنوز كلّ إقليم في أرضه. فبلغ بابل وفرغ من دفن كنوزه، فرعف حتّى سقط عن جواده، فبسطت تحته درع من حديد، فأحرقته الشمس، فأظلّوه بترس من خشب. فلمّا نظر ذلك علم أنّه ميّت، والله أعلم. ولمّا مات الإسكندر حصلت البلاد في أيدي ملوك الطوائف. فرفعوا ما بينهم الحرب والنحارات. فكان الواحد منهم إنّما يغلب صاحبه بعويص المسائل. (182) وكان أحد ملوك الطوائف مجاورا لأعمال الروم، فلقى عسكر الروم مجتمعا، فقتل ملكهم واستباح عسكرهم وانصرف إلى العراق بالسبايا. فكانت هذه العداوة سببا لإخراج الروم ذخائرها وأموالها وإنفاقها على بناء مدينة حصينة تنقل إليها دار الملك من رومية، لقرب دار الملك من بلاد سلطان فارس. فوقع اختيارهم على رقعة أرض القسطنطينة، فبنوا

ذكر ملوك الطبقة الرابعة من الفرس وهم الساسانية

بها الأبنية ونقلوا الملك إليها، وملكهم إذ ذاك: قسطنطين ابن هيلاني، وقد تقدّم ذكره. وهكذا غزا حودراس بن أشك بني إسرائيل بالشام، فأخرب مدينتهم أورشليم، ووضع السّيف فيها، فأسرف في قتل اليهود، وسبى منهم السبي العظيم، وكان ذلك بعقب قتل يحيى، عليه السلام. وقد كان غزاهم قبل ذلك طيطوس ملك رومية، بعد ارتفاع المسيح. فقتل وسبى؛ هذا نقل كلام حمزة، وهذه الطبقة الثالثة من الملوك، وهم ملوك الطوائف، حسبما تقدّم من أسمائهم ومددهم. وقال غير حمزة من المؤرخّين: كانت مدّة ملوك الطوائف إلى حين تغلب أردشير بن بابك على سائر الممالك، مائتي سنة وستّين سنة. ولم تزل مملكة فارس متفرّقة إلى الطبقة الرابعة، كما يأتي ذكر ذلك يتلوا هذا الكلام، إن شاء الله تعالى. ذكر ملوك الطبقة الرابعة من الفرس وهم الساسانيّة هذه الطبقة الرابعة من ملوك الفرس المتّصلة بالإسلام. فأوّلهم أردشير بن بابك، منذ خلص له لأمر ثمان عشرة سنة-رأي بهرام الموبد؛

وما يراه الكسرويّ: عشرون سنة إلاّ شهر واحد؛ وما يراه حمزة الإصفهانيّ: أربعة عشر سنة ونصف، ثمّ ملك شابور بن أردشير-عن رأي بهرام الموبد ثلاثين سنة؛ الكسرويّ اثنان وثلاثون سنة؛ حمزة: ثلاثون سنة وشهر واحد. ثمّ ملك هرمز بن شابور-عن رأي بهرام سنتان؛ الكسرويّ: سنة وعشرة أشهر (183) بموافقة حمزة. ثمّ ملك بهرام بن هرمز-برأي بهرام-ثلاث سنين؛ حمزة والكسرويّ: تسع سنين وأربعة أشهر. ثمّ ملك بهرام بن هرمز بن هرمز بن شابور برأي بهرام الموبد: سبع عشرة سنة؛ وكذلك وافق حمزة. وقال الكسرويّ: ثلاثة وعشرين سنة. ثمّ ملك بهرام بن بهرام بن هرمز-برأي بهرام-أربعون سنة وأربعة أشهر؛ حمزة والكسرويّ: ثلاث عشرة سنة. ثمّ ملك نرسه بن بهرام بن بهرام بن هرمز؛ رأي بهرام الموبد: تسع سنين؛ حمزة والكسرويّ: سبع سنين. <ثمّ ملك> هرمز بن نرسه بن بهرام بن بهرام بن هرمز؛ رأي بهرام الموبد: سبع سنين؛ الكسرويّ: تسع سنين وثلاث أشهر؛ حمزة: ثلاث عشرة سنة <ثمّ ملك> شابور بن هرمز بن نرسه بن بهرام اثنان وسبعون سنة بالاتّفاق من الثلاث رواة. <ثمّ ملك> أردشير بن هرمز بن نرسه بن بهرام أربع سنين؛ متّفق عليه. <ثمّ ملك> شابور بن شابور بن هرمز بن هرمز بن نرسه خمسون سنة؛ رأي بهرام موبد؛ رأي حمزة: خمسون وأربعة أشهر؛ رأي الكسرويّ: اثنان وثمانون سنة. <ثمّ ملك> بهرام بن شابور بن هرمز بن نرسه برأي بهرام: إحدى عشر سنة؛ الكسرويّ وحمزة: اثنا عشر سنة. <ثمّ ملك> يزدجرد بن بهرام بن شابور بن هرمز؛ لم أجد له مدّة من الثلاث رواة، لكن استثنا حمزة وقال: أظنّ أنّه أقام اثنان وثلاثون سنة. <ثمّ ملك> يزدجرد بن يزدجرد بن بهرام بن شابور؛ رأي بهرام:

إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر؛ الكسرويّ وحمزة: اثنان وعشرين سنة. <ثمّ ملك> بهرام جور بن يزدجرد بن يزدجرد برأي بهرام عشرون سنة إلاّ اثني عشر يوما؛ الكسرويّ وحمزة: ثلاث وعشرون سنة. <ثمّ ملك> يزدجرد بن بهرام جور بن يزدجرد بن يزدجرد برأي بهرام الموبد أربع عشرة سنة وأربع شهور؛ الكسرويّ ثمان عشرة سنة وخمس شهور، وكذلك رأي حمزة. <ثمّ ملك> بهرام بن يزدجرد بن بهرام جور. لم أجد من ذكر مدّته غير الكسرويّ، فقال: ستّ وعشرون سنة وشهر واحد. <ثمّ ملك> فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور؛ (184) رأي بهرام: سبع عشرة سنة؛ الكسرويّ: تسع وعشرون سنة؛ حمزة: سبع وعشرون سنة. <ثمّ ملك> بلاش بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور؛ رأي بهرام: أربع سنين؛ الكسرويّ وحمزة: ثلاث سنين. <ثمّ ملك> قباد بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور؛ رأي بهرام الموبد: أحد وأربعون سنة؛ الكسرويّ: ثمان وستّون سنة؛ حمزة: ثلاث وأربعون سنة. <ثمّ ملك> كسرى أنوشروان بن قباد بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور برأي بهرام الموبد ثمان وأربعون سنة؛ برأي الكسرويّ سبعة وأربعون <سنة> وسبعة أشهر؛ رأي حمزة: سبع وأربعون سنة وسبعة أشهر. <ثمّ ملك> هرمز بن أنوشروان بن قباد بن فيروز برأي بهرام اثنتي عشر سنة؛ برأي الكسرويّ ثلاث وعشرون سنة؛ برأي حمزة إحدى عشر سنة وسبعة أشهر وعشر أيّام. <ثمّ ملك> كسرى أبرويز بن هرمز بن أنوشروان ثمان وثلاثون سنة بالاتّفاق. <ثمّ ملك> كسرى قباد بن أبرويز ابن هرمز بن أنوشروان ثمان شهور بالاتّفاق. <ثمّ ملك> أردشير بن شيرويه. الملقب كوجك؛ رأي بهرام: سبع سنين ونصف؛ الكسرويّ

ذكر نبذ من أخبارهم

وحمزة: سنة واحدة. شهربراز، ويلقب حرمان، لم يذكره بهرام ولا حمزة. وقال الكسرويّ: ثمانية وعشرون يوما. <ثمّ ملكت> بوران بنت كسرى فيروز برأي بهرام سنة وأربع شهور؛ الكسرويّ وحمزة: سنة وأيّام. <ثمّ ملك> حشنشبنده؛ رأي بهرام: أيّام؛ <رأي> الكسرويّ وحمزة: شهران. <ثمّ ملك> خسره، ويلقب كوتاه، برأي الكسرويّ فقط عشرة أشهر. <ثمّ ملك> كسرى فيروز؛ رأي الكسرويّ: فقط شهرين. <ثمّ ملكت> ارزميدخت بنت كسرى أبرويز؛ رأي بهرام: ستّة أشهر؛ <رأي> الكسرويّ أربعة أشهر؛ حمزة: سنة وأربعة أشهر. <ثمّ ملك> فروخ بن خسره، <و> يلقّب الطفل، برأي بهرام سنة واحدة؛ رأي الكسرويّ وحمزة: شهر واحد. <ثمّ ملك> يزدجرد بن شهريار بن أبرويز بن هرمز عشرون سنة؛ متّفق عليه. وهو آخر ملوك فارس، الذي افتحت الإسلام بلاد فارس في أيّامه، والله أعلم. ذكر نبذ من أخبارهم وبعد أن ذكرنا أسماءهم ومددهم فلنتبع ذلك بشيء من طرف

أخبارهم ونبذ (185) من تذكارهم، ممّا انتقيته من تاريخ حمزة الإصفهانيّ، صاحب تاريخ إصفهان، وشيء من تاريخ الكسرويّ وألّفت بينهما كلام مختصر يتلوا بعضه بعضا، ما يليق بهذا المكان، وبالله المستعان. هؤلاء الملوك المذكورون هم الطبقة الرابعة من ملوك فارس، وهم الساسانيّة. فأوّلهم أردشير بن بابك، حسبما تقدّم. ولمّا ملك، تغلّب أوّلا على إصطخر. وتقوّى بملك إصطخر على جماعة من ملوك فارس، وذلك أنّه نظر أوّلا في أمور الملك، فرأى كثرة عدد من حوله من الملوك وضيق رقعتهم وقلّة خطرهم وثقل مؤنهم وكلفهم على رعاياهم، مع اتّفاقهم على دين واحد. وهؤلاء هم ملوك الطوائف الذين ذكرناهم. فعلم أردشير أنّه لم يجمعهم دين واحد إلاّ بألفة سابقة. فأنكر الخلاف العارض في ممالكهم، وسأل العلماء بحضرته عن ذلك، فعرّفوه أنّ أسلاف ملوكهم ما زال منتظما على سلطان واحد تجتمع الرعايا على طاعته وتنتهي إلى مواسمه، إلى أن انتهى الملك إلى دارا بن دارا، فوافق من رعيّته نفارا عنه وكراهة لدولته. وصادفه خروج الإسكندر الروميّ، وناصبه الحرب، فغدر بدارا خاصّته، فكان من حديث الإسكندر ما تقدّم. فعلم أردشير عند سماعه هذا الكلام أنّه لا سبيل إلى بسط العدل في الرعايا وضبطهم بفنون السياسة حتّى يكون ملكهم واحد، فيكون هو المؤلّف بينهم والباعث لأهوائهم على ما فيه صلاح شؤونهم. فأعمل فكرته فيما يعتمد،

واتّفقت مساعدة من الأقدار، فلم يزل يدأب حتّى أذلّ وأزال ملوك الطوائف عن مملكتهم، واستبدّ بمفرده واستولى عليها، وقتل جميع ملوك الطوائف، وكانوا تسعين ملكا. ومكث في الحروب ثلاثين سنة. وذكر أنّه وجد على نبط العراق ملكا يقال له: أزدوان، وعلى نبط الشام ملكا يقال له: بابا، وكلّ واحد منهما يقاتل (186) صاحبه على ملكه. فتوافقا على حرب أردشير. فكان أردشير يقاتل بابا يوما، وأزدوان يوما. فكان يقوى على أزدوان ويضعف عن بابا يوما. فرأى من المصلحة مصالحة بابا ليكفّ عنه. فصالحه وتفرغ لأزدوان. فلم يلبث إلاّ يسيرا حتّى قتله واستولى على ما كان بيده. فعندها بايعه بابا، فسمع له وأطاع. فضبط أردشير الملك، وقهر من كان مناوئا له، حتّى عمل برعاياه على ما أراد. وبنى أردشير عدّة مدن، منها أردشير حره، وهي مدينة قوم. ورايا دونه أردشير، وهذا اسم لمدينتين بالعراق وكرمان. فالتي بالعراق هي أحد المدن السبع على غربيّ دجلة، وقد عرّب اسمها. فقيل: بهرشير. والتي بكرمان عرّب اسمها على وضع آخر، فقيل: بردشير وبهرسير،

وهي على شاطئ دجلة بأرض ميسان، ويسميها البصريّون: فرات ميسان. وأما داردشير فهي مدينة على شاطئ دجلة تسمّى كرخ ميسان، وأرام هرمز أردشير، وهي إحدى مدن طبرستان، وهي مزاردشير وهو اسم لمدينتين اختطّها وسمّى كلّ واحدة منها باسم مركّب من اسمه واسم الله تعالى. وأمّا الواحدة فغلب عليها من الأسماء: حان واحمن، وإذا عرّب ذلك قيل: سوق الأهواز. و <أمّا> الأخرى فغلب عليها اسم آخر، فقيل: نهرشير، وأخربها العرب لمّا وردوا خوزستان ونود وأردشير، وهو أحد مدن الموصل. وبنى أردشير أيضا مدينة سمّاها: بني، لأنّ أردشير بنى سورها على جثث أهلها، فإنّهم عصوا أمره، فجعل سورها سافا بناء من لبن وسافا جثثا. وبنى مدن أخر يطول شرحها، فاختصرتها. وأمّا هرمز، وهو الملك الثالث، فكان شبيها بجدّه أردشير في الصورة والقدّ. وهو ابن شابور، وسيأتي ذكر أبيه شابور في موضعه، إن

شاء الله تعالى. وكان هرمز كامل الصورة، ضعيف الرأي ولا أصيلا، وأمّه هي المشهرة بكردراد. وأمّا ولده بهرام فهو الذي ظفر بماني، داعية الزنادقة بعد استتاره وهربه سنتين. فجمع عليه العلماء حتّى ناظروه وألزموه (187) الحجّة على رؤوس الملأ، ثمّ أمر به فقتل، وسلخ جلده، وحشاه تبنا، وعلّق على أحدى الأبواب جندي شابور. وأمّا بهرام جور فسيأتي لمعا من أخباره في موضعه، إن شاء الله. وأمّا بهرام بن بهرام جور، ويقال له: بهرام <بن> بهرامان، وكان ملقّبا بسكار شاه. والسبب في هذا اللقب وما يجري مجراه، أنّ الملك من ملوك فارس، كان إذا ولى عهد أحد بنيه أو أخوته، لقّبه شيئا يعرف به، فيدعى بذلك اللقب طول حياته في مدّة ولاية أبيه كان أو أخيه. فإذا عاد الملك إليه سمّي حينئذ: شاهنشاه. وعلى هذا أجري أمر بهرام الملقّب بكرمان شاه. وكان أنوشروان يلقّب في حياة أبيه بفرشحاد شاه، وهو الملك

على طبرستان. لأنّ بفرا اسم للجبل، وسحار اسم للسهل، وكرا اسم للتّلال والهضاب، وشكار اسم لسجستان؛ فركّب من هذه الأسماء ألقاب بعض الملوك. وكذلك كلّ من تلى منهم مكانا في حياة الملوك في ذلك الوقت، تركّب من اسم ذلك المكان الذي يليه، ويضاف إليه اسم شاه، فيستقرّ ذلك. وأمّا شابور بن هرمز، تاسع الملوك، فهو ذو الأكتاف. سمّي بذلك لأنّه لمّا غزا العرب فكان يثقب أكتافهم ويجمع بين كتفي شخصين بحلقة ثمّ يتركهما. فسمّته العرب: ذو الأكتاف، والفرس تسميّة شابور هو سا، وهو اسم الكتف بالفارسيّ. وذكر أنّ أباه مات وهو جنين، فعقد التاج على بطن أمّه. ومن أخباره أنّه دخل إلى بلاد الروم متنكّرا وحضر بعض كنائسهم، فعرفوه وأسروه. وقد ذكر قصّته ابن ظفر في كتابه المسمّى بسلوان المطاع، فتركته لكونه مشهور في أيدي الناس. ومدّة ملكه اثنان وأربعون سنة باتّفاق الجماعة، منها تكون سنة كان مقيما فيها بجندي شابور من أوّل بلاده، ثمّ تحول إلى المدائن، فأقام بها بقيّة عمره.

وقيل: إنّه لمّا ظفر بملك الروم ألزمه أن يعيد جميع ما أخربه من الطين واللّبن وبالجصّ والآجرّ. لا جرم أنّ سور مدينة جندي شابور بعضه بالآجر والجصّ وبعضه بالطين واللبن. (188) وفي زمانه كان ادرياد الذي أذيب النحاس على صدره. وبنى عدّة مدن، منها برزخ شابور وإيوان حرة شابور وهي في السوس. وبنى مدينة أخرى إلى جانبها. وإنّ إحدى هتين المدينتين خرج أهلها عن أمره فأرسل الفيلة حتّى داسها، وجاء بسبي من الروم فأنزلهم بها. وأمّا أردشير بن هرمز، وهو عاشر الملوك، فإنّه ملك أربع سنين، متّفقا عليه، حتّى أدرك ابن أخيه شابور وخرج عن حدّ الطفوليّة، وسيأتي خبره بعد ذلك، إن شاء الله تعالى. قال موسى بن عيسى الكسرويّ: إن هذا الذي عقد التاج على بطن أمّه. وليس كذلك، بل أبيه شابور. وأمّا بهرام بن شابور، وهو الثاني عشر من ملوكهم، فإنّه كان ملتهيا بنفسه، ولم يقرأ شيء من أحوالهم في طول أيّامه ولا نظر في مظلمة ولا

قرأ قصة. ولمّا مات وجدت الكتب الواردة عليه من الكور بختومها، لم تفضّ. وأمّا يزدجرد ولده، الثالث عشر، فإنّ الكسرويّ تفرّد بذكره. ووصل غيره يزدجرد الأثيم، وهو الرابع عشر، ببهرام. قال الكسرويّ: أمّا القول في ملوك بني ساسان، فلعلها لإهمال النّقلة، ولعلّهم أتوا في ذلك من أجل تشابه الأسماء. فمن ذلك يزدجرد الأثيم، فإنّه كان ذا سياسة مرضية وأمانة وديانة. وبلغ من وفائه وأمانته أنّ أحد الملوك من الروم في زمانه حضرته الوفاة وله ابن صغير، فأوصى إلى هذا-يزدجرد الأثيم-أن ينفذ إليه من رجال مملكته خليفة يقوم بأمر الملك إلى حين صلاح ولده، ففعل ذلك، وردّ ملك أبوه على ذلك اليتيم بعد صلاحه، فسمّي يزدجرد الأثيم. وأمّا يزدجرد بن يزدجرد، وهو الرابع عشر عند الكسرويّ، والثالث عشر عند غيره. وكان كثير الظّلم والعسف. وأمّا ابنه بهرام جور فكانت له آثار عظيمة في الهند والترك والروم، وسيأتي ذكره ونبذ من أخباره في موضعه، إن شاء الله تعالى. وكان قد أمر الناس أنّهم لا يستمرّون في أشغالهم وعمل صنائعهم إلاّ إلى نصف النهار، ثمّ يبطلون. ونها أنهم لا يشربون بغير طرب.

(189) وأمّا يزدجرد بن بهرام جور-على رأي الكسرويّ، وقال غيره فيروز بن يزدجرد-فقد بنى بأرض الهند، مدينة وسمّاها: رام فيروز، وأخرى سمّاها: روشن فيروز، وبنى أخرى بناحية جرجان، وأخرى بناحية أذربيجان، وابتنى حائطا وراء النهرين. وأمّا ولده بلاش بن فيروز، فمن آثاره مدينتان، بنى أحدهما بساباط المدائن، وسمّاها: بلاش بابروي، والأخرى بجانب حلوان، وسمّاها: بلاشقر. وأمّا قباد بن فيروز، ويعرف بالزّنديق، ويسمّى: سك راي، وتولّى مرّتين. أمّا أوّل مرّة فمكث فيها سنتين، وهرب لمّا خلع، عندما خلط في الدين. ولأجل ذلك سمّي زنديقا. وملك أخوه مدّة ثمّ أعيد قباد، فملك بقيّة المدّة التي تقدّم ذكرها أوّلا. وكان جاماسف بن فيروز متقدّما في صناعة النّجوم من الأحكام، وله في ذلك كتاب تقدّم فيه الأخبار عن أحوال كثير من الملوك والأنبياء، لكنّ أهل التاريخ أسقطوا اسمه لأنّ ولايته في مدّة فتنة مزدك، فأدرجوها في مدّة ملك أخيه قباد.

وبنى قباد مدن عدّة منها مدينة بين حلوان وشهرزور، وهي إيران شاد كواذ، وأخرى بين جزجان وإيرشهر، لم أقف على اسمها. وأمّا ولده أنوشروان كسرى، ويسمّى: الملك العادل، فإنّه سار أحسن السّير وأعدلها. وبنى عدّة مدن، منها مدينة دخلت في أعداد المدن السبع، وهي المسمّاة رومية المدائن، واسمها بالفارسية: أيدنوا حسره، ومعنى ذلك الاسم إذا عرّب: خير من أنطاكية. وأمّا كسرى أبرويز بن هرمز فإنّه حصل في داره ثلاثة آلاف حرّة واثنا عشر ألف أمة برسم الخدمة وأصناف الملاهي. وكان على حرسه ستّة آلاف رجل، وفي إصطبله ثمان آلاف وخمس مائة دابّة برسم ركابه لنفسه، سوى ما للخاصّة والحشم، وتسع مائة وخمسون فيلا، واثني عشر ألف بغل لحمل الأثقال، وعشرين ألفا من البخاني. وسخط على النّعمان بن المنذر فاقتلعه من البادية ورمى به تحت

أرجل الفيلة، واستباح أمواله وأهله وولده، وأمر أن يباعوا بأوكس الأثمان. (190) وفي زمانه بعث سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وكتب بادان، وهو عامل أبرويز على العرب، إلى أبرويز يقول له: إنّه قد نجم بجبال تهامة داعية خفيّ أمره، قليل أشياعه، يزعم أنّه نبيّ، وبربرته العرب، ونصبت له الحرب، إلاّ اليسير ممّن أجابه وتبعه. فكتب إليه كسرى أبرويز: اذهب إليه واتني برأسه. وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، علم بذلك، فكتب إلى بادان، أن «اعلم أنّ الله ربّي وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا وكذا». فتربّص بادان حتّى ينظر ما يكون من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فقتل أبرويز في الوقت الذي عيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ قتله ولده قباد. وكان أبرويز يلقّب بالملك العزيز. وأمّا قباد، ولقبه شيرويه، فإنّه بعد أن قتل أباه أبرويز أحسّ من إخوته نبوّ عنه، فقتل ثمانية عشر أخا كانوا له، وعدّة من أبنائهم. فلا جرم اضطّروا عند فقد الرجال مع قصر مدّة شيرويه. فإنّه قيل: لم يعش بعد قتل أبيه إلى ستّة أشهر حتّى ملّكوا ولده أردشير بن شيرويه <و> كان طفلا، ولقبه كجك أو كوجك. ولمّا بلغ شهريزان، صاحب ثغر المغرب، أنّهم ملّكوا صبيّا أقبل حتّى دخل عليه داره فقتله. وتملّك-على زعم موسى بن عيسى الكسرويّ

-هذا شهريزان، بعد قتل الصبيّ شهرا وثمانية أيّام؛ ويسمّى جرهان. قال ابن قتيبة: ملك جرهان اثني وعشرون يوما، ثمّ قتلته المرة وتملّكت بعده. فإنّهم اضطرّوا إلى تمليك النساء لعدم النسل من الرجال، لأجل ما أفاهم شيرويه. وهذه بوران دخت بنت أبرويز، وتلقّب بالسّعيدة، وأمّها مريم بنت هرقل ملك الروم، وهي التي ردّت خشبة الصليب على الجاثليق. ووصل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم، خبر تلك بوران، فقال: «لن يفلح قوم تملكهم امرأة». ثمّ ملك بعد بوران هذه حشنشبنده، وبعض الناس تسمّيه: فيروز حشنشبنده، وليس (191) من عنصر الملك. وملك بعد خسره، على ما زعم الكسرويّ أيضا، ولقّب كوتاه. ويقال: هو خسره بن قباد بن هرمز بن أنوشروان. قال ابن قتيبة: هو خسره بن قباد، ولد بأرض التّرك، ومدّة ملكه ثلاث شهور. ثمّ تولى الملك فيروز بن بهرام حسيس المسمّى حرشده. عدّه

الكسرويّ وأسقط غيره. ووصل ولاية بوران بنت كسرى أبرويز إلى حشنشبنده، ولا فصل بينهما. ثمّ تولى الطفل الملقب فروخ خسره. وقال بعض المؤرّخين: إنّه تولّى يوما واحدا. ثمّ تولّى بعده يزدجرد بن شهريار بن كسرى أبرويز، ويلقّب بالملك الأخير. وكان قد خلص من القتل على يد مرضعته، أخفته من شيرويه واحتالت له حتّى أخرجته من المدائن، وسيّرته إلى بعض الأطراف حتّى كبر. ولمّا تولّى لم يزل في حروب متوالية إلى أن قتل بمرو في أيّام خلافة الإمام عثمان بن عفّان، رضي الله عنه، سنة إحدى وثلاثين من الهجرة. ولمّا انتقل يزدجرد من العراق، بعد أن أقام بالمدائن ثمان سنين على الضعف، أخرج ما قدر عليه من الذخائر مع نسائه وولده وحشمه. فكان فيمن أخرج معه ألف طبّاخ وألف حوسيان وألف فهّاد وبازيار. وخرج معه خرداد بن حرهر، أخو رستم صاحب القادسيّة، حتّى أورده إصفهان ثمّ كرمان ثمّ مرو،. وسلّمه إلى ماهويه، مرزبان مرو. وركب إليه، وكتب عليه سجلاّ بتسلّمه الملك منه. ورجع خرداد إلى أذربيجان.

وإنّ ملك الهياطلة قصد حرب يزدجرد فمالأه ماهويه على قتله. فأولاد ماهويه إلى اليوم يسمّون بمرو ونواحيها: خداه كشان، لذلك. وقال بهرام الموبد: إنّ الطبقة الرابعة من الملوك من بني ساسان ثمانية وعشرين ملكا، وإنّ مدّتهم أربع مائة سنة وستّ وخمسون سنة وشهران غير أيّام، وذلك خارج عن ثلاثين سنة كانت مدّة حرب أردشير مع ملوك الطوائف. فتكون (192) جميع المدّة من بداية التناسل من عهد كيمورث-على زعمهم أنّه آدم أبو البشر-وإلى آخر الملوك الساسانيّة، وهي الطبقة الرابعة حسبما سقناه: أربعة آلاف سنة وأربع مائة سنة وعشرة سنين تنقص شهرين وعشرة أيّام، ملك فيها ستّة وستّون ملكا-هذا رأي بهرام الموبد. وقال موسى بن عيسى الكسرويّ: إنّي بحثت عن تاريخ ملوك الفرس الذين تملّكوا بعد الإسكندر، وهم الأشغانيّة والساسانيّة، وقابلت ذلك بتاريخ الإسكندر، وهو تاريخ صحيح مضبوط. وقد صحّ أنّ أوّل المحرّم سنة إحدى للهجرة، وكان موافقا لخامس عشر تمّوز سنة ثلاث وثلاثين وسبع مائة لذي القرنين. فزدت على ذلك لما بين ابتداء الهجرة وانقضاء دولتهم بهلاك يزدجرد ملكهم، أربع سنين، فبلغ ذلك تسع مائة وثلاثة

وسبعون سنة، تقصر قريبا من شهرين ونصف. وإنّي خطّطت عن ذلك لمدّة ملك الأشغانين مائتين وستّ وستّين سنة. فبقي مقدار ملك ملوك بني ساسان من أوّل ملك أردشير بن بابك إلى آخر هلاك يزدجرد سبع مائة سنة وسبع وستّين سنة إلاّ شهرين ونصف. هذه حكاية كلام الكسرويّ، نقله عن حمزة. وهذا كلام كما يرى من الفساد والخبط، وهذا تفاوت كبير بين قول بهرام الموبد وبين قول الكسرويّ على قول حمزة الإصفهانيّ. فإنّه يقول: جميع ملوك الفرس ستّون ملكا في مدّة أربعة آلاف سنة واثنين وسبعين سنة إلاّ أحد وأربعين يوما، منها بني ساسان أربع مائة سنة وثمانون سنة تنقص لأربعين يوما. قلت: وهذا تفاوت كبير واختلاف بيّن، والله أعلم بالصواب. وقد انتهى ما اخترته من كلام الإصفهانيّ والكسرويّ. وقد وقفت على نبذ لطاف لابن ظفر، صاحب كتاب: نجباء الأبناء وسلوان المطاع، تختصّ بهؤلاء الملوك، والزبد من (193) سيرهم، من طريق الاختصار. وزعم الفرس أنّ أردشير بن بابك-وهو أوّل ملوك هذه الطبقة الأخيرة، وهي الطبقة الرابعة من ملوكهم، حسبما سقّناه بعون الله تعالى- لمّا قهر ملوك الطوائف وجمع كلمة الفرس على سبيل واحد ومدّ أسباب

المصالح وحسم أطماع الأعداء، مرض مرضا شديدا، فجزع لمرضه خاصّته ورعيّته. فبينا هو نائم إذ سمع ضجّة عظيمة قد طبّقت الجوّ، فسأل عن ذلك، فقيل له: هذه ضجّة رعيّة الملك، اجتمعوا يدعون له بالسلامة وتعجيل العافية. فأمر بإحضار موبدان موبد، وهو حافظ دين حفظة الدين، وإحضار الموابدة، وهم حفظة الدين، وإحضار الهرامزة، وهم خلفاء الموابدة، وإحضار الاصفهيد، وهو حافظ عدّة الجيش، وهو أمير الأمراء، وإحضار المرازبة، وهم قوّام الثّغور وأمراء الجيوش، الواحد منهم مرزبان، وهم يكونون أربعة، كانوا لا يفارقون حضرة الملك، وهم خلفاء من قبلهم على الجيوش في أطراف إقليم بابل من جهاته الأربع، يحرسون الممالك من الأمم المجاورة لها. فلمّا حضروا أدخلوا على الملك أردشير في مجلسه، وقد سدل بينه وبينهم حجاب. وقام المتكلّم عن أردشير، فقال لهم: إنّكم من الملك بمرأى ومسمع. وإنّه سمع ضجّة فسأل عنها، فأخبر أنّها أصوات رعيّته، تدعو الله له. <فسأل>: أفحقّ هذا؟ فقال موبدان موبد: حقّ ما قيل للملك شاهان شاه، وإن نفوس رعيّته لتسمح بأموالها وأولادها فدية له، و <هو> أهل ذلك ومستحقّه منها.

فتكلّم أردشير بصوت ضعيف خافت، فشكر الله تعالى على ذلك، ثمّ قال: إنّ الانحلال والدثور لمحرّمتان على عالم التركيب، وإن نهلك فبعد أن أعدنا الملك الذي كان غرب إلى مشرقه، والدين الذي كان هرم إلى شبابه؛ ثمّ هذا ولدنا شابور قد علمنا عناية مقبض (194) العقل منه وقوّة إمداده له، وإن شئتم فاختبروه-وكان شابور إذ ذاك ابن ثمان سنين- وسكت أردشير. فنكّس القوم رؤوسهم وصمتوا. فقال أردشير: ليقل الموبدان موبد بالصّدق الذي هو أهله. فقال الموبدان موبد: قد علم شاهان شاه، وكلّنا له الفداء، أنّ جماعة من المتغلّبين، قد كانوا ركبوا الأسرّة وحملوا التّيجان، ونظروا بالنّفع والضّرّ، ونطقوا بالحياة والموت، ثمّ تركوا ذلك كلّه، لا لزهد فيه، ولكن لأنّ شاهان شاه اضطرّهم إلى تركه، وتيجانهم بعد في خزائنهم، وأسرّتهم في مجالسهم، وسيوفهم على عواتقهم، وأعوانهم نصب أعينهم. ولسنا نأمن إذا علموا أنّ هذه المملكة التي هي لمالك الأقاليم كالواسطة

للعقد وقد صارت إلى صبيّ، أن ينيبوا على أسرّتهم ويضعوا تيجانهم على رؤوسهم، والخصم حاضر، والكلم يدمى، والعهد بالشباب قريب، فيعود الملك على غروبه، والدّين إلى هرمه. ومع هذا، فعبيد شاهان شاه مفوّضون إلى اختياره وراضون بحكمه. فقال أردشير: ليحضر ولدنا شابور. فأحضر شابور في محفّة من العود الرّطب مصفّحة بالذهب. فوضعت المحفّة بباب المجلس. ومثل شابور قائما على قدميه. ثمّ سجد في المحفّة، ثمّ قام فخرج منها، فخطا خطوة واحدة وثبت مكانه. فرفع الحجاب عن أردشير وأمر شابور بالدخول. فسجد ثمّ قام فاقترب من سرير والده، وقال أردشير مخاطبا لموبد موبدان: أيّها الفاضل المخصوص من الربّ بحفظ الدين الذي هو قوام العالم، اذكر لولدنا شابور ما ذكرته لنا. فأعاد موبدان موبد كلامه. ثمّ قال أردشير: ليجب ولدنا شابور لما سمع، بما عنده فيه. فقال شابور: لشاهان شاه المدح الخالد خلود النهار والليل، بعد حمد الربّ المخصوص بالعبادة، (195) ليعطى شاهان شاه عمر كيومرث،

ويملّكه ممالكه. أمّا إذا أذن في الإجابة، فليعلم الحاضرون من حفظة الدين وحفظ الملك، أنّ رعيّة الملك مريدون تقوى عقله لا تقوى أعضائه، ومحروسون بمضاء جنانه لا بمضاء سيفه، ومثمرون بعظم همّته ولطافة فطنته وكرم سجيّته، لا بضخامة جسمه وتقدّم مولده. ومن كان جزءا من شاهان شاه أردشير فحسبه؛ ثمّ سكت. فقال أردشير: بل أنت أيّها الولد كلّ نفوسنا، لا جزء منها. فخرّ الحاضورن وشابور سجّدا. ولم يبق من الجماعة إلاّ من اعترف بفضله وإصطلاحه للملك. فبذلوا المواثيق من أنفسهم على الانقياد له. قلت: قد تقدّم تفسير موبدان موبد ومن يليه من أرباب دولة الفرس، وبقي قول شابور داعيا لأبيه، أعطاه الربّ عمر كيومرث وكلشاه، وقد تقدّم الكلام أنّ كيومرث هو أوّل ملوك الطبقة الأولى من الفرس. ومعنى كلشاه: ملك الطير، يريدون أنّه ملك الأرض كلّها. ويزعمون أنّه عمّر ألف سنة وخمس مائة سنة، والله أعلم.

وزعم الفرس أنّ شابور ذا الأكتاف، لمّا هلك ترك ابنه شابور بن شابور صغيرا. واختلف مدبّروا ملكه في من يملّكونه. فمال قوم إلى أن يملّكوا شابور بن شابور هذا، لما يرجونه من أخذه سنّة آبائه. ومال الأكثرون إلى أن ملّكوا عليهم أردشير بن هرمز لكفايته، وقالوا: إنّا قد بلونا طمع من يجاورنا من الملوك والأعراب في بلادنا، حين ولّينا شابور جنينا، فلا يعود يملك علينا من لا كفاية له. وغلبوا على الأمر، فولّوا أردشير بن هرمز. ولمّا بلغ شابور بن شابور أنّهم عدلوا عنه بالملك لصغر سنّة، قال أربع كلمات في أربع أوقات شتّى، فحفظن منه. الأولى أنّه قال: ليس من العدل أن يدفع الولد من ميراث أبيه. الثانية أنّه قال: ما عذر قوم ورّثوا الجنين وحرموا الوليد. (196) يعني أنّهم ملّكوا والده وهو جنين في بطن أمّه، وعقدوا التاج على بطنها، وصرفوا عنه الملك، وهو موجود مولود. الثالثة أنّه قال: لو علم رعيّتنا أنّ الملك كالنّار، لا يمنعها صغرها من عظم التأثير، لما اجترؤوا علينا. الرابعة أنّه قال: إن عاد إلينا حقّنا

يوما، لأذقنا رعيّتنا المعتدين علينا من حلاوة العفو وبرد الإحسان أضعاف ما أذاقونا من مرارة البغي وحرّ الإساءة، أخذا بالفضل وشكرا للربّ. فملك أردشير بن هرمز أربع سنين ثمّ هلك. فعطفوا على شابور بن شابور فملّكوه. ولم يردّهم عنه صغر سنّة لما كان نمي إليهم عنه من الخصائص الكرام. فأوسعهم صفحا وعدلا وطولا، ولم تطل أيّامه. وممّا حفظ عنه حين ملّكوه، أنّه حمد الله على صنعه له، وردّ حقّه إليه. ثمّ قال: إن كان لكم عندنا قضاء بالحقّ وأخذا بالعدل وقولا بالصدق ونظرا بالعطف وسماعا بالحلم وسياسة بالحزم، فإنّا نستثيب بحمد الله من أقلع عن الإساءة ثواب المحسنين، فأحسنوا بنا الظنّ في يومنا، واصرفوا إلينا الأمر في غدنا، وأديموا الرغبة إلى الربّ في معونتنا على طاعته فيكم، والسلام. تزعم الفرس أنّه لمّا ولد يزدجرد بن بهرام الأكبر ولده بهرام جور، أخبره منجّموه بقوّة ميلاده وسعادة جدّه وعظم شأنه ومصير الملك إليه. وأنّه نشى غريبا بين أمّة ذات همم عالية وأحساب زاكية، وأنّه تناول ملكه

من بين ظهرانيهم. فأجال يزدجرد فكرته في الأمم المجاورة له والنائية عنه، فوقع اختياره على العرب. فاستدعى النّعمان بن امرئ القيس اللّخميّ فأحسن إليه وملّكه على العرب وسلّم إليه ولده بهرام جور وجعل إليه حضانته وأمره أن يسير به إلى بلاده. فانطلق به النّعمان بعد أن اختار له أربع (197) نسوة ذوات أعراق سنيّة، وأبدان زكيّة، وألوان وضيّة، وأخلاق رضيّة، وأذهان ذكيّة، ونفوس أ؟؟؟، امرأتين من العرب وامرأتين من الفرس وأحسنّ القيام عليهنّ، فارضعنه أربع سنين، ثمّ فصلنه. فلمّا استكمل خمس سنين قال للنّعمان: أحضرني من يصلح منّي بأدبه وعلمه. فقال النّعمان: يا بنيّ، أنت صغير السنّ عن ذلك، وإذا بلغت من السنّ ما تطيق فيه المعلّم أحضرتك من يتولّى ذلك منك. فقال له بهرام: أنا-كما قلت-صغير السنّ، ولكنّ عقلي عقل محنّك. أما تعلم أيّها الرجل أنّ كلّما يتقدّم في طلبه قبل وقته، ينال في وقته؟ وما يطلب في وقته ينال في غير وقته؟ وما يفرّط في طلبه يفوت، فما ينال؟ وإنّي لولد

الملك، والملك بإذن الله صائر إليّ. وأولى ما طلبه الملوك صالح العمل <فإنّه> لأزين لهم ولملكهم وبه يقؤون، فعجّل عليّ بمطلوبي منك، أيّها الرجل البارّ. قال: هذا حكيته عن بهرام جور عن ابن ظفر. وقال ابن ظفر: إنّه أثبتها في كتابه من المقالة التي أودعها محمّد بن جرير الطبريّ في كتابه، ونقلها عنها بإسناد صحيح من روايته. والقصد بذكر هذا براءة العهد، إذ كانت النفوس تأبى أكثرها تصديق هذا الحكم إلى ابن خمس سنين، ولن ينكر ذلك من وقف على خصّيصى عقول الملوك ومن طبعه الله على الرئاسة وفطره على سموّ الهمّة وأهّله لسياسة الخلق، فهو بما ذكرناه جدير. وقال: ولمّا سمع النّعمان مقالته، بعث من فوره إلى يزدجرد يسأله أن يرسل إليه رهطا من فقهاء الفرس وحكمائهم ومعلّمي خطّهم، ففعل. وضمّ إليه أولي أدب من حكماء العرب، وألزمه رجلا من عقلاء العرب ودهاتهم، يقال له: حلس، وكان بصيرا بأيّام العرب ووقائعها. ورتّب لكلّ طائفة من أهل تعليمه وقتا من النهار يفيدونه فيه ما عندهم، وأمرهم بالجدّ فيما يراد

<ذكر الخبر الأول عن بهرام جور>

منهم. فصادفوا منه لقنا فطنا متأنّيا (198) لما يريدونه منه. فلمّا بلغ من العمر اثنتي عشرة سنة استفاد جميع ما عند معلّميه كلّهم وفاقهم وأربى عليهم، حتّى اعترفوا بفضله وتقدّمه في علومهم. فأثابهم النّعمان وصرفهم عنه إلاّ حلسا، فإنّه ألزمه إيّاه لما كان اجتمع فيه من أشتات المعارف. وأرسل النّعمان إلى يزدجرد يسأله أن يبعث إليه رجالا يعلّمونه الفروسيّة والرّماية وما يحتاج إليه <في> المحاربة، ففعل. وأفادوا بهرام ما عندهم من ذلك في ثلاثة أعوام. ثمّ قدم به النّعمان على أبيه وقد برعت خصاله، وله من السنّ خمسة عشر عاما. وهو أوّل من أخذ الملك بقوّة البدن وشجاعة النفس، وله من ذلك كلام مطوّل يقوم بجزء من الكتب، فأضربت عنه. لكن نظرت إلى خبرين عجيبين أثبتوها له أرباب التاريخ. فمن شغفي بهما أثبتهما أيضا في هذا التاريخ، إذ الشرط أن نحن لا نذكر في هذا الكتاب إلاّ السمين دون الغثّ. <ذكر الخبر الأوّل عن بهرام جور> الأوّل: أنّه لمّا استقرّ الملك له وأقرّ عيون رعيّته بلطف سيرته وحسن نظره وبركة سياسته وعموم رأفته، احتجب عنهم ووسّط بينه وبينهم أفضل وزرائه، ولبث بذلك برهة حتّى ألفت الرّعيّة احتجابه، ثمّ خرج عن بلاده

متنكّرا، ودخل بلاد الهند وطوّف في ممالكها، ونقّب عن همم ملوكها. وبينا هو في حضرة فيروز، عظيم أراكنة الهند، وقد دهمه عدوّ له، كان يواصل غزوه، حتّى بلغ في هضمه في أن يسلبه ملكه. فاضطرب فيروز لمقدمه، وظهر الجور عليه، ولم يجد بدّا من الاستعداد له والبروز إليه، لمدافعته. فقصد بهرام باب الملك فيروز، واستأذن عليه فأذن له. فلمّا وقف بين يديه جعل فيروز يتأمّله، فرأى صورة جميلة وقامة مديدة ومنظرا بهيّا. فقرّبه وسأل عن نفسه، فزعم له بهرام أنّه إسوار من أساورة الفرس، أحدث في بلاده حدثا فخاف ملكه، فهرب منه. وسأله (199) فيروز عمّا يريد، فأخبره أنّه يريد أن يكون في جملة أتباعه، وأخبره أنّ عنده من الكفاية والغنى ما لا يكاد يوجد عند غيره. وقال له فيما خاطبه به: أيّها الملك، ليصغر عندك خطب عدوّك هذا، وقلّدني حربة أكفك أمره بقوّة الله، عزّ وجلّ. فدخلت فيروز له هيبة، وأحضر رؤساء جنده، فأمرهم بطاعته والتّدبير بأمره في تلك الحروب. ولمّا غشيهم العدوّ خرحوا إليه، فصفّهم بهرام وقال لهم: لست أريد منكم إلاّ حماية ظهري، وأن تتقدّموا إذا رأيتم العدوّ وقد تأخّروا عن مصافّهم، فتقدّموا أنتم بمقدار تأخّرهم، وإذا رأيتموهم قد شوّشوا وتزلزلوا

فاحملوا عليهم جميعا. ثمّ تقدّم بهرام فارسا دارعا متقلّدا سيفا وبيده قوس. وكانت الهند لا تحسن الرماية وأكثرهم رجالة. فحمل عليهم حملة قتل فيها جماعة منهم، ثمّ فرّ، واتّبعه جماعة من فرسانهم، فجعل يرميهم وهو مدبر، فلا يسقط له سهم إلاّ في رجل منهم، فينفذ السّهم منه. فارتدّوا عنه وكرّ عليهم. ففعل بهم أشدّ من فعلته الأولى وقد أدهشهم. فجعل يضرب الرجل فيقطعه نصفين، ويقتلع الفارس فيذبحه بالسيف على قربوس سرجه، ثمّ يضرب به فارسا آخر فيرديه عن فرسه وربّما قتله. فلمّا أثخن فيهم اتّبعوه ففرّ منهم وقتل من تبعه منهم بسهامه. ثمّ كرّ عليهم فخالطهم وجعل يتناول الرجلين منهم بيديه ويضرب أحدهما بالآخر فيقتلهما، ثمّ يضرب بهما الصفّ، فذعروا منه وتصايحوا بينهم: هرميد هرميد، يعني اسم السّلطان بلغتهم، ونكصوا على أعقابهم، وتشوّشت صفوفهم عن مصافّهم. فلمّا رأى ذلك فيروز، أمر جيوشه بالحملة، فحملوا بأسرهم. فانهزم عدوّهم واستباحوه، ولم ينج منهم إلاّ القليل. ولمّا عاد فيروز إلى دار ملكه قرير العين بما تهيّأ له من الظّفر،

(200) أحضر بهرام فأجلسه معه على سريره وأطعمه بيده من ورق التّنبل وسقاه بيده كأسا، وقال له: احتكم، فإنّك لا تسألني شيئا إلا أعطيتك إيّاه. فقال بهرام: إنّي أريد أيّها الملك أن تعطيني بعض بلادك إقطاعا. وذكر له بلدين، وهما: الدّيبل ومكران. فأنعم له بذلك فيروز، وكتب له بهما كتابا أشهد فيه على نفسه. ولبث بهرام بعد ذلك عنده أيّاما حتّى أنس به. ثمّ تسلّل فعاد إلى ملكه، وبعث إليه فيروز بهديّة ولا يعلمه أنّه كان ذلك. فأنفذ إليه بهرام كتاب الإقطاع مع رسوله. فلمّا انتهى الرسول إلى فيروز ووقف على باطن القصّة، قال: بحقّ وعدل حكم الربّ لشاهان شاه في ملك أبيه، وأمضى له الإقطاع، وأكرم رسوله، وبعث إليه بكتاب عنوانه: إلى شاهان شاه، ابرار شهر شاه بهرام، من أخيه المعترف بفضله، ملك الحكمة، فيروز. وأصحب رسله هديّة عظيمة الشأن. وكان بعد ذلك ينفذ إليه في كلّ عام خراج الدّيبل ومكران. أمّا قوله: شاهان شاه أي ملك الملوك؛ وقوله: ابرار شهر شاه أي جبّار الجبابرة. وفي بعض لغتهم أيضا: شهر شاه أي ملك السباع، والله أعلم.

ذكر الخبر الثاني عن بهرام جور

ذكر الخبر الثاني عن بهرام جور ما ذكر أنّ خافان ملك التّرك ذكرت عنده قوّة بهرام جور وشجاعته، فحسده حسدا شديدا. وكان لخاقان وزيران، فذكر ذلك لأفضلهما، وسأله التّدبير في هلاك بهرام جور غيلة. فقال له الوزير: إن كتم الملك هذا عن كلّ أحد بلغت له مراده فيه. فوعده كتمانه. ثمّ لبث مدّة وسأل الوزير عمّا منعه، فماطله مدّة أخرى. فلمّا رأى الوزير أنّ خاقان غير مقلع عن مطالبته بذلك، قال له: أيّها الملك، ما لي حيلة فيما كلّفتنيه، وإنّما علّلتك بالتّسويف رجاء أن يزول من نفسك. فإذا لم يكن قد زال فاندب إليه غيري. فغضب (201) خاقان عليه، وأحضر وزيره الآخر، فأطلعه على الأمر-وكانت فيه شره-فتكفّل لخاقان بما أراد منه، وندب له فاتكا من فتّاك التّرك لا مثل له عندهم في قوّة النفس والبدن، وضمن له إن ظفر ببهرام ورجع سالما أن يقدّمه على الجيوش، وإن هلك دون ذلك أن يشرّف ولده تشريفا يبقى على الدّهر. فضمن له الفاتك ما أحبّ منه من الفتك ببهرام. وأعطاه مالا كثيرا وجهّزه. فاستصحب ذلك الفاتك أخاه وانطلقا حتّى أتيا إلى حضرة بهرام. فاتّجه للفاتك من الحيلة أن يظهر أنّه عبدا لأخيه، ويبيعه أخوه من بعض خدم بهرام. فلم يزل أخوه يتلطّف إلى أن أباعه من حافظ قصر الملك

بهرام، الموكّل بحراسته ليلا. فجعل ذلك الفاتك يتحبّب إلى مشتريه بنصح الخدمة واحتمال المشقّة وحفظ المال حتّى نفق عنده واختصّ به. ثمّ إنّ الحافظ لقصر بهرام تخلّف عن الحراسة لمرض ناله، فأمر الفاتك بانتيابه عنه. وكانت خزائن سلاح بهرام العامّة الخارجة عن قصره بأزاء القصر. فألقى فيها الفاتك النار، ونيط بالحرّاس عن المبادرة إلى إطفائها، حتّى اشتدّ عملها في الخزائن، فارتفعت الضجّة. فخرج بهرام على فرس له، ولا سلاح معه. فدنا منه الفاتك ومعه خنجر قد سقي سمّا قد أخفاه، فرآه بهرام في ضوء النار، فتفرّس فيه الشرّ. فجمع نفسه على ظهر الفرس ثمّ وثب. فإذا هو على الفاتك والفاتك تحته صريعا، فضمّه ضمّة فاستسلم وأظهر الخنجر من بين أثوابه. فانتزعه منه بهرام، وجمع يديه جميعا في يده ليسرى، وانطلق به يقوده حتّى أدخله القصر. فخلّى عنه، وسأله عن أمره، فصدقه الحديث. فقال بهرام: أمّا أنت، فلك ذمّتنا على نفسك أن تكفّ عنّا ونحسن إليك، إذ كنت فيما قصدته طالبا لمرضاة ملك حرّضك على ذلك، وهو مالك عنقك. (202) فلم يكن لك إلاّ قضاء

حقّه وطاعته، ونحن نشحّ على نفسك إذ يسمح بها ملكك، ونحفظ منها ما أضاعه، ولنا أرب في حبسك مكرّما مدّة، ثمّ نطلقك ونحسن إليك، فادللنا على أخيك ليكون معك. فدلّه عليه. فأرسل من أتا به، فسجنهما معا في قصره، وأمرهما أن لا يتفوّها بشيء من أمرهما، وإن نطقا به فقد أحلاّ دمهما وبرئت ذمّته منهما. وكان قد رفع إليه بعض عيونه أنّ رجلا من أهل الخراج، له بنت لم يسمع بامرأة تشبهها في حسن الخلق وعظيم الخصائص: طولها ستّة أذرع، وشعرها ينسحب على مواطئ قدمها، وكأنّما كسى جلدها قشور الدّرّ، متناسبة الخلق، بديعة التركيب، دقيقة التّخليط، لا يستطيع من نظر إلى عضو من أعضائها أن يصرف نظره عنه، إلاّ بمجاهدة النفس؛ إذا قابلت عيناها عيني ذي لبّ اضطرب قلبه اضطرابا شديدا، فلا يسكن حتّى يضمّها إلى صدره ويرشف من ريقها، أو تحتجب عنه؛ إذا وجد المحزون ريحها ذهل عن حزنه. فشرهت نفس بهرام إليها.

ثمّ إنّه أقنع نفسه بالأنفة، وتنزّه أن تكون عنده ابنة رجل من رعيّته قد عرفها الناس. فصرف نفسه عنها، ونهى أن تذكر له، ومنع أبيها من إنكاحها، وأمره بحفظها حتّى إذا حدث على بهرام من خاقان ما ذكرنا. فأرسل إلى ذلك العامل، فأمره أن يضيّق على والد تلك الجارية في المطالبة بالخراج ويحمله منه ما لا يطيق، ويضطرّه إلى بيع ابنته-وهذا شيء تفعله أهل الخراج من عامّة الفرس، يبيعون أولادهم ويؤدّوا ما عليهم من الخراج، وصارت لهم بذلك سنّة وعادة. قال ابن ظفر: ولقد حدّثني من أثق به أنّه رأى رجلا هنديّا ينهى؟؟؟ <دوابّه> راجلا يحمل ابنه على كتفه إلى السوق، فباعه من رجل يبيع الأرزّ. فأنزل الصبيّ عن كتفه، فسلّمه إلى ذلك الرجل وشرا بثمنه أرزّا واحتمله على دوابّ وذهب ليؤتي خراجه. ولم يبال الأب (203) بفراق الابن، ولا الابن بفراق الأب، وكأنّما كان على أبيه صخرة على كتفه، فألقاها وذهب.

والمقصود من هذه الحكاية، ذكر ما كان من الرجل وابنه من قلّة الاكتراث بالأمر، وإلاّ، فبيعهم أولادهم ما لا خفاء به. ثمّ إنّ بهرام أحضر رجلا من بطانته، كان داهية مفكرا خبيثا لطيف الحيلة. فندبه للمكيدة بخاقان، وفتح له باب المكر به، وأعطاه من الذهب والفضّة ونفائس ذخائر الملوك ما ظنّ أنّه سيحتاج إلى مثلها. وأمره أن يتزيّا بزيّ التّجّار وينطلق إلى والد الجارية فيشتريها منه، ويستعين بها على ما ندبه له، على ما سنذكره بعد ذلك. فانطلق الرجل فاشترى الجارية من أبيها بوزنها ذهبا، ثمّ قصد بها بلاد الترك، حتّى انتهى إلى حضرة خاقان. واعتمد ذلك الوزير الذي كان تولّى المكيدة وضمن لخاقان ما أراده من هلاك بهرام. فخصّه بالهدايا وتنفّق عنده بالتّحف، ولازمه إلى أن خفّ على قلبه واشتدّ أنسه به. فمكث عنده عاما، فمازحه ممازحة لطيفة، ثمّ قال له يوما: إنّي أحببت الوزير حبّا ما أحببته أحدا قطّ، ولي عام أنازع نفسي في إتحافه

بتحفة لم يظفر بمثلها أحد قطّ. فكانت نفسي تغلبني وتدعوني إلى الاستئثار بها. فلمّا غلبت أهوائي وانقادت نفسي إلى إيثارك، قصدت أطالع علم الوزير بذلك. فسأله الوزير عن ذلك. فوصف له الجارية. فما تمالك أن سمع وصفها إلى أن أمر بتعجيل إحضارها. فأحضره إيّاها. فلمّا وقع بصره عليها، لم يملك نفسه أن وثب إليها فعانقها وقبّلها ورشفها. ثمّ أقبل على سيّدها، فقال له: احتكم. فقال له: حكمي مودّتك والحظوة عندك. فقال الوزير: هذا مبذول لك، ذلك مع هذا من المال ما شئت. قال: لا حاجة لي في المال. وانطلق من فوره فلقي بعض خدم خاقان-وقد كان تقرّب إليه أيضا قبل ذلك بنفائس الهدايا-فذكر له أنّ عنده (204) نصيحة يخاف فوات الفرصة فيها. فاستأذن له على خاقان. فلمّا مثل بين يديه، سأله عن نصيحته، فقال: إنّي قصدت الملك بتحفة لا تصلح إلاّ له. فعرضتها على الوزير ليوصلها إلى الملك، فتعدّى واستأثر بها، وبذل لي مالا عظيما على كتمان ذلك، فلم أقبله. فسأله عن التّحفة ما هي، فأخبره بأمر الجارية، ووصفها له. فأرسل خاقان رجالا من ثقاته وأمرهم بالهجوم على الوزير، وحفظ الحال الذي يشاهدونه والإتّيان به وبالجارية محجوبة. فعادوا إلى خاقان

بالوزير وبالجارية، وأخبروه أنّهم وجدوها مجرّدة بين يديه وهو يتأمّلها. فسأل الجارية، هل نال منها شيئا؟ فقالت: عانقني وضمّني وقبّلني ورشفني وجرّدني فتأمّلني. فأمر بالوزير فقلعت عيناه وقطع لسانه وشفتاه ويداه. وخلا خاقان بالجارية وقد شغف بها. فسألها: أبكر أنت أم ثيّب؟ فقالت: بكر عذراء. فلم يملك نفسه أن افتضّها مكانه. ولمّا نزع عنها، انتزعت قناعا نفيسا كان على رأسها، فمسحت به الملك. فأحسّ بذكره تنمّلا. ثمّ ابتدأ فيه نفخة وتغيّر لونه. فبادر إلى موسى فخمّ ذكره خوفا على نفسه، ولتحقّقه أنّه مسموم. وأمر بالجارية فنحت عنه. وأحضر من عالجه وداواه. فطلب مولى الجارية أشدّ الطلب، فلم يعلم له خبرا. ثمّ إنّه أحضر الجارية فسألها عن نفسها وبلدها، فصدقته. وسألها عن مولاها، فلم تعرفه. غير أنّها ذكرت أنّه تاجر اشتراها من أبيها بوزنها ذهبا.

وسألها عن القناع الذي مسحته به، فذكرت له أنّ مولاها كساها إيّاه، وأنّه ذكر لها قبل ذلك أنّها تصير إلى الملك، وأنّ الملوك إذا غشي أحدهم المرأة، فعليها-من خدمتها له-أن تمسح ذكره بقناع رأسها مكرّمة له. فمتى لم تفعل ذلك فقد تعرّضت لسخط الملك. فعلم خاقان أنّ الجارية مخدوعة (205) وأن لا ذنب لها، مع ما خامره من الإعجاب بها، فاستبقاها، وخفي عنه الوجه الذي دهي منه. ولمّا رجع صاحب بهرام وأعلمه بما تمّ له من الكيد على خاقان، أحضر بهرام ذلك الفاتك التركيّ وأخاه وأحسن إليهما وسرّحهما إلى خاقان، وأصحبهما كتابا إليه قال فيه: إنّ الحسد والبغي أورداه وأوردا وزيره-وزير السّوء-بوارد النّدم؛ وقد كنّا قبل ذلك-أيّها الملك-ننزلك منازل الأخوّة؛ فلمّا علمنا سوء رأيك فينا وخبث نيّتك لنا، حسدا منك لنا من غير جرم سبق منّا إليك، أردنا بك ما أردته بنا، فقضى الله لنا عليك بنجاح سعينا وخيبة سعيك، لمّا اطّلع الله تعالى على فساد نيّتك وصلاح نيّتنا. وقد كان وزيرك الصالح قضى حقّك ونظر لك نظرا، حجبك الحسد والبغي عن تأمّل صلاحه. وإذا بقّى الله على نفسك فلسنا نعرض لك بسوء

<ذكر شابور ذي الأكتاف>

ما ألزمت حسن النظر لنفسك بمسالمتنا، والسلام. فلمّا انتهى إليه الكتاب عرف وجه الأمر، فتنجّز وتجهّز لغزو الفرس وجمع من الجيوش ما لم يجتمع مثله لملك. وبلغ ذلك بهرام، فانتخب له ذوي البأس والنجدة من الفرس، فلقيه بهم. فلم تغن عن خاقان جيوشه، وفضحه بهرام واستباح عسكره. وهذا كان سبب حرب التّرك للفرس، والله أعلم. قلت: قد تقدّم الكلام في أنّ الفرس ملّكوا شابور، ذو الأكتاف، وهو في بطن أمّه. ولم نشرح الحال في ذلك. فاقتضى الحال أن نذكر من ذلك طرفا منه يردّ تشوّق النفس عن مطلوبها لذلك. <ذكر شابور ذي الأكتاف> زعم الفرس أنّ شابور، ذا الأكتاف، عزي إليه الملك وهو في بطن أمّه جنينا. وذلك أنّ أباه هرمز كان حسن السيرة فيهم، عدل القضيّة بينهم، متحنّنا عليهم. فلمّا هلك ولم يخلّف ولدا ينهض بأمور الملك، شقّ عليهم ذلك. فدخل على نسائه موبدان موبد، فقال: هل تحسّ منكم امرأة بحمل؟ فذكرت إحداهنّ أنّها تحسّ حملا. فقال لها: إنّ المرأة تفطن

(206) لكون جنينها ذكرا أو أنثى. فقالت المرأة: إنّي أرى من نضارة لوني، وخفّة حملي، وقوّة حركة الجنين في بطني، وميله إلى شقّي الأيمن ما يدلّني على أنّه ذكر. فبشّر موبدان موبد أهل المملكة بذلك وأحضر التّاج، فعقده على بطن أمّه-تلك المرأة الحامل-وأخذ على الرعيّة مواثيق الطاعة لجنينها، وجعلوا ينتظرون ما يكون منها، إلى أن ولدت ذكرا سويّ البنية، جميل الصورة مفحم الخلق، تامّ القامة، فسمّي شابور. فجدّد له عقد الطاعة، وأخذ الوزراء في تدبير المملكة وتنفيذ الأمور وسدّ الثغور. واحتذوا أمثال سيرة هرمز، إلاّ أنّ أمرهم ضعف، لعدم تدبير الرأس الضابط. وطمع في مملكتهم من جاورهم من الأمم، وعادوا ينتقصونهم من أطرافهم. وافتتحت الأعراب ما يلي بلادهم منها، فعاثوا، ولم يكن عند الوزراء دفع ذلك. ولمّا بلغ شابور من السنين ستّ سنين نام

نهارا، فأيقظه ضجّة الناس. فقال لمن حضره من خدمه: ما هذه الضجّة؟ فقيل له: هذه أصوات الناس على الجسر، يستوقف بعضهم بعضا لكثرتهم وازدحامهم، ويضجّ المقبل منهم بالمدبر. فقال شابور: أيّ شيء يدعوا إلى تكلّفهم هذه المشقّة؟ ليعقد لهم جسرا آخر، يكون أحد الجسرين للذاهبين والآخر للجائين. فنما ذلك إلى أهل المملكة، فعظم سرورهم به، وتباشروا بجودة فطنته لمصلحة رعيّته، ورأفته <بها>. وكان الوزراء بعد ذلك يعرضوا عليه بعض الأمور ليندرج في السياسة، ويتدرّب على النّظر للرّعيّة. ومن عجيب ما حكي عنه، أنّ رجلا من الأساورة غضب لأمر ناله، فضمّ إلى نفسه جماعة من الفسّاد، فكان يقطع بهم السّبل. وطلب أشدّ طلب، فلم يظفر به. ثمّ إنّه أتا مستسلما، فعرضت على شابور قصّته.

فقال: يعفى عنه ويحسن إليه. فقيل له: إنّا لو قتلناه ليزدجر من يتشرّف إلى مثل (207) فعله من المفسدين. فقال: بئس الرأي هذا؛ إنّ الجاني إذا يئس من العفو أصرّ على الجناية، وإذا طمع في العفو أسرع المراجعة. وقال يوما لخواصّه من حواضنه: إذا كنتنّ عندي فلا تنظر إحداكنّ إلى الأخرى، ولا تتحدّث معها إلاّ فيما أمرتنّ به من مراعاة أحوالي والمساررة بحضرتي ما دمتنّ بين يديّ. وذكر أنّ موبدان موبد دخل إليه يوما، فقال له: أيّها الملك، عشت الدهر وملكت الأقاليم السبعة. إنّ العقل عقلان: عقل مولود وعقل مستفاد. وإنّ الربّ قد أفاض على الملك المولود من العقل ما لا أفاضه على غيره. والعقل المستفاد إنّما ينال بصحبة الحكماء، وإنّ الموسومين بخدمة الملك من الفلاسفة شكوا إعراضا وسآمة من الملك. فقال شابور: الحمد لواهب العقل المولود، وأمّا السآمة فلم تكن منّا، وأمّا الإعراض

فإنّهم قصّروا لنا في بعض المحاضرة بحكم السنّ، فنبّهناهم على غلطهم ببعض الإعراض. ولذلك ظنّوا سآمتنا، ولسنا لها. فسجد موبدان موبد وخرج من عنده. فأمر أن يكتب في هيكل الحكمة: إنّ الملوك متميّزة بعقولها وأخلاقها عن مشاكلة من سواها من الناس. فمن نصحها بغير ما يلائمها وقصّر عن توفيتها ما يجب لأقدارها، عطب. قيل: ولم يزل أهل مملكته يتعرّفون منه سموّ الهمّة، ولطف الفطنة، وسعة الصّدر، واستنباط المصالح، واعتماد العدل، إلى أن بلغ سنّة ستّة عشر سنة. فأمر أن ينتخب له ألف فارس من الأساورة، ذوي القوّة والنّجدة والبأس، وأن تزاح عللهم، وتبسط آمالهم. فامتثل أمره. فجعلهم خاصّته. وخرج في عشرة آلاف من جيوشه إلى الأعراب الذين كانوا أعاثوا في أطراف مملكته، فأوقع بهم، فنال منهم، وأوغل في آثارهم طلبا، وغوّر مياههم وخلع أكتافهم، فسمّي: ذو الأكتاف. ولم يتعرّض لشيء من

أموالهم وسلبهم. ثمّ (208) نازعته نفسه إلى دخول أرض الروم متنكّرا، ليرا قوّتهم، ويطّلع على عورات ثغورهم، ويخبر كنه هممهم، لما كان يؤمّله من غزوهم. فأمر من كان معه من الأساورة والجيوش بالرجوع إلى أرضهم، واستصحب وزيرا كان أفضل وزرائه، فدخل معه أرض الروم متنكّرا. وقد ذكر خبره ابن ظفر في كتابه المسمّى بسلوان المطاع، ما يغني عن استيعاب جملته ها هنا، وذكر مسيره إلى بلاد الروم وتطوافه، وقبض ملك الروم عليه، بدلالة المتفرّسين، وسجنه في تمثال بقرة، وخروج ملك الروم بجيوشه إلى بلاد فارس وشابور معه مسجونا في ذلك التمثال، وما دبّره وزير شابور في صحبته لوزير ملك الروم، وما جرى بينهما من المحاورات، وسعيه في خلاصه، وعوده إلى بلاد ملكه، وتدبيره في القبض على قيصر ملك الروم وظفره به، واستبقائه إيّاه، وأخذه بصلاح جميع ما أفسده من بلاده. وهذه الواقعة أيضا أثبتّها بجملتها في كتابي المسمّى بأعيان الأمثال وأمثال الأعيان في المحاضرة الملوكيّة، إذ هو مشتمل على اثنتي عشر محاضرة. وهو كتاب نفيس، يحتوي على زبد أخبار العالم، ألّفته قبل وضعي لهذا التاريخ. فلذلك لم أذكر في هذا التاريخ شيء ممّا أثبتّه في ذلك الكتاب، حفظا منّا لبهجة مطالع ذلك الكتاب، وتوقّيا لما أودعنا فيه في كلّ فصل وباب.

ذكر ملوك البطالسة، وهم اليونانيون

ذكر ملوك البطالسة، وهم اليونانيّون فأوّلهم بطليموس بن ناريب. كان خليفة الإسكندر، أقام في الملك أربعون سنة، على رأي الجماعة. ثمّ ملك بطليموس بن لعوس محبّ الأب ثمان وثلاثون سنة. ثمّ ملك لطليموس الصّانع ستّة وعشرون سنة. ثمّ ملك بطليموس محبّ الأب الثاني سبع عشرة سنة. ثمّ ملك بطليموس، صاحب علم النّجوم، أربع وعشرون سنة. ثمّ ملك (209) بطليموس محبّ الأب الثالث خمسة وثمانون سنة. ثمّ ملك بطليموس الصانع الثاني سبع وعشرون سنة. ثمّ ملك بطليموس المخلص سبع عشرة سنة. ثمّ ملك بطليموس الإسكندريّ عشرون سنة. ثمّ ملك بطليموس الحديديّ ثمانين سنة. ثمّ ملك بطليموس الحربال ثمانون سنة. ثمّ ملك بطليموس الخبيث

ثلاثون سنة. ثمّ ملكت قلوقطرا اثنان وعشرون، فهو آخر الملوك اليونانيّون بعد الإسكندر. وكان اليونانيّون يؤرخوا من وقت خروج يونان بن يوش عن أرض بابل إلى المغرب. فبقوا على ذلك الزمان الطويل حتّى ظهر الإسكندر وغلب على الملوك وتقدّم على أهل زمانه، فعادوا يؤرّخوا من أوّل السنة السابعة والعشرين من عمره، وهي أوّل السابعة من ملكه، حين خرج من بلاد مقدونيه، وهي المسمّاة: مدينة الحكماء. ومات وله من العمر اثنان وثلاثون سنة، واستمرّ تاريخه. قال أبو معشر المنجّم في كتاب الألوف: إنّ فيلبس أحد ملوك يونان -وكان ينزل مقدونيه-جعل اليونانيّون أوّل سني ملكه تاريخا للروم كلّها. والروم تفصل سني فيلبس ثلاثة أقسام: فمن أوّل سنة منها إلى تمام مائتين وأربع وتسعين سنة يسمّونها: سني اليونان. لأنّ اليونانيّين كانوا ملوكهم، وكانوا اثني عشر ملكا، أوّلهم فيلبس ويتلوه الإسكندر، وبعد الإسكندر تسعة ملوك، يلقّب كلّ واحد منهم: بطليموس. وهذا الاسم مشتقّ من الحرب. ويمتاز كلّ واحد منهم عن أصحابه باسم آخر، حسبما سقناه قبل هذا الكلام. وانتهى الملك بعد التاسع إلى امرأة يقال لها: قلوقطرا. وقد كان بعد هؤلاء الاثني عشر من العلماء وذوي الأقدار من

تسمّى ببطليموس، وإنّ لم يكن من الملوك. ومنهم بطليموس واضع المجسطي. وبعد ذلك بثلاثمائة سنة وثلاثة عشرة سنة يسمّونها سني أغسطس، لأنّه كانت أوّل ملوكهم. فتمّت المدّة بذلك ستّمائة سنة (210) وسبع سنين. ثمّ بعد ذلك إلى زماننا هذا، يسمّونه سنيّ دقلطيانوس، لأنّ الملك انتقل إليه وثبت في عقبه. هذا كلام أبو معشر. قلت: وهذا يكون فيه مخالفة لما ساقه حمزة الإصفهانيّ في تاريخه. فإنّ عددهم زاد عن التسعة، ولأنّ أحدهم هو صاحب علم النجوم على ما في كتاب حمزة. ونحن نعلم أنّ أصحاب النّجامة أقوم بالتاريخ، وهو واضع المجسطي، وقد كان حول الخمس من المائة والخامسة من تاريخ الإسكندر، وهذا هو الوقت الذي اعتمد عليه بطليموس من ذلك في ذكر أماكن الكواكب الثابتة. لكن ذكرت الملوك ومددهم كما وجدته في تاريخ حمزة. وقد يحتمل أن يكون بطليموس آخر عالم بأحكام النجوم، مع أنّ كثيرا من الناس يقولون: إنّ بطليموس صاحب المربّعة غير بطليموس صاحب المجسطي. ثمّ قالوا: إنّ بطليموس محبّ الأب غزا بني إسرائيل وسباهم، وبقيوا عنده مدّة، ثمّ أطلقهم وحباهم لبنة ذهب، وأمرهم بتعليقها في سقف البيت المقدّس. وكان ملك الشام في زمانه أرطاخوس، باني أنطاكية، وكان ينزلها. فقصد بطليموس هذا محبّ الأب، فهزمه. وأمّا بطليموس الصانع الثاني فإنّه تأهّب لغزو أنطاخوس، فاتّصل به

ذكر ملوك رومية، وهم المعروفون بالقياصرة

خبر موته فاستولى على الشام وصار ملك الشام لليونانيّين. وأمّا بطليموس محبّ الأب الثاني، وقيل: بل محبّ الأم، ففي أيّامه تأهّب الإسكندارس بطليموس لغزو الشام وارتجاع ملكه، فقتله اليونانيّون. <وأمّا> برلرقطرا المرأة فكان لها غراما بجمع الكتب التي للحكماء، مثل كتب أبقراط وأفلاطن وأرسطاطاليس وغيرهم. وكانت مولعة بحبّ الحكمة، والله أعلم. ذكر ملوك رومية، وهم المعروفون بالقياصرة هؤلاء ملوك رومية المعروفون بالقياصرة: فأوّلهم يوليوس؛ ملك سبع سنين. ثمّ ملك أغسطس قيصر ستّ وخمسون سنة. <ثمّ ملك> طادس قيصر اثنان وعشرون سنة. (211) ثمّ ملك طباوس عاسر قيصر أربع سنين. ثمّ ملك قلوديس قيصر أربع عشرة سنة. ثمّ ملك نيرون قيصر أربع وعشرون سنة. <ثمّ ملك> طاطس واستسيانوس القيصران ثلاث عشر سنة. ثمّ ملك دومطيانس قيصر خمس عشر سنة. <ثمّ ملك> طرايانس قيصر تسع عشر. ثمّ ملك أدريانس قيصر إحدى وعشرين سنة.

<ثمّ ملك> أنطونس قيصر ثلاث وعشرون سنة. ثمّ ملك مرقس قيصر تسع عشرة سنة. <ثمّ ملك> قومودس قيصر ثلاث عشر سنة. ثمّ ملك سويرس قيصر ثمان عشرة سنة. <ثمّ ملك> أنطونيوس قيصر سبع سنين. ثمّ ملك أنطونس الثاني قيصر أربع سنين، وفي زمنه كان جالينوس الحكيم. ثمّ ملك الإسكندر، وهو العاجز ثلاث سنين. <ثمّ ملك> مكس قيصر ستّ سنين، فيها خلاف. ثمّ ملك غرديانس قيصر ستّ سنين؛ متّفق عليه. <ثمّ ملك> فيلقس قيصر سنتان. ثمّ ملك دحيوس قيصر خمس عشرة سنة. <ثمّ ملك> غلس سنة واحدة. ثمّ ملك قلوديس قيصر ستّ سنين؛ محقّق. <ثمّ ملك> أوسبليس قيصر سبع سنين ونصف. ثمّ ملك ابروبس تسع عشرة سنة. <ثمّ ملك> دقلطيانوس قيصر خمس سنين. ثمّ ملك قرويقيس قيصر عشرون سنة. <ثمّ ملك> دقلطيانوس قيصر ثلاث سنين.

قال حمزة الإصفهانيّ: هؤلاء ملوك رومية. وقد كانت الروم غلبت على يونان بعد قلوقطرا المرأة، فملك قوم يقال لهم: بنو صوفر. وزعم اليهود أن صوفر هو ابن نصر بن عيصو بن إسحاق، والروم واليونان ينكرون ذلك. وقال حمزة: قد أخذت شيئا من تاريخ الروم مفصّلة عن رجل كان فرّاشا لأحمد بن عبد العزيزر بن دلف. وأصبت أيضا كتابا صنّفه بعض قضاة بغداد يسمّى: وكيع، أودعه من تواريخ الروم قطعة جيّدة إلى سنة إحدى وثلاثمائة هجريّة. قلت: وقد اخترت من بين هذين النّقلين ما أوردته من أسماء هؤلاء الملوك ومددهم، ولعلّه قريب من الصحيح. والعمدة في ذلك على ناقلها في الأصل. (212) وكذلك إن تصحّف علينا شيء من أسماء الملوك، فإنّ هذه أسماء أعجميّة، ونحن فقد نقلناها من كتاب حمزة، وأكثرها بغير نقط، فوضعناها على ما هي عليه. والتّصحيف، فقد دخل على الكبار من المحدّثين، وتصحّف عليهم حتّى في القرار العظيم، والحدث الكريم. فلا لوم على من تصحّف عليه اسم أعجميّ ليس له مجرى على ألسنة الرّواة. ولست أقول ذلك إلاّ لإقامة عذري فيه، وبالله المستعان. قال حمزة: ثمّ إنّ أغسطس، وهو ثاني ملوكهم، وهو الذي تسمّى قيصر في بداية الحال. ومعنى قيصر: شقّ عنه. وذلك أنّ أمّه توفّيت وهو

يتحرّك في بطنها، فشقّ بطنها وأخرج. ولمّا ملك غزا الإسكندريّة، ونقل ما احتوت عليه من مال وسلاح إلى رومية. وفي السنة الثانية والأربعين من ملكه ولد عيسى، عليه السلام. وأمّا طادس ففي أيّامه رفع عيسى، عليه السلام. ولبث في الملك بعد رفع المسيح ثلاث سنين. وأمّا قلوديس فإنّه أوّل ملك سنّ قتل النصارى من عبّاد الأصنام. وأما نيرون فإنّه قتل سمعون وبولص. وأمّا طاطالس وشريكه، فإنّ اليهود عصوهما، فغزيا البيت المقدّس. وأمّا دومطيانس، فلتسع سنين من حكمه نفى يوحنّا. وأمّا أدريانس، فإنّه أخرب ما كان بقي من البيت المقدّس. وأمّا ديقيوس فإنّه أخذ في قتل النّصارى، فأتى على خلق كثير منهم، ومنه هرب أصحاب الكهف. وفي أخبار النّصارى أن الله أنشرهم بعد موتهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين. وأمّا دقلطيانوس ومقسيميانس، فإنّهما كانا ينزلان مقمودية، وهي دون الخليج، على سير ميلا من القسطنطينيّة. وكانا يطلبان النصارى في بلاد الروم، ويأتيان عليهم قتلا وأسرا، والله أعلم.

ذكر ملوك القسطنطينية بحكم الاختلاف

ذكر ملوك القسطنطينيّة بحكم الاختلاف أمّا ملوك القسطنطينيّة على رواية حمزة عن أحمد بن عبد العزيز بن دلف، (213) فأوّلهم قسطنطين المظفّر، ابن هيلاني؛ ملك إحدى وثلاثون سنة. وعلى رأي وكيع البغداديّ قسطنطين بن هرقل <وملك> سبع عشرة سنة. ثمّ ملك قسطنطين بن قسطنطين؛ رأي حمزة: أربع وعشرين سنة. ورأي وكيع: هرقل بن هرقل، <وملك> عشرة سنين. ثمّ ملك على رأي حمزة بلينوس ابن أخي قسطنطين سنتان ونصف. وعلى رأي وكيع البغداديّ لاوي ويقال: اليون، ثلاث سنين. ثمّ ملك اوالس بن نوحالة؛ رأي حمزة: أربع عشرة سنة. رأي وكيع: طبارس ملك سبع سنين. ثمّ ملك تيدوسيس الأصغر، على رأي حمزة: اثنان وأربعون سنة، وعلى رأي وكيع اسطينوس، وهو معاصر عمر بن عبد العزيز، ستّ سنين.

ثمّ ملك لوفانس وامرأته <على> قول حمزة سبع سنين. قول وكيع البغداديّ: اسطانيوس، ستّ سنين. ثمّ ملك اليون الأكبر؛ قول حمزة: ست عشرة سنة. قول وكيع: تدوس، سنتين. ثمّ ملكت ابنة اليون الأكبر سنة واحدة <على> قول حمزة. قول وكيع: لاوي؛ وفي أيّامه كانت أوّل دولة بني العباس، أقام خمسة وعشرون سنة وثلاثة أشهر. ثمّ ملك رسدالاوهاي سبع عشرة سنة <على> قول حمزة. وقول وكيع: ليون بن قسطنطين <حكم> خمس سنين. ثم ملك نسطاس، وكان من أوسط الناس؛ على رأي حمزة: سبع وعشرون سنة. ورأي وكيع: قسطنطين بن لاوي، <ملك> عشر سنين إلاّ شهرين. ثمّ ملك لوطانس تسع سنين، رأي حمزة. ورأي وكيع: قسطنطين ستّ سنين وسبعة أشهر. ثم ملك لوطسيانس؛ رأي حمزة: تسع وثلاثون سنة. ورأي وكيع: أرينه التي أخذت

الملك من أبيها، <حكمت> خمس سنين. ثمّ ملك لوطينس ابن أخي لوطسيانس ثلاث عشر سنة برأي حمزة. ورأي وكيع: نقفور معاصر الرّشيد، <ملك> ثمان سنين. ثمّ ملك طبارينس أربع سنين؛ ورأي وكيع: استيراد بن نقفور شهرين. ثمّ ملك موريقس عشر سنين برأي حمزة. ورأي وكيع: ميخائيل بن برقيل سبع سنين وخمسة أشهر. ثمّ ملك فوقاس ثمان سنين <على> رأي حمزة. ورأي وكيع: برقيل بن ميخائيل اثنين وعشرين سنة-معاصر المأمون. ثم ملك (214) هرقل وابنه أحد وثلاثون سنة على رأي حمزة، ورأي وكيع: ميخائيل بن برقيل ثمان وعشرين سنة. قلت: وإلى ها هنا وقف الروايتين، فوقفنا عند ذلك. قال حمزة الإصفهانيّ: هؤلاء أوّل طبقة ملوك القسطنطينيّة، وأوّلهم قسطنطين ابن هيلاني، وقد تقدّم فيه الكلام قبل ذلك. وأمّا يوليانس ابن أخي قسطنطين، فإنّه فارق النصرانيّة وعاود عبادة

الأصنام. وغزا العراق في زمن شابور، فقتل بالعراق، وملّك شابور على الروم رجلا نصرانيّا يقال له: يونيانس، فردّ الروم إلى دينهم. وأمّا مندوسيس، فإنّه لعن نسطورس البطريق، أحد الأساقفة، وإليه تنسب النّسطوريّة من النّصارى. وأمّا ربيل فكان من بلاد الأرميناق، وكان يرى رأي اليعقوبيّة. وأمّا نسطاس فكان من أوسط الناس، وكان يرى رأي اليعقوبيّة أيضا. وبنى عدّة مدن، منها عمورية. ولمّا حفر أساسها وجد فيه مالا كثيرا، فوفى بالنّفقة على عمارتها وزاد، فبنى بالزيادة كنائس وديارات. وأمّا يوسطانس فهو بأني كنيسة الرّها، ذات البناء العجيب. وأمّا طباريس فإنّه عني بالقصور التي كان ينزلها ملوك الروم، فألبس بعضها ذهبا وبعضها فضّة. وأمّا موريقس فإنّ ملوك الفرس غلبته على عدّة مدن. وهو الذي أنجد كسرى أبرويز، وأخذته له الحميّة الملوكيّة، في خبر طويل. ثمّ إنّه اتّفق مع شهريزاد بعد ذلك، وكشف الفرس. وقام رجل يقال له: هرقل،

ذكر من ملك مصر من ملوك بعدما غرق الله تعالى فرعون

بعد هلك أبرويز. ثمّ كان ملك أردشير بن شيرويه. ثمّ وردت العرب الشام، فكان آخر عهد الروم به. قال حمزة: فكان مدّة هؤلاء الملوك ثلاثمائة وخمس وسبعون سنة ونصف سنة، ملك فيها سبعة عشر ملكا. فيكون قد ملك بعد الإسكندر إلى سنة الهجرة النبويّة ثمانية وخمسون ملكا من الروم، والله، عزّ وجلّ أعلم. ذكر من ملك مصر من ملوك بعدما غرّق الله تعالى فرعون (215) قال: حدّثنا عليّ بن الحسن، قال: ثنا عبد الرحمن. قال: ثنا عبد الله بن صالح عن ابن لهيعة عن بكر بن سوادة وبكر بن عمرو الخولانيّ، يرفعان الحديث إلى عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: لمّا غرّق الله تعالى فرعون وجنوده عادت نساء أهل مصر بغير أزواج، ولم

يكن تبقّى إلاّ العبيد والأجراء والأكّارين وسقّاط الناس. فلم تطق النّساء الصبر على الرجال، فعادت كلّ امرأة منهنّ تعتق عبدها وتتزوّج به. وكذلك أخذن الأجراء من الناس والسّوقة وما أشبه ذلك من سواد الناس. وأشرطوا عليهم أنّهم لا يتحدّثون في أمر من سائر الأمور إلاّ عن رأي النساء. وكان قد ملكتهم دلوكة ابنة زبّا. وكان ثمّ ساحرة يقال لها: قدورة، وكانت السّحرة تعظّمها وتقدّمها في علمهم وسحرهم. فبعثت إليها الملكة دلوكة بنت زبّا تقول لها: قد احتجنا إلى سحرك، وفزعنا إليك، ولا نأمن أن يطمع فينا الرجال من الملوك لأنّا نساء، فاعملي لنا شيئا نغلب به من قصدنا من الملوك المجاورة لنا، فقد كان فرعون يحتاج إليك، وقد ذهب أكابرنا وبقي أقلّنا. فامتثلت الساحرة أمر دلوكة، وعملت برباتين من حجارة، في وسط منف، وجعلت لها أربعة أوجه إلى الأربع نواحي. وصوّرت في كلّ وجه صور الخيل والبغال والحصير والإبل والسّفن والرجال، بطالع اختارته لذلك. ثمّ قالت: قد عملت لكم عملا يهلك به كلّمن أرادكم بسوء أو قصدكم من جميع هذه الأربع جهات التي لا نوتا إلى منها برّا وبحرا، وهذا ممّا يغنيكم عن الحرب ويقطع طمع من يقصدكم. فإنّهم إن كانوا في البرّ على خيل أو بغال أو سائر الدواب بأصنافها، أو سفن أو رجّالة من أيّ جهة

تحرّكوا من الجهات الأربع، فإنّ هذه الصّور تختلج. فما فعلتم أنتم في هذه الصّور صار بتلك الدّوابّ مثل ذلك. إن شئتم قطع أرجلهم أو قلع أعينهم أو فسادهم هلاكا، كان ذلك. (216) فلمّا بلغ الملوك المجاورة لمصر أنّ أمرهم صار إلى النساء، طمعوا فيهنّ وتوجّهوا إليهنّ. فلمّا دنوا من عمل مصر تحركت تلك الصور التي في البربا. فطفقوا لا يفعلون بتلك الصور شيئا من الشرّ، إلاّ وفعل بتلك الأقوام من الأعداء مثله. وانتشر ذلك عنهم وهابوهم الملوك، وقطعوا البأس والطمع منهم. وصار أمر مصر إلى النساء؛ وملكت دلوكة ابنة زبّا عشرون سنة، تدبّر أمور الناس أحسن تدبير، حتّى بلغ صبيّ من أبناء أكابرهم وأشرافهم، يقال له: دركون بن بلوطس، فملكهم أربعين سنة، ثمّ استخلف ولده بودريس بن دركون، فملكهم عشرين سنة. ثمّ استخلف أخاه. . . بن دركون، فلم يمكث إلاّ ثلاث سنين. وهلك ولم يترك ولدا. فاستخلف ابن أخيه. . . بن بودريش، فملكهم تسع عشرة سنة. ثمّ استخلف. . . بن مرينا فتجبّر وطغا وسفك الدم وأظهر الفاحشة، فأعظموا ذلك وأجمعوا على خلعه. فخلعوه وقتلوه بعد أن ملكهم إحدى عشر سنة. وبايعوا رجلا من أشرافهم يقال له: بلوطس بن مناكيل، فملكهم أربعين سنة، ثمّ هلك.

واستخلف ابنه. . . بن بلوطس، فملكهم خمس عشرة سنة، ثمّ هلك. واستخلف أخاه مناكيل بن بلوطس بن مناكيل، فملكهم مائة وعشرون سنة، ثمّ هلك. واستخلف ابنه. . . بن مناكيل، فملكهم مائة سنة وعشرة سنين، وهو الأعرج الذي سبا ملك بيت المقدّس، وقوم <به> إلى مصر. وقيل: بل اسمه نوله. وكان قد تمكّن في البلاد وبلغ مبلغا لم يبلغه أحدا ممّن كان قبله بعد فرعون. وطغا وتمرّد، فقتله الله تعالى: صرعته دابّته، فدقّت عنقه، فهلك. قيل: إنّ المخلوع الذي خلعته أهل مصر هو هذا نوله. وسبب ذلك أنّه دعا الوزراء والأكابر من أهل الدولة (217) ومن كان يجري عليه الملوك قبله الأرزاق والجوائز-وكأنّه استكثر ذلك-فقال: إنّي أريد <أن> أسألكم عن أشياء، إن أخبرتوني عنها زدت في أرزاقكم وكنتم لذلك مستحقّين، وإن لم تخبروني بها ضربت رقابكم، فإن لا فائدة، فبكم. فقالوا: ليسأل الملك عمّا شاء. فقال: أخبروني، ما يعمل الإله العظيم صاحب هذه البنية العظيمة في كلّ يوم؟ وكم عدد نجوم السماء؟ وكم مقدار دوران الشمس في كلّ يوم على التّحقيق؟ وماذا يستحقّ دوران الفلك على ابن آدم؟ فاستأجلوه، فأجّلهم شهرا. فكانوا يخرجون كلّ يوم إلى خارج المدينة، فيقفون على الطرقات ويسألون سائر من يلقونه، ثمّ يعودوا ولا بلغوا غرسا.

وكان صاحب قرموس ينظر في كلّ يوم إليهم، فأتاهم ذات يوم، فسألهم عن أمرهم، فأخبروه. فقال: عندي علم ذلك، فأجّلوني إلى غد. وكان للقرموسيّ ابنة ذات عقل وأدب. فلمّا أتا إليها أبوها عشيّة يومه، قصّ عليها ذلك وقال: إنّي وعدت القوم إلى غد، ثقة منّي بعقلك يا بنيّة. فقالت له: افعل كيت وكيت. فلمّا كان من الغد وجد القوم في انتظاره. فقال: طيبوا نفسا، فعندي ما تريدون، إلاّ أنّ لي قرموسا لا أسطتيع <أن> أعطّله. فليقعد رجل منكم يقد تنّوره وأنا أمضي معكم لقضي شغلكم. وألبسوني من أثوابكم <وأعطوني> دابّة من دوابّكم لمركوبي. ففعلوا ذلك. وكان في المدينة رجلا من أولاد ملوكهم قد ساءت حالته، فأتاه القرموسيّ، وسأله القيام بملك أبيه وطلبه. فقال: ليس بتهيّأ لي ذلك حتّى يخرج هذا من مدينة منف-يريد بقوله الملك نوله. فقال القرموسيّ: أنا أخرجه لك وجميع حاشيته. وجمع لذلك الفتى مالا من كبار الدولة. ثمّ أقبل القرموسيّ حتّى دخل على نوله الملك، فأخبره أنّ عنده علم ما يسأله عنه. فقال: أخبرني كم عدد نجوم السماء؟ فأخرج (218) القرموسيّ جرابا، كانت ابنته قد أمرته به، محشوّا رملا، فنشره بين يدي الملك، وقال: هذا بعدد نجوم السماء. وإن كنت تشكّ في ذلك فأمر من يعدّها ويقابل بينها. وكان حضوره بين يديه حين غربت الشمس، فقال

الملك: فكم مقدار دوران الشمس في كلّ يوم على التحقيق؟ قال: مقدار هذه الساعة من نهار الغد. قال: فماذا يصنع الإله العظيم في كلّ يوم؟ فقال: ليركب الملك وجميع حاشيته ونظهر إلى خارج مدينة منف حتّى أريك صنع الإله العظيم، وما يستحقّ دوران الفلك على ابن آدم. قال: فركب نوله الملك، ولم يزل بجميع خاصّته حتّى أوقفه القرموسيّ على قرموسه، وإحدى وزرائه يقد في تنّوره. فقال القرموسيّ: أيّها الملك، هذا صنع الإله العظيم، إنّ هذا أحد وزرائك بالأمس وها هو اليوم يقد قرموسي، وأنا صاحب القرموس عليّ ثيابه وراكب دابّته محادثا الملك. فهو في كلّ يوم يذلّ قوما ويعزّ قوما ويمت قوما ويحيي قوما. وأمّا ما يستحقّ دوران الفلك على ابن آدم، فإنّه قد دار عليك وعزلك عن ملكك، وملّك فلان بن فلان مكانك، وقد جلس على سرير ملكك وقد أغلق عليك باب مدينة منف. فرجع مبادرا، فإذا مدينة منف قد أغلقت. ووثبوا مع الغلام على نوله الملك حتّى خلعوه. فوسوس بعد ذلك نولة، وكان يقعد على طرق مدينة منف ويهذي. فلذلك إنّ القبط قولهم إذا كلّم أحدهم بما لا يريد، يقول: سنحتك من نوله، يريد: أي وسوستك كوسوسة نوله، فعاد مثلا. وقيل: بل تولّى الملك بعد نوله ولده مرنيوس بن نوله، فملكهم تسعين سنة ثمّ هلك. واستخلف ولده اينانس بن مرنيوس، فملكهم ستّين سنة ثمّ هلك. فاستخلف أخاه لغاس بن مرنيوس.

ذكر بخت نصر وسنة دخوله مصر وسبي بني إسرائيل

وكان كلما انخرب شيئا من البربا لن يجدون من يقوم بإصلاحه إلاّ تلك العجوز وولدها وولد ولدها. وكانوا أهل (219) بيت، لا يعرف ذلك غيرهم، فانقطعوا. وانهدم من البرباء موضعا في زمان ايناس بن مرنيوس، فلم يقدر أحدا على إصلاحه ومعرفة علمه. وانقطع ما كان يقهرون به الناس، واستقرّوا كغيرهم، إلاّ أنّ الجمع كثير والمال ياسر. ذكر بخت نصّر وسنة دخوله مصر وسبي بني إسرائيل قلت: ثمّ توفي لغاس بن مرنيوس واستخلف ابنه قومين بن لغاس، فملكهم ستّين سنة. فلمّا كان بختنصّر، ودخل بيت المقدّس، حسبما تقدّم من الكلام، قال: حدثنا عليّ بن الحسن بن خلف بن وزير، قال: ثنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الحكم، قال: ثنا. . . بن موسى وغيره عن ظهور بختنصّر على مصر، أنّه لمّا ظهر على بني إسرائيل وسباهم وخرج إلى أرض بابل، أقام إرميا على إيليا، ينوح ويبكي وهي خراب. فاجتمع إلى إرميا بقايا من بني إسرائيل، وكانوا متفرّقين، حتّى بلغهم مقامه بإيليا، فقال لهم إرميا:

أقيموا بنا في أرضنا، تستغفرون الله وتتوبون إليه، فلعلّه يتوب عليكم ويخلّصكم من ظفر عدوّكم البختنصّر. فقالوا: إنّا نخاف أن يسمع بنا بختنصّر فيبعث إلينا، ونحن في شرذمة قليلة. ولكنّا نذهب إلى ملك مصر فنستجير به وندخل في ذمّته. فقال إرميا: ذمّة الله خير وأوفى الذّمم لكم، ولكنّي أخافكم. فانطلقوا أولئك النفر من بني إسرائيل إلى قومين الملك يومئذ بمصر، فاعتصموا به، لما يعلمون من منعته، وشكوا إليه شأنهم. فقال: أنتم في ذمّتي. فأرسل إليه بختنصّر: إنّ لي قبلك عبيدا أبقوا منّي، فابعث بهم إليّ. فكتب إليه قومين: ما هم عبيدك، وهم أهل بيت النبوّة والكتاب وأبناء الأحرار؛ اعتديت عليهم وظلمتهم. فحلف بختنصّر: لأغزونّك ما لم تبعثهم والجا جميعا. وأوحى الله تعالى إلى إرميا: إنّي مظهر بختنصّر على ملك مصر الذي اتّخذوه حرزا لهم من دوني؛ وإنّهم لو أطاعوك وأمرك، ثمّ أطبقت عليهم السماء والأرض، لجعلت لهم مخرجا. وإنّي أقسم (220) بعزّتي، لأعلّمهم أنّهم ليس لهم محتصر ولا ملجأ إلاّ طاعتي واتّباع أمري. فلمّا سمع إرميا ذلك، رحمهم وبادر إليهم، فقال: إن لم تطيعوني أسركم بختنصّر وقتلكم؛ وآية ذلك أنّي رأيت موضع سريره الذي يضعه بعدما يظفر بمصر ويملكها. ثمّ قذف حجارة، قذفها من أربعة أركان، في المواضع التي يضع فيها بختنصّر سريره. وقال: ستقع كلّ قائمة من قوائم سريره على حجر منها. فاختلفوا عليه بني إسرائيل. فسار بختنصّر إلى قومين بن لغاس ملك مصر فقاتله سنة، ثمّ ظفّر

الله تعالى بختنصّر بمصر فقتل قومين. وقيل: بل اسمه قومس بن لغاس. وسبا جميع أهل مصر، وقتل من قتل. فلمّا أراد قتل من أسر من بني إسرائيل وأهل مصر، وضع له سرير في الموضع الذي وصف إرميا. ووضعت كلّ قائمة من سريره على حجر من تلك الحجارة التي دفنها إرميا. وقدم الأسارى، فأتا معهم إرميا. فقال له بختنصّر: ألا أراك مع أعدائي بعد أن أمّنتك وأكرمتك؟ فقال له إرميا: إنّما جئتهم وأخبرتهم خبرك؛ ومصداق قولي أنّي وضعت لهم علامة ذلك تحت سريرك، وهي أربعة حجارة دفنتها تحت أربع قوائم سريرك الذي أنت جالس عليه. فرفع سريره، فوجد ما قال إرميا حقّا. فقال بختنصّر لإرميا: لو نعلم أنّ فيهم خيرا لوهبتهم لك. ثمّ أمر بقتلهم، فقتلوا؛ وأخرب مدائن مصر وقراها وسبا جميع أهلها ولم يترك بها أحدا، حتّى بقيت أربعين سنة خرابا ليس فيها ساكن؛ يجري نيلها ويذهب ولا ينتفع به. فأقام إرميا بمصر، واتّخذ له بها زرعا يعيش به أربعين سنة. فأوحى الله إليه: إنّ لك عن الزرع والمقام بمصر شغلا، فكيف تشغلك أرض وأنت تعلم سخطي على قومك؟ فالحق بإيليا حتّى تبلّغ كتابي أجله. فخرج منها أرميا حتّى أتا (221) بيت المقدّس. ثمّ إنّ بختنصّر ردّ أهل مصر إليها بعد أربعين سنة، فعمّروها، فعادت مصر مقهورة بعد القهر. قال: حدّثنا عليّ بن الحسن، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن عبد الحكم وأبو الأسود، قالا: ثنا ابن لهيعة عن. . . عن عبد

الرحمن بن غنم الأشعريّ، أنّه قدم من الشام إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال له عبد الله بن عمرو: ما أقدمك على بلادي؟ قال: أنت. قال: لماذا؟ قال: كنت تحدّثنا أنّ مصر أسرع الأرضين خرابا؛ ثمّ أريك قد اتّخذت فيها الرّباع وبنيت فيها القصور واطمأننت فيها. قال: إنّ مصر قد أوفت خرابها: حطّمها بختنصّر فلم يدع فيها إلاّ السّباع والضّباع؛ وقد مضى فيها الخراب. فهي اليوم أطيب الأرضين ترابا، وأبعده خرابا؛ ولم يزل فيها بركة، ما دام في شيء بركة. قال: حدّثنا عليّ، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: وحدّثني اللّيث بن سعد، قال: يزعم بعض مشايخ أهل مصر أنّ الذي كان يعمل به لمصر على عهد ملوكها أنّهم كانوا يقرّون القرا في أيدي أهلها: كلّ قرية بكراء معلوم، لا ينقّص عليهم إلاّ في كلّ أربع سنين من أجل الظّمأ. فإذا مضت أربع سنين نقّص ذلك وعدّل تعديلا جديدا، ثمّ يزداد على من يحتمل الزيادة. وكان إذا جني الخراج وجمع، يكون للملك ذلك الربع خالصا لنفسه، والربع الثاني لجنده ولمن يتقوّى به على حربه، والربع الثالث في مصلحة الأرض وما يحتاج إليه من جسورها وعمارة ترعها وحفر خلجها وبناء قناطرها ولقوّة مزارعين أرضها. والرّبع الرابع يخرج من خراج كلّ قرية، فيدفن في أرضها لنائبة تنوب تلك القرية أو جائحة تنزل بتلك الناحية. وكلّ قرية فيها مكان مبنيّ مجبّص مدبّر لدفن ذلك المال فيها، وهي كنوز فرعون التي يتحدّث الناس بها، أنّها (222)

ستظهر فيتطلّبها الذين يتتبّعون الكنوز، والله أعلم. قال: أخبرنا عليّ، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: وحدّثني أبو الأسود نصر بن عبد الجبّار <عن> عبد الله بن عمرو، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: خرج وردان من عند مسلمة بن مخلّد-وهو أمير على مصر-فمرّ على عبد الله بن عمرو بن العاص مستعجلا، فناداه عبد الله بن يزيد: يا با عبيد، قال: أرسلني الأمير مسلمة، أن آتي له من يحفر عن كنز فرعون. قال: فارجع إليه، وأدّه منّي السلام، وقل له: إنّ كنز فرعون ليس لك ولا لأصحابك؛ إنّما هو للحبشة. إنّهم يأتون في سفنهم يريدون الفسطاط، فيسيرون حتّى ينزلوا منفا، فيظهر لهم كنز فرعون، فيأخذون منه ما يشاؤون، فيقولون: ما إن نبتغي غنيمة أفضل من هذه. فيرجعون، ويخرج المسلمون في آثارهم، فيدركونهم. فيقتلون وينهزمون ويأسرهم المسلمون، حتّى إنّ الحبش لتباع بالكساء. قال: حدّثنا عثمان بن صالح وغيره، قال: ظهرت الروم وفارس على سائر الملوك الذين في الأرض. فقابلت الروم أهل مصر ثلاث سنين، يحاصرونهم ويصابرونهم القتال في البرّ والبحر. فلمّا رأى ذلك أهل مصر، صالحوا الروم على أن يدفعوا لهم شيئا معلوم منهم في كلّ عام، على أن يمنعوهم، ويكونوا في ذمّتهم. ثمّ ظهرت الفرس؛ فلمّا غلبوا الروم على الشام، رغبوا في مصر وطمعوا فيها. فامّتنع أهل مصر، وأعانتهم الروم وقامت دونهم. وألحّت عليهم الفرس. فلمّا خشوا ظهورهم عليهم، صالحوا فارسا، على أن يكون

ما صالحوا به الروم، بين الروم وفارس. فرضيت فارس بذلك، وكذلك الروم، حتّى ظهرت فارس على الروم. وأقامت مصر بين الروم وفارس نصفين سبع سنين. ثمّ استجاشت الروم على فارس وألحت بالقتال والردّ، حتّى ظهروا عليهم، (223) وخرّبوا مصانعهم أجمع، وديارهم التي بالشام ومصر. وكان ذلك في عهد سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قبل وفاته وبعد ظهور الإسلام. فصارت الشام ومصر كلّها صلحا للروم، وخالصا لهم، ليس لفارس فيه شيئا، إلى حين فتحها عمرو بن العاص في خلافة عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، كما سيأتي ذكر ذلك في ذكر سنة عشرين، إن شاء الله. قال: حدّثنا عليّ، قال: ثنا اللّيث بن سعد عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب، وقال: كان المشركون يجادلون المسلمون بمكّة قبل الفتح، فيقولون: الروم أهل كتاب، وقد غلبتهم المجوس؛ وأنتم تزعمون أنّكم ستغلبون بالكتاب الذي معكم، الذي أنزل على نبيّكم. فستغلبكم كما غلب فارس الروم. فأنزل الله عزّ وجلّ: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}. قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الله بن عتبة بن مسعود أنّه قال: لمّا أنزلت هاتان الآياتان، ناظر أبو بكر، رضي الله عنه، بعض المشركين، قبل أن يحرّم ذلك على شيء، أن لن تغلب الروم فارس في سبع سنين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لم فعلت؟ فكلّما دون العشر: بضع». وكان ظهور فارس

ذكر سبب انكشاف فارس عن الروم

على الروم سبع سنين. ثمّ أظهر الله الروم على فارس زمان الحديبيّة. ففرح المسلمون بنصر أهل الكتاب. قال: عن عثمان بن صالح عن اللّيث بن سعد: وكان الفرس قد أسّست بناء الحصن الذي يقال له: باب الليون، وهو الحصن الذي بفسطاط مصر اليوم. فلمّا انكشف جموع فارس عن الروم وأخرجتهم الروم من الشام، أتمّت الروم بناء ذلك الحصن وأقامت به إلى حين المسلم. (224) قال: أخبرنا عليّ، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن. . . عن ابن وهب، قال: ثنا ابن لهيعة، قال: يقال: فارس والروم قريش العجم. ذكر سبب انكشاف فارس عن الروم قال: حدّثنا عبد الرحمن، قال: وكان سبب انكشاف فارس عن الروم كما حدّثني عبد الله بن صالح عن ابن زياد عن معاوية بن يحيى الصدفيّ، قال: حدّثني الزّهريّ، قال: حدّثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أنّ ابن عبّاس أخبره، أنّه سمع عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، يسأل الهرمزان، عظيم الأهواز، عن الذي كان سبب انكشاف فارس عن الروم، فقال له الهرمزان: كان كسرى بعث شهرزبان ومعه جنود فارس قبل الشام ومصر، وحرس عامه حصون الروم. وطال زمانه بالشام ومصر، وملك الأرض. فطفق كسرى يستبطئه ويكتب إليه: إنّك لو أردت أن تفتح مدينة الروم،

فتحتها، ولكنّك قد رضيت مكانك وأردت طول السّلطان. وكتب إلى عظيم من عظماء الفرس يأمره أن يقتل شهرزبان ويتولّى أمر الجند. فكتب إليه ذلك العظيم يذكر أنّ شهرزبان جاهد ناصح، وأنّه أبلى بالحرب منه. قال: فكتب إليه كسرى يعزم عليه ليقتله. فكتب إليه أيضا يراجعه ويقول: ليس لك عبد مثله، وإنّك لو تعلم ما يداري من مكايدة الروم، عذرته. فكتب إليه كسرى يعزم عليه أيضا بقتله. فراجعه فيه. فغضب كسرى وكتب إلى شهرزبان يعزم عليه بقتل ذلك العظيم. فأرسل شهرزبان إلى ذلك العظيم، فأحضره وأقرأه الكتاب. فقال له: راجع فيّ. فقال: قد علمت أنّ كسرى لا يراجع، وقد علمت حسن صحابتي إيّاك؛ ولكن، جاءني ما لم أستطع دفعه. فقال له ذاك العظيم: ولا تمهلني حتّى أرجع (225) إلى أهلي فأرا رأيي فيهم، وأعهد إليهم عهدي. قال: بلى، ذلك إليك. فانطلق ذلك العظيم حتّى أتا أهله. فأخذ صحائف كسرى إليه الثلاث، فجعلها في كمّه. ثمّ جاء حتّى دخل على شهرزبان، فدفع إليه الصحيفة الأولى. فقرأها، فقال له: أنت خير منّي. ثمّ دفع إليه الثانية. فقرأها، فنزل عن مجلسه، وقال له: احتكم فيّ. فأبا أن يفعل، فدفع إليه الصحيفة الثالثة. فما تمّ قراءتها حتّى نهض قائما ووقف بين يدي ذلك العظيم، وقال: أقسم بمعبودي لأجمعنّ المكر لكسرى. وكاتب هرقل، ملك الروم، فذكر له أنّ كسرى قد أفسد فارس. وذكر عدّة مساوئ لكسرى، كان يعلمها ويخفها لصحبته إيّاه. وسأله أن يلقاه بمكان يحكمان الأمر فيه، ويتعاهدان فيه، ثمّ يكفّ عنه جنود فارس، ويخلي بينه وبين المسير إليه.

فلمّا وصل كتاب شهرزبان إلى هرقل، ادعى رهطا من عظماء الروم، وقال: اجلسوا؛ أنا اليوم أحزم الناس أو أعجز الناس. قد أتاني ما لا تحتسبوه، وسأعرضه عليكم، فأشيروا عليّ فيه. ثمّ قرأ كتاب شهرزبان. فاختلفوا عليه في الرأي؛ فقال بعضهم: هذا تحرّش من جهة كسرى. وقال بعضهم: أراد هذا العبد أن يلقاك، وخاف من كسرى. فليستغث، ثمّ لا نبالي ما لقي. قال هرقل: إنّ هذا الرأي ليس حيث ذهبتم إليه؛ إنّه ما طابت نفس كسرى إن فشيتم هذا الذي أجد في كتاب شهرزبان. وما كان شهرزبان ليكتب إليّ بهذا وهو ظاهر على عامّة ملكي إلاّ من أمر حدث بينه وبين كسرى. وإنّي والله لا ألقينّه. فكتب إليه هرقل: قد بلغني كتابك، وفهمت الذي ذكرت، وإنّي سأوافيك. فموعدك موضع كذا وكذا. فاخرج معك بأربعة آلاف من أصحابك، فإنّي خارج بمثلهم. فإذا بلغت مكان كذا وكذا فضع ممّن معك بخمس مائة، فإنّي واضع مكان كذا وكذا مثلهم. ثمّ ضع بمكان كذا وكذا مثلهم، فإنّي فاعل (226) كذلك، حتّى نلتقي أنا وأنت في خمس مائة خمس مائة. وبعث هرقل الرّسل من عنده إلى شهرزبان ومعهم عيون. فإن فعل شهرزبان ما ذكره له هرقل، كان. وإن أبا عجّلوا بإنفاذ العيون يعرّفوه، فيرا برأيه. ففعلوا ذلك. وفعل شهرزبان جميع ما أمره به هرقل حتّى التقيا بالموضع المعيّن بينهما، ومع هرقل أربعة آلاف ومع شهرزبان خمس مائة. فلمّا رآهم شهرزبان، أرسل إليه: أغدرت؟ فقال هرقل: لم أغدر، ولكنّي

ذكر ملوك العرب وأصولها وفروعها وبطونها

أخذت بالحزم، وخشيتك. ثمّ أمر هرقل بقبّة من الديباج، فضربت له بين الصفّين. فنزل هرقل، فدخلها، ودخل معه بترجمان. وأقبل شهرزبان حتّى دخل عليه، فانتهى بينهما الترجمان حتّى أحكما أمرهما، واستوثق كلّ منهما من صاحبه بالعهود والمواثيق. فخرج هرقل وأمر، وأشار إلى الشهرزبان بأن يقتل التّرجمان لكي يخفا ما كان بينهما. فقتله شهرزبان. ثمّ تأخّر شهرزبان عن كسرى بالجيوش، وصار هرقل إلى كسرى حتّى أغار عليه ومن بقي معه. وكان ذلك أوّل هلكة كسرى. ووفى هرقل لشهرزبان ما أعطاه من ترك الأرض التي لفارس، وانكشف حين أفسد أرض فارس على كسرى فقتلت فارس كسرى ولحق شهرزبان بفارس والجنود، والله أعلم. ذكر ملوك العرب وأصولها وفروعها وبطونها قلت: قد أتينا، بحمد الله تعالى، بذكر سائر ملوك الأرض من لدن آدم، عليه السلام، وإلى عهد النبيّ صلى الله عليه وسلّم، من ولد يافث، وهو أبو سائر هؤلاء الملوك الأعجميّة. ونتلوا ذلك بذكر سائر ملوك العرب، ليكون الكلام سياقة وتوطئة إلى مبعث سيّد المرسلين، وخاتم النّبيّين، وخير العالمين، محمّد الأمين صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. ذكر ملوك اللّخميّين وهم ملوك الحيرة، عرب العراق (227) هؤلاء ملوك العرب اللّخميّين، ملوك العراق، أهل الحيرة. فأوّلهم مالك بن فهم الأزديّ. ثمّ ملك جذيمة الأبرش بن مالك اللّخميّ

ستّون سنة. ثمّ ملك عمرو بن عديّ مائة وثمنية عشرة سنة. ثمّ ملك امرؤ القيس بن عمرو بن عديّ مائة وأربعة وعشرة سنة. ثمّ ملك عمرو بن امرؤ القيس. . . ثلاثون سنة. ثمّ ملك أوس بن فلان خمس سنين. ثمّ امرؤ القيس الثاني خمس وعشرون سنة. ثمّ النّعمان بن امرؤ القيس ثلاثون سنة. ثمّ ملك المنذر بن النّعمان أربع وأربعون سنة. ثمّ الأسود بن المنذر بن النّعمان عشرون سنة. ثمّ المنذر بن المنذر بن النّعمان سبع سنين. ثمّ النّعمان بن الأسود أربع سنين. ثمّ ملك أبو يعفر بن علقمة ثلاث سنين. ثمّ ملك امرؤ القيس بن النّعمان سبع عشرة سنة. ثمّ ملك المنذر بن امرؤ القيس تسع وأربعون سنة. ثمّ ملك الحارث بن عمرو بن حجر الكنديّ. ثمّ ملك المنذر بن امرؤ القيس ثانيا. ثمّ ملك عمرو بن المنذر بن امرء القيس ستّة عشر سنة. ثمّ ملك قابوس بن المنذر أربع سنين. ثمّ رجع ملك الحيرة إلى الفرس. فملك فسهير الفارسيّ سنة واحدة. ثمّ عاد

النّعمان ابن المنذر، وهو أخو قابوس بن المنذر، اثنتي وعشرين سنة. ثمّ ملك إياس ابن قبيصة سبع سنين. ثمّ تولّى الحيرة من قبل الفرس زاديه الفارسيّ سبع عشرة سنة. ثمّ كان المنذر بن النّعمان ثمانية أشهر. هؤلاء عدّة ملوك الحيرة من اللّخميّين، من بني النّصر، ملوك عرب العراق ومن اندرج معهم. وذكر أنّه لمّا حدث سيل العرم عبرت عرب اليمن من مدينة مأرب إلى الشام والعراق. وكانت تنوخ، وهم في حيّ من الأزد، ممّن تمزّق إلى العراق. فاتّفق ورود مالك بن فهم من بني النّصر بن الأزد في جمهور الأزد. وورود ملك بن فهم أيضا في جمهور من قضاعة، لمّا خلت قضاعة من تهامة إلى البحرين. فقال ملك بن فهم (228) الأزديّ لمالك بن فهم القضاعيّ: نقيم بالبحرين ونتحالف على من سوانا. فتحالفوا، فسمّوا تنوخا، وذلك في أيّام ملوك الطوائف. وأمّا جذيمة بن مالك الأبرش فكان ثاقب الرأي، بعيد المغار، شديد النّكاية، ذا حزم ونجدة، غزا بالجيوش، وشنّ الغارات على قبائل العرب. وكان به برص، فأكبرت العرب أن تفوه به، فسمّته الأبرش تارة، وتارة الوضّاح لذلك. واستولى من السّواد على ما بين أرض الحيرة إلى الفرات، وغزا في آخر عمره الشام، فقتل عمرو بن الضّرب بن أذينة العمليقيّ، والد

الزّبّاء، فاستثأرت له على أخذ الثأر. وفي أذينة يقول الشاعر (من المتقارب): أزال أذينة عن ملكه … وأخرج من حصنه ذا يزن وستأتي هذه الأبيات في موضعها، إن شاء الله تعالى. ثمّ ورث الملك بعده ابن أخته عمرو بن عديّ، وأمّه رقاش بنت مالك بن فهم، أخت جذيمة، وهو الذي استهوته الجنّ. ويقال: إنّه جدّ الأكراد، حسبما نسوقه في موضعه، إن شاء الله تعالى. وعمرو هو أوّل من اتّخذ الحيرة منزلا من ملوك العرب، وهو أوّل ملك تعدّه الحيريّون في كتبهم من ملوك عرب العراق، وهم آل نصر. وكان سيّدا في سلطانه، منفردا بملكه، يغزوا المغازي، ويصيب المغانم، وتجبى إليه الأموال، وتفد عليه الوفود، ولا يدين لملوك الطوائف، حتّى ظهر أمر أردشير بن بابك، وضبط ملك العراق، وقهر كلّ من كان في مناوأته، حتّى حملهم على ما أراد. وأمّا امرؤ القيس، ولده، فيقال: امرؤ القيس البداويّ الأوّل، وأمّه ماوية بنت عمرو، أخت عمرو بن كعب الأزديّ. وأمّا أوس بن قلام، فهو ابن قطنبا بن حمير العمليقيّ، ملك في زمن أردشير. ثمّ ملك بعده ابنه النّعمان الأعور السائح، وهو باني الخورنق

والسّدير، وفارس حليمة، وأمّه شقيقة بنت أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان (229) بن ثعلب وأخو الشّقيقة لأبيها عمرو المزدلف. وأخو النّعمان لأمّه حسّان بن زهير اللّخميّ، ملك في زمن يزدجرد ابن شابور، وكان أشدّ ملوك العرب نكاية في الأعداء، وأبعدهم مغارا. وغزا الشام مرارا كثيرة وملك الفرس يمدّه بالجيوش من تنوخ ومن الفرس. وكان ضابطا لملكه، حازما صارما. واجتمع عنده من المال والرقيق والسلاح والخول ما لم يملكه غيره من ملوك الحيرة. والحيرة يومئذ ساحل الفرات، لأنّ الفرات حينئذ كانت تدنوا من أطراف البرّ حتّى تصل إلى النّجف. فعلا مجلسه بالخورنق يوما، ورأى النّجف وما يليه من البساتين والنّخل والجنان والأنهار، وممّا يلي المغرب وعلى الفرات ممّا يلي المشرق، فأعجبه ذلك لما رأى من الخضرة والنّور والأزهار والأنهار الجارية ورعي الإبل ولقاط الكمأة وصيد الضباء والأرانب، وما في الفرات من الملاّحين والغوّاصين والصيّادين، وفي الحيرة من الأموال والخول، ومن يموج فيها من رعيّته، ففكّر في نفسه: أيّ ملك هذا، وإنّي لتاركه غد لغيري. فبعث إلى حجّابه ونحّاهم عن بابه. فلمّا جنّه الليل التحف بكساء وخرج، فلم ير بعدها. وفيه يقول الشاعر (من الخفيف): وتفكّر ربّ الخورنق إذ … أشرف يوما والهدى تفكير

سرّه ما رأى وكثرة ما يملك … والبحر معرضا والسّدير فارعوى قلبه وقال: فما … غبطة حيّ إلى الممات يصير وأمّا امرؤ القيس بن النّعمان بن امرئ القيس، فهو الذي غزا بكرا، وكانوا أنصار لبني آكل المرّار، فهزمهم. وهو أيضا باني الحصن الذي يقال له: الصّنّين، على يدي البنّاء الذي يقال له: سنمّار الرّوميّ: وفي الحصن أيضا يقول الشاعر (من الخفيف): ليت شعري متى تحثّ بي … النّاقة نحو العذيب والصّنّين وهو قاتل سنمّار الروميّ وباني قصره. وأمّا المنذر بن امرئ القيس، فهو المنذر (230) ابن ماء السّماء، وماء السّماء أمّه، واسمها ماوية بنت عوف بن جشم بن هلال بن ربيعة بن زيد مناة بن عامر الضّحيان بن الخزرج بن تيم الله بن النّمر بن قاسط، ويقال: هي ربعة أخت كليب. ثمّ انتقل الملك من لخم إلى كندة لسببان، أحدهما: إغضاء قباذ عن الملك وإهماله القيام بواجب السياسة. وكان والده فيروز غزا الهياطلة، وهم سكّان طرفة من أطراف خراسان، ومعه ولده قباذ، فقتل فيروز وأسر

قباد. فقصدهم جند الفرس حتّى خلّصوا قباذ من الأسر. فلمّا خلّص وتقرّر ملكه، ترك القتل والقتال، وانتشرت الزّندقة فيهم. وكان الداعي إليها مزدك بن باسداد بن موبد موبدان، فجمع إليه الضعفى ووعدهم الملك، فضعف ملك العرب. فإنّ مادّة ملك العرب إنّما كانت من الفرس. فلمّا مات قباد وملك ابنه أنوشروان العادل، سار بسيرة مضادّة لسيرة أبيه، فاصطلم الزنادقة وأبادهم قتلا وأسرا حتّى قوي ملكه، وردّ المنذر بن النّعمان إلى ملكه. والسبب الثاني: أنّ امرء القيس كان يغزوا قبائل ربيعة، فبلى فيهم، ومنهم أصاب ماء السماء، وكانت تحت أبي حوط. وأهمل الحزم في إحدى غزواته، فنادت به بنو بكر بن وائل، فهزموا رجاله وأسروه. أسره سلمة بن مرّة بن همّام، وأطلقه بعد أن أخذ منه الفداء. وبقيت العداوة في نفوس بكر بن وائل. وقيل: إنّ أمّ قباد كانت منهم. فأرسلت بكر إلى الحارث فملّكوه. ثمّ ملك قابوس بن المنذر. ويقال: إنّه تملّك؛ وإنّما سمّي ملك لأنّ أباه وأخاه كانا ملكين. وكان فيه لين، فسمّي: فتنة العروس. فقتله رجل من يشكر، وسلبه. ثمّ تملّك فشهرب الفارسيّ. ثمّ تملّك المنذر بن المنذر، أخو عمرو بن هند. ثمّ تملّك النّعمان بن المنذر، وهو أبو قابوس، وهو قاتل

ذكر ملوك العرب من آل جفنة

عبيد بن الأبرص، الشاعر، في يوم بؤسه، كما يأتي خبره عند ذكر عبيد بن الأبرص، إن شاء الله تعالى. وقاتل عديّ بن زيد (231)، وكان صاحب النّابغة الذّبيانيّ، وسيأتي خبره أيضا. وزعموا أنّه فارق عبادة الأوثان ودخل في النصرانيّة. وكان سبب تنصّره عديّ بن زيد، حسبما يأتي أيضا، إن شاء الله تعالى. وكان ملكه في زمن هرمز بن أنوشروان سبع سنين وثمانية أشهر، وفي زمن أبرويز أربع عشرة سنة وأربعة أشهر. ثمّ قتله أبرويز تحت أرجل الفيلة، وأمّه سلمى بنت وائل بن عطيّة الصّائغ، من أهل فدك. ثمّ انقطع الملك عن لخم. فجميع ملوك آل النّصر ومن استخلف في زمانهم من الفرس وغيرهم، حسبما سقناه وبيّنّاه أوّلا بالحيرة خمس وعشرون ملكا، في مدّة ستّمائة وأربع وعشرين سنة، تنقص شهرا واحدا. والخارج عنهم ستّة نفر، وهم: أوس والحارث وأبو يعفر وإياس الطّائيّ وفشهرب الفارسيّ، وصاحبه زادية، والله، عزّ وجلّ، أعلم. ذكر ملوك العرب من آل جفنة هؤلاء ملوك آل جفنة، وهم الغسّانيّون، ملوك عرب الشّام. فأوّلهم جفنة بن عمرو، ملك خمس وأربعون سنة. ثمّ ملك عمرو بن جفنة خمس سنين. ثمّ ملك ثعلبة بن عمرو سبع عشرة سنة. ثمّ ملك الحارث بن ثعلبة

عشرون سنة. ثمّ ملك جبلة بن الحارث عشر سنين. ثمّ ملك المنذر بن الحارث ثلاث سنين. ثمّ ملك النّعمان بن الحارث خمس عشرة سنة ونصف. ثمّ ملك المنذر بن الحارث ثلاث عشرة سنة. ثمّ ملك جبلة بن الحارث أربع وثلاثون سنة. ثمّ ملك الأيهم بن الحارث ثلاث سنين مجرّدة. ثمّ ملك عمرو بن الحارث ستّ وعشرون سنة وشهران. ثمّ ملك جفنة بن المنذر ثلاثين سنة. ثمّ ملك النّعمان بن المنذر سنة واحدة مجرّدا. ثمّ ملك النّعمان بن عمرو سبع وعشرون سنة. ثمّ ملك جبلة بن النّعمان ستّة عشرة سنة. ثمّ ملك النّعمان بن الأيهم إحدى وعشرون سنة. ثمّ ملك الحارث بن الأيهم اثنان وعشرون سنة وخمسة أشهر. ثمّ ملك النّعمان بن الحارث ثمان عشرة سنة. ثمّ ملك المنذر بن النّعمان تسع عشرة سنة. ثم ملك عمرو بن النّعمان ثلاث وثلاثون سنة وأربعة أشهر. ثمّ ملك (232) حجر بن النّعمان اثنتا عشر سنة. ثمّ ملك الحارث بن حجر ستّة وعشرون سنة. ثمّ ملك جبلة بن الحارث سبع عشرة سنة وشهر. ثمّ ملك الحارث ابن جبلة إحدى وعشرون سنة. ثمّ ملك النّعمان بن الحارث سبع وثلاثون سنة وثلاثة أشهر. ثمّ ملك الأيهم بن جبلة سبعة وعشرون سنة وشهرين. ثمّ

ملك المنذر بن جبلة ثلاث عشرة سنة فقط. ثمّ ملك شراحيل بن جبلة عشر سنين وشهرين. ثمّ ملك جبلة بن الحارث أربع سنين. ثمّ ملك جبلة بن الأيهم ثلاث سنين. [ثمّ ملك] وهو آخرهم. فجملة الملوك منهم اثنان وثلاثون ملكا في مدّة ستّمائة سنة فقط وأربعة أشهر. [ثمّ قتلة أبرويز]. فهؤلاء ملوك غسّان، المعروفون بآل جفنة، وكانوا عمّال القياصرة من ملوك الرّوم على عرب الشام، كما كان آل نصر عمّال الأكاسرة على عرب العراق. فأوّل من ملك منهم جفنة بن عمرو. ولمّا ملك جفنة قتل ملوك قضاعة، وكانوا يدّعون الشجاعة. ودانت لهم قضاعة. وهو باني جلّق والرّبوة. وولده عمرو بن جفنة فهو الذي بنا دير هناد ودير أيّوب. وإنّما سمّيا باسمي من كان على عمارتهما. وبنا عدّة ديارات غيرها. وأمّا جبلة بن الحارث، وهو الخامس منهم، فهو باني القناطر. وأمّا الحارث بن جبلة، فكانت أمّه تدعى ذات القرطين بنت عمرو بن جفنة. وكان يسكن البلقاء، وبنا بها الحفير وعدّة مصانع هناك.

(233) ذكر التبابعة من حمير ملوك اليمن

وأمّا جفنة بن المنذر بن الحارث، فهو الذي يسمّى محرّقا، وبه سمّيت آل محرّق، وكان أحرق الحيرة. وأمّا الحارث بن جبلة، فهو ابن أبي شمر، وهو الخامس بعد العشرين من ملوكهم، وهو الذي أوقع ببني كنانة. وأمّا النّعمان بن الحارث، ولقبه قطام، وهو باني ما أشرف على الغور الأقصى، وبكاه النّابغة الذّبيانيّ، فقال (من الطويل): بكى الحارث الجولان من بعد ربّه … وحوران منه خاشع متضائل وأمّا الأيهم بن جبلة بن الحارث، فهو صاحب تدمر وقصر أريكة. وأما جبلة بن الأيهم، فهو آخرهم، وهو الذي أسلم في أيّام عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، ثمّ عاد فلحق بالروم وتنصّر؛ وحديثه مشهور، والله أعلم. (233) ذكر التّبابعة من حمير ملوك اليمن هؤلاء ملوك حمير ملوك اليمن المعروفون بالتّبابعة. فأوّلهم حمير بن كهلان، ملك مائة وخمسون سنة. ثمّ ملك الحارث بن قيس مائة وخمس

وعشرون سنة. ثمّ ملك أبرهة بن الحارث مائة وثلاثة وثمانون سنة. ثمّ ملك إفريقيس بن أبرهة مائة وأربع وستّون سنة. ثمّ ملك العبد ذو الأذعار مائة وخمس وعشرون سنة. ثمّ ملك هدّاد بن شراحيل خمس وسبعون سنة. ثمّ ملك بلقيس بنت هدّاد، ملكت عشرون سنة. ثمّ ملك ناشر ينعم بن شراحيل خمس وثمانون سنة. ثمّ ملك شمر يرعش سبع وثلاثون سنة. ثمّ ملك أبو مالك الحميريّ خمس وخمسون سنة. ثمّ ملك الأقرن بن أبي مالك ثلاث وعشرون سنة. ثمّ ملك ذو جيشان سبعون سنة على قول. ثمّ ملك تبّع بن الأقرن مائة وثلاث وستّون سنة محرّرا. ثمّ ملك كلى كرب خمس وثلاثون سنة. ثمّ ملك أسعد أبو كرب مائة وعشرون سنة. ثمّ ملك حسّان بن تبّع الأكبر سبعون سنة مع الأحلاف. ثمّ ملك عمرو بن أسعد ثلاث وستّون سنة. ثمّ عبد كلال بن مثوب أربع وسبعون سنة. <ثمّ

ملك> تبّع بن حسّان ثمان وتسعون سنة. ثمّ ملك مرثد بن عبد كلال إحدى وأربعون سنة. ثمّ ملك وليعة بن مرثد سبع وثلاثون سنة. ثمّ ملك أبرهة بن الصّبّاح خمس وعشرون سنة. ثمّ ملك حسّان بن عمرو سبع وخمسون سنة على قول. ثمّ ملك ذو شناتر سبع وعشرون سنة. ثمّ ملك ذو نواس عشرون سنة. ثمّ ملك ذو جدن ثمان وستّون سنة. ثمّ ملك أبرهة الحبشيّ عشرون سنة. ثمّ ملك يكسوم بن أبرهة سبع عشرة سنة. ثمّ ملك مسروق بن أبرهة اثنتا عشرة سنة. قال عبد الملك بن هشام صاحب كتاب: التّيجان، المعتني بذكر التّبابعة من ملوك حمير (234): إنّ يعرب بن قحطان أوّل من نطق بالعربيّة. وكان سار إلى اليمن فاستوطنها. واليمانيّون كلّهم من ولده. وهو أوّل من حيّاه ولده بتحيّة الملوك. فقال له: أنعم صباحا وأبيت اللّعن. وولد ليعرب يشجب، وولد ليشجب سبأ، واسمه عبد شمس. وإنّما سمّي سبأ لأنّه سبا بقومه في مخاليف اليمن وشؤونها، وتتبّع بقايا عاد، فلم يدع

منهم أحد إلاّ سباه. هكذا قال عبد الملك بن هشام، ووافقه على ذلك ابن دأب. وقال ابن دأب: وقد كانت العرب العاربة عدّة قبائل، منها: عاد وثمود وعمليق وطسم وجديس ووبار وأميم وقحطان وحاتم. وكانت هذه القبائل كلّها تؤرّخ لآدم حتّى بادوا جميعا. وقد كان آخرهم في زمن ازدوان وأردشير والدي ملوك ساسان. وقيل: إن كان ملك اليمن في زمن منوشجهر، شمر بن الأملوك، ثمّ جرى ابنه على منواله في طاعة ملوك فارس، وهو باني مدينة صنعاء باليمن. وفي زمن كيقباذ عقدت بنو قحطان ملك اليمن لعبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وملك بعده ولده حمير فبقي ملكا حتّى مات هرما. ويقال: إنّه ملك مائة وخمسون سنة، وتوارث ولده الملك بعده، ولم يعد ملكهم اليمن حتّى مضت قرون. وصار الملك إلى الحارث الرّايش، وهو تبّع الأوّل. وممّن ملك اليمن قبل الرّايش ملكان: ملك بحضرموت وملك بسبأ. ولم يجتمع اليمانيّون عليهم حتّى ملك الرّايش، فاجتمعوا عليه، وهو

الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ الأصغر الحميريّ. وسمّي رايشا لأنّه أوّل من غزا وأصاب الغنائم وأدخلها اليمن، فارتاشت حمير من أيّامه. وذكر أنّ بين هذا الرّايش وبين حمير خمسة عشر أبا. وفي زمنه مات لقمان بن عاد، المعمّر، صاحب لبد والنّسور. وكان أقصى أثر ملك الرّايش في أوّل غزواته الهند ثمّ غزا التّرك بعد ذلك بأذربيجان، فقتل وسبا. وملك بعده أبرهة، ذو المنار، سمّي بذلك (235) لأنّه نصب المنار على طرقه في غزواته، ليهتدي بها في رجوعه. ثمّ ملك شمر إفريقيس بن أبرهة فغزا أرض المغرب لقصد البربر، وهو باني إفريقية، وهي مشتقّة من لقبه. وبلغ في مغازه ذلك أقصى البلاد ونهاية العمارة. وملك بعده أخوه العبد ذو الأذعار بن أبرهة. وكان غزا في حياة أخيه بلاد النّسانس. ثمّ ملك تبّع بن شراحيل. ثمّ ملكت بلقيس، ثمّ انتقلت إلى فلسطين بعد تلك المدّة التي قدّمنا ذكرها. وذكر حمزة أنّ بلقيس هي بانية سدّ العرم، والصحيح ما قاله عبد الملك بن هشام إنّ ذلك إنّما بناه لقمان بن عاد، ولكنّ بلقيس رمّمت فيه أماكن قد كان الدّهر غيّرها. ثمّ بقي ذلك السدّ حتّى هدمه سيل العرم،

وذلك قبل الإسلام بنحو أربع مائة سنة؛ هكذا قال حمزة الإصفهانيّ في عدّة أماكن من كتابه. وأنّ ملوك آل جفنة ممّن تمزّقوا خوفا من سيل العرم، حسبما سقناه من ذكرهم. وذكر أنّ مدّتهم ستّمائة سنة وأربع وعشرون سنة، وهم آل نصر، ملوك آل جفنة، ملوك عرب العراق المقدّم ذكرهم. وأمّا ناشر ينعم، عمّ بلقيس، فإنّه سمّي بذلك لانتشار نعمه على الناس، وردّ الملك على ما كان عليه بعد زواله. وأمّا شمر يرعش بن شمر إفريقيس، إنّما سمّي بذلك لارتعاش كان بيده. وأصحاب أخبار اليمن تفرط في ذكره ومدح آثاره، وتزعم أنّه هو المسمّى في القرآن العظيم بذي القرنين، وأنّ هذا اللّقب له خاصّة دون الإسكندر الرّوميّ. لكن الإسكندر لمّا انتبه بعد معازاه شمر يرعش غلط رواة الأخبار في صدر الإسلام، فحلّوه بهذا اللّقب، واستدلّوا أن لفظة: ذو، عربيّة، لا روميّة، وهي مبدأ ألقاب ملوك حمير، لا غيرهم، مثل: ذو نواس، وذو كلاع، وذو يزن، وذو منار، وذو ثعلبان، وذو حبّان. وإنّما سمّوا ذا القرنين لذؤابتين كانا ينوسان على ظهره. وقيل: إنّ شمر يرعش هذا، بلغ في بعض غزواته المشرق، فدوّخ بلاد خراسان (236) وهدم سور مدينة الصّغد، فقيل للمدينة بعده: شمركند، أي شمر خرّب، بلغتهم، ثمّ عرّبت فقيل: سمرقند. ووجد في صعد لشمر هذا كتابة بالحميريّة، يقول: بسم الإله، هذا ما بناه شمر يرعش

لسيّده الشّمس. وقال بعض المؤرّخين: إنّ شمر هذا كان في زمن كشتاسب. وقيل: بل كان متقدّما عليه، والله أعلم. وأمّا ذو جيشان بن الأقرن، فهو الذي أوقع بطسم وجديس باليمامة، قبل ملك الإسكندر، وقد كان بعمان واليمامة والبحرين فئام كثير من طسم وجديس وغيرهم، وكانوا سبع قبائل، منهم كانت مثل ربيعة ومضر، وقد تقدّمت أسماؤهم، فانقرضوا كلّهم، إلاّ بقايا من طسم وجديس، غبروا إلى زمان ذي جيشان، فأبادهم. وأمّا أسعد أبو كرب فكان شديد الوطأة، كثير الغزو، فملّته حمير، وثقل عليهم لما كان يأخذهم به من كثرة الإنتزاح عن أهاليهم في غزواته. فسألوا ولده حسّان بن تبّع أن يملكهم ويساعدهم على قتله. فقتلوه ثمّ ندموا. واختلفوا فيمن يملّكوه عليهم. ثمّ اضطرّوا حتّى ملّكوا عليهم ابنه حسّان، فملّكوه. قال المؤرّخون من اليمانيّين: إنّ هذا هو المعنى في القرآن الكريم بتبّع، وأنّه لم يذمّ، وإنّما ذمّ قومه. قلت: وكما كان في الفرس ملوك يقال لهم: ملوك الطوائف، أوّلهم الإسكندر، فكذلك كان في اليمن ملوك الطوائف أوّلهم الإسكندر، يقال لهم: الأقيال. وكما خرج أردشير بن بابك على ملوك الطوائف بالفرس، كذلك خرج أسعد أبو كرب هذا على ملوك الطوائف باليمن.

وإنّ الإسكندر فعل في اليمن بتفريق الممالك على عدّة ملوك كما فعل في بلاد فارس. ولمّا ملك أسعد لم يزل يتتبّع قتلة أبيه حتّى قتلهم، فكرهوه لكثرة سفكه الدماء. فأتوا إلى أخيه عمرو بن تبّع، فبايعوه على قتله وتمليكه بعده، ما خلا رجلا من أشرافهم يقال له: ذو رعين، فإنّه نهاه عن قتل أخيه وحذّره سوء العاقبة لقطعه رحمه، فلم يقبل منه، وقتل أخاه. فلمّا تملّك اضطربت عليه يده مع سائر بدنه (237) وتواترت أسقامه وعلله، فكان أبدا على فراشه. فإذا رام البروز ركب النّعش، وحمل على أكتاف الرجال، فسمّي موثبان، وذا الأعواد؛ وقيل: ذي الأعوان، وإنّما قلب الشاعر النون دال لضرورة الشعر، وهو قول الأسود ابن يعفر في ذلك (من الكامل): ولقد علمت لو أنّ علمي نافعي … أنّ السّبيل سبيل ذي الأعواد وذكر بعض الإخباريّين أنّ ملك ذي الأعواد كان في زمن شابور بن أردشير. وأمّا عبد كلال فإنّه كان على دين المسيح. وأمّا تبّع بن حسّان، فهو تبّع الأصغر، لأنّه آخر التّبابعة، وهو الذي ملك الحارث بن عمرو وآكل المرار على معدّ. وهو صاحب مكّة والمدينة. وقيل: إنّه أوّل من كسا البيت. ولمّا انصرف إلى اليمن، تبع الحبرين من اليهود، ودعى الناس إلى ذلك، ومن هناك كانت اليهود باليمن. وهو الذي عقد الحلف بين اليمن وربيعة. وأمّا مرثد بن عبد كلال، فهو أخو تبّع، وبعده تفرّق ملك حمير.

وأمّا أبرهة بن الصّبّاح، فكان عالما جوادا. وكان يكرم المعدّيّين لعلمه أنّ الملك يصير إلى معدّ ويستقرّ في قريش. وقيل: إنّه كان في زمن شابور ذي الأكتاف. وكان الملك بعده إلى الصّبّاح بن أبرهة بن الصّبّاح، في زمن يزدجرد بن بهرام جور، وإنّهما ملكا في عصر واحد خمس عشر سنة. وأمّا ذو شناتر، فلم يكن من أهل بيت الملك، وكان فظّا، غليظ القلب، قتّالا، لا يسمع <أنّه> قد نشأ من أولاد الأقيال ولدا جميلا إلاّ احضره ونكحه. وكانت السّنّة فيهم أنّه: لا يملك من نكح. فكان قصده أن لا يتطاول إلى الملك أحدا من غير أهل بيته. وقيل: إنّه وجّه إلى غلام منهم يقال له: ذو نواس، لذؤابتين كانا ينوسان على كتفه. فدخل عليه، وفي ما بين ثيابه سكّين مخبّأة. فلمّا دنا منه للفاحشة، شقّ بطنه واحتزّ رأسه، فكان سببا لأن ملّكوه عليهم، حيث أراح الناس من شرّه. ثمّ (238) ملك بعدهم أربعة نفر من الحبشة، ثمّ ثمانية نفر من الفرس، ثمّ انتقل الحكم إلى قريش. وليس يكاد يكون أسقم ولا أنحل من تاريخ ملوك حمير. قال حمزة: وكانت مدّة ملك الحبشة اثنتين وسبعين سنة. ملك أرباط من ذلك عشرين سنة، وملك أبرهة، ويقال له: الأشرم، ثلاثا وعشرين سنة، وهو سائق الفيل الذي صار كيده في تضليل، وقصد هدم الكعبة

المعظّمة. وفي ملكه كان مولد سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، بعد قدوم الفيل مكّة ببضع وخمسين ليلة. وملك يكسوم وله سبع عشرة سنة. وملك مسروق أخوه، ابن أبرهة، اثني عشرة سنة. وفي زمن مسروق ساءت سيرة الحبشة، وتفاقم الأمر في ذلك. فخرج سيف بن ذي يزن مستغيثا بكسرى، ملك الفرس. فكان من أمره ما هو مشهورا بين الناس، في إنفاذه معه جيش من الفرس، فقهر بهم الحبشة. وملك سيف بن ذي يزن اليمن نيابة عن ملك فارس. وقد قيل في مقدار غلبة الحبشة على مدن اليمن غير ما تقدّم. قلت: إنّ صحّ الحديث عن ابن عبّاس، رضي الله عنه، في وفود عبد المطّلب على سيف بن ذي يزن مهنّئا له بملك اليمن، وأنّه لمّا عرّفه بنفسه أكرمه دون رفقته، وبشّره بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فإنّ المدّة بين مولد سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبين وفاة جدّه عبد المطّلب لم تزد على ثمان سنين. ولا شكّ في مولد سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أنّه كان عام الفيل، بإجماع الرّواة. فكيف اتّسع ذلك الزمان لملك يكسوم ومسروق، ونفد أمرهما تسع وعشرون سنة؟. . . من ذلك أن حمزة عدّ لملك ذي نواس عشرين سنة ولذي جدن ثمانيا وأربعين سنة، مع أنّ ذا نواس انهزم بين يدي الحبشة. . وقال حمزة: كان قدوم وهرز اليمن بعد حرب الفجار بعشرين سنة،

وقبل بنيان الكعبة بخمس سنين، والرسول صلى الله عليه وسلّم، إذ ذاك ثلاثون سنة. وأقام سيف بن ذي يزن (239) ملكا على اليمن من قبل كسرى أنوشروان ومعه وهرز الفارسيّ. وكان قد اتّخذ من بقايا الحبشة خدما، فخلوا به يوما في متصيّد له فزرقوه بحرابهم فقتلوهم، وهربوا في رؤوس الجبال. وانقضى ملك حمير، وصارت اليمن بأيدي عمّال ملوك الفرس، وهم: وهرز، ثمّ ملك بعده وليسجان ثمّ ملك بعده حرزادشهر. ثم ملك ابن وليسجان. ثمّ ملك مروزان. ثمّ ملك ابنه خرخسره. ثمّ ملك باذان بن ساسان. ثمّ ملك دادويه، وكانت أمّه أخت باذان. وباذان هو الذي كاتب أبرويز كسرى في أمر سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، على ما تقدّم فيه الكلام. ثمّ كان تملّك من الفرس جماعة على مواضع متفرّقة من أرض اليمن وهم ثمانية نفر مرازبة،. . . سخت تملّك على أرض كندة وحضرموت. ثمّ تملّك على ما كان بيد سخت، وطال مكثه بالريف وبنى عدّة أبنية، ومن ذاك القصر المقول فيه (من الكامل): أهل الخورنق والسّدير وبارق … والقصر ذي الشّرفات من سبداد

ذكر ملوك كندة بحكم التلخيص

وهذا اسمه: سبدان، وإنّما الشّاعر قلب النّون أيضا دالا لضرورة الشعر. ثمّ الهامرز بن أدركون، وهو قائد الجيش يوم ذي قار، وهو إحدى أيّام وقائع العرب، وكانت للعرب على الفرس، وهو أوّل يوم انتصرت فيه العرب على الفرس، وقد جاء فيه الحديث. وكان هذا الهامرز من جملة قوّاد كسرى أبرويز. ثمّ وفنابرز بن مكهان كان متولّيا على الريف من البادية، من حدّ الحيرة إلى البحرين. ثمّ ساسان بن روزبه، وكان ملكا على التغلبيّة ومضر وعمان واليمامة ويثرب من جهة ملوك الفرس قديما. وتولّى بعده روزبه بن ساسان. ثمّ تولّى أنوش ناد بن حشنشبنده. ثمّ تولّى المكعبر ناحية من المغرب من أرض العرب، واسمه داد فروز بن حشنشفان، وهو صاحب الثّغر. وكان ولايته البحرين وعمان إلى اليمامة وإلى اليمن، والله أعلم. ذكر ملوك كندة بحكم التلخيص (240) قد قدّمنا القول بأنّ تبّع، لمّا أقبل يطلب العراق، تزل بأرض معدّ واستعمل عليهم حجر، آكل المرّار، ابن عمّ معاوية. وملك بعده الحارث بن عمرو بن حجر، كما أوردنا ذلك أوّلا. ولمّا ملك المنذر ابن ماء السّماء المرّة الثانية، هرب الحارث وتبعه خيل المنذر، فأدركوا أحد

ذكر وقائع العرب وحروبها في أيامها المشهورة

بنيه فقتلواه، ونجى الحارث هاربا، فوقع ببني كلب فقتلوه. واختلف ولده بعده على الرئاسة حتّى قتلوا بعضهم بعضا. ثمّ تتبّع المنذر سائر بقيّتهم حتّى أفناهم. فلمّا زال الملك عنهم، صارت الرئاسة في بني جبلة بن عديّ بن ربيعة، حتّى تولى قيس بن معدي كرب، وعلى عهده قام الإسلام، أقامه الله إلى يوم الأزل، حتّى صار الأشعث بن قيس-وهو الذي أتا سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، في سبعين نفر من أشراف كندة، فأسلموا، والله أعلم. ذكر وقائع العرب وحروبها في أيّامها المشهورة قد انتهى الكلام في ذكر سائر ملوك الأمم من العجم والعرب وأصولهم وفروعهم ومددهم ووفياتهم، بعون الله تعالى وحسن توفيقه وبركة إلهامه. وقد قصدنا أن نتلوا ذلك بذكر شجعان الجاهليّة وأيّام وقائع العرب المذكورة، مع الفصحاء من شعرائهم المشهورة، ونذكر كلّ شاعر من فحلاء الجاهليّة، ونطرّز ذلك بشيء من مختار شعره، مع نبذة لطيفة من ذكره، ليكون هذا التاريخ جامعا بين الزّهرة والخضرة، مؤلّفا كتأليف ابن كردان الحضرة، موفّقا لذلك، إن شاء الله تعالى. ذكر كليب ومهلهل ابنا ربيعة، وهو حرب البسوس المذكور أجمعت الرّواة من أهل الجزيرة بوقائع العرب وأيّام حروبهم؛ منهم

أبي عبيدة، قال: قال أبو برزة القيسيّ، وهو من ولد عمرو بن مرثد: إنّ كليبا كان قد عزّ وساد في ربيعة، وبغا بغيا شديدا. وكان هو الذي ينزلهم منازلهم، ويرحّلهم. وبلغ من عزّه وبغيه أن اتّخذ جرو كلب، فكان إذا نزل منزلا فيه كلآء (241)، قذف بذلك الجرو فيه، فلا يرعى أحد ذلك الكلآء إلاّ بإذنه. وكان يفعل ذلك بحياض الماء، فلا يرد الماء أحد إلاّ بإذنه أو من آذن بحرب. فضرب به المثل في العزّ، فقيل: أعزّ من حمى كليب. وكان يحمي الصّيد، فيقول: صيدنا ناحية كذا وكذا، وهو في جواري. فلا يصيد

أحد منه. وكان لا يمرّ به أحد إذا جلس: لا راجل ولا راكب. ولا يخشى في مجلسه غيره، حتّى قتله جسّاس بن مرّة. وكان لمرّة بن ذهل بن شيبان بن ثعلب عشرة بنين، جسّاس أصغرهم. وكانت أختهم عند كليب تسمّى جليلة. وأمّا مقاتل وفراس، قالا: إنّ أمّ جسّاس هيلة بنت منقذ بن سليمان ابن كعب بن عمرو بن سعد بن زيد مناة بن تميم ثمّ خلف عليها سعد بن ضبيعة بن قيس بن تعلبة بعد مرّة بن ذهل بن شيبان فولدت له مالكا وعوفا وتعلبة. قال فراس بن خندق البسوسيّ: فهي أمّنا وخالة جسّاس. قلت: هكذا نقلته من كتاب الأغاني الكبير الجامع، لأبي الفرج الإصفهانيّ، وهو كلام متناقض. فإنّه روى أوّلا أنّها أمّ جسّاس، ثمّ قال: هي أمّنا وخالة جسّاس. والذي تبيّنته أنّ الغلط من ناسخ الكتاب، ليس من أبي الفرج. فإنّ الرجل كان أوحد أهل زمانه وفريد عصره وأوانه. وعلى الجملة: إنّ اسم أمّ جسّاس هيلة بنت منقذ، والبسوس خالته، والله أعلم.

قال أبو برزة: اسمها بسوسة، وهي التي يقال لها: أشأم من البسوس. فضرب بشؤمها المثل. فنزلت على ابن أختها جسّاس، وكانت جارة لبني مرّة، ومعها ابن لها، ومعهما ناقة خوّارة من نعم بني سعد، ومع الناقة فصيل لها. وروى الأخفش قال: قال أبو برزة: وكان كليب قبل ذلك قال لصاحبته، أخت جسّاس: هل تعلمين على الأرض حرما أعزّ منّي ذمّة؟ فكستت. ثمّ أعاد عليها الثانية، فكستت. فألحّ عليها، (242) فقالت: نعم أخي جسّاس وندمانه، ابن عمّه، عمرو المزدلف، ابن أبي ربيعة بن ذهل ابن شيبان. قال مقاتل: إنّ امرأة كليب، أخت جسّاس، بينا هي تغسل رأس كليب وتمشطه، إذ قال لها: من أعزّ وائل؟ فسكتت. فأعاد عليها وألحّ. فلمّا أكثر، قالت: أخواي: همّام وجسّاس، فنزع رأسه من يدها وأخذ القوس فرمى فصيل ناقة البسوس، خالة جسّاس، وجارة بني مرّة، فقتله. فأغمضوا على ذلك. ثمّ لقي كليب ابن البسوس، فقال: ما فعل فصيل ناقتكم؟ قال: قتلته وأخليت لنا لبن أمّه. فبلغهم ذلك، فأغمضوا عليه أيضا. ثمّ إنّ كليبا أعاد على امرأته، فقال: من أعزّ وائل؟ فقالت: أخواي همّام وجسّاس. فأسرّها في نفسه حتّى مرّت به إبل جسّاس. فرأى الناقة،

فأنكرها. فقال: ما هذه الناقة؟ قالوا: لخالة جسّاس. قال: وبلغ من أمر جسّاس ابن السّعديّة من أن يجير عليّ بعيرا بغير إذني؟ ارم ضرعها يا غلام. فرمى ضرعها، فاختلط دمها بلبنها. ثمّ إنّ بكر بن وائل مرّوا على نهي يقال له: شبيث، فنفاهم كليب عنه، عنه، وقال: لا يذوقون منه قطرة. ثمّ مروّوا على نهي آخر يقال له: الأحصّ، فنفاهم عنه أيضا. ثمّ مرّوا على بطن الجريب فمنعهم إيّاه. فمضوا حتّى نزلوا في طارفة وهم يتهافتون عطشا. فمرّ عليهم جسّاس، فخاطبوه في ذلك. فمرّ على كليب وهو واقف على غدير الذّنائب، فقال: طردت أهلنا عن الماء حتّى عادوا يتهافتون عطشا. فقال كليب: ما منعناهم من ماء إلاّ ونحن له شاغلون. فقال جسّاس: هذا كفعلك بناقة الخالة. فقال: وقد ذكرتها؟ أما إنّي لو وجدتها في غير بعير إبل مرّة، لاستحللتها- يعني الإبل كلّها. قال: فعطف عليه جسّاس فرسه وصوّب إليه عوده، ولم يكن مع كليب سلاح يمانع به، ولا ظنّه يجسر عليه. فطعنه بالرمح فأنفذ حضنيه. فلمّا تداءمه الموت (243)، قال: يا جسّاس، اسقني من الماء. قال: ما عقلت استسقاءك الماء منذ ولدتك أمّك، إلاّ ساعتك هذه. وقال أبو برزة: فعطف عليه المزدلف عمرو بن أبي ربيعة، فاحتز رأسه.

وأمّا رواية مقاتل، فزعم أنّ <عمرو بن> الحارث بن ذهل بن شيبان هو الذي طعن كليبا، وفيه يقول مهلهل (من الوافر): فتيل ما قتيل المرء عمرو … وجسّاس بن مرّة ذو ضرير قيل: ومقتل كليب بالذّنائب، عن يسار فلجة، مصعدا إلى مكّة، شرّفها الله تعالى. وقبره في الذّنائب، وفيه يقول مهلهل (من الوافر): ولو نشر المقابر عن كليب … فتخبر بالذّنائب أيّ زير قال أبو برزة: فلمّا قتله أمال يده بالفرس حتّى انتهى إلى أهله. قال: تقول أخت جسّاس حين رأته لأبيها: مرّة يا بتاه، أرى جسّاسا خارجا ركبتاه. قال: فو الله ما خرجت رجلاه إلاّ لأمر عظيم. فلمّا جاء، قال: ما وراءك يا جسّاس؟ قال: ورائي قد طعنت طعنة لتسفكنّ منها من شيوخ وائل دما، أربعين عاما، قال: أقتلت كليبا؟ قال: نعم. قال: وددت أنّك وأخوتك كنتم متّم قبل هذا. ما لي إلى أن تشاءم بي أبناء وائل. وزعم مقاتل أن جسّاسا قال لأخيه نضلة بن مرّة، وكان يقال له: عضد الحمار (من الوافر):

أراني قد جنيت عليك حربا … تغصّ الشّيخ بالماء القراح مذكّرة متى ما يصح عنها … فتى نشبت بآخر غير صاح تنكّل عن ذئاب الغيّ قوما … وتدعوا آخرين إلى الصّلاح فأجابه نضلة يقول (من الوافر): فإن تك قد جنيت عليّ حربا … فلا وان ولا رثّ السّلاح وقال مقاتل: إنّ همّام بن مرّة، كان أخا لمهلهل، وكان عاقده ألاّ يكتمه شيئا. (244) فكانا جالسين على شراب بينهما. فمرّ بهما جسّاس يركض به فرسه، مخرج فخذيه. فقال همّام: إنّ له لأمرا؛ والله ما رأيته كاشفا فخذيه في ركض قطّ. فلم يلبث إلاّ أن جاءته أمة، فسارّته أنّ جسّاسا قتل كليبا، ومضت. فقال له مهلهل: بما أخبرتك به العجوز؟

فقال: أخبرتني أنّ أخي قتل أخاك. قال: هو أضيق إست من ذلك. ثمّ تحمّل القوم وغدا مهلهل في الخيل. وقال المفضّل في خبره: فلمّا قتل كليب، قالت بنو تغلب بعضهم لبعض: لا تعجلوا على إخوتكم بكر، حتّى تعذروا بينكم وبينهم. ثمّ انطلق رهط من أشرافهم وذوي أسنانهم حتّى أتوا مرّة بن ذهل، أبو جسّاس. فعظّموا ما بينهم وبينه. وقالوا: اختر منّا خصالا. إمّا أن تدفع إلينا جسّاسا، فنقتله بصاحبنا، فلم يظلم من قتل قاتله. وإمّا <أن>، تدفع إلينا همّاما، وإمّا <أن> تفيدنا من نفسك. فسكت، وقد حضرته وجوه <بني> بكر ابن وائل، فقالوا: تكلّم غير مخذول. فقال: أمّا جسّاس، فإنّه غلام حديث السنّ، ركب رأسه، فهرب حين فعل ما فعل، فلا علم لي به. وأمّا همّام، فأبوا عشرة وأخو عشرة، ولو دفعته إليكم لضجّ بنوه في وجهي وقالوا: دفعت أبانا يقتل بجريرة غيره. وأمّا أنا، فما أتعّجل الموت، وهل تزيد الخيل إلاّ أن تجول عليّ جولة، فأكون أوّل قتيل. ولكن هل لكم في غير ذلك؟ هؤلاء بنيّ، فدونكم أحدهم فاقتلوه به، وإن شئتم فلكم ألف ناقة تضمّها لكم بكر بن وائل. فغضبوا وقالوا: إنّا لم نأتك لترد بنيك الأصغرين في كليب، وهو هو؛ ولا تسومنا اللّبن وفي

أموال تغلب الغنا. وتفرّقوا ووقعت الحرب. وكلّم في ذلك الحارث بن عباد، فقال: لا ناقة لي في هذا ولا جمل. (245) وهو أوجل من قالها، فأرسلها مثلا. واتّفقت الرّواة جميعا أن كانت حروبهم أربعين سنة، كما جرى على لسان جسّاس عند قوله لأبيه. منها خمس وقعات مزاحفات متعدّدة. وكان تكون بينهم مغاورات، وكان الرجل يلقى الرجل والرجلين ونحو ذلك. وكان أوّل تلك الأيّام يوم عنيزة، وهو عند فلجة، فتكافؤوا فيه: لا لبكر ولا لتغلب، وتصديق ذلك قول مهلهل (من الوافر): كأنّا غدوة وبني أبينا … بجنب عنيزة رحيا مدير فلولا الرّيح أسمع أهل حجر … صليل البيض تقرع بالذّكور ثمّ تفرّقوا، فغبروا زمانا، ثمّ التقوا يوم واردات، فكانت لتغلب على بكر، فقتلوا بكرا أشدّ القتل، وقتلوا بجيرا بن عباد. فذلك قول مهلهل (من الوافر):

وإنّي قد تركت بواردات … بجيرا في دم مثل البعير هتكت به بيوت بني عباد … وبعض الغشم أشفى للصّدور قال أبو برزة: ثمّ انصرفوا يوم واردات، ثمّ التقوا يوم بطن السّرو، وهو يوم القصيبات، وربما قال: القصيبة. وكانت لتغلب على بكر أيضا، حتّى ظنت بكر أن سيقتلونها. وقتلوا يومئذ همّام بن مرّة. ثمّ التقوا يوم قضة، وهو يوم التّحالق، ويوم الثّنيّة، ويوم الفصيل: كانت لبكر على تغلب. فكان من حديث مقتل همّام بن مرّة ما زعم مقاتل، أنّ همّام بن مرّة لم يزل قائد بكر حتّى قتل يوم القصيبات. وكان قد وجد غلاما مطروحا، فالتقطه وربّاه وسمّاه: ناشرة، وكان عنده لقيطا. فلمّا شب الغلام، إذا به من بني تغلب. فلمّا التقوا يوم القصيبات جعل همّام يقاتل أشدّ قتال، فإذا عطش رجع إلى قربة فشرب ونضح عليه منها، بعدما يضع سلاحه. فوجد ناشر من همّام غفلة، فشدّ عليه بالعنزة (246) ققتله، ولحق بقومه بني تغلب. ففي ذلك يقول مرّة، أبي جسّاس (من الطويل):

لقد عيّل بالأقوام طعنة ناشره … أناشر لا زالت يمينك آشره ثمّ قتل ناشرة رجل من بني يشكر. وأمّا خبر مقتل بجير، ابن أخي الحارث بن عباد، يوم واردات، قال: كان أوّل فارس لقي مهلهلا بجير، ابن أخي الحارث بن عباد. فقال المهلهل: من خالك يا غلام؟ وبوّأ نحوه الرّمح، فقال له امرؤ القيس بن أبان التّغلبيّ، وكان يلي مقدّمة تغلب في حربهم: مهلا يا مهلهل، فإنّ عمّ هذا وأهل بيته قد اعتزلونا فلم يدخلوا في شيء ممّا نكره. والله لإن قتلته، ليقتلنّ به رجل لا يسل عن نسبه. فلم يلتفت مهلهل إلى قوله، بل شدّ عليه فقتله، وقال: بؤ بشسع نعل كليب. فقال الغلام، وهو في حياض الموت: إن رضيت بهذا بنو ثعلبة، رضيت به. فلمّا بلغ الحارث بن عباد قتل بجير -وقيل: إنّه ولده ولم يكن ابن أخيه؛ رواية أبو برزة-فقال الحارث: نعم الغلام، <غلام> أصلح بين بني وائل، أراد أن يكون بكليب. فلمّا سمعوا قول الحارث، قالوا له: إنّ مهلهلا لمّا قتله قال: بؤ بشسع نعل كليب، وقال (من الرجز): كلّ قتيل في كليب حلاّم … حتّى ينال القتل آل همّام فغضب الحارث عند ذلك ونادى بالرّحيل، وقال (من الخفيف): قرّبا مربط النّعامة منّي … لقحت حرب وائل عن حيال

لا بجير أغنى قتيلا ولا رهط … كليب تزاجروا عن ضلال لم أكن من جناتها، علم الله … وإنّي بحرّها اليوم صال قال مقاتل: فكان حكم بكر بعدها للحارث بن عباد، وكان الرئيس الفند. وكان فارسها جحدر، وكان شاعرها سعد بن مالك بن ضبيعة. (247) قال مقاتل أيضا: فجدّ الحارث بن عباد في قتال تغلب. فلمّا كان يومهم على تغلب أسر الحارث بن عباد مهلهل، بعد ما أمر الناس، وهو لا يعرفه. فقال له: دلّني على مهلهل ولك دمك. قال: ولي ذمّتك وذمّة أمّك؟ قال: نعم، ذلك لك. قال: فأنا مهلهل. قال: فدلّني على كفء لبجير ابني. قال: لا أعلمه إلاّ امرء القيس بن أبان. فجزّ ناصيته، وقصد امرئ القيس فقتله. وقال الحارث في ذلك (من الخفيف): لهف نفسي على عديّ ولم أعرف … عديّا إذ أمكنتني اليدان طلّ من طلّ في الحروب ولم أو … تر بجيرا أبأته ابن أبان فارس يضرب الكتيبة بالسّيف … وتسموا أمامه العينان قال جحدر: إنّ مهلهلا قال: لا والله، أو يعهد لي غيرك. قال

الحارث: اختر من شئت. قال مهلهل: <أختار> الشيخ القاعد، عوف ابن محلّم. قال الحارث: يا عوف، أجره. قال: لا، حتّى يداري بظلّي. فأمره، فقعد خلفه. وقال حينئذ: أنا مهلهل. وفي هذه الوقعة قتل عمرو وعامر. قتلهما جحدر، وذلك في حومة الجولان؛ شدّ على عامر فاعتوره عمرو، فطعن عمرا بعالية الرمح، وطعن عامرا بسافلته، فقتلهما جميعا. قال مقاتل: فلمّا رجع مهلهل بعد الوقعة والأسر إلى أهله، جعل النساء والولدان يستخبرونه: تسل المرأة عن خليلها وابنها وأخيها، والغلام عن أخيه وأبيه وذويه وأقاربه. فقال مهلهل (من الخفيف): ليس مثلي يخبّر النّاس عن آ … بائهم قتّلوا وينسا القتالا لم أرم عرصة الكتيبة حتّى … انتعل الورد من دماء نعالا عرفته رماح بكر فما يأ … خذن إلاّ لباته والقذالا (248) غلبونا ولا محالة يوما … يقلب الدّهر ذاك حالا فحالا ثمّ خرج حتّى لحق بأرض اليمن، في حديث طويل. وقال عامر بن عبد الملك: لم يكن بينهم من قتلى تعدّ وتذكر إلاّ

ثمانية نفر: من بني بكر أربعة ومن بني تغلب مثلهنّ، عدّدهم مهلهل في شعره، وهي قصيدته التي منها وأوّلها (من الوافر): أليلتنا بذي حسم أنيري … إذا أنت انقضيت فلا تحوري فإن أك بالذّنائب طال ليلي … فقد أبكي من اللّيل القصيري فلو نبش المقابر عن كليب … فيعلم بالذّنائب أيّ زير بيوم الشّعثمين أقرّ عينا … وكيف لقاء من تحت القبور وإنّي قد تركت بواردات … بجيرا في دم مثل العبير هتكت به بيوت بني عباد … وبعض الغشم أشفى للصّدور على أن ليس يوفي من كليب … إذا برزت مخبّأة الخدور وهمّام بن مرّة قد تركنا … عليه القشعمان من النّسور ينوء بصدره والرّمح فيه … ويخلجه خدبّ كالبعير ولولا الرّيح أسمع أهل حجر … صليل البيض تقرع بالذّكور وهي طويلة، ذكر فيها أربعة من بكر بن وائل. وقصيدته الأخرى التي أوّلها يقول (من الخفيف):

طفلة ما ابنة المجلّل بيضا … ء لعوب لذيذة في العناق وفيها يعدّد أسماء ثمانية من تغلب: ما أرجّي في العيش بعد نداما … ي أراهم سقوا بكأس حلاق بعد عمرو وعامر وحييّ … وربيع الصّدوف وابني عناق (249) وامرئ القيس ميّت يوم أودى … ثمّ خلّى عليّ ذات العراقي وكليب شمّ الفوارس إذ حمّ … رماه الكماة بالإيفاق إنّ تحت الأحجار حزما وعزما … وخصيما ألدّ مرّ المذاق حيّة في الوجار أربد لا ينفع … منها السّليم نفثه راق قال أبو عبيدة: اسم مهلهل: عديّ؛ وقال <يعقوب> بن السّكّيت: بل اسمه: امرؤ القيس بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم

ابن يشكر بن حبيب بن عمر بن عمرو بن غنم بن تغلب. وإنّما سمّى مهلهلا لطيب كان فيه، وكان أحد من غنّي من العرب شعره. وروي أنّه أوّل من قصّد القصائد، وقال الغزل، فقيل: قد هلهل الشّعر، أي قد أرقّه. وهو أوّل من كذب في شعره، وهو خال امرئ القيس ابن حجر الكنديّ الشاعر المذكور، وسيأتي ذكره بعد ذكر أيّام العرب وفرسانها، إن شاء الله تعالى. وكان مهلهل ذا خنث ولين، وكان كثير المحادثة للنساء، وكان كليب يسمّيه زير النساء، فذاك قوله (من الوافر): ولو نبش المقابر عن كليب … فيعلم بالذّنائب أيّ زير وقال ابن الأعرابيّ عن المفضّل الضّبّيّ وأبي عبيدة، قالا جميعا: إنّ آخر من قتل في حرب بكر بن وائل وتغلب بن وائل: جسّاس بن مرّة بن ذهل بن شيبان، قاتل كليب بن ربيعةأو كانت أخته تسمّى جليلة تحت كليب، حسبما تقدّم من الكلام في ذلك. ولمّا قتله جسّاس كانت جليلة حامل، فرجعت إلى أهلها، ووقعت الحرب، وكان بين الفريقين ما كان، ثمّ صاروا إلى الموادعة بعدما كادت القبيلتان أن تتفانيا. فولدت أخت

جسّاس غلاما فسمّته (250) الهجرس، وربّاه جسّاس وأحسن تربيته، وكان لا يعرف له أبا غيره، فزوّجه ابنته. فبينا هو ذات يوم، إذ وقع بينه وبين رجل من بكر بن وائل كلام، فأربى الغلام على البكريّ في غليظ القول، فقال البكريّ: ما أنت بمنتة حتّى نلحقك بأبيك. فأمسك عنه، ودخل على أمّه كئيبا. فسألت عمّا به، فأخبرها الخبر. فلمّا أوى إلى فراشه ونام إلى جنب زوجته، ابنة جسّاس، وضع أنفه بين ثدييها، فتنفّس تنفّسة تنفّط ما بين ثدييها من حرارتها. فقامت الجارية فزعة قد داخلها رعدة حتّى دخلت على أبيها جسّاس. فقال: أخبارك يا بنيّه؟ فقصّت عليه قصّة الهجرس. فقال جسّاس: ثائر، وربّ الكعبة! وبات على مثل الوضم حتّى أصبح. فأرسل إلى الهجرس، فأتاه، فقال: إنّما أنت ولدي، ومنّي بالمكان الذي علمت، وقد زوّجتك ابنتي وحكّمتك في نعمتي، وقد كانت الحرب في أبيك زمانا حتّى كدنا نتفانا عن آخرنا، واصطلحنا وتحاجزنا، وقد رأيت أن تدخل فيما دخل فيه الناس من الصلح، وأن تنطلق معي حتّى نأخذ عليك العهد مثلما أخذ علينا وعلى قومنا. فقال الهجرس: أنا فاعل، ولكنّ مثلي لا يأتي قومه إلا بلأمته وفرسه، فحمله جّساس على فرس، وأعطاه لأمة ودرعا، وخرجا حتّى أتيا جماعة من قومهما، فتقدّم جسّاس وقال: نعمتم صباحا

من وجوه. ثمّ إنّه قصّ وذكر لهم ما كانوا فيه من البلاء، وما صاروا فيه من العافية بعد تلك الحرب المتواترة والدماء المهروقة. (251) ثمّ قال: وهذا ابن أختي قد جاء ليدخل فيما دخلتم فيه، ويعقد مثلما عقدتم. قال: فلمّا أقر بالدم وقاموا إلى العقد، أخذ الهجرس بوسط رمحه، ثمّ قال: وفرسي وأذنيه، ورمحي وسنّيه وسيفي وغراريه، لا يترك الرجل قاتل أبيه وهو ينظر إليه. ثمّ طعن جسّاسا فأنفذ منه سنانه إلى أوّل كعب فيه، وتركه ولحق بقومه. وكان آخر قتيل قتل في بكر، والله أعلم. قال ابن القطاميّ، قال: لمّا قتل جسّاس كليبا، وكانت مجلّلة- وقيل: جليلة-بنت مرّة، أخت جسّاس، تحت كليب، اجتمع نساء الحيّ للمأتم، فقلن لأخت كليب، وهي السّماوة: رحّلي جليلة بنت مرّة، أخت قاتل أخيك، عن مأتمنا، فإنّ قيامها فيه شماتة وعار علينا عند العرب. فقالت لها أخت كليب، وهي السّماوة: يا جليلة، اخرجي عن مأتمنا، فأنت أخت واترنا، وشقيقة قاتلنا، ووقوفك معنا شماتة بنا، وعار علينا. ولو كانت النساء يؤخذن بالرّجال لما تركتك تجري ردتك. فخرجت جليلة وهي تجرّ أعطافها، فلقيها أبوها مرّة بن ذهل، فقال: ما وراءك يا جليلة؟ فقالت: ثكل العدد، وخزن الأبد، وفقد خليل، وقتل أخ عمّا قليل، وبين

ذين غرس الأحقاد وتفتّت الأكباد. فقال لها: أويكفّ عن ذلك كرم الصّفح، وإغلاء الدّيات؟ فقالت: أمنيّة مخدوع وربّ الكعبة! إنّك لتعلم أنّ تغلب لا تدع لك دم ربّها، ولا من يزيد يزيل عنها في الحروب كروبها. (252) قال: ولمّا رحلت جليلة عن الأحياء، قالت السّماوة، أخت كليب: رحلة المتعدّي وفراق الشامت. ويل غدا لآل مرّة، من الكرّة بعد الكرّة، إذا صحبتهم أوائل الخيل، بالثّبور والويل. فبلغ قولها جليلة، فقالت: واحزناه! وكيف تشمت الحرّة بهتك سترها، وترقّب وترها، ثمّ أنشأت تقول (من الرمل): يابنة الأقوام إن شئت فلا … تعجلي باللّوم حتّى تسألي فإذا أنت تبيّنت الّذي … يوجب اللّوم فلومي واعذلي إن تكن أخت امرئ ليمت على … شفق منها عليه فافعلي جلّ عندي فعل جسّاس فوا … حسرتا عمّا انجلت أو تنجلي فعل جسّاس على وجدي به … قاطع ظهري ومدن أجلي لو بعين فقئت عيني سوى … أختها فانفقأت لم أحفل

تحمل العين قذى العين كما … تحمل الأمّ أذى ما تعتلي يا قتيلا قوّض الدّهر به … سقف بيتي جميعا من عل هدم البيت الّذي استحدثته … وانثنى في هدم بيتي الأوّل خصّني قتل كليب بلظى … من ورائي ولظى مستقبلي ليس من يبكي ليوميه كمن … إنّما يبكي ليوم ينجلي يشتفي المدرك بالثّأر وفي … دركي ثأري ثكل المثكل ليته كان دما فاحتلبوا … دررا منه دمي من أكحلي إنّني قاتلة مقتولة … ولعلّ الله أن يرتاح لي قلت: وقول هذه من القصائد المشهورة، ومن المراثي المذكورة، ممّا قاربت فيه رثي الخنساء وشعر ليلى الأخيليّة، وسيأتي ذكرهما، إن شاء الله تعالى، في موضعه.

(253) ذكر حرب عبس وبنو عامر والسبب فيه

(253) ذكر حرب عبس وبنو عامر والسبب فيه قال الأصمعيّ وأبو عبيدة، كلاّ يروي عن أيّام العرب ووقائعها وحروبها: إنّه لمّا قتل الملك زهير بن جذيمة، ملك بني عبس-وقتله خالد بن جعفر العامريّ، لمّا رجعا من الحجّ، بسبب ما وقع بينهما من الكلام في البيت الحرام. وكان سبب ذلك، أنّ النّعمان بن المنذر، لمّا خطب المتجرّدة بنت الملك زهير وسيّرها إليه مع أخيها شأس بن الملك زهير، وعاد من حضرة النّعمان بن المنذر، ولم يتبعه غير عبد واحد يسوق ناقة قد أوقرت طيبا وعبيرا إلى بني عبس من جهة النّعمان. فمر شأس بن زهير على أحياء بني عامر ليلا، ولم يعلموا به، فاجتاز بصيّاد قد نصب حبائله للوحش، فلمّا مرّ على تلك الحبائل شأس، نفر الوحش الذي كان تجمّع لذلك الصيّاد، فحصل منه كلاما عبثا في حقّ شأس. فقال شأس، لعزّة نفس الملك وشجاعة القلب: والله يا قرنان، لولا أنّك ضعيف الحال، ولا يقتلك فجرة، لكنت مكّنت هذا الحسام من رأسك. فاجتذب الصيّاد

نبلة من كنانته ورمى شأس على حسّ كلامه فلن تخطئ قلبه، فانجدل صريعا، وهرب العبد الذي كان معه إلى بني عبس. وقام الصيّاد فوجد شأس يخور في دمه وقد قضى نحبه. ونظر إلى مركبه وما عليه من الحلّى الفاخر، فعلم أنّه من بيت ملك، فندم على ما فعل. ثمّ إنّه نزع ما كان عليه، وحفر له حفيرة ودفنه فيها. وقاد الناقة، وعاد إلى أهله، فأخفا ذلك الطيب في حفيرة في الخباء، وكذلك سائر سلبه، ونحر الناقة، وأخفى حميع أثره. ووصل ذلك العبد إلى أحياء بني عبس، ونعى شأسا، وأخبرهم أنّه قتل في أرض بني عامر. فركب أبوه الملك زهير في أبطال بني عبس، في أربعة آلاف فارس، وأتا إلى منازل (254) بني عامر، وكان خالد بن جعفر، سيّد بني عامر وملكها، غائب عند الأسود، أخو النّعمان بن المنذر، بأرض الحيرة فلمّا شعروا بني عامر بقدوم الملك زهير في بني عبس، خرج إليه كبار العشيرة ومشايخها، يقدمهم عامر بن مالك، المعروف بملاعب الأسنّة، وتلقّوه بالإجلال والتعظيم، وسألوه النزول عندهم ليضيّفوه، فأبا ذلك، وعرّفهم أنّه لم يأت إلاّ في طلب دم ولده شأس، وقصّ عليهم القصّة. فحلفوا له بالأيمان العظيمة التي كانت تحلف بها العرب في ذلك الوقت، أنّه لم يكن عندهم من ذلك علم ولا خبر:

وها نحن بين يديك، إن بانت علينا بيّنة ذلك وعلمت حقيقته، فهذه دمانا وأموالنا وحريمنا لك وبين يديك. فانخدع لذلك الملك زهير، وعاد طالبا لأهله، ولم يأثر شيئا من السرّ. وأقام هو وأولاده في أسوء الأحوال. وكان هذا الملك زهير أبو عشرة وأخو عشرة وخال عشرة. وكان ولده الأكبر يسمّى قيسا، وكان ذو خبرة ونظر ورأي، حتّى كانت العرب تسمّيه: قيس الرأي. فقال لأبيه: أنا أظهر لك حقيقة هذا الأمر. وكانت تلك السنة سنة مجدبة على العرب، حتّى نشف الضرع ويبس اللحم. فأخذ راحلتين وأوسقهما دقيقا وسمنا وشحما، وطلب عجوز من عقلاء الحلّة تسمّى: ماهرة. وقال: يا خالة، تأخذي هذه الراحلتين مع هذين العبدين وتتوصّلي إلى ديار بني عامر وتزعمي أنّك من أرض اليمن، وأن لكي بنت، وهي على وجه عرس، وتقصدي مشترى طيبا جيّدا، فلعلّ تعلمي بحال أخي شأس من الأحياء. ففعلت ذلك، وتوصلت إلى أحياء بني عامر. ودارت على مشترى طيبا جيّدا، حتّى وقعت ببيت ذلك الصيّاد، ولم يكن حاضرا، وقد أعوز أهله ما يموّنهم لغيبته، فاستخبرتها زوجة الصيّاد عن (255) حالها، فأخبرتها بما أوصاها به قيس، وتلطّفت في القضيّة، حتّى أظهرت لها ذلك

الطّيب الذي كان بصحبة شأس، وقصّته. فتبالهت العجوز وقالت: وا عجباه من هذا الأمر! ومن ترى يكون بني عبس أو بني عامر، وإنّما أنا امرأة من ضواحي اليمن. فلمّا قضت شغلها وعادت فقصّت الحال على قيس، عند ذلك حمي الملك زهير، واستعدّ لقتال بني عامر وحضّر إليه. وسباهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، وتحصّنوا منه في رؤوس الجبال، وعاد إلى أهله. هذا كلّه جرا، وخالد بن جعفر غائبا عن أهله. فلمّا أتاهم أخبروه بما فعل بهم الملك زهير بن جذيمة. فقال: وا ذلاّه! يجري عليّ وعلى عشيرتي من ابن جذيمة هذا، من غير جرم منّا إليهم، وا عاراه من العرب! وكان شهر رجب قد دخل، وكانت العرب لا تحمل فيه سلاح، ولا تتعرّض فيه لقتال. وإنّ الملك زهير ألزم نفسه أنّه لا يعود إلى أهله حتّى يقلع شأفة بني عامر. وطلب البيت الحرام، هو وبنيه وإخوته وبني أخته. وقصد خالد أيضا البيت الحرام، وإنّهما تلاقيا في الطّواف، وحصل بينهما منازعة وكلام. فرفع خالد يديه إلى السماء وقال: اللهمّ، ربّ هذا البيت الحرام، وزمزم والمقام، وهذا الرّكن اليمان، طلبت منك النّصرة والإعانة على هذا الباغي علينا، زهير بن جذيمة. وكان الملك زهير كبير النفس شديد التجبّر، فقال: اللهمّ إنّي ما أطلب منك نصرة على أنذال بني عامر، وإنّما أنا آخذ ثأري بقوّة ساعدي وحدّ سيفي. قال: فقالت العرب عند ذلك القول: خذل زهير، وربّ الكعبة! وافترقا على ذلك. وخرج خالد من فوره وترصّد لزهير في عودته، وكان قد بقي أيّام قلائل من شهر رجب. فلمّا عاد الملك زهير، ونزل في طريقه. (256) فقال له ولده قيس: يابه، ارحل بنا من قرب ديار الأعداء،

وألحق بنا أهلنا ما دام قد بقيت هذه الأيّام اليسيرة من هذا الشهر. قال خالد: والله ما فارقنا إلاّ وقد توجّه إلى أهله يجمع علينا بني عامر وغنيّ وكلاب. فقال الملك زهير: أوقد ذلّيت يا قيس من أنذال العرب؟ وحقّ من قد أتينا من بيته، لا برحت من هذه المنزلة أو تمضي الأيّام الحرام وأبصر ما في قدرة الأسّ: خالد بن جعفر. قال: فعلم أنّ أجله قد اقترب، فتركه ولم يعاوده. وكان لمّا قال هذا القول، دخل قيس على أمّه تماضر وعرّفها أنّ أبوه مقتول لا محالة. وكان زهير شديد السّطوة والحرمة، لا يعاود في كلام. وكان لتماضر أخ، وهو خال أولاد الملك زهير، وكان الملك زهير قد نفاه عن حيّ عبس في حديث طويل، وكان نازل في بني عامر. وإنّ خالد، لمّا رجع إلى دياره استصرخ بقومه، فأجابوه في ثلاثة آلاف فارس. ففرّق كلّ ألف على محجّة من الطرق، خوفا لا يفوته الملك زهير. وجعل على الألف الواحدة ملاعب الأسنّة، وعلى الآخرة الأخوص، أخوه، وبقي هو في ألف. ونزل قريب من المحجّة الكبيرة، لعلمه بجبروت الملك زهير، وأنّه لا يستأشن منهم بشأن، وأنّه لا يأخذ على تلك المحجّة. فقال لقومه: يا قوم، من يتوجّه ويكشف لنا بالمناهل وإن كان زهير على العين،

ويأتيني بالخبر اليقين؟ فقالوا: والله يا خالد، ما لها إلاّ خال بنية. فطلبه واستوثق منه ونفّذه. فلم يزل يسير حتّى نزل بزهير والأولاد ومعهم أخته تماضر. فسلّم عليهم. فقال له زهير: ما الذي أتا بك يا مذلول؟ فقال: والله جئت مسلّم على أختي وناصح لكم. فقال: وما نصيحتك؟ فقال: إنّ خالد بن جعفر قد جمع عليكم قبائل بني عامر وغنيّ وكلاب، وهو (257) قادم بهم عليكم يحطّمكم في دياركم عن قريب. وأبا أن يقول: إنّهم بالقرب منكم وقد نفّدوني لكشف أخباركم، لما كان في نفسه من الملك زهير. وكان لمّا نفّده خالد قد اشترط عليه أنّه إن ظفر بهم لا يكن له غريم إلاّ الملك زهير وحده، ولا يسبي أخته ولا يتعرّض لأحد من أولادها، واستوثق منه بذلك. فلمّا قال للملك زهير هذا الكلام قال له: يا مذلول! أوتخيفني من كلام بني عامر وغنيّ وكلاب؟ وحقّ البيت الحرام، وما عليه من الأصنام العظام، لأخرّبنّ ديار بني عامر إلى آخر الأبد، ولأجعلنّها عبرة لمن اعتبر، وفكرة لمن افتكر. قم من حيث أتيت، لا أمّ لك! فنهض وهو مكسور القلب. فلمّا عوّل على ركوب راحلته، قال قيس: يابه، بحقّ الإله العظيم، وبربّ زمزم والحطيم، قد خالفتني في الأوّل فلا تخالفني في الثاني، ودعني أفعل ما أراه. فقال: دونك وما تختار. فنهض قيس ومسك خاله وأوثقه كتاف، وقال: وحقّ الربّ القديم، ما جئت أنت إلى تكشف أحوالنا

لأعدائنا، ولا عدت السّبيل إلاّ عند أهلنا. وكان ذلك اليوم قد هلّ شهر شعبان وهم عازمين على المسير من الغد إلى الدّيار. فلمّا نظرت أمّه تماضر إلى أخيها مشدود لطمت خدّها وقالت: وا ذلاّه منك يا قيس! تفعل بخالك فعال الأعداء؟ فقال أبوه: أطلقه يا بنيّ، لأجل أمّك فقال قيس: وحقّ فالق الأصباح، ومنشئ الرياح، لا أطلقته أو آخذ عليه المواثيق المغلّظة: لا يذكرنا لأحد من الناس، ولا يدلّ علينا الأعداء. فقال أمّه: افعل لهم هذا يا أخي. فحلف بالأيمان الماكرة على ذلك. ثمّ إنّ أخته زوّدته بشيء من الزاد، وجلبت له في سكوته ناقة لبون. وعاد من فوره إلى بني عامر. فلمّا رأوه، قال له خالد: ما وراءك؟ فلم يجبه، حتّى أتا إلى شجرة، فقال (258): يا شجرة، أنت في الأجناس، لست من الناس، قد وردت العين، ورأيت الشّين، وزوّدت الطّرموس واللّبن، من تلك المنازل والدّمن، فإن كان بعد حليب، فالقوم عن قريب. فلمّا سمعت العرب كلامه، قالوا: قد جنّ، وربّ الكعبة. فقال خالد: إن صدق حزري فقد لقي القوم وحلّفوه أن لا يذكرهم لأحد من الناس، فهو لذلك يخاطب الشجرة. عليّ بالشّكوة. فلمّا أحضرت، وجدوها حليبا بفوّارها. فصاح في قومه، ولم يزالوا حتّى لحقوا بالملك زهير ضحى، وهو سائرا إلى دياره، فأدركه خالد بن جعفر، وجرى بينهما من الحرب ما يبلبل الخواطر، ويذهل النّواظر. وكان الملك زهير أشجع

وأصبر، وفي أبواب الحرب أخبر. لكنّه خذل بتجبّره، وبقوله عند البيت الحرام ذلك المقال. فانتصر عليه خالد، وقتل الملك زهير، وتفرّقت بنو عامر عن بنيه بشرط خالهم في ذلك، وأدركوه بنوه وهو في آخر نفس، فأوصى بملك بني عبس لقيس ولده، ودفن في مكانه. وأتوا بنوه ينعوه في بني عبس، وقام العزاء عندهم أيّام. ثمّ إنّ قيس ولده جمع القبائل والعشائر والحلفاء والأصحاب وتوجّه لبني عامر، يقدمهم عنتر بن شدّاد العبسيّ. وكذلك جمع خالد من قدر عليه من العربان، وكانوا أضعاف بني عبس في العدد. لكن كانوا بنو عبس أشدّ وأصبر، بحاميتهم عنتر. فإنّه كان أعجوبة الزمان، في موقف الطّعان، فكسروا بنو عامر كسرة عظيمة، وقتلوا منهم مقتلة عامّة، حتّى تحصّنوا منهم بروس الجبال، واستأسروا خالد بن جعفر، وأرادوا قتله بالملك زهير. فوجدوا <أنّه> قد أسر منهم مالك بن الملك زهير وعمارة بن زياد، أبو الرّبيع بن زياد. وقد تحصّنوا بني عامر في أماكن حصينة، فتفادوا بينهم بالأسرى، وأخذوا على خالد العهود بإطلاق الأسيرين: مالك وعمارة. فلمّا وصل خالد إلى قومه أراد أن يطلق مالك وعمارة،259) فلم يوافقوه أصحابه حتّى أخذوا عليهم المواثيق أن يرحلوا أصحابهم عنهم

ويهادنوهم بقيّة ذلك العام، واستوثقوا منهم بذلك، وأطلقوهم. فلمّا وصلوا إلى قومهم عرّفوهم ذلك فرحلوا عنهم وتهادنوا بقيّة ذلك العام، بعدما كادت بني عامر تقتل عن آخرها. ثمّ كان بينهم بعد ذلك حروب ومغايرات يطول تعدادها. وآخر الأمر أن خالد توجّه إلى النّعمان وطلب الصلح مع بني عبس، فإنّ النّعمان كان ملك العرب كلّها من قبل كسرى. وكان الحارث بن ظالم المرّيّ أيضا في خدمة النّعمان، وقد عرفه ملك الحروب التي جرت بين العربان. ولمّا وصل خالد بن جعفر استجار بالأسود بن المنذر، أخي النّعمان، فقرّبه لأخيه وعرّفه أنّه يريد الصلح، فإنّ العرب كادت أن تتفانا بين القبيلتين. فأنعم له في ذلك وأبرّ له في حواره مع الحارث بن ظالم المرّيّ. فلمّا عرف الحارث أنّ النّعمان يقصد بصلح بين بني عبس وبني عامر، لحقه الحنق، لأنّه كان من فرسان العرب المدلورة، وشجعانهم المشهورة. وكان خبيث الباطن، لا يبقي على عدوّ ولا صاحب. وكان له ببني فزارة صلة. وكانوا بنو فزارة وبنو عبس بطن واحد حتّى وقع بينهما الحرب في سباق الخيل، وهو حرب داحس المشهور، كما يأتي ماته في موضعه، إن شاء الله تعالى. فاغتال الحارث بن ظالم لخالد بن جعفر وهو سكران نائم، وضربه بالسيف الذي كان يسمّيه ذو الحيّات، فقدّه نصفين. ثمّ إنّه افكر أنّ النّعمان يطلبه،. . كونه قتل خالد وهو في حرمه وذمامه،

وعلم أنّه مقتول لا محالة. وكان للنّعمان ولد صغير، وكان عند أخت الحارث. فإنّها كانت ربّته وهو في حضانتها، وكان من غير المتجرّدة بنت زهير. فأتا الحارث إلى أخته وقصّ عليها ما فعل. فاستعظمته وقالت: وماذا عوّلت أن تفعل؟ فقال: تعطيني ولد النّعمان، آخذه (260) وأضعه على كفّيّ وأدخل به على النّعمان، مع سفارة المتجرّدة لي في ذلك، فإنّني قتلت قاتل أباها، فينصلح الحال في ذلك. فظنّت أخته أنّ ذلك صحيح منه. فأخذ الطفل على كتفه وخرج به من باب مدينة الحيرة أوّل ما فتح، وصاح: يا أهل الحيرة، أنا الحارث بن ظالم المرّيّ، قد قتلت خالد بن جعفر في حرم النّعمان، وهذا ولد النّعمان أنا قاتله أيضا، فإن قتلني النّعمان أكون قد أخذت منه ثأري قبل موتي بقتل ولده هذا. ثمّ حذف ذلك الطفل والتقاه بسيفه في الهوى فقدّه أي قطعه قطعتين، وصاح وهجّ على وجهه. فتبعوه الناس وقد جرّدوا وراءه سيوفهم، وطلبوه من كلّ مكان. فلمّا علم أنّه مأخوذ خاف على سيفه المسمّى بذي الحيّات أن يملكه غيره من بعده، فضرب به صخرة ليكسره، فقدّها ذلك السّيف نصفين. فلمّا رأوا القوم الذي كانوا خلفه يتبعونه، تلك الضربة في الصخرة، لم يتبعه بعدها أحد، وكانت سبب نجاته. ثمّ إنّه بعد ذلك توصّل إلى بني عبس، واستجار بقيس ابن الملك زهير وعنتر بن شدّاد. فأجاراه من النّعمان، لمّا علم قيس أنّه قتل خالد بن جعفر وأخذ بثأر الملك زهير.

هذا ذكر حرب داحس والغبراء المشهورة من أيام حروب العرب

ثمّ جرت بعد ذلك بين بني عبس والملك النّعمان حروب يطول شرحها، فأضربت عنها لنخرج عن الغرض المطلوب، وإنّما نذكر من كلّ شيء لمعة كافية، أو بدعة شافية، ليكون هذا التاريخ مشحونا بكلّ نبذة لطيفة، وزبدة خفيفة، وبالله أستعين، فإنّه خير معين. هذا ذكر حرب داحس والغبراء المشهورة من أيّام حروب العرب ولمّا خلا وجه قيس بن الملك زهير من قتال بني عامر، وقتل غرماءه، وأخذ ثأره بأوفى نصيب، بلغه أنّ في بني رياح مهر لرجل يسمّى جياش بن عوف، ما ربّت العرب مثله من أوّل الزّمان وإلى ذلك اليوم، فتعلّق <به>. (261) وكان هذا المهر أعجوبة لمن تعجّب، ما ربّت مثله العرب، أعلا الخيل نسب وحسب، لأنّ أباه كانت العرب تسمّيه: العقاب، وأمّه حجرة، يقال لها: جلوة. وكانت تفوت الأبصار لسرعتها، وتملك القلوب عند خطرتها. وبهذه الحجرة والحصان كانت تفتخر بنو رياح على سائر العربان. وكان الحصان لرجل يقال له: ماجد، والحجرة لرجل يقال له: كريم بن وهّاب. وإنّ الحصان أغبر مع ابنة ماجد إلى الغدير يشرب،

والحجرة قائمة على جنب الغدير. فأدلى الحصان وحمحم ولعب بأربعته وسحب مقوده من بنت ماجد الرّياحي، فضحكوا صبيان الحيّ منه، فاستحيت البنت عند ذلك وأطلقت رسنه من يدها، ودخلت إلى بعض المضارب من شدّة الخجل. وكانت الحجرة طالب. فوثبها الحصان. ولمّا نزل عنها أخذته الجويرية وسارت به إلى مضربهم. ولمّا رآه أبوها ونظر إلى عينيه عرف أنّه قد فقر. فاغتاض لذلك، وسأل من ابنته فأخبرته الحال، فخرج إلى وسط الحيّ ونادى بآل رياح: يال رياح! فأتوا إليه شيوخ الحلّة، فعرّفهم ذلك وقال: والله متى لم يدعوني أفعل ما أريد، دسست على الحجرة من قبلها، وتثور بيننا الحرب وسفك الدماء. فقالوا: وما الذي تريد تفعل؟ قال: أتوني بالحجرة وشدّوها بين يديّ حتى أغسل حياها. فأتوه بالحجرة. فقام إليها وشمّر ساعديه، ثمّ غسل يديه بالماء وضمّدها بالتّراب، وأدخل يده في حيا الحجرة وجرف كلّما كان فيها، ثمّ تركها. فما حال الحول حتّى ولدت هذا المهر، فسمّاه كريم: داحس، لأجل ما دحسه صاحب الحصان في أمه جلوة وجاء أحسن وأرتب وأجمع من أبيه عقاب. ثمّ إنّه جاز يوم على ماجد وراء أمّه. فنهض، فأخذه، وقال: يا

للعرب! هذا مهري وابن حصاني، وأنا أحقّ به منه. وبلغ الخبر (262) لكريم بن وهّاب، صاحب المهر. فجمع سادات العشيرة، ثمّ أتا بهم إليه. فعنّفوه، وقالوا: قد فعلت في النّوبة الأوله بحجرته ما فعلت، وحكّمك ولم يشاققك، واليوم تريد تغصبه ما له! فقال: لا تطيلوا الخطاب، فوحقّ الإله القديم ما أعطيه إيّاه إلاّ أن تقاتلوني عليه وتأخذوه منّي غصبا. فلمّا سمع صاحبه ذلك، قال: يا ابن العمّ، لعن الله من يغصبك على ملك الأرض. اشهدوا عليّ أنّ المهر مهره والحجرة أيضا هبة منّي إليه، حتّى لا أفرّق بينهما. ثمّ انصرف عنه وترك له المهر وأمّه. فاستحسنوا العرب منه ذلك، واستحى ماجد من كرم ابن عمّه عليه وإفضاله. فأعاد المهر والحجرة ومعهما قطعة من إبله. ثمّ إنّ المهر خرج بدعة الزّمان، زائد الصفات، وكان يسابق سائر الخيول. وإذا أراد صاحبه يسابق أحد، يقول لخصمه: اسبقني رمي نبلة. فيقدم عليه ثمّ يطلق عنانه فيدركه ويسبقه، حتّى شاع خبره في سائر أحياء العرب. فلمّا بلغ قيس بن زهير، هام به وشغف. ثمّ أنفذ إلى صاحبه كريم برسول يسأله شراءه، وبدل له ما شاء من الأموال والنّياق والخيل والذهب

والفضّة، فأبا، وقال: والله لو سيّر ابن زهير بطلله بعته منّي بأمتعته، لكن ساومني معه، هذا لا كان أبدا. فلمّا ردّ الرسول بالخيبة، أغار عليهم الملك قيس في بني عبس، وأخذ الأموال وسبا العيال، وقتل الرجال. وكان المهر مقيّد، فوثب عليه عبد لصاحبه وحرّكه، فعاد يجمز جمزا كجمزات الغزال. فلمّا رآه قيس حرّك عليه فلم يلحق منه الغبار، فصاح على العبد، وقال: قف يا مولّد العرب، ولك الذّمام، حتّى تسمع منّي كلام. فوقف ثمّ نزل وفكّ قيده وقال: قل يا مولاي. فقال: بعني هذا المهر بمهما شئت. فقال: أبيعك. فهو بسائر الغنيمة. (262) فقال: وحقّ ذمّة العرب، شريته منك بما قلت. فلمّا تأكّد بينهما الحال، نزل العبد عن داحس وسلّمه رسنه، وأعاد قيس سائر الغنيمة، وعاد به إلى أهله وهو لا يكاد يصدّق بحصول الجواد. ثمّ إنّ قيس ما عاد يفارق داحس وغويه كما يغوى الرجل المرأة الحسناء. ووصل خبره إلى بني فزارة، وكان بين قيس بن زهير ملك بني عبس وبين حذيفة بن بدر، رئيس بني فزارة، تقاولات وتنافس، حتّى ألجأ الحال بهم إلى الرّهان في سباق الخيل، وأوقعوا بينهما الرّهن على مائة ناقة، بعد مشاجرات كثيرة أضربت عنها لطولها. وكان لحذيفة بن بدر الفزاريّ حجرة يقال لها: الغبراء. وكان مطنّ بها، فحصل بينهما الرهان على سباق داحس والغبراء. واتّفق رأيهم أن يكون السباق من مائة رمية بالنّبل، والذي يقيس: إياس بن منصور. وكان إياس بن منصور قد اختاره قيس لأنّه كان من الرّماة المشهورة الذي يضرب بها الأمثال. واتّفقوا على الضّمار أربعين يوما. هذا

جرا وكلا من مشايخ العشيرتين كاره لهذا الأمر، وعلموا أنّ هذا السّباق يثور بينهما أحقاد قديمة ودفائن باطنة. فدخلوا في إبطال ذلك، فامتنع حذيفة بن بدر، فإنّه كان معجب برأيه، كثير الصّلف، عظيم الرأي في نفسه. فلمّا رأى قيس امتناعه عن تأخير السباق صمّم أيضا هو على ذلك، على كره منه، فإنّه كان حسن العقل والتدبير، مليح الرأي والمشورة. ولمّا لجّ حذيفة في ذلك، قال له إياس بن منصور هذا القصيد (من المتقارب مع بعض الخلل في الوزن): حذيفة ما فيك من هجنة … وما في طهارة قيس من دنس فدع عنك قيس، فقيس له … عفا جنح أخذه بالنّفس (264) ولا سيّما داحس في الرّهان … إذا شاطروا ذائبا حبس جواد إذا ثار الغبار … رأيت حوافره كالقبس فلمّا سمع حذيفة مقال إياس، قال: أنا ما أرجع عن رهاني بهذا الكلام وأمثاله. وكان لحذيفة أخ يقال له: حمل، وكان عاقلا محنّكا عارف بتصاريف الزّمان وحوادث الأيّام، فتوسّط بينهما أن يتركا هذا الأمر، وركب إلى قيس ابن زهير، وقال (من الكامل): يا قيس لا تغضب حذيفة إنّه … طلب اللّجاج وفعله ميشوم

يا قيس إنّ مع اللّجاج جزأة … فيها الوبال وفرعها مذموم إنّي أخاف على أخي من شوءمه … تلقا كما لقي الفتى مكتوم جارا أخاه على المعالي فانثنى … وهو الشّقيّ وأنفه مرغوم ماذا تريد من امرئ في نفسه … حنقا وحنقه محتوم إنّ الّذي يبغي حذيفة منكم … والرّاقصات إلى منّى مفهوم فلمّا سمع قيس هذه الأبيات، قال: يا حمل، ليس منّي مخالفة؛ إن رجع أخاك عن الرهان اشهد عليّ أنّي راجع. فعاد إلى أخيه، فأعيته فيه الحيلة، وهو لا يزداد إلاّ فضاضة. وكان الذي يعصي أمر حذيفة، وقصده إثارة الفتن، وقلع آثار بني عبس، <هو> سنان، زوج أخت الحارث بن ظالم، التي كان عندها ابن الملك النّعمان وأخذه الحارث منها وقتله، كما تقدّم من الكلام. فطلب النّعمان لهذا سنان، وألزمه بإحضار الحارث بن ظالم. ونفّذه إلى بني عبس بطلب الحارث. فامتنعوا عليه في ذلك، كونهم أجاروا الحارث، كونه أخذ بثأر الملك زهير، وقتل خالد بن جعفر في حرم النّعمان. فلمّا ياس سنان من بني العبس، وأنّهم لا يسلّموه الحارث، نزل (265) ببني فزارة، وعاد يشلي الفتن ويثير الحروب، وكان داهية من دواهي العرب، فكان يعصي رأي حذيفة من الاتّفاق. قال في ذلك (من الخفيف):

قد كرهت السّباق خوفا من البغي … وخصمي على الرّهان مقيم قلت للمر: يا حذيفة دعنا … واستمع من أخيك فهو حكيم فبغا واستطال لمّا رآني … مستقيل طاهر والبغي شوم وحقّرني لمّا رأى الحلم منّي … وادّعا أنّني جبان غشيم وأنا، والّذي له البيت والرّكن … جميعا وزمزما والحطيم لي عزم يغلّ حادثة الدّهر … إذا كان أمرها محتوم برجال تلتقي صدور العوالي … بقلوب قد خالفتها الحسوم يا بني بدر، وله الأمر والنّهي … للبرايا، نعيمها لا يدوم والّذي قد يضحك اليوم عزّ … فوقه طائر الهلاك يحوم وكان حمل قد عنا بهذا البيت الاخر: سنان، لمّا علم أنّه الذي يشعب رأس أخوه حذيفة. فلمّا انتهت الأيّام التي للضّمار، وعزما على السباق، وعادت العرب تموج في الحلبين وتقايض بعضها بعضا، ووقعت بينهما الرهانات، واجتمعت فرسان القبيلتين على غدير ذات الأصاد. وأحضروا إياس بن منصور، الرامي، فأعطى ظهره للغدير، واستقبل مهبّ الهوى، وأرما سهمه مائة غلوة، فانتهى إلى المكان المعروف بينهما. هذا والاتبا والمشايخ حولهم. وانتخب كلّ واحد لفرسه فارس يعتقد عليه. وأتت سادات بني

ذبيان وشجّعان بني غطفان، لأنّهم الجميع في أرض واحدة، ومنهم أنساب متّصلة. وكان الملك قيس قد أوصى عنتر بن شدّاد أن يقيم (266) في الأحياء لعله بشجاعته وقوّة نفسه، وأنّه لا يحمل الضّيم. فخاف من إثارة الفتنة إذا كان حاضر ورأى ما لا يعجبه ولا يصبر عليه. فلم يقدر عنتر على التخلّف في الخيام، وخشي على قيس وإخوته، أولاد الملك زهير. قال: فبينما الخيل على عزم الإطلاق، وإذا بعنتر قد طلع كالأسد الواثب الأروع، وبيده سيفه وهو إلى نحو الفريقين قد أسرع، وعيناه كالجمر، وقد تطاير منها الشّرر. ولا زال حتّى توسّط الجمع، ونادى: يا معشر العربان، وسادات ذبيان، وشجعان غطفان، من بني معدّ بن عدنان، ما بينكم إلاّ من يعلم أنّني صنيعة الملك زهير بن جذيمة، أبو هذا الملك قيس، وهو الذي الحقني بالنّسب، وترك لي منزلة وحسب. ولكن ما هنّأه الزمان حتّى كنت أملّكه ملك كسرى أنوشروان، بسيفي وهذا السّنان، وطرقته طوارق الحدثان. وقد خلّف هذا الملك الكبير، والسيّد الأثير، ورضيه أن يكون خليفة على عشيرته وإخوته، وهو كما علمتم ما فيه من الحلم والإنصاف، وأنا عبده وملك يده، معزّ لمن والاه، ومذلّ لمن عاداه. والآن فالأمر قد انتهى، ولا بقا إلاّ إطلاق الخيل والنصر، من فالق الإصباح، ومهبّ الرياح. وأنا أقسم وحقّ البيت الحرام، والرّكن والمقام،

والمشاعر العظام، لإن تعدّا حذيفة وظلم، لأسقيته كأس النّقم، ولأجعلنّ بني فزارة حديثا يروى بين الأمم. فأنتم سادات العربان، وملوك الزمان، فلا ترضوا بغير العدل والإنصاف، وكونوا على من يقصد الخلاف. . . . كثر الكلام، وعادت الناس كلّ يتحدّث بهوا نفسه. . . . انتخب حذيفة للغبراء فارس من بني ذبيان، يقال له: مالك بن فعلون، وانتخب قيس لداحس رجل من بني عبس، يقال (267) له: مالك بن غالب. ولما صار كلّ واحد على متن جواده، أقبل قيس على صاحبه وأوصاه بخصائله الذي يعرفها من جواده، وأشار إليه يقول (من الرجز): لا ترسلنّ له العنان كلّه … وإن عراه عرق وهلّه إمسح بساقيك وأحسن سلّه … إنّك إن لم تنعشه تملّه . . . حذيفة فعال قيس، فتشبّه به، ودنا من صاحبه وأوصاه بفرسه، وألقا إليه يقول (من الرجز): لا ترسلنّ لها العنان كلّها … وإن علاها عرق وبلّها فامسح بساقيك وأحسن سلّها … إنّك إن تعنّفها تملّها قال: فتلعثم عنتر وتلوّى حتّى صرّ من تحته الأدم، وقال: سبق وحقّ

الكعبة أبا حجار، وأخذت جماله الأبكار، لأنّ كلامات العرب ما قلّت، ومعانيها ما استقلّت، ولكن، يا للعرب! في الشعر دليل على أنّ فرسك تتبع فرسه، كما أنّ نفسك تتبع نفسه، فاغتاض حذيفة من كلامه، وحلف أنّه لا أطلق جواده ذلك اليوم، فإنّه يقال بمقال عنتر. ورجعوا ذلك اليوم وقد أضمر الغدر في نفسه. فلمّا رجعوا عن السباق ذلك اليوم، صاح بهم شيبوب، أخو عنتر، وقال: يا سادات العرب، وأهل الفضل والأدب، بحرمة جدّكم معدّ بن عدنان، اسمعوا منّي هذا الكلام. فانعطفوا عليه الفرسان، ودارت به الشّجعان، وقالوا: قل ما بذلك من المقال، لعلّ مقالك يكون صلاح الحال. فقال: يا وجوه العرب، هؤلاء قبائل واحدة وبني عمّ، وقد جرى لهم هذه الملاحجة على السّباق، وأنا، وحقّ خالق الأشباح، ومركّب فيها الأرواح، أسبق الجوادين بسرعة الرّواح، وأفرّج الطوائف على هذه الأعصاب الملاح، لكن على شرط <أن> تكون هذه (268) المائة ناقة لي إن سبقت. فضحكوا أمراء العربان من مقاله، وضمنوا له، وقصدوا الفرجة. ولمّا عاد شيبوب مع أخيه عنتر، لامه على قوله، فقال: يا ابن الأمّ، لي في مصالح عدّة، الأوله: أنّي أعرف من نفسي، أنّني أسبق الجوادين، وإذا رأت العرب فعلي شهدت لي بذلك، ولا عادت تطمع في لحوقي إذا أنا سرت قدّامهم في المعامع.

ثمّ إنّ حذيفة في تلك الليلة، أدعى بعبد من عبيده، يقال له: دامس، وقال له: يا دامس، ما خيّبتك إلاّ ألمها. وكان يعرف من شدّته أنّه أقوى من الصّخر وأجلد من الأسود. وأوصاه أنّه يكمن للخيل قرب المكان المعروف للسبق. فإذا رأى الغبراء فرسه سابق فلا يبيّن نفسه، وإن رأى داحس سابقها يخرج ويلطمه ويعيده إلى خلفه حتّى تلحقه الغبراء. فقال العبد: يا مولاي، ومن أين أعرف الغبراء من داحس وهما تحت العجاج؟ فأعطاه عدد حصا مجمّعة وعدّه على العبد، وقال: خذ هذا الحصا وارمه إلى الأرض واحدة واحدة عندما ترى الخيل قد أطلقوا، فإذا انتهت الحصا فإنّ الغبراء تأتيك على آخر العدد، وإن بقي شيء من الحصا ورأيت الفرس السابق فهو داحس، فاخرج إليه وافعل ما أمرتك به. فلمّا كان عند الصباح علو الناس على رؤوس الروابي والشعاب، واجتمعوا الشيوخ والشباب، وأطلقت الأمناء الخيل عند ذهاب الليل، وصاحت عليها ركّابها، وضربت بالسّياط أجنابها، وتقدّمت الغبراء وتأخّر داحس، وصار الفزاريّ يقول للعبسيّ: سبقت يا أخا عبسي، فبشّر نفسك بالعكس وبالنّكسي. فقال العبسيّ: وأيم الله يا نذل فزارة، سوف ننظر من يقع في الخسارة. وصبر حتّى قطع الحجر وصاح على داحس فمدّ قوائمه مثل الإنسان (269) إذا تمطّا، وطلب السهل والوطا، وطار حتّى عاد كأنّه

عقاب، بين تلك الرّوابي والعقاب، حتّى سبق الناظر، وخيّل لراكبه أنّه على الفلك الدائر، وترك الغبراء خلفه وهي لا تدرك له غبار، حتّى غاب عن النواظر والأبصار. وعاد العبسيّ يقول للفزاريّ: أنفذني في رسالة إلى بني بدر، وأوفي ما في عنقك من نذر. هذا، وشيبوب في عراض داحس مثل ريح الشمال، وكلّما رآه قد سبقه يهيم في الربا والآكام، كما يهيم ذكر النّعام، فسبق داحس وصار قدّامه برمية سهام. وما زال كذلك حتّى قارب الشّعب الذي فيه دامس العبد، وكان قد بقي من الحصا أكثر من النصف، ومدّ عينه فرأى داحس قد أقبل مثل البرق إذا خطف، والقطر إذا وكف. فلمّا صار بين يديه عارضه كالعفريت، ولطمه لطمة جبّار عنيد، أو شيطان مريد، على وجهه، فأداره إلى وراة، ومن عظم اللّطمة ارتعد وتتعتع، وكاد راكبه أن يقع. ونظر شيبوب إلى هذا الفعال، فسلّ خنجره ووثب على العبد في صدره، أطلع الخنجر من ظهره، فوقع بخور في دمه. ثمّ همّ أن يعود إلى داحس ويحسن فيه المداراة، وإذا بغبار الغبراء قد أقبل مثل الريح الهبوب، أو الماء إذا جرى من الأنبوب، فخاف لا يعود سبوق، ولا يأخذ لا جمال ولا نوق، فترك داحس ولعب برجليه وانطلق مثل البرق إذا برق، وأتت الغبراء في إثره، وأتا داحس في إثرها ودموعه جارية على خدّيه، وقد فتح منخريه. وجميع الطوايف قد ضجّت في إقبال شيبوب وعجبوا من خفّة ركبه وقوّة عصبه. ولمّا أقبلت الغبراء من بعده، ارتفعت أصوات بني فزارة فرحا

بالسّبق، وما زالوا كذلك حتّى وصل داحس وفي وجهه أثرا لطمة قد أثّرت في صفحات خدّه، (270) وأخبره راكبه بما جرا، فكادت مرارة قيس تنفطر حنقا، ودمدم عنتر وجرّد حسامه، وأراد أن يهجم على بني بدر، وتصايحت الفرسان، وزمجرت الأبطال، وسلّت السيوف، وغلت الدّماء، وانقلبت الدّنيا، ولا بقي إلاّ أن تحمل العرب بعضها على بعض. فدخلت المشايخ والسادات، وكشفت الرؤوس خوفا على البنين والبنات، ودخلوا بين الجموع، وردّوا الناس بالسؤال والخضوع. وما أمسا المساء حتّى اتّفقوا أن تكون المائة ناقة من مال بني فزارة لشيبوب لأجل سبقه، وخلا حذيفة اللّجاج في طلب المال، لأجل لطمة داحس، وعاد وفي قلبه نار لا تطفى، ولا سيّما لمّا سمع بقتل دامس عبده. وأما قيس فإنّه رجع وفي فؤاده من أجل لطمة جواده حزازات، وعنتر يقول: أيّها الملك، وحقّ نعمك وصدقات أبوّتك لأفنينّ بني بدر، لأنّهم يطلبون الظّلم والغدر، ولا بقيت أظفر منهم بأحد إلا وسقيته كأس العطب. وافترقوا، وكلاّ يعظّ كفوفه حنقا. وسيقت النوق إلى شيبوب، فنحر وأولم وأطعم وفرّق على الصعاليك من الطائفتين. . . . كان بعد أيّام <أن> اجتمعت جهّال بني فزارة إلى حذيفة، وقالوا: كيف تركت رهنك يا با حجار، بالكلام الفشار؟ ولم يزالوا به معما فيه من الخفّة، حتّى أنفذ ولده ندبة، وكان يكنى أبا فراقة، وقال: اذهب

إلى قيس بن زهير وقل له: قال لك أبي: أنفذ إليه سبقه سرّا، وإلاّ آخذه منك جهرا وقهرا وفضحتك بين العربان تارة أخرى. وكان عند شيخ من عقلاء قومه، فقال: يا حذيفة، الله الله! إيّاك والبغي والرجوع إلى كلام الجهّال، وأنشأ يقول (من الرجز): البغي سيفا يا أبا حجاري … فتّاكة كطوارق الأسحاري (271) فاحفظ مضاربه إذا جرّدته … وانصف ولا تلبس لباس العاري واسأل خبيرا عن ثمود وأهله … لمّا طغوا وبغوا على الأخيار ناداهم تحت الظّلام فأصبحوا … بين الطّلول شواخص الأبصار فلمّا سمع حذيفة شعره لم يلتفت إليه، ولعب العجب والبغي في عطفيه، وقال لولده: سر لما أمرتك به! فسار الصغير إلى بني قيس، فلم يجد قيسا حاضرا، فقالت له المدلّة: يا با فراقة! في أيّ شيء أتيت؟ قال أريد سبقنا وحقّنا. فقالت المدلّة: وأيّ حقّ عندنا؟ ارجع على عقبك واشكر ربّك الذي ما رآك قيس. فرجع ندبة إلى أبيه وأخبره الخبر. فغضب وقال: يا ويلك! رجعت بالذلّة من كلام المدلّة! فلمّا رجع قيس إلى أبياته آخر النهار عرّفته زوجته، وكان ثملا من شرب العقار، فلعب الشرّ في جميع أعضائه. ثمّ قال: لعن الله أبوه! والله لو كنت حاظر ما تركته يعود ينظر أمّه أبدا. فلمّا كان من الغد، إذا بندبة قد حضر ووقف وما سلّم، وقال: يا

قيس، يقول لك أبي: أوصله حقّه وأنت جليل، وإلاّ أخذه منك وأنت ذليل. فزاد غضب قيس، وقال: يا ويلك يا ابن اللحنا! ولمثلي يقال هذا المقال؟ وضربه بحربة كانت في يده قضى عليه. وكان عنتر جالس بين يديه، فشدّ ندابة على فرسه عرضا وهو قتيلا، وزعق على الجواد، فعاد به إلى بني فزارة. فلمّا رأوه، صاحت النّسوة وانقلب الحيّ بالصياح، وحرق حذيفة أثوابه، وعلا بكاه وانتحابه، وصار يدور بين البيوت ويصيح: والتراب أبا فراقة! الثأر الثأر! وركبت فرسان بني فزارة وأحلافها، وكذلك بني عيس، ووقعت العين على العين ولا بقي إلاّ اصطدام الخيل. فدخلت مشايخ القبيلتين مكشّفين الرّوس، حفاة الأرجل. ولم يزالوا كذلك حتّى تقرّر بينهم الحال، على أن قيس يقوم بدية (272) ندبة بن حذيفة. وحمل المال، وانفصل الحال، وافترقوا عن مضض. ثمّ إنّ حذيفة جمع إخوته واستشارهم في الغدر ببني عبس، فقال له أخوه حمل بن بدر: يا حذيفة، احذر البغي، ثمّ أنشأ يقول (من الطويل، مع خلل في الوزن): وحقّ الّذي أرسى الجبال بلا حسبي … لإن أنت لم تقبل فداء بني عبس

لتصطبحن كأسا مريرة … من السّمهريّات المثقّفة الملس أغرّك أن قالوا: حذيفة سيّد … فكن سيّدا نفديك بالمال والنّفس وخلّي جواد البغي لا تركبنّه … فيرميك في بحر من التّعس والنّكس نهيتك عن قيس وقيس نهيته … ولكنّ خبرا المقدور بالسّعد والنّحس حذيفة ترك الحرب عندي نصيحة … ولا سيّما حرب الفوارس من عبس ودعهم لنا حصنا إذا مالت العدا … علينا صباحا بالمسوّمة الخرسي وإن كان قيس غادر في فعاله … فأنت الّذي علّمته الغدر بالأمس فلمّا سمعت القبائل مقاله شكروه على ذلك، وألزموا حذيفة بأخذ الفداء. ولمّا أراد حذيفة العبور إلى منزله وجد زوجته قد حوّلت باب الخباء. وهذا كان عادة نسوان العرب إذا أرادوا طلاقهم من أزواجهنّ. ثمّ قالت: وحقّ اللاّت والعزّى وهبل الأعلا، لا كنت لي بعد هذا اليوم بعلا. ورآها قد والاها شبه الجنون وهو تنشد وتقول (من الوافر): أيقتل واحدي قيس وترضى … بأموال ونوق سارحات

أما تخشى إذا قالوا الأعادي … حذيفة قلبه قلب البنات فدع ما قاله حمل بن بدر … فكلّ مقدّر لا بدّ يأتي وخذ ثأري بأطراف العوالي … وبالبيض الحداد المرهفات (273) وإلاّ خلّني أبكي نهاري … وليلي بالدّموع الجاريات لعلّ منيّتي تأتي سريعا … وترميني سهام الحادثات أحبّ إليّ من بعل جبان … فإنّ حياته بئس الحياة فوا أسفي على المقتول ظلما … وقد أمسا طريحا في الفلات ترى طير الأراك ينوح مثلي … على أعلى الغصون المائلات وهل يجد الحمام مثل وجدي … إذا رميت بسهم من شتات فيا يوم الرّهان فجعت فيه … بشخص جاز حدّ الصّفات فلا زال الصّباح عليك ليلا … ووجه البدر مسودّ الجهات ويا خيل السّباق سقيت سمّا … مداف في المياه السّارحات ولا زالت ظهورك مثقلات … بأحمال الجبال الرّاسيات فلمّا سمع حذيفة هذه الأبيات، بكى حتّى كاد يغمى عليه. وزادت به الأحزان والحسرات، وقال لزوجته: قري عينا، وطيبي قلبا! فإنّي قد جعلت على بني زهير الأرصاد والعيون، ولست بقانع منهم بمال، ولا نوق ولا جمال، ولا بدّ من أخذ ثأر ولدك من إحدى بني زهير، وإنّما هذا أمر

أخفيناه حتّى لا يشيع عنّا فيخرج عن أيدينا. ومن ذلك العهد جعل له الأرصاد والعيون في بني عبس، حتّى كان عرس مالك بن زهير في بني غراب. وسار إلى بني غراب في أفراس قليلة من بني عبس، أمن من طوارق الحدثان، ونوائب الزمان. فلمّا كان في صبيحته قبل طلوع الشمس لم يشعر إلاّ بخيول بني فزارة يتقدّمهم حذيفة بن بدر. فخرج مالك من خباه في ثياب مصبّغات التي كان نائما بها مع عروسه. فلمّا دهمته الخيل لم يمهل إلى لبس عدّة حرب، فكبا به الفرس في بعض أطناب البيوت، فرماه على أمّ رأسه، وبادره حذيفة بن بدر فضربه على عاتقه، نزل (274) السيف إلى معالقه، فخرّ صريعا. فلمّا رآه حذيفة جديلا ملقا، ألوى عنان فرسه وطلب دياره. وقام الصائح في بني غراب، وقتلت مع مالك ثلاث نفر من بني عبس ممّن كانوا أتوا معه في العرس. وخرجت زوجة مالك بن زهير ووضعت رأسه في حجرها وقبّلت عوارضه وأنشدت (الوزن مضطرب وغير واضح): أبكيك لا للنّعيم والأنس … بل للمعالي والرّمح والفرس أبكي على سيّد فجعت به … أرملني يوم صبحة العرس إذ خرّ ملقا فوق التّراب مجدّلا … مضمّخ بالنّجيع منغمس

يا ليتني كنت قبل مصرعه … شربت كأس الحمام في نفس كلّ صباح يأتي من بعد طلعته … تراه عيني في ظلمة الغلس ثمّ كان بينهم بعد ذلك وقائع وحروب، شيّب الأطفال في المهود. ثمّ إنّ عنتر ترصّد لبني فزارة حتّى ظفر بعشرة فوارس من بني فزارة، يقدمهم حمل بن بدر وعوف بن بدر، إخوة حذيفة بن بدر. فلمّا ظفر بهم،. قال لحمل بن بدر: انج بنفسك، فأنت أعقل قومك. ثمّ طعن عوف بن بدر، فأنفذ السّنان مع كعبين من الرّمح من ظهره، ثمّ كرّ على بقيّة الفزاريّين فقتلهم جميعا، وهو يقول: بالثأر خليلي مالك بن زهير. . . . كان بينهم مداعات للحرب، فالتقوا على ماء يقال له: آرك، فأقاموا في الحرب خمسة أيّام، وكانت لعبس على فزارة، حتّى كادت فزارة تفنا بأجمعها. فخرجت مشايخ فزارة مكشّفين الروس، عراة الأجساد، مستغيثين بقيس حتّى رفع عنهم السيف، وأخذ برهائنهم وهم مائة وعشرين فتا من أولاد سادات فزارة. وفعل عنتر في تلك الحروب ما يحيّر النّواظر، ويبلبل الخواطر. وهذا هو حرب داحس المشهور والذي ضربت به الأمثال، بعد حرب البسوس المقدّم ذكره، والله أعلم.

(275) ثمّ كان بينهم وقعة جبال الرّدم، واصطلحوا، وأقاموا مدة كانت بينهم فتنة الحصين بن ضمضم، وكان من وجوه بني فزارة، وهو ابن خالة حذيفة بن بدر. وإنّه ركب طالب الصيد، فمرّ بمراعي بني عبس، فرأى طالب أخو الربيع بن زياد تحت شجرة يشرب فضلة خمر كانت معه وهو مضطجع وقد رفع صوته يغنّي، وجماله ترعى حوله. فقال له الحصين الفزاريّ: ويلك يا ابن زياد! أمنت وطربت. فقال له طالب: وكيف يا حصين لا أطرب وسيوفنا حداد، ورماحنا مداد، والنّصر عاداتنا، مخيّم على أبياتنا؟! فلمّا سمع الحصين كلامه ثارت فيه الحميّة الجاهليّة وطعنه في حربته صلب العود فيه، وخلاّه ملقى ومضى إلى أهله، ودخل على حذيفة بن بدر فعرّفه، فاستجاد فعله. ومن يومه جمع حشوده وحلفاءه. ثمّ إنّ بني عبس استجاشت. ثمّ كانت بينهم وقعة ذات الإصاد، وكانت لعبس على فزارة، وقتل عنترة الحصين بن ضمضم مبارزة. وكسروا بنو فزارة كسرة عظيمة لا انجبار لها، وتفرّقت عنها حلفاها وجموعها. وعادوا بني عبس منصورون. فوجدوا الأحياء في صياح ونواح. فكشفوا عن ذلك، فوجدوا تماضر، أمّ قيس بن زهير، قد سباها حمل بن بدر، أخو حذيفة. ولمّا خافت الفضيحة رمت نفسها على صخرة فأخلطت

دماغها، وهي بين الإماء يندبونها. فلمّا عاينوا بنوها ذلك طلبوا آثار بني بدر بعدما كانوا قد عفوا عنهم. فلحقوهم على جفر الهباءة، وهو ماء قريب من ديارهم. وكان لحذيفة بن بدر ولد يقال له حصن، جميل الصورة، وكان أبوه لمّا نزل هو وإخوته على الماء، علموا أنّ بني عبس تدركهم هناك، وحقّقوا الموت. فقال لولده: هذا آخر العهد منك، ولا تغفل عن ثأر أبيك وأعمامك، فأنا أعلم أنّ قيس يبقي عليك بما أوصيك أن تفعله، وذلك إذا رأيت <أنّهم> قد أتوا علينا ولم يبق غيرك، فارتمي على أقدامه وقل له: يا عمّ، لا تدع أحدا يقتلني غيرك. وامتدّ قدّامه على (276) حفير الوادي. فهو معه في الكلام، وإذا قد طلع عليهم خيول بني قيس، يتقدّمهم قيس بن زهير وإخوته وبني زياد، وعنتر بن شدّاد، في جماعة بني قراد، وقيس ينادي برفيع صوته: لبّيك لبّيك يا والدتاه، لبّيك لبّيك يا أخاه! ثمّ قال: يا بنو بدر، إلى كم هذا الجور والعناد والبغي؟! ها قد حلّت بكم النوائب، وعن قليل تندبكم النوادب. فصاح به حصن: يا عمّاه، هذا وقت المعروف يا طيّب اللّبن. فلطمه أبوه أرداه على قفاه، وقد استقتل. وقال: يا بني زهير، دونكم وما تشاوا، فوحقّ ألاّت والعزّى، لو ظفرنا بكم ما أبقيناكم وإنّ أبقيتمونا، فاغتنموا فرصة الدّهر، ودعونا من المحاورة،

فوحقّ الكعبة الحرام، وهبل والمقام، لا دافعنا عن أنفسنا ولا جرّدنا سيف ولا أحدبنا سنان. عندها ترجّل قرواش ابن عمّ قيس وفي يده حربة قاضية، فهزّها وضرب بها حذيفة في صدره أطلعها من خرزة ظهره. فلمّا مال، نزل الحارث بن زهير، وفي يده سيف أخيه مالك، فحزّ به رأسه وأخذه بيده ونادى: يا لثارات مالك بن زهير. ثمّ أنشأ يقول (من الوافر): فلو نبش المقابر عن أخينا … وعاين يومنا ذا لم نبالي فليت الأرض تنقب عنه حتّى … يعاين يومنا ويرا فعالي تركنا بالهباة سراة بدر … يمجّون المنايا بالعوالي حذيفة والفتا حمل أخاه … ومالك مع زيد مع بلال تركناهم بأرض الجفر صرعا … بأسياف مهنّدة صقال قتلناهم وعزّ عليّ يوما … تنالهم المنيّة بالمنال سراة النّاس كانوا أين حلّوا … وأسد الحرب في يوم المجال بغوا والبغي يترك كلّ أرض … قفار لا تعزّ على سؤال فلمّا أبصر الرّبيع فعال الحارث، صاح: واحرباه يا طالب! ثمّ ترجّل إلى حمل (277) بن بدر وطعنه صلب الرمح فيه وقطع رأسه، وأنشأ يقول

(من الوافر): سقينا بالهباة سراة بدر … كؤوس الموت من بيض وسمر أدرناها عليهم مرهفات … فمالوا بالغلاة بغير سكر وكانوا أعظم المقلين جمعا … وأقوى عزمة في كلّ أمر ومنها يقول: وفينا بالعهود لهم فخانوا … وجازونا بإسراف وغدر وغرّهم الزّمان فخادعونا … وصرف الدّهر يخدع كلّ حرّي ونحن الخاسرون بما فعلنا … فوا أسفي على أولاد بدر قطعت بقتل سيّدهم نباتي … ولكنّي شفيت غليل صدري وتقدّم عمرو بن الأسلع وقتل مالك بن بدر، وتتابعت الفرسان وأصحاب الثارات وقتلوا بقيّتهم حتّى امتزج الجفر بالدّماء. هذا وقيس يبكي حتّى بلّ بردته، ونزل عن جواده ينادي: وا حسرتاه عليكم يا بني الأعمام. ثمّ أنشأ يقول (من الخفيف، مع اضطراب في بعض الأبيات): إنّ يوم الهباة أورثني الذّ … لّ وأصبحت ظالما مظلوما يوم قتلي سراة آل بدر …. . وكانوا للعالمين نجوما فجعوني بمالك بن زهير … فحملت الأسى له والهموما

فقتلت الجميع كيما لأطفي … بدمائهم ناري فزدت سموما ليتني كنت قبل فقد بني بد … ر قتيلا أو قد فقدت النّعيما لطموا داحس حذر السّبق … لقد كان داحس مشوما ظلمونا بفعلهم وظلمنا … معشرا كان يومهم محتوما فلمّا فرغ قيس من شعره، طلع إليه حصن بن حذيفة وارتما على أقدامه يقبّلهما ويبكي، وقد انخلع قلبه ممّا عاين في قومه، وكان صبيّا. ثمّ نادا: يا عمّاه، (278) بدم أبيك زهير وأخيك مالك، إن كان قلبك بعد ما اشتفا، وقد عوّلت أن لا تبقي منّا أحدا، فاذبحني أنت بيدك لعلّ تشتفي كبدك. ثمّ سلّم إليه سيف أبيه حذيفة، وانضجع قدّامه على التراب. فلمّا عاينه قيس كذلك، صاح: واكرباه يا ابن الأخ! وضمّ حصن إلى صدره وصار يقبّله ويبكي ويقول: والله لو فعلت هذا الفعال قبل قتل أبيك وأعمامك ما كان نالهم هذا المنال، ولكن جرى عليهم حكم القضاء، وأنت المقدّم عليهم بعد أبيك. ثمّ عادوا إلى ديارهم وهم لا يغبّوا على طريق. وهذا آخر ما وقعت عليه من أخبار حرب داحس، رواية الأصمعيّ، والله أعلم.

ذكر حاتم الطائي ونبذ من أخباره

ذكر حاتم الطّائي ونبذ من أخباره قال الأصمعيّ وأبو عبيدة: إنّه جرى بمجلس كسرى ذكر لحاتم الطائيّ، فسأل من النّعمان بن المنذر عنه، فقال: أيّها الملك! أجمع الناس أنّه لم يكن أحدا بلغ في الكرم ما فعله حاتم، حتّى بلغ به الأمر إلى بيع نفسه، وأقرى ضيوفه. فقال كسرى: وكيف كان ذلك؟ فقال: نعم أيّها الملك، هذا حاتم تعلّم الكرم من أمّه غنيّة بيت عفيف. وكان أبوها قد مات وخلّف لها أموالا جمّة لا تدرك، فأنفذت أكثرها في الجود على الناس. وإنّ إخوتها أزوجوها لرجل يقال له: سعد بن عبد الله الجلهميّ، واقتصدوا ذلك لعلمهم أنّه لم يكن في العرب أشحّ منه، وقالوا: هذا يضرب على يدها ولا يمكّنها من بذرقة مالها. فلمّا ولدت حاتم، انتشأ أكرم أهل زمانه. وكانت أمّه تحسّن له ذلك وتقوّيه على مراده. ومات أبوه، ونفذ جميع ما كان لهما حتّى بلغ بهما الجهد إلى أن باتا بلا عشاء، ولم يكن عندهما ما يتقوّتاه، ونزل بهما أضيافا على ما كانوا يعلمون من حاتم. فدخل على أمّه وقال: ألا تري إلى أضيافنا؟ وكيف لا يملك شيئا من المدنيا. فقالت له أمّه: يا حاتم، خذ بيدي وأخرجني إلى القافلة، (279) وقل: من يشتري هذه الخادم البازلة؟

وبعني بما تضيف به أضيافك الليلة، ولا تحزن على قلّة ما بيدك. فقال حاتم: معاذ الله يا أمّاه أن أبيعك وأنت امرأة ضعيفة عن ما يراد منك من الخدمة! وإنّما، وحقّ البيت الحرام، وزمزم والمقام، متى لم تفعلي أنتي بي هذا وتبيعيني بما تقري به هؤلاء القوم، وإلاّ قتلت نفسي بيدي. فلمّا تحقّقت من ذلك، قامت به إلى القافلة الواردين عليهما وأباعته بناقتين، ونحرتهما للأضياف. ولمّا كان عند الصباح، توجّه حاتم مع مولاه الذي شراه، بعدما ودّع أمّه وأخته، وسار يسوق جمال مولاه ونياقه إلى دياره. ثمّ سلّم إليه مولاه سائر أمواله وجماله، وبقي على مثل ذلك ثلاث شهور. وفي الشهر الرابع نزل على سيّده رجل من طيء-وكان اسم مولاه لائم بن خارقة. فلمّا كان عند المساء جلس الطائيّ للعشاء، فرفع رأسه فرأى حاتم واقف من جملة العبيد في الخدمة، فعرفه، وما خفا عليه أحواله. فقال لمولاه: من اين لك هذا العبد النجيب البازل؟ فقال: هذا شريته من بني طيء بناقتين. واليوم، لو طلب منّي بعشرين ناقة ما بعته. لما بان لي منه من الأمانة وعدم الخيانة. فضحك الطائيّ من كلامه، وقال: يا أمير، لقد اشتريت عبدا ما عرفت له قيمة، ووقعت والله بالدّرّة اليتيمة. ولو عرفته ما كنت استخدمته، بل كنت خدمته وأكرمته. فلمّا سمع مولاه هذا الكلام، رفع يده عن الطعام، وقال: يا وجه العرب، ما معنى هذا المقال؟ فقال الطائيّ: والله ما بعبد ولا ابن أمة، ولكن ابن حرّة مكرّمة. هذا حاتم طيء الذي بلغ من الكرم ما لا بلغه أحدا من الخلق، وما أظنّه أباع نفسه إلاّ لقضيّة عجيبة

وأمور غريبة. قال: وكان هذا لائم سيّد مذكور بالسخاء والجود مع الحال المتّبع. فلمّا تذكر حاتم، مع ما تواردت عليه من أخباره، طاش عقله وقام على قدميه وأعتق (280) حاتم وأجلسه وغيّر عليه أثوابه، وسأله عن سبب بيعه نفسه، فقصّ عليه حديثه وسببه. فعظم ذلك على لائم. ثمّ إنّه قطع ماله نصفين وشطره شطرين، وأعطى حاتم الشطر الواحد، فكان ألف ناقة وجمل، وخيل وإماء وعبيد، وقماش وأثاث بجملة كبيرة، وعاد إلى أهله. وكانوا أهل الحيّ إذا سألوا من غنيّة أمّ حاتم عن ولدها، تقول: غدا يتكسّب. وكان لائم قد أعطى حاتم بعد ذلك مولّدتين وتخت قماش وطيب ومائة ناقة، وقال: أوصل هذا لأمّك، حقّ دلالتها عليك، لأنّها باعت بيع السّماح. فشكره حاتم على ذلك. ولمّا وصل إلى الحيّ خرجت بنو طيء إلى ملتقاه، وهم يظنوا أنّه كسب جميع ذلك. فلمّا سمع كسرا ذلك، قال: ثمّ ماذا فعل حاتم بالمال؟ فقال: لم يصل إلى الحيّ حتّى فرّق أكثره على أهل الحيّ وفقراه وصعاليكه، وأبقى منه ما يسدّ به خلله ولإقامة رسمه لنزّاله وضيوفه. فقال كسرى: والله لا بدّ لي من امتحان هذا الرجل. وأمر بعض حجّابه أن يمضي إلى حاتم ويقول له: إنّ الملك كسرى قد احتاج إلى جمال يشيل عليها بعض أشغاله، وقد سيّرني الملك قاصدا. فامتثل الحاجب ذلك، ولم يزال حتّى قدم على

حاتم فاستنزله وأحسن ضيافته وقراه، وبلّغه الحاجب ذلك فقال: السّمع والطّاعة، والله للملك العادل بتّ الليلة على خير إلى غد. ولم يكن يملك حاتم غير ناقة واحدة يشيل عليها أمّه وأخته إذا انتقلت العرب من دار إلى دار. فلمّا كان عند الصبح طلع حاتم على تلّ عال فصاح: يا لطيء! يا لطيء! فتبادروا إليه وجوه العشيرة وشيوخها. فقال: يا بني عمّي، الملك العادل قد نفّذ يطلب منّي ظهر يحمل عليه أشغاله، ولم يكن عند ابن عمّكم غير ناقة واحدة. فقالوا أبشر يا حاتم ببلوغ المنا! ثمّ جمعوا له عشرة آلاف جمل وسلّمها للحاجب واعتذر. وكان الحاجب لمّا وصل إلى أحياء طيء بلغته كلاب حاتم وعادوا يبصبصوا بأذنابهم ويدلّونهم على بيوت حاتم، لكثرة ترداد الأضياف. (281) فلمّا عاد الحاجب بالجمال إلى كسرى وأخبره بما عاين وبما رأى استعظم كسرى أمره، وأمر أن توسق سائر تلك الرواحل من سائر الأصناف من خيرات العراق، ومن الثياب الديباج الملّونة، وأن توسق ناقة حاتم ذهب وفضّة ويعادوا إلى حاتم مع ثقة من جهة كسرى، ويأخذ خطّ حاتم بجميع ما وصل إليه. وأمره أن ينظر ما يفعل حاتم بتلك الأحمال المسيّرة إليه. قال: فلمّا وصلت الجمال موسقة من تلك الأنعام صاح حاتم على أربابها، ففرقها بما عليها. كلّ من عرف جماله أعطاه <أيّاها> بما عليها، ولم يعلم ما هو. ولن يأخذ غير ناقته. فلمّا وصل بها إلى أبياته أتته

الفقراء والصعاليك من الحيّ، وقالوا: يا حاتم، نحن لم يكن لنا جمال ولا نوق نعيرك حتّى تردّها إلينا بأحمالها. فقال: على رسلكم. وفتح الغرائر التي كانت على ناقته وعاد يعطي من ذلك الذهب والفضّة حتّى فرّقها، ونفض الأعدال فوقع من أحدهما درهم واحد، فأخذه بيده وحلقه إلى خادمه طريفة، وقال: خذي، هذا سهمك. فقالت: يا مولاي، نحن لا تألفنا دراهم ولا ذهب، ولا تصاحبنا من دون العرب. فأنشأ عند ذلك يقول (من البسيط): قالت طريفة: ما تبقا دراهمنا … ولا لها عندنا عهد به نثق تفرّ من عندنا والله يرزقنا … ممّن سوانا ولسنا نحن نرتفق ما يألف الدّرهم الطّاغي لصحبتنا … إلاّ يمرّ علينا ثمّ ينطلق إنّا إذا اجتمعت يوما دراهمنا … ظلّت إلى طرق المعروف تستبق قال أبو عبيدة: وكان حاتم بعد سير الرسول من عنده افتكر فعل كسرى، فقصد التوجّه للنّعمان ليعلم موجب ذلك. فتأهّب وسار طالب النّعمان بأرض الحيرة، فنزل على عرب يقال لهم: بني فهم. وكان فيهم امرأة برزة يقال لها: ماويّة ابنة الضّحّاك، ذات حسن وجمال وثروة ومال، قد خطبها (282) سادات العرب، أهل المعالي والرّتب، وهي قد آلت على نفسها لا تزوّجت إلاّ من تختبره وتعلم صحّة حسبه وكرمه. وكانت لها

أبياتا خارجة عن الحلّة لأجل الضّيفان. فما زالت كذلك حتّى طرق ديارها حاتم ونزل في تلك الأبيات. فوجد بها ثلاث نفر من شعراء الجاهليّة، وهم: زهير بن أبي سلما والنّابغة الذّبيانيّ وأوس النّبيتيّ، وهم قد أتوا لخطبتها. فلمّا استقرّ بهم المكان أتتهم جارية مبرقعة وسلّمت عليهم بلسان فصيح، وقالت: مولاتي تسألكم: هل لكم من حاجة غير القرا؟ فقال لها زهير: نعم يا مولّدة العرب، نحن ثلاث أتينا في خطبة سيّدة العرب، وهذا القادم ما نعلم هل هو على ما نحن فيه أم لا. فسألته الجارية، فقال: أمّا أنا فعابر سبيل، وإن قسم لي ذلك كنت على الخيار فيه. قال فلمّا ردّت الجارية قول الأقوام، أنفذت لكلّ واحد منهم جزور، وقالت: ليتحكّم كلّ واحد في جزوره بما يريد. فوثب كلّ واحد من خباه ونحر جزوره وكشطه وعرّاه من جلده، وأضرم النار وجلس يصنع له صنيعا. وعلمت ماويّة بذلك، فتنكّرت وغيّرت حلاها، وأتت في زيّ سائلة. فأوّل ما وقعت بمضرب أوس النّبيتيّ، واستطعمته فأعاطها زور المبرك، وهو أخس ما في البعير، فأخذته وعدلت إلى النّابغة، فاستعطمته فأعطاها مبرك الفخذين، وهو أيضا خسيسا في البعير، ثمّ أتت إلى زهير

فقطع لها كارع الجمل. وهذه الأشياء لا تعمل فيها النار ولا تنضجها. فحملت الجميع وأتت إلى عند حاتم، فرأته وقد أكثر من إضرام النار، ونصب القدر لإصلاح الطعام. فلمّا رأته تعجبت من علوّ همّته، وسألته، فقال: على المعل يا سيّدة حتّى ينضج ما سوّيناه، ولعلّكي تعرفين من صعاليك الحيّ من تحضرينه للعشاء. فقالت: وراي أطفال لا يصبرون حتّى ينضج طعامك، بل أوصل لهم ممّا تنعم وأعود إليك بمن (283) وجدته من صعاليك الحلّة. فأعطاها الملجا والحدش والعجز وحشى النحارك وقطعة كبيرة من السنام، وهذا ألذّ ما في الجزور، وقال لها: يا سيّدة، تردّدي إلينا ما دمنا هاهنا. فدعت له ماوية، وعادت وقد سلبها بطيّب كلامه. فلمّا وصلت إلى مضاربها سلّمت الجميع لجارتها، وقالت: احتفظي به إلا نهار الغد. ثمّ أمهلت ماويّة ساعة وقدحت همّتها أن أخرجت شيء من الطّيب وقسمته على عددهم، وقالت للخادم: اذهبي بهذا الطّيب لكلّ واحد ولا يعلم به رفيقه، وقولي له: يا مولاي، مولاتي تقول لك: تطيّب بهذا الطّيب، ولا تعلم أصحابك، فإنّها تنغّصت لك به دونهم لأجل مكانتك من قلبها. ففعلت ما أمرتها به، ودارت على القوم، فكان كلّ أحد يخفي ما وصل إليه إلاّ حاتم. فإنّه لمّا أتته بالطيب، وقالت له مثل ذلك، قال: هذا

والله هو البخل بعينه! كيف أتطيّب دون رفقتي؟ ثمّ قسّم الطيب على أربعة أقسام، وآثر كلّ أحد منهم بقسمه. فعادت الخادم وعرّفت مولاتها بذلك، فازدادت فيه رغبة. ثمّ أمهلت قليل وأنفذت لكلّ واحد قصعة من فضّة وهي ملأ تمر العراق، وقالت: اذهبي بهذه القصاع إلى كلّ واحد على حدة، وقولي: مولاتي قد تنغّصت لك بهذا التمر ليطيب به فمك من زفر اللّحم، فتنقّل به، ولكن ادفن نواه في الأرض لئلاّ ينظروه بقيّة رفقتك فيلومنها كيف خصّصتك بشيء دونهم. فجعلت الخادم تقصد واحد واحد وتقول له ما أوصتها به مولاتها، فتراهم يأكلون التمر، ثمّ يقوم <كلّ منهم> ويحفر بيده مثل الكلب ويدفن النوا. ولم يبق إلاّ حاتم، فإنّه لمّا قالت له ذلك تغير أحواله وتنمّر غيظا وقال لها: يا مولّدة العرب، ليس لي حاجة بتمرك على هذا الوجه؛ أتنسبني مولاتك إلا البخل وفعل اللئام؟ وأنشأ يقول (من الطويل): أتحسبني ماوي الخير أنّني … بخيل وكفّي بالعطا غير سامح (284) وتطلب منّي أن أحيل طبائع … من الجود قد كنّت عليها جوانحي خذي ما أتيتي من طعامك واذهبي … ولا تفضحيني بين غاد ورائح ألا إنّ أكل التّمر يا ميّ طيّب و … دفن النّوايا ميّ إحدى الفضائح

وكان اسم الخادم الذي أتته بالتمر: ميّ، فخاطبها بذلك الخطاب. فلمّا سمعت الخادم ذلك خجلت، وقالت: يا سيّد الكرم، إنّما أنا رسول وليس عليّ ملام. وهذا التمر بين يديك، اصنع به ما أحببت. قال: فقسّم التمر أربعة أقسام، ودار على قومه، أي رفقاه. فعادت الجارية وأخبرت مولاتها بما عاينت وبما قال حاتم من الشّعر. فقالت ماويّة: أحسنت والله يا حاتم، وعلى مثلك كنت أدوّر. فلمّا كان عند الصباح أخضرتهم إلى مضربها، وجلست لهم من وراء حجاب، وقالت: يا سادات العرب، ليقل كلّ منكم حاجته. فقالوا الثلاث النفر: نحن أتينا خطّاب، وهذا ما نعلم قصده-يعنون عن حاتم. فقال: أمّا أنا، فعابر سبيل، طالب النّعمان بسبب كيت وكيت. فقالت: ليذكر لي كلّ واحد حسبه ونسبه وعيشته ومسكنه حتّى أدري أخباركم، وليكن الجواب منضوما لأعلم فصاحته من مقالته. فابتدر النّابغة الذّبيانيّ وقال (من البسيط): هل لا تسألي بني ذبيان ما حسبي … عند الطّعان إذا ما احمرّت الحدق وجالت الخيل مبتلا حوافرها … بالماء يقطر عن لبّاتها العرق

وأطعن الفارس الحامي لحوزته … بعالي الرّمح والهيجاء تحترق ولي لسان إذا زرت الملوك به … أمسا عليّ سحاب المال يندفق والخلق تعلم أنّي لا أقاس بها … حتّى تقاس بثوب الجدّة الخلق فقالت: أنت رجل مدّعي بنفسك، متكسّب بلسانك. ثمّ ابتدر أوس النّبيتيّ (285، من الطويل): أماويّ لم يخطبك من حيّ مدحج … كأوس بن سلما أو كزيد وحاتم فإن تطلبي زيد ففارس قومه … إذا الحرب قامت أقعدت كلّ قائم وإن تطلبي الطّائي فما مثله فتى … يفاخره فينا ولا في الأعاجم فتى لا يزال الدّهر أكبر همّه … إغاثة ملهوف وفرحة قادم يجود بما تحوي يداه طبيعة … ولم يك عند المكرمات بنادم وإن تطلبيني تظفري بمسدّد … مكارمه تنسيك كلّ المكارم

ونحن أناس من أناس أفاضل … لهم شرف فوق السّها والنّعائم فلمّا فرغ قالت له ماويّة: أحسنت والله يا أوس، فإنّك لم تنفرد بدعواك، بل أجملت رفقاءك. وكان زهير بن أبي سلما يسمع، فتأخّر. فقالت ماويّة: لم تأخّرت يا وجه العرب؟ فقال زهير: والله يا سيّدة لست من القوم، ولا من أمس ولا من اليوم، ولا قصدت سماع فصاحتك، مع كمال رجاحتك، فدونك إلى من هو في زواجك قاصد، وخاطبيهم واحد بعد واحده فلمّا يأست منه، استنطقت حاتم، فقال: يا سيّدة العرب، اعلمي أنّ للأمور أسباب، ولست كنت في شيء من هذا الحساب، والأرزاق، فهي بيد الخلاّق. وأنشأ يقول (من الطويل): أماويّ طال التّفكّر والأمر … قد قام لي فيما قلته عذر أماويّ إنّ المال غاد ورائح … ويبقى منه الأحاديث والذّكر أماويّ إنّي لا أقول لسائل … إذا جاء يوما: إنّ في حالنا عسر

إماويّ مال الأرض ما ينفع الفتى … إذا نفسه ضاقت وضاق به الصّدر أفكّ أسيرا ثمّ أقري نازلا … وأحفظ عرضي منه هذا هو الفخر وكلّ يقيني أنّني بعد مدّة … أصير إلى قبر جوانبه قفر ويرجع من خلفي الّذين أحبّهم … يقولون قد أدما أناملنا الحفر (286) أماويّ إن يصبح صداي بقفرة … من الأرض لا مال لديّ ولا وفر أرى أنّما أنفقت ليس بضائري … وأنّ يدي ممّا بخلت به صفر وقد علموا الأقوام لو أنّ حاتم … أراد لجمع المال كان له ذخر

وما ضرّ جاري يا ابنة العمّ أنّه … يجاورني أن لا يكون له ستر وعينيّ عن جارات بيتي كليلة … وفي الأذن منّي عن حديثهم وقر ولا زادنا بغيا على ذي قرابة … غنانا ولا أزرى بأحبابنا الفقر قال: وكان حاتم ينشد وماويّة تتمايل طربا من وراء الحجاب. ثمّ أصرفت بقيّة الأقوام بعدما قدّمت لهم ما كانوا أعطوها من جزورهم، وجعلت قدّام كلّ واحد ما أعطاه. فعلموا القوم أنّها كانت تلك السائلة، فانصرفوا وقد كثر تأسّفهم. وتزوّجت ماويّة بحاتم واستقلّت معه إلى أهله وحمّلته في جميع أموالها ونعمها. وهذا من رواية أبو عبيدة والأصمعيّ. وقيل لحاتم: هل رأيت أكرم منك؟ فقال: نعم؛ ليس لأحد أن يدلّ بنفسه، ولا يفتخر على أبناء جنسه، ولمن نزل الأرض ولادة، والخلق بينهم تفاوت وزيادة. فقيل له: فكيف كان ذاك؟ فقال: خرجت في بعض الكرّات أطلب المكتسب، فانتهى بي السير إلى مرج وغدير، ورأيت عليه رجل جالس وحصانه في يده ورمحه مركوز إلى جانبه وقدّامه زاد، وهو

يأكل. فلمّا رآني بادأني السلام وعزم: لتنزلنّ! فنزلت عن جوادي. فأجد قدامه من الزاد ما يكفي جماعة من الناس، فأكلنا. ولمّا اكتفينا نفض جميع ذلك الزاد على الرمل وركب وركبت. وسألني بعد ذلك عن توجّهي، فعرّفته. فقال: وأنا كذلك. فقلت: يا وجه قومه، لم نفضت المزود ونحن في هذه المفاوز، ونحن محتاجون إليه؟ فتبسّم وقال: لا تفكّر في رزق غد، فكلّ غد له رزق جديد، ما دام لك عمر مديد. ثمّ أنشأ يقول (287 من الطويل): رحلنا وخلّينا على الرّمل زادنا … وللطّير في زاد الكرام نصيب ورزق غدا يأتي غدا يسوقه … إلى العبد جبّار عليه رقيب فيا نفس لا تبقي على قوت ليلة … فإنّ مرار الموت منك قريب قال حاتم: ثمّ سرنا، فلمّا كان الغد فتح بيده مزودي وفرشه وأكلنا على جانب غدير. ثمّ إنّه نفض المزود على ذلك الغدير وعوّلنا على المسير، وإذا بكلب قد أقبل من صدر البيداء يطلب الغدير. فلمّا وصل ورأى الزاد فتقدّم وأكل حتّى اكتفى، وشرب من الغدير وترك باقي الزاد. فقال لي رفيقي: ألا تنظر يا فتى إلا هذا الحيوان كيف أكل كفايته-ما لا كان له في حساب-وترك باقي الزاد ولا عن عليه ولا حمله؟! أيكون الكلب أقوى يقين منا؟ فقلت، وقد هالني أمره: لم تفعل إلاّ خيرا. ثمّ قطعنا البرّ حتّى تعالا النهار، واتّسع في وجهنا القفار، وبدا بنا الجوع،

وعمل فينا الخوى، فقلت في نفسي: ترى من أين يكون غذانا؟ وأنا، فقد هنيته أن أكلّمه في ذلك، فو الله لم أتمّ ما في نفسي حتّى انطلق الكلب في عرض البرّ حتّى ظننت أنّه قارب قومه، وإذا به قد ثوّر عانة من الوحش، وصار يردّها إلينا، حتّى تخيّل لنا أنّه يقول: دونكم وهذه العانة. فبادرنا إليها وأخذنا منها كفايتنا، ونزلنا وذبحنا وشوينا وأكلنا، نحن والكلب. ولمّا كان من الغد أشرفنا على أحياء عرب، فرينا حلّة كبيرة، فسقنا منها ما قدرنا من النّياق والجمال، ولدغناها برؤوس الرماح، فمدّت خطاها قدّامنا، وبعدنا عن الأحياء، ونظرنا إلى خلفنا، وإذا بفرسان الحلّة يتسابقون إلينا، وطلع الغبار ورانا مثل قطع الليل، فعدنا نلتقي القوم. فلمّا رآني رفيقي قد عزمت على لقاء القوم معه تبسّم في وجهي، وقال: يا فتى، بحقّ الّلات والعزّى، قف في هذا المكان واحفظ الغنيمة أن تشرد، ودعني (288) فإنّي إذا علمت أنّ مثلك خلفي قوي عزمي، وإذا رأيتني قد قهرت فاستعدني. قال: فوقفت مع الغنيمة أنظر فعاله ساعة، وإذا بالخيل الذي أقبلت إلينا قد ولّت، وهو في ظهورها يزعق زعقات الأبطال الذين لا تزيغهم كثرة الرجال، وقد سطح على الأرض منهم عدّة كثيرة ما بين قتيلا وجريحا، وعاد إليّ كأنّه الأسد الكاسر، وهو ينشد ويقول (من الرمل): يا سنان الرّمح لا تشكوا الصّما … فأنا اليوم أرويك دما وأخلّي الوحش خلفي رتعا … في رجال فارقوا أرض الحما

صاحبي شرائنا في دعة … فحسامي في يدي ما يثلما وحياتي، لو بدا الموت له … ورأى صورته ما انهزما فقال حاتم: ثمّ سقنا الغنيمة إلى المكان الذي ترافقنا فيه، والكلب لا يفارقنا. فعندها قسّم النّياق والغنيمة أثلاث، وأنا أنظر إلى ما يفعل. وقال: يا فتى، أيّهم اخترت فهو سهمك، فخذه واطلب أهلك. فقلت: والله يا مولاي إذا عدنا إلى الإنصاف فما أستحقّ من هذه الغنيمة حبة واحدة؛ وقد رأيتك قسّمتها ثلاث، فمن هو ثالثنا؟ فقال، وقد تبسّم: هذا الكلب. فقلت: وما يفعل الكلب بنوق وجمال؟ فقال: يفعل بها ما يريد، لأنّه صار رفيقنا وساعدنا في ردّ العانة <من> الوحش علينا، وأكل من زادنا، على أنّني ما أدعه ضايع وإنّما خذ قسمك واذهب إلى أهلك، وأنا كذلك، فمن تبعه الكلب يتسلّم قسمه، يفعل فيه معه بمروته. فلمّا سمعت ذلك تعجّبت كلّ العجب، وداخلني والله من فعله الطرب. فلمّا توجّه كلّ أحد بقسمه تبعني الكلب. فقال: يا فتى، خذ قسم الكلب إليك. فأضفته إلى قسمي. ولمّا بعدنا عاد إليّ يركض، فقلت: والله لقد ندم على ما فعل وعاد يأخذ غنيمته. فتنحّيت عنها وقلت: ها أنت وغنيمتك، باركت لها (289) الأصنام. فقال: دع يا فتى هذا الخاطر عنك، ولا تنسبني إلى البخل وقلّة الإنصاف. فو الله ما عدت إليك إلاّ حتّى أسألك عن اسمك ونسبك، فقد عاد بيننا صحبة وحرمة وذمام، ولا علمت اسمك، وكذا أنت من كرمك ما سألتني عن ذلك. فأمّا أنا فاسمي عطّاف

ذكر أيضا حاتم من وجه آخر

ابن قابض الطريّ، فأنت؟ فقلت: أنا حاتم بن سعد الطائيّ. فما هو إلاّ أن سمع باسمي حتّى ترجّل عن جواده وقال: اعذرني يا سيّد طيء من التقصير، لأنّ لي سنين أسمع بك وبما شيّدته من الكرم، وكنت أودّ على لقاك وأجتهد أن أتّبع مساعيك. ثمّ عاد إلى سهمه فأخلطه بسهمي، وقال: يا حاتم، لا تردّه عليّ؛ فوحقّ اللاّت والعزّى أنجز نفسي بحسامي، وإن رأيت أن تعود معي إلى أهلي حتّى أزيدك من مالي ألف ناقة تستعين بها على معروفك. قال: فشكرته وأتيت إلى أهلي بكّل تلك الغنيمة. ذكر أيضا حاتم من وجه آخر قال ابن الأعرابيّ: كان حاتم من شعراء الجاهليّة. وكان جوادا يشبه جوده شعره، ويصدق قوله فعله. وكان حيث ما نزل عرفت منزلته بحومان الطّير على منازله، لكثرة خيره وذبائحه. وكان ممّن يأتيه من الشعراء الحطيئة وبشر بن أبي خازم وغيرهم. وكان يكنى أبا عديّ وأبا سفّانة. وأدرك عديّ وسفّانة الإسلام فأسلما. روي أنّ سفّانة، ابنة حاتم، حضرت بين يدي سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالت: يا محمّد، هلك الوالد، وغاب الواجد. فإن رأيت أن تخلّي عنّي

ولا تشمّت بي الأعداء من أحياء العرب، فإنّ أبي كان سيّد قومه؛ كان يفكّ العاني ويحمي الديار ويفرّج عن المكروب ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يطلب إليه أحد قطّ حاجة إلا قضاها. أنا ابنة (290) حاتم الطائيّ. فقال سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، يا جارية، هذه صفة المؤمن؛ لو كان أبوك إسلاميّا لترحّمنا عليه. «خلّوا عنها، فإنّ أباها كان يحبّ مكارم الأخلاق». وذكر أنّ سفّانة كانت أجود نساء العرب. وقيل: إنّ النّعمان بن المنذر جلس يوما فقال لحاجبه: انظر من بالباب. فنظر ثمّ عاد، فقال: بالباب حاتم طيء وأوس بن لام. فقال النّعمان: ما رأيت كاليوم قطّ، ورد عليّ شريفا العرب-أو قال: العراق- وليس في بيت المال ما يرضيهما. ثمّ قال لحاجبه: ائذن لحاتم من حيث لا يعلم أوس. فدخل حاتم. فقال له النّعمان، بعدما أجلسه وآنسه: أيّما أشرف أنت أم أوس؟ قال: أوس أشرف منّي. قال: كيف؟ قال: لقول الشاعر (من الوافر): فما وطئ الحصا مثل ابن سعدي … ولا لبس النّعال ولا احتذاها إذا ما المكرمات ذكرن يوما … فقصّر مبتغوها عن مداها وإن ضاقت يد المثرين عنها … سما أوس إليها فاحتواها فعزله النّعمان ناحية، ثمّ أمر بإحضار أوس. فلمّا جلس واستأنس، قال له النّعمان: أيّما أشرف أنت أم حاتم. فقال: حاتم أشرف منّي. قال: وكيف؟ قال (من الوافر): أرى نفسي تتوق إلى أمور … يقصّر دون مبلغهنّ مالي فنفسي لا تطاوعني لبخل … ومالي لا يبلّغني فعالي

ذكر عنترة العبسي من وجه آخر

فقال النّعمان: والله إنّكما لشريفان. ثمّ أمر لهما بجميع ما في بيت ماله، واعتذر لهما بالتقصير. وذكر أنّه كان في بعض البادية راكبا جواده وقد انقطع عن قومه. فخرج عليه فارسا من متحرّمة العرب، فتطاردا، (291) وطال بينهما المجال، فانكسر عود الفارس المنازع لحاتم واستظهر عليه حاتم. فبسط الفارس إليه بيده، وقال: هبني عودك. فأعطاه العود. فما هو إلاّ أن صار في يده، فصمّم على حاتم وشدّ عليه فلم يكن له منه غير الفرار، وكان جواد حاتم سابقا، فلم يدركه حتّى لحق بقومه. فقصّ عليهم ذلك، فلاموه على إعطائه عوده. فقال: ما كنت بالّذي امتنع من بسط يده لسؤالي. قيل: فكان في ذلك تلاف نفسك فقال: قد كفيت ووفيت. ذكر عنترة العبسيّ من وجه آخر قال ابن الأعرابيّ: هو من فحول شعراء الجاهليّة المشهورة، ومن عظماء شجعانها المعدودة. قال أبو عمرو: روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم، قال: «ما وصف إليّ عربيّ قطّ فأحببت أن أراه إلاّ عنترة». وقال إلهيثم بن عديّ: قيل لعنترة: أنت أشجع العرب وأشدّها، فبم نلت ذلك؟ قال: كنت أقدم إذا رأيت الإقدام غنما، وأحجم إذا رأيت الإحجام حزما، ولا أدخل موضعا إلاّ أرى لي منه مخرجا. ومن مليح شعره القصيدة المشهورة التي أوّلها يقول (من الكامل):

يا دار عبلة بالجواء تكلّمي … عمي صباحا دار عبلة واسلمي وهي من السّبع معلّقات، إلى أن يأتي فيها إلى قوله: أثني عليه بما علمت فإنّني … سهل مخالقتي إذا لم أظلم فإذا ظلمت فإنّ ظلمي باسل … مرّ مذاقته كطعم العلقم وإذا سكرت فإنّني مستهلك … مالي وعرضي وافر لم يكلم وإذا صحوت فما أقصّر عن ندا … وكما عرفت شمائلي وتكرّمي هلاّ سألت الخيل يابنة مالك … إن كنت جاهلة بما لم تعلمي (292) يخبرك من شهد الوقائع أنّني … اغشى الوغى وأعفّ عند المغنم ومن مليح شعره قوله أيضا (من الكامل): بكرت تخوّفني الحتوف كأنّني … أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل فأجبتها: إنّ المنيّة منهل … لا بدّ أن أسقى بذاك المنهل إنّ المنيّة لو تمثّل مثّلت … مثلي إذا نزلوا بضيق المنزل

ذكر عروة بن الورد العبسي، جاهلي

والخيل ساهمة الوجوه كأنّما … تسقى فوارسها نقيع الحنظلي وقد قيل: إنّ أشجع بيتا قاله العرب بيتي عنترة، الأوّل (من الكامل): وأنا المنيّة في المواطن كلّها … والطّعن منّي سابق الآجال والثاني قوله (من الكامل): إذ تتّقون بي الأسنّة لم أجم … عنها ولكنّي تضايق مقدم قلت: ولهذين البيتين حكاية جرت بحضرة عبد الملك بن مروان، تأتي في موضعها اللائق بها، إن شاء الله تعالى. ذكر عروة بن الورد العبسيّ، جاهليّ قال ابن الأعرابيّ: هو عروة بن الورد بن زيد بن عود بن زيد، بنسب متّصل إلى عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن عيلان بن مضر ابن نزار، شاعر من شعراء الجاهليّة، وفارس من فرسانها، وصعلوك من صعاليكها، ومن المعدودين المقدّمين من أجوادها. وكان يلقّب: عروة

الصعاليك، لجمعه إيّاهم وقيامه بأمورهم إذا أخفقوا في غزواتهم ولم يكن لهم معاش ولا مغزى. وقيل: إنّما سمّي عروة الصّعاليك لقوله (من الطويل): لحى الله صعلوكا إذا جنّ ليله … مضى في المساس آلفا كلّ مجزر (293): يعدّ الغنى من دهره كلّ ليلة … إذا ما قراها من صديق وميسّر ولله صعلوك صفيحة وجهه … كضوء الشّهاب القابس المتنوّر وعن ابن شبّة قال: بلغني أن معاوية بن أبي سفيان قال: لو كان لعروة بن الورد ولد لأحببت أن أصل حبلى بحبله وأتزوّج إليه. وعن عبد الله بن مسلم، قال: قال عبد الملك: ما يسرّني أنّ أحدا من العرب ولدني إلاّ عروة بن الورد، لقوله (من الطويل): إنّي امرؤ عافي إنائي شركة … وأنت امرؤ عافي إنائك واحد

أتهزأ منّي أن سمنت وأن ترى … بجسمي مسّ الحقّ والحقّ جاهد أفرّق جسمي في جسوم كثيرة … وأحسوا قراح الماء والماء بارد وعن ابن شبّة قال: قال عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، للحطيئة: كيف كنتم في حربكم؟ قال: كنّا ألف حازم. قال: وكيف؟ قال: كان فينا قيس بن زهير وكان حازما وكنّا لا نعصيه، ونقدم بقدوم عنترة، وننقاد لأمر الرّبيع بن زياد، ونأتمّ بشعر عروة بن الورد. قال: صدقت. وعن ابن شبّة أيضا أنّه قال: إنّ عبد الملك بن مروان قال: من زعم أنّ حاتما أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد. وروى معن بن عيسى قال: سمعت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، عليه السلام، يقول لمعلّم ولده: لا تروّهم قصيدة عروة بن الورد التي يقول فيها (من الوافر): دعيني للغنا أسعى فإنّي … رأيت النّاس شرّهم الفقير فإنّ ذلك ممّا يدعوهم للاغتراب عن أوطانهم. وعن أبي عمرو الشّيبانيّ أنّ عروة بن الورد أصاب امرأة من كنانة بكر ابن وائل، يقال لها: سلمى، وتكنى: أمّ وهب، فأعتقها وأتّخذها لنفسه. فمكثت عنده بضع عشرة سنة، (294) وولدت له أولادا وهو لا يشكّ أنّها

أرغب الناس فيه، وهي تقول: لو حججت <بي> فأمرّ على أهلي وأراهم. فحجّ بها، فأتى مكة ثمّ أتى المدينة، وكان يخالط أهل يثرب من بني النّضير، فيقرضونه إذا احتاج ويبايعهم إذا غنم. وكان قومها يخالطون بني النّضير، فأتوهم وهو عندهم. فقالت <لهم> سلمى: إنّه خارج بي قبل أن يخرج الشهر الحرام، فتعالوا إليه وأخبروه أنّكم تستحيون أن تكون منكم امرأة معروفة النّسب صحيحة الحسب سبيّة، وافتدوني منه وأوعدوه أن تعيدوني إليه زواجا، فإنّه لا يرى أنّي أحبّ مفارقته ولا أختار عليه أحد. فأتوه فأسقوه الخمر. فلمّا ثمل قالوا له: فادنا بصاحبتنا، فإنّها وسط النّسب فينا، وإنّ علينا سبّة في أن تكون سبيّة، فإذا صارت إلينا وأردت معاودتها، فاخطبها، فإنّا ننكحك إيّاها. فقال: ذاك إليكم، ولكن لي الشّرط فيها تخيّروها لي ولكم، ودعوني اللّيلة أتمتّع بها، وأفادي بها غدا. فلمّا كان الغد جاؤوه، فامتنع من فداها، فقالوا له: قد فاديتها منذ البارحة، وشهد عليه بذلك جماعة ممّن حضر، فلم يقدر على الامتناع، وفاداها. فلمّا وقع ذلك خيّروها، فاختارت أهلها. ثمّ أقبلت عليه فقالت: يا عروة، أما إنّي أقول الحقّ، والله لا أعرف امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خير منك، وأغضّ طرفا، وأقلّ فحشا، وأجود يدا، وأحمى لحقيقة، وإنّك والله ما علمت لضحوك مقبلا كسوب مدبرا، خفيف على متن الفرس، ثقيل على متن العدوّ، طويل العماد، كثير الرّماد، راضي

الأهل والجانب؛ وما مرّ عليّ يوما كنت عندك فيه إلاّ الموت أحبّ إليّ من الحياة بين قومك، لأنّي لم أكن أشاء أن أسمع امرأة من (295) قومك تقول: قالت أمة عروة: كذا وكذا، إلاّ سمعته. وو الله لا أنظر في وجه غطفانيّة أبدا ما حييت! فارجع راشدا واستوص ببنيك خيرا. ثمّ فارقته، فقال عروة في ذلك قصيدته التي يقول فيها: سقوني الخمرة ثمّ تكنّفوني. وأوّلها يقول (من الوافر): أرقت وصحبتي بمضيق عمق … لبرق من تهامة مستطير سقى سلمى وأين ديار سلمى … إذا كانت مجاورة السّرير إذا حلّت بأرض بني عليّ … وأهلي بين إمّرة وكير ذكرت منازلا من أمّ وهب … إلى الإصباح آثر ذي أثير وأحدث معهد من أمّ وهب … محلّ الحيّ أسفل ذي النّقير بائسة الحديث رضاب منها … بعيد النّوم كالعنب العصير

قال ثمّ نزوّج سلمى رجل من بني عمّها، وقال لها يوما: يا سلمى، أثني عليّ كما أثنيت على عروة-وقد كان قولها في عروة شهر وعلم- فقالت: لا تكلّفني لذلك، فإنّي إن قلت الحقّ غضبت، ولا واللاّت والعزّى لا أكذب. فقال: عزمت عليك لتأتيني في مجلس قومي، فلتثنين عليّ بما تعلمين منّي. وخرج وجلس في نادي القوم، وأقبلت، فرماها الناس بأبصارهم. فوقفت وقالت: أنعموا صباحا! إنّ هذا عزم عليّ أن أثني عليه بما أعلم منه، وكلّفني ذلك. ثمّ أقبلت عليه فقالت: والله إنّ شملتك لألتحاف، وإنّ شربك لاستفاف، وإنّك لتنام ليلة تخاف، وتشبع ليلة تضاف، ولا ترضي الأهل والأجانب. ثمّ ولّت. فلامه قومه، وقالوا: ما أغناك عن هذا منها! وعن ابن الأعرابيّ عن أبي فقعس قال: كان عروة إذا انتاب الناس سنة شديدة تركوا في دارهم المريض (296) والكبير والضعيف، فكان عروة يجمع هؤلاء من دون الناس في الشدّة، ثم يحفر لهم الأسراب ويكنف لهم الكنف ويكسبهم ويطعمهم، ومن قوي منهم خرج به معه فأغار، وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيبا، حتّى إذا أخصبت الناس وألبنوا وذهبت الشّدّة من السنة ألحق كلّ إنسان بأهله بنصيبه ممّا يحصل

له، فربّما أتى الإنسان إلى أهله وقد أثرى بعد الفقر. فلذلك سمّي: عروة الصعاليك. روى ابن الأعرابيّ أنّ عروة ضاقت حاله في بعض السنين ولم يجد ما يموّن به أصحابه الضعفاء، فقال (من الطويل): لعلّ ارتيادي في البلاد وبغيتي … وشدّي حيازيم المطيّة بالرّحل سيدفعني يوما إلى ربّ هجمة … يدافع عنها بالحقوق وبالبخل وقيل: إنّ الله سبحانه وتعالى قيّض له ناقتين دهماوتين وهو مع قوم من الضعفاء، وفي شتاء شديد، وقد غلب عن قوتهم وحملهم، فنحر لهم إحداهما وحمل متاعهم على الأخرى، وجعل ينتقل بهم من مكان إلى مكان، وكان بين النّقرة والرندة، فنزل بهم ماء بينهما يقال له: ملوان. ثمّ إنّ الله تعالى قيّض له رجلا صاحب مائة من الإبل قد فرّ بها من حقوقها، وذلك أوّل ما ألبن الناس. فقتله وأخذ إبله وامرأته، وكانت من أحسن النساء وأجملهنّ. فأتى بالإبل أصحاب الكنيف، فحلبها لهم وحملهم عليها، حتّى إذا دنوا من عشائرهم أقبل يقسم الإبل. ثمّ أخذ مثل نصيب أحدهم، فقالوا: لا، والله لا نرضى حتّى تجعل المرأة نصيبا أيضا، فمن وقعت بسهمه أخذها. فعظم عليه، وجعل يهمّ أن يحمل عليهم فيقتلهم

وينتزع الإبل منهم، ثمّ يذكر أنّهم صنيعته. فأفكر طويلا (297) ثمّ أجابهم إلى أن يردّ عليهم نصيبه من الإبل إلاّ راحلة يحمل عليها المرأة حتّى يلحق بأهله، فأبوا عليه أيضا. فانتدب رجل منهم فجعل له راحلة من نصيبه، فقال عروة في ذلك (من الطويل): ألا إنّ أصحاب الكنيف وجدتهم … كما النّاس لمّا أمرعوا وتموّلوا وإنّي لمدفوع أليّ ولاهم … بماوان إذ تمشي وإذ تتململ وإنّي وإيّاهم كذي الأمّ أذهبت … له ماء عينيها تفدّي وتحملوا وباتت بحدّ المرفقين كلاهما … توحوح ممّا نالها وتولول تخيّر من أمرين ليسا بغبطة … هو الثّكل إلاّ أنّها قد تتحمّل قال أبو الفرج الإصفهانيّ في كتاب الأغانيّ: نسخت من كتاب أحمد ابن القاسم بن يوسف، قال: حدّثني جرير قطن أنّ ثمامة بن الوليد دخل على المنصور، ثاني خلفاء بني العباس أيّام خلافته، فقال: يا ثمامة، أتحفظ حديث ابن عمّك عروة الصعاليك ابن الورد العبسيّ؟ قال: أيّ

حديثه يا أمير المؤمنين؟ فقد كان له من الحديث كثير! قال: حديثه مع الهذليّ الذي استلّ فرسه. قال: ما يحضرني ذلك يا أمير المؤمنين. فقال المنصور: نعم، خرج عروة بن الورد حتّى دنا من منازل هذيل، وكان منها على ميلين، وقد جاع. وإذا هو بأرنب، فرماها فأصماها، ثمّ أورى نارا فشواها وأكلها ودفن النار على مقدار نصف عوده، وقد ذهب أكثر الليل وغارت النجوم، ثمّ أتى سرحة فصعدها وتخوف الطّلب. فلمّا تغيّب فيها إذا الخيل قد جاءت وفيهم رجل على فرس، فجاء حتّى ركز عوده في موضع النار، وقال: لقد رأيت النار ها هنا. فنزل رجل منهم فحفر قدر ذراع فلم يجد شيئا. فركب القوم ومروا على الرجل يلومونه (298) ويعنّفونه ويعيبون أمره ويقولون: عنّيتنا في مثل هذه اللّيلة القرّة وزعمت لنا شيئا كذبت فيه. فقال: ما كذبت، ولقد رأيت النار موضع ركزت رمحي. فقالوا: ما رأيت شيئا، ولكنّ تحذلقك وتداهيك، وهو الذي يحملك على هذا. ولم يزالوا به حتّى رجع عن قوله، وعادوا، وتبعهم عروة وسبقهم إلى الأحياء، فكمن في كسر بيت، وجاء الرجل ذاك بعينه وقد كان قبل عوده قد خالفه إلى زوجته عبد أسود، فأتاها العبد بعلبة فيها لبن، فقال: اشربي. فقالت: لا، أو تبدأ أنت. فبدأ الأسود، فشرب. فلمّا جاء الرجل قالت له: لعن الله حدسك وصلفك! عنّيت القوم في هذه الليلة على غير

شيء. ثمّ دعا بالعلبة ليشرب، فقال حين ذهب ليشرب: ريح رجل وربّ الكعبة! فقالت المرأة: وهذه أخرى! وأيّ ريح رجل في إنائك غير ريحك؟ ثمّ صاحت. فجاء قومها فأخبرتهم خبره، فقالت: يتّهمني ويظنّ بي. فأقبلوا عليه باللّوم والتّعنيف حتّى رجع. فقال عروة: وهذه ثانية. ثمّ أوى الرجل إلى فراشه ووثب عروة إلى الفرس وهو يريد أن يذهب به، فضرب الفرس بيده وحمحم وتحرّك، فرجع عروة إلى موضعه، ووثب الرجل فقال: ما كنت تكذّبني قبل اليوم، فما لك؟ فأقبلت المرأة عليه لوما وعذلا. قال: فصنع بالفرس كذلك ثلاثا والرجل يثب ثمّ يعود والمرة تلومه وتزيد في تعنيفه. فلمّا ضجر من كثرة تعنيفها له قال: لا أقوم اللّيلة ولو أخذ! فأتاه عروة، فصار في متنه وخرج ركضا. وركب الرجل فرسا عنده وجعل يقول: الحقي فإنّك من نسله. قال: فلمّا انقطع من البيوت قال عروة: أيّها الرّجل قف! فإنّك لو تعرفني لم تقدم عليّ. قال: كن عروة (299) بن الورد؟ فقال: أنا هو، وقد رأيت منك عجبا، فأخبرني به وأردّ فرسك إليك. قال: وما هو؟ قال: جئت مع قومك حتّى ركزت رمحك في موضع كنت قد شويت فيه أرنبا، ولم تخطئ مكان النار، فثنوك عن ذلك فانثنيت، وقد صدقت. ثمّ اتّبعتك حتّى سبقتك إلى منزلك وأتيت وشممت ريح رجل في إنائك، وقد كان زوجتك قد آثرت بذلك عبدك الأسود،

ذكر دريد بن الصمة والخنساء بنت عمر بن الشريد السلمي

وأظنّ بينهما ما لا تحبّ، فقلت: ريح رجل؛ فلم تزل بك حتّى انثنيت أيضا. ثمّ خرجت إلى فرسك فأردته، فخرجت إليه ثمّ خرجت ثمّ خرجت، ثمّ انثنيت أيضا. فرأيتك في هذه الخصال أكمل الناس، ولكنّك تنثني وترجع. قال: فضحك الرجل ثمّ قال: أمّا ما رأيت من صرامتي وقوة فطنتي فمن قبل أعمامي هذيل؛ وأمّا انثنائي وكعاعتي فلأخوالي السوء، وهم بطن من خزاعة؛ والمرأة الذي رأيت عندي امرأة منهم، وأنا لاحق بقومي وخارج عن أخوالي ومخلّ سبيل المرأة. ولولا ما رأيت من كعاعتي لم يقو على مناوأتي أحد من العرب. فقال عروة: خذ الآن فرسك راشدا. قال: ما كنت لآخذه منك، ولو كان غيرك ما راح به، ولكن عندي من نسله الغنى عنه، فخذه مجعول بعده. فقال ثمامة: إنّ له عندنا أحاديث كثيرة، ما سمعنا بأطراف منها يا أمير المؤمنين. وتمّت أخبار عروة ملخّصا. ذكر دريد بن الصّمّة والخنساء بنت عمر بن الشّريد السّلميّ قال أبو عمرو: وإنّ دريد بن الصّمّة أدرك الإسلام فلم يسلم. وكان

فارس جشم، وكان شيخ العرب في الجاهليّة يرجعون لرأيه، (300) وكان مظفّرا ميمونا أين توجّه وقصد، وكان قد جمع مالك بن عوف هوازن وأخرجت بنو جشم معها دريدا، وكان يومئذ شيخا كبيرا فقتل في تلك الوقعة. وعن يونس يقول: أفضل بيت قالته العرب في الصّبر على النوائب بيت دريد بن الصّمّة، وهو (من الطويل): قليل التّشكّي للمصيبات حافظ … من اليوم أعقاب الأحاديث في غد وروي أن دريدا مرّ بالخنساء بنت عمرو بن الشّريد وهي تهنأ بعيرا لها، ثمّ نضّت عنها ثيابها فاغتسلت ودريد ينظر إليها وهي لا تشعر به فأعجبته، فانصرف وهو يقول (من الكامل): حيّوا تماضر وابلغوا صحبي … وقفوا فإنّ وقوفكم حسبي أخناس قد هام الفؤاد بكم … وأصابه تبل من الحبّ متبذّلا تبدو محاسنه … يضع الهناة مواضع الثّقب

قال: فلمّا أصبح غدا إلى قومها يخطبها، فقال له أبوها: حبّا وكرامة يا با مرّة! إنّك الكريم الذي لا يطعن في حسبه، والسّيّد الذي لا ترد حاجته، والفحل الذي لا يقرع أنفه، ولكن لهذه الامرأة من نفسها ما ليس لغيرها، وأنا ذاكرك لها. ثمّ دخل أبوها إليها فقال: أي بنيّة! أتاك فارس هوازن وسيّد جشم وشيخ العرب، دريد بن الصّمّة، يخطبك. فقالت: أنظرني يا به أشاور نفسي. ثمّ بعثت خلف دريد وليدة لها وقالت: انظري دريدا إذا بال يقعر أم يبعثر، وعودي. فاتّبعته وعادت إليها، فقالت: وجدته قد ساح على وجه الأرض من غير أن يأثر بها، فأمسكت. وعاود دريد أباها، فعاودها فقالت: يا به، إنّي تاركة بني عمّي مثل عوالي الرّماح وناكحة شيخا من جشم مماته (301) اليوم أو غد. فخرج أبوها إليه وقال: قد امتنعت، ولعلّ تجيب بعدها. وقالت الخنساء تعرّض بذمّ دريد من قصيدة (من الوافر): أتخطبني هبلت على دريد … وقد أطردت سيّد آل بدر فلمّا بلغ شعرها دريدا اشتد ذلك عليه وقال يهجوها (من الوافر):

وقاك الله يابنة آل عمرو … من الفتيان أمثالي ونفسي ولا تلدي ولا ينكحك مثلي … إذا ما ليلة طرقت بنحس قلت: الخنساء، فهي تماضر ابنة عمرو بن الشّريد السّلميّ، وفي سلم شرف كثير يأتي ذكر ذلك عند ذكر النّابغة. وأمّا إحسانها في شعرها فمعروف، ووفائها لصخر أخيها موصوف. ويروى أنّها دخلت على بعض أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلّم، وعليها صدار من شعر، فقالت لها: يا خنساء، قتل أخوك صخر في الجاهليّة وأنت متسليّة عليه في الإسلام. فقالت: كان لي زوج متلاف، فأتيت أخي ثلاث مرّات فشاطرني ماله، ثمّ أعطاني في الرابعة كرائم إبله، فلامته امرأته سلمى، فسمعته يقول (من الرجز): والله لا أمنعها خيارها … ولو هلكت قدّدت خمارها واتّخذت من شعر صدارها فنذرت أن لا أنزعه حتّى ألحق به. ومن شعرها تقول (من المتقارب):

ذكر ذو الإصبع العدواني، جاهلي

رفيع العماد طويل النّجا … د ساد عشيرته أمردا يحمل للقوم ما عالهم … وإن كان أصغرهم مولدا ومن مليح شعرها (من المتقارب): تعرّفني الدّهر نهشا ووخزا … وأوجعني الدّهر قرعا وغمزا وأفنى رجالي فبادوا معا … وغودر قلبي بهم مستفزّا (302) وكنّا قديما حمى نتّقى … إذا النّاس إذ ذاك من عزّ بزّا وخيل تكردس بالدّارعين … وتحت العجاجة يجمزن جمزا جززنا نواصي فرسانهم … وكانوا يظنّون أن لن تجزّا ونلبس في الحرب نسج الحديد … ونسحب في السّلم خزّا وبزّا ومن ظنّ ممّن يلاقي الحروب … بأن لا يصاب فقد ظنّ عجزا ذكر بقيّة ما أثبتناه من خبرها عند ذكر النّابغة، إن شاء الله. ذكر ذو الإصبع العدوانيّ، جاهليّ هو حرثان بن الحارث بن محرّث بن ثعلبة، بنسب متّصل إلى عدوان

ابن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار، وقبيلته عدوان بطن من جديلة. وهو شجاع من شجعان الجاهليّة وشاعر من شعرائها القدماء، وله حروب ووقائع وغارات كثيرة مشهورة في أيّام وقائع العرب. وروى الأصمعيّ قال: نزلوا عدوان قديما على ماء فأحصوا سبعين ألف غلام أعزل سوى من كان مختونا لكثرة عددهم، ثمّ وقع بأسهم بينهم حتّى تفانوا، فقال ذو الإصبع في ذلك (من الهزج): عذير الحيّ من عدوا … ن كانوا حيّة الأرض بغى بعضهم بعضا … فلم يبقوا على بعض فقد صاروا أحاديثا … برفع القول والخفض ومنهم كانت السّادا … ت والموفون بالقرض ومنهم من يجيز النّا … س بالسّنّة والفرض ومنهم حكم يقضي … فلا ينقض ما يقضي

(303) قوله: فمنهم حكم يقضي، فإنّه عنى: عامر بن الظّرب العدوانيّ وكان حكما للعرب تحتكم إليه. قال أبو عمرو: وكان سبب تفرّق عدوان وقتال بعضهم بعضا حتّى تفانوا، أنّ بني ناج بن يشكر بن عدوان أغاروا على بني عوف بن سعد بن ظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن عدوان، ونذرت بهم بني عوف فاقتتلوا، فقتلت بنو ناج من بني عوف ثمانية نفر فيهم عمير بن مالك، سيّد بني عوف، وقتلت بنو عوف من بني ناج رجلا يقال له: سنان بن جابر، وتفرّقوا على حرب. وكان الذي أصابوه من بني وائلة بن عمرو بن عباد، وكان سيّدا، فاصطلح القوم على الدّيات بينهم واجتمع على ذلك سائر الناس، وأبى مرّ بن جابر أن يقبل في أخيه سنان بن جابر دية، واعتزل هو وبنو أبيه ومن أطاعهم ومالأهم، وبايعه على ذلك كرب بن جبلة، أحد بني عبس بن ناج، فمشى إليه الناس-وفيهم ذي الإصبع-وسألوه قبول الدّية، وقال: قد قتل منّا ثمانية نفر، وفيهم سيّد وشريف: عمير بن مالك، فقبلنا الدّية وأخمدنا جمرها، وقتل منكم رجل واحد، فأقبلوا ديته. فأبا مرّ بن جابر. وأقاموا على الحرب، فكان ذلك مبدأ حربهم حتّى تفانوا وتقطّعوا. فقال ذو الإصبع في ذلك (من الطويل):

فيا بؤس للأيّام والدّهر هالك … وصرف اللّيالي يختلفن كذلك أبعد بني ناج وسعيك فيهم … فلا تتبعن عينيك من كان هالكا إذا قلت معروفا لأصلح بينهم … يقول مرير لا تحاول ذلك فأضحوا كظهر العود جبّ سنامه … تحوم عليه الطّير أحدب باركا فإن تك عدوان بن عوف تفرّقت … فقد غيّبت دهرا ملوكا هنالكا (304) وهي قصيدة طويلة وقد لخّصتها للاختصار. قال أبو عمرو الشّيبانيّ: وفي مرّ بن جابر يقول ذو الإصبع من قصيدة طويلة أوّلها (من البسيط): يا من لقلب شديد الهمّ محزون … أمسى تذكّر ريّا أمّ هرون أمسى تذكّرها من بعد ما شحطت … والدّهر ذو علطة حينا وذو لين ومنها يقول:

لي ابن عّم على ما كان <من> خلق … مخالف لي فأقليه ويقليني فإن ترد عرض الدّنيا بمنقصتي … فإنّ ذلك ممّا ليس يشجيني ولا يرى فيّ غبر الصّبر منقصة … وما سواه فإنّ الله يكفيني لولا أباصر قربى ليس يحفظها … ورهبة الله ممّن لا يعاديني إذا بريتك بريا لا انجبار له … إنّي رأيتك لا تنفكّ تبريني إنّ الّذي يقبض الدّنيا ويبسطها … إن كان أغناك عنّي سوف يغنيني ومنها يقول: كلّ امرئ صائر يوما لشيمته … وإن تخلّق أخلاقا إلى حين قال أبو عمرو: ومن قوله لأمامة ابنته، وقد رأته لمّا أسنّ نهظ فسقط وتوكّأ على العصا، فبكت، فقال (من الكامل): جزعت أمامة أن مشيت على العصا … وتذكّرت إذ نحن بلا لقيان فلقلّ ما رام الإله بكيده … إرما وهذا الحيّ من عدوان بعد الكرامة والفضيلة والنّهى … طاف الزّمان عليهم بأوان

(305) ذكر تأبط شرا وطرفا من خبره

وتفرّقوا فتقطّعت أشلاؤهم … وتبدّدوا فرقا بكلّ مكان ومنها يقول: لا تعجبنّ أمام من حدث عدا … فالدّهر غيّرنا مع الحدثان (305) ذكر تأبّط شرّا وطرفا من خبره هو ثابت بن جابر ويكنى أبا زهير ويلقب تأبّط شرّ، وسبب ذلك ما ذكره ابن الأعرابيّ أنّ أمّه قالت له يوما وهو صغير: ألا ترى إلى غلمان الحيّ يجنون لأهلهم الكمأة فيروّحون بها؟ قال: أعطيني جرابي حتّى أمضي فأجني لك الكمأة. فأعطته، ومضى فملأه أفاعي وأتى به متأبّطا به، فألقاه بين يديها ففتحته فخرجن منه الأفاعي يسعين في الخباء. فوثبت وخرجت صارخة. فقالوا لها نساء الحيّ: ماذا أتاك به ثابت متأبّطا؟ فقالت: شرّا. فلزمه هذا اللّقب. وكان تأبّط شرّا أعدى ذي ساقين وذي كعبين مشا على الأرض. وكان إذا جاع لم تقم له قائمة، وكان إذا نظر إلى الظّباء فيتنقّى على نظرة أسمنها ثمّ يعدوا خلفه فلا يعود حتّى يأخذه فيذبحه بسيفه ويشويه ويأكله.

ولقي يوما رجلا من ثقيف يقال له: أبو وهب، وكان أهوجا وعليه حلّة جيّدة. فقال: يا ثابت، بم تغلب الناس، وأنت كما أرى ضئيلا دميما؟ قال: باسمي أنا! أقول ساعة ألقا رجلا: أنا تأبّط شرّا! فينخلع قلبه حتّى أنال منه ما أريد. فقال له الثّقفيّ: فهل لك أن تبيعني اسمك؟ قال: بماذا؟ قال: بهذه الحلّة، ولك كنيتي. قال: فعلت. فأخذ حلّته. فقال أبو وهب: ولي اسمك؟ فقال: نعم، امضي. ثم انصرف تأبّط شرّا وقال (من الطويل): ألا هل أتى الحسناء أنّ خليلها … تأبّط شرّا وقد كنّيت أبا وهب فهبه تسمّى أسماء وسمّاني اسمه … فأين له صبري على معظم الخطب وأين له بأس كبأسي وصورتي … وأين له في كلّ جارحة قلبي قال ابن الأعرابيّ أيضا: إنّما سمّي تأبّط شرّا لأنّه لقي الغول التي تزعم (306) العرب، فقتلها وقطع رأسها ورجع إلى أهله متأبّطا بذلك، وهو قوله (من الوافر): ألا مخبرا فتيان فهم … بما لاقيت عند رحا بطان بأنّي قد لقيت الغول تهوي … بشهب كالصّحيفة صحصحان

ذكر الفحول من شعراء الجاهلية ولمعا من شعرهم

فقلت لها كلانا نضو أرض … أخو سفر فخلّي لي مكاني فشدّت شدّة نحوي وأهوى … لها كفّي بمصقول يماني فأضربها بلا دهش فخرّت … صريعا لليدين وللجران فقالت عد فقلت لها رويدا … مكانك إنّني ثبت الجنان فلم أنفكّ متّكئا لديها … لأنظر مصبحا ماذا أتاني إذا عينان في رأس قبيح … كرأس الضّبع مشقوق اللّسان وساقا مخدج وسراة كلب … وثوب من عباة أو سدان وتقول العرب: إنّ الغول ما رآه أحد إلاّ انخلع قلبه فرقا منه، وأنّه من ثنّى عليه الضّرب عادت كما كانت حيّية، ولهم في ذكره أقوال كثيرة، والله أعلم. ذكر الفحول من شعراء الجاهليّة ولمعا من شعرهم قلت: إنّما قدّمت هؤلاء الجماعة لكونهم جمعوا بين طرفي الشّجاعة والبراعة، فوجب تقديمهم على غيرهم من الشعراء المفلقين الفحول الجاهليّة الأوّلين. ومن ها هنا نبدأ بذكر من وصلت القدرة إلى إثباته وتحصيله، ونورد نبذا من أخباره وأشعاره وفصوله، ولا طمع في إحصاء جملتهم أبدا، إذ لا يعلمهم إلاّ من أحصاهم عددا.

ذكر امرئ القيس بن حجر

ذكر امرئ القيس بن حجر هو امرؤ القيس بن حجر <بن الحارث> بن عمرو، وأمّه فاطمة بنت ربيعة بن الحارث بن زهير، وهي أخت كليب ومهلهل (307) ابني ربيعة التّغلبيّ. قيل: كان أبوه قد طرده لمّا قال الشعر، وكان قد سفك في أحياء العرب، وكان قد استمال لصوصا وصعاليكا من صعاليك العرب، يغير بهم. فلمّا بلغ امرأ القيس موت أبيه-وكان جالسا في مجلس شربه- قال: ضيّعني صغيرا، وحملني الثأر كبيرا؛ اليوم خمر وغدا أمر، فسيّرها مثلا. ثمّ جمع بكر بن وائل وغيرهم وخرج يريد بني أسد، فأوقع ببني كنانة فقتلهم. ثمّ إنّ أصحابه اختلفوا عليه، فخرج إلى الروم، وطال تردّده بالجبلى وأعوزته النّصرة على بني أسد، فسما إلى قيصر، ملك الروم، واستصحب

معه عمرو بن قميّة بن سعد بن صعصعة، وكان قد جاوز التسعين، وذلك قوله (من الطويل): كأنّي وقد جاوزت تسعين حجّة … خلعت بها عنّي عذار لجامي وهو الذي يخاطبه امرؤ القيس في قصيدته التي منها يقول (من الطويل:): بكى صاحبي لمّا رأى الدّرب دونه … وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبك عيناك أنت … نحاول ملكا أو نموت فنعذرا ثمّ مات عمرو في سفرته تلك، فسمّته العرب: الضائع. ودخل امرؤ القيس على قيصر فقبله وأكرمه ورفع من شأنه وكان له عنده مزيّة، فاندسّ رجل يقال له الطمّاح من بني أسد-وكان امرؤ القيس قد قتل أباه وأخاه-حتّى أتا بلاد الروم، فأقام مستخفيا مدّة. ثمّ إنّ قيصر ضمّ إلى امرئ القيس جيشا كبيرا ونفّذه لأعدائه. فلمّا فصل عنه، ظهر الطمّاح وتوصّل إلى قيصر، فقال له: إنّ امرأ

القيس رجل عاهر، وانصرف عنك بالجيش، وذكر أنّه يهوى ابنتك وأنّه قال فيها شعرا كثيرا أشهرها في بلاد العرب. ومن رواية أخرى أنّ امرأ القيس (308) لمّا قدم على قيصر هويته ابنته-وكان جميلا من الرجال-فصار إليها، وهو قوله في ذلك (من الطويل): فقلت يمين الله أبرح قادعدا … ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي وهي قصيدة طويلة فأضربت عن جملتها للاختصار. وقيل: إنّ الطّمّاح اختلقها على لسانه ووشى به إلى الملك قيصر، فكره أن يقتله بحضرته فأتبعه رجلا ومعه خلعة مسمومة، وكتب إليه: إنّني قد سيّرت إليك بحلّتي التي ألبسها للزينة ليعرف بذلك فضل منزلتك عندي. فلمّا قرأ الكتاب سرّه ذلك وقام في وقته ولبسها، فقرّح جسده، فلذلك يسمّى بذات القروح؛ وقال في ذلك (من الطويل): لقد طمح الطّمّاح من بعد أرضه … فألبسني من دائه ما تلبّسا فلو أنّها نفسا تموت احتسبتها … ولكنّها نفسا تساقط أنفسا وكان يحمل في محفّة، ثمّ نزلوا به إلى جنب جبل يقال له: عسيب،

إلى جنب قبر لبعض بنات الروم، فسأل عنه فأخبروه، فقال في ذلك (من الطويل): أجارتنا إنّا غريبان ها هنا … وكلّ غريب للغريب نسيب وأوّلها يقول: أجارتنا إنّ الخطوب تنوب … وإنّي مقيم ما أقام عسيب ثمّ مات، فدفنوه إلى جانب القبر. وممّا يستحسن من تشابيهه قوله (من الطويل): كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا … لدى وكرها العتّاب والحشف البالي نظرت إليها والنّجوم كأنّها … مصابيح رهبان تشبّ لقفّال ومن جيد شعره قصيده المشهور التي أوّلها (من الطويل): قفا نبك من ذكرا حبيب ومنزل … بسقط اللّوى بين الرّبوع فحومل (309) فأضربت عن إثباتها لاشتهارها في أيدي الناس. ومن جيّد شعره (من المتقارب): برهرهة رخصة رودة … كخرعوبة البانة المنفطر

ذكر النابغة الذبياني ولمعا من أخباره وأشعاره

فتور القيام قطيع الكلا … م تفترّ عن ذي غروب خضر كأنّ المدام وصوب الغمام … وريح الخزامي ونشر القطر يعلّ به برد أنيابها … إذا غرّد الطّائر المستحر قلت: ما وصف أحد الثّغر فأجاد وأحسن كلّ الإحسان بإجماع الرواة كالنّابغة الذّبيانيّ في قوله (من الكامل): تجلوا بقادمتي حمامة أيكة … بردا أشفّ لثاته بالإثمد كالأقحوان غداة غبّ سمائه … جفّت أعاليه وأسفله ند ولهذين البيتين شرح حسن، إذا أثبت يزيد على نصف كرّاس ولا يوفيهما حقّهما في شرحهما، فأضربت عن شرحهما للاختصار ومن شعر امرئ القيس قوله (من الوافر): فبعض اللّوم عاذلتي فإنّي … ستكفيني التّجارب وانتسابي إلى عرق الثّرى وشجت عروقي … وهذا الموت يسلبني شبابي وقد طوّقت في الآفاق حتّى … رضيت من الغنيمة بالإياب ذكر النّابغة الذّبيانيّ ولمعا من أخباره وأشعاره النّابغة جاهليّ اسمه زياد بن معاوية ويكنى أبا أمامة ولقّب بالنّابغة لقوله (من الوافر):

وقد نبغت لهم منّا شؤون وهو أحد الأشراف الذين حطّ من قديرهم الشعر وغضّ منهم القريض. وكان ذا رئاسة في قومه وشرف وتسوّد، فلمّا قال الشعر غلب عليه ونسب إليه. قلت: ولله <درّ> القائل: الشعر يحطّ من قدر الكامل كما يرفع من قدر الجاهل، وقول الآخر: الشعر نقيصة (310) الكامل وحكمة الناقص. وقول الآخر: الشعر يضع من قدر الشريف كما يرفع من قدر السّخيف. روى الأصمعيّ: كان يضرب للنّابغة قبّة من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارهم، فأنشدته الخنساء يوما بمحضر حسّان بن ثابت الأنصاريّ تقول (من البسيط): فإنّ صخرا لمولانا وسيّدنا … وإنّ صخرا إذا يشتو لنحّار وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به … كأنّه علم في رأسه نار فقال: والله لولا أنّ أبا بصير أنشدني آنفا لقلت: إنّك أشعر الإنس والجن. فقام حسّان بن ثابت فقال: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك. فقال له النابغة: يا ابن أخي، أنت لا تحسن <أن> تقول (من الطويل):

فإنّك الّذي هو مدركي … وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع خطاطيف تحجزن في حبال متينة … تمدّ بها أيد إليك نوازع فسكت عند ذلك حسّان. وأبا النصير الذي عناه النابغة هو عمر بن عبد العزيز مولى لبني إسحاق، وكان شاعرا مفلقا. قلت: ساق الحصريّ، صاحب كتاب زهر الآداب، أنّ الخنساء بنت عمرو بن الشّريد السّلمي وأخويها صخر ومعاوية، وكان أبوهما يقف بهما في الموسم فيقول: أنا أبو خيري مضر، فمن عيّب فليغيّر، فلا يغيّر عليه أحد. فكان يقول: من أتا بمثلهما من قبيلة فله حكمه! فتقرّ له العرب بذلك. وأدركت الخنساء أيّام عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، وأحضرها قومها إليه، فقالوا: هذه الخنساء قد قرحت مآقيها في الجاهليّة والإسلام، فلو نهيتها رجونا أن تنته. فقال لها عمر، رضي الله عنه: إتّق الله يا خنساء، وأيقني بالموت. فقالت: إنّي لموقنة بالموت (311) وأبكي خيري مضر: صخر ومعاوية. قال: أتبكيهما وقد صارا فحمتي في النار؟ قالت: ذلك

أشدّ لبكائي عليهما يا عمر. قال: فكأنّه رقّ لها، فقال: خلّوا عن عجوزكم، لا أبا لكم! نام الخليّ عن بكاء الشّجيّ. وفي سليم شرف كثير ليس هذا مكان ذكره. قال أبو عبيدة: كان النابغة الذّبيانيّ أوضح شعراء الجاهليّة كلاما وأقلّهم سقطا وحشوا وأجودهم مقاطع وأحسنهم مطالع، ولشعره ديباجة ليست لغيره. إن شئت قلت: ليس بشعر مؤلّف، من تأتّيه ولينه، وإن شئت: هو صخر لو رديت به الجبال لأزالها. وروي عن عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، أنّه قال ذات يوم: أيّ شعراكم يقول (من الطويل): فلست بمستبق أخا لا تلمّه … على شعث أيّ الرّجال المهذّب قالوا: النابغة. قال: هو أشعر شعراكم. ثمّ قال يوم آخر: أي شعراكم يقول (من الوافر): فألفيت الأمانة لا تخنها … كذلك كان يوم لا تخون قالوا: النابغة. قال: هو أشعر شعراكم. ثمّ قال يوم آخر: أي شعراكم يقول (من الطويل): حلفت فلم أترك لنفسي ريبة … وليس وراء الله للمرء مذهب

قالوا: النّابغة. فقال: هو أشعركم. ففضّله في ثلاث مواضع: روى خلف بن محرز أنّه سمع أهل البادية من بني سعد يروون بيت النابغة للزّبرقان بن بدر السّعديّ، وهو (من البسيط): تعدوا الذّئاب على من لا كلاب له … وتتّقي مربض المستنفر الحامي وإنهم رووا للنّابغة الذّبيانيّ هذا البيت، وهو (من البسيط): تلك المكارم لا قعبان من لبن … شيبا بماء فعادا بعد أبوالا وقيل إنّه لأميّة بن أبي الصّلت. ومثل هذا الاختلاف قول امرئ القيس (من الطويل): وقوف بها صحبي عليّ مطيّهم … يقولون لا تهلك أسا وتجمّل وقول طرفة بن العبد أيضا (312، من الطويل): وقوف بها صحبي عليّ مطيّهم … يقولون لا تهلك أسا وتجلّد

ومن مليح قول النّابغة في النّعمان بن المنذر (من الطويل): ألم ترا أنّ الله أعطاك سورة … ترى كلّ ملك دونها يتذبذب كأنّك شمس والملوك كواكب … إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب قلت: وهذه الأبيات من جملة قصيدة كان النّابغة قد نفذها للنّعمان بن المنذر يعتذر إليه فيها عن شيء بلغه بسبب المتجرّدة بنت زهير، امرأة النّعمان، وسنذكر خبر ذلك بعد ذكر بقيّة هذه الأبيات من جملة قصيدة طويلة، منها يقول: حلفت فلم أترك لنفسي ريبة … وليس وراء الله للمرء مذهب لئن كنت قد بلّغت عنّي خيانة … لمبلغك الواشي أغشّ وأكذب ولكنّني كنت امرءا لي جانب … من الأرض فيه مستزاد ومذهب ومنها يقول: ملوك وإخوان إذا ما أتيتهم … أحكّم في أموالهم وأقرّب ومنها يقول:

كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم … فلم ترهم في شكر ذلك أذنبوا فلا تتركنّي بالوعيد كأنّني … إلى النّاس مطليّ به القار أجرب أتاني أبيت اللّعن أنّك لمتني … وتلك الّتي أهتمّ منها وأنصب ولست بمستبق أخا لا تلمّه … على شعث أيّ الرّجال المهذّب فإن أك مظلوما فعبد ظلمته … وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب (313) وأمّا حديث المتجرّدة فهي زوجة النّعمان بن المنذر ابن ماء السّماء، وكانت من أحسن الناس وجها، وكان يهواها. وقيل: إنّها كانت زوجة أبيه، المنذر بن النّعمان، فتزوّجها بعد موت أبيه، بشريعة الهوى وغلب المقدرة. قلت: هذا كلام السّلطان، الملك المنصور، ناصر الدّنيا والدين، أبا المعالي محمّد بن الملك المظفّر تقيّ الدين عمر <بن> شاهنشاه بن أيّوب، صاحب حماة يومئذ، كان-رحمه الله تعالى وبرّد؟؟؟ ضريحه وسائر ملوك المسلمين-ساق هذا الحديث في كتابه المسمّى بدرر الآداب ومحاسن ذوي الألباب، في باب: طبقات الشعراء. وهو لعمري من الكتب النفيسة الجامعة لمحاسن الأدب، يدل على أنّه رحمه الله، من الملوك الأكابر المطّلعين على أخبار الناس وتواريخهم. فالذي أقوله: إنّ هذا النّكاح كان جائزا في أيّام الجاهليّة ولا زال مستمرا حتّى جاء الإسلام، وسمّي: نكاح المقت، وبيان ذلك يأتي في

موضعه عند ذكر الأعياص من قريش ونسبهم، إن شاء الله تعالى. وكان النّابغة الذّبيانيّ والمنخّل اليشكريّ في منادمة النّعمان بن المنذر، وكان النّابغة مليحا عفيفا والمنخّل اليشكريّ قبيحا فاسقا. وكانت المتجرّدة تهوى المنخّل لفسقه. وكان النّعمان مكرّما للنّابغة مبجّلا له دون المنخّل. فحسده على منزلته وقربه المنخّل اليشكريّ وخاف أن تنظره المتجرّدة فتهواه لجماله وقربه من النّعمان وتتركه. فعمل الحيلة في إبعاده عن النّعمان أو قتله. واتّفق أنّ النّعمان قال للنّابغة: امدح لي المتجرّدة واذكر جميع محاسنها. ففعل هذه الأبيات الّتي أوّلها يقول (314، من الكامل): أمن آل ميّة رائح أو مغتدي … عجلان ذا زاد وغير مزوّد إلى أن وصل في صفتها شيئا فشيئا إلى قوله: وإذا طعنت طعنت في مستهدف … رابي المجسّة بالعبير مقرمد وإذا نزعت نزعت عن مستحصف … نزع الحزوّر بالرّشاء المحصد فتخيّل النّعمان من قوله، وقال له النّعمان: كيف رأيت يا منخّل؟ فقال: لو لم يعاين لم يذكر. فتغيّر النّعمان على النّابغة. وبلغ النّابغة قول المنخّل، فعلم أنّه مقتول إن قعد، فهرب إلى اليمن وقال: يكون المنخّل الخائن وأنا الأمين، وأنسب دونه إلى الخيانة وقد عمل على قتلي.

ثمّ إنّه نفّذ إلى النّعمان القصيدة العينيّة التي منها يقول (من الطويل): أتاني أبيت اللّعن أنّك لمتني … وتلك الّتي تستكّ منها المسامع فبتّ كأنّي ساورتني ضئيلة … من الرّقش في أنيابها السّمّ ناقع لعمري وما عمري عليّ بهيّن … لقد نطقت بطلا عليّ الأقارع أقارع عوفا لا أحاول غيرها … وجوه قرود تبتغي من تجادع أتاك امرؤ مستعلن لي بغضه … ولم يأت بالحقّ الّذي هو ناصع أتاك بقول لم أكن لأقوله … ولو كبلت من ساعديّ الجوامع حلفت فلم أترك لنفسك ريبة … وهل يأثمن ذو أمّة وهو طائع ومنها يقول: وحمّلتني ذنب امرئ وتركته … كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع

ومنها يقول: فإنّك كاللّيل الّذي هو مدركي … وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع (315) خطاطيف حجن من حبال متينة … تمدّ بها أيد إليك نوازع أتوعد عبدا لم يخنك أمانة … وتترك عبدا ظالما وهو ضالع وأنت ربيع ينعش النّاس سيبه … وسيف أعيرته المنيّة قاطع أبى الله إلاّ عدله ووفائه … ولا النّكر معروف ولا العرف ضائع ولمّا وصلته الأبيات ووقف عليها، علم النّعمان أنّ المنخّل <وهو> الخائن دون النابغة، فقال: يا منخّل، اخلفني في أهلي حتّى أمضي أتصيّد وأعود. قال: نعم، وخرج النّعمان بزعمه للصّيد، ثمّ عاد إلى بيته ليلا فوجد المنخّل والمتجرّدة يشربان الخمر وساقيها في وسطه، وهما قد أمنا ممّن يتجسّس عليهما لغيبة النّعمان. فلمّا رآهما على ذلك هجم عليهما وقال: يا منخّل، ألست القائل: إنّ النّابغة لو لم يعاين لم يقل؟ أنشدني قولك: إن كنت عاذلتي فسيرى (من مجزوء الكامل). إن كنت عاذلتي فسيري … نحو العراق ولا تحوري

لا تسألي عن جلّ ما … لي واسألي كرمي وخيري ولقد دخلت على الفتا … ة الخدر في اليوم المطير ودفعتها فتدافعت … مشي القطاة إلى الغدير ولثمتها فتنفّست … كتنفّس الظّبي الغرير ونأت وقالت يا منخّل … ما بجسمك من حروري ما شفّ جسمي غير حبّك … فاهدي عنّي وسيري وأحبّها وتحبّني … ويحبّ ناقتها بعيري فقال النّعمان: صدقت! لو لم تتحاببا لما كنتما كذي. ثمّ قتلهما جميعا، وكتب إلى النّابغة وأعلمه بذلك وأعاده بالقسم أنّه (316) آمن منه مبرّأ ممّا اتّهم به. فعاد إليه النّابغة، فكان أحبّ الناس إليه وأوفرهم حظّا عنده. ومن مليح شعر النّابغة قوله (من الطويل): كليني لهمّ يا أميمة ناصب … وليل أقضّيه بطيء الكواكب

وصدر لراع اللّيل عازب همّه … تضاعف فيه الهمّ من كلّ جانب تقاعس حتّى قلت ليس بمنقض … وليس الّذي يرعى النّجوم بآئب عليّ نعم ونعمة بعد نعمة … لوالده ليست بذات عقارب ومنها يقول: إذا ما غزوا بالجيش حلّق فوقهم … عصائب طير تهتدي بعصائب جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله … إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب وقد جاء في قول النّابغة إقواء في قصيدته التي أوّلها: أمن آل ميّة رائح أو مغتدي، فإنّ قافيتها جميعها مكسورة إلاّ بيت واحد، وهو قوله (من الكامل): زعم البوارح أنّ رحلتنا غدا … وبذاك خبّرنا الغراب الأسود والإقواء أحد العيوب المستعملة في الشّعر. وقد استشهد بهذا البيت جماعة من العروضيّين. فقيل: إنّه لمّا قدم يثرب قيل له: أقويت. فلم يعرفه. فألقوا الأبيات على لسان قينة فغنّت بها ومدّت في القوافي، فانتبه لها، فأصلحها لوقته، فقال:

ذكر زهير بن أبي سلمى وطرفا من شعره

زعم البوارح أنّ رحلتنا غدا … وبذاك تنعاب الغداف الأسود قال أبو عبيدة: وقد أقوا بعده جماعة من الشعراء المفلقين. والإقواء هو اختلاف إعراب القوافي. وقال: هو مأخوذ من أقوى المنزل، إذا خلا من أهله. فلمّا خلا من قافية أخيه، قيل: أقوا، أي خلا. (317) وقد قرأت لجماعة من العروضيّين مثل الخليل بن أحمد- وهو أوّل من اقترح العروض-والأخفش والتّبريزيّ وغيرهم، فذكروا أن الإقواء استنبط من فتل الحبل، كون فتله يمنة ويسرة، فاختلف في برمه وقوي بذلك، فسمّي: الإقواء. وعلى الجملة فإنّه من عيوب الشعر المستعملة. وكذلك الإيطاء، وهو تكرار الكلمة الواحدة في القافية، فإن كانت أحد الكلمتين اسم والأخرى فعل فليس بإيطاء. وهو أيضا مأخوذ من إيطاء البعير إذا وطئ برجله مكان يده في مكان واحد فيقال: آطأ البعير. وعيوب الشعر المستعملة ستّة، قد ذكروها أهل صناعة الشعر في كتبهم، فلا حاجة إلى إثباتها ها هنا، والله أعلم. ذكر زهير بن أبي سلمى وطرفا من شعره هو زهير بن أبي سلمى بن سعيد بن رياح. وقد قدّموا زهيرا على

الشعراء بأنّه كان أحسنهم شعرا وأبعدهم <من> سخف وأجمعهم للكثير من المعاني في قليل من اللفظ وأشدهم مبالعة في المدح وأكثرهم أمثالا في شعره. قال ابن الأعرابيّ: كان لزهير من الشعر ما لم يكن لغيره؛ كان أبوه شاعرا وخاله شاعرا وأخته شاعرة وابناه شاعرين. قلت: أمّا أعرق الشعراء في الشعر فهم آل أبي حفصة الإسلاميّون؛ نبغ منهم عشرة يتوارثون الشعر: كابر عن كابر. ولا زال أعرق الشعراء آل حسّان بن ثابت، فإنّهم كانوا ستّة نفر متوارثون الشعر، حتّى جاء آل أبي حفصة فأفضلوهم بأربعة، كلّ منهم قال الشعر ومدح الخلفاء والملوك وأخذوا الجوائز السّنيّة. وقد شرحت هذا الكلام في كتابيّ: (318) أحدهما المسمّى بحدائق الأحداق ودقائق الحذّاق، الموسوم باسم القاضي المرحوم علاء الدّين بن الأثير، رحم الله روحه وبرّد ضريحه، والآخر المسمّى بذخائر الأخاير، والموسوم باسم القاضي المرحوم فخر الدين، ناظر الجيوش المنصورة، تغمّده الله برحمته وأسكنه أعلا الدّرجات في جنّته، ممّا يغني <عن> إعادة الكلام في هذا التاريخ المختصر، خوفا أن أكون قد أطيت في كتبي وتأليفي قياسا على عيوب الشّعر. وروي، قال: قال عبد الملك بن مروان: ما ضرّ من مدح بما مدح

به زهير آل أبي حارثة أن لا يمتدحوا بغيره، وهو حيث يقول (من الطويل): على مكثريهم حقّ من يعتريهم … وعند المقلّين السّماحة والبذل وإن جئت ألفيت حول بيوتهم … مجالس قد يشفى بأحلامها الجهل وقال عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، لبعض ولد هرم بن سنان: أنشدني بعض مديح زهير من أبيك. فأنشده. فقال: إنّه كان ليحسن فيكم القول. فقال: ونحن والله كنّا نحسن له العطيّة. فقال عمر: ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم. وقال محمّد بن سلاّم: سألت يونس النّحويّ: من أشعر الناس؟ قال: لا أومئ إلى رجل بعينه، ولكنّي أقول: امرؤ القيس إذا غضب، والنّابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب. وعن عيسى بن زيد قال: قال ابن عبّاس، رضي الله عنه، قال عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه: أنشدني لأشعر الناس. قلت: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: زهير. قلت: <وبم صار كذلك؟ > ثمّ قال: كان لا يعاظل بين القوافي ولا يتّبع حوشيّ الكلام.

ومن مليح شعره قوله (من الطويل): سئمت تكاليف الخباة ومن يعش … ثمانين حولا لا أبا لك يسأم (319) وأعلم ما في اليوم والأمس قبله … ولكنّني عن علم ما في غد عمي ومن يجعل المعروف من دون عرضه … يفره ومن لم يتّق الشّتم يشتم ومن لم يذد عن حوضه بحسامه … يهدّم ومن لم يظلم النّاس يظلم ومنها يقول: ومن يوف لم يذمم ومن يعص قلبه … إلى مطمئنّ البرّ لا يتجمجم ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله … على قومه يستغن عنه ويذمم ومن هاب أسباب المنايا ينلنه … ولو نال أسباب السّماء بسلّم ومن يغترب يحسب عدوّا صديقه … ومن لا يكرّم نفسه لا يكرّم ومن لم يغمض عينه عن أمور كثيرة … يظرّس بأنياب ويكوى بمنسم

ومن قوله من قصيدة يمدح فيها هرم بن سنان (من البسيط): إنّ البخيل ملوم حيث كان … ولكنّ الجواد على علاّته هرم هو الجواد الّذي يعطيك نائله … عفوا ويظلم أحيانا فيظّلم وممّا قدّمه عند علماء الشعر قوله (من البسيط): قد جعل المبتغون الخير من هرم … السّائلون إلى أبوابه طرقا من يلق يوما على علاّته هرما … يلق السّماحة منه والنّدا خلقا أشمّ أبيض فيّاض يفكّك عن … أيدي العناة وعن أعناقها الرّبقا وليس مانع ذي قربى وذي رحم … يوما ولا معدما من خابط ورقا ومنها يقول: وإنّ أشعر بيتا أنت قائله … بيت يقال إذا ما أنشدته صدقا لو نال حيّ من الدّنيا بمكرمة … أفق السّماء لنالت كفّه الأفقا وله من القصيدة التي أوّلها يقول (من الطويل):

ذكر طرفة بن العبد، جاهلي

(320) ضحى القلب عن سلمى وأقصر باطله … وعرّي بأفراس الصّبى ورواحله ومنها يقول: أخي ثقة لا تهلك الخمر ماله … ولكنّه قد يهلك المال نائله تراه إذا ما جئته متهلّلا … كأنّك معطيه الّذي أنت سائله وقوله أيضا (من الوافر): لقد طالبتها ولكلّ شيء … إذا طالت لجاجته انتهاء وقوله أيضا (من الوافر): فقرّي في ديارك إنّ قوما … متى يدعوا ديارهم يهونا ذكر طرفة بن العبد، جاهليّ قال أبو عبيدة: اتّفقت العرب على أنّ أشعر الشعراء طرفة بن العبد ابن ركاب وبعده الحارث بن حلّزة وعمرو بن كلثوم.

وقال أبو عمرو: لم أجد أحدا قال الشعر حدثا وأجاد فيه على حداثة سنّه إلاّ طرفة بن العبد، فإنّه قال الشعر وهو ابن عشرين سنة. وقيل: قاله ولم يبلغ العشرين. وقيل لأبي عمرو: ما الذي يصحّح عندك حداثته؟ قال: لم أره ذكر الشّيب ولا نعاه، ولا بكى على الشباب ولا رثاه، ولا كثر شعره على أفواه الرّواة. قيل: وأخرج لسانه يوما-وكان أسود كأنّه لسان ظبي-فأخذه بيده ثمّ أومى إلى عنقه فقال: ويل لهذه ممّا يجني عليه هذا، يعني لسانه على عنقه، فكان كما قال، قتله المعكبر بالبحرين بكتاب عمرو بن هند. قلت: وطرفة أحد الذين ضرّهم شعرهم، وهم جماعة، منهم شديف وطرفة هذا. ومثل المتنبّي من المتأخّرين وغيرهم سقتهم في كتابي المسمّى (321) بحدائق الأحداق، المقدّم ذكره، ما يغني عن تكرار القول فيهم. وطرفة وخاله المتلمّس كانا ينادمان عمرو بن هند، فنقم عليهما في أمر يأتي ذكره، إن شاء الله تعالى، فأنفذهما بكتابين على أيديهما إلى المعكبر بالبحرين فيه قتلهما. فأمّا المتلمّس فإنه فضّ كتابه وقرأه لتأخير أجله. وأمّا طرفة فتمّ على وجهه، فقتل. وسنذكر من ذلك طرفا عند ذكر المتلمّس، إن شاء الله تعالى. ومن مليح شعر طرفة البيت السائر من القصيدة الّتي أوّلها (من الطويل): لخولة أطلال ببرقة ثهمد

ذكر علقمة بن عبدة الفحل، جاهلي

ومنها البيت: ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد ومن مليح شعره قوله أيضا (من المديد): للفتى عقل يعيش به … حيث تهدي ساقه قدمه ومن ذلك قوله أيضا (من الطويل): رأيت سعودا من سعود كثيرة … فلم أر سعدا مثل سعد بن مالك ومن أحسن ما قال (من الطويل): وأعلم علما ليس بالظّنّ أنّه … إذا ذلّ مولى المرء فهو ذليل ومن جيّد قوله (من الطويل): أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا … حنانيك بعض الشّرّ أهون من بعض ذكر علقمة بن عبدة الفحل، جاهليّ قيل: إنّما سمّي علقمة الفحل لأنّه خلف على امرأة امرئ القيس لمّا حكمت له على امرئ القيس بأنّه أشعر منه، فطلّقها فأخذها علقمة بن عبدة.

ومن شعر علقمة الشائع الأبيات الّتي أوّلها (من الطويل): (322) طحا بك قلب في الحسان طروب إلى أن يقول: فإن تسألوني بالنّساء فإنّني … عليم بأدواء النّساء طبيب إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله … فليس له من ودّهنّ نصيب يردن ثراء المال أين علمنه … لهنّ وشرح عندهنّ عجيب ومن مليح شعره القصيدة الّتي أوّلها يقول (من البسيط): هل ما علمت وما استودعت مكتوم … أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم إلى أن يقول فيها: والحمد لا يشترى إلاّ له ثمن … ممّا تظنّ به الأقوام معلوم والجود ما فيه للمال مهلكة … والبخل يبقي لأهله ومذموم ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه … أنّى توجّه والمحروم محروم

ذكر المتلمس وبعض أخباره وطرف من أشعاره، جاهلي

ومن تعرّض للغربان يزجرها … على سلامته لا بدّ مشتوم وكلّ حصن وإن دامت سلامته … على دعائمه لا بدّ مهدوم قلت: ومن ها هنا أخذ كعب بن زهير فقال (من الطويل): كلّ ابن أنثى وإن طالت سلامته … يوما على آلة حدباء محمول ذكر المتلمّس وبعض أخباره وطرف من أشعاره، جاهليّ هو جرير بن عبد الله وقيل: عبد الاّت، جاهليّ. قال أبو عمرو: والمتلمّس هو خال طرفة بن العبد، ولقّب المتلمّس لقوله (من الطويل): هذا أوان العرض حتّى ذبابه … زنابيره والأزرق المتلمّس

قيل: وكانت أمّه من بني يشكر، فقال عمرو بن هند للحارث اليشكريّ: ممّن المتلمّس؟ فقال: هو منوط فينا، وأحيانا تزعم أمّه أنّه من بني ضبعة بن ربيعة، وهو ساقط عندنا. فبلغ ذلك المتلمّس، فقال (من الطويل): يعيّرني أمّي رجال ولا أرى … أخا كرم إلاّ بأن يتكرّما ومن كان ذا عرض كريم ولم يصن … له حسبا كان اللّئيم المذمّما ولو غير إخواني أراد بنقصي … جعلت له فوق العرانين ميسما وما كنت إلاّ مثل قاطع كفّه … بكفّ له أخرى فأصبح أجذما يداه أصابت هذه حتف هذه … فلم تجد الأخرى عليها مقدّما لهذي الحكم قبل اليوم ما تفرع العصا … وما علّم الإنسان إلاّ ليعلما ذو الحكم الذي عناه هو أكثم بن صيفيّ، وكان حكما من حكّام العرب، ولمّا أسنّ أحسّ بتغيّر عقله، فقالت له ابنته في ذلك، فقال لها: إذا حضر عندي الخصوم وعلمت منّي ما تدّعينه من حكمي فاقرعي المجنّ

ذكر الأعشى، جاهلي

بالعصا. فكانت تفعل ذلك فيتدارك ويتلافى حكمه. وله قضايا ونوادر مشهورة ليس هنا مكانها. وأمّا السبب في قتل طرفة بن العبد فكان قد هجا عمرو بن هند، ثمّ مدحه. فحقد عليه وأراد قتله. فكره أن يقتله بمحضر بكر بن وائل، وخاف أن يهجوه المتلمّس لأنّه خاله، فكتب لطرفة وللمتلمّس إلى المعكبر، عامله على البحرين، كتابين بقتلهما جميعا. وقال لهما: اذهبا اقتضاء صلاتكما من هناك. فأمّا المتلمّس فدفع صحيفته إلى غلام من أهل الحيرة، فقرأها عليه، فوجد فيها الشّرّ، فنبذها في النّهر، وقال لطرفة: فكّ صحيفتك، ففيها والله ما في صحيفتي. فأبا، وقال: ما كان ليجسر عليّ. ومضى، فقتل، والله أعلم. ذكر الأعشى، جاهليّ هو ميمون بن قيس ابن أسد بن ربيعة، ويكنى أبا نصر. وكان يقال لأبيه: قتيل الجوع. وسمّي بذلك لأنّه دخل غارا ليستظلّ به من (324) الهاجرة، فوقعت صخرة من الجبل فسدّت الصغار، فمات جوعا. وهو أحد الأعلام من شعراء الجاهليّة وفحولها.

وعن المدائنيّ، قال: أجمع الرواة على أنّ ما لأحد من الشعراء ما للأعشى من التصرّف في فنون الشعر. وقال: هو أوّل من سأل بشعره، ويسمّى: صنّاجة العرب. قيل: ولم يكن له مع جودة شعره بيت نادر يمثّل به، كأبيات أصحابه امرئ القيس والنّابغة وزهير. وقال المدائنيّ: قصد الأعشى الوفود على النّبيّ صلى الله عليه وسلّم، وقد مدحه بقصيدة أوّلها يقول (من الطويل): ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا … وبتّ كما بات السّليم مسهّدا وساق منها ما وصل إلينا بعد ذكر تمام الخبر، فبلغ الخبر قريشا، فرصدوه على طريقه وقالوا: هذا صنّاجة العرب، ما مدح أحدا قطّ إلاّ ورفع من قدره وسما من شأنه. فلمّا ورد عليهم قالوا: يا أبا نصر، أين تريد؟ قال: أريد صاحبكم هذا لأسلم على يديه. قالوا: إنّه يحرّم الطّيّبين: الزنا والخمر. فقال: أمّا الزنا، فقد تركني قبل ما تركته، وأمّا الخمر فقد خلّفت وراي صبابة، وإنّي لأرجع فأمتنع بها أو منها وأعود. وقيل: إنّ أبا سفيان بن حرب قال: يا معشر قريش، هذا الأعشى والله لإن أتا محمّدا واتّبعه ليضرمنّ عليكم نيران العرب بشعره، فاجمعوا له شيئا وادفعوا به. فجمعوا له مائة بعير. فقبلها ورجع طالبا أهله، فرمى به بعيره، فدقّ رقبته، فخابت سفرته، وخسرت صفقته. قلت: وهذا أحقّ بأن تسمّيه العرب: الضائع، لا رفيق امرئ القيس.

وأمّا تمام الأبيات فهذه (325): وما ذاك من عشق النّساء وإنّما … تناسيت قبل اليوم خلّة مهددا كهولا وشبّانا رزئت وثروة … فلله هذا الدّهر كيف تردّدا وما زلت أبغي المال مذ كنت يافع … وليدا وكهلا حين شبت وأمردا وأبتذل العيش المراء قبل يعتلي … مسافة ما بين النّجير فصرخدا ألا أيّهذا السّائلي أين يمّمت … فإنّ لها في أهل يثرب موعدا واليت لا أرثي لها من كلالة … ولا من وجى حتّى تزور محمّدا نبيّ يرى ما لا ترون وذكره … لعمري غار في البلاد وأنجدا له صدقات ما تغبّ ونائل … وليس عطاء اليوم مانعه غدا أجدك لم تسمع وصاة محمّد … نبيّ الإله حيث أوصى وأشهدا إذا أنت لم ترحل بزاد من التّقى … ولاقيت بعد اليوم من قد تردّدا

ندمت على أن لا تكون كمثله … فترصد للأمر الّذي كان أرصدا فإيّاك والميتات لا تأكلنّها … ولا تأخذا سهما حديدا ليقصدا وذا النّصب والمنصوب لا تنسكنّه … ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا وذا الرّحم القربى فلا تقطعنّها … لعاقبة ولا الأسير المقيّدا وسبّح على حين العشيّات والضّحى … ولا تحمد الشّيطان والله فاحمدا وهي قصيدة طويلة، وهذا ما حضرنا منها جهد المحفوظ. ومن قول الأعشى أيضا (من البسيط): ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل … وهل تطيق وداعا أيّها الرّجل غرّاء فرعاء مصقول عوارضها … تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل كأنّ مشيتها من بيت جارتها … مرّ السّحابة لا ريث ولا عجل ليست كمن يكره الجيران طلعتها … ولا تراها لسرّ الجار تختتل (326) وروي أن هذه الأبيات أنشدت بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: إن كانت بهذه الصفة فما يطيق وداعها.

وللأعشى من قصيدة هذا أوّلها (من المتقارب): لعمرك ما طول هذا الزّمن … على المرء إلاّ عناء معنّ يظلّ رجيما لريب المنون … وللسّقم في جسمه والحزن وما إن أرى الموت فيما خلا … يغادر من سارح أو يفن أزال أذينة عن ملكه … وأخرج من حصنه ذا يزن وخان الزّمان أبا مالك … وأيّ امرئ لم يخنه الزّمن وزار الملوك فأفناهم … ونحن بإثر الّذي قد طعن ولكنّ ربّي كفى غربتي … بحمد المليك فقد بلّغن أخي ثقة عال كعبه … جزيل العطايا قليل المنن طويل النّجاد رفيع العما … د سهل المباءات رحب العطن كريم شمائله من بني … معاوية الأكرمين السّنن فإن تتبعوا أمره ترشدوا … وإن تسألوا ماله لا يظنّ

يطوف العفاة بأبوابه … كطوف النّصارى ببيت الوثن ومن مليح شعره في الغزل (من السريع): عهدي بها في الحيّ قد سربلت … هيفاء مثل المهرة الضّامر قد نهد الثّد على صدرها … في مشرق ذي صبح نائر لو أسندت ميتا إلى نحرها … عاش ولم ينقل إلى حافر حتّى يقول النّاس ممّا رأوا … يا عجبا للميّت النّاشر ومن شعره أيضا (327، من البسيط). كن كالسّموأل إذ سار الهمام به … في جحفل كسواد اللّيل جرّار بالأبلق الفرد من تيماء منزله … حصن حصين وجار غير غدّار فشكّ غير كثير وقال له: … اقتل أسيرك إنّي مانع جار وسبب هذه الأبيات أن امرأ القيس لمّا عبر بالسّموأل بن عادياء اليهوديّ وهو في حصنه الأبلق الفرد، متوجّها إلى قيصر، ملك الرّوم، كما

تقدّم من خبره، أودع السّموأل ثقله وكراعه، فبلغ الحارث بن أبي شمر الغسّاني، وهو الحارث الأكبر، فبعث يطلب من السموّل وديعة امرء القيس، فأبى عليه. وكان للسموأل ولد خارج الحصن يتصيّد، فقطع عليه الحارث الطريق فأخذه ونزل على السموأل وقال: تعطيني وديعة امرئ القيس وإلاّ قتلت ولدك صبرا وأنت تنظر. فقال أنظرني. ثمّ نفذ إليه يقول: الولد منه العوض، والغدر لا يغسله عنّي شيئا، فاصطنع ما شئت أن تصنع. فقتل ولده صبرا بمرأى من أبيه من أعلا حصنه. فلذلك قول الأعشى: فشكّ غير كثير ثمّ قال له … اقتل أسيرك إنّي مانع جار وضرب المثل بحسن وفائه. وقيل: أنشد بحضرة عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، هذين البيتين في السموأل، فقال عمر: وددت أنّهما عشرة أبيات على هذا النّسق، لشدّة إعجابه بهما. قلت: والسموأل هذا صاحب القصيدة الّتي أبنتها في كتابي المسمّى بحدائق الأحداق ودقائق الحذّاق في باب الافتخار، أوّلها يقول (من الطويل): إذا المرء لم يدنس من اللّؤم عرضه … فكلّ رداء يرتديه جميل منها يقول: تعيّرنا أنّا قليل عديدنا … فقلت لها إنّ الكرام قليل

ذكر عبيد بن الأبرص، جاهلي

(328) وما ضرّنا أنّا قليل وجارنا … عزيز وجار الأكثرين ذليل ولا عيب فينا غير أنّ سيوفنا … بها من قراع الدّارعين فلول وهذا البيت بعينه في شعر الأعشى أيضا ولا مغيّر فيه غير القافية، وهو: ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم … بهنّ فلول من قراع الكتائب قلت: ومن نقد البيتين وجد بيت السّموأل أتمّ، لقوله: من قراع الدّارعين؛ فإنّ الفلول لا تكن في السيوف إلاّ من مقارعة كلّ ذي درع، الكتائب: تجمع الدارعين وغيرهم. ولعلّ هذا كما وقع في نفسي، والله أعلم. ذكر عبيد بن الأبرص، جاهليّ هو عبيد بن الأبرص، من بني أسد بن خزيمة، وهو الذي ساقته رجلاه إلى حتفه. قتله النّعمان بن المنذر في يوم بؤسه. . . ذلك أنّ النّعمان بن المنذر كان له في كلّ سنة يومان، سمّى أحدهما يوم نعيم والآخر يوم بؤس، فأوّل من يطلع عليه يوم نعيمه يمنيه ما يحبّ فيعطيه أمنيته. وقيل: بل ينعم عليه بمائة من الإبل موقورة من كلّ خير. وأوّل من يطلع عليه يوم بؤسه يأمر به فيذبح لوقته، ولو كان ولده. فاتّفق لحين عبيد ابن الأبرص أنّه أشرف عليه يوم بؤسه، فقال: هلاّ كان الذّبح لغيرك يا عبيد؟ فقال: أرسل حائر رجلاه. فأرسلها مثلا.

ثمّ قال له النّعمان: أنشدني قبل مفارقة الدّنيا، فقد كان شعرك يعجبني. فقال عبيد: حال الجريض دون القريض. فأرسلها مثلا. فقال النّعمان: أسمعني ويحك! فقال: المنايا على الحوايا. فأرسلها مثلا. فقال بعض القوم:. . . أمك! أنشد الملك. فقال عبيد: نام الخليّ عن بكاء الشّجيّ. فأرسلها مثلا. فقال النّعمان: قد أمللتني فأرحني قبل أن آمر بك. فقال عبيد: من عزّ بزّ. فأرسلها مثلا. فقال النّعمان: أنشدني «أقفر من أهله ملحوب». (329) فقال عبيد (من البسيط): أقفر من أهله عبيد … فاليوم لا مبدي ولا يعيد

عنّت له <عنّة> ركود … وحان منها له ورود فقال له النّعمان: إنّه لا بدّ من الموت! ولو أنّ المنذر عرض لي يوم بؤسي لذبحته. فاختر: إن شئت من الأكحل، وإن شئت من الأبجل وإن شئت من الوريد، فخبّرني أيّهم تريد؟ فقال عبيد: ثلاث خصال عواد، واردها شرّ وراد، وحاديها شرّ حاد، ومعادها شرّ معاد، ولا خير لمرتاد، فإن كنت ولا بدّ قاتلي فاسقني الخمر، حتّى إذا ماتت لها مفاصلي، وذهلت لها ذواهلي، فشأنك وما تريد. فأمر له النّعمان بحاجته، حتّى أخذت منه وطابت نفسه، دعا به النّعمان ليقتله، فأنشأ يقول عند ذلك (من الطويل): وخيّرني ذو البؤس في يوم بأسه … خصالا أرى في كلّها الموت قد برق كما خيّرت عاد من الدّهر مرّة … سحائب ما فيها لذي خيرة أنق سحائب ريح لم توكّل ببلدة … فتتركها إلاّ كما ليلة الطّلق ثمّ أمر به ففصد حتّى مات. قيل: ولم يزل النّعمان على هذه السّنّة حتّى مرّ به رجل من طيء يقال له حنظلة بن عفراء في يوم بؤسه، فلمّا همّ بقتله، قال: أبيت اللّعن، والله إنّي أتيتك زائرا، ولأهلي من خيرك مائرا، فلا تكن ميرتهم منك قتلي! فقال النّعمان: لا بدّ من ذلك. فسألني حاجة أقضيها لك. قال: تؤجّلني سنة أرجع فيها إلى أهلى، وأوصي بما أريد، ثمّ أصير إليك تنفّذ فيّ حكمك. قال: ومن يكفلك حتّى تعود؟

قال: فنظر في وجوه جلسائه، ثمّ أشار إلى رجل يقال له: شريك (330) بن عمرو. فقال: هذا يكفيني. فوثب شريك وقال: أبيت اللّعن! دمي بدمه إلى أن يعود. قال: فأطلقه النّعمان ومضى في شأنه. فلمّا كان في قابل جلس النّعمان في مجلسه حنظلة، فأبطأ عليه وتقوّض النهار، فأمر النّعمان بشريك، فتقدّم للقتل، فلمّا همّ بذبحه، وإذا براكب قد طلع، فتأمّلوه القوم، فإذا هو حنظلة قد أقبل متكفّنا متحنّطا، ومعه نادبة تندبه، وقد قامت نادبة شريك تندبه، فلمّا رآه النّعمان على تلك الحالة عجب من حسن وفائهما وكرمهما، وأطلقهما جميعا، وقال: لا كنتما أكثر وفاء ولا كرما منّي! وأنعم عليهما إنعاما ظاهرا، وأبطل تلك السّنّة منذ ذلك اليوم. ومن جيّد شعر عبيد بن الأبرص قوله (من البسيط): طاف الخيال علينا ليلة الوادي … من أمّ عمرو ولم يلمم بميعاد إنّي اهتديت لركب طال حبسهم … في سبسب بين دكداك وأعقاد إذهب إليك فإنّي من بني أسد … أهل القيان وأهل الجود والنّادي لا أعرفنّك قبل الموت تندبني … وفي حياتي ما زوّدتني زاد فانظر إلى ظلّ ملك أنت تاركه … هل ينفعنّك يوما نغمة الحادي

ذكر لبيد بن ربيعة وطرف من أخباره

ألخير أبقى وإن طال الزّمان به … والشّرّ أخبث ما أوعيت من زاد قلت: وهذا الشاعر دخل عليه في هذه الأبيات الإيطاء، فإنّه قد تكرّر قوله: زاد، في موضعين من شعره، وهو من فحول الشعراء. ذكر لبيد بن ربيعة وطرف من أخباره هو لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب، ويكنى أبا عقيل، أحد شعراء الجاهليّة المعدودين فيهم، وأدرك الإسلام، فهو من (331) طبقة المخضرمين. فإنّه أسلم، وقدم على سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهاجر، وحسن إسلامه، وعاش مائة وخمسين سنة، ونزل الكوفة على زمن عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، فأقام بها إلى أن مات، رحمة الله عليه. وروى الأصمعيّ، قال: وفد عامر بن مالك، عمّ لبيد بن ربيعة، في رهط من بني جعفر بن كلاب، ومعهم لبيد، وهو يوم ذاك صبيّ، على النّعمان بن المنذر، فوجدوا عنده الرّبيع بن زياد العبسيّ، وكان نديما للنّعمان، وكان بينه وبين الجعفريّين وقفة وهناة. فلمّا دخل الجعفريّون على النّعمان، أقبل عليهم، وأمضى حوائجهم، وخرجوا من عنده مسرورون بفعله. فخلا به الرّبيع وذمّهم عنده ووقع فيهم، فتغيّر النّعمان لذلك. ثمّ دخلوا عليه يوما آخر فرأوا منه جفاء. فخرجوا من عنده غضابا، ولبيد متخلّف في رحالهم يحرس متاعهم ويرعى إبله لطفوليّته وصباه.

فأتاهم ليلهم يتذاكرون أمر الرّبيع، فسألهم عن أمرهم، فكتموه. فقال: والله لا عدت حفظت لكم متاعا ولا رعيت لكم بعيرا أو تخبروني شأنكم معه وما بدا منه. وكانت أمّ لبيد ربيبة في حجر الرّبيع بن زياد، فقالوا: قد غلبنا على النّعمان، وصدّ وجهه عنّا. فقال لبيد: اجمعوا غدا بيني وبينه بحضرة النّعمان حتّى أزجره عنكم بقول مؤلم لا يلتفت النّعمان بعده إليه أبدا. فقالوا: وهل عندك شيء؟ قال: نعم. قالوا: فإنّا نبلوك. قال: بماذا؟ قالوا: تشتم لنا هذه البقلة-وكان بين أيديهم بقلة دقيقة القضبان، قليلة الورق، لاصقة عروقها بالأرض-فقال لبيد (332): هي التي لا تذكي نارا، ولا تؤهّل دارا، ولا تسرّ جارا؛ عودها ضئيل، وفرعها دليل، وخيرها قليل؛ أقبح البقول مرعا، وأقصرها فرعا، وأشدّها قلعا؛ بلدها شاسع، وآكلها جائع، والمقيم عليها قانع؛ فالقوا بي أخي عبس، أصدّه عنكم بتعس ونكس. فقالوا: أنت له. فلمّا أصبحوا حلقوا رأسه وتركوا ذؤابته وألبسوه حلّة وغدوا به معهم، فأدخلوا على النّعمان فوجدوه يتغدّا ومعه الرّبيع بن زياد يؤاكله، والدار مملوءة بالوفود. فقال لبيد، ورفع صوته وعلاّه (من الرجز): مهلا أبيت اللّعن لا تأكل معه … إنّ استه من برص ملمّعه ما زال يفتي فيها إصبعه

يدخلها حتّى يواري أشجعه … كأنّما يطلب شيئا ضيّعه طويلة فلخّصتها، قال: فرفع يده من الطعام النّعمان، وقال: خبّثت والله يا غلام عليّ طعامي؛ ما رأيت كاليوم قطّ. فأقبل الربيع على النّعمان فقال: كذب والله ابن الحمقى، ولقد فعلت بأمّه كذا وكذا. فقال لبيد: مثلك من فعل ذلك بربيبة حجره والقريبة من أهله. ثمّ قضى النّعمان حوائج الجعفريّين من وقته، وأصرفهم مكرّمين. ومضى الرّبيع إلى منزله وكتب إلى النّعمان يقول: إنّي قد علمت أنّه قد وقع في نفسك ما قاله ابن الحمقاء، وإنّي لست خارجا حتّى تبعث إليّ من يجرّدني فيعلم أنّي لست كما قال. فأرسل إليه النّعمان يقول: إنّك لست قادرا على ردّ ما زلّت به الألسن، فالحق بأهلك وخذ ما رسم (333) لك، وكتب إليه يقول (من البسيط): شرّد برحلك عنّي حيث شئت ولا … تكثر عليّ ودع عنك الأباطيلا قد قيل ذلك فإن حقّا وإن كذبا … فما اعتذارك من شرّ إذا قيلا وقال أبو عبيدة: لم يقل لبيد في الإسلام إلاّ بيتا واحدا (من البسيط): ألحمد لله إذ لم يأتني أجلي … حتّى تسربلت للإسلام سربالا

وقال: كان لبيد من أجواد العرب، وكان قد آلا على نفسه في الجاهليّة ألاّ تهبّ صبا إلاّ نحر وطعم، وكان له جفنتان يغدوا بهما ويروح في كلّ يوم على ناد قومه، فأنفق جميع ماله على هذه الصّفة. فلمّا كان الوليد بن عقبة على الكوفة من قبل عثمان بن عفّان، رضي الله عنه، فهبّت الصبا يوما والوليد على المنبر يخطب بالناس، فقال في أثنى كلامه: إنّ أخاكم لبيد بن ربيعة نذر في الجاهليّة ألاّ تهبّ صبا إلاّ نحر وطعم، وهذا يوم من أيّامه، فأعينوه، وأنا أوّل من فعل. ثمّ نزل فأرسل إلى لبيد مائة بكرة برعاتها، وكتب إليه يقول (من الوافر): أرى الجزّار يشحذ شفرتيه … إذا هبّت رياح أبي عقيل أشمّ الأنف أبيض جعفريّ … طويل الباع كالسّيف الصّقيل وفى ابن الجعفريّ بما لديه … على العلاّت والمال القليل بنحر الكوم إن سحبت عليه … ذيول صبا تجاوب كالأصيل قال: فلمّا بلغ هديّته وأبياته لبيدا قال: أما والله لولا أنّني آليت أن لا

أقول شعرا ولا أصنعه في الإسلام لأجبته. فقالت ابنته: أفا أجيبه يابه؟ فقال: أجيبيه، فلعمري لقد عشت (334) زمانا ولا أعياني جوابا قطّ. فقالت (من الوافر): إذا هبّت رياح أبي عقيل … دعونا عند هبّتها الوليدا أشمّ الأنف أروع عبشميّا … أعان على مروءته لبيدا بأمثال الهضاب كأنّ ركبا … عليها من بني حام قعودا أبا وهب جزاك الله خيرا … نحرناها وأطعمنا الثّريدا فعد إنّ الكريم له معاد … وظنّي يا بن أروى أن تعودا فقال لها لبيد: والله لقد أحسنت يا بنيّة، إلاّ أنّك سألتيه ثانيا. فقالت: يابه، إنه ملك، والملوك لا يستحيى من سؤالهم. فقال: وأنت يا بنيّة في هذا الكلام أشعر. وقيل: إنّ أصدق بيتا قالته العرب (من الطويل): ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل … وكلّ نعيم لا محالة زائل ومنها يقول:

وكلّ النّاس سوف تدخل بينهم … دويهة تصفرّ منها الأنامل وكلّ امرئ يوما سيعلم سعيه … إذا كشفت عند الإله المحاصل ومن مليح الشعر قصيدة لبيد التي منها (من الطويل): يقول الفتى إنّي سأفعل داكم … وما للفتى علم بما الله صانع وما المال والأهلون إلاّ ودائع … ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع وما النّاس إلاّ عاملان فعامل … يتبّر بما يبني وآخر رافع فمنهم سعيدا آخذا بنصيبه … ومنهم شقيّ بالمعيشة قانع ومنها يقول: أخبّر أخبار القرون الّتي مضت … أدبّ كأنّي كلّما فمت راكع فأصبحت مثل السّيف أخلق غمده … تقادم عهد القتر والنّصل قاطع (335)

ذكر عمرو بن كلثوم، جاهلي

أعاذل ما يدريك إلاّ تظنّيا … إذا رحل السّفّار من هو راجع تبكي على إثر الشّباب الّذي مضى … ألا إنّ إخوان الشّباب الرّعارع أتجزع ممّا أحدث الدّهر بالفتى … فأيّ كريم لم تصبه القوارع مضى ما مضى منّي وفيّ بقيّة … كأنّي سيف ناجل الأثر ساطع لعمري ما تدري الضّوارب بالحصا … ولا زاجرات الطّير ما الله صانع ذكر عمرو بن كلثوم، جاهليّ هو عمرو بن كلثوم، صاحب القصيدة المعلّقة، إحدى السبع معلّقات، جاهليّ، وقصيدته هذه التي فيها يفتخر على بكر بن وائل ويتوعّد عمرو بن هند بسبب قتله لطرفة بن العبد. وقد أثبتّها بجملتها في كتابي: حدائق الأحداق في باب الافتخار، ولا بدّ ما نذكر منها ها هنا أبياتا وهي (من الوافر):

ألا هبّي بصحنك وانذرينا … ولا تنسي خمور الأندرينا ألا يا عمرو لا تعجل علينا … وأنظرنا نخبّرك اليقينا متى ننقل إلى قوم رحانا … يكونوا في اللّقاء لنا طحينا كأنّ سيوفنا منّا ومنهم … خضبن بأرجوان أو طلينا بفتيان يرون القتل فخرا … وشيب في الحروب مجرّبينا لنا الدّنيا ومن أضحى عليها … ونبطش حين نبطش قادرينا إذا ما الملك سام النّاس خسفا … أبينا أن يقرّ الخسف فينا إذا بلغ الفطام لنا وليدا … تخرّ له الجبابر ساجدينا ونحن الحاكمون إذا أطعنا … ونحن العازمون إذا عصينا ونحن التّاركون لما سخطنا … ونحن الآخذون لما رضينا ونحن الشّاربون الماء صفوا … وشرب القوم كدرا وطينا

(336) ذكر المرقشان: الأكبر والأصغر، جاهليين

(336) ذكر المرقّشان: الأكبر والأصغر، جاهليّين الأكبر اسمه عمرو بن سعيد، والأصغر اسمه عمرو بن حرملة، وهو عمّ طرفة بن العبد. وقد كان المرقّشان ومهلهل وامرؤ القيس وعلقمة الفحل وعمرو بن قميئة وطرفة بن العبد والمتلمّس جميعهم متعاصرون. وشهد المرقّش الأصغر حرب بكر وتغلب ابنا وائل. والمرقّش الأكبر الذي <يقول> (من السريع): ليس على طول الحياة ندم … ومن وراء المرء ما ليس يعلم البشر منك والوجوه دنا … نير وأطراف الأكفّ عنم فالدّار وحش والرّسوم كما … رقّش في ظهر الأديم قلم قالوا: وبهذا البيت سمّي المرقّش. ومن مليح قول المرقّش الأصغر (من الطويل):

ذكر الأسود بن يعفر الدارمي، جاهلي

وما قهوة كالمسك صهباء ريحها … تعلّ على النّاجود طورا وتقدح بأطيب من فيها إذا جئت طارقا … من اللّيل بل فوها ألذّ وأفصح وكان المرقّش الأصغر أشعر من المرقّش الأكبر، باتّفاق الرّواة، والله أعلم. ذكر الأسود بن يعفر الدّارميّ، جاهليّ قال الأصمعيّ: قدم رجل من أهل البصرة من بني دارم إلى سوّار بن عبد الله القاضي ليقيم عنده شهادة، فصادفه يتمثّل بقول الأسود بن يعفر حيث يقول (من الكامل): ولقد علمت لو أنّ علمي نافعي … أنّ السّبيل سبيل ذي الأعواد ماذا أؤمّل بعد آل محرّق … درست منازلهم وبعد إياد أهل الخورنق والسّدير وبارق … والقصر ذي الشّرفات من سنداد جرت الرّياح على محلّ ديارهم … فكأنّهم كانوا على ميعاد

أقبل على الدّارمي فقال: أتروي هذا الشعر؟ قال: لا. قال (337): أفتعرف قائله؟ قال: لا. فقال: ويحك! رجل من قومك له مثل هذه النّباهة، وقد قال مثل هذه الحكمة، لا ترويها ولا تعرفه؟ ثمّ التفت إلى مولى له فقال: يا مزاحم، أثبت شهادة هذا عندك لأسل عنه، فإنّي أظنّه ضعيفا. وقال المدائنيّ: عبر عمر بن عبد العزيز، رحمة الله عليه، يوما بقصر من قصور آل جفنة، وقد خرب، ومعه مولاه مزاحم، فتمثل مزاحم يقول بقول الأسود بن يعفر حيث قال (من الكامل): جرت الرّياح على محلّ ديارهم … فكأنّما كانوا على ميعاد ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة … في ظلّ ملك ثابت الأوتاد فإذا النّعيم وكلّما يلهى به … يوما يصير إلى بلى ونفاد فقال عمر: ألا قرأت {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ}. قلت: وأوّل هذا الشعر يقول: نام الخليّ وما أحسّ رقاد … والهمّ محتضر لديّ وباد

من غير ما سقم ولكن شفّني … نصب أراه قد أصاب فؤادي ولقد علمت لو أنّ علمي نافعي … أنّ السّبيل سبيل ذي الأعواد ماذا أؤمّل بعد آل محرّق … درست منازلهم وبعد إياد أهل الخورنق والسّدير وبارق … والقصر ذي الشّرفات من سنداد أرض تخيّرها لطيب مقيلها … كعب بن مامة وابن أمّ دؤاد جرت الرّياح على محلّ ديارهم … فكأنّهم كانوا على ميعاد ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة … في ظلّ ملك ثابت الأوتاد فإذا النّعيم وكلّما يلهى به … يوما يصير إلى بلى ونفاد إمّا ترين بكيت وشفّني … ما غيض من صبري ومن أجلادي (338) وعصيت أصحاب الصّبابة والصّبى … وأطعت عاذلتي وذلّ رقادي ولقد لهوت وللشّباب بشاشة … بسلافة مزجت بماء غواد

<ذكر عمرو بن قميئة>

يسعى بها ذو تومتين مشمّر … قنأت أنامله من الفرصاد قال أبو عمرو: هذه القصيدة من مختار أشعار العرب، وحكمها مفضّلة مأثورة. <ذكر عمرو بن قميئة> وأمّا عمرو بن قميئة فيقال: إنّه أوّل من قال الشعر من نزار، وهو أقدم من امرئ القيس. وهو الذي لقي امرأ القيس في آخر عمره وصحبه إلى بلاد الروم، ومات بالطريق فسمّي الضّائع، وقد تقدّم خبره مع امرئ القيس. وهو القائل-لمّا بلغ تسعين سنة (من الطويل): كأنّي وقد جاوزت تسعين حجّة … خلعت بها عنّي عذار لجامي على الرّاحتين مرّة وعلى العصا … أنوء ثلاثا بعدهنّ قيامي رمتني بنات الدّهر من حيث لا أرى … فكيف بمن يرمى وليس برام ولو أنّني أرمى بنبل رأيتها … ولكنّني أرمى بغير سهام

ذكر أبو دؤاد الإيادي، جاهلي

ذكر أبو دؤاد الإياديّ، جاهليّ هو حارثة بن الحجّاج، وهو شاعر قديم من شعراء الجاهليّة، وكان أكثر شعره في وصف الخيل. قال ابن الأعرابي: لم يصف أحد الخيل قطّ إلاّ احتاج إلى أبي دؤاد، ولم يصف الخمر إلاّ احتاج إلى أوس بن حجر، ولم يصف إنعاما وجودا إلاّ احتاج إلى علقمة الفحل، ولا اعتذر أحد في شعره إلاّ واحتاج للنّابغة الذّبيانيّ، وذلك أن كلاّ من هؤلاء قد أصرف همّته إلى فنّ من هذه الفنون فلا يقدر عليه غيره. وكان أبو دؤاد قد مدح الحارث بن همّام (339) بن مرّة بن ذهل بن شيبان فأعطاه هدايا كثيرة. فلمّا مات ولد لأبي دؤاد وهو إذ ذاك في جواره، فواده وحلف الحارث أنّه لا يموت له ولد قطّ إلاّ وداه ولا يذهب له مال إلاّ أخلفه، فضرب العرب المثل، بحسن جواره. فمن ذلك قول قيس بن زهير (من الوافر): أطوّف ما أطوّف ثمّ آوي … إلى جار كجار أبي دؤاد وأمّا هذا النوع فكثير جدّا في أشعار المتقدّمين ومن تلاهم، وهذا أصله، والله أعلم.

ذكر عدي بن زيد

ذكر عديّ بن زيد قيل: إنّ عديّ بن زيد كان كاتب النّعمان بن المنذر فخرج يوما وعديّ يصحبه، فمرّ بشجرة فقال: أيّها الملك، أتدري ما تقول هذه الشجرة؟ قال: ماذا تقول يا عديّ؟ فقال: إنّها تقول (من الرمل): ربّ ركب <قد> أناخوا حولنا … يشربون الخمر بالماء الزّلال عطف الدّهر عليهم عطفة … وكذى الدّهر حالا بعد حال قال: ثمّ مرّوا بمقبرة، فقال عديّ إنّ هذه المقبرة تقول أيّها <الملك>: ألا أيّها الرّكب المجدّون على … الأرض المجنّون كما كنتم كنّا … وكما نحن تكونون قال: ففطن النّعمان لقوله، فقال له: إنّ الشجرة والمقبرة لا يتكلّمان، وإنّما أنت وعظتني. قال: نعم أيّها الملك. قال: فكيف النجاة؟

قال: تدع عبادة الأوثان وتعبد الله تعالى وتدين بدين عيسى ابن مريم. فتنصّر النّعمان عند ذلك. قال ابن الكلبيّ: كان عديّ يهوى هند بنت النّعمان، وكان قد رآها في خميس الفصح تتقرّب في البيعة. (340) وإنّ النّعمان لمّا اطّلع على ذلك أزوجه بها وأمهله قليلا، ثمّ قتله. فترهّبت هند وحبست نفسها في الدّير المعروف بها، وهو دير هند، بظاهر الحيرة. فلم تزل فيه حتّى ماتت في زمن معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه. وقيل: إنّ المغيرة بن شعبة لمّا ولاّه معاوية الكوفة، وقد كان سمع بهند، فأتاها فاستأذن عليها، فأذنت له فدخل وبسطت له مسحا فجلس عليه، فقالت له: ما جاء بك أيّها الأمير؟ قال: جئتك خاطبا. فقالت: والصّليب، لو علمت أنّ فيّ بقيّة أو خصلة من شباب يرغّبك لأجبتك، ولكنّك أردت أن تقول: ملكت مملكة النّعمان ونكحت ابنته؛ بحقّ معبودك، أليس هذا <ما> أردت؟ قال: أي والله. قالت: فما سبيل إلى ذلك. وقيل: إنّ هندا هذه كانت تهوى زرقاء اليمامة، وأنّها كانت أوّل امرأة أحبّت امرأة في العرب. وإنّ الزّرقاء كانت ترا الجيش عن <بعد> ثلاثة أيّام، فكانوا أهلها متحصّنون بقوّة نظرها، فلا يقدر عليهم عدوّ أبدا. فغزاهم بعض أعدائهم فلمّا قربوا من مسافة نظرها، قالوا: كيف الوصول إليهم مع نظر الزرقاء؟ فاجتمع رأيهم على أن يقطع كلّ واحد من القوم

شجرة بحيث إذا حملها سترته. فقطعوا القوم ذلك وحملوا الشجر بأيديهم على الخيل وساروا. فأشرفت الزّرقاء كعادتها، فقال لها قومها: ما تري يا زرقاء؟ قالت: أرى شجرا يمشي، أو قالت: يسير. فقالوا: لشدّ ما كذبت عيناك! هل من شجر يسير؟ واستهانوا بها. فلمّا كان صبيحة ثالثهم دارت بهم القوم فأخذوهم على غرّة منهم، ونهبوا أموالهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وأخذوا الزّرقاء فقلعوا عينيها فوجدوا (341) فيهما عروقا سودا. فسئلت عن ذلك، فقالت: إنّي كنت أديم الاكتحال بالإثمد، فلعلّ هذا منه؛ وماتت بعد ذلك. فلمّا بلغ هند بنت النّعمان خبرها ترهّبت بالدير حزنا عليها، والله أعلم. ومن جيّد شعر عديّ بن زيد العابديّ يقول (من الطويل): وعاذلة هبّت بليل تلومني … فلمّا غلت في اللّوم قلت لها اقصدي أعاذل من تكتب له النّار يصلها … كفاحا ومن يكتب له الفوز يسعد أعاذل إنّ الجهل من لذّة الفتى … وإنّ المنايا للرّجال بمرصد أعاذل ما يدريك أنّ منيّتي … إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد أعاذل ما أدنى الرّشاد من الفتى … وأبعده منه إذا لم يسدّد كفى زاجرا للمرء أيّام دهره … تروح له بالواعظات وتغتدي

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه … فكلّ قرين بالمقارن مقتد فلا تقصرن عن سعي من قد نصحته … وما اسطعت من خير لنفسك فازدد وبالعدل فانطق إن نطقت ولا تمل … وذا الذّمّ فاذممه وذا الحمد فاحمد عسى سائل ذو حاجة إن منعته … من اليوم سؤلا أن ييسّر في غد إذا أنت لم تنفع بودّك أهله … ولم تنك بالبؤس عدوّك فابعد ومن قوله البديع القصيدة التي أوّلها (من الخفيف). أيّها الشّامت المغترّ بالدّهر … أأنت المبرّأ الموفور أم لديك العهد القديم من الأيّام … إم أنت جاهل مغرور أين كسرى كسرى الملوك أنو شر … وان أم أين قبله سابور وبنو الأصفر الكرام ملوك … <الرّوم> لم يبق منهم مذكور

ذكر الأفوه الأودي، جاهلي

وأخو الحصن إذ بناه وإذ … دجلة تجبى إليه والخابور (342) شاده مرمرا أو جلّله كلسا … فللطّير في ذراه وكور لم يهبه ريب المنون فباد … الملك عنه فبابه مهجور وتبيّن ربّ الخورنق إذ … أشرف يوما وللهدى تفكير سرّه حاله وكثرة ما يملك … والبحر معرضا والسّدير فارعوا قلبه وقال: وما … غبطة حيّ إلى الممات يصير ثمّ بعد القلاع والملك والأ … مر فآرتهم هناك القبور ثمّ أضحوا كأنّهم ورق جفّ … فألت به الصّبا والدّبور ذكر الأفوه الأوديّ، جاهليّ اسمه صلاة بن عمرو بن مالك بن الحارث بن أود بن مصعب بن

سعد العشيرة، وكان فحلا من شعراء الجاهليّة، فمن شعره (من البسيط): فينا معاشر لم يبنوا لقومهم … وإن بنا قومهم ما أفسدوا عادوا لا يرشدون وإن يرعوا لمرشدهم … فالجهل منهم معا والغيّ ميعاد والبيت لا يبتنى إلاّ بأعمدة … ولا عماد إذا لم ترس أوتاد وإن تجمّع أوتاد وأعمدة … وساكن بلغوا الأمر الّذي راد لا يصلح النّاس قوما لا سراة لهم … ولا سراة إذا جهّالهم سادوا إذا تولّى سراة القوم أمرهم … نما على ذاك أمر القوم وازدادوا تلقى الأمور بأهل الرّأي ما صلحت … فإن تولّت فبالأشرار تنقاد كيف الرّشاد إذا ما كنت في نفر … لهم عن الرّشد أغلال وأقياد حان الرّحيل إلى قوم وإن بعدوا … فيهم صلاح لمرتاد وإرشاد فسوف أجعل بعد الأرض دونكم … وإن دنت رحم منكم وميلاد إنّ النّجاة إذا ما كنت ذا بصر … مواجه الغيّ إبعاد فإبعاد

(343) ذكر أبو كبير الهذلي، جاهلي

(343) ذكر أبو كبير الهذليّ، جاهليّ اسمه: عامر بن صعصعة، وكان زوج أم تأبّط شرّا، فلمّا قتل تأبّط شرّا رثاه عامر بالقصيدة التي أوّلها يقول (من الكامل): أزهير هل من شيبة من معدل … أم لا سبيل إلى الشّباب الأوّل أم لا سبيل إلى الشّباب وذكره … أشهى إليّ من الرّحيق الشّلشل ذهب الشّباب وفات منّي ما مضى … وقضا زهير كريمتي وتبطّل ومنها يقول: ومبرّأ من عيب حصه … وفساد مرضعة وداء معضل وإذا قذفت به الحصاة رأيته … يهوي مخارمها هويّ الأجدل وإذا نظرت إلى أسرّة وجهه … برقت كبرق العارض المتهلّل قضى وأدركه الحمام بقفره … في ناب صلّ كالهراوة عضّل قال هشام بن عروة بن الزّبير: إنّ عائشة، رضي الله عنها، نظرت يوما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم، وجبينه يتهلّل، فتبسّمت، فقال الرسول صلى الله عليه وسلّم: «لم تبسّمت يا عائشة؟» فقالت: تأمّلت وجهك يا رسول الله وهو يتهلّل، فلو

ذكر من تلا هؤلاء من المبشرين بظهور سيد المرسلين

كان أبو كبير الهذليّ رآك ما قال إلاّ فيك. قال لها: «وما قال؟» فأنشدته قوله: وإذا نظرت إلى أسرّة وجهه … برقت كبرق العارض المتهلّل فسرّ بذلك وزاد وجههه تهلّلا صلى الله عليه وسلّم وعظّم وكرّم. ذكر من تلا هؤلاء من المبشّرين بظهور سيّد المرسلين قد مضى القول فيمن ذكرناه، وفي هذا المجموع الحسن أثبتناه، من شعراء الجاهليّة والأوّلين، والفحول المفلقين، ونحن نتلوا ذلك بذكر المبشّرين، بسيّد المرسلين، وخاتم النبيّين محّمد، صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين. (344) فأوّل ما نذكر من هؤلاء الفتيان، من اعتزل في الجاهليّة عبادة الأوثان، وتوجّه للواحد الملك الديّان، مفرّق الأديان، الذي لا يشغله شأن عن شأن، ثمّ نذكر من اشتهر من العرب من الكهّان، المبشّرين بظهور سيّد ولد عدنان، صلّى الله عليه وعلى آله والصحابة أهل الشرف والجود والإحسان. ذكر زيد بن عمرو بن نفيل، جاهليّ، وفيه حديث هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزّى بنسب متّصل إلى لؤيّ بن غالب، وأمّه جيداء بنت غالب بن جابر بن أبي حبيب بن فهم. وكانت جيداء عند نفيل بن عبد العزّى فولدت له الخطّاب، أبا عمر، رضي الله عنه. ثمّ مات عنها نفيل فأخذها عمرو، ولده، فولدت له زيد. وكان هذا

النكاح تنكحه الجاهليّة، حتّى أبطله الإسلام، وسمّي نكاح المقت، حسبما قدّمناه عند ذكر النّعمان بن المنذر والمتجرّدة زوجة أبيه. وهذا زيد بن عمرو أحد من اعتزل عبادة الأوثان وامتنع من أكل ذبائحهم. وقال: <يا> معشر قريش، أيرسل الله قطر السماء وينبت بقل الأرض ويخلق السائمة فترعى فيه وتذبحونها لغيره؟ والله ما أعلم أحدا على ظهرها على دين إبراهيم غيري. وروي محمّد بن الضحّاك قال: كان الخطّاب بن نفيل قد أخرج زيد ابن عمرو من مكة وجماعة من قريش ومنعوه أن يدخلها حين فارق عبادة الأوثان، وكان أشدّهم عليه الخطّاب بن نفيل. وكان زيد بن عمرو إذا خلا بالبيت استقبله ثمّ يقول: لبّيك لبّيك، حقّا حقّا، تعبّدا ورقّا، البرّ أرجو لا الخال، هل من مهجّر كمن قال (345، من الرجز): عذت بما عاذ به إبراهيم … مستقبل الكعبة والحطيم اقول أنفي لك راغم … مهما تجشّمني فإنّي جاشم ثمّ يسجد. وكان يقول أيضا (من الرجز): اللهمّ إنّي حرم لا حلّه … وإنّ داري أوسط المحلّه عند الصّفا ليس بها مضلّه <عن> أسماء بنت أبي بكر، رضي الله عنهما، قالت: قال زيد بن

عمرو بن <نفيل> (من الوافر): عزلت الجنّ والجنّان عنّي … كذلك يفعل الجلد الصّبور فلا العزّى أدين ولا ابنتيها … ولا صنمي بني طسم أدير ولا عتما أدين وكان ربّا … لنا في الدّهر إذ حلمي صغير أربّا واحدا أم ألف ربّ … أدين إذا تقسّمت الأمور ألم تعلم بأنّ الله أفنى … رجالا كان شأنهم الفجور وأبقى آخرين ببرّ قوم … فيربوا منهم الطّفل الصّغير وقال ورقة بن نوفل لزيد بن عمرو بن نفيل (من الطويل): رشدت فأنعمت ابن عمرو وإنّما … تجنّبت تنّورا من النّار حاميا بدينك ربّا ليس ربّ كمثله … وتركك جنّان الجبال كما هيا أقول إذا ما سرت أرضا مخوفة … حنانيك لا تظهر عليّ الأعاديا حنانيك إنّ الجنّ كانت رجاءهم … وأنت إلهي ربّنا ورجائيا أدين لربّ يستجيب ولا أرى … أدين لمن لا يسمع الدّهر واعيا

أقول إذا صلّيت في كلّ بيعة … تباركت قد أكثرت باسمك داعيا معناه يقول: خلقت خلقا كثيرا يدعون باسمك. روى عبد الله بن عمر، رضي الله عنه، قال: خرج زيد بن عمرو إلى الشام يسل عن الدين ويتّبعه، (346) ولقي عالما من علماء اليهود فسأله عن دينه وقال: لعلّي أدين بدينكم؛ فأخبرني عنه. قال اليهوديّ: إنّك لا تكون على ديننا حتّى تأخذ بنصيبك من غضب الله. فقال زيد: ولست أفرّ إلاّ من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله من شيء. فهل تدلّني على دين ليس فيه هذا؟ قال: لا أعلمه إلاّ أن تكوم حنيفا. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم. فذهب من عنده وتركه فأتى عالما من علماء النّصارى فسأله نحو ما سأل عالم اليهود، فقال النّصرانيّ: إنّك لا تكون على ديننا حتّى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. فقال: لا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئا، ولا أستطع، فهل تدلّني على دين ليس فيه هذا؟ فقال: لا أعلمه إلاّ أن تكون حنيفا. فخرج من عنده وقد رضي بما أخبراه به واتّفقا عليه من دين إبراهيم، صلوات الله عليه وسلّم. وعن سعيد بن زيد وهاشم بن عروة بن الزّبير قالا: بلغنا أن زيد بن عمرو كان بالشام، فلمّا بلغه ظهور أمر سيّدنا وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ارتحل يريده ليقدم عليه، فقتل قبل وروده. وعن سعيد بن زيد بن عمرو قال: سألت أنا وعمر بن الخطّاب

<ذكر مدرج الريح، عامر المجنون الجرمي>

رسول الله صلى الله عليه وسلّم، عن زيد بن عمرو فقال: «يأتي يوم القيامة أمّة وحده»، أو قال: «مفرده». وكذلك ورد الحديث عن قسّ بن ساعدة الأياديّ بهذا اللّفظ. وعن محمّد بن الضّحّاك قال: أخبرني أبي قال: أنشد زيد يقول (من المتقارب): أسلمت وجهي لمن أسلمت … له المزن تحمل عذبا زلالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت … له الأرض تحمل صخرا ثقالا دحاها فسوّاها ثمّ شدّها … سواء وأرسى عليها جبالا <ذكر مدرج الرّيح، عامر المجنون الجرميّ> (347) وأمّا مدرج الرّيح فاسمه عامر <بن> المجنون الجرميّ، وإنّما سمّي مدرج الرّيح بشعر قاله في امرأة كان يزعم أنّه يهواها <من الجنّ> وأنّها تسكن في الهواء وتترأا له، وكان محمّقا. وشعره يقول (من الرمل): لابنة الجنّيّ في الجوء طلل … دارس الآيات عاف كالخلل

<ذكر سعية بن غريض>

درسته الرّيح من بين الصّبا … وجنوب درجت حينا وطلّ <ذكر سعية بن غريض> وأمّا سعية بن غريض، فقد تقدّم خبر أخيه السّموأل بن غريض بن عاديا اليهوديّ، صاحب الحصن الأبلق الفرد، مع خبر امرئ القيس. وكان غريض شاعرا، وهو الذي يقول لمّا حضرته الوفاة هذه <الأبيات> (من الكامل): يا ليت شعري حين يذكر صالحي … ما تؤبّنني به أنواحي أيقلن لا تبعد فربّ كريهة … فرّجتها ببشارة وسماحي وإذا دعيت لصعبة سهّلتها … أدعى بأفلح تارة ونجاح وقيل: إنه مات في آخر خلافة معاوية بن أبي سفيان. وممّا يذكر من حلم معاوية، رضي الله عنه، ما رواه الهيثم بن عديّ، قال: حجّ معاوية حجّتين في خلافته، وكانت له ثلاثون بغلة تحجّ عليها نساؤه وجواريه. قال: فحجّ في إحدى حجتيه فرأى شيخا يصلّي في المسجد الحرام عليه ثوبان أبيضان، فقال: من هذا؟ قالوا: سعية بن غريض. فأرسل إليه يدعوه. فأتاه رسوله فقال: أجب أمير المؤمنين. قال:

أوليس أمير المؤمنين قد مات؟ قيل: فأجب معاوية. فأتاه، فسلّم عليه بغير الخلافة. فقال له معاوية: ما فعلت أرضك التي بتيماء؟ قال: يكسى منها العاري، وتشبع الجيعان، ويردّ فضلها على الجار. قال: فتبيعها؟ قال: نعم. قال: بكم؟ قال: بستّين ألف دينار، ولولا خلّة أصابت (348) الحيّ لم أبعها. قال: قد أغليت. قال: أمّا لو كانت لبعض أصحابك لأخذتها بستّمائة ألف دينار ثمّ لم تبالي. قال: أجل! فإذ بخلت بأرضك فأنشدني شعر أبيك في نفسه. فقال: قال أبي، وأنشده الأبيات المقدّم ذكرها وزاد فيه: ولقد ضربت بفضل مالي حقّه … عند الشّتاء وهبّة الأرواح ولقد أخذت الحقّ غير مخاصم … ولقد رددت الحقّ غير ملاح فقال معاوية: أنا كنت أحقّ من أبيك بهذا الشعر. قال: كذبت ولو متّ. قال: أمّا كذبت، فنعم، وأمّا متّ، فلم؟ قال: لأنّك كنت ميّت الحقّ في الجاهليّة وميّتة في الإسلام. أمّا في الجاهليّة فقاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والوحي، حتّى جعل الله كيدك المردود. وأمّا في الإسلام فمنعت ولد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، حقّهم من الخلافة، وما أنت وهي! وأنت طليق ابن طليق. فقال معاوية، رضي الله عنه: قد خرف الشيخ فأقيموه. فأخذ بيده إزعاجا. فقال: مه! أرفقوا بالشيخ. قلت: وهذا فمعدود من حلم معاوية المشهور، وتغاضيه المذكور.

ذكر أبو الصلت، جاهلي

ذكر أبو الصّلت، جاهليّ واسم أبي الصّلت: عبد الله بن <أبي> ربيعة. وكان أبو الصّلت شاعرا، وهو الذي يقول (من البسيط): إشرب هديت عليك التّاج مرتفقا … في رأس غمدان دارا شل محلالا تلك المكارم لا قعبان من لبن … شيبا بماء فعادا بعد أبوالا وقيل: وكان أميّة قرأ كتب الله تعالى الأولى، وكان يسمّي الله تعالى، جلّ ذكره: المسليطيط. فمن ذلك أنّ العلماء لا يحتجّون بشعره في شيء (349) لهذه العلّة. وكان قد لبس المسوح وذكر إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام، وحرّم الخمر، وشكّ في الأوثان، وطمع أن يكون صاحب النبوّة لأنّه قرأ في الكتب أنّ نبيّا يبعث من العرب، وكان يرجوا أن يكون ذلك. فلمّا بعث سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم وعظّم وكرّم، قيل له: هذا الذي كنت تقول عنه. فحسده

وقال: إنّما كنت أرجو أن أكون هو. فأنزل الله تعالى: {وَاُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ}. وهو الذي يقول (من الخفيف): كلّ دين يوم القيامة عند ال‍ … لّه إلاّ دين الحنيفة زور قال الزّهريّ: خرج أميّة بن <أبي> الصّلت في سفر فنزل كنيسة، فإذا شيخ جالس، فقال لأميّة: أراك مشرّعا، فمن أين يأتيك؟ قال: من شقّي الأيسر. قال: فأيّ الثياب أحبّ إليك أن يلقاك فيها؟ قال: السّواد. قال: كذبت والله يا ابن أخي أن تكون نبيّ العرب، ولست به. هذا خاطر من الجنّ وليس بملك، لأنّ نبيّ العرب، صاحب هذا الأمر، يأتيه من شقّه الأيمن، وأحبّ الثياب أن يلقاه فيها البياض. وقيل: إنّه لمّا مرض أميّة مرضته التي مات فيها جعل يقول: قد دنا أجلي، وأنا أعلم أن الحنيفيّة حق، ولكنّ الشكّ يداخلني في محمّد. قلت: ليس الشكّ الذي داخله في محمّد، لكن داخله لشقاوة الحسد وعذاب الأبد. وقيل: لمّا دنت وفاته أغمي عليه قليلا، فلمّا أفاق جعل يقول: لبّيكما لبّيكما، هأنا لديكما، لا مال يفديني، ولا عشيرة تحميني، ثمّ أغمي

ذكر ورقة بن نوفل، جاهلي، وفيه حديث

عليه ثانية وهو يقول قوله الأوّل ثمّ فتح عينيه وهو يقول هذا (من الخفيف): كلّ عيش وإن تطاول دهرا … فقصاراه يومه أن يزولا (350) ليتني كنت قبل ما <قد> بدا لي … في رؤوس الجبال أرعى الوعولا اجعل الموت نصب عينيك واحذر … غولة الدّهر إنّ الدّهر غولا <ثمّ> قضى نحبه ولم يؤمن بسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم. ذكر ورقة بن نوفل، جاهليّ، وفيه حديث هو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى بن قصيّ بن كلاب، وأمّه هند بنت أبي كثير بن عبد قصيّ، وهو أيضا أحد من اعتزل عبادة الأوثان في الجاهليّة وطلب الدين وقرأ الكتب وامتنع من أكل ذبائح الأوثان. وعن عروة بن الزّبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم، <وقد سئل> عن

ورقة بن نوفل فقال: «رأيته في المنام وكأنّ عليه ثيابا بيضا فقد أظنّ لو كان من أهل النار لم أر عليه بياض». وعن عائشة، رضي الله عنها: إنّ خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها، انطلقت بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم، حتّى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد، وكان ابن عمّ خديجة، وكان امرءا قد تنصّر في الجاهليّة، وكان يكتب الكتاب العربيّ فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء أن يكتب، وكان يوم ذاك شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: أي ابن عمّ، اسمع من ابن أخيك. قال ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، خبر ما يرا. فقال ورقة: هذا الناموس الأعظم الذي أنزله الله على موسى وعيسى، يا ليتني فيها جذع أكون معك حين يخرجوك قومك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «امخرجيّ هم؟» قال ورقة: لم يأت رجل قطّ <بمثل> ما جئت به إلاّ عودي، وإن يدركني قومك لأنصرنّك نصرا مؤازرا، ثمّ لم ينشب ورقة أن توفّي. قلت: قد قصصنا ذكر ما اشترطنا من إثبات من حضرنا من المبشّرين (351) من الجاهليّة الأوّلين، ولنذكر الآن طرفا من الكهّان المختصّين بالعرب في ذلك الزمان، ونتلوا ذلك بما جاء به حديث رسول ربّ العالمين، في عدد الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين، وكذلك ذكر الكتب المنزلة المعظّمة المبجّلة، ونختم هذا الجزء الأوّل من هذا التاريخ، بذكر ما كانت سائر الأمم عليه من التواريخ سياقة إلى عام الفيل، مولد النّبيّ الكريم الجليل، قرّة عين آدم وإبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلّم ما

ذكر ما الخص من كهان العرب في الجاهلية

حدست الخواطر بالأفكار، وغرّدت سجعاتها الأطيار، في الأوكار، ولنستفتح الجزء الثاني بذكر مولده ومنشئه ومبعثه وبعض ما تصل القدرة من وصف معجزاته وغزاواته وما لخّص من سيرته، والله تعالى المسهّل لهذه المسالك، والموفّق بكرمه لذلك. ذكر ما الخّص من كهّان العرب في الجاهليّة أما شقّ، الكاهن الأوّل، فهو شقّ بن حويل بن آدم بن سام بن نوح، عليه السلام، وهو أوّل كاهن كان في العرب العاربة. وآدم كان أبو الجبابرة من عاد وثمود وطسم وجديس، ويقال: إنّه كان بعين واحدة في جبهته. ويقال: إنّ الدّجّال من ولده. ويقال: بل هو الدّجّال بعينه، أنظره الله تعالى إلى وقته، وهو محبوس في بعض الجزائر، وأنّ الشياطين تأتيه بما يأكل وما يشرب. وقد ورد حديثه وحديث تميم الداريّ ما يغني عن إثبات جملته ها هنا. وأمّا شقّ الثاني، فهو شقّ بن مراد اليشكري، وكان حكيما للعرب قديما في الجاهليّة. وكان يضاهي سطيح في كهانته، وكان معاصرا لسطيح. وأمّا سطيح، فهو ربيع بن ربيعة من بني ذئب بن عديّ، وكان يسمّى (352) كاهن الكهّان، ولم يبلغ أحدا في الكهانة مبلغه وكان يخبر عن الغيوب بالعجائب.

وقيل: إنّ ابن نصر اللّخمي رأى رؤيا هالته فأمر بجمع السّحرة وأصحاب القيافة والزّجر، فقال: إنّي رأيت رؤيا هالتني. فقالوا: قصّها. فقال: لا أقصّها، فما يعرف تأويلها إلاّ من عرفها. فقيل له: ما لها إلاّ سطيح. فقال: أقسم بالشّفق، والليل إذا غسق، والصّبح إذا برق، وطارق إذا طرق، لقد رأيت حممة خرجت من ظلمة، وقعت في أرض همة، وأكلت كلّ ذات حممة. قال: صدقت، فما تأويلها، يا با زرعة؟ فقال: حلفت بما بين الحرش والحنش، لتنزلنّ أرضكم الحبش، وليملكنّ ما بين اليمن إلى حرش. فقال ربيعة: إنّ هذا لنا لغائط موجع؛ فهل في زماننا أم بعده؟ فقال: بل ينقطع بسبع من السنين، ينقرضون منها أجمعين،

ويخرجون منها هاربين. قال: ثمّ من يلي إخراجهم؟ قال: ابن ذي يزن، غلام من عدن، رحب العطن، يخرج عليهم من اليمن، فلا يترك لهم بقيّة في اليمن. فقال: يدوم أو ينقطع؟ فقال: يملك بعدهم منهم أخطار أطواد، من الرجال الأجواد. فقال: يدوم أم ينقطع؟ قال: يقطعه نبيّ زكيّ أمين، يأتيه الوحي من ربّ العالمين، ليس أحد بعده من النبيّين. قال: فممّن يكون هذا النّبيّ؟ قال: من ولد غالب بن فهر بن النّضر، يقوم بالملك قومه ومن تبعه إلى آخر الدّهر. قال: وهل للدهر آخر؟ قال: نعم؛ يوم يجمع فيه الإله القديم الأوّلين والآخرين، يسعد فيه (353) المحسنين، ويشقي فيه المسيئين، يحشر فيه المجرمين، في العذاب المهين. قال: أيّ يوم هو؟ قال: يوم تنفطر فيه السماء، والوقوف للجزاء، والسعادة والشقاء. قال: أحقّ تخبر به يا سطيح؟ فقال: أي، والشّفق والغسق، والقصر إذا اتّسق، إنّ ما أخبرتك به لحقّ. قلت: وأمّا تفسيره رؤيا الموبذان، وكسرى صاحب الإيوان، لمّا خمدت النّيران، وسقطت شواريف الإيوان، عند مولد أشرف الثّقلان، وسيّد ولد عدنان، فكان ذلك أوّل ما ظهر من البرهان، ونطقت بمعجزاته

ذكر عدد الأنبياء والمرسلين والكتب المنزلة عليهم، صلوات الله عليهم أجمعين

الكهّان، والأقسّة والرّهبان، فقد تواردت أخباره، وتليت آثاره، فما يغني تكراره. ذكر عدد الأنبياء والمرسلين والكتب المنزلة عليهم، صلوات الله عليهم أجمعين روي عن أبي ذرّ، رضي الله، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، كم الأنبياء يا رسول الله؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا». قال: قلت: كم الرّسل منهم؟ قال: «ثلاثمائة وثلاث عشر جمّ غفير». قلت: من كان أوّلهم؟ قال: «آدم». قلت: أنبيّ مرسل؟ قال: «نعم». ثمّ قال صلى الله عليه وسلّم: «أربعة سريانيّون، هم آدم وشيث-وهو هبة الله-وخنوخ-وهو إدريس، وهو أوّل من خطّ بالقلم-ونوح؛ وأربعة من العرب، هم هود وشعيب وصالح ونبيّك يا با ذرّ؛ وأوّل أنبياء بني إسرائيل موسى، وآخرهم عيسى». قلت: يا رسول الله، كم أنزل الله من كتاب؟ فقال: «مائة كتاب وأربعة كتب؛ على شيث خمسون صحيفة، وعلى خنوخ ثلاثون صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وعلى موسى-قبل التوراة-عشر صحائف؛ (354) وأنزل التوراة والإنجيل والزّبور والفرقان». . . انتهى ما روي عن أبي ذرّ، رضي الله عنه. وعن وهب بن منبّه، عن ابن عبّاس رضي، الله عنه، قال: عدد

ذكر التواريخ من لدن، آدم عليه السلام، إلى آخر وقت

الرّسل والكتب نحو ممّا قاله أبو ذرّ، غير أنّه قال: المرسلون ثلاثمائة وخمسة عشر، منهم خمسة عبرانيّين زاد إبراهيم، عليه السلام، وخمسة من العرب، وزاد إسماعيل، عليه السلام. وخالف بين الكتب فقال: خمسون على شيث، وثلاثون على خنوخ، وعشرون على إبراهيم، والكتب الأربعة. وعن وهب، عن ابن عباس، <وقال>: إنّ صحف إبراهيم أنزلت في أوّل ليلة من شهر رمضان المعظّم، وأنزلت التوراة لست ليال من شهر رمضان، وأنزل الزّبور لاثنتي عشر ليلة خلت من شهر رمضان، وأنزل الإنجيل لثمان عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين ليلة خلت من شهر رمضان، والله أعلم. ذكر التواريخ من لدن، آدم عليه السلام، إلى آخر وقت قال محمّد بن سلاّم: كانت الأمم السابقة تؤرّخ بالأحداث العظام وتملّك الملوك: وكان التاريخ أوّلا بهبوط آدم، عليه السلام، ثمّ بمبعث أخنوخ، ثمّ بالطوفان، ثمّ بنار إبراهيم، ثمّ تفرّق بنو إبراهيم، فأرّخ بنو إسحاق بنار إبراهيم إلى يوسف، عليهما السلام، ثمّ من يوسف إلى

شعيب، عليهما السلام، ثمّ من بمبعث موسى إلى ملك سليمان بن داود، عليهما السلام، ثمّ ما كان من الكوائن ومنهم من أرّخ بوفاة يعقوب، عليه السلام، ومنهم من أرّخ بخروج موسى، عليه السلام، من مصر ببني إسرائيل، ثمّ بخراب بيت المقدّس. (355) وأمّا بنو إسماعيل، عليه السلام، فأرّخوا ببناء الكعبة، ولم يزالوا يؤرّخون بذلك حتّى تفرّق معدّ، ثمّ لمّا خرج قوم من تهامة أرّخوا بخروجهم، ثمّ أرّخوا بعام الفيل وبيوم الفجار، وقد كانت معدّ بن عدنان تؤرّخ بغلبة جرهم العماليق وإخراجهم إيّاهم من الحرم، ثمّ أرّخوا بأيّام الحروب كحرب بني وائل وهي حرب البسوس حسبما تقدّم من ذكره، وحرب داحس. وكانت حمير وكهلان يؤرّخون بملوكهم التّبابعة، وأرّخوا بنار ضرار، وهي نار كانت تظهر ببعض خراب اليمن وعبدت زمانا. ثمّ أرّخوا بسيل العرم، ثمّ أرّخوا بظهور الحبشة على اليمن. وأمّا اليونانيّون والروم فيؤرّخون بظهور الإسكندر. وأمّا القبط فكانوا يؤرّخون بملك بخت نصّر، ثمّ أرّخوا بملك دقليطيانوس القبطي واستمرّوا إلى الآن. وأمّا المجوس فكانوا يؤرّخون بكيمورث، وهو عندهم أنّه آدم بزعمهم، ثمّ أرّخوا بقتل دارا بن دارا وظهور الإسكندر، ثمّ بظهور أردشير ابن بابك، ثمّ بملك يزدجرد. وبعث سيّدنا ونبيّنا وحبيبنا وشفيعنا وهادينا ومنقذنا، سيّد المرسلين،

وخاتم النبيّين، ورسول ربّ العالمين، محمّد الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والعرب يوم ذاك تؤرّخ بعام الفيل، وهو عام مولده صلى الله عليه وسلّم. ولم يزل التاريخ كذلك في عهد سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعهد أبي بكر، رضي الله عنه، إلى أن ولي عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، فتقرّر الأمر على أن (356) يؤرّخ بهجرته صلى الله عليه وسلّم وعظّم وكرّم، إلى المدينة، وتركه المشركين من قريش بمكّة. وكان ذلك في المحرّم من سنة سبع عشرة، وقيل: لاثنتي عشرة من أوّل عام الهّجرة، والخليفة يومئذ عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه. إنّ ذلك كان في سنة سبع عشرة، والله، عزّ وجلّ، أعلم. تمّ، ولله الحمد والمنّة، الجزء الثاني من التاريخ المسمّى بكنز الدّرر وجامع الغرر، بخطّ يد واضعه ومصنّفه وجامعه ومؤلّفه، أضعف عباد الله، وأفقرهم إلى الله، أبو بكر بن عبد الله بن أيبك، صاحب صرخد، كان عرف والده بالدّواداريّ، غفر الله له ولوالديه ولمن قرأه، وتجاوز عن كلّ خطأ يراه. وكان الفراغ من هذا الجزء منتصف شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، أحسن الله نقصها بخير. يتلو ذلك في أوّل الجزء الثالث ما مثاله ذكر سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومجّد وعظّم وكرّم، ومولده ومبعثه ومنشاه، وما لخّص من سيرته، موفّقا لذلك، إن شاء الله تعالى. والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه أجمعين. وحسبنا الله تعالى نعم الوكيل.

ملحق

ملحق بعض ما ورد من تعليقات في أوّل الكتاب وعلى هامش المخطوطة ممّا لا يظهر في صلب الكتاب: 1 - ورد في بداية الكتاب وداخل إطار مزخرف ما يلي: «الجزء الثاني من تاريخ كنز الدّرر وجامع الغرر تأليف أضعف عباد الله وأفقرهم إلى الله أبو (كذا) بكر ابن عبد الله بن أيبك صاحب صرخد، كان عرف والده، رحمه الله، بالدواداري، انتسابا لخدمة الأمير المرحوم سيف الدين بلبان الروميّ، الدوادار الطاهريّ تغمّده الله برحمته وأسكنهم فسيح جنّته، بمحمّد وآله». ولقد ورد في مقدّمة الأستاذ صلاح الدين المنجّد للجزء السادس من هذا الكتاب ص 24 خطأ مطبعيّ: «الأمراء»، والصحيح «الأمير» ثمّ «الدواداري»، وفي الأصل: «الدوادار». 2 - في هامش الإطار، فوق النّص المذكور أعلاه وعن يساره ومن ثمّ تحته، كتب بخطّ مختلف وقفيّة، وإليكم فيما يلي ما استطعت قراءته منها (ملاحظة: ثلاث نقط متتالية تعني كلمة أو عدّة كلمات غير مقروءة، وعلامة الاستفهام تعني أن القراءة غير أكيدة): «الحمد لله ربّ العالمين وقف وحبس وسبّل وأبّد جميع هذا الجزء المبارك وهو الثاني من تاريخ كنز الدّرر وجامع الغرر، هو الدّرّة اليتيمة، بالمقرّ الأشرف العالي المولوي. . . السّيّدي المخدوميّ، الزينيّ يحيى، آمر استادار العالية وملك الأمراء وكاشف الجسور السلطانيّة بالوجهين القبليّ والبحريّ ومانع بيت المللي (؟) الظاهريّ، أعزّ الله أنصاره وعظّم شأنه وضاعف الله خيره على

طلبة العلم للوقف (كذا) الملازمين والواردين للجامع المبارك، أنشأ المقرّ المشار إليه بباب الخوخة بالقرب من سكن المقرّ المشار إليه، وجعل مقرّه بخزانة الكتب بالجامع المذكور، وأن لا يخرج منه برهن ولا عارية ولا بوجه من الوجوه ولا بطريق من الطرق، وقفا صحيحا شرعيّا، تقبّل الله ذلك منه قبولا جميلا، وأنابه ثوابا جزيلا {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (القرآن الكريم 2/ 181) وأشهد على نفسه الكريمة بذلك». وتظهر بعد ذلك تواقيع الشهود. 3 - وردت بعض التعليقات على هوامش بعض صفحات المخطوطة معظمها غير مقروء. فيما يلي قائمة بهذه الهوامش: ص 70: ورد تعليق في الهامش الأيمن وذلك من تحت إلى فوق، هذا ما استطعت قراءته منه: «. . . يقول الفقير إلى الله تعالى أحمد (؟) بن فتح (؟) البيرقدار (؟). . . وقفت على تاريخ المسعوديّ الكبير المسمّى بتاريخ (كذا) الزمان فقد حزت به. . . وكان في نسخة تزيد على عشرين مجلّدا. . . بمدرسة الأمير محمّد (؟). . . النحّاس بمصر القديمة وكانت المدرسة. . . وبها محاسن كثير (؟) ولا أدري كيف صار. . . على. . . المذكور الذي اسمه. . . فأمر بها شخصا يدعى عبد الله. . . أغرب من هذا فكان يأخذ الكتاب. . . النحاس. . . فضل الكلاب على كثيرين. . . فرأيت في نسخة معتبرة وهي التي قراءتها في خطّ المرحوم. . .». ص 74: في الهامش الأيمن هنالك تعليق من ستّ كلمات غير مقروءة. ص 75: هنالك في الهامش الأيسر تعليق من سبعة أسطر مكتوبة على طول الصفحة ولكن من تحت إلى فوق، ويليه خمسة أسطر قصيرة مكتوبة بالعرض من تحت إلى فوق، والتعليق بكامله غير مقروء.

ص 84: تعليق غير مقروء في الهامش الأيمن يتألّف من سبعة سطور مكتوبة في الثلث الأعلى من الصفحة من فوق إلى تحت، ويليها 14 سطرا أفقيّا بخطّ صغير، غير مقروء أيضا. ص 87: في الهامش الأيسر يوجد سطران صغيران غير مقروئين. ص 164: وردت في الهامش الأيمن من فوق إلى تحت ملاحظة تشمل أسماء ولد سليمان وسنوات ملكهم، أمّا الأسماء فمقروءة نسبيّا وأمّا أعداد السنوات فإنّها غير مقروءة. فيما يلي أسماء ولد سليمان كما وردت في هذا الهامش: «بقيّة ملك سليمان. . . سنة، ولده رحبعام. . . سنة، ااشاش (كذا). . . سنة، ااشا (كذا) ابن ااشاش (كذا). . سنة، يهوشافاط. . . سنة، يورام. . . سنين، أخربا. . .، عيليا. . .، يوااش (كذا). . . سنة، لمصبا (؟). . . سنة، عربا ابن أمصبا. . . سنة، يوثام. . . سنة، حزقيا. . . سنة، ميشى بن حزقيا. . . سنة، أثون. . . سنة، يوشيا. . . سنة، يهوتا أحاز ستّة أشهر، يهوياقيم. . . سنة، يهوياخي. . . أشهر، صديقة. . . سنة، وهو آخرهم والله أعلم، وعدّتهم عشرون ملكا». ص 313: هنالك في الهامش الأيسر بعض الأسطر غير المقروءة. ص 328: هنالك بعض الأسطر غير المقروءة في القسم الأعلى من الهامش الأيمن. ص 330: هنالك بعض الأسطر غير المقروءة في الهامشين الأعلى والأيمن.

سرد المصادر والمراجع

سرد المصادر والمراجع - ابن الجزريّ: غاية النهاية في طبقات القرّاء لمحمّد بن محمّد ابن الجزريّ المتوفّى سنة 833 هـ‍/1429 م، تحقيق غوتهيلف بيرغشتراسر وأتّو بريتزل، لا يبسيغ 1933 - 1935 م. -ابن حنبل: مسند الإمام أحمد بن حنبل المتوفّى سنة 241 هـ‍/855 م وبهامشه: منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال للشيخ عليّ المتقي الهنديّ المتوفّى سنة 975 هـ‍/1567 - 1968 م، دار صادر، بيروت، دون تاريخ. -ابن هشام: السيرة النبويّة لابن هشام أبي محمّد عبد الملك بن هشام المعافريّ المتوفّى بمصر سنة 213 هـ‍/828 م، تقديم طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل، بيروت 1407 هـ‍/1987 م. -أحوال القيامة: كتاب مجهول المؤلّف، أصدره بالعربيّة وترجمه للألمانيّة م. فولف، لايبسيغ 1872 م. -أخبار الزمان: أخبار الزمان ومن أباده الحدثان وعجائب البلدان والغامر بالماء والعمران، المنسوب لأبي الحسن عليّ بن الحسين بن عليّ المسعوديّ المتوفّى سنة 346 هـ‍/957 م، القاهرة 1357 هـ‍/1938 م. -أدب الكتاب: تصنيف أبي محمّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، الكوفيّ، المروزيّ، الدينوريّ المتوفّى ببغداد سنة 276 هـ‍/889 م، تحقيق محمّد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الرابعة، القاهرة 1382 هـ‍/1963 م. -الاستيعاب: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمّد بن عبد البرّ المتوفّى سنة 463 هـ‍/1070 م، تحقيق عليّ محمّد البجاويّ، مطبعة نهضة مصر. أسد الغابة: أسد الغابة في معرفة الصحابة لعزّ الدين أبي الحسن عليّ

ابن أبي الكرم محمّد بن محمّد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيبانيّ المعروف بابن الأثير المتوفّى سنة 630 هـ‍/1239 م، القاهرة 1284 - 1286 هـ‍/1867 - 1869 م. -الاشتقاق: لأبي بكر محمّد بن الحسن بن دريد المتوفّى سنة 321 هـ‍/ 933 م، تحقيق عبد السلام محمّد هارون، دار الجليل، بيروت 1411 هـ‍/1991 م. -الإصابة: الإصابة في تمييز الصحابة لأبي الفضل أحمد بن عليّ بن حجر العسقلانيّ المتوفّى سنة 852 هـ‍/1449 م، القاهرة 1327 - 1329 هـ‍/1909 - 1911 م. -إصلاح المنطق: لابن السّكّيت، تحقيق أحمد شاكر وعبد السلام محمّد هارون، ط 2، القاهرة 1375 هـ‍/1956 م. -الأصمعيّات: الجزء الأوّل من: مجموع أشعار العرب، وهو مشتمل على الأصمعيّات وبعض قصائد لغويّة، اعتنى بتصحيحه وترتيبه وليم ابن الورد (آلوردت) البروسيّ، ليبسيغ 1902 م. -الزّركليّ: الأعلام، قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، تأليف خير الدين الزركليّ، دار العلم للملايين، ط 4،1979 م. -الأغاني: كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهانيّ المتوفّى سنة 356 هـ‍/ 967 م، تحقيق عبد الستّار أحمد فرّاج، بيروت 1955 - 1962 م. -أ. ك. ت. ك. ل.: أكسفورد كومبانيون تو كلاسيكال ليتيريتشر: - University Press 0491. Harvey,Paul :The Oxford Companion to Classical Literature,Oxford الإنباء: كتاب الإنباء بأنباء الأنبياء عليهم السّلام وتواريخ الخلفاء وولايات الأمراء لأبي عبد الله محمّد بن سلامة بن جعفر بن عليّ القضاعيّ المتوفّى سنة 454 هـ‍/1062 م، مخطوط برلين 9433. -أنباء نجباء الأبناء: لحجّة الدين، محمّد بن ظفر المتوفّى سنة 567 هـ‍/1171 - 1172 م، تحقيق إبراهيم يونس، دار الصحوة للنشر، القاهرة 1991 م.

-أنساب الأشراف: لأحمد بن يحيى بن جابر البلاذريّ المتوفّى سنة 279 هـ‍/892 م، الجزء الأوّل، تحقيق محمّد حميد الله، القاهرة 1959 م. -الألف المختارة: الألف المختارة من صحيح البخاريّ، اختيار وشرح عبد السلام محمّد هارون،1 - 10، دار المعارف بمصر 1378 هـ‍/ 1959 م-1385 هـ‍/1965 م. -أنوار علويّ الأجرام: أنوار علويّ الأجرام في الكشف عن أسرار الأهرام لأبي جعفر محمّد بن عبد العزيز الحسنيّ الإدريسيّ المتوفّى سنة 649 هـ‍/1251 م، تحقيق ألريش هارمان، بيروت 1991 م. -أيّام العرب: كتاب أيّام العرب قبل الإسلام لأبي عبيدة معمّر بن المثنّى التّيميّ المتوفّى سنة 209 هـ‍/817 م، جمع وتحقيق ودراسة الدكتور عادل جاسم البياتيّ، بيروت 1407 هـ‍/1987 م. -البداية والنهاية: لأبي الفداء عماد الدين محمّد بن إسماعيل بن كثير الدمشقيّ المتوفّى سنة 774 هـ‍/1372 - 1373 م، بيروت 1977 م. -بروكلمان: تاريخ الأدب العربيّ وملحقه، النسخة الألمانيّة. - Supplement banden angepasste Auflage,Leiden 7391 - 9491. Brockelmann,Carl :Geschichte der arabischen Litteratur .Zweite,den باوليني عن بخت نصّر: - in :Graecolatina et Orientalia 4(3791),S .161 - 38. Pauliny,Jan : «Islamische Legenden uber Buhtnassar (Nebukadnezar)» , باوليني عن عوج ابن عناق: zu den islamischen Riesengeschichten» .in :Graecolatina et Orientalia 5 Pauliny,Jan : «Ug ibn Ab?q .Ein Sagenhafter Riese .Untersuchungen - (3791),S .942 ff . البّيرونيّ: كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية لأبي الرّيحان محمّد ابن أحمد البيرونيّ الخوارزميّ المتوفّى نحو 440 هـ‍/1048 م، تحقيق إدوارد ساخو، لايبسيغ 1923 م. -ت. أ. ع. لحنّا الفاخوريّ: تاريخ الأدب العربيّ لحنّا الفاخوريّ، بيروت 1960 م.

-ت. أ. ع. لعمر فرّوخ: تاريخ الأدب العربيّ لعمر فرّوح، ج 1 بيروت ربيع الأوّل 1385 هـ‍/تمّوز (يوليو) 1965 م، ج 2 بيروت صفر 1388 هـ‍/أيّار (مايو) 1968 م. -تاريخ الإسلام للذهبيّ: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام للحافظ شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبيّ المتوفّى سنة 748 هـ‍/1347 م، تحقيق عمر عبد السلام تدمريّ، دار الكتاب العربيّ، بيروت 1407 هـ‍/1987 م. -تاريخ بغداد: تاريخ بغداد أو مدينة السلام لأبي بكر أحمد بن عليّ الخطيب البغداديّ المتوفّى سنة 463 هـ‍/1070 - 1071 م، مصر 1349 هـ‍/1931 م. -ت. تش. ا.: تاريخ التشريع الإسلاميّ تأليف المرحوم محمّد الخضريّ، دار القلم، بيروت 1983 م. -تاريخ دمشق: لعليّ بن الحسن المعروف بابن عساكر المتوفّى سنة 571 هـ‍/1175 م، تحقيق صلاح الدين المنجّد، دمشق 1951 - 1954 م. -ت. د. ا. ومع. الأسر الحاكمة: تاريخ الدول الإسلاميّة ومعجم الأسر الحاكمة لأحمد السعيد سليمان، دار المعارف، القاهرة 1972 م. -تاريخ الطبريّ: تاريخ الرسل والملوك لأبي جعفر محمّد بن جرير الطبريّ، المتوفّى سنة 310 هـ‍/923 م، تحقيق دي غويي وآخرين، ليدن 1879 - 1901 م. -تاريخ العالم لأوروسيوس، الترجمة العربية القديمة (منتصف القرن الرابع الهجريّ)، تحقيق عبد الرحمن بدويّ، بيروت 1982 م. -تاريخ عبد الرحمن ابن الجوزيّ: الجزء الأوّل من تاريخ عبد الرحمن ابن الجوزيّ المتوفّى سنة 597 هـ‍/1200 - 1201 م، مخطوط برلين 9435. -تاريخ العلاّمة ابن خلدون: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيّام

العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر وهو تاريخ وحيد عصره العلاّمة عبد الرحمن ابن خلدون المغربيّ المتوفّى سنة 808 هـ‍/1406 م، دار الكتاب اللبنانيّ، بيروت 1981 م. -التاريخ الكبير: هو كتاب التاريخ الكبير لأبي عبد الله محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفيّ البخاريّ، المتوفّى سنة 256 هـ‍/869 م، ط 1، دائرة المعارف العثمانيّة، حيدر آباد الدكن 1361 هـ‍/1942 م. -التبصرة: كتاب التبصرة لجمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزيّ البغداديّ المتوفّى سنة 597 هـ‍/1200 - 1201 م، تحقيق مصطفى عبد الواحد، القاهرة 1390 هـ‍/1970 م. -تذكرة الأولياء: تذكرة الأولياء لمحمّد بن إبراهيم فريد الدين عطّار المتوفّى سنة 617 هـ‍/1220 م، تحقيق رينولد اللين نيكولسون، لندن/ ليدن 1905 - 1907 م. (Persian Historical Texts,Vol .5) - تذكرة الحفّاظ: لشمس الدين أبي عبد الله محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبيّ المتوفّى سنة 748 هـ‍/1348 م، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، بدون تاريخ. -تذكرة الحفّاظ: لشمس الدين أبي عبد الله محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبيّ المتوفّى سنة 748 هـ‍/1348 م، ط 3، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانيّة بحيدر آباد الدكن، الهند،1375 هـ‍/1955 م. -تعريف القدماء بأبي العلاء، جمع وتحقيق الأساتذة: مصطفى السقّا، عبد الرحيم محمود، عبد السلام هارون، إبراهيم الأبياري، حامد عبد المجيد، بإشراف الأستاذ الدكتور طه حسين، القاهرة 1363 هـ‍/ 1944 م. -تفسير أسماء الأدوية المفردة من كتاب ديسقوريدوس، لأبي داود سليمان بن حسّان، المعروف بابن جلجل، المتوفّى سنة 384 هـ‍/ 994 م، مخطوط المكتبة الوطنيّة بمدريد رقم 4981. -تفسير كتاب دياسقوريدوس: في الأدوية المفردة، لأبي محمّد عبد الله ابن أحمد بن محمّد ابن البيطار المالقيّ المتوفّى سنة 646 هـ‍/

1248 م، تحقيق إبراهيم بن مراد، دار الغرب الإسلاميّ، بيروت 1989 م. -التقدمة لابن أبي حاتم: تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل، لأبي محمّد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمّد بن إدريس بن المنذر التميميّ الحنظليّ الرازيّ المتوفّى سنة 327 هـ‍/938 م، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد الدكن، الهند،1371 هـ‍/1952 م. -تقريب: تقريب التهذيب لشهاب الدين أبي الفضل أحمد بن عليّ بن حجر العسقلانيّ المتوفى سنة 852 هـ‍/1449 م، تحقيق عبد الوهّاب عبد اللطيف، القاهرة 1380 هـ‍/1961 م. -تهذيب ابن عساكر: تهذيب تاريخ دمشق لعبد القادر بدران وأحمد عبيد، دمشق 1329 هـ‍/1911 م-1351 هـ‍/1932 م. -التقريب: التقريب لأبي زكريّا محيي الدين يحيى بن شرف النوويّ المتوفّى سنة 676 هـ‍/1277 - 1278 م، تحقيق عبد الوهّاب عبد اللطيف، الطبعة الثانية، دار إحياء السنّة النبويّة 1399 هـ‍/1979 م. -تهذيب التهذيب: لشهاب الدين أبي الفضل أحمد بن عليّ بن حجر العسقلانيّ المتوفّى سنة 852 هـ‍/1449 م، حيدر آباد الدكن 1325 هـ‍/ 1907 - 1327 هـ‍/1909 م. -التيجان: كتاب التيجان في ملوك حمير، رواية أبي محمّد عبد الملك ابن هشام، عن أسد بن موسى عن أبي إدريس بن سنان عن جده لأمّه وهب بن منبّه، تحقيق ونشر مركز الدراسات والأبحاث اليمنيّة، الجمهوريّة العربيّة اليمنيّة، صنعاء 1979 م. -الجامع لابن عبد البرّ: جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحملته لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمّد بن عبد البرّ النمريّ المتوفّى سنة 463 هـ‍/1071 م، القاهرة، بدون تاريخ. -الجمع بين رجال الصحيحين: هو كتاب الجمع بين كتابي أبي نصر الكلاباذيّ وأبي بكر الإصبهانيّ في رجال البخاريّ ومسلم، لأبي الفضل محمّد بن طاهر بن عليّ المقدسيّ، المعروف بابن القيسرانيّ

الشيبانيّ، المتوفّى سنة 507 هـ‍/1113 م، ط 2، دار الكتب العلميّة، بيروت 1405 هـ‍/1985 م. -جمهرة أشعار العرب: جمهرة أشعار العرب في الجاهليّة والإسلام، لأبي زيد محمّد بن أبي الخطّاب القرشيّ المتوفّى في أوائل القرن الرابع الهجريّ/العاشر الميلاديّ، تحقيق محمّد عليّ الهاشميّ، دار القلم، الطبعة الثانية، دمشق 1406 هـ‍/1986 م. -جمهرة أنساب العرب: لأبي محمّد عليّ بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسيّ المتوفّى سنة 456 هـ‍/1064 م، تحقيق عبد السلام محمّد هارون، القاهرة 1391 هـ‍/1971 م. -جمهرة النسب: لأبي المنذر هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ المتوفّى سنة 204 هـ‍/819 - 820 م، رواية محمّد بن حبيب عنه، تحقيق محمود فردوس العظم، دمشق 1404 هـ‍/1983 م-1406 هـ‍/ 1986 م. -حتّي: تاريخ العرب (مطوّل) بقلم فيليب حتّي، ترجمة إدورد جرجي وجبرائيل جبّور، الطبعة الرابعة، بيروت 1965 م. -حلية: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الإصبهانيّ المتوفّى سنة 430 هـ‍/1038 م، القاهرة 1351 هـ‍/1932 م- 1357 هـ‍/1938 م. -حمزة: تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لحمزة بن الحسن الإصفهانيّ المتوفّى قبل عام 360 هـ‍/971 م، تحقيق غوتوالدت، لا يبسيغ 1844 م. -حياة الحيوان للدّميريّ: كتاب حياة الحيوان الكبرى لكمال الدين محمّد بن موسى بن عيسى الدميريّ المتوفّى سنة 808 هـ‍/1405 م، تصحيح حسن الهادي حسين على النسخة المطبوعة بالمطبعة الأميريّة سنة 1274 هـ‍/1857 - 1858 م في القاهرة. . -الحيوان: كتاب الحيوان لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المتوفّى سنة 254 هـ‍/868 م، تحقيق عبد السلام محمّد هارون، القاهرة 1958 م.

-ديوان ابن زيدون: لأبي الوليد أحمد بن عبد الله بن زيدون،394 - 463 هـ‍/1004 - 1070 م، معه رسائله وأخباره، تحقيق محمّد سيّد كيلاني، الطبعة الثالثة، القاهرة 1385 هـ‍/1965 م. -ديوان الأعشى: تحقيق فوزي خليل عطوي، الشركة اللبنانيّة للكتاب، بيروت 1968 م. -ديوان البحتريّ: عني بتحقيقه وشرحه والتعليق عليه حسن كامل الصيرفيّ، القاهرة 1977 م. -ديوان حاتم: ديوان حاتم الطائيّ، حقّقه وترجمه إلى الألمانيّة فريدريش شولتيس، لا يبتزغ 1897 م. -ديوان حاتم بتحقيق عادل: ديوان شعر حاتم بن عبد الله وأخباره، صنعه يحيى بن مدرك الطائيّ، رواية هشام بن محمّد الكلبيّ، تحقيق عادل سليمان جمال، القاهرة،1411 هـ‍/1990 م. -ديوان الخنساء: أنيس الجلساء في ديوان الخنساء، اعتنى بضبطه وتبويبه أحد الآباء اليسوعيّين، وضمّ إليه مراثي ستّين شاعرة من شواعر العرب، بيروت 1888 م. -ديوان دريد: ديوان دريد بن الصّمّة الجشميّ، جمع وتحقيق وشرح محمّد خير البقاعيّ، دار قتيبة، دمشق 1401 هـ‍/1981 م. -ديوان السموأل: ديوان السموءل، صنعة أبي عبد الله نفطويه، تحقيق الشيخ محمّد حسن آل ياسين، مطبعة المعارف، بغداد 1374 هـ‍/ 1955 م. -ديوان علقمة: ديوان علقمة الفحل بشرح الأعلم الشنتمريّ، تحقيق لطفي الصقّال ودريّة الخطيب، حلب 1389 هـ‍/1969 م. -ديوان عمر بن أبي ربيعة: دار صادر ودار بيروت، بيروت 1380 هـ‍/ 1961 م. -سرّ الفصاحة: للأمير أبي محمّد عبد الله بن محمّد بن سعيد بن سنان الخفاجيّ الحلبيّ المتوفّى سنة 466 هـ‍، شرح وتصحيح عبد المتعال الصعيديّ، القاهرة 1389 هـ‍/1969 م.

-سفر التكوين: انظر الكتاب المقدّس. -سلوان المطاع: السلوانات في مسامرة الخلفاء والسادات، سلوان المطاع في عدوان الأتباع، لحجّة الدين أبي عبد الله محمّد بن ظفر الصقلّيّ، المتوفّى بحماة سنة 565 هـ‍/1169 - 1170 م أو 567 هـ‍/ 1171 - 1172 م، حرّره وراجعه أبو نهلة أحمد بن عبد المجيد، القاهرة 1978 م. -سوائر الأمثال: سوائر الأمثال على أفعل لحمزة بن الحسن الأصفهانيّ المتوفّى قبل عام 360 هـ‍/971 م، تحقيق الدكتور فهمي سعد، عالم الكتب، بيروت 1409 هـ‍/1988 م. -سوتر: Suter,Heinrich :Die Mathematiker und Astronomen der Araber und ihre - Werke,Leipzig 0091. السيرة النبويّة لابن كثير: السيرة النبويّة لأبي الفداء إسماعيل بن كثير المتوفّى سنة 774 هـ‍/1373 م، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت 1403 هـ‍/1983 م. -سيسكين: - Sezgin,Fuat :Geschichte der Arabischen Schriftums,Leiden 7691. . . شارل بلاّ: المسعوديّ، مروج الذهب ومعادن الجوهر، الجزء السادس، والجزء السابع، فهارس عامة، طبعة بربيه دي مينار وبافيه دي كرتاي، عني بتنقيحها وتصحيحها شارل بلاّ، منشورات الجامعة اللبنانيّة، قسم الدراسات التاريخيّة 11، بيروت 1979 م. -شذرات الذهب: شذرات الذهب في أخبار من ذهب لأبي الفلاح عبد الحيّ بن العماد الحنبليّ المتوفّى سنة 1089 هـ‍/1678 م، دار الآفاق الجديدة، بيروت. -شرح ديوان عمر بن أبي ربيعة المخزوميّ، المتوفّى سنة 93 هـ‍/ 712 م، لمحمّد محيي الدين عبد الحميد، ط 2، مطبعة السعادة، القاهرة 1380 هـ‍/1960 م. -شريح ديوان لبيد: شرح ديوان لبيد بن ربيعة العامريّ، تحقيق إحسان

عبّاس، الكويت 1962 م. -شعراء النصرانيّة: جمع وتصحيح الأب لويس شيخو اليسوعيّ، بيروت 1890 م. -الشعر والشعراء: لابن قتيبة المتوفّى سنة 276 هـ‍/889 م، تحقيق وشرح أحمد محمود شاكر، القاهرة 1967 م. -الصّحاح: تاج اللّغة وصحاح العربيّة لإسماعيل بن حمّاد الجوهريّ المتوفّى سنة 393 هـ‍/1002 م، تحقيق أحمد عبد الغفور عطّار، القاهرة 1956 م. -صحيح البخاريّ: لأبي عبد الله محمّد بن إسماعيل البخاريّ الجعفيّ، المتوفّى سنة 256 هـ‍/869 م، إعداد مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير ودار اليمامة، ط 4، دمشق-بيروت 1410 هـ‍/1990 م. -صحيح مسلم: صحيح مسلم لأبي الحسين مسلم بن الحجّاج القشيريّ النيسابوريّ المتوفّى سنة 261 هـ‍/877 م، تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربيّ بيروت 1375 هـ‍/1956 م الطبعة الثانية 1972 م. -صحيفة عليّ بن أبي طلحة (ت.143 هـ‍/760 - 761 م) عن ابن عبّاس (ت.68 هـ‍/687 - 688 م) في تفسير القرآن الكريم، تحقيق راشد عبد المنعم الرجّال، القاهرة 1411 هـ‍/1991 م. -صفة الصفوة: صفة الصفوة لجمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزيّ البغداديّ المتوفّى سنة 597 هـ‍/1200 - 1201 م، حيدرآباد الدكن 1355 هـ‍/1936 م-1356 هـ‍/1937 م. -طبقات ابن سعد: كتاب الطبقات الكبير لمحمّد بن سعد المتوفّى سنة 230 هـ‍/845 م، بيروت 1957 م-1958 م. -طبقات الأمم: للقاضي أبي القاسم صاعد بن أحمد الأندلسيّ المتوفّى سنة 462 هـ‍/1069 - 1070 م، مطبعة السعادة بمصر، بدون تاريخ. -طبقات السّلميّ: طبقات الصوفيّة لأبي عبد الرحمن محمّد بن الحسين السلميّ المتوفّى سنة 412 هـ‍/1021 م، تحقيق نور الدين شريبة،

القاهرة 1372 هـ‍/1953 م. -طبقات الشعراء: طبقات الشعراء الجاهليّين والإسلاميّين لأبي عبد الله بن سلاّم الجمحيّ البصريّ المتوفّى سنة 232 هـ‍/846 م، مكتبة الثقافة العربيّة، بيروت، بدون تاريخ. -طبقات النحويّين واللغويّين: لأبي بكر محمّد بن الحسن الزبيديّ الأندلسيّ المتوفّى سنة 379 هـ‍/989 - 990 م، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة 1392 هـ‍/1973 م، ط 2 1984 م. -عرائس المجالس: كتاب قصص الأنبياء، المسمّى بعرائس المجالس لأبي إسحاق أحمد بن محمّد بن إبراهيم الثعلبيّ المتوفّى سنة 427 هـ‍/1035 م، وبهامشه مختصر روض الرياحين في مناقب الصالحين لأبي محمّد عبد الله اليافعيّ المتوفّى سنة 768 هـ‍/1367 م، المطبعة الأزهريّة المصريّة،1308 هـ‍/1890 - 1891 م. -العقد الثمين: كتاب العقد الثمين في دواوين الستّة الجاهليّين، نشر وليم بن الورد (آلوردت)، لندن 1870 م. -غراف: - Verhaltnis zur Langfassung,Klaus Schwarz Verlag,Berlin,0991. Graf,Gunhild :Die Epitome der Universalkronik Ibn ad-Daw?d?ris im فقه اللّغة: كتاب فقه اللغة وسرّ العربيّة، لأبي منصور عبد الملك بن محمّد بن إسماعيل الثعالبيّ النيسابوريّ، المتوفّى سنة 429 هـ‍/ 1038 م، دار الكتب العلميّة، بيروت، بدون تاريخ. -فلايشهامّر: - Habilitationsschrift,Halle (Saale)5691(noch ungedruckt) . Fleischhammer,Manfred :Quellenuntersuchungen zum Kit?b al-Ag?ni , قاموس فارموند: قاموس اللّغتين ألمانيّ-عربيّ وعربيّ-ألمانيّ، تأليف الدكتور أدولف فارموند، مكتبة لبنان، بيروت 1974 م. -الكامل لابن الأثير: الكامل في التاريخ لعزّ الدين أبي الحسن عليّ بن أبي الكرم محمّد بن محمّد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيبانيّ

المعروف بابن الأثير المتوفّى سنة 630 هـ‍/1239 م، الجزء الأوّل، تحقيق تورنبيرغ، طبعة بيروت 1385 هـ‍/1965 م. -الكتاب المقدّس: أي كتب العهد القديم والعهد الجديد، وقد ترجم من اللغات الأصليّة، جمعيات الكتاب المقدّس في الشرق الأدنى، بيروت 1966 م. -الكسائيّ: قصص الأنبياء لمحمّد بن عبد الله الكسائيّ، تصحيح إسحاق بن ساؤول إيزنبرغ، ليدن 1922 م. -كنز الدّرر: كنز الدّرر وجامع الغر، الجزء الأوّل، وهو: الدرّة العليا في أخبار بدء الدنيا لأبي بكر بن عبد الله بن أيبك الدواداريّ، المتوفّى بعد سنة 736 هـ‍/1336 م، تحقيق بيرند راتكه، القاهرة 1982 م. -لزوم ما لا يلزم، «لشاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء» أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعرّيّ التنوخيّ المتوفّى سنة 449 هـ‍/ 1057 م، القاهرة 1333 هـ‍/1915 م. -لسان العرب لابن منظور، وهو محمّد بن مكرم المتوفّى سنة 711 هـ‍/ 1311 م، تحقيق عبد الله عليّ الكبير ومحمّد أحمد حسب الله وهاشم محمّد الشاذليّ، دار المعارف، القاهرة 1401 هـ‍/1981 م. -لسان الميزان: لسان الميزان لأبي الفضل أحمد بن عليّ بن حجر العسقلانيّ المتوفّى سنة 852 هـ‍/1449 م،1 - 6، حيدر آباد 1329 هـ‍/1911 م-1331 هـ‍/1913 م. -المجسطي: - 4791. dius Ptolemaeus in Arabisch-lateinischer Uberlieferung,Wiesbaden Kunitzsch,Paul :Der Almagest .Die Syntaxis Mathematika des Clau - محيط المحيط: للمعلم بطرس البستانيّ المتوفّى سنة 1300 هـ‍/ 1883 م، مكتبة لبنان، بيروت 1979 م. -المدهش: لأبي الفرج جمال الدين بن عليّ بن محمّد بن جعفر الجوزيّ، المتوفّى سنة 597 هـ‍/1200 م، بيروت، بدون تاريخ. -مرآة الزمان: السفر الأوّل من مرآة الزمان في تاريخ الأعيان لسبط ابن

الجوزيّ، شمس الدين أبي المظفّر يوسف بن قزاوغلي المتوفّى سنة 654 هـ‍/1256 م، تحقيق إحسان عبّاس، دار الشروق بيروت 1405 هـ‍/1985 م. -مروج الذهب: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تصنيف أبي الحسن عليّ بن الحسين بن عليّ المسعوديّ المتوفّى في عام 346 هـ‍/957 - 958 م، بتحقيق محمّد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة 1377 هـ‍/ 1958 م. -مروج الذهب، طبعة أوربا: مروج الذهب ومعادن الجوهر، تصنيف أبي الحسن علي بن الحسين بن عليّ المسعوديّ المتوفّى في عام 346 هـ‍/957 - 958 م، باعتناء الأستاذين باربيه ومينار، باريس 1871 م، الطبعة الثانية، طهران 1970 م. -مسند أحمد: مسند الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل الشيبانيّ المروزيّ المتوفّى سنة 241 هـ‍/855 م، دار صادر والمكتب الإسلامي، بيروت 1969 م. -معجم الأدباء: كتاب إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب، المعروف بمعجم الأدباء أو طبقات الأدباء لياقوت الروميّ (الحمويّ) المتوفّى سنة 626 هـ‍/1229 م، تحقيق د. س. مرجليوت، مصر 1913 م. -معجم البلدان: للشيخ شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحمويّ الروميّ البغداديّ، المتوفّى سنة 626 هـ‍/1229 م، دار بيروت ودار صادر، بيروت 1376 هـ‍/1957 م. -مع. طب. ح. م.: معجم طبقات الحفّاظ والمفسّرين، إعداد عبد العزيز عزّ الدين السيروان، بيروت 1404 هـ‍/1984 م. -المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وضعه محمّد فؤاد عبد الباقي، القاهرة 1364 هـ‍/1945 م. -المعجم المفهرس: المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبويّ لمجموعة من المستشرقين بالتعاون مع محمّد فؤاد عبد الباقي، ليدن 1936 - 1988 م.

-معجم اللغة العربيّة المعاصرة، عربيّ ألمانيّ، لهانس فير، الطبعة الرابعة، مكتبة لبنان، بيروت 1977 م. -المعرّب: المعرّب من الكلام الأعجميّ على حروف المعجم لأبي منصور موهوب ابن الجواليقيّ المتوفّى سنة 539 هـ‍/1144 م، تحقيق أحمد محمّد شاكر، القاهرة 1938 م. -المغني في ضبط أسماء الرجال: المغني في ضبط أسماء الرجال ومعرفة كنى الرواة وألقابهم وأنسابهم لمحمّد طاهر بن عليّ الهنديّ المتوفّى سنة 986 هـ‍/1578 م، دار الكتاب العربيّ، بيروت 1399 هـ‍/ 1979 م. -المواعظ للمقريزيّ: كتاب المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار لتقيّ الدين أحمد بن عليّ بن عبد القادر بن محمّد المقريزيّ المتوفّى سنة 845 هـ‍/1441 م، تحقيق م. غاستون وييت، القاهرة 1910 م. -الملل والنّحل: لأبي الفتح محمّد بن عبد الكريم الشهرستانيّ المتوفّى سنة 548 هـ‍/1153 م في هامش: كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل لأبي محمّد عليّ بن أحمد بن حزم الظاهريّ المتوفّى سنة 456 هـ‍/1064 م، دار المعرفة، بيروت 1395 هـ‍/1975 م. -المنجد: المنجد في اللغة والأعلام، المطبعة الكاثوليكيّة، دار المشرق، بيروت 1973 م. -الموسوعة في علوم الطبيعة: لإدوار غالب، المطبعة الكاثوليكيّة- بيروت 1966 م. -الموضوعات: كتاب الموضوعات لأبي الفرج عبد الرحمن بن عليّ ابن الجوزيّ القرشيّ المتوفّى سنة 597 هـ‍/1200 - 1201 م، تحقيق عبد الرحمن محمّد عثمان، المدينة المنوّرة 1386 هـ‍/1966 م. -مير دير زيلي: Ritter,Helmut :Das Meer der Seele,Leiden 5591. - ميزان: ميزان الاعتدال في نقد الرجال لشمس الدين أبي عبد الله محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبيّ المتوفّى سنة 748 هـ‍/1348 م، تحقيق عليّ محمّد البجاويّ، بيروت 1382 هـ‍/1962 م.

-نهاية الأرب: نهاية الأرب في فنون الأدب لشهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويريّ المتوفّى سنة 733 هـ‍/1332 م، دار الكتب المصريّة، القاهرة ج 13،1357 هـ‍/1938 م، ج 14،1362 هـ‍/1943 م، ج 15، 1369 هـ‍/1949 م. -نور القبس: كتاب نور القبس المختصر من المقتبس في أخبار النحاة والأدباء والشعراء والعلماء؛ تأليف أبي عبد الله محمّد بن عمران المرزبانيّ المتوفّى سنة 384 هـ‍/994 م، اختصار أبي المحاسن يوسف ابن أحمد بن محمود الحافظ اليغمريّ المتوفّى سنة 673 هـ‍/1274 م، تحقيق رودلف زلهايم، دار النشر فرانتس شتاينر، فيسبادن 1384 هـ‍/ 1964 م. . -وفيات الأعيان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لشمس الدين أحمد ابن أحمد بن محمّد بن خلّكان المتوفّى سنة 681 هـ‍/1282 - 1283 م، تحقيق إحسان عبّاس، بيروت 1968 - 1972 م. . Bertold Spuler,Wiesbaden 1691. Wustenfeld-Mahlerische Vergleichungs-Tabellen,neu bearbeitet von -

3 - الدر الثمين فى أخبار سيد المرسلين والخلفاء الراشدين

الجزء الثالث مقدمة التحقيق [من محمد السعيد جمال الدين] بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين. وبعد: يعد كتاب كنز الدرر وجامع الغرر لأبى بكر بن عبد الله بن أبيك الدوادارى من الكتب الهامة فى التاريخ الإسلامى عامّة وتاريخ مصر فى العصر المملوكى بصفة خاصّة، ولقد ظلّ هذا الكنز مخفيّا فى بطون المكتبات حتى توفّر على تحقيق أجزاء منه ونشرها مجموعة من المستشرقين الأوربيين والباحثين العرب، وذلك منذ عام 1960 م. ومن عادة ابن الدوادارى فى سائر أجزاء كتابه أن يسمّى كلّ جزء باسم خاصّ به، فالكتاب كنز درر، وكلّ جزء منه يمثل درّة من الدرر التسع الذى يحتويها. ولذلك نجده يطلق على هذا الجزء الثالث من كتابه اسم: الدر الثمين فى أخبار سيد المرسلين والخلفاء الراشدين، فهو بهذا العنوان يحدد الموضوعات التى سيتناولها فى كتابه، وهى: السيرة النبوية، وتاريخ الخلفاء الراشدين، حتى انتهاء خلافة الحسن بن علىّ بن أبى طالب. وبعد أن يمضى المصنف شوطا فى الحديث باختصار فى السيرة النبوية حتى يصل إلى هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة يأخذ كعادة معظم المؤرخين المسلمين فى سياقة

الأحداث التاريخية على حسب السنين. وهكذا فإنّ المصنف رغم أنه يتناول فى هذا الجزء سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، فهو لا ينسى الشرط الذى شرطه على نفسه فى أوّل أجزاء هذا الكتاب: وهو أن يقدّم قبل كلّ حادث حدث فى كلّ سنة من السنين التى يذكرها حال النيل من الزيادة والنقصان، فطبّق نفس الشرط على هذا الجزء أيضا، وصدّر حديثه فى حوادث كلّ سنة من السنين بنبذة مختصرة عن مقدار الزيادة فى مياه النيل، ولم يكتف بهذا فحسب بل عنى بالحديث عن موقع نهر النيل ومنابعه ومصابّه، والمقاييس التى بنيت عليه فى مختلف العصور. وبعد أن يفرغ المصنّف من السيرة النبوية الشريفة، وهى التى استغرقت ثلث هذا الجزء تقريبا، يبدأ فى ذكر أخبار كل واحد من الخلفاء الراشدين، ولكنّه يعمد قبل الدخول فى الأحداث التى وقعت فى عهد كل خليفة-وهى الأحداث التى رتبها حسب سنين وقوعها-يعمد إلى ذكر نسب الخليفة وبعض سيرته ومآثره وما اشتهر به قبل خلافته. ولا يكتفى المصنف بما نثره فى كتابه من شعر ورجز، بل يخصص فى نهاية هذا الجزء-مثلها فعل فى سائر أجزاء الكتاب-فصلا يتضمّن بقيّة الشعراء المخضرمين الذين أدركوا الإسلام. وقد يلاحظ للصنّف أنّ بعض الأشعار والأرجاز، وكذا بعض الروايات، يصعب على القارئ فهم بعض ألفاظها، فيعمد عندئذ إلى شرح هذه الألفاظ تيسيرا على القارئ. ويتميّز هذا الجزء بنفس مميزات سائر أجزاء الكتاب، فهو مكتوب بخط نسخ واضح، ومسطرته 21 سطرا، وصفحاته مرقمة ترقيما سليما واضحا على أن هذا الجزء يقع فى 167 ورقة-333 صفحة.

ولقد حرصت فى تحقيقى لهذا الجزء على الرجوع-بقدر الإمكان-إلى المصادر الأصلية التى رجع المصنف لها وأشار إليها، ومقارنتها بالأصل، فجعلت تلك المصادر بمثابة نسخة ثانية أقوم فى ضوئها بتصحيح الأصل وتبيّن غوامضه، غير أنى فى حالة الاختلاف بين الأصل والمصادر كنت أرجح إثبات ما جاء فى الأصل، ما لم يكن هناك خطأ واضح أو تصحيف بيّن. أما الأحداث التى لم يشر المصنف فيها إلى مصادره فقد راجعت المصادر المعتمدة، والتى يغلب على الظنّ أن المصنف رجع إليها بنفسه أو رجع إليها من ينقل هو عنه، وقد أثبتّ الاختلافات بين الأصل وتلك المصادر فى الهوامش الموضوعية. وكان لا بدّ لنا من تصحيح الأخطاء اللغوية والإملائية التى وقع فيها المصنّف فحصصنا لها هامشا مستقلا بخلاف الهوامش الموضوعية، بمعنى أننى قسمت كلّ صفحة إلى قسمين: القسم الأول: وهو المتن الذى كتبه المصنف. القسم الثاني: وهو الهوامش، وجعلتها على نوعين: 1 - الهوامش اللغوية: وترد هذه الهوامش أسفل المتن مباشرة، وتشتمل على تصحيح الأخطاء النحوية والإملائية التى وقع فيها المصنف، كما تشتمل على الاختلاف فى رسم الكلمات العربية بين عصر ابن الدوادارى وعصرنا الحديث وقد اهتدينا فى تسجيل هذه الهوامش بأرقام السطور. 2 - الهوامش الموضوعية: وترد أسفل الهوامش اللغوية، وهى تتضمّن التعليقات التوضيحية لبعض غوامض النص، كما تتضمن تصحيحات للأخطاء الموضوعية التى وقع فيها المصنف، والتعريف ببعض الشخصيات، ومقارنة اقتباسات المصنف بالكتب التى اقتبس منها والموجودة بين أيدينا.

وقد استخدمنا فى هذه الهوامش الطريقة المعروفة، وهى طريقة الأرقام المسلسلة الموضوعة بين قوسين بعد كلمة أو جملة فى المتن، ولكل رقم من هذه الأرقام نظير فى الهامش يشتمل على التعليقات والإيضاحات المتعلقة به. والحقيقة أنه لم يكن بالإمكان إنهاء هذا العمل على هذا النحو لولا الجهود والمساعدات القيمة التى بذلها-عن طيب خاطر-عدد من الإخوة الأفاضل، أذكر منهم: الدكتور على عشرى زايد أستاذ النقد الأدبى المساعد بجامعة القاهرة الذى قام بمراجعة الأشعار التى وردت فى هذا الجزء والمعاونة فى تصحيحها، والدكتور عبد الله محمد جمال الدين الأستاذ المساعد بقسم التاريخ بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، والدكتور فاروق عبد العليم مرسى الأستاذ المساعد بكلية الشريعة واللغة العربية بالقصيم وكلاهما ساعدنى-مشكورا-فى مراجعة بعض موضوعات هذا الجزء. ويجدر بى أن أقدم شكرى ونقديرى للبروفسور هانز روبرت رويمر رئيس جمعية المستشرقين الألمان الذى شجعنى على القيام بهذا العمل وقدّم لى كل عون ممكن فى سبيل إخراجه. كما أسجل شكرى وامتنانى للبروفسور قيرنر كايزر رئيس المعهد الألمانى للآثار بالقاهرة الذى هيأ أسباب طبع هذا الكتاب وتيسير الإفادة به. ولن أنسى ما حظيت به من تشجيع لإنجاز هذا العمل خصّنى به البروفسور أولرخ هارمان الأستاذ بجامعة فريبورج. ... وختاما أحمد الله تعالى، وأصلّى وأسلّم على خير خلقه وخاتم رسله سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه. المدينة المنورة فى:19 من جمادى الأولى سنة 1401 هـ‍ 25 من مارس سنة 1981 م محمد السعيد جمال الدين

فهرست لما فى هذا الجزء قد جمع من الزبد والأخبار والنبذ

فهرست لما فى هذا الجزء قد جمع من الزبد والأخبار والنبذ صفحة ذكر سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم 5 ذكر مولده صلّى الله عليه وسلم ومنشئه 10 ذكر ما كان بين جده عبد المطلب وسيف بن ذى يزن 12 ذكر قول الزاجر (وهو العائف) لحليمة السعدية 21 ذكر قول القوم من بنى مدلج لما رأوا قدمه 21 ذكر قول الكاهن فيه صلّى الله عليه وسلم 22 ذكر حديثه لأحد بنى عامر فى بدو شأنه 22 ذكر قول أحد أقيال اليمن لما تفرس فيه 26 ذكر قول أكثم بن صيفى لعمه أبى طالب لما تفرس فيه 27 ذكر ما ورد من الحديث فى حفر بئر زمزم 29 ذكر الذبيح، وهو عبد الله أبو النبى صلّى الله عليه وسلم والسبب فى ذلك 30 ذكر المؤذين له صلّى الله عليه وسلم من قريش 39 ذكر المستهزئين به صلّى الله عليه وسلم من قريش 40 ذكر المؤلفة قلوبهم من قريش وغيرهم 40 ذكر المؤلفة قلوبهم من أصول قريش وفروعها 40

الصحفة ذكر الأعياص من بنى أمية 43 ذكر شئ من كلامه البديع صلّى الله عليه وسلم 47 ذكر المشبهين به صلّى الله عليه وسلم 51 ذكر ابتداء سياقة نيل مصر من أول الهجرة 54 ذكر فصل معلق بأخبار مصر 55 ذكر سائر سنين الهجرة وما فيها من غزواته إلى حين وفاته 56 ذكر حجة الوداع وما استن فيها صلّى الله عليه وسلم 82 ذكر وفاته من وجوه 85 ذكر أسمائه وصفته صلّى الله عليه وسلم 95 ذكر صفاته المعنوية وخصائله صلّى الله عليه وسلم 96 ذكر معجزاته صلّى الله عليه وسلم 113 ذكر أزواجه وأنسابهن 124 ذكر أولاده الذكور والإناث 124 ذكر من تزوج بناته صلّى الله عليه وسلم 130 ذكر أعمامه وعماته صلّى الله عليه وسلم 133 ذكر مواليه صلّى الله عليه وسلم 140 ذكر مواليه الإناث 143 ذكر من خدمه من الأحرار 143 ذكر حراسه فى غزواته 144

الصفحة ذكر رسله إلى الملوك 144 ذكر كتابه صلّى الله عليه وسلم 146 ذكر رفقائه صلّى الله عليه وسلم 147 ذكر دوابه صلّى الله عليه وسلم 147 ذكر نعمه وسلاحه وثيابه 148 فصل ذكر خلافة أبى بكر رضى الله عنه 153 ذكر نسبه وشرفه وبدو شأنه 153 ذكر خلافته رضى الله عنه 156 ذكر أمر الردة وما كان منها 156 ذكر خبر مسيلمة وسجاح 158 ذكر ابتداء فتح الشام وما لخص منه 161 ذكر صفته وكتابه وحجابه ونقش خاتمه 169 فصل ذكر خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه 170 ذكر نسبه وشرفه وبدو شأنه 170 ذكر إسلامه وسببه رضى الله عنه 171 ذكر شئ من مناقبه وسيرته بعد خلافته 182 ذكر فتح دمشق وحمص وما معهما من ذلك 184 ذكر وقعة اليرموك وما كان من أمرها 187 ذكر فتح بيت المقدس 190 ذكر ابتداء [فتح] العراق 193

صفحة ذكر وقعة جلولاء 199 ذكر عمرو بن العاص وبدؤه 209 ذكر مصر ومبتدأ أمرها من وجه ملخصا 212 ذكر سبب دخول عمرو بن العاص مصر فى الجاهلية 217 ذكر فتح مصر على يد عمرو بن العاص رضى الله عنه 219 ذكر صفة مصر وعجائبها من وجه ملخصا 226 ذكر شئ مما ورد فى الحديث فى الوصية بأهل مصر وقبطها 229 ذكر وفاة عمر رضى الله عنه وما جرى من بعده 237 ذكر أولاده وما كان منهم 247 ذكر صفته، وكتابه، وحجابه، ونقش خاتمه 253 فصل ذكر عثمان بن عفان رضى الله عنه 254 ذكر نسبه وشرفه وبدء شأنه 254 ذكر شئ من مناقبه ومآثره رضى الله عنه 262 ذكر أمر الشورى وبيعة عثمان 266 ذكر خطب عثمان رضى الله عنه 269 ذكر الوليد بن عقبة وجلده الحد 277 ذكر المآخذ التى أخذت على عثمان 279 ذكر مقتله 289 نبذ من أخبار بنى عثمان رضى الله عنه 309

صفحة ذكر صفته وكتابه وحجابه 313 ذكر نقش خاتمه رضى الله عنه 313 فصل ذكر على بن أبى طالب كرّم الله وجهه 314 ذكر نسبه وشرفه وبدو شأنه 314 ذكر شئ من مناقبه ومآثره عليه السلام 315 ذكر بيعته وخلافته رضى الله عنه 321 ذكر خطبه البليغة صلوات الله عليه 321 ذكر وقعة الجمل مع عائشة رضى الله عنها 325 ذكر طلحة بن عبد الله ومقتله رضى الله عنه 331 ذكر الزبير بن العوام وأخباره ومقتله رضى الله عنه 336 ذكر المكاتبات بين على ومعاوية رضى الله عنهما 354 ذكر حرب صفين بين على ومعاوية رضى الله عنهما 357 ذكر الحكمين وأمر التحكيم 383 ذكر وقعة النهروان مع الخوارج 388 ذكر قتلة محمد بن أبى بكر بمصر على يد عمرو بن العاص 390 ذكر مقتل الإمام علىّ عليه السلام 397 ذكر شئ من أحكامه وقضاياه رضى الله عنه 402 ذكر ما ورد من الغريب فى أمر قتله 404

صفحة ذكر أزواجه 406 ذكر أولاده 406 ذكر صفته [و] نقش خاتمه 407 ذكر كتابه 408 ذكر حجابه 408 فصل ذكر الحسن صلوات الله عليه 408 ذكر نسبه الطاهر الشريف 408 ذكر شئ من ما صح من مآثره 408 ذكر تنزه نفسه الشريفة عن الخلافة وبيعة معاوية 411 ذكر وفاته بالسمّ صلوات الله عليه 412 ذكر صفته وكتابه وحجابه ونقش خاتمه 413 ذكر بقية الشعراء المخضرمين 414 الفهارس 425

الجزء الثالث من تاريخ كنز الدرر وجامع الغرر تأليف أضعف عباد الله وأفقرهم إلى الله أبو بكر ابن عبد الله بن أيبك صاحب صرخد، كان عرف والده رحمه الله بالدواره دارى، انتسابا لخدمة الأمير المرحوم سيف الدين بلبان الرومى الدوادار الظاهرى، تغمّده الله برحمته وأسكنهم فسيح جنّته بمحمّد وآله. وهو الدر الثمين فى أخبار سيّد المرسلين والخلفاء الراشدين

[مقدمة المصنف]

بسم الله الرّحمن الرّحيم (1) [مقدمة المصنف] ربّ اختم بخير الحمد لله الذى لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تراه القلوب بحقائق الإيمان، كوّن الأكوان بإتقان صنعته، ولوّن الألوان بإحسان صبغته، وخلق الإنسان علّمه البيان لمعانيه وصيغته، ليس له مثيل، ولا يحدّه مكان، ولا يقال أين كان ولا كيف كان. اخترع فأبدع جميع الموجودات بحكمته، وأرمى فأصمى (2) قلوب عباده بمحبّته، وجعل سائر الأعمال والعمال مفتقرين إلى رحمته، فتعالى عن الكيف والأين والزمان، سبحانه كلّ يوم هو فى شأن. أحمده على ما أولانا من خصائص نعمته، وأشهد أن لا إله إلا الله إقرارا بربوبيّته وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله خيرته من بريته، الذى أنارت الأرض وحندسها (3) بمولده، وسقطت الأصنام لوجهها من هيبته، أفصح من أفصح بلسان فأبان، وأعلم من علّم علم البدايع والبيان، انشقّ لمولده الإيوان، حتى تحيّر كسرى أنوشروان، وغارت بحيرة سارة وخمدت النيران، ومن قبلها ما رآه فى أحلامه الموبدان،

فكان من تفسيره ما بشّرت به الكهّان، من ظهور سيّد ولد عدنان. تشرّفت الأرض على السماء بتربته، وجميع الأمم تحشر تحت لواء أمته، صلّى الله عليه وعلى آله وعترته، وأصحابه أولى الشرف والجود والإحسان، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم العرض على الميزان. قال العبد الفقير المعترف بالتقصير، واللسان القصير، أضعف عباد الله، وأفقرهم إلى الله، أبو بكر بن عبد الله بن أيبك صاحب صرخد عرف والده بالدواه دارى انتسابا لخدمة (3) الأمير المرحوم سيف الدين بلبان الرومى الدوادار الطاهرى، تغمّدهم الله برحمته، وأسكنهم أعلى الدرجات فى جنّته، بمنّه وكرمه ورأفته: لما قدّمنا القول فى الجزء الأوّل والثانى من هذا الكتاب، المسمّى بكنز الدرر وجامع الغرر، وضمّنهما العبد من الفنون، ما يهيّم الخاطر وينزّه العيون، وأودعهما من النكت والأخبار والملح والآثار، ما يشرح الصدور، ويزهو بحسنه على الدرّ المنثور، إذا فصّل بالشذور، ونظم عقودا فى نحور الحور، وسقت فيهما الكلام، من قبل آدم عليه السلام. وذكرت فى الجزء الأوّل ابتداء المخلوقات، بخلق السماوات، والآثار العلويّات، والأرضين، ومدّة التصوير والتكوين. وأتبعت ذلك فى الجزء الثانى بخلق آدم عليه السلام، ومن كان من دونه من الأنبياء الكرام، ثم ذكرت سائر ملوك الأرض، يتلو بعضهم البعض، والسحرة والكهّان، من قبل آفة الطوفان، ثم من ملك الأرض بعد ذلك فى طولها والعرض من سائر ملوك الأمصار، فى جميع الأقطار،

وأتبعنا القول بذكر أيّام الجاهليّة الأولى، أرباب الدول والخول، وطرّزنا ذلك بذكر الفحول من شعراء الجاهليّة، ونبذ أخبارهم الأوائليّة، وما نطقت به المبشّرون، بظهور سيّد المرسلين، من أقوال الكهنة والمتفرّسين، إلى أن انتهى بنا الكلام إلى مولد خير الأنام، ومصباح الظلام، ورسول الملك العلاّم، محمّد عليه أفضل الصّلاة والسّلام، فجعلنا أوّل هذا الجزء مشرّقا بمولده وذكره وما لخّص من سيرته، وأتبعنا ذلك بذكر الخلفاء الراشدين من أهله وأصحابه وعشيرته، إلى حيث وقف بنا الكلام فى هذا الجزء، فأثنينا العنان، والله المستعان. ...

ذكر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسبه ومولده ومبعثه وما لخص من معجزاته وآياته وسيرته

ذكر سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ونسبه ومولده ومبعثه وما لخّص من معجزاته وآياته وسيرته أمّا نسبه صلّى الله عليه وسلم، المتّفق عليه ممّا فى أيدى الناس، ممّا أجمع على ذلك أرباب التاريخ. ممّن عنى بجمع أخبار العالم، فهو: أبو القاسم محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب، وهو شيبة الحمد بن هاشم، وهو عمرو وسمّى هاشما لقول الشاعر فيه: عمرو (1) … العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف وسيأتى تتمّة هذا الشعر وخبره فى موضعه، وقول الآخر: ما أحد كهاشم وإن هشم … لا لا ولا كحاتم وإن حتم هاشم بن عبد مناف، بن قصىّ، بن كلاب، بن مرّة، بن كعب، بن لؤىّ، ابن غالب، بن فهر، بن مالك، بن النضر، بن كنانة، بن خزيمة، ابن مدركة. والنضر عند أكثر النسّابين أصل قريش، فمن ولده النّضر، عدّ من قريش، ومن لم يلده فليس منهم. وقال بعض نسّابى قريش: بل هو فهر بن مالك هو أصل قريش. وقال الهيثم بن عدى فى كتاب المثالب (2): إن

إنّ دغفلا (1) النسّابة دخل على معاوية أيّام خلافته، فقال له: من رأيت من علية قريش؟ قال: رأيت عبد المطّلب بن هاشم وأميّة بن عبد شمس. فقال: صفهما. فقال: كان عبد المطّلب أبيض مديد القامة حسن الوجه، فى جبينه نور النبوّة وعزّة الملك، يطيف به عشرة من بنيه كأنّهم أسد غاب. قال: فصف لى أميّة، قال: رأيته شيخا قصيرا نحيف الجسم ضريرا يقوده عبده ذكوان. فقال معاوية: مه، ذاك ابنه عمرو. قال: هذا شئ قلتموه بعد، وأما الذى عرفت فهو ما أخبرتك به. قلت: وذكوان هذا المسمّى عمرو هو أبو أبى معيط، واسمه: أبو معيط أبان بن عقبة بن أبى معيط، وألحقه (5) بالنّسب أميّة بن عبد شمس، فى خبر طويل يأتى فى موضعه إن شاء الله تعالى. النضر بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس، ولد إلياس يقال لهم خندف تسموا لأمّهم خندف وهو لقبها، واسمها ليلى بنت حلوان، ابن عمران، بن الجاف، بن قضاعة، وهى أم مدركة، وطابجة، وقمعة، بنى إلياس. ابن مضر، بن نزار، بن معدّ، بن عدنان.

قلت: إلى هاهنا المتّفق عليه لقوله صلّى الله عليه وسلم: «كذب النسابون إن جاوزونى عدنان» (1). وأمّا ما ذكره النسّابون من العرب، من اتّصال عدنان بآدم أبى البشر، فهو: عدنان، بن أدّ، بن أدد، بن الهميسع، بن شجب، وقيل أشجب (2)، ابن تبت، بن قيدار، بن إسماعيل، بن إبراهيم. هذا الذى رواه نسّابو العرب. وروى ذلك عن الزّهرى (3)، وهو من علماء قريش وفقهائها. وأمّا من ذكر من النسّابين، ممّن أخذ فيما زعم عن دغفل وغيره، فقال (4): معدّ بن عدنان، بن أدد، بن أمين، بن شاجب، بن نبيت، بن ثعلبة، ابن عتر، [بن سعد رجب] (5)، بن بريح، بن محلّم، بن العوّام، بن المحتمل، ابن رائمة، بن العيقان، بن علة، بن شحدود، بن الظريب، بن عبقر، بن إبراهيم، ابن إسماعيل، بن يزن [الطعان] (5)، بن أعوج، بن المطعم، بن الطمح،

ابن القسوّر، بن عنود، بن دعدع، بن محمود (1)، بن الزائد، بن نيدوان، ابن أيامه، بن دوس، بن حصن، بن نزال، بن القمير، بن المجشّر، بن مزهر، ابن الصفىّ، بن نبيت، بن قيذر (2)، بن إسماعيل ذبيح الله، بن إبراهيم خليل الله، صلّى الله عليهما (3). ثم أجمعوا (4) أنّ إبراهيم، بن آزر، وهو اسمه بالعربيّة، كما ذكره الله تعالى، وهو فى التوراة بالعبرانيّة: تارح بن ناحور، وقيل ناحر، بن الشارع، وهو شاروغ، بن أرغو، بن الراع (5)، بن فالغ (6) وهو قاسم (6) الأرض الذى قسمها بين أهلها، بن عابر، بن شالخ، بن أرفخشد، بن الرافد، قيل بل أرفحشد اسمه الرافد، ابن سام، بن نوح عليه السلام. ثم أجمعوا أن نوح بن مالك، فى لغة العرب، هو تلكان بن المتوشلّخ، وهو المثوب، بن أخنخ، وهو إدريس نبىّ الله صلّى الله عليه، بن يرد، وهو الرائد بن مهلاييل، وهو سمل، بن قينان، بن أنوش، وهو الظاهر، ابن شيث،

وهو هبة الله، ويقال شات بن آدم، أبى البشر صلّى الله عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين من ذريّته وسلّم تسليما. قلت: هذا الذى فى أيدى الناس من النسب على اختلافهم فيه، وقرأت هذا النسب وصحّحته فى سنة عشر وسبع مائة على الشيخ الإمام صدر الدين ابن وكيل بيت المال المعروف بابن المرحّل (1)، رحمه الله تعالى وسائر علماء المسلمين، وغفر لنا ولهم ولكافّة أمّة محمّد أجمعين (2). ...

ذكر ما لخص من ذكره صلى الله عليه وسلم

ذكر ما لخّص من ذكره صلّى الله عليه وسلم قال الزبير بن بكّار (1): حملت به أمّه عليه السلام-وهى آمنة بنت وهب ابن عبد مناف-أيّام التشريق فى شعب أبى طالب. وولد صلّى الله عليه وسلم بمكّة فى دار محمّد بن يوسف أخى الحجّاج، وقيل بل شعب بنى هاشم، وذلك يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأوّل عام الفيل، وقيل لثمان خلون منه، وقيل لاثنتى عشرة ليلة خلت منه، وقيل لعشر خلون منه. ووافق ولادته صلّى الله عليه وسلم يوم عشرين من نيسان سنة اثنتين وثمانين وثمان مائة للإسكندر (2)، هذا المتّفق عليه. ومات عبد الله أبوه وله من العمر خمس وعشرون سنة، وقيل ثلاثون، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم فى بطن أمّه، وقيل إنّه مات بالمدينة ولرسول الله صلّى الله عليه وسلم شهران، (7) وقيل سبعة أشهر: وقيل بل كان له سنتان وأربعة أشهر. والمتّفق عليه أنّ عبد الله لم يره.

وماتت أمّه صلّى الله عليه وسلم بالأبواء بين مكّة والمدينة، وعمره صلّى الله عليه وسلم يومئذ أربع سنين، وقيل ثمان سنين. هذا جملة ما اختلفوا فيه. وكفله بعد موت أبيه جدّه عبد المطّلب، قال محمّد بن ظفر (1): حدّثنى الأستاذ الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الوهّاب التميمى عن أبى محمّد الحسين المبارك بن عبد الجبّار الصيرفى، وهو ابن الطيورى، عن أبى محمّد الحسين ابن على الجوهرى، عن محمّد بن العبّاس بن حيويه، عن أبى القاسم عبد الوهّاب بن أبى حبّة، عن محمّد بن شجاع البلخى، عن أبى عبد الله محمّد ابن عمر الواقدى بإسناده أنّ شيبة الحمد، وهو عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف، كان يبسط له فراش إلى جوار الكعبة فيجلس عليه فى ظلّها، ويحدق فراشه بنوه وغيرهم من سادة أسرته، وكان الفراش يبسط ويجتمعون حوله قبل مجيئه، فيأتى النبىّ صلّى الله عليه وسلم-وهو طفل-يدبّ ولا يثنيه عن الفراش شئ حتّى يجلس عليه، فيزيله أعمامه عنه، فيبكى حتى يردّوه إليه، فطلع عليهم عبد المطّلب يوما وقد أزالوه عن الفراش، فقال لهم: ردّوا ابنى إلى مجلسى، فإنّه يحدّث نفسه بملك عظيم، وسيكون له شأن. فكانوا بعد ذلك لا يردّونه عنه حضر عبد المطّلب أو لم يحضر. ولمّا وفد عبد المطّلب على سيف بن ذى يزن فى سادة قريش يهنّونه بما

هيّأ الله له من هلاك الحبشة وملك العرب، هكذا يقول أكثر الرواة بأنّه سيف ابن ذى يزن، قلت: صحّحت ذلك أنّه معدى كرب بن سيف بن ذى يزن (1). وعاد عبد المطّلب (2) إلى مكّة، وجلس على فراشه إلى جوار الكعبة، فأقبل النبىّ صلّى الله عليه وسلم وهو صغير يدرج (8) فقال عبد المطّلب: أفرجوا لابنى، ورماه ببصره حتى استقرّ على الفراش ثم أنشد عبد المطّلب: أعيذه بالواحد … من شرّ كلّ حاسد ثم قال: أنا أبو الحارث، ما رميت غرضا إلاّ أصبته، يريد ما تخطئ فراستى ولا يخيب ظنّى. فقال له ابنه الحارث: يا سيّد البطحاء، إنّك تقول قولا مضمّنا، فلو أوضحت، فقال: ستعلم يا أبا سفيان. قلت: هذا الحديث يستدعى حديثين: فأحدهما معلق بقول عبد المطّلب: أعيذه بالواحد، من شرّ كل حاسد. وهو أنّ آمنة بنت وهب أمّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم أرسلت هى وقابلتها إلى عبد المطّلب، فى الليلة التى ولد فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بأن يأتى إليها، وكان عبد المطّلب إذ ذاك يطوف بالبيت، فأتاهما، فقالتا له: يا أبا الحارث، ولد لك الساعة مولود له أمر عجيب، فذعر عبد المطّلب وقال: أليس بشرا سويّا؟ فقالت له: بلى، ولكنّه سقط حين خرج إلى الدنيا خارّا

كالرجل الساجد، ثم [رفع] (1) رأسه وإصبعه نحو السماء، لا تقدّر فيه رأسا ولا [فى] (2) ذراع كفا، وخرج معه نور ملأ البيت، وجعلت النجوم تدنو حتى ظننّا أنّها ستقع علينا. وقالت له آمنة: يا أبا الحارث، إنّى لمّا اشتدّ علىّ وجع المخاض كثرت الأيدى فى البيت، فلمّا خرج إلى الدنيا خرج معه نور رأيت فيه قصور بصرى، ولقد أتيت قبل أن ألده فى منامى، فقيل لى إنّك ستلدين سيّد هذه الأمّة، فإذا وقع إلى الأرض فقولى: أعيذه بالواحد … من شرّ كلّ حاسد وسمّيه محمّدا، فإنّ اسمه فى التوراة أحمد. فقال عبد المطّلب: أخرجى لى ابنى، فلقد رأيتنى الساعة أطوف بالبيت، فرأيت البيت مال حتى قلت: سقط علىّ، ثم استوى منتصبا، وسمعت من تلقائه قائلا يقول: (9) الآن طهّرنى ربّى، وسقط هبل على رأسه، فجعلت أمسح عينى وأقول إنّما أنا نائم. فأخرجته آمنة إلى عبد المطّلب، فانطلق به إلى الكعبة، وطاف به أسبوعا، ثم قام به عند الملتزم، وجعل يقول: يا ربّ كلّ طائف وهاجد … وربّ كلّ غائب وشاهد أدعوك والليل طفوح راكد

لاهمّ فاصرف عنه كيد الكائد … واحطم به كلّ عدوّ ضاهد وأنشه ما خلد الأوابد … فى سؤدد راس وحدّ صاعد (1) قلت: وفى هذا الرجز من الغريب قوله: هاجد، وهو النائم، وقوله: طفوح، وهو الممتلئ الذى بلغ غاية الملء حتى طفح، وقوله: راكد، وهو الثابت الدائم، وقوله: لا همّ، أى اللهمّ، وقوله: واحطم به، أى اكسر به، وقوله: ضاهد، الضاهد، هو الظالم المغتصب القاهر، وقوله: الأوابد، هى الوحش، والعرب تضرب المثل: بقيت ما بقيت الأوابد. هذا الحديث الأوّل، فأمّا الحديث الآخر، فيتعلّق بقولنا إنّ ابن ذى يزن بشّر عبد المطّلب بالنبىّ صلّى الله عليه وسلم، وهو ما رواه محمّد بن ظفر (2) بإسناد بلغ به أبا صالح السّمان، أنّ ابن عبّاس قال: لمّا ظهر سيف بن ذى يزن على الحبشة

وفد عليه أشراف العرب وشعراؤهم وخطباؤهم ليشكروه على عطائه وأخذه بثأر قومه، ويهنّونه بما صار إليه من الملك. وقدم عليه وفد قريش منهم عبد المطّلب بن هاشم وأميّة بن عبد شمس وغيرهما، فاستأذنوا عليه وهو فى رأس غمدان، وهو قصر بصنعاء، فأذن لهم، فدخلوا عليه، فإذا هو مضمّخ بالمسك وعليه بردان، والتاج على رأسه، وسيفه بين يديه، وملوك حمير عن يمينه وشماله، فاستأذنه عبد المطّلب فى الكلام، فقال له: إن كنت ممّن يتكلّم بين يدى الملوك فقد أذنّا لك، (10) فقال عبد المطّلب: إن الله أحلّك أيّها الملك محلاّ صعبا باذخا، منيعا شامحا، وأنبتك نباتا طابت أرومته، وعزّت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه، بأكرم معدن وأطيب موطن، فأنت-أبيت اللعن-ملك العرب الذى إليه تنقاد، وعمودها الذى عليه الاعتماد، وسائسها الذى بيده القياد، سلفك خير سلف، وأنت لنا منهم نعم خلف، ولن يجهل من هم سلفه (1)، ولم يهلك من أنت خلفه، نحن أيّها الملك أهل حرم الله وسدنة بيته، أشخصنا إليك الذى أبهجنا من كشفك للكرب الذى فدحنا. فقال له الملك: من أنت أيها المتكلّم؟ فقال: أنا عبد المطّلب بن هاشم. قال: ابن أختنا؟ قال: نعم. فأقبل عليه من بين القوم، فقال: مرحبا وأهلا،

وناقة رحلا، ومستناخا سهلا، وملكا ربحلا (1)، يعطى عطاء جزلا، قد سمع السلطان (2) مقالتكم، وعرف فراستكم، أنتم أهل الليل والنهار، لكم الكرامة ما أقمتم والجياد (3) إذا ظعنتم. ثم أمر بهم إلى دار الضيافة وأجرى عليهم الأنزال، وأقاموا شهرا لا يؤذن لهم ولا يصلون إليه، ثم إنّه انتبه لهم انتباهة فأرسل إلى عبد المطّلب خاصّة، فأتاه وأخلاه ثم قال له: إنّى مفض إليك من سرّى وعلمى بشئ لو غيرك كان لم أبح به له، ولكنّى رأيتك أهله وموضعه، فليكن عندك مطويّا حتى يأذن الله فيه أمره: إنّى أجد فى الكتاب الناطق، والعلم الصادق، الذى اخترناه لأنفسنا، واحتجنّاه دون غيرنا، خيرا عظيما، وخبرا جسيما، فيه شرف الحياة، وفضيلة الوفاة، للناس كافّة، ولقومك عامّة، ولك خاصّة. فقال عبد المطّلب: أبيت اللعن أيّها الملك، لقد أبت بخير ما آب به وافد، ولولا هيبة الملك وإجلاله لسألته من كشف بشارته إيّاى ما أزداد به سرورا. فقال الملك: نبىّ (11) هذا حينه الذى يولد فيه، اسمه محمّد، خدلج الساقين، أنجل العينين، فى عينيه علامة، وبين كتفيه شامة، أبيض كأنّ وجهه فلقة قمر، يموت أبوه وأمّه، ويكفله جدّه وعمّه، قد ولدناه مرارا، والله باعثه جهارا، وجاعل له منّا أنصارا، يعزّ بهم أولياءه، ويدك بهم أعداءه، يضربون دونه

الناس عن عرض (1)، ويستفتح (2) بهم كرائم الأرض، يكسّر الأوثان، ويعبد الرحمن، ويخمد النيران، ويدحر الشيطان، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله. فقال عبد المطّلب: عزّ جدّك، وعلا كعبك، وطال عمرك، هل الملك سارّى بإفصاح؟، فقد أوضح لى بعض الإيضاح، فقال له الملك: والبيت ذى الحجب، والعلامات على النصب، إنّك يا عبد المطّلب، لجدّه غير الكذب. فخرّ عبد المطّلب ساجدا ثم رفع رأسه، فقال له الملك: ثلج صدرك، وعلا أمرك، وبلغ أملك فى عقبك، هل أحسست بشئ ممّا ذكرت لك؟ قال: نعم، أبيت اللعن، كان لى ابن كنت عليه مشفقا، وبه رفيقا، فزوّجته كريمة من كرائم قومى، آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فجاءت بغلام سمّيته محمّدا، خدلج الساقين، أكحل العينين، بين كتفيه شامة، وفيه كلّما قلت من علامة. فقال الملك: إنّ الذى قلت لكما قلت، فاحتفظ بابنك، واحذر عليه اليهود، فإنّهم له أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا، والله مظهر دعوته، وناصر شيعته، فأغض على ما ذكرت لك، واستره دون هؤلاء الرهط الذين معك، فلست آمن أن تدخلهم النفاسة، من أن تكون لكم الرياسة (3)،

فينصبوا لك (1) الحبائل، ويطلبوا لك (1) الغوائل، وهم فاعلون أو أبناؤهم، وإن عزّه لباهر، وإنّ حظّهم به لوافر، ولولا علمى أنّ الموت مجتاحى قبل مخرجه لسرت إليه بخيلى ورجلى، وصيّرت يثرب دار ملكى، حيث يكون بها مهاجرته، فأكون أخاه ووزيره، وصاحبه وظهيره، على من كاده وأراده، فإنّى أجد فى الكتاب المكنون، والعلم المخزون، أنّ بيثرب (2) استحكام أمره، وأهل نصره (3)، وارتفاع ذكره، وموضع قبره، ولولا الدمامة، بعد الزعامة، وصغر السنّ لأظهرت أمره وأوطأت العرب كعبه، على صغر سنّه، ولكنّى صارف (4) ذلك إليك من غير تقصير بك وبمن معك. ثم أمر لكلّ رجل من القوم بعشرة أعبد، وعشر إماء سود، وحلّتين من حلل البرود، وعشرة أرطال من فضّة، وخمسة من ذهب، وكرش (5) مملوءة عنبرا. أمر لعبد المطّلب بعشرة أضعاف ذلك، وقال: يا عبد المطّلب، إذا كان رأس الحول فأتنى بخبره وما يكون من أمره، فمات الملك قبل أن يحول الحول فكان عبد المطّلب يقول لأصحابه: لا يغبطنى أحد منكم بجزيل عطاء الملك، ولكن يغبطنى بما أسرّه إلىّ، فيقال له: ما هو؟ فيسكت (6). قلت: قد اشتمل هذا الحديث على ألفاظ لغوية مشكلة، هذا بيانها:

قوله: شامخا وباذخا، هما جميعا المرتفع العالى. وقوله: طابت أرومته، الأرومة هى الأصل، وهى فى الحقيقة التراب المجتمع المرتفع يكون فى أصول الشجر ونحوها. وقوله: بسق، معناه علا وارتفع. وقوله: أبيت اللعن، هذه كلمة كانت العرب تحيّى بها ملوكها فى الجاهليّة، واللعن هو الإبعاد، فقيل المعنى أنّك أبيت أن تأتى أمرا تلعن من أجله، وهذا عندى بعيد، وأظنّ المعنى أنّك أبيت أن تلعن وافدك وقاصدك (13) أى أبيت أن تبعده. وقوله: سدنة بيته، أى خدمته وحجبته. وقوله: وتحمّلنا منه ما لا نطيقه، يعنى غلبة الحبشة على بلاد العرب. وقوله: ملكا ربحلا، الربحل هو الضخم الطويل، وإنّما كنّى به عن عظم القدر. وقوله: عطاء جزلا، الجزل هو الغليظ والكبير من كلّ شئ. وقوله: احتجنّاه، أى ضممناه إلى أنفسنا وصنّاه عن غيرنا. وقوله: خدلج الساقين، أى ممتلئهما. وقوله: أنجل العينين، أى واسعهما. وقوله: فى عينيه علامة، يعنى الشكلة، وهى حمرة تمازج البياض، فكانت فى عينى النبىّ صلّى الله عليه وسلم. وقوله: يضربون الناس عن عرض، أى يضربون فى عرض لهم دونه، ولا يبالون من لقوا، ولا يحابون أحدا فيه، وعرض الشئ ناحية منه.

وقوله: يخمد النيران، يعنى نيران فارس التى يعبدونها، أخمدها الله برسوله صلّى الله عليه وسلم فأذهب ملكهم. وقوله: يدحر الشيطان، معناه يبعده. وقوله: على النصب هى أعلام حجارة منصوبة كانت للقبائل فى الجاهليّة، يذبح عندها ويلطّخونها بالدماء. وقوله: أغض على ما ذكرت، أى أخفه وأسرّه، وأصل الإغضاء مقاربة ما بين الجفون. وقوله: ثلج صدرك، أى برد، وهى كلمة يكنّى بها عن حصول اليقين. وقوله: النفاسة، وهى نوع من الحسد على الشئ النفيس. وقوله: الغوائل، هى المهلكات. وقوله: مجتاحى، أى مستأصلّى بالهلكة. وقوله: الدمامة، هى الصغر. وقوله: الزعامة، هى السيادة والرياسة. وقوله: يغبطنى، أى يحسدنى، والغبط والنفاسة وإن كانا من الحسد فقد يكون لهما وجه ببيحهما الشرع، والفرق بين الغبطة والحسد، أنّ الغابط يودّ أن يكون له مثل نعمة المغبوط من غير أن ينقص من نعمته شئ، وهو الذى يبيحه الشرع المطهر، والحاسد الذى يودّ أن تزول نعمة المحسود من غير أن يناله منها شئ (14) وهو الذى يحرّمه الشرع. وهذا الحديث هو الباعث لعبد المطّلب على أن قال: أنا أبو الحارث ما رميت غرضا إلا أصبته. يريد أن الذى كان يتفرّس فى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويظنّه به قد صحّ عنده بما أخبره به الملك من أمره.

الحديث الثانى: أنّ حليمة بنت أبى ذؤيب (1) السعديّة وهى ظئر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والظئر هى المرضعة، قالت: قدم علينا قائف، تعنى رجلا متفرّسا، لا تخطئ فراسته، والقافة قوم بأعيانهم من بنى مدلج، يتوارثون القيافة، وإنّما سمّوا قافة لأنّهم يقفون الشبه الذى يتبعونه، وكانت العرب تقضى بأحكام القافة إذا ألحقوا رجلا بقوم أو نفوه عنهم عملوا على ما قالوه: والمشرّع حكم فى القضاء بقولهم فى قضيّة مخصوصة (2) ليس هذا موضع ذكرها. قالت حليمة: فانطلق الناس بأولادهم إلى ذلك القائف، فلمّا نظر القائف إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلم أخذه فقبّله، ثم قال: ما ينبغى لهذا الغلام أن يكون فى بنى سعد، فقال له الحارث (3): صدقت، وهو مسترضع فينا، وهو ابنى من الرضاعة، فقال القائف: ارددوه على أهله، فإنّ له شأنا عظيما، وستفترق فيه العرب، ثم تجتمع عليه. ونحو ذلك ما روى من حديث جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه، قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو غلام يلعب، فرآه قوم من بنى مدلج، فرعوه بنظرهم ونظروا إلى قدميه، وفقده عبد المطّلب، فخرج فى طلبه حتى انتهى إليهم، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم بين أيديهم وهم يتأمّلونه، فقالوا له: احتفظ به فما رأينا قدما

أشبه بالقدمين اللتين فى المقام من قدميه، يعنون أثر إبراهيم الخليل صلوات الله عليه وسلّم (1). ونحو ذلك ما روى بإسناد متّصل يبلغ به شدّاد بن أوس (2)، أنّه حدّث أنّ رجلا من الكهّان ضمّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم إلى صدره، ثم نادى بأعلى صوته: يال العرب، يال العرب. . . اقتلوا هذا الغلام واقتلونى معه، فو اللاّت والعزّى لئن تركتموه وأدرك ليبدّلنّ دينكم وليسفّهنّ أحلامكم وعقول آبائكم، وليخالفنّ أمركم، وليأتينّكم بدين لم تسمعوا بمثله. وعن شدّاد بن أوس أيضا قال: بينما نحن جلوس مع النبىّ صلّى الله عليه وسلم أقبل شيخ من بنى عامر وهو مدره قومه يعنى الدافع عنهم بمقاله وفعاله، يتوكّأ على عصا، فمثل بين يدى النبى صلّى الله عليه وسلم ونسبه إلى جدّه، فقال: يا بن عبد المطّلب، إنّى أنبئت أنّك تزعم أنّك رسول الله إلى الناس، أرسلك بما أرسل به إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، ألا وإنّك فوّهت بأمر عظيم، وإنّما كانت الأنبياء والخلفاء فى بيتين من بنى إسرائيل، وأنت ممّن يعبد هذه الحجارة والأوثان، فما لك والنبوّة، ولكن لكلّ حقّ حقيقة مأتنى بحقيقة ذلك وبدء شأنك قال: فأعجب النبىّ صلّى الله عليه وسلم مسألته، وقال: يا أخا بنى عامر، إنّ لهذا الحديث الذى تسألنى عنه نبأ. فجلس فثنى رجله، ثم برك كما يبرك البعير، فاستقبله النبىّ صلّى الله عليه وسلم بالحديث، فقال: يا أخا بنى عامر، إنّ حقيقة قولى وبدء شأنى

أنّى دعوة (1) أبى إبراهيم، وبشرى (2) أخى عيسى، وأنّى كنت بكر أبى وأمّى، وأنّها حملتنى كأثقل ما تحمل النساء، وجعلت تشتكى إلى صواحبها ثقل ما تجد، ثم إنّ أمّى رأت فى المنام أنّ الذى فى بطنها خرج نورا، قالت: فجعلت أتبع بصرى النور، والنور يسبق بصرى حتى أضات لى مشارق الأرض ومغاربها، ثم إنّها ولدتنى فنشأت وقد بغّضت لى الأوثان وبغّض إلىّ الشعر، وكنت مسترضعا فى بنى سعد بن بكر، فبينا أنا ذات يوم منتبذ (3) (16) عن أهلى فى بطن واد مع أتراب لى من الصبيان إذ أنا برهط ثلاثة بادية، معهم طست من ذهب ملآن ثلجا، فأخذونى من بين أصحابى، فخرج أصحابى هرّابا حتى انتهوا إلى شفير الوادى، ثم أقبلوا على الرهط، فقالوا: ما أربكم إلى هذا الغلام فإنّه ليس منّا، هذا ابن سيّد قريش، وهو مسترضع فينا، غلام يتيم ليس له أب، فماذا يردّ عليكم قتله، وماذا تصيبون من ذلك؟ فإن كنتم لا بدّ قاتليه فاختاروا منّا أيّنا شئتم فليأتكم مكانه فاقتلوه ودعوا هذا الغلام، فإنّه يتيم. فلمّا رأى الغلمان أن القوم لا يحيرون جوابا انطلقوا هرّابا مسرعين إلى الحىّ يؤذنونهم ويستصرخون بهم. فعمد أحدهم فأضجعنى إلى الأرض إضجاعا لطيفا ثم شقّ بطنى ما بين مفرق

صدرى إلى منتهى عانتى، وأنا أنظر إليه لم أجد لذلك مسّا، ثم أخرج أحشاء بطنى ثم غسلها بذلك الثلج وأنعم غسلها ثم أعادها مكانها. ثم قام الثانى منهم، فقال لصاحبه: تنحّ، فنحّاه عنّى ثم أدخل يده فى جوفى فأخرج قلبى وأنا أنظر إليه، فصدعه، ثم أخرج منه مضغة سوداء ثم رمى بها ثم مال بيده يمنة منه كأنّه يتناول شيئا، فإذا بخاتم من نور يحار الناظر دونه فختم به قلبى فامتلأ نورا، وذلك نور النبوّة والحكمة، ثم أعاده مكانه، فوجدت برد ذلك الخاتم فى قلبى دهرا. ثم قال الثالث: تنحّ، فنحّاه عنّى ثمّ أمرّ بيده ما بين مفرق صدرى إلى منتهى عانتى فالتأم ذلك الشقّ بإذن الله تعالى، ثم أخذ بيدى فأنهضنى من مكانى إنهاضا خفيفا، ثم قال للأوّل الذى شقّ بطنى: زنه بعشرين من أمّته! فوزننى فرجحت، ثم قال: زنه بمائة من أمّته! فوزننى فرجحتهم، فقال: دعه! فلو وزنتموه بأمّته كلّهم لرجحهم. قال: ثم ضمّونى إلى صدورهم، وقبّلوا رأسى وما بين عينىّ، يعنى (17) الملائكة، وقالوا: لا ترع، فإنّك لو تدرى ما يراد بك من الخير لقرّت عينك، قال: فبينا نحن كذلك إذ أقبل الحىّ بحذافيرهم، وظئرى أمام الحىّ تهنف بأعلى صوتها، وتقول: يا ضعيفاه! قال: فانكبّوا علىّ وضمّونى إلى صدورهم وقبّلوا رأسى وبين عينىّ، يعنى الملائكة، وقالوا: حبّذا أنت من ضعيف، ثم قالت ظئرى: يا وحيداه! قال: فانكبّوا علىّ وضمّونى إلى صدورهم وقبّلوا رأسى وما بين عينىّ، يعنى الملائكة، وقالوا: حبّذا أنت من وحيد، وما أنت بوحيد، إنّ الله معك

وملائكته والمؤمنين من أهل الأرض، ثم قالت ظئرى: يا يتيماه، استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك، قال: فانكبّوا علىّ وضمّونى إلى صدورهم، وقبّلوا رأسى وما بين عينىّ، يعنى الملائكة، وقالوا: حبّذا أنت من يتيم، ما أكرمك على الله، لو تعلم ما يراد بك من الخير لقرّت عيناك. قال صلّى الله عليه وسلم: فوصلوا إلى شفير الوادى، يعنى الحىّ، قال: فلمّا أبصرتنى ظئرى، يعنى مرضعته، قالت: ألا أراك حيّا بعد؟ فجاءت انكبّت علىّ ثم ضمّتنى إليها وإنّ يدى لفى يد بعضهم، يعنى الملائكة. قال: فجعلت أنظر إليهم، فظننت أنّ القوم ينظرونهم، فقال بعض القوم: إنّ هذا الغلام قد أصابه لمم أو طائف من الجنّ، فانطلقوا به إلى كاهننا ينظر إليه ويداويه. قال النبىّ صلّى الله عليه وسلم: فقلت: يا هذا ما بى شئ ممّا تذكرون، إنّى أرانى سليما، وفؤادى صحيح، ليس بى غلبة، فقال أبى-وهو زوج ظئرى-: ألا ترون كلامه كلاما صحيحا، إنّى لأرجو أن لا يكون با بنى بأس. فاتّفقوا على أن يذهبوا بى إليه (1)، فلمّا قصّوا عليه قصّتى قال: اسكتوا حتى أسمع من الغلام فإنّه أعلم بأمره منكم. فسألنى فقصصت عليه أمرى من أوّله إلى آخره، فوثب إلىّ وضمّنى إلى صدره ونادى بأعلا صوته: يا للعرب، يا للعرب (18) اقتلوا هذا الغلام واقتلونى معه، فو اللاّت والعزّى لئن تركتموه وأدرك ليبدّلنّ دينكم وليسفّهنّ عقولكم وعقول آبائكم وليخالفنّ أموركم وليأتينّكم بدين لم تسمعوا بمثله. فعمدت ظئرى فانتزعتنى من حجره، وقالت: لأنت أعته وأجنّ، ولو

علمت هذا من قولك لما أتيتك به، فاطلب لنفسك من يقتلك فإنّا غير قاتلى هذا الغلام. فأصبحت مفزّعا ممّا عمل بى، وأصبح أثر الشقّ ما بين صدرى إلى عانتى كأنّه الشراك. ذلك حقيقة قولى وبدء شأنى يا أخا بنى عامر. فقال العامرى: أشهد بالله الذى لا إله غيره أنّ أمرك حقّ. ثم سأل العامرىّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم عن مسائل عدّة غيرها. ونحو ذلك ماروى بإسناده أنّ سادة قريش اجتمعوا فى دار الندوة يتشاورون وحضرهم قيل من أقيال اليمن، والقيل ملك دون الملك الأعلى من حمير، وكان ذلك القيل نافر إليهم ابن عمّه، أى حاكمه فى الرياسة، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم دار الندوة-وهو غلام-يدعو عمّه أبا طالب، فأشار إليه، فأتاه فناجاه، ثم خرجا معا. فقال ذلك القيل: يا معشر قريش، من هذا الغلام الذى يمشى تلعا (1) ولا يلتفت، وينظر مرة بعينى لبؤة مجرّبة، ومرة بعينى عذراء خفرة؟ قالوا: يتيم أبى طالب وابن أخيه، ثم قالوا له، أو من قال منهم: إنّ وصفك له لينبئنّ عن عظمة فى صدرك. فقال: أما ونسر، يعنى صنما كانت حمير تعبده، لئن بلغ هذا الغلام أشدّه ليميتنّ قريشا ثم ليحييها، ولقد نظر إليكم نظرة لو كانت سهما لا نتظم أفئدتكم فؤادا فؤادا. ثم نظر إليكم أخرى لو كانت نسيما لأنشرت الموتى، فقالوا له، أو من قال منهم: يا قيل حسبك، فإنّ الأمر غير ما تظنّ، فقال: سترون.

ونحو ذلك ما روى أنّ أكثم بن صيفى حكيم العرب تتّبع أبا طالب، فقال أكثم لأبى طالب: (19) يا بن عبد المطّلب، ما أسرع ما شبّ أخوك، يعنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال له أبو طالب: إنّه ليس بأخى، ولكنّه ابن أخى عبد الله، قال: ابن الذبيح؟! قال: نعم، قال أكثم: إنّى كنت رأيته فى حجر عبد المطّلب يوم أرسل السحاب إلى بلاد مضر (1)، فظننته ابنه، ثم جعل أكثم يتأمّل النبىّ صلّى الله عليه وسلم ويتفرّس فيه، ثم قال: يا بن عبد المطّلب، ما تظنوّن بهذا الفتى؟ فقال أبو طالب: إنّا لنحسن به الظنّ، وإنّه لحيىّ، جرىّ، سخىّ، وفىّ، فقال أكثم: هل غير ما تقول يا بن عبد المطّلب؟ قال: نعم، إنّه لذو شدّة ولين، ومجلس مكين، ومفصل مبين، فقال أكثم: هل غير ما تقول يا بن عبد المطّلب؟ فقال: نعم، إنّه لنتيمّن بمشهده، ونتعرّف البركة فيما لمس بيده، فقال أكثم: هل غير ما تقول يا بن عبد المطّلب؟ فقال أبو طالب: إنّه لغلام يعدّ، وآخرته أن يسود، ويتخرّق بالجود، ويعلو جدّه الجدود، فقال أكثم: لكنّى أقول غير هذا! قال أبو طالب: قل فإنّك نقّاب غيب، قال: أخلق با بن أخيك أن يضرب العرب قامطة، بيد خابطة، ورجل لابطة، ثم ينعق بهم إلى مرتع مريع، وورد تشريع، فمن اخرورط إليه هداه، ومن احرورف عنه أرداه. فقال أبو طالب: إنّ عندنا لدورا من ذلك. وقيل إنّ أكثم بن صيفى هذا عاش مائة وتسمين سنة، وقال فى ذلك: وإن امرأ قد عاش تسعين حجّة … إلى مائة لم يسأم العيش جاهل

ولمّا بلغه دعوة النبىّ صلّى الله عليه وسلم أمر قومه باتّباعه وحضّهم على طاعته، وأبى هو أن يسلم. وفى هذا الكلام من الغريب ما يجب شرحه: قوله: مجلس ركين، الركانة، وقار الحكم وطمأنينته. (20) وقوله: مفصل مبين، المفصل بكسر الميم الساق، والمبين المفصح ذو البيان. وقوله: يتخرّق بالجود، أى يتوسّع به ويفيضه فى كلّ جهة، والخرق الواسع العطاء. وقوله: يعلو جدّه الجدود، الجدّ بفتح الجيم العظمة وعلوّ القدر. وقول أبى طالب: إنّك لنقاب غيب، النقاب، والنّقاب، والنقيب: الذى يصيب بظنّه ما خفى عن غيره، كأنّه ينقب عن ذلك الشئ حتى يستخرجه. وقوله: جلاء ريب، أى كشف شكّ. وقوله: يضرب العرب قامطة، أى جميع العرب، والقمط هو الجمع. وقوله: بيد خابطة ورحل لا بطة، الخبط الضرب باليد، واللبط الضرب بالرجل. وقوله: ينعق بهم، أى يصرخ بهم، والراعى ينعق بالغنم. وقوله. مرتع مريع، المرتع حيث ترتع الماشية أى تأكل كيف شات، والمريع هو الخصيب. وقوله: ورد تشريع، التشريع أن يؤتى بالماشية الواردة إلى ماء ظاهر على وجه الأرض، فتمكّن من شريعته أى المدخل إليه فتشرب كيف شاءت من غير كلفة، ومنه المثل السائر: «إن أهون الورد التشريع».

وقوله: اخرورط إليه معناه: أسرع مقتحما، والاخروراط سير سريع لا يثنيه شئ. وقوله: احرورف عنه، هو مثل الحرف سواء فهو من الانحراف. وقوله: إنّ عندنا لدورا من ذلك، أى طرفا من العلم به. وهذا الحديث أيضا يتعلّق به حديثان نذكرهما جريا على الرسم فى إكمال الفائدة، وذلك ما رويناه (1) أنّ عبد المطّلب قيل له: احفر بئر زمزم، خبيئة الشيخ الأعظم (2)، فى مبحث الغراب الأعصم، بين الفرث والدم، عند قرية النمل. فانطلق إلى المسجد ينظر ما سمّى له، فخرّت بقرة بالجزورة، فانقلبت من الجازر بحشاشة نفسها (21) حتى غلبها الموت فى المسجد، بموضع زمزم، فجزرت البقرة فى مكانها ذلك، واحتمل لحمها فجاء غراب فوقع فى الفرث، فبحث عن قرية النمل، وقرية النمل مجتمعها ومأواها. فقام عبد المطّلب يحفر هناك، وكانت السيول قد دفنت زمزم وعفتها، فجاء سادة قريش فقالوا لعبد المطّلب: ما هذا الصنيع؟ إنّا لا نرميك بالجهل فما بالك تحفر فى مسجدنا؟ فقال عبد المطّلب: إنّى حافر هذه البئر، ومجاهد من صدّنى عنها. وطفق يحفر هو وابنه الحارث، ولم يكن له يومئذ ولد غيره، فسفّهه الناس من قريش ونازعوه، وانتهى عنه الأشراف لما يعلمونه من صدق عبد المطّلب واجتهاده فى دينهم، واشتدّ عليه الأذى من السفهاء، فنذر لئن ولد له عشرة من

الولد وبلغوا حتى يمتنع بهم ليذبحنّ أحدهم عند البيت لله، واحتفر البئر حتى بلغ ما أراد من الرىّ، وذلك قول خويلد بن أسد بن عبد العزى: أقول وما قولى عليهم بسبّة … إليك ابن سلمى أنت حافر زمزم حفيرة إبراهيم يوم ابن آجر … وركضه جبريل على عهد آدم فقال عبد المطّلب: ما وجدت أحدا ورث العلم الأقدم غير خويلد بن أسد. وقوله: يوم ابن آجر يريد إسماعيل بن هاجر عليه السلام، فأقلب الهاء ألفا. ولمّا تكامل بنو عبد المطّلب عشرة أخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء، فقالوا: إنّا نطيعك فمن تذبح منّا؟ فقال: ليأخذ كلّ رجل منكم قدحا، والقدح سهم بغير فصل، ثم ليكتب فيه اسمه، وليأتنّ به! ففعلوا، فأخذ قداحهم ودخل على هبل، وكان فى جوف الكعبة، وكانوا يعظّمونه ويضربون بالقداح عنده دائبا (22) فيستقسمون بها-أى يرتضون بما تقسم لهم-ولها قيمّ يضرب بها، فدفع عبد المطّلب إلى ذلك القيمّ القداح، وقام يدعو الله عزّ وجلّ، وهو يرى أنّ القدح إذا أخطأ عبد الله لم يبال من أصاب من بنيه، فخرج القدح على عبد الله. وأخذ الشفرة، ثم أقبل إلى أساف ونائلة، وكانا صنمين عند الكعبة ينحر ويذبح عندهما النسائك، فقام إليه سادة قريش فقالوا: ما تريد أن تصنع؟ فقال: أوفى بنذرى، فقالوا: لا ندعك حتى تعذر فيه إلى ربّك، ولئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتى بابنه فيذبحه وتكون سنّة. وقال له المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، والله لا تذبحه حتى تعذر فيه إلى ربّك، ولئن كان من أموالنا فداء له فديناه. وقالوا له: انطلق إلى فلانة الكاهنة، فلعلّها أن تأمرك بأمر فيه فرج لك،

فانطلقوا حتى أتوها بخيبر، فقصّ عليها عبد المطّلب خبره، فقالت: ارجعوا اليوم عنّى حتى يأتينى تابعى من الجنّ فأسأله! فرجعوا عنها ثم غدوا عليها فقالت: كم الدية فيكم؟ قالوا: عشرة من الإبل، فقالت: ارجعوا إلى بلادكم، ثم قرّبوا صاحبكم، وقرّبوا عشرة من الإبل، ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح، فإن خرجت القداح على صاحبكم فزيدوا فى الإبل، ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح، فإن خرجت القداح على صاحبكم فزيدوا فى الإبل، ثم اضربوا أيضا هكذا حتى يرضى ربّكم، فإذا خرجت على الإبل فانحروها فقد رضى ربّكم، وتخلّص صاحبكم. فرجع القوم إلى مكّة وقرّبوا عبد الله وقرّبوا عشرة من الإبل، وقام عبد المطّلب يدعو الله، فخرجت القداح على عبد الله، ولم يزل يزيد عشرا عشرا حتى بلغت الإبل مائة، فخرجت القداح على الإبل، فقال سادة قريش لعبد المطّلب: قد رضى ربّك، فقال: لا والله حتى أضرب بها ثلاث مرات، (23) فضربوها فخرجت على الإبل فنحرت الإبل، وتركت لا يصدّ عنها إنسان ولا طائر ولا سبع. وانطلق عبد المطّلب بابنه عبد الله من فوره حين أنجاه الله من الذبح فمرّ بالكعبة، وكانت أخت لورقة بن نوفل هناك، فرأت عبد الله فدعته، فجاءها، فقالت: أين تذهب؟ قال: مع أبى، فقالت له: هلاّك يا عبد الله أن تقع علىّ، فأعطيك مائة من الإبل مثل الذى نحرت عنك فدية، فقال لها: إنّى لا أستطيع فراق أبى، وانطلق معه فأتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة فأنكحه ابنته آمنة، وأدخل عليها مكانه، فعلقت منه لوقتها برسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولبث عندها ثلاثا ثم خرج، فمرّ بأخت ورقة بن نوفل، فلم تقل له شيئا، فقال لها: ما لك لم تعرضى

علىّ اليوم ما عرضت علىّ قبل؟ فقالت له: والله ما أنا بزانية، ولكن رأيت فى وجهك نورا كغرّة الفرس، فأحببت أن يكون فىّ، وأراه قد فارقك، فما الذى صنعت بعدى؟ فقال: زوّجنى أبى آمنة بنت وهب، فكنت عندها إلى وقتى هذا، فقال: أبى الله أن يجعله إلا حيث شاء، ثم أنشدت: إنّى رأيت مخيلة لمعت … فتلألات بتساير القطر ورأيت نورا قد أضاء له … ما حوله كإضاءه البدر لله ما زهريّة سلبت … نوريك (1) ما سلبت وما تدرى وهذا أحد الحديثين، وهو متعلّق بقول أكثم بن صيفى: أهو ابن الذبيح؟ ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم: «أنا ابن الذبيحين» عبد الله والآخر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام. وإن كان قد ذهب بعض العلماء إلى أنّ الذبيح إسحاق عليه السلام فإن صحّ هذا فالعرب (24) تجعل العمّ أبا، قال الله تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام: {وَاِتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ} (2)»، فسمّى إسماعيل أبا، وإنّما هو عمّه لقوله تعالى [على لسان يعقوب] (3): {ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي، قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ»} (4).

وأمّا الحديث الآخر، فهو متعلّق بقول أكثم بن صيفى أيضا: رأيته فى حجر عبد المطّلب يوم أرسل السحاب إلى بلاد مضر، ومعنى ذلك ما روى أنّ بلاد قيس ومضر أجدبت وأتت عليهم سنة ذات حطمة شديدة، فاجتمعوا إلى زعمائهم فتشاوروا، فقام أحدهم خطيبا فقال: يا معشر مضر، إنّكم أصبحتم فى أمر ليس بالهزل، وقد بلغنا أنّ صاحب البطحاء استسقى فسقى، وشفّع فشفع، فاجعلوا قصدكم إليه واعتمادكم عليه، فارتحلت قيس ومضر ومن داناهم حتى أتوا مكّة، ودخل ساداتهم على عبد المطّلب، فحيّوه، فقال: أفلحت الوجوه، وسألهم عمّا قصدوا فقام خطيبهم فقال: أبا الحارث [نحن] (1) ذوو رحمك الواشجات (2)، أصابتنا سنون مجدبات، وقد بان لنا أثرك، ووضح عندنا خبرك، فاشفع لنا إلى شفيعك! فقال عبد المطّلب: موعدكم جبل عرفات. ثم خرج من مكّة وولده وولد ولده وفيهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو ابن ستّ سنين أو نحوها، فركب عبد المطّلب ناقة وسدّل عمامته ذؤابتين على غارب ناقته، وكان برايته صفائح الفضّة، حتى انتهى إلى عرفات، فنصب له كرسىّ فنزل عليه، وجلس متربّعا، وقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين يدى الكرسىّ، فأخذه عبد المطّلب، فأجلسه فى حجره، وقال: اللهم ربّ البرق الخاطف، والرعد القاصف، والقطر الواكف، وربّ الأرباب (25) ومسبّب الأسباب، ومنشئ السحاب، هذه قيس ومضر، خير البشر، قد شعثت شعورها، وحدبت ظهورها، يشكون شدّة

الهزال، وذهاب الأموال، فارخ اللهم لهم سحابا خوّارة، وسماء خرّارة، تضحك أرضهم، وتذهب ضرّهم. فما استتمّ كلامه حتى نشأت سحابة دكناء فيها دوىّ، فقال عبد المطّلب مخاطبا للسحابة: هذا أوانك، سحّى سحّا، وانهلى سمحا! ثم قال: يا معشر قيس ومضر، ارجعوا إلى بلادكم، فقد سقيتم! فرجعوا إلى بلادهم، وقد كثرت أمواهها، واخضرّ صحراها. قلت: إنّما كانت السّقيا ببركة سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأحسب أنّ عبد المطّلب تعمد أخذه إلى حجره لذلك، وقد صنع أبو طالب مثل هذا حين استسقى لمضر بعد موت عبد المطّلب، فإنّه قام على قدميه، واحتمل النبىّ صلّى الله عليه وسلم على كتفه، وكان صلّى الله عليه وسلم قد أربى على تسع سنين، لم يكن مثله يحمل على الكتف لغير ضرورة. وفى هذا الحديث ألفاظ لغوية نزيل اللبس عنها: قوله: ذوو رحمك الواشجات، أى المشتبكات (1)، وإنّما جمع نعت الرحم يريد الأرحام. وقوله: فارخ اللهم لهم سحابا، أى سقها إليهم، أرخيت معناها: سقت سوقا رفيقا. وقوله: خوّارة، أى ضعيفة تسحّ ولا تستمسك. وقوله: خرّارة، أى تسمع لها ولسيولها خريرا، أى صوتا. وبعد، فإنّى لم أعتمد فيما قدّمت من القول عن صدق الفراسة فيمن أهّله

الله تعالى لحمل رسالاته، والتحدّى بآياته، وأضفى عليه سرابيل كراماته، وكلأه بحفظ معقّباته (1)، فإنّ من كان من الله سبحانه بعظيم هذه المنزلة، فخطبه جليل، وعليه لكلّ عين دليل. وإنّما صدّرت (26) هذه الدرر الفريدة، والكلمات المفيدة، إذ بدأنا بذكرها، وتزيّنا بفخرها، إذ هى من صحح الأحاديث الواردة، المتّفق على صحّتها من رجال الحديث المتواردة (2)، ولا طمع فى إحصاء جميع شواهد آياته، ولا إحصار معجزاته، ولنبدأ بتلخيص ما تصل القدرة من ذكره، إذ كل فصيح وبليغ يعجز عن أداء واجبات شكره. وكفله بعد موت أبيه بخمسة أيام جدّه عبد المطّلب، فلمّا حضرته الوفاة، أوصى به أبا طالب عمّه، وعمره يومئذ صلّى الله عليه وسلم ثمانى سنين، وقيل أكثر، وقيل أقلّ، فأحسن تربيته، إلى أن ملك نفسه صلّى الله عليه وسلم، وانفرد عنه. وكان أبو طالب قد خرج إلى الشام تاجرا، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم معه فرآه بحيرا الراهب فعرفه بعلامة النبوّة والصفة التى كانت عنده، فقال لعمّه، أتحبّ هذا الغلام؟ قال: نعم، فقال: والله لئن عاينه اليهود ليقتلنّه، فإنّه عدوّهم! وأشار على عمّه بردّه إلى مكّة، فردّه، وأقام بها إلى أن بلغ خمسا وعشرين سنة. ثم خرج إلى الشام لتجارة خديجة بنت خويلد، ثم عاد إلى مكّة، فتزوّجها بعد ذلك بشهرين.

ولذلك أنّه لمّا عاد من تجارة خديجة، ورأى منه ميسرة فى طريقه من المعجزات ما أبهره، عرّف ذلك لسيّدته خديجة، فطلبته إلى عندها وخطبته لنفسها، وقالت: يا ابن العمّ، إنّى رغبت فيك لقرابتك منّى، وشرفك فى قومك وأمانتك عندهم، وصدق حديثك، فلمّا قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ذلك خرج فعرّف عمومته، فخرج معه حمزة بن عبد المطّلب، حتّى دخل على خويلد ابن أسد فخطبها إليه، ثم حضر أبو طالب، ورؤساء مضر، فخطبها أبو طالب فقال: الحمد لله الذى جعلنا من ذرّية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضئ معدّ (1)، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته وسوّاس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا، وحرما آمنا، وجعلنا الحكّام على الناس، ثم إنّ ابن أخى هذا محمّد ابن عبد الله، لا يوزن به رجل إلاّ رجح به، فإن كان فى المال قلّ فإنّ المال ظلّ زائل، وأمر حائل، ومحمّد من قد عرفتم [قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالى كذا، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطب جليل] (2). فتزوّجها وله من العمر خمس وعشرون سنة وشهران وعشرة أيّام، وهى يومئذ ابنة ثمان وعشرين سنة.

وروى أنّه أصدقها اثنتى عشرة أوقيّة ذهب فبقيت عنده قبل الوحى خمس عشرة سنة، وبعده إلى قبل الهجرة بثلاث سنين. وماتت ولرسول الله تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وكانت له وزير صدق. روى أنّ آدم عليه السلام قال: «إنّى سيد البشر يوم القيامة، إلا رجلا من ذرّيتى، فضّل علىّ باثنتين: كانت زوجته عونا له وكانت زوجتى عونا علىّ، وأعانه الله على شيطانه فأسلم وكفر شيطانى». وقال رسول صلّى الله عليه وسلم: «أمرت أن أبشّر خديجة ببيت فى الجنّة من قصب (1) لا صخب فيه ولا نصب». وأتى جبرائيل النبىّ صلّى الله عليه وسلم فقال: «أقرئ خديجة من ربّها السلام، فقالت: الله السلام، ومنه السلام، وعلى جبرائيل السلام». فلمّا بلغ خمسا وثلاثين سنة شهد بنيان الكعبة وتراضت قريش بحكمه، وكان صلّى الله عليه وسلم يدعى بينهم بالأمين. فلمّا بلغ أربعين سنة بعثه الله لكافّة الخلق أجمعين، ووكل به إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين، ولم ينزل القرآن العظيم على لسانه حتى جاء جبرائيل عليه السلام بالقرآن والرسالة، فدعا إلى الدين، فأجابه السابقون الأوّلون مثل علىّ بن أبى طالب، وزيد بن حارثة، وأبى بكر، وسعد بن أبى وقّاص، ومن تلاهم للإيمان.

(27) وأوّل من أسلم من النساء خديجة رضى الله عنها، ثم إنّ أهل العلم يقولون إنّها أوّل من أسلم من الناس، وإنّ عليّا عليه السلام تلاها، وهل كان بالغا أو صبيّا؟ ففى ذلك خلاف. وأمّا المتفّق عليه فإنّ أوّل من أسلم من الرجال أبو بكر رضى الله عنه ومن الشباب علىّ عليه السلام، ومن الموالى زيد بن حارثة رضى الله عنه ومن النساء خديجة رضى الله عنها، هذا لا خلاف فيه بوجه من الوجوه. ولمّا رأى المشركون ذلك خالفوه وعاندوه وهمّوا بقتله، فأجاره عمّه أبو طالب، وماتت خديجة بعده بخمسة أيّام، فبان أثر موتهما على النبىّ صلّى الله عليه وسلم. وقيل كان المبعث لمائة وخمسين من عام الغدر، ولعشرين سنة من ملك أبرويز بن هرمز، وكان جبرائيل عليه السلام أتاه بغار حراء-جبل بمكّة- كان يتعبّد فيه الليالى ذوات العدد، فقال: اقرأ! فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذ بيدى فغطّنى حتى بلغ منّى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ! فقلت: ما أنا بقارئ، فقال: «اقرأ باسم ربّك الذى خلق إلى قوله علّم الإنسان ما لم يعلم» فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ترجف بوادره، حتى دخل على خديجة، فقال: «زمّلونى زمّلونى» فزمّلوه حتّى ذهب عنه الروع، ثم قال: «أى خديجة»، وأخبرها الخبر، وقال: «لقد خشيت على نفسى»! قالت له خديجة: أبشر، والله لا يخزيك الله أبدا، إنّك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحقّ. فانطلقت به حتى أتت به ورقة بن نوفل، وهو ابن عمّها، وكان امرأ قد

ذكر المؤذين له صلى الله عليه وسلم من قريش

تنصّر-وقد تقدّم خبره فى الجزء الأوّل من هذا التأريخ فى ذكر المبشّرين بسيّد المرسلين-فقالت له: «أى ابن عمّ، اسمع من ابن أخيك»! فقال له: «ماذا ترى يا بن أخ»؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: «بعد الناموس الذى أنزل على موسى؟ يا ليتنى فيها جذعا، يا ليتنى أكون حيّا حين يخرجك قومك»! فقال صلّى الله عليه وسلم: «أو مخرجىّ هم»؟ قال: «نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما أتيت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزّرا»، ثم لم ينشب ورقة أن توفّى. ثم أقام بمكّة، فى أكثر الروايات، عشر سنين سوى الثلاث الأول، وخرج إلى الغار-غار ثور-الاثنين لثلاث بقين من صفر، وخرج منه يوم الأحد لأربع خلون من شهر ربيع الأول، وله ثلاث وخمسون سنة، وذلك فيما ذكره الحسّاب، وأقام فى المدينة عشر سنين، لا اختلاف فى ذلك. ذكر المؤذين له صلّى الله عليه وسلم من قريش أبو لهب بن عبد العزّى بن عبد المطّلب، والحكم بن [أبى] (1) العاص ابن أميّة، وعقبة بن أبى معيط، وعمر بن الطلاطلة الخزاعى، لم يسلم أحد من هؤلاء إلاّ الحكم بن [أبى] العاص، وهو الطريد (2)، وكان مغموزا فى دينه على ما ذكر، والله أعلم.

ذكر المستهزئين به صلى الله عليه وسلم من قريش

ذكر المستهزئين به صلّى الله عليه وسلم من قريش قال أبو عبيدة، قال: قال عبد الرّحمن بن شبيب بن شبة، فى قوله تعالى لنبيّة صلّى الله عليه وسلم: «إنا كفيناك المستهزئين»، الآية، أى أظهر أمرك (28) فقد كفيناك الذين كانوا يستهزئون بك ويؤذونك، هلكوا بمكّة فى يوم واحد، وكانوا خمسة نفر من قريش، وهم الوليد بن المغيرة المخزومىّ، والعاص بن وائل السهمىّ، والحارث بن قيس السهمىّ، وهبّار بن الأسود بن المطّلب (1)، والأسود بن عبد يغوث الزهرىّ، وهو ابن خال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابن أخى آمنة، أهلكهم الله فى يوم واحد. ذكر المؤلّفة قلوبهم من قريش وغيرها أبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزّى، وهبّار ابن الأسود، والحارث بن هشام، وحكيم بن حزام، وصفوان بن أميّة. وقيس ابن عدىّ، هؤلاء من قريش، ومن فزارة: عيينة بن حصن الفزارىّ وهو الأحمق (2) المطاع الذى ورد فيه الحديث، ومن تميم: الأقرع بن حابس التميمىّ، ومن النصر: مالك بن عوف النصرىّ، ومن مالك: عبد الرحمن بن يربوع المالكىّ، ومن سليم: العبّاس بن مرداس السلمى، ومن ثقيف: العلاء بن الحارث الثقفى، فهؤلاء المؤلّفة قلوبهم من أهل مكّة، والله أعلم.

ذكر أصول قريش وفروعها وشعوبها وقبائلها

ذكر أصول قريش وفروعها وشعوبها وقبائلها وأمّا قبائل قريش فمنهم بنو هاشم بن عبد مناف بن قصىّ، منهم سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومنهم علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه، ومنهم بنو أميّة ابن عبد شمس بن عبد مناف بن قصىّ، منهم عثمان بن عفّان رضى الله عنه، ومنهم معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه. ومن قريش بنو عبد المطّلب بن قصىّ، منهم الزبير بن العوّام رضى الله عنه، ومنهم خديجة رضى الله عنها. ومن قريش بنو زهرة بن كلاب بن قصىّ بن كلاب (29)، منهم عبد الرحمن ابن عوف، وسعد بن أبى وقّاص رضى الله عنهما، ومنهم آمنة أمّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم. ومن قريش بنو تيم بن مرّة بن كعب بن لؤىّ بن غالب، منهم أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه. ومنهم طلحة بن عبد الله رضى الله عنه. ومن قريش بنو عدىّ بن كعب بن لؤىّ بن غالب، منهم عمر الفاروق رضى الله عنه، ومنهم سعيد بن زيد رضى الله عنه. ومن قريش بنو مخزوم بن يقظة بن مرّة بن كعب، منهم خالد بن الوليد رضى الله عنه. ومن قريش بنو سهم وبنو أخيه جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤىّ ابن غالب، ومن بنى سهم عمرو بن العاص رضى الله عنه. ومن قريش بنو حيسل (1) بن عامر بن لؤىّ بن غالب، منهم سهيل بن عمرو.

ومن قريش بنو هلال بن لهيب بن ضبّة بن الحارث بن فهر بن مالك ابن النضر، منهم أبو عبيدة بن الجرّاح رضى الله عنه. فهؤلاء قريش البطاح، سمّوا بذلك لأنّهم دخلوا بطحاء مكّة مع قصىّ، فأقاموا بها مع قصىّ، ولم يكن أحد قبلهم يجترئ على أن يسكن لمجاورة الكعبة حتى افتتح ذلك قصىّ، وكانت قريش تهيّبت أن تطيعه فى ذلك وخافت أن ينكر العرب عليها سكناها عند الكعبة، فلمّا كان وقت الحجّ نحر قصىّ على طرقات الحجيج الإبل ونحر بمكّة أيضا، وصنع الثريد، وهو أوّل من أطعم الحجّاج وسقاهم، فقال راجزهم فى ذلك: إن الحجيج طاعمين دسما … نحر الحسا مستحقين الشحما أوسعهم زيد قصىّ لحما … ولبنا مخيضا وخبزا هشما (1) ومن قريش أيضا الظواهر، وهم الذين لزموا ظواهر الحرم، فأقاموا ببادية مكّة ولم يدخلوا بطحاءها مع قصىّ، منهم بنو بغيض (2) بن عامر بن لؤىّ ابن غالب، ومنهم بنو الأدرم بن غالب، والأدرم لقب، (30) فهو بنو تيم ابن غالب أخو لؤىّ بن غالب، ومنهم بنو محارب والحارث ولدى الفهر بن مالك ابن النضر-سوى بنى هلال بن لهيب بن ضبّة بن الحارث الذين ذكرنا أنّهم دخلوا مكّة البطحاء فأوطنوها-فسمّوا قريش الظواهر. ومن قريش أيضا قبائل ليست بأبطحيّة ولا ظاهريّة، فمنهم بنو أسامة بن غالب، لحقوا بعمان، ومنهم بنو خزيمة بن لؤىّ بن غالب، لحقوا بنى شيبان،

ذكر الأعياص من بنى أمية ابن عبد شمس

ومنهم بنو سعد بن لؤىّ بن غالب، لحقوا بغطفان، فهؤلاء ليسوا بخميس وكانت الخميس أمورا جاهليّة شرعوها لأنفسهم، واختصّوا بها دون غيرهم على معنى التديّن، يأتى ذكرها فى موضعها إن شاء الله تعالى. ذكر الأعياص من بنى أميّة ابن عبد شمس كانت لأميّة بن عبد شمس بن عبد مناف أحد عشر ذكرا، كلّ واحد منهم يكنّى باسم أخيه، وهم: العاص، وأبو العاص، والعيص، وأبو العيص، وعمرو، وأبو عمرو، وحرب، وأبو حرب، وسفيان، وأبو سفيان، والعويص لا كنية له. فهؤلاء الأعياص فيما أخبر به حرمى بن أبى العلاء واسمه أحمد بن محمد بن إسحاق، والطوسىّ واسمه أحمد بن سليمان، قالا: حدثنا الزبير بن بكّار عن محمّد ابن الضحّاك عن أبيه، قال: الأعياص: العاص، وأبو العاص، والعيص، وأبو العيص، والعويص. وأمّا المنابس: فهم حرب، وأبو حرب، وعمرو، وأبو عمرو، وسفيان، وأبو سفيان، وإنّما سمّوا العنابس لأنّهم ثبتوا مع أخيهم حرب بن أميّة بعكاظ، وعقلوا أنفسهم فقاتلوا أشدّ قتال فشبّهوا بالأسد، والأسد يقال لهم العنابس، واحدها عنبسة. وفى الأعياص يقول عبد الله بن فضالة بن شريك: من الأعياص أو من آل حرب … أغرّ كغرّة الفرس الجواد وسيأتى ذكر سبب قوله هذا البيت فى جملة أبيات عند ذكر عبد الله بن الزبير إن شاء الله تعالى.

وقال الهيثم بن عدىّ فى كتاب المثالب: إنّ عمرو بن أميّة كان عبدا لأميّة اسمه ذكوان فاستلحقه، وهو أبو أبى معيط، واسم أبو معيط أبان، وهو جدّ أبو قطيفة الشاعر المشهور، واسمه عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبى معيط، وهو القائل: القصر فالنخل فالجمار بينهما … أشهى إلى القلب من إيوان جيرون إلى البلاط فما حازت قرائنه … دور نزحن عن الفحشاء والهون قد تكتم الناس أسرارا فأعلمها … ولا ينالون حتى الموت مكنونى الشعر لأبى قطيفة المذكور، واللحن فيه لمعبد، ولأهل مكّة والمدينة مع الحجاز فى ذلك الوقت كانت عناية كبيرة بهذا الشعر ممّا يأتى ذكر بعض شئ منه فى موضعه اللائق به إن شاء الله تعالى. ولمّا بلغ صلّى الله عليه وسلم إحدى وخمسين سنة قدم عليه جنّ نصيبين فأسلموا. وفيها أسرى به صلّى الله عليه وسلم، وله من العمر إحدى وخمسون سنة وتسة أشهر، من بين زمزم والمقام إلى بيت المقدس، فشرح صدره فاستخرج قلبه فغسل بماء زمزم، ثم أعيد مكانه حتى حشى إيمانا وحكمة (1)، ثم أتى بالبراق فركبه، وعرج به إلى السماء، فأخبر صلّى الله عليه وسلم أنّه لقى آدم فى سماء الدنيا، وفى الثانية عيسى ويحيى، وفى الثالثة يوسف، وفى الرابعة إدريس، وفى الخامسة هارون، وفى السادسة موسى،

وفى السابعة إبراهيم، مسندا ظهره إلى البيت المعمور صلوات الله عليهم أجمعين، وفرض على أمتّه الصلوات الخمس. ولمّا بلغ ثلاثا وخمسين سنة هاجر من مكّة إلى المدينة، وكانت هجرته يوم الاثنين لثمان خلون من ربيع الأوّل (1)، وكان دخوله المدينة يوم الاثنين، وكانت إقامته بمكّة بعد النّبوّة ثلاث عشرة سنة. وكان يتبع الناس فى منازلهم بعكاظ ومجنّة، وفى المواسم يقول: من يؤوينى؟ من ينصرنى حتى أبلّغ رسالة ربّى وله الجنّة، فيمشى بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع حتى بعث الله الأنصار فآمنوا، وكان الرجل منهم يسلم ثم ينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلاّ وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام. وكان يصلّى إلى بيت المقدس تلك المدّة ولا يستدبر الكعبة بل يجعلها بين يديه، وصلّى بعد قدومه إلى المدينة بيت المقدس سبعة عشر شهرا أو ستة عشر شهرا. ولمّا هاجر عليه السلام كان معه أبو بكر الصدّيق، ومولى له يقال له عامر ابن فهيرة ودليلهم عبد الله بن الأريقط (2) الليثىّ، وهو كافر ولم يعرف له إسلام. قال أبو بكر: أسرينا ليلتنا ويومنا حتى إذا قام قائم الظهيرة وانقطع الطريق، ولم يمرّ أحد، رفعت لنا صخرة لها ظلّ [لم تأت عليه الشمس، قال: فسوّيت

للنبىّ صلّى الله عليه وسلم مكانا فى ظلّها، وكان معى فرو ففرشته، وقلت للنبىّ صلّى الله عليه وسلم: نم حتى أنفض ما حولك (1)]، فخرجت فإذا أنا براع قد أقبل يريد من الصخرة مثل الذى أردنا، وكان أتاها قبل ذلك، فقلت: يا راعى لمن أنت؟ قال: لرجل من أهل المدينة [يعنى مكة] (1)، قال: فقلت: هل فى شاتك من لبن؟ قال: نعم! فجاءنى بشاة فجعلت أنفض الغبار عن ضرعها ثم حلبت فى إداوة معى كثبة من لبن، وكان معى ماء للنبىّ صلّى الله عليه وسلم، قال: فصببت (2) على اللبن من الماء لأبرّده، وكنت أكره أن أوقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال: فوافيته حين قام من نومه، فقلت: اشرب يا رسول الله! قال: فشرب حتى رضيت، فقال لأبى بكر: ما آن الرحيل؟ قال: قلت: بلى: فارتحلنا حتى إذا كنّا بأرض صلبة جاء سراقة ابن مالك بن جعشم، فبكى أبو بكر، فقال: يا رسول الله قد أتينا، قال: كلاّ! ودعا صلّى الله عليه وسلم بدعوات، فارتطم فرسه إلى بطنه، فقال: قد أعلم أنّ قد دعوتما علىّ، فادعوا لى، ولكما علىّ أن أردّ الناس عنكما ولا أضرّكما، قال: فدعا له فرجع ووفّى وجعل يردّ الناس. وقيل كان الإسراء بعد قدومه من الطائف بسنة ونصف، وفيها هاجر إلى المدينة وله ثلاث وخمسون سنة، وغزا بنفسه الشريفة صلّى الله عليه وسلم ستّا وعشرين غزوة تأتى أسماؤها فى سنيها بعد ذلك إن شاء الله تعالى. ولم يحجج بعد الهجرة إلاّ حجّة الوداع، وإنّه صلّى الله عليه وسلم حجّ قبل النبوّة حجّات لم يتّفق العلماء على عددها، وقد اعتمر بعد الهجرة أربع عمر صلّى الله عليه وسلم.

ذكر شئ من بعض كلامه صلى الله عليه وسلم مما لم يسبق إليه

ذكر شئ من بعض كلامه صلّى الله عليه وسلم ممّا لم يسبق إليه (32) فمن ذلك ألفاظ لم يسبقه أحد إليها، قوله: إيّاكم وخضراء الدمن. كل الصيّد فى جوف الفرا. مات فلان حتف أنفه. لا ينتطح فيها عنزان. هدنة على دخن (1) وجماعة على أقذاء. إنّ المنبتّ لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع. نصرت بالرّعب وأوتيت جوامع الكلم. الآن حمى الوطيس. الإيمان قيد القتل. يا خيل الله اركبى. اشتدّى أزمة تنفرجى. ومن ذلك ما أجراه فى عرض كلامه صلّى الله عليه وسلم تتمثّل به الناس قوله: حوالينا ولا علينا. جواها يد مدّت. سلمان منّا أهل البيت.

منى مناخ من سبق. نبدأ بما بدأ الله به. اعقل وتوكّل. زرغبّا تزدد حبّا. ومن ذلك تشبيهاته وتمثيلاته صلّى الله عليه وسلم قوله: الناس كأسنان المشط وإنّما يتفاوتون العافية. الناس كمعادن الذّهب والفضّة، خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام. المؤمن هيّن ليّن، [المؤمن] (1) كالجمل الأنف، إن قيد انقاد وإن نيخ على صخرة استناخ. عترتى كسفينة نوح، من ركب فيها نجا ومن تخلّف عنها هلك. أصحابى كالنّجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم. مثل أصحابى كالملح، لا يصلح الطعام إلاّ به. أمّتى كالمطر لا يدرى أوّله خير أم آخره. مثل أبى بكر كالقطر أينما وقع نفع. إنّ للقلوب صدأ كصدأ الحديد وجلاؤها الاستغفار. عمّالكم كأعمالكم، وكما تكونون يولّى عليكم. وقوله عليه السلام لمّا كتب كتاب المهادنة بينه وبين سهيل بن عمرو: العقد بيننا كشرج العيبة، يعنى متى انحلّ بعضه انحلّ جميعه. وقوله: الدالّ على الخير كفاعله.

المرأة ضلع عوجاء، (33) إن قوّمتها كسرتها وإن داريتها استمتعت بها على عوج. لو توكّلتم على الله حقّ توكّله لرزقكم كالطير، تغدو خماصا وتعود بطانا. وعد المؤمن كالأخذ باليد. الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخلّ الملح. من نظر فى كتاب أخيه بغير إذنه فكأنّما ينظر فى النار. العائد فى هبته كالعائد فى قيئه. مثل المؤمن كالنحلة لا تأكل إلاّ طيّبا ولا تضع إلاّ طيّبا. مثل المؤمن كالسنبلة تميل أحيانا وتعتدل أحيانا. مثل الجليس السوء كصاحب الكير إن لم يحرق ثوبك آذاك بدخانه، ومثل الجليس الصالح كالعطّار إن لم تصب من عطره أصبت من رائحته. علم لا ينفع ككنز لا ينفق منه. ومن حسن استعاراته صلّى الله عليه وسلم قوله: المؤمن مرآة أخيه المؤمن. جنّة الرجل جاره. من كنوز البرّ كتمان الصّدقة، والمرض، والمصيبة. دفن البنات من المكرمات (1).

داووا مرضاكم بالصدقة. قد جدع الحلال أنف الغيرة. صدقة السرّ تطفئ غضب الربّ. الودّ والعداوة يتوارثان. العلماء ورثة الأنبياء. من هدم بنيان الله فهو ملعون، لعين من قتل نفسا. الحمّى رائد الموت وسجن الله فى الأرض وقطعة من النار. الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر. اتّقوا دعوة المظلوم فإنّها ليّنة الحجاب. الخلق عيال الله وأحبّهم إليه أبرّهم بعياله. الاسمّاع إلى الملهوف صدقة. الحكمة ضالّة المؤمن. اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله. أكثروا ذكر هاذم اللّذات، يعنى الموت. رأس العقل بعد الإيمان بالله التودّد إلى النّاس. هل يكبّ الناس على مناخرهم إلاّ حصائد ألسنتهم. اليوم الرهان وغدا السباق (34) والجنّة الغاية. المعاصى حمى الله ومن يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه. ومن ذلك حسن الطباق، كقوله صلّى الله عليه وسلم: حفّت الجنّة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات. جبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها وبغض من أساء إليها.

ذكر للشبهين به صلى الله عليه وسلم من قريش وغيرها

الأرواح جنود (1) مجنّدة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف. احذروا من لا يرجى خيره ولا يؤمن شرّه. وكقوله للأنصار: إنّكم لتقلّون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع. ومن ذلك حسن التجنيس، كقوله صلّى الله عليه وسلم: الظّلم ظلمات يوم القيامة. ليس الأعمى من عمى بصره، ولكنّه من عميت بصيرته. إنّ ذا الوجهين لا يكون وجيها عند الله. المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. المؤمن من أمنه الناس على أنفسهم. وكلامه البديع صلّى الله عليه وسلم أكثر من أن يحصى جمعه، أو يطمع فى معانى شرحه، وإنّما ذكرنا هذه الكلمات للتبرّك بها فى كتابنا، وللنجح فى مقصدنا ومرامنا. ذكر للشبّهين به صلّى الله عليه وسلم من قريش وغيرها جعفر بن أبى طالب، رضى الله عنه، وجاء عنه صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «أشبهت خلقى وخلقى يا جعفر. والحسن بن علىّ بن أبى طالب صلوات الله عليهما، وكانت أمّه فاطمة، صلوات الله عليها لمّا ترقّصه فى حال صغره نقول: وأتانى شبيه أبى، غير شبيه بعلىّ، وقثم الشهيد بسمرقند (2)، وكاس بن ربيعة، وقيل لمعاوية بن أبى سفيان

ذكر زوجاته أسماء من غير نسبة

إنّ كاس بن ربيعة به شبه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأشخصه، فلمّا رآه من باب الدار قام له قائما وقبّل بين عينيه وأقطعه المرغاب. ذكر زوجاته أسماء من غير نسبة وسيأتى ذكر نسبتهن إن شاء الله تعالى، (35) أمّا زوجاته صلّى الله عليه وسلم فإنّه تزوّج بعد خديجة رضى الله عنها: سودة، ثمّ عائشة، ثمّ حفصة، ثمّ أمّ سلمة (1)، ثمّ جويرية، ثمّ زينب بنت جحش، ثمّ زينب بنت خزيمة، ثمّ ريحانة، ثمّ أمّ حبيبة، ثمّ صفيّة، ثمّ ميمونة، ثمّ تزوّج فاطمة بنت الضحّاك، وأسماء بنت النعمان، وفيهما خلاف، والمتّفق عليه أنّهن إحدى عشرة امرأة (2)، مات صلّى الله عليه وسلم عن تسع، ومات فى حياته منهنّ خديجة وزينب بنت خزيمة رضى الله عنهما. وأمّا سراريه فهنّ أربع: مارية القبطيّة أمّ إبراهيم ولده وماتت فى خلافة عمر بن الخطّاب رضى الله عنه سنة ستّ عشرة للهجرة، وريحانة، وأخرى وهبتها له زينب بنت جحش. وأخرى أصابها فى بعض السبى، لم أقف على اسميهما.

ذكر أولاده الذكور والإناث جملة من غير تفصيل لما يأتى بعد ذلك

ذكر أولاده الذكور والإناث جملة من غير تفصيل لما يأتى بعد ذلك أمّا أولاده صلّى الله عليه وسلم، فثمانية ذكور وإناث، فالذكور: القاسم وبه كان يكنى، وعبد الله، والطّاهر، وإبراهيم، والإناث: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة صلوات الله عليهم أجمعين، وكلّهم من خديجة خلا إبراهيم فإنّه من مارية. وكان له عليه السّلام اثنا عشر عمّا-وقيل تسعة-والأصحّ عشرة، وستّ عمّات. وكان ابتداء مرضه الّذى مات فيه من صداع عرض له، وكان مدّة مرضه صلّى الله عليه وسلم عشرين يوما، وقيل ستّة عشر يوما، وقيل أربعة عشر يوما، كما يأتى بيانه فى تاريخ سنة وفاته صلّى الله عليه وسلم. قلت: ولنبتدئ من هاهنا بذكر سياقة التّاريخ كلّ سنة من أوّل عام الهجرة، ونقدّم قبل كلّ حادث حدث فى تلك السنة حال النيل (36) المبارك، إذ شرطنا سبق بذلك فى الجزء الأوّل من هذا التّاريخ. وقد تقدّم من العبد القول أيضا فى أمر النيل، ومبتدأ أمره، ومن كان المغتنى بجريانه فى أوّل زمان، وكيفيّة ما رتّبه من حين خروجه إلى حين منتهاه، وذكرنا جميع ذلك مع عجائب مصر وغرائب ما حصل من أحوالها، ممّا كنت نقلته من الكتاب القبطىّ الذى كنت وجدته فى الدير الأبيض بالوجه القبلىّ الذى كان أحد الكتب الثلاثة الذين حثّونى على وضع هذا التاريخ لما طالعت ما فيهم من غريب الأحاديث، وقد تقدّم جميع ذلك فى الجزء الأوّل والثّانى ممّا يغنى عن إعادة شئ منه ها هنا، وأخّرنا شيئا من أحوال مصر أيضا نذكره عند

ذكر ابتداء سياقة ذكر النيل المبارك فى أول كل عام من أول الهجرة

فتوحها إن شاء الله تعالى، وهو ما لم نذكره فى ذلك الجزء الأوّل والثانى، بحيث لا يخلو جزء من هذا التّاريخ من نكت غريبة، وملح عجيبة، وأنا أسأل الله تعالى حسن التوفيق إلى سلوك هذا الطريق، إنّه بالإجابة جدير، وهو على كلّ شئ قدير. ذكر ابتداء سياقة ذكر النيل المبارك فى أوّل كلّ عام من أوّل الهجرة قال العلماء رضى الله عنهم: كلّ موضع ذكر الله تعالى فيه أمر الماء فابن عليه أمر البعث، قال تعالى: {فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى (1)}»، وقال تعالى: {فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اِهْتَزَّتْ وَرَبَتْ، إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى (2)}»، وقال تعالى: {فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} كذلك النّشور» (3)، وقوله تعالى: {ماءً مُبارَكاً»}، الآية إلى قوله: {كَذلِكَ الْخُرُوجُ»} (4). وأمّا قياس النّيل المبارك فقد ذكر ابن لهيعة القاضى رحمه الله تعالى أنّ هذا المقياس عاشر مقياس بنى بأرض مصر، وسيأتى ذكر ذلك عند ذكر فتوح مصر إن شاء الله تعالى.

ذكر فصل لطيف فى نيل مصر يليق بهذا المكان ذكره

ذكر فصل لطيف فى نيل مصر يليق بهذا المكان ذكره وهذا النيل هو أعجب ما فى مصر، ومجيؤه من خلف خطّ الاستواء بإحدى (37) عشرة درجة إلى نحو الجنوب، وينتهى إلى الاسكندرية (1) فرقة، وإلى دمياط فرقة، عند عرض ثلاث وثلاثين فى الشمال، فمن ابتدائه إلى انتهائه اثنتان وأربعون درجة، كل درجة ستّون ميلا، فيكون طوله من موضع مخرج ابتدائه إلى الموضع الذى ينتهى إليه من الجهتين وينصبّ فى المالح ثمانية آلاف وستّمائة وأربعة عشر ميلا وثلثا ميل على القصد والاستواء، وله تعريجات شرفا وغربا فيطول ويزيد على ما ذكرنا. قلت: هذا كلام القاضى ابن لهيعة فى أمر النيل، وهذا فصل لم أكن قد ذكرته فى ذلك الجزء، بل أخّرته حتى ذكرته هاهنا، لأكون قد جمعت جميع ما وقفت عليه، وأثبتّ كلّ كلام فى موضعه اللائق به. [وقال صاحب كتاب ترصيع الأخبار، وهو أحمد بن محمّد بن أنس العذرى: إنّ مخرج نيل مصر من خلف جبل القمر، وينصبّ فى بحيرتين خلف خطّ الاستواء، ويطيف بأرض النوبة، ثمّ يتشعّب دون الفسطاط فتصير شعبة إلى الإسكندرية وشعبة إلى دمياط، عدد أمياله من مخرجه إلى مصبّه خمسة آلاف ميل وتسعمائة وثلاثون ميلا، والأوّل أقرب إلى الصحيح، والله أعلم] (2). وأمّا هذا المقياس الآن فهو بناء المتوكّل على الله جعفر بن المعتصم بن الرّشيد،

ذكر السنة الأولى من الهجرة النبوية

بنى فى سنة سبع وأربعين ومائتين، وفيها قتل المتوكّل حسبما يأتى من ذكره، وتولّى عمارته الفرغانى وفيه عمد، طوله تسعة عشر ذراعا من أوّله إلى اثنى عشر ذراعا مقسوم بثمانية وعشرين إصبعا، وما بعده مقسوم بأربعة وعشرين إصبعا، والذّراعان متساويان، فما فائدة الاختلاف فى قسمة عدّة الأصابع؟ وما الفرق فيه؟ هذا من دقيق الحكم الغامضة، وسألت ابن أبى الرذاذ فى وقت يحضره القاضى المرحوم فخر الدّين ناظر الجيوش المنصورة عن هذه العلّة، لعلّه يكون عنده فيها جواب مرض، فلم يجب بما يقارب خصوصا أن يكون الصحيح فيه، والله أعلم. ذكر السنة الأولى من الهجرة النبويّة الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث كان سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة، ومكّة بيد الكفّار من قريش، (38) واليمن فى مملكة الفرس مضافة إلى ملك فارس، والشّام فى ملك الروم، ومصر فى مملكة الروم، وبها يومئذ المقوقس، واسمه جريج بن مينا وهو يقوم بخراجها لملك الروم بالشام، وهو مقيم بالإسكندريّة، وعنده تسمين البطرح (1)، سبيله فى النصرانية سبيل القاضى فى الإسلام.

وفى هذه السنة بعث النبىّ صلّى الله عليه وسلم فأحضر بناته، وزوجته سودة، وبنى بعائشة، وآخى بين المهاجرين والأنصار، ورأى عبد الله بن زيد (1) الأذان، وعقد لحمزة لواء أبيض، وقال: «خذه يا أسد الله»، وهو أوّل لواء عقد فى الإسلام. وفيها بعث عبيدة (2) إلى بطن رابغ (3) بأصحابه، وفيها رمى سعد بن أبى وقّاص بسهم، وجمع له رسول الله صلّى الله عليه وسلم التفدية بين أبيه وأمّه (4)، وهو أوّل سهم رمى فى الإسلام. وفيها غزاة المغيرة، والأبواء، وغزوة بواط، قال ابن إسحاق: إنّ هذه الغزوات كلّها فى السنة الثانية من الهجرة. وفيها زيد فى صلاة الحضر ركعتان، وقيل فيها ولد عبد الله بن الزبير، وهو أوّل مولود ولد فى الإسلام بعد الهجرة، وكان يزعم أنّ اليهود سحروا المهاجرين فلا يولد لهم ولد، فلمّا ولد عبد الله بن الزّبير زال زعمهم واشتدّ الفرح. وفيها بنى مسجده صلّى الله عليه وسلم، وبنى مسجد قباء. وفيها غزوة العشيرة، وفيها أغار كرز بن جابر الفهرىّ على سرح المدينة فخرج النبىّ صلّى الله عليه وسلم خلفه إلى وادى سفوان من ناحية بدر.

ذكر سنة اثنتين للهجرة النبوية النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة اثنتين للهجرة النبويّة النّيل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا وإصبعان. ما لخّص من الحوادث (39) سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة، ومكّة-شرّفها الله تعالى-بأيدى قريش، والشام ومصر بأيدى الروم، والعراق وفارس واليمن فى أيدى الفرس، والحبشة للنجاشى. وفيها كانت غزاة بدر الأولى، وفيها تزوّج علىّ بن أبى طالب-كرّم الله وجهه-بسيّدة نساء العالمين فاطمة بنت سيّد المرسلين صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وفيها كانت غزاة الأبواء (1)، وفيها حوّلت القبلة، ونزلت فريضة صوم رمضان، وأمر بزكاة الفطر. وقيل: وفيها ولد عبد الله بن الزبير (2)، وفيها سريّة عمير بن عدىّ إلى عصماء بنت مروان فقتلها، وكانت تهجو النبىّ صلّى الله عليه وسلم، وسرّية غزوة (3) بنى قينقاع وتوفيت رقيّة بنت سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

ذكر سنة ثلاث للهجرة النبوية النيل المبارك فى هذه السنة

وفيها ولد الحسن بن علىّ بن أبى طالب رضوان الله عليه، وكذلك ولد النعمان بن بشير، وهو أوّل مولود ولد للأنصار فى الإسلام. وفيها مات أميّة بن أبى الصلت المقدّم ذكره فى الجزء الأوّل، وكذلك هلك أبو لهب. وفيها قاتلت الملائكة ببدر، وفيها غزاة العشيرة، وبعث سعد بن أبى وقّاص، وبعث عبد الله بن جحش، وفيها أعطى لعكاشة جذلا (1) من حطب، وقال له «دونك هذا»، فلمّا أخذه صار فى يده سيفا لم ير الناس مثله. وفيها أنزلت الأنفال، وفيها كانت غزاة بنى سليم، وغزاة السويق، وغزاة ذى أمر، وغزاة ودّان (2). وفيها خرج صلّى الله عليه وسلم إلى المصلّى فصلّى بالمسلمين صلاة العيد. وفيها حملت بين يديه العنزة (3)، وكانت للزبير وهبها له النجاشى، وقيل إنّها إلى الآن عند المؤذّنين بالمدينة، والله أعلم. ذكر سنة ثلاث للهجرة النّبويّة النيل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم ستّة أذرع وثلاثة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وواحد وعشرون إصبعا.

[ما لخص من الحوادث]

[ما لخّص من الحوادث] (1) (40) سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة، ومكّة-شرّفها الله تعالى-بأيدى قريش، والشام ومصر بأيدى الرّوم، والعراق وفارس واليمن بأيدى الفرس، والمقوقس بمصر، وكذلك تسمين البطرخ، وهى دار حرب. وفيها كانت غزاة أحد، وفيها قتل حمزة بن عبد المطّلب رضى الله عنه، وفيها غزاة قرقرة الكدر، وغطفان، كسرت رباعيّته صلّى الله عليه وسلم (2)، وفيها كانت غزوة حمراء (3) الأسد. وفيها تزوّج صلّى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، وزينب بنت خزيمة، وفيها تزوّج عثمان بن عفّان أمّ كلثوم بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفيها ولد الحسين بن علىّ بن أبى طالب عليهما السّلام فى قول، وفيها غزوة نجران، وغزوة بنى قينقاع من وجه ورواية، وقتل كعب بن الأشرف. وفيها جرح سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم (2)، وفيها قتل حنظلة الغسيل (4). وفيها ردّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم عين أبى قتادة بن ربعى (5)، وكانت قد نزلت على وجنته، فعادت أجمل عينيه.

ذكر سنة أربع للهجرة النبوية النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة أربع للهجرة النبويّة النيل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم خمسة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزّيادة ستّة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة، ومكّة-شرفها الله تعالى-بأيدى قريش، والشام ومصر بأيدى الروم، والعراق وفارس واليمن بأيدى الفرس. وفيها كانت غزوة الخندق (1)، وفيها ولد الحسين بن علىّ بن أبى طالب من وجه ورواية. وفيها غزاة بئر معونة (2)، وغزاة بنى النضير، ونزلت صلاة الخوف، وفيها قصرت الصّلاة، وأنزلت سورة الحشر بأسرها. فيها مات عبد الله (41) بن عثمان، وكان من رقيّة [بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم] (3). وفيها اتّخذ صلّى الله عليه وسلم الخاتم، وكان نقشه: محمّد رسول الله، وفيها تعلّم زيد [بن ثابت] (4) كتابة اليهود بأمره له فى خمسة عشر يوما. وفيها غزاة ذات الرقاع.

ذكر سنة خمس للهجرة النبوية النيل المبارك فى هذه السنة

وفيها تزوّج صلّى الله عليه وسلم أمّ سلمة رضى الله عنها. وفيها غزوة بئر معاوية الثانية (1). ذكر سنة خمس للهجرة النبويّة النيّل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم ذراع واحد واثنان وعشرون إصبعا، مبلغ الزّيادة خمسة عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا. [ما لخّص من الحوادث (2)] سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة. [وفيها كانت] (3) غزاة دومة الجندل، وبنى قريظة، وبنى المصطلق، وبنى لحيان (4). وفيها أنزلت آية الحجاب، وتزوّج زينب بنت جحش. وفيها سقط العقد من عائشة، ونزلت آية التّيمّم. وفيها كان حديث الإفك. وفيها غزوة الخندق (5)، وغزوة المريسيع (6)، والله أعلم.

ذكر سنة ست للهجرة النبوية النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ستّ للهجرة النبويّة النيّل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم ثمانية أذرع وأربعة أصابع، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة، ومكّة بأيدى المشركين من قريش، والشام ومصر بأيدى الروم، والعراق وفارس واليمن بأيدى الفرس. وفيها كانت غزوة الغابة (1)، وغزوة الحديبية. وفيها كان إنفاذ الرسل إلى الملوك، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ابن عبد الحكم، قال: حدّثنا هشام بن إسحاق وغيره قال: لمّا كان سنة ستّ من الهجرة ورجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من غزاة الحديبية بعث إلى الملوك، قال: حدّثنا أسد بن موسى قال حدّثنا عبد الله بن وهب قال حدّثنا يونس بن زيد عن ابن شهاب قال: حدّثنى عبد الرحمن بن عبد القوى (2) أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قام ذات يوم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وتشّهد، ثم قال: «أمّا بعد فإنّ أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك العجم، فلا تختلفوا علىّ كما اختلف بنو إسرائيل على عيسى بن مريم، وذلك أنّ الله تعالى أوحى إلى عيسى بن مريم أن ابعث الحواريّين إلى ملوك الأرض، فأمر الحواريّين، فأمّا القريب مكانا فرضى، وأمّا البعيد مكانا فكره وقال: لا أحسن كلام من تبعثنى إليه، فقال عيسى: اللهم أمرت

الحواريّين (42) بالذى أمرت (1) فاختلفوا علىّ، فأوحى الله إليه: إنّى سأكفيك، فأصبح كلّ إنسان منهم يتكلّم بلسان الذين وجّهه إليهم»، فقال المهاجرون: يا رسول الله، والله لا نختلف عليك أبدا فى شئ فمرنا وابعثنا! فبعث حاطب ابن أبى بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندريّة، وشجاع بن وهب الأسدىّ إلى كسرى (2)، وبعث دحية بن خليفة إلى قيصر، وبعث عمرو بن العاص إلى ابنى الجلندى أميرى عمان. قال: فمضى حاطب بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلمّا انتهى إلى الإسكندريّة وجد المقوقس فى مجلس مشرف على البحر، فركب فى البحر فلمّا حاذى مجلسه أشار بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين إصبعيه، فلمّا رآه أمر بالكتاب فقبض، وأمر به فأوصل إليه، فلمّا قرأ الكتاب قال: ما منعه إن كان نبيّا أن يدعو [علىّ] (3) فيسلّط علىّ؟ فقال حاطب: ما منع عيسى بن مريم أن يدعو على من أبى عليه أن يفعل به ويفعل (4)؟ فوجم المقوقس ساعة ثم استعادها، فأعادها عليه حاطب، فسكت، فقال له حاطب: إنّه قد كان قبلك رجل زعم أنّه الربّ الأعلى فانتقم الله به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر بك، وإنّ لك دينا لن تدعه إلاّ لما هو خير منه، وهو الإسلام الكافى الله به فقد ما سواه،

وما بشارة موسى بعيسى إلاّ كبشارة عيسى بمحمّد صلّى الله عليه وسلم، وما دعاؤنا إيّاك إلى القرآن إلاّ كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنّا نأمرك به، ثم قرأ الكتاب، وهو: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتّبع الهدى، أمّا بعد، فإنى أدعوك بدعاية الإسلام، فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرّتين: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: {أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا (43) بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اِشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ (1)}»، فلمّا قرأه أخذه فجعله فى حقّ من عاج وختم عليه. قال (2): حدّثنا عبد الرحمن قال حدّثنا عبد الله بن سعد المذحجىّ عن ربيعة ابن عثمان عن أبان بن صالح، قال: أرسل المقوقس إلى حاطب ليلة، وليس عنده إلاّ ترجمان، فقال: ألا تخبرنى عن أمور أسألك عنها فإنّى أعلم أنّ صاحبك قد تخيّرك حين بعثك، قلت: لا تسألنى عن شئ إلاّ صدقتك، قال: إلى ما يدعو محمّد؟ قال: إلى أن تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتخلع ما سواه، ويأمر بالصّلاة، قال: فكم تصلّون؟ قال: خمس صلوات فى اليوم والليلة، وصيام شهر رمضان وحجّ البيت، والوفاء بالعهد، وينهى عن أكل الميتة والدم ولحم الخنزير، قال: من أتباعه؟ قال: الفتيان من قومه وغيرهم، قال: فهل يقاتل (3) قومه؟ قال: نعم، قال: صفه لى؟ قال: وصفت صفة من صفته لم آت عليها، قال: قد بقيت

أشياء لم أرك ذكرتها، أفى عينيه حمرة قلّ ما تفارقه؟ وبين كتفيه خاتم النبوة؟ ويركب الحمار؟ ويلبس الشملة؟ ويجتزئ بالتمرات (1) والكسر لا يبالى من لاقى [من] عمّ ولا ابن عمّ؟ قلت: هذه صفته! قال: قد كنت أظنّ مخرجه الشام، وهناك كانت تخرج الأنبياء من قبله، فأراه قد خرج من العرب فى أرض جهد وبؤس، والقبط لا تطاوعنى فى اتّباعه، ولا أحبّ أن تعلم بمحاورتى إيّاك، وسيظهر على البلاد، وتنزل أصحابه بعده بساحتنا هذه حتّى يظهروا على ما هنا، وأنا لا أذكر للقبط من هذا حرفا، فارجع إلى صاحبك! قال (2): ثمّ رجع إلى حديث هشام بن إسحاق، قال: ثمّ دعا كاتبا يكتب بالعربيّة فكتب: لمحمّد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام، أمّا بعد: فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت، وما تدعو إليه، وقد علمت أنّ نبيّا قد بقى، وقد كنت أظنّ أنّه يخرج من الشام (44) وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان فى القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام. فلمّا قدم حاطب اتّخذ النبى صلّى الله عليه وسلم إحدى الجاريتين لنفسه، ووهب الأخرى لجهم بن قيس العبدرى، فهى أمّ زكريّا بن جهم الذى كان خليفة عمرو بن العاص على مصر، ويقال بل وهبها لحسّان بن ثابت، فهى أمّ عبد الرّحمن بن حسّان، ويقال بل وهبها لمحمّد بن مسلمة الأنصارى، ويقال بل وهبها لدحية بن خليفة الكلبىّ.

قال: حدّثنا عبد الملك بن مسلمة، قال حدّثنا إسماعيل بن عبّاس عن أبى بكر بن أبى مريم عن راشد بن سعد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: لو بقى إبراهيم ما تركت قبطيّا إلاّ وضعت عنه الجزية، والله أعلم. وفيها كانت بيعة الرضوان، وفيها خرج صلّى الله عليه معتمرا، فصدّه المشركون. وفيها كانت غزاة بنى المصطلق (1)، وأنزلت آية التيمّم، وحديث الإفك، وبنى لحيان، وعمرة الحديبية. وفيها كانت عدّة سرايا وغزوات، منها سريّة عكاشة، وسريّة محمّد بن سلمة، وسريّة أبى عبيدة بن الجراح، وسريّة زيد بن حارثة، وسريّته أيضا، وسريّته أيضا، وسريّته أيضا إلى وادى القرى (2)، وسريّة علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه. وفيها تزوّج عمر بن الخطّاب رضى الله عنه جميلة بنت ثابت أخت عاصم ابن ثابت، والله أعلم.

ذكر سنة سبع للهجرة النبوية النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة سبع للهجرة النّبويّة النّيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع واثنا عشر إصبعا، مبلغ الزّيادة ستّة عشر ذراعا وثمانية أصابع. ما لخّص من الحوادث سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة، والشّام ومصر بأيدى الرّوم، (45) والعراق وفارس واليمن فى أيدى الفرس، ومكّة-شرّفها الله تعالى-بأيدى المشركين من قريش. وفيها كانت غزاة حنين (1)، وفيها كان قدوم جعفر بن أبى طالب من عند النجاشى إلى المدينة. وفيها نهى النبى صلّى الله عليه وسلم عن أكل الحمر الأهليّة. وفيها تزوّج صلّى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث وهو محرم، وبنى بها وهو حلال (2)، وهى آخر امرأة تزوّجها صلّى الله عليه وسلم. وفيها ردّ ابنته إلى أبى العاص (3). وفيها غزوة خيبر، والله أعلم.

ذكر سنة ثمان للهجرة النبوية النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثمان للهجرة النبويّة النيل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وخمسة أصابع. ما لخّص من الحوادث سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة، ومكّة بأيدى قريش إلى حين فتحها فى هذه السّنة. وفيها ولدت مارية القبطيّة إبراهيم ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان الذى بشّر به أبو رافع، فوهب له صلّى الله عليه وسلم عبدا، وكان مولده فى ذى الحجة. وفيها كانت غزاة حنين والطّائف. ذكر فتح مكّة-شرّفها الله تعالى-فى هذه السّنة قال ابن إسحاق: لمّا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجهاز إلى مكّة دخل أبو بكر رضى الله عنه على عائشة رضى الله عنها فقال: أى بنيّة، أأمركم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن تجهّزوه؟ قالت: نعم، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدرى. ثم إنّه عليه السّلام أعلم النّاس أنّه يريد مكّة، وأمرهم بالجدّ والتأهّب، ثم قال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى لا يعلموا ما نريد (1).

قال الطبرىّ: فلمّا أجمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم (46) السير (1) إلى مكّة، كتب حاطب ابن أبى بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذى أجمع عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأعطاه لامرأة يزعم محمّد بن جعفر أنّها من مزينة، وزعم غيره أنّها سارة مولاة لبعض بنى عبد المطّلب، وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا، فجعلته فى رأسها ثم ضمّت (2) عليه قرونها، ثم خرجت من المدينة، فنزل الوحى بذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فبعث علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه والزبير بن العوّام رضى الله عنه فقال: أدركوا (3) امرأة قد كتب معها حاطب كتابا إلى قريش يحذّرهم بما اجتمعنا له (4)! فخرجا فى طلبها، فأدركاها واستنزلاها والتمسا رحلها فلم يجدا (5) شيئا، فقال لها علىّ عليه السلام: إنّى أحلف ما كذب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا كذبنا؛ ولتخرجنّ هذا الكتاب أو لنكشفنّك! فلمّا علمت أنّ لا لها بدّ من إخراجه وخافت الفضيحة قالت: أعرض عنّى! ثم استخرجته من قرونها ودفعته إلى علىّ عليه السلام، [فجاء به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم] (6) فدعا رسول الله حاطبا، وقال: ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله، إنّى والله مؤمن ولست بمنافق، ما غيّرت ولا بدّلت، ولكن لى بين أظهرهم أهل وولد، فصانعتهم عليهم، فقال عمر رضى الله عنه: دعنى أضرب عنقه يا رسول الله فإنّ الرجل

قد نافق! فقال صلّى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر، لعلّ الله اطّلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد [غفرت] (1) لكم. قال ابن عبّاس: فأنزل الله تعالى فى حاطب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ»} الآية (2). قال: ثم مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم لسفره، واستخلف على المدينة كلثوم بن حصين الغفارى، وخرج [لعشر] (3) مضين من رمضان، فصام رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصام الناس معه حتى إذا كان بين عسفان (47) وأمج أفطر رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم سار حتى نزل مرّ الظهران فى عشرة آلاف من المسلمين مع جميع المهاجرين والأنصار فلم يتخلف عنه منهم أحد. وعمّيت الأخبار عن قريش فلا يأتيهم خبر. قال: فخرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتجسّسون الأخبار، وكان العبّاس بن عبد المطّلب قد أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى بعض الطريق، وكان قبل ذلك مقيما بمكّة على سقايته، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم عنه راض، فلمّا نزل صلّى الله عليه وسلم مرّ الظهران قال العبّاس: واصبح (4) قريش، والله لئن بغتها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بغتة، ودخل مكّة عنوة إنّه لهلاك قريش إلى آخر الدهر، قال: فجلست على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخرجت عليها حتى أتيت الأراك، فقلت لعلّى أجد حطّابا أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتى إلى مكّة، فيخبرهم بمكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لعلّ أن يأتوه يستأمنون منه قبل أن يدخلها عنوة، فو الله إنّى

لأطوف فى الأراك ألتمس ما خرجت إليه إذ سمعت صوت أبى سفيان وبديل ابن ورقاء وهما يتراجعان وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قطّ ولا عسكرا، فقال بديل بن ورقاء: هى والله نيران خزاعة حمشتها الحرب، فقال أبو سفيان: خزاعة ألأم من ذلك وأذلّ! قال العبّاس: فعرفت صوته فقلت: أى أبا حنظلة! فعرف حسّى وصوتى فقال: العبّاس؟ قلت: نعم! قال: ما وراءك بأبى وأمّى أنت؟ فقلت: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى الناس، واصباح قريش والله! قال: فما الحيلة فداك أبى وأمّى؟ قلت: لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك، فاركب فى عجز هذه البغلة حتى آتى بك رسول الله تستأمن منه! قال: فركب خلفى ورجع صاحبه، فجئت به، فكلّما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: عمّ رسول الله (48) على بغلة رسول الله، حتى مررت بنار عمر ابن الخطّاب فقال: من هذا؟ ثم قام إلىّ، فلمّا رأى أبا سفيان على عجز البغلة قال: أبو سفيان عدوّ الله ورسوله؟ الحمد لله الذى أمكن منك بغير عهد ولا ميثاق! ثم خرج يشتدّ نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأنا قد ركضت البغلة، ودخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ودخل عمر فى إثرى، فقال: يا رسول الله: هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فأمرنى أضرب عنقه! فقلت: يا رسول الله إنّى قد أجرته! فلمّا أكثر عمر فى شأنه قلت: مهلا يا عمر، فو الله لو كان من رجال عدىّ بن كعب ما أكثرت فيه، ولكنّك عرفت أنّه من رجال عبد مناف! فقال: مهلا يا عبّاس، فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحبّ إلىّ من أن أسلم الخطّاب لو أسلم! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: اذهب به يا عمّ إلى رحلك فإذا أصبحت مأتنى به.

قال العبّاس: فذهبت به إلى رحلى، فلمّا أصبح غدوت به إلى النبى صلّى الله عليه وسلم، فلمّا رآه قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنّه لا إله إلاّ الله؟ قال: بأبى وأمّى أنت، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أنّه لو كان مع الله غيره لقد أغنى عنّا شيئا بعد، قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنّى رسول الله؟ قال: بأبى وأمّى أنت، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه فإنّ فى النفس منها شيئا بعد الآن، فقال العبّاس: ويحك أسلم قبل أن يأمر بك فتضرب عنقك! قال: فأسلم وتشهّد شهادة الحقّ. قال العبّاس: يا رسول الله، إن أبا سفيان يحبّ الفخر فاجعل له منه نصيبا! فقال عليه السلام: من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فقال: وما يغنى منزلى والمسجد، فدتك نفسى، فقال عليه السلام: ومن أغلق بابه فهو آمن، فلمّا ذهب أبو سفيان لينصرف قال النبى صلّى الله عليه وسلم للعبّاس: يا عمّ احبسه بمضيق الوادى حتى تمرّ به جنود الله فيراها. قال العبّاس: فخرجت به حتى حبسته بمضيق الوادى، قال: ومرّت علينا القبائل (49) فكان كلّما مرّت قبيلة يقول: من هذه يا عبّاس؟ فأقول له: هذه سليم، فيقول: مالى ولسليم، ثم تمرّ بنا أخرى فيقول: ومن هذه أيضا فأقول: مزينة، فيقول: ما لى ولمزينة، وعادت القبائل تمرّ بنا أولا فأوّلا، وهو يسألنى وأنا أخبره وهو يقول كذلك حتى مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى فيهم إلاّ حماليق الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله يا عبّاس، من هؤلاء الذين قد ملئت منهم رعبا وخوفا؟

فقلت: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى المهاجرين والأنصار! فقال: ما لأحد بهؤلاء قبل، والله يا عبّاس لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما! فقلت: يا سبحان الله، إنّها النبوّة، ثم قلت: التجئ الآن إلى قومك! قال: فخرج حتى [إذا] (1) جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، ها محمّد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دارى فهو آمن! قال: فقامت إليه هند بنت عتبة زوجته فأخذت بشاربه وقالت: قاتلك الله، وما تغنى عنهم دارك؟ قال: ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن! قال: فتفرّق الناس فى كلّ موضع من هؤلاء المواضع. فلمّا انتهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى ذى طوى، فرّق جيشه فأمر الزبير بن العوّام وكان على الفرقة اليسرى أن يدخل ممّا يليه، وأمر سعد بن عبادة الأنصارى أن يدخل ممّا يليه أيضا، قال ابن إسحاق: فزعم بعضهم أنّ سعدا حين وجه داخلا قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ [الحرمة] (2)، فسمعها بعض المهاجرين، فقال: يا رسول الله، ما بال سعد بن عبادة أنّه لا يؤمن أن يكون له فى قريش صولة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه: «أدركه فخذ الرّاية منه وكن أنت الذى تدخل بها من جهته التى هو بها». وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضى الله عنه (50) وكان على الفرقة اليمنى أن يدخل من أسفل مكّة، قال: وكان عكرمة بن أبى جهل وصفوان بن أميّة قد جمعا جمعا وعزموا على القتال، فلمّا دخل خالد بن الوليد لقيهم فناوشهم القتال

فقتل من المسلمين رجلان وأصيب من المشركين نحو من ثلاثة عشر رجلا، ثم انهزموا، هذه رواية ابن إسحاق. ودخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أعلى مكّة وضرب هناك قبّته، قال ابن إسحاق: وكان النبى صلّى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه حين أمرهم بالدخول إلى مكّة ألاّ يقتلوا أحدا إلاّ من قاتلهم، إلا أنّه سمّى جماعة أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، منهم: عبد الله بن أبى سرح وكان قد أسلم ثم ارتدّ، وكان يكتب بين يدى سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى الوحى فيكتب مكان الغفور الرحيم: العزيز الحكيم، ومكان عليما حكيما: غفورا رحيما، وما أشبه ذلك، وقال إن محمّدا يملى علىّ فأكتب أنا ما شئت أن أكتب، فنزل الوحى بذلك، فهرب حتى لحق بالمشركين من قريش، وكان أخا لعثمان بن عفّان من الرضاعة، فغيّبه عثمان وسيّره حتى اطمأنّ أهل مكّة، فجعل يستأمن له من النبى صلّى الله عليه وسلم ويشفع فيه، قال ابن الحصين: فصمت النّبىّ صلّى الله عليه وسلم طويلا ثم قال: نعم! فلمّا انصرف عثمان به قال النبى صلّى الله عليه وسلم لمن حوله: أما والله لقد [صمتّ] (1) ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه، فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلىّ يا رسول الله؟ فقال: ما كان لنبىّ أن يكون له خائنة عين (2)، ثم إنّ ابن أبى سرح أسلم وحسن إسلامه، ونفع الله به وفتح إفريقية.

ومنهم عبد الله بن خطل من بنى الأدرم أعراب قريش (1)، كان مسلما فبعثه النبى صلّى الله عليه وسلم مصدقا، وبعث معه فنزل [منزلا، وأمر المولى] (2) أن يذبح له شاة أو تيسا ويصنع له طعاما، فنام واستيقظ ولم يصنع له شيئا، فعدا على الغلام فقتله وارتدّ مشركا، وكان له قينتان تغنّيان بما لا يسمع فى هجوهما للنبى صلّى الله عليه وسلم فقتل يوم الفتح وهو متعلّق بأستار الكعبة وقتلت إحدى القينتين، وتخفّت الأخرى ثم وطئها بعد ذلك فرس فقتلها. ومنهم [مقيس بن صبابة (3)] كان مسلما، فقتل رجلا من الأنصار وارتدّ مشركا، فقتله ذلك اليوم رجل فى معترك الحرب. ومنهم عكرمة بن أبى جهل، نجاه فزارة، ثم إنّ امرأته أسلمت وهى أمّ حكيم [بنت الحارث (4)] بن هشام، واستأمنت له رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فرجع من فزارة وأسلم، وصار الناس يقولون فيه، فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات. ومنهم [الحويرث بن نقيذ (5)]، قتله علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه، لأنّه كان ممّن يؤذى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكّة. ومنهم سارّة مولاة بعض بنى عبد المطّلب، كانت تؤذى النبى صلّى الله عليه وسلم فقتلت يومئذ.

ومنهم [قريبة (1)]، قتلت أيضا، ومنهم هند بنت عتبة أم معاوية، بايعت ونجت. قال ابن إسحاق: فلمّا نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكّة واطمأنّ الناس، خرج حتى جاء البيت، وأقبل الناس يبايعونه. قال الطبرى: ثمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قام قائما حتى (2) وقف على باب الكعبة، فقال: لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا [كلّ مأثرة (3)] أو دم أو مال يدّعى فهو تحت قدمىّ هاتين إلاّ سدانة البيت وسقاية الحاجّ، ثمّ، يا معشر قريش، إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهليّة [وتعظّمها (4)] بالآباء، [الناس (5)] من آدم (52) وآدم [خلق] (6) من تراب، ثم تلا هذه الآية: {يا أَيُّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى،»} -الآية (7). ثم قال: يا معشر قريش-أو قال: يا أهل مكّة -ما ترون أنّى فاعل بكم؛ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم! قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء! فأعتقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال: ثم اجتمع الناس لبيعة رسول الله صلّى الله عليه وسلم على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، وكذلك كانت بيعته لمن بايع من الناس على الإسلام، فلمّا فرغ

من بيعة الرجال بايع النساء، وكان صلّى الله عليه وسلم لا يصافح النساء ولا يمسّ امرأة ولا تمسّه امرأة من غير حلّة، فاجتمع إليه نساء قريش فيهنّ هند بنت عتبة متنكّرة، لما كان من صنيعها بحمزة فى غزاة أحد، فلمّا [دنون (1)] منه للمبايعة قال النبى صلّى الله عليه وسلم: لتبايعننى على ألاّ تشركن بالله شيئا! قالت هند: والله إنّك لتأخذ علينا أمرا ما تأخذه على الرجال! قال: ولا تسرقن! قالت: والله إن كنت لأصيب من مال أبى سفيان الهنة وما أدرى أكان ذلك حلالا أم لا؟ فقال أبو سفيان، وكان حاضرا شاهدا لما تقول: أمّا ما أصبت فيما مضى فأنت [منه] (2) فى حلّ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: وإنّك لهند بنت عتبة، قالت: أنا هند بنت عتبة فاعف عمّا سلف [عفا (3)] الله عنك! ثم قال: ولا تزنين! قالت: وهل تزنى الحرّة؟ قال: ولا تقتلن أولادكن! قالت: قد ربيناهم صغارا وقتلوا يوم بدر كبارا وأنت بهم أعلم، قال (4): فضحك عمر بن الخطّاب من قولها، قال: ولا [تعصيننى (5)] فى معروف! قالت: ما جلس هذا المجلس ونحوه من شهد أنّه يعصيك! فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلم لعمر (53): بايعهنّ واستغفر لهنّ الله، فبايعهنّ عمر رضى الله عنه. قال ابن إسحاق: وأتى أبو بكر رضى الله عنه بأبيه أبى قحافة يقوده-فقد كان كفّ بصره-إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو فى المسجد، فلمّا رآه قال: هلا تركت الشيخ فى بيته حتى أكون أنا آتيه فيه؟ فقال أبو بكر: بأبى أنت وأمّى يا رسول الله هو أحقّ أن يمشى إليك من أن تمشى أنت إليه! قال:

المعجزة فى سقوط الأصنام

فأجلسه بين يديه ثم مسح بيده على صدره، ثم قال له: أسلم! فأسلم. المعجزة فى سقوط الأصنام قال ابن إسحاق وغيره: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكّة يوم الفتح على راحلته، فطاف عليها وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص، فجعل يشير بقضيب فى يده إلى الأصنام، ويقول: {جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً»}، فما أشار لصنم فى وجهه إلاّ سقط لقفاه، ولا أشار إلى قفاه إلاّ سقط لوجهه حتى أتى على الجميع. وكان فتح مكّة لعشر بقين من شهر رمضان، وكان عدّة من شهد الفتح من المسلمين عشرة آلاف، فمن جهينة ألف وأربعمائة، ومن مزينة ألف وثلاثمائة، ومن سليم سبعمائة، ومن أسلم أربعمائة، ومن غفار أربعمائة، والبقيّة من قريش والأنصار وحلفائهم وطوائف العرب من أسد وقيس. وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد فتح مكّة خمس عشرة ليلة بها يقضى الصلاة، والله أعلم. وفيها كانت غزاة حنين والطائف، وفيها توفّى جعفر بن أبى طالب، وزيد ابن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وفيها تملّك أردشير بن شيرويه ملك فارس، وفيها اتّخذ النبى صلّى الله عليه وسلم المنبر، وطلّق سودة، وماتت زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفيها كانت غزاة ذات السلاسل، وغزوة الخبط، وفيها كان إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص (54) وفيها بعث خالد بن الوليد إلى القرى ليهدمها، وفيها تزوّج صلّى الله عليه وسلم بفاطمة الضحّاك، وهى المستعيذة، وفيها خلاف (1)، والله أعلم.

ذكر سنة تسع للهجرة النبوية النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة تسع للهجرة النّبويّة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستّة أذرع وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية أصابع. ما لخّص من الحوادث سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة، ومكّة دار إسلام ببركاته عليه أفضل الصّلاة والسّلام، وعليها أميرا عتّاب بن أسيد من قبل النبى صلّى الله عليه وسلم. والشّام للروم وملكها قيصر الهرقل، ومصر للمقوقس عظيم القبط وهو يحمل الخراج إلى قيصر ملك الروم، والعراق وفارس فى ملك الفرس، وملكها يومئذ كسرى أردشير بن شيرويه، واليمن ملكها بادان من قبل أردشير ملك الفرس، والحبشة النجاشى وهو مسلم. وفيها كانت غزاة تبوك، وفيها نزلت سورة براءة، وفيها نعى النبى صلّى الله عليه وسلم، النجاشى ملك الحبشة، وصلّى عليه صلاة الغائب، وفيها ماتت أمّ كلثوم بنته صلّى الله عليه وسلم وفيها تتابعت الوفود، وبعث علىّ كرم الله وجهه إلى القليص ليهدمه، وأمر بهدم الضرار، وفيها غزاة عروة، وفيها حجّ أبو بكر رضى الله عنه، وفيها غزاة طى، وفيها توفّى أبو عامر الراهب (1) عند النجاشى، والله أعلم.

ذكر سنة عشر للهجرة النبوية النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة عشر للهجرة النبويّة النيل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم سبعة أذرع وخمسة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا وتسعة أصابع. ما لخّص من الحوادث سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة، ومكّة دار إسلام، والأقاليم حسبما (55) تقدّم من ذكرهم فى السنة الخاليا. وفيها توفّى إبراهيم ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكسفت الشمس يوم موته، وتوفّى وله ثمانية عشر شهرا، وقال صلّى الله عليه وسلم: «الشّمس والقمر آيتان لا تكسفان لموت أحد ولا لحياته» وفيها حجّ حجّة الوداع، وفيها بعث علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه إلى اليمن، وخالد بن الوليد رضى الله عنه إلى بنى الحارث بنجران، وبعث [جرير] (1) إلى ذى قلاع، وعمرو بن العاص إلى أبناء الجلندا (2)، وفيها ظهر الأسود العنسى الملقّب بذى الخمار، وكان يستعبد ويسبى بحسن نطقه قلب من يسمعه، وفيها هدم الخليصة وهو صنم بجيلة وخثعم، ولمّا بلغه صلّى الله عليه وسلم سجد شكرا لله تعالى، وفيها أسلم باذان باليمن.

ذكر حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى حجة الوداع

ذكر حجّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهى حجّة الوداع ولمّا أذّن فى الناس فى هذه السّنة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم حاجّ قدم المدينة بشر كثير، كلّهم يلقمس أن يأتمّ برسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله، وخرج صلّى الله عليه وسلم نهارا بعد أن ترجّل وادّهن وتطيّب وبات بذى الحليفة، وقال: أتانى الليلة آت من ربّى فقال: صلّ فى هذا الوادى المبارك ركعتين وقل عمرة فى حجّة. وأحرم النبى صلّى الله عليه وسلم بها بعد أن صلّى فى مسجده بذى الحليفة ركعتين وأوجب من (1) مجلسه، وسمع ذلك منه أقوام منهم ابن عبّاس، ثم ركب فلمّا استقلّت به فاقته أهلّ، ثم لمّا علا على شرف البيداء أهلّ، فمن ثمّ قيل: أهلّ حين استقلت به ناقته، وحين علا على شرف البيداء، وكان يلبّى به تارة وبالحجّ تارة أخرى، فمن ثم قيل إنّه منفرد، وكان تحته صلّى الله عليه وسلم (56) رحل رثّ عليه قطيفة لا تساوى أربعة الدراهم، وقال: اللهمّ اجعله حجّا لا رياء فيه ولا سمعة. قال جابر (2): ونظرت إلى مدّ بصرى بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم بين أظهرنا وعليه أنزل القرآن وهو يعرف تأويله وما عمل من شئ عملنا به.

ودخل صلّى الله عليه وسلم مكّة صبيحة يوم الأحد من [كداء] (1) من الثنيّة العليا التى بالبطحاء، وطاف للقدوم مضطبعا، فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم خرج إلى الصفا فسعى بعض سعيه ماشيا، فلمّا كثر عليه ركب ناقته، ونزل صلّى الله عليه وسلم بأعلى الحجون، فلمّا كان يوم التّروية-وهو ثامن ذى الحجّة-توجّه إلى منى فصلّى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وبات بها وصلّى بها الصبح. فلمّا طلعت الشّمس سار إلى عرفة، وضربت قبتّه بنمرة، فأقام بها حتى زالت الشمس، فخطب الناس وصلّى بهم الظّهر والعصر جمع بينهما بأذان واحد وإقامتين، ثم راح إلى الموقف ولم يزل واقفا على ناقته القصوى يدعو ويهلّل ويكبّر حتّى غربت الشمس، ثم دفع إلى المزدلفة بعد الغروب، وبات بها وصلّى بها الصبح، ثم وقف على قزح-وهو المشعر الحرام-يدعو ويكبّر ويسبّح ويهلّل حتى أسفر، ثم دفع قبل طلوع الشمس حتى أتى وادى محسّر، فقرع ناقته فحنّت، فلمّا أتى منى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات، ثم انقلب إلى المنحر ومعه بلال وأسامة، أحدهما أخذ بخطام الناقة، والآخر بيده ثوب يظلّه من الشمس، وليس ثم ضرب ولا طرد ولا إليك إليك، ثم نحر فى المنحر، وكان قد أهدى مائة بدنة فنحر منها ثلاثا وستّين بيده، ثم أعطى عليّا ما غبر منها، وأشركه فى هديه، (57) ثم أفاض إلى البيت فطاف به سبعا، ثم أتى السقاية فاستسقى، ثم رجع إلى منّى وأقام بها بقيّة يوم النحر وثلاثة أيّام التشريق، يرمى فى كلّ يوم منها الجمرات الثلاث ماشيا بسبع سبع، يبدأ بالتى تلى فى الخيف ثم بالوسطى،

ثم بجمرة العقبة، ويطيل الدعاء عند الأولى والثانية. ثم نفر فى اليوم الثالث، ونزل المحصّب فصلّى به الظهر والعصر والمغرب وعشاء الآخرة، ورقد رقدة من الليل، وأعمر عائشة من التنعيم تلك الليلة، ثم لمّا قضت عمرتها أمر بالرحيل، ثم طاف للوداع وتوجّه إلى المدينة، فكان مدّة إقامته بمكّة وأيّام حجّه عشرة أيّام. وقد أفردنا لصفة حجّه صلّى الله عليه وسلم من الأحكام والشرائع منذ خرج من المدينة إلى حين رجع إليها ما هذا صفته لينتفع به ويأتمّ سامعه. وأمّا عمره فأربع، وكلّها فى ذى القعدة: عمرة الحديبية، وصدّه المشركون عنها ثم صالحوه على أن يعود من العام المقبل معتمرا، ويخلوا له مكّة ثلاثة أيّام ولياليها، ويصعدون رؤوس الجبال، فحلّ من إحرامه بها، ونحر سبعين بدنة كان ساقها، فيها جمل لأبى جهل فى رأسه برة فضّة يغيظ بذلك المشركين. وعمرة القصبة من العام المقبل أحرم بها من ذى الحليفة، وأتى مكّة وتحلّل منها وأقام بها ثلاثة أيّام، وكان تزوّج ميمونة الهلاليّة قبل عمرته ولم يدخل بها، فأنفذ إليهم عثمان بن عفّان فقال: إن شئتم أقمت عندكم ثلاثا أخر، وأولمت بكم وعرست بأهلى، فقالوا: لا حاجة لنا فى وليمتك اخرج عنّا! فخرج فأتى سرف، وهى على عشرة أميال من مكّة فعرس بأهله هناك. وعمرة الجعرانة فى سنة ثمان لمّا فتح مكّة وخرج إلى الطائف فأقام عليها شهرا، ثم تركها ورجع على دجنا، ثم علا على قرن المنازل، ثم علا نخلة حتى خرج (58) إلى الجعرانة، فلحقه أهل الطائف بها وأسلموا، وأحرم صلّى الله عليه وسلم بها

ذكر سنة إحدى عشرة للهجرة النبوية النيل المبارك فى هذه السنة

ودخل مكّة معتمرا لثنتى عشرة ليلة بقيت من ذى القعدة، وفرغ من عمرته ليلا، ثم رجع إلى الجعرانة وأصبح بها كبائت ورجع إلى المدينة. وعمرته مع حجّته صلّى الله عليه وسلم. ذكر سنة إحدى عشرة للهجرة النبويّة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع واثنا عشر إصبعا، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وسبعة أصابع. ذكر وفاته صلّى الله عليه وسلم فى هذه السّنة كانت وفاته صلّى الله عليه وسلم، قال ابن إسحاق: ابتدئ رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى مرضه الذى قبضه الله فيه ورفع روحه الطاهرة إليه، لما أراد من كرامته صلّى الله عليه وسلم فى ليال بقين من صفر وربيع الأوّل، وذلك أنّه كان خرج إلى بقيع الغرقد فى جوف اللّيل فاستغفر لهم، ثمّ رجع إلى أهله، فلمّا أصبح ابتدئ بوجعه من يومه. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: لمّا رجع صلّى الله عليه وسلم من البقيع وجدنى وأنا أجد صداعا فى رأسى وأقول وا رأساه! فقال: بل أنا يا عائشة وا رأساه! قالت: ودام به وجعه وهو يدور على نسائه حتى [استعز] (1) به وهو فى بيت ميمونة، قالت ميمونة: فدعا نسائه فاستأذنهنّ فى أن يمرّض فى بيت عائشة، فأذنّ له.

وعن عائشة قالت: لمّا استغرق صلّى الله عليه وسلم فى مرضه قال: «مروا أبا بكر فليصلّ بالناس» قالت، فقلت: يا رسول الله إنّ أبا بكر رجل رقيق ضعيف الصوت كثير البكاء إذا قرأ القرآن، قال: «[مروه] (1) فليصلّ بالنّاس»، قالت فأعدت عليه القول فقال: «إنّكنّ صويحبات يوسف. مروه فليصلّ بالنّاس». قال القضاعى: وصلّى أبو بكر (59) بالنّاس سبع عشرة صلاة، وكذا روى الدولابىّ أيضا. وقال ابن إسحاق: فلمّا كان يوم الاثنين خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم عاصبا رأسه إلى صلاة الصبح، وأبو بكر يصلّى بالناس، قال فلمّا خرج صلّى الله عليه وسلم [تفرّج] (2) النّاس، فعرف أبو بكر رضى الله عنه بجعجعة النّاس واشتداد فرجهم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينهم، فنكص عن مصلاّه، فدفع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى ظهره ثم قال: «صلّ بالنّاس»! وجلس صلّى الله عليه وسلم إلى جنبه فصلّى قاعدا عن يمين أبى بكر، فلمّا فرغ من صلاته أقبل على النّاس بوجهه الكريم فكلّمهم رافعا صوته: حتى خرج صوته من باب المسجد، وهو يقول: «أيّها النّاس، سعّرت النار، وأقبلت [الفتن] (3) كقطع الليل المظلم، إى والله ما تمسكون علىّ بشئ، إنّى لم أحلّ إلاّ ما أحلّ القرآن، ولم أحرّم إلاّ ما حرّم القرآن»، قال: فلمّا فرغ من كلامه دخل إلى أهله.

قال ابن إسحاق: إنّ العبّاس أخذ بيد علىّ كرّم الله وجهه فقال: يا علىّ، أحلف بالله لقد عرفت الموت فى وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، كما كنت أعرفه فى وجوه بنى عبد المطّلب فانطلق بنا إليه، فإن كان هذا الأمر فينا عرفناه، وإن كان فى غيرنا أمرناه فأوصى بنا النّاس، فقال علىّ عليه عليه السّلام: لا أفعل والله ولا أعزّيه فى نفسه، لئن منعناه لا [يؤتيناه] (1) أحد بعده. ثم توفّى من ذلك اليوم حين اشتدّ الضحى. ومن رواية المسعودى فى ذكر وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن جماعة الصحابة رضى الله عنهم قال: دخلنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى بيت عائشة رضى الله عنها حين دنا الفراق منه، فنظر إلينا ثم دمعت عيناه ثم قال: «مرحبا بكم حيّاكم الله آواكم الله نصركم الله، أوصيكم (60) بتقوى الله وأوصى بكم الله، إنّى لكم منه نذير مبين، ألا تعلوا على الله فى عباده وبلاده، فقد دنا الأجل، والمقلب إلى الله، وإلى سدرة المنتهى، وإلى جنّة المأوى والكأس الأوفى، فاقرءوا على أنفسكم وعلى من دخل فى دينكم بعدى منّى السلام ورحمة الله». وروى أنّه قال لجبريل عند موته: «من لأمّتى بعد بعدى» فأوحى الله تعالى إلى جبريل أن بشّر حبيبى أنّى لا أخذله فى أمّته، وبشّره أنّه أسرع النّاس خروجا من الأرض إذا بعثوا، وسيّدهم إذا جمعوا، وأنّ الجنّة محرّمة على الأمم حتى تدخلها أمّته، فقال: «الآن طاب قلبى وقرّت عينى». وقالت عائشة رضى الله عنها: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نغسله بسبع قرب من سبعة آبار، ففعلنا، فوجد راحة فى ذلك، فخرج يصلّى بالناس، واستغفر لهم،

واستغفر لأهل أحد، ودعا لهم وأوصى بالأنصار فقال: «أمّا بعد، يا معشر المهاجرين، فإنّكم تزيدون، وأضحت الأنصار لا تزيد على هيئتها التى هى عليها اليوم، وإنّ الأنصار هى عيبتى (1) التى أويت إليها، فأكرموا كريمهم-يعنى محسنهم-وتجاوزوا عن مسيئهم». ثم قال: «إنّ عبدا خيّر بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله»، فبكى أبو بكر رضى الله عنه، وظنّ أنّه يريد نفسه، فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «على رسلك يا أبا بكر، سدّوا هذه الأبواب الشوارع فى المسجد إلاّ باب أبى بكر، فإنّى لا أعلم امرأ أفضل عندى فى الصحبة من أبى بكر». وقالت عائشة رضى الله عنها: فقبض صلّى الله عليه وسلم فى بيتى وبين سحرى (2) ونحرى، وجمع الله بين ربقى وريقه عند الموت، دخل عليه عبد الرحمن أخى وبيده سواك فجعل ينظر إليه، فعلمت أنّه قد أعجبه ذلك السواك، فقلت: آخذه لك يا رسول الله (61) فأومأ برأسه أى نعم، فليّنته وكان بين يديه ركوة ماء فناولته إيّاه ثم جعل يدخل يده فى تلك الركوة ويقول: «لا إله إلاّ الله، إنّ للموت سكرات»، ثم يصبّ يده ويقول: «الرفيق الأعلى، الرفيق الأعلى». وعن سعيد بن عبد الله عن أبيه قال: لمّا رأت الأنصار أنّ النبى صلّى الله عليه وسلم يزداد ثقلا طافوا بالمسجد، فدخل العبّاس على النبى صلّى الله عليه وسلم فأعلمه بمكانهم، ثم دخل الفضل فأعلمه بمثل ذلك، ثم دخل علىّ عليه السلام فأعلمه بذلك، فمدّ يده، قال: «ما يقولون؟» قال: يقولون نخشى أن تموت، قال: فبادر

رسول الله صلّى الله عليه وسلم فخرج متوكّئا على علىّ كرّم الله وجهه، والفضل رضى الله عنه والعبّاس رضى الله عنه أمامه، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم معصوب الرأس يخطّ برجله حتى جلس على أسفل مرقاة من المنبر، وثاب الناس حواليه فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وقال: «أيّها الناس، إنّه بلغنى أنّكم تخافون علىّ الموت، كأنّه استنكار منكم للموت، وما تنكرون من موت نبيّكم؟ هل خلّد نبى قبلى فيمن بعث فأخلّد فيكم؟ ألا إنّى لاحق بربّى، وإنّكم لا حقون به، وإنّى أوصيكم بالمهاجرين الأوّلين خيرا، وأوصى المهاجرين فيما بينهم، فإنّ الله تعالى قال: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَتَااصَوْا بِالْحَقِّ وَتَااصَوْا بِالصَّبْرِ»} (1)، وإنّ الأمور تجرى بإذن الله، ولا يحملنّكم استبطاء أمر على استعجاله، فإنّ الله تعالى لا يعجل بعجلة أحد، ومن غالب الله غلبه، ومن خادعه خدعه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ»} (2)، وأوصيكم بالأنصار خيرا فإنّهم الذين تبوّأوا الدّار والإيمان من قبلكم أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم الثمار؟ ألم يوسّعوا لكم فى الدار؟ ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم (62) الخصاصة، ألا فمن ولّى أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، ألا ولا تستأمروا عليهم، ألا وأنى فرط لكم، وأنتم لا حقون بى، ألا وإنّ موعدكم الحوض حوضى أعرض ممّا بين بصرى الشام وصنعاء اليمن، فيه ماء أشدّ بياضا من

الّلبن وألين من الزّبد وأحلى من الشّهد، من شرب منه شربة لم يظمأ أبدا، ألا من أحبّ أن يرده فليكف لسانه ويده إلاّ فيما ينبغى». فقال العبّاس: يا نبى الله أوص لقريش! فقال: «إنّما أوصى بهذا الأمر قريشا، والنّاس تبع لقريش، برّهم لبرّهم، وفاجرهم لفاجرهم، فاستوصوا آل قريش بالنّاس خيرا، يا أيّها الناس إنّ الذّنوب تغيّر النّعم وتبدّل النّسم، فإذا برّ الناس فبرّوهم وإذا فجر الناس عقّوهم، قال الله تعالى: {وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ»} (1). وعن ابن مسعود أنّه صلّى الله عليه وسلم قال لأبى بكر: «سل يا أبا بكر»! فقال: يا رسول الله دنا الأجل؟ فقال: «قد دنا وتدلّى»، فقال: ليهنك يا نبىّ الله ما عند الله، فليت شعرى عن منقلبنا؟ فقال: «إلى الله وإلى سدرة المنتهى، وإلى جنّة المأوى، والفردوس الأعلى، والكأس الأوفى» قال: فيما نكفّنك؟ فقال: «فى ثيابى وفى حلّة يمانيّة وفى بياض مصر»، فقال: يا نبىّ الله من يغسّلك؟ فقال: «رجل من أهل بيتى الأدنى». قال: فكيف الصّلاة عليك منّا؟ وبكى وبكى رسول الله، ثم قال: «مهلا غفر الله لكم، وجزاكم عن نبيّكم خيرا، إذا غسّلتمونى وكفّنتمونى فضعونى على سريرى فى بيتى هذا على شفير قبرى، ثم اخرجوا عنّى ساعة، فإنّه أوّل من يصلّى علىّ ربّى عزّ وجلّ: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ»} (2). ثم يأذن

الله للملائكة فى الصلاة علىّ، فأوّل من يصلّى علىّ من الملائكة جبرئيل ثم ميكائيل ثم إسرافيل، ثم ملك الموت مع جنود كثيرة من الملائكة (63)، ثم الملائكة بأجمعها، ثم أنتم. فادخلوا علىّ أفواجا أفواجا فصلّوا علىّ زمرة زمرة، وسلّموا تسليما، وليبدأ فى الصّلاة أهل بيتى الأدنى، ثم أصحابى الأخصّاء، ثم النساء زمرا زمرا، ثم الصّبيان كذلك»، قال: فمن يدخل القبر؟ قال: «أهل بيتى الأدنى فالأدنى، مع ملائكة كثيرة لا ترونهم ويرونكم». قال عبد الله بن زمعة: جاء بلال فى أوّل ربيع الأوّل فأذّن للصّلاة، فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «مروا أبا بكر يصلّى بالنّاس». قال [عبد الله] (1): فخرجت فلم أجد بالباب إلاّ عمر بن الخطّاب فى رجال ليس فيهم أبو بكر، فقلت: قم يا عمر فصلّ بالنّاس! فقام عمر فلما كبّر، وكان رجلا صيّتا، فسمعه النّبىّ صلّى الله عليه وسلم فقال: «وأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، قالها ثلاث مرات، مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس». فقالت عائشة: يا رسول الله، إنّ أبا بكر رجل رقيق القلب إذا قام فى مقامك غلبه البكاء فقال: «إنكنّ صويحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالناس»، قال فصلّى أبو بكر بعد تلك الصلاة التى صلاّها عمر وكان عمر يقول لعبد الله بن زمعة بعد ذلك: ويحك ماذا صنعت بى؟ والله لولا أنّى ظننت أنّ رسول الله أمرك بذلك لما فعلت، فيقول عبد الله: إنّى لم أر أحدا أولى بذلك منك.

قالت عائشة رضى الله عنها: ما قلت ذلك ولا صرفته عن أبى بكر إلاّ رغبة به عن الدّنيا وما فى الولاية من المخاطرة والهلكة، إلاّ من سلّم الله، وخشيت أيضا ألاّ تكون الناس يحبّون رجلا صلّى فى مقام النبى صلّى الله عليه وسلم وهو حىّ أبدا -إلاّ أن يشاء الله-يحسدونه ويبغون عليه ويشاءمون به، فإذن الأمر أمر الله، والقضاء قضاؤه، عصمه الله من كلّ ما تخوّفت عليه فى أمر الدنيا والدين. قالت عائشة رضى الله عنها: (64) فلمّا كان اليوم الذى مات فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم رأيت منه فى أول النهار خفّة، فتفرّق عنه الرجال إلى منازلهم وحوائجهم مستبشرين، وأخلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالنّساء، فبينا نحن على ذلك لم يكن مثل حالنا فى الرخاء والفرح قبل ذلك إذ قال النبى صلّى الله عليه وسلم: «اخرجن عنّى، هذا الملك يستأذن علىّ»، قالت: فخرج من فى البيت غيرى، ورأسه فى حجرى، فجلس، فقمت عنه فى ناحية من البيت، فناجى الملك طويلا، ثم إنّه دعانى فأعاد رأسه فى حجرى، وقال للنّسوة: «ادخلن»، فدخلن، فقلت: يا رسول الله ما هذا بحسّ جبريل عليه السّلام. فقال: «أجل يا عائشة، هذا ملك الموت جاء إلىّ وقال إنّ الله أرسلنى إليك، وأمرنى أن لا أدخل عليك إلاّ بإذن منك، وإن لم تأذن لى وإلاّ رجعت، وأمرنى أن لا أقبض نفسك إلاّ بأمرك، فقلت: تربص حتى يأتينى جبريل عليه السّلام»، قالت عائشة: وجاء جبريل فى ساعته، فعرفت حسّه فجلا به ساعة، فسمعناه يقول: «الرّفيق الأعلى، الرّفيق الأعلى» ثم قبض صلّى الله عليه وسلم ضحى نهار. وجرت أحواله صلّى الله عليه وسلم كلّها على يوم الاثنين، وذلك أنّه ولد يوم الاثنين، وبعث يوم الاثنين، وخرج من مكّة يوم الاثنين، ودخل المدينة مهاجرا

يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة من الهجرة النبويّة. قال ابن إسحاق: فلمّا توفّى صلّى الله عليه وسلم قام عمر فقال: إنّ رجالا يزعمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قدمات، وإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما مات، ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب (65) موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل فيه إنّه مات، والله ليرجعنّ رسول الله كما رجع موسى، وليقطعنّ أيدى رجال وأرجلهم. قال: فأقبل أبو بكر رضى الله عنه حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر وعمر رضى الله عنه يكلّم الناس، فلم يلتفت إلى شئ حتى وصل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى بيت عائشة، فوجده مسجّى فى ناحية البيت، فأقبل حتى كشف عن وجهه الكريم صلّى الله عليه وسلم فقبّله، ثم قال: بأبى وأمّى أنت يا رسول الله، أمّا الموتة التى كتبها الله عزّ وجلّ عليك فقد ذقتها، ثم لن [تصيبك] (1) بعدها موتة أبدا، ثم ردّ الثوب-وهى البردة-على وجهه الكريم، ثم خرج وعمر يكلّم الناس، فقال: على رسلك يا عمر، أنصت، فأبى إلاّ أن يتكلّم، فلمّا رآه لا ينصت أقبل على الناس، فحمد الله وأثنى عليه، فلمّا سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر، ثم قال: أيّها النّاس من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حىّ لا يموت، ثم تلا: {وَما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ»} (2) - الآية، قال: فو الله لكأنّ النّاس لم يعلموا أنّ هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر،

قال عمر: ما هو إلاّ أن سمعت أبا بكر تلاها فصرخت حتى وقعت [إلى] (1) الأرض ما حملتنى رجلاى. وعرفت أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد مات حقّا. وتوفّى صلّى الله عليه وله من العمر ثلاث وستّون سنة، وهو المتّفق عليه، وكان له بالمدينة عشر سنين، وغسّله علىّ عليه السّلام والعبّاس والفضل وقثم رضوان الله عليهم، فكان علىّ يسنده إلى صدره، والعبّاس والفضل (66) يقلبونه، وأسامة وشقران يصبّان عليه الماء، ويقال: كان فيهم أوس بن خولى من الخزرج، وكفّن صلّى الله عليه وسلم فى ثلاثة أثواب بيض سحوليّة (2)، وفرغ من جهازه يوم الثلاثاء، وصلّى عليه النّاس زمرا زمرا بغير إمام، ودخل قبره العبّاس وعلىّ والفضل وقثم وشقران، وقيل أدخلوا معهم عبد الرّحمن بن عوف، وقيل إنّهم اختلفوا فى مكان الدّفن، فقال بعضهم: ندفنه فى مصلاّه، وقال بعض: بالبقيع، فقال أبو بكر رضى الله عنه سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ما دفن نبىّ قطّ إلاّ فى المكان الذى توفّى فيه» فدفن فى الموضع الذى قبض فيه، وحفر له مكان فراشه ولحد وأطبق عليه تسع لبنات، وقيل: اختلفوا أيلحد له أم لا، وكان بالمدينة حفّاران أحدهما يلحد، وهو أبو طلحة والآخر لا يلحد وهو أبو عبيدة، فاتّفقوا على أىّ من جاء منهم أوّلا عمل عمله، فجاء الذى يلحد فلحده صلّى الله عليه وسلم.

ذكر أسمائه صلى الله عليه وسلم

ذكر أسمائه صلّى الله عليه وسلم قال صلّى الله عليه وسلم: «أنا محمّد، وأنا أحمد، وأنا الماحى الذى يمحى بى الكفر، وأنا الحاشر الذى أحشر الناس، وأنا العاقب فلا نبىّ بعدى. وفى رواية: وأنا المقفّى، ونبىّ التّوبة ونبىّ الرحمة، وفى رواية: «الملحمة»، وسمّاه الله فى كتابه العزيز: بشيرا ونذيرا وسراجا منيرا، ورؤوفا رحيما، ورحمة للعالمين، ومحمّدا، وأحمد، وطه، ويس، ومزمّلا، ومدثّرا وعبدا فى قوله: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ»} (1). وعبد الله فى قوله: {وَأَنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللهِ»} (2) ونذيرا مبينا، ومذكّرا فى قوله: {إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ»} صلّى الله عليه وسلم، وقد ذكرت له أسماء كثيرة؛ منها المتوكّل والفاتح والخاتم والضحوك (67) والقتّال والأمين والمصطفى والرسول النبى الأمّى والقثم، ومعلوم أنّ أكثر هذه الأسماء صفات، وقد تقدّم شرح الماحى والحاشر والعاقب والمقفّى والمرحمة بمعنى الرحمة، والملاحم: الحروب، والضحوك صفته فى التوراة، قال ابن فارس: إنّما سمّى بذلك لأنّه كان طيّب النفس فكها، والقثم من معنيين: أحدهما العطاء، يقال: قثم له أى أعطاه، وكان صلّى الله عليه أجود من الريح المرسلة، والثانى من القثم الجمع، يقال للرّجل الجامع للخير قثوم وقثيم، والله أعلم.

ذكر صفته صلى الله عليه وسلم

ذكر صفته صلّى الله عليه وسلم كان صلّى الله عليه وسلم ربعة من القوم: لا بائن من طول، ولا تقتحمه العين من قصره غصن بين غصنين، بعيد ما بين المنكبين، أبيض اللون مشرب بحمرة، وقيل أزهر (1)، ليس بالأبيض الأمهق (2) ولا بالأدم، له شعر رجل يبلغ شحمة أذنيه إذا طال، وإذا قصر إلى أنصافهما، لم يبلغ شيبه فى رأسه ولحيته عشرين شعرة، كأنّ عنقه جيد دمية فى صفاء الفضّة، ظاهر الوضاءة مبلج الوجه يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، حسن الخلق معتدله لم تعبه ثجلة (3)، ولم تزر به صعلة (4)، وسيما قسيما، فى عينيه دعج، وفى بياضهما عروق دقاق، وفى أشفارهما غطف (5)، وفى صوته صحل (6)، وفى عنقه سطح، وفى لحيته كثافة (7). إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلّم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق فصل: لا نزر ولا هذر (8)، كأنّ منطقه خرزات نظم تنحدر من عقد، واسع الجبين، أزجّ (9) الحواجب فى غير قرن، بينهما

عرق يدرّه الغضب (1)، أقنى العرنين (2)، له نور يعلوه، يحسبه من لم (68) يتأمّله أشمّ (3)، سهل الخدّين (4) ضليع (5) الفم، أشنب، مفلج الأسنان، دقيق المسربة، من لبّته إلى سرته شعر يجرى كالقضيب، ليس فى بطنه ولا صدره شعر غيره، أشعر الذراعين والمنكبين، بادن (6) متماسك، سواء البطن والصدر، [سبيح (7)] الصدر، ضخم الكراديس (8)، أنور المتجرّد (9)، عريض الصّدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن (10) الكفّين والقدمين، سائل الأطراف، سبط القصب (11)، خمصان الأخمصين (12)، مسيح القدمين، ينبو عنهما الماء، إذا زال زال قلعا (13)، ويخطو تكفّيا (14) ويمشى هونا، ذريع المشية، إذا مشى كأنّما ينحطّ من صبب (15)، وإذا التفت التفت جميعا، بين كتفيه خاتم النبوة

كأنّه زرّ حجلة (1) أو بيضة حمام، لونه كلون جسده، عليه خيلان (2)، كأنّ عرقه اللؤلؤ، ولريح عرقه أطيب من ريح المسك الأذفر، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله، صلّى الله عليه وسلم وعن البراء بن عازب قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى [حلّة] (3) حمراء لم أر شيئا قطّ أحسن منه، وعن أنس قال: ما مسست ديباجا ولا حريرا ألين من كفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قطّ أطيب من رائحته صلّى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر رضى الله عنه إذا رأى النبىّ صلّى الله عليه وسلم يقول: أمين مصطفى بالخير يدعو … كضوء البدر زايله الظلام وعن أبى هريرة قال: كان عمر بن الخطّاب رضى الله عنه ينشد قول زهير ابن أبى سلمى فى هرم بن سنان فيقول: لو كنت من شئ سوى بشر … كنت المضئ لليلة البدر ثم يقول عمر وجلساؤه حوله: كذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم (69) ولم يكن كذلك غيره، وفيه يقول عمه أبو طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه … ربيع اليتامى عصمة للأرامل يطيف به الهلاّك (4) … من آل هاشم فهم عنده فى نعمة وفضائل وميزان حقّ لا يخيس (5) … شعيرة ووزّان عدل وزنه غير عائل

ذكر صفاته المعنوية صلى الله عليه وسلم

ذكر صفاته المعنويّة صلّى الله عليه وسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: سألت عائشة رضى الله عنها عن خلقه صلّى الله عليه وسلم، فقالت: كان خلقه القرآن، يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، وكان لا ينتقم لنفسه ولا يغضب لها إلاّ أن تنتهك حرمات الله عزّ وجلّ فيكون لله ينتقم، وإذا غضب لم يقم لغضبه أحد، وكان أشجع الناس وأجرأهم صدرا. قال علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه: كنّا إذا اشتدّ البأس اتقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلم. وكان أسخى الناس وأجودهم، ما سئل قطّ شيئا فقال لا، وأجود ما كان فى شهر رمضان، وكان لا يبيت فى بيته دينار ولا درهم، فإن فضل ولم يجد من يعطيه وفجأه الليل لم يأو إلى منزله حتى يبرأ منه إلى من يحتاج إليه، لا يأخذ ممّا آتاه الله إلاّ قوت أهله عاما فقط من أيسر ما يجد من التمر والشعير، ويضع سائر ذلك فى سبيل الله، ولا يدّخر لنفسه شيئا، ثمّ يؤثر (1) من قوت أهله حتّى ربّما احتاج قبل انقضاء العام. وكان أصدق الناس لهجة، وأوفاهم بذمّة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة، محقود محسود، لا عابس ولا مفند، فخما مفخّما (2)، وكان أحلم الناس، وأشدّ حياء من العذراء فى خدرها، لا يثبّت بصره فى وجه أحد، خافض لطرفه، نظره إلى الأرض (70) أطول من نظره إلى السماء، جلّ نظره الملاحظة. وكان أكثر الناس تواضعا، يجيب من دعاه من غنىّ أو فقير، أو شريف أو دنئ، أو حرّ أو عبد، يصفّى الإناء للهرّة فما يرفعه حتى تروى رحمة لها، ويسمع بكاء الصغير وهو مع أمّه فى الصلاة فيخفّف رحمة لها.

وكان أعفّ الناس لم تمسّ يده امرأة قطّ لا يملك رقّها أو نكاحها أو تكون ذات رحم. وكان أشدّ الناس كرامة لأصحابه، ما رؤى قطّ مادّا رجله بينهم، ويوسّع عليهم إذا ضاق المكان، ولم تكن ركبتاه تتقدّمان ركبة جليسه، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبّه، له رفقاء يحفّون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام. وكان يقول: «لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنّما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله». وكان يتجمّل لأصحابه فضلا، ويقول: «إنّ الله يحبّ من عبده إذا خرج إلى إخوانه أن يتهيّأ لهم ويتجمّل»، وكان يتفقّد أصحابه ويسأل عنهم؛ فمن كان مريضا عاده، ومن كان غائبا دعا له وتفقّد أهله، ومن مات استرجع فيه وأوسعه بالدعاء، ومن كان يتخوّف أن يكون وجد فى نفسه شيئا قال: «لعلّ فلانا وجد علينا فى شئ، أو رأى منّا تقصيرا، انطلقوا بنا إليه». فينطلق حتى يأتيه فى منزله، وكان يخرج إلى بساتين أصحابه ويأكل ضيافة من أضافه فيها، ويتألّف أهل الشرف ويكرم أهل الفضل، ولا يطوى بشره عن أحد، ولا يجفو عليه، ولا يقبل الثناء إلاّ من مكافئ، ويقبل معذرة من يعتذر إليه، والقوىّ والضعيف والقريب والبعيد عنده فى الحقّ سواء. وكان لا يدع أحدا يمشى خلفه ويقول: «خلّوا ظهرى للملائكة»، ولا يدع أحدا يمشى معه وهو راكب حتى يحمله، فإن أبى قال: «تقدّمنى المكان

الذى (71) تريد»، وركب صلّى الله عليه وسلم حمارا عريانا إلى قباء، وأبو هريرة معه، فقال: «يا أبا هريرة، أحملك»؟ [فقال: ما شئت، فقال: «اركب»] (1)، وكان فى أبى هريرة ثقل فوثب ليركب، فلم يقدر، فاستمسك برسول الله صلّى الله عليه وسلم فوقعا جميعا، ثم ركب صلّى الله عليه وسلم، فقال: «أحملك؟» فقال: ما شئت يا رسول الله، فقال: «اركب»، فلم يقدر فاستمسك بالنبى صلّى الله عليه وسلم فوقعا جميعا، ثم قال: «يا أبا هريرة، أحملك؟» فقال: لا، والّذى بعثك بالحقّ لا صرعتك ثالثا. وكان صلّى الله عليه وسلم له عبيد وإماء لا يترفّع عليهم فى مأكل ولا ملبس ويخدم من خدمه، قال أنس رضى الله عنه: خدمت النبى صلّى الله عليه وسلم نحوا من عشرين سنة فو الله ما صحبته فى سفر ولا حضر لأخدمه إلاّ وكانت خدمته لى أكثر من خدمتى له، وما قال لى أفّ قطّ، ولا لشئ فعلته لم فعلت كذا. وكان صلّى الله عليه وسلم فى بعض أسفاره، فأمر بإصلاح شاة فقال رجل: يا رسول الله علىّ ذبحها، وقال آخر: وعلىّ سلخها، وقال آخر: وعلىّ طبخها، فقال صلّى الله عليه وسلم: «وعلىّ جمع الحطب». فقالوا: يا رسول الله نحن نكفيك، فقال: «إنّ الله يكره من عبده أن يراه متميّزا بين أصحابه»، وقام صلّى الله عليه وسلم وجمع الحطب. وكان صلّى الله عليه وسلم فى سفر فنزل للصلاة، فتقدّم إلى مصلاّه، ثم كرّ راجعا، فقالوا: يا رسول الله أين تريد؟ قال: «أعقل ناقتى!» قالوا: نحن نكفيك! قال: «لا يستعن أحدكم بالناس ولو فى وصمة من سواك». وكان يوما جالسا يأكل هو وأصحابه تمرا، فجاء صهيب وقد غطّى على عينه

وهو أرمد، فسلّم وأهوى فى التمر يأكل، فقال صلّى الله عليه وسلم: «تأكل الحلوى وأنت أرمد؟» فقال: يا رسول الله إنّما آكل بشقّ عينى الصحيحة. (72) وكان يأكل ذات يوم رطبا، فجاءه علىّ عليه السلام وهو أرمد، فدنا ليأكل فقال: «أتأ كل الحلوى وأنت أرمد؟»، فتنحّى ناحية، فنظر إليه صلّى الله عليه وسلم وهو ينظر إليه، فرمى له برطبة ثم أخرى، حتى رمى إليه سبعا، فقال: «حسبك، فإنّه لا يضر من التمر ما أكل وترا». وأهدت إليه أمّ سلمة رضى الله عنها قصعة ثريد، وهو عند عائشة، فرمت بها عائشة وكسرتها، فجعل صلّى الله عليه وسلم يجمع ذلك فى القصعة ويقول: «غارت أمّكم، غارت أمّكم». وحدّث صلّى الله عليه وسلم ذات ليلة نساءه حديثا، فقالت امرأة منهم: كأنّ الحديث حديث خرافة، فقال صلّى الله عليه وسلم: «أتدرون ما خرافة؟ إنّ خرافة كان رجلا فى عذرة، أسرته الجنّ فى الجاهليّة، فمكث فيهم دهرا، ثم ردّوه إلى الإنس، فكان يحدّث الناس بما رأى منهم من العجائب، فقال الناس: حديث خرافة». وكان صلّى الله عليه وسلم إذا دخل منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء، جزء لله، وجزء لنفسه وجزء لأهله، ثم جزّأ جزأه بينه وبين الناس، فيردّ ذلك بالخاصّة على العامّة. وكان صلّى الله عليه وسلم من سيرته فى جزء الأمّة إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمته على قدر فضلهم فى الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم، ويشغلهم فيما يصلحهم، ويخبرهم بالذى ينبغى لهم، ويقول: «ليبلغ

الشاهد [منكم] (1) الغائب وأبلغونى حاجة من لا يستطيع [إبلاغها، فإنّه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها] (1) ثبّت الله قدميه يوم القيامة» لا يذكر عنده [إلاّ] (1) ذلك ولا يقبل من أحد غيره، ويدخلون روّادا (2)، ولا [يتفرّقون] (3) إلاّ ذواق (4)، ويخرجون أدلة، يعنى على الخير. وكان صلّى الله عليه وسلم يؤلّف أصحابه ولا ينفّرهم، [ويكرم كريم كلّ قوم] (5) ويولّيه عليهم، والّذى يليه من النّاس خيارهم، أفضلهم عنده (73) أعمّهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة، ولا يجلس ولا يقوم إلاّ على ذكر، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهى به المجلس: ويأمر بذلك ويعطى كلّ جلسائه [نصيبه] (6)، لا يحسب جليسه أنّ أحدا أكرم عليه منه ممّن جالسه، وإذا جلس أحد إليه لم يقم حتى يقوم الذى جلس إليه إلاّ إن استعجله أمر فيستأذنه، ولا يقابل أحدا بما يكره، ولا ضرب خادما قطّ ولا امرأة ولا أحدا إلاّ فى جهاد أو حدّ، ويصل ذا رحمه من غير أن يؤثره على من هو أفضل منه، ولا يجزى السيئة بمثلها بل يعفو ويصفح، وكان يعود المرضى، ويحبّ المساكين ويجالسهم، ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيرا لفقره، ولا يهاب ملكا لملكه، ويعظّم النعمة وإن قلّت، لا يذمّ منها شيئا، ويحفظ ويكرم ضعيفه ويبسط له رداءه.

وجاءته ظئره التى أرضعته يوما فبسط رداءه لها وقال: «مرحبا بأمّى» وأجلسها عليه. وكان أكثر النّاس تبسّما وأحسنهم بشرا، مع أنّه كان متواصل الأحزان، دائم الفكرة، لا يمضى له وقت من غير عمل لله، لو فيما لا بدّ له. أو لأهله منه، ولا خيّر فى شيئين قطّ اختار أيسرهما، إلاّ أن يكون فى قطيعة رحم فيكون أبعد النّاس منه. وكان يخصف نعله، ويرفّع ثوبه ويخدم فى مهنة أهله ويقطع اللّحم معهنّ. ويركب الفرس والبغل والحمار، ويردف خلفه عبده أو غيره ويمسح وجه فرسه بطرف كمّه، أو بطرف ردائه، وكان يتوكّأ على العصى، وقال: «التوكّؤ على العصى من أخلاق الأنبياء»، ورعى الغنم، وقال: «ما من نبىّ إلاّ وقد رعاها». وعقّ صلّى الله عليه وسلم عن نفسه بعد ما جاءته النبوّة. وكان لا يدع العقيقة عن المولود من أهله، ويأمر بحلق رأسه (74) يوم السّابع، وأن يتصدّق عنه بزنته فضّة، وكان يحبّ الفأل، ويكره الطّيرة، ويقول: «ما منّا إلاّ من يجد فى نفسه، ولكن الله يذهبه بالتوكّل». وكان إذا جاءه ما يحبّ قال: {الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ»}، وإذا جاءه ما يكره قال: «الحمد لله على كل حال»، وإذا رفع الطّعام من بين يديه قال: «الحمد لله الذى أطعمنا وسقانا وآوانا وجعلنا من المسلمين»، وروى فيه: «الحمد لله حمدا كثيرا طيّبا مباركا فيه غير مودّع ولا مستغنى عنه ربّنا»، وإذ عطس خفض صوته واستتر بيده أو بثوبه.

وكان يكثر الذّكر ويقلّ الّلغو ويطيل الصّلاة ويقصّر الخطبة ويستغفر فى المجلس الواحد مائة مرّة، وينام أوّل الليل، ثم يقوم من السحر ثم يوتر، ثم يأتى فراشه، فإذا سمع الأذان وثب، فإن كان جنبا أفاض عليه وإلاّ توضّأ وخرج إلى الصّلاة، وكان يصلّى قائما وربّما صلّى قاعدا، قالت عائشة رضى الله عنها: لم يمت صلّى الله عليه وسلم حتى كان أكثر صلاته جالسا. وكان يسمع لجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء وهو فى الصّلاة. وكان يصوم الاثنين والخميس، وثلاثة أيّام من كلّ شهر، وعاشوراء، وقلّ ما كان يفطر يوم الجمعة، وأكثر صيامه فى شعبان، وكانت تنام عيناه ولا ينام قلبه انتظارا للوحى، وإذا نام نفخ ولا يغطّ غطيطا، وإذا رأى فى منامه ما يروعه قال: «هو الله لا شريك له»، وإذا أخذ مضجعه وضع كفّه اليمنى تحت خدّه، وقال: «ربّ قنى عذابك يوم تبعث عبادك»، وكان يقول: «الّلهمّ باسمك أموت وأحيا»، وإذا استيقظ قال: «الحمد لله الذى أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور». وكان إذا تكلّم بيّن كلامه حتى يحفظه من جلس إليه، ويعيد الكلمة ثلاثا لينقل عنه، ويخزن لسانه لا يتكلّم فى غير حاجة، ويتكلّم بجوامع الكلام، فضل لا فضول ولا تقصير. (75) وكان يتمثّل بشئ من الشعر، وكثيرا ما يتمثّل بقول: ويأتيك بالأخبار من لا تزوّد (1) …

أو بغير ذلك. وكان جلّ ضحكه التبسم، وربّما ضحك لشئ يعجبه حتى تبدو نواجذه صلّى الله عليه وسلم من غير قهقهة. وما عاب صلّى الله عليه وسلم طعاما قطّ، إن اشتهاه أكله وإن لم يشته تركه، وكان لا يأكل متّكئا ولا على خوان، ولا يمتنع من مباح، ويأكل الهدّية ويكافئ عليها، ولا يأكل الصّدقة ولا يتأنّق فيما كان يأكل، يأكل ما وجد تمرا كان أو خبزا، وإن وجد شواء أكله وإن وجد لبنا اكتفى به، ولم يأكل خبزا مرقّقا حتى مات صلّى الله عليه وسلم. قال أبو هريرة: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الدّنيا لم يشبع من خبز الشعير، وكان يأتى على آل محمّد الشّهر والشّهران لا يوقد فى بيت من بيوته نار، كان قوتهم التمر والماء، وكان يعصب على بطنه الحجر من الجوع، وقد أتاه الله مفاتيح خزائن الأرض، فأبى أن يقبلها واختار الآخرة عليها. وكان يأتى عائشة فيقول: «عندك غذاء؟» فتقول: لا، فيقول: «إنىّ صائم». فأتاها يوما، فقالت: يا رسول الله: أهدى لنا هدّية، قال: «وماهى؟» قالت: حسيا. قال: «أما إنّى أصبحت صائما»، قالت، ثم أكل وأكل صلّى الله عليه وسلم الخبز بالخلّ، وقال: «نعم الإدام الخلّ»، وأكل لحم الدّجاج، ولحم الحبارى، وكان يحبّ الدّبّاء ويتبعه، ويعجبه الذراع من الشاة، وقال «إنّ أطيب اللحم لحم الظهر»، وقال: «كلوا الزيت وادّهنوا به، فإنّه من شجرة مباركة»، وكان يعجبه التفل، يعنى ما بقى من الطّعام، وكان يأكل بأصابعه الثلاثة ويلعقهم.

وعن سلمى زوجة أبى رافع أنّ الحسن وابن عبّاس وابن جعفر أتوها فقالوا: اصنعى لنا طعاما ممّا كان يعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويحسن أكله! فقالت: إنّكم لا تشتهونه اليوم، قالوا: بلى، اصنعيه! قال: فقامت فطحنت شعيرا وجعلته فى قدر، وصبّت عليه شيئا من زيت، ودقّت الفلفل والتوابل وقرّبته إليهم، فقالت: هذا ما كان يعجب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويحسن أكله. وأكل صلّى الله عليه وسلم خبز الشعير بالتمر، وقال: هذا أدم هذا، وأكل صلّى الله عليه وسلم البطيخ بالرطب، والقثّاء بالرطب، والتّمر بالزبد. وكان يحبّ الحلوى والعسل، وكان يشرب قاعدا، وربّما شرب قائما، وتنفّس ثلاثا، وإذا فضل منه فضلة وأراد أن يسقيها بدأ بمن عن يمينه. وشرب صلّى الله عليه وسلم لبنا، وقال: «من أطعمه الله طعاما فليقل: اللهّم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه، ومن أسقاه الله لبنا فليقل: «اللهّم بارك لنا فيه وارزقنا منه»، وقال صلّى الله عليه وسلم: «ليس شئ يجزى مكان الطعام والشراب غير اللبن». وكان صلّى الله عليه وسلم يلبس الصوف وينتعل بالمخصوف، ولا يتأنّق فى ملبس، ويلبس ما وجد مرّة شملة، ومرّة بردا، ومرّة حبرة، ومرّة جبة صوف، وكان يلبس النعال السبتيّة (1)، ويتوضّأ فيها، وكان لنعليه قبالان، وأوّل من عقد عقدا واحدا عثمان، وكان أحبّ اللباس إليه الحبرة؛ وهى من برد اليمن، فيها حمرة وبياض، وكان أحبّ الثياب إليه القميص، وكان إذا استجدّ ثوبا سمّاه باسمه: عمامة أو قميصا أو بردا أو غير ذلك، يقول: «اللهمّ لك الحمد كما ألبستنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شرّه وشرّ ما صنع له»، وكان تعجبه الثياب

الخضر، وكانت تكون قميصه مشدودة الأزرار، وكان يلبس الكساء الصوف وحده فيصلّى فيه، وربّما لبس الإزار الواحد ليس عليه غيره، يعقد طرفيه من كتفيه يصلّى فيه، وكان يلبس القلانس تحت العمائم ويلبسها دون (77) العمائم، ويلبس العمائم دونها، ويلبس القلانس ذات الآذان فى الحرب، وربّما نزع قلنسوته وجعلها سدّة بين يديه وصلّى إليها، وربّما مشى بلا قلنسوة ولا عمامة ولا رداء راجلا يعود المرضى كذلك فى أقصى المدينة، وكان يعتمّ ويسدل طرف عمامته بين كتفيه، وعن علىّ عليه السّلام: عمّمنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعمامة وسدل طرفها على منكبى، وقال: «إنّ العمامة حاجز بين المسلمين والمشركين». وكان يلبس يوم الجمعة برده الأحمر، ويعتمّ، ويلبس خاتما من فضّة، فصّه منه، نقشه: محمّد رسول الله، فى خنصره الأيمن، وربّما لبسه فى الأيسر، ويجعل فصّه ممّا يلى باطن كفّه. وكان صلّى الله عليه وسلم يحبّ الطيب ويكره الريح الخبيثة، ويقول: «إنّ الله عزّ وجلّ حبّب إلىّ النسّاء والطّيب وجعل قرّة عينى فى الصّلاة». وكان يتطيّب بالغالية والمسك حتى يرى وبيصه (1) فى مفارقه، ويتبخّر بالعود ويطرح معه الكافور، وكان يعرف فى الليلة المظلمة بطيب ريحه، وكان يكتحل بالإثمد فى كلّ ليلة فى كلّ عين، وربّما اكتحل ثلاثا فى اليمين واثنين فى اليسار، وربّما اكتحل وهو صائم، وكان يقول: عليكم بالإثمد فإنّه [يجلو (2)] البصر ويثبّت الشعر، وكان يكثر دهن رأسه ولحيته. وكان يترجّل غبّا (3)، وكان يحبّ التيمّن فى

ترجّله وتنعله وطهوره، وفى شأنه كلّه، وكان ينظر فى المرآة وربّما نظر فى الماء فى ركوة فى حجر عائشة وسوى جمته، وكان لا يفارقه فى سفره قارورة الدهن، والمكحلة، والمرآة، والمشط، والمقراض، والسواك، والخيوط والإبرة فيخيط بها ثيابه، ويخصف فعله. وكان يستاك بالأراك، وكان إذا قام من النوم يشوّص فاه بالسواك فيستاك فى الليلة ثلاث مرار: قبل النوم، وعند القيام من النوم، وعند الخروج (78) إلى صلاة الصبح. وكان يحتجم فى الأخدعين وبين الكتفين، واحتجم وهو محرم [بملل (1)] على ظهر القدم، وكان يحتجم لسبعة عشر وتسعة عشر وإحدى وعشرين. وكان صلّى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلاّ حقّا، دخل يوما على أمّ سلمة وقد مات نغير (2) ابنها من أبى طلحة، [فقال له: «يا أبا عمير (3)]، ما فعل النّغير؟» وجاءته امرأة فقالت: يا رسول الله، احملنى على جمل، فقال: «أحملك على ولد النّاقة؟» فقالت: لا يطيقنى، قال: «لا أحملك إلاّ على ولد النّاقة». قالت: لا يطيقنى. فقال لها الناس: وهل الجمل إلاّ ولد الناقة؟ وجاءته أخرى فقالت: يا رسول الله إنّ زوجى مريض، وهو يدعوك، فقال: «لعلّ زوجك الذى فى عينيه بياض». فرجعت المرأة وفتحت عين زوجها لتنظر إليها، فقال: ما لك؟ فقالت: أخبرنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن فى عين زوجك بياضا، فقال: ويحك وهل أحد إلاّ وفى عينيه بياض؟ وجاءته أخرى فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يدخلنى الجنّة! فقال:

«يا أمّ فلان إنّ الجنّة لا يدخلها عجوز، فولّت المرأة وهى تبكى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أخبروها أنهّا لا تدخل الجنّة وهى عجوز، إنّ الله تعالى يقول: {إِنّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً، عُرُباً أَتْراباً»} (1). وقالت عائشة رضى الله عنها: سابقته ذات يوم فسبقته، فلمّا كثر لحمى سابقته فسبقنى، ثم ضرب كتفى، وقال: «هذه بتلك» وجاء صلّى الله عليه وسلم إلى السوق من وراء ظهر رجل اسمه زاهر، وكان صلّى الله عليه وسلم يحبّه، فوضع يده على عينيه، وما كان يعرف أنّه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حتى قال: «من يشترى [هذا] (2) العبد؟» فجعل يمسح ظهره برسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويقول: إذا تجدنى كاسدا يا رسول الله! فقال: «لكنّك عند ربّك لست بكاسد»، ورأى صلّى الله عليه وسلم حسينا مع صبية فى السكّة فتقدّم صلّى الله عليه وسلم أمام القوم وطفق (79) الحسين يفرّ هاهنا وهاهنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يضاحكه، حتى أخذه فجعل إحدى يديه تحت ذقنه، والأخرى فوق رأسه. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدخل على عائشة رضى الله عنها والجوارى يلعبن عندها، فإذا رأينه تفرّقن فسيّرهن إليها، وقال لها يوما: وهى تلعب بلعبها: «ما هذه يا عائشة»؟ فقالت: خيل سليمان بن داود، فضحك وطلب الباب، فابتدرته واعتنقته، فقال: «ما لك يا حميراء»؟ فقالت: بأبى أنت وأمّى يا رسول الله، ادع الله أن يغفر لى ما تقدّم من ذنبى وما تأخّر، قالت: فرفع يديه حتى بان بياض إبطيه، وقال: «الّلهمّ اغفر لعائشة بنت أبى بكر ظاهره وباطنه مغفرة لا تغادر ذنبا ولا تكسب بعده خطيئة ولا إثما»، وقال صلّى الله عليه وسلم: «أفرحت

يا عائشة»؟ فقلت: إى والذى بعثك بالحقّ، فقال: أما والّذى بعثنى بالحقّ ما خصصتك بها من بين أمّتى، وإنّها لصلاتى لأمّتى فى الليل والنهار فيمن مضى منهم ومن بقى ومن هو آت إلى يوم القيامة، وأنا أدعو لهم والملائكة يؤمّنون على دعائى. قلت: إنّ فى هذا الخبر من البشارة لأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم ما يوجب أن يدعو لواضعه فى هذا التاريخ (1) بالعفو والمسامحة والآخرة الصالحة. وكان صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيّين وسيّد المرسلين، وآتاه الله علم الأوّلين والآخرين ولا يحصى مناقبه أحد من العالمين، صلّى الله عليه وعلى آله أجمعين، وأصحابه صلاة دائمة إلى يوم الدين. وأنشد الأمين العاصمى يقول: يا جاعلا سنن النّبىّ … شعاره ودثاره مستمسكا بحديثه … منتبّعا أخباره [سنن الشّريعة خذ بها … متوسّما آثاره] (2) وكذا الطّريقة فاقتبس … فى سبلها أنواره هو قدوة لك فاتّخذ … فى السنّتين شعاره قد كان يقرى ضيفه … كرما ويحفظ جاره ويجالس المسكين يؤ … ثر قربه وجواره الفقر كان رداءه … والجوع كان شعاره

يلقى [بغرّة ضاحك] (1) … مستبشرا زوّاره بسط الرداء كرامة … لكريم قوم زاره ما كان مختالا ولا … مرحا يجرّ إزاره قد كان يركب بالرّدي‍ … ف من الخشوع حماره فى مهنة هو [أو] (2) … صلا ة ليله ونهاره فتراه يحلب شاة من‍ … زله ويوقد ناره ما زال كهف مهاجريه … ومكرما أنصاره برّا بمحسنهم [مقي‍ … لا] (3) للمسئ عثاره يهب الّذى تجوى يدا … هـ لطالب إيثاره زكّى عن الدّنيا الدّن‍ … يّة ربّه مقداره جعل الإله صلاته … أبدا عليه نثاره فاختر من الأخلاق ما … كان الرّسول اختاره لتعدّ سنّيا وتو … شك أن تبوّأ داره صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم وعلى جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين. قلت: وأمّا المدائح الكريمة فى سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأكثر من أن تحصى، وقد اعتنى بجمع ذلك الأمير علاء الدين علىّ بن أمير حاجب متولّى يومئذ

ذكر ما لخص من كتاب الشفاء من معجزاته صلى الله عليه وسلم وعظم وكرم

مصر المحروسة، فالذى وصلت إليه قدّرته ما وقفت له من ذلك على مجلّد كبير ضخم جدّا، يتضمّن فهرستا بعدّة أسماء الكتب المجلّدات التى ضمّنها ما جمع من المدائح النبويّة، فكان عدّة ذلك مائة وخمسين مجلّدة، وعدّة القصائد المضمّنة مدحه صلّى الله عليه وسلم ثمانية آلاف ومائتى قصيد وقصيد واحد، وعدّة الأبيات فى هذه القصائد المذكورة أربعمائة ألف بيت وأربعة وعشرين ألف بيت وأربعمائة وأربعة وأربعين بيتا. ذكر ما لخّص من كتاب الشفاء من معجزاته صلّى الله عليه وسلم وعظّم وكرّم فمنه القرآن العظيم المعجز الذى أعجز الفصحاء معارضته، وقصرت البلغاء عن مشاكلته، فلا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وأيقن الملحدون بصدقه لمّا سئلوا أن يأتوا بعشر سور أو بسورة أو بآية من مثله. ومنها حديث سلمان، وقول العالم الذى كان يأتى بيت المقدس فى كلّ عام مرّة له: لا أعلم فى الأرض أعلم من يتيم خرج من أرض تهامة، إن ينطلق الآن نوافقه، وفيه ثلاث خلال: يأكل الهديّة ولا يأكل الصدقة، وعند غطروف كتفه الأيمن خاتم النبوّة مثل البيضة، لونها لون جلده، فانطلق فوجده صلّى الله عليه وسلم، ووجد العلامات.

ومنها شرح صدره لمّا عرج به، وإخراج العلقة التى هى حظّ الشيطان من قلبه، ثم غسله بماء زمزم وأعاده، وقد تقدّم ذكره. ومنها إخباره عن بيت المقدس وما فيه وهو بمكّة حين تردّدوا فى عروجه، وسألوه أن يصف لهم بيت (81) المقدس، فكشف الله عزّ وجلّ له عنه فوصفه لهم. ومنها انشقاق القمر له فرقتين حين سألته قريش آية، وأنزل ذكر ذلك فى القرآن العظيم. ومنها أنّ ملأ من قريش جلسوا فى الحجر بعد ما تعاقدوا على قتله فخرج صلّى الله عليه وسلم فخفضوا أبصارهم، وسقطت أذقانهم على صدورهم، ولم يقم إليه منهم رجل، فأقبل صلّى الله عليه وسلم حتى وقف على رؤوسهم، فقبض قبضة من تراب وقال: «شاهت الوجوه»، ثم حصبهم فما أصاب رجلا منهم حصبة من ذلك الحصى إلاّ قتل يوم بدر. ومنها أنّه رمى القوم يوم حنين بقبضة من تراب فهزمهم الله تعالى، وقال بعضهم: لم يبق منّا أحد إلاّ امتلأت عيناه ترابا، وفيه أنزل: {وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى»} (1). ومنها آية الغار، إذ خرج القوم فى طلبه، فعمى عليهم أثره، وصدّوا عنه وهو نصب أعينهم، وبعث عنكبوت فنسجت عليه.

ومنها أنّه مسح على ضرع عناق ولم يثر عليها الفحل فضرّت وشرب وسقى أبا بكر. ومنها أنّه مسح على ضرع شاة أمّ معبد وهى حائل أجهدها الهزال فدرّت وتحفّل ضرعها. ومنها دعوته لعمر بن الخطّاب رضى الله عنه أن يعزّ به الإسلام، أو بأبى جهل ابن هشام فسبقت لعمر، ودعوته أيضا لعلىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه أن يذهب الله عنه الحرّ والبرد فأذهبهما الله عنه، ودعوته له أيضا وهو يشكو وجعا فلم يشكه بعد. ومنها أنّه تفل فى عينيه وهو أرمد فبرأ من ساعته لم يرمد بعدها. ومنها أنّ رجلا أنصاريّا أصيبت رجله فى حرب فمسحها فبرأت من ساعتها، ومنها أنّ سمرة أصابته ضربة يوم حنين فنفث فيها ثلاث (82) نفثات، قال: فما اشتكيتها حتّى الساعة. ومنها دعوته لعبد الله بن عبّاس أن يفقّهه فى الدين ويعلمه الله التأويل، فكان يدعى البحر لسعة علمه. ومنها دعوته لجمل جابر بن عبد الله فصار سابقا بعد أن كان مسبوقا، ومنها أن الله بارك فى تمر جابر حتى قضى منه دينه عن أبيه، وفضل منه ثلاثة عشر وسقا، وكان سأل غرماءه أن يأخذوا التمر بما عليه لهم فأبوا. ومنها دعوته لأنس بطول العمر وكثرة المال والولد وأن يبارك له فيهما، فولد له مائة وعشرون ولدا لصلبه، وكان نخله يحمل فى السنة مرّتين، وعاش نحو المائة سنة.

ومنها أنّه شكى إليه قحوط المطر وهو على المنبر فدعا الله تعالى وما فى السماء فرعة فثارت سحابة مثل الترس ثم انتشرت، ومطروا إلى الجمعة الأخرى حتى شكوا إليه انقطاع السبل، فدعا الله فارتفع عنهم. ومنها دعوته على عيينة بن أبى جهل (1) أن يسلّط عليه كلبا من كلابه فقتله أسد بالزرقاء (2) من أرض الشام، ومنها دعوته على سراقة لمّا اتّبعه حين هاجر فارتطمت فرسه، وقد تقدّم ذكرها. ومنها شهادة الشجر له بالرسالة حين عرض على أعرابى الإسلام، فقال: هل من شاهد على ما تقول؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «هذه السمرة» فدعاها فأقبلت إليه تخدّ الأرض حتّى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثا، فشهدت كما قال، ثم رجعت إلى منبتها، ومنها أنّ أعرابيّا من بنى عامر قال له: إنّك تقول أشياء فهل لك أداويك؟ وكان يداوى ويعالج، فقال له النبى صلّى الله عليه وسلم: «هل لك أن أريك آية»؟ وعنده نخل وشجر، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عزقا منها (83) فأقبل إليه وهو يسجد ويرفع رأسه، ويسجد ويرفع رأسه، حتى انتهى إليه، فقام بين يديه ثم قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ارجع إلى مكانك» فرجع إلى ما كان عليه، فقال له العامرى: والله لا أكذّبك فى شئ تقوله أبدا. ومنها أنّه أمر شجرتين فاجتمعتا ثم أمرهما فافترقتا، ومنها أنّه أمر أنسا أن ينطلق إلى نخلات، إلى جانبهن رجم من حجارة فيقول لهنّ: يقول لكنّ

رسول الله: تلفعن بعضكن إلى بعض، حتى تكنّ سترة لمخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال أنس: فخرجت فقلت لهنّ الذى أمونى به، فو الذى بعثه بالحق لكأنى أنظر إلى قفزهنّ بعروقهن وترابهن حتى لصق بعضهن ببعض، فكنّ كأنّهنّ نخلة واحدة وكأنى أنظر إلى الرجم وقفزه حجرا حجرا حتى كأنهن على بعض حتى كأنّهن كنّ جدارا ولما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حاجته قال لى: «انطلق، فقل لهن: يأمر كن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تعدن إلى ما كنتنّ عليه»، فقلت لهن، فعاد كل إلى ما كان عليه. ومنها أنّه نام فجاءت شجرة تشقّ الأرض حتى قامت عليه، فلمّا استيقظ ذكرت له ذلك، فقال: «هى شجرة استأذنت ربّها أن تسلّم علىّ فأذن لها». ومنها تسليم الشجر والحجر عليه ليالى بعثه بمكّة صلّى الله عليه وسلم، ومنها حنين الجذع الذى كان يخطب عليه حين اتّخذ المنبر صلّى الله عليه وسلم ومنها تسبيح الحصى فى كفّه ثم وضعه فى كفّ أبى بكر ثم عمر ثم عثمان فسبّح، ومنها تسبيح طعام دعا أصحابه إليه صلّى الله عليه وسلم، ومنها تكلّم الذراع من الشاة بأنّى مسموم، ومنها شكوى البعير إليه إيذاءه فى العمل وقلّة العلف (84)، ومنها أنّ ظبية وقعت فى شبكة صائد فسألته أن يطلقها لترضع أولادها ثم ترجع فأطلقها، وجلس حتى رجعت وأتى الصّائد فاستوهبها منه وخلّى سبيلها، فاتّخذ القوم ذلك المكان مسجدا، ومنها انقياد الفحلين من الإبل له لمّا عجز صاحبهما عن أحدهما فجاء فبركا بين يديه فخطمهما ودفعهما إليه، ومنها أنّه أراد أن ينحر ستّ بدنات أو سبعا فجعلن تزدلفن إليه بأيّتهن يبدأ، صلّى الله عليه وسلم.

ومنها أنّ عين قتادة بن النعمان ندرت وصارت على وجنته فردّها صلّى الله عليه وسلم فكانت أحسن عينيه، ومنها إخباره يوم بدر بمصارع المشركين فلم يتعدّ أحد منهم مكان صرعه الذى عيّنه. ومنها أنّه أخبر أنّ طوائف من أمّته يغزون البحر، وأنّ أمّ حرام فيهم وهى بنت ملحان (1) فكان كذلك، ومنها قوله لعثمان رضى الله عنه إنّه ستصيبه بلوى شديدة فكانت قتلته رضى الله عنه، ومنها قوله للأنصار «إنّكم سترون بعدى أثرة» فكانت فى ولاية معاوية رضى الله عنه، ومنها قوله للحسن عليه السلام: «إنّ ابنى هذا سيّد، ولعلّ الله يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين»، فكان كذلك. ومنها أنّه أخبر بقتل العنسى الكذّاب ليلة قتله، ومن قتله وهو بصنعاء اليمن، فكان كذلك، ومنها أنّه أخبر عن الشيماء الأزديّة أنّها رفعت له فى خمار أسود على بغلة شهباء، فأخذت فى زمان أبى بكر ضى الله عنه فى جيش خالد ابن الوليد بهذه الصفة بعينها. ومنها قوله صلّى الله عليه وسلم: «زويت لى الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمّتى ما زوى لى منها»، فكان كما قال، وبلغ ملكهم من أوّل المشرق من بلاد الترك إلى آخر المغرب من بحر الأندلس وبلاد البربر، ولم يتّسعوا فى الجنوب ولا فى الشّمال، ومنها قوله [لثابت] (2) بن قيس: «تعيش حميدا وتموت شهيدا»، فعاش حميدا (85) وقتل يوم اليمامة.

ومنها أنّ امرأة أبى لهب لما نزلت {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ»} جاءته ومعه أبو بكر، فقال للنبى صلّى الله عليه وسلم: إنّها امرأة بذيئة، وأخاف أن تؤذيك فلو قمت، قال: «إنّها لن ترانى»، فجاءت فقالت: يا أبا بكر إنّ صاحبك هجانى، قال: إنّه لا يقول الشعر، قالت: أنت عندى مصدّق، وانصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله إنّها لم ترك، قال: لم يزل ملك يسترنى منها بجناحه». ومنها أنّ رجلا ارتدّ ولحق بالمشركين، فبلغ النبى صلّى الله عليه وسلم أنّه مات فقال: «إنّ الأرض لا تقبله»، قال أبو طلحة: فأتيت تلك الأرض التى مات فيها، فوجدته منبوذا، فقلت: ما شأن هذا؟ فقالوا: دفّناه فلم تقبله الأرض. ومنها أنّ رجلا كان يأكل بشماله، فقال له النبى صلّى الله عليه وسلم: «كل بيمينك»! فقال: لا أستطيع، فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «لا استطعت»، قال: فما رفعها بعد ذلك إلى فيه أبدا، ومنها سقوط الأصنام يوم فتح مكّة، وقد تقدّم ذكر ذلك. ومنها أنّ مازن بن الغضوبة كان يسدن صنما، فسمع صوتا من الصنم يقول ويبشر بنبوّته صلّى الله عليه وسلم، ويحضّه على اتّباعه وعلى ترك عبادة الصنم، ومنها أنّ سوّاد بن قارب (1) أتاه رئيّه فى ثلاث ليال متتابعات يضربه برجله ويوقظه ويخبره ببعث النبى صلّى الله عليه وسلم ويحرّضه على اتّباعه، ومنها شهادة الذئب بنبوّته صلّى الله عليه وسلم ومنها شهادة الضبّ برسالته. ومنها أنّه أطعم أهل الخندق وهم ألف من صاع شعير فشبعوا وانصرفوا والطعام أكثر ممّا كان، ومنها أنّه أطعمهم من تمر يسير جاءت به ابنة بشير بن سعد إلى أبيها وخالها عبد الله بن رواحة فسكفاهم به، ومنها أنّ أصحابه صلّى الله عليه وسلم استأذنوه

فى نحر ظهورهم لقلّة الزاد فقال: «ولكن ائتونى بما فضل من أزوادكم»، فبسطوا (86) أنطاعا، ثم صبّوا عليها ما فضل من أزوادهم، فدعا لهم فيها بالبركة فأكلوا حتى تضلّعوا شبعا ثم كفوا ما فضل منها جربهم. ومنها أنّ أبا هريرة أتاه بتمرات قد صفّهنّ فى يده فقال: يا رسول الله، ادع لى فيهنّ بالبركة! قال: فدعا لى فيهنّ بالبركة وقال: «إن أردت أن تأخذ شيئا فأدخل يدك ولا تنثره نثرا». قال أبو هريرة: فأخرجت من ذلك التمر كذا وسقا فى سبيل الله، وكنا نطعم منه ونطعم، وكان فى حقوى حتى انقطع منّى ليالى عثمان (1). ومنها أنّه أتى بقصعة من ثريد، فدعا عليها أهل الصّفّة، قال أبو هريرة: فجعلت أتطاول حتى يدعونى حتى قام القوم، وليس فى القصعة إلاّ شئ يسير فى نواحيها، فجمعه بإصبعه صلّى الله عليه وسلم، فصار لقمة، فوضعها على أصابعه وقال لى: «كل بسم الله»، فو الذى نفسى بيده ما زلت آكل منها حتى شبعت. ومنها أنّه أروى أهل الصفة من قدح لبن، ثم فضلت منه فضلة فشربها أبو هريرة، ثم النبى صلّى الله عليه وسلم، ومنها أنّه أطعم فى بنائه بزينب من جفنة ثريد أهدتها له أمّ سليم فكفى بها خلقا كثيرا، ثم رفعت ولا يدرى أىّ الطّعام كان فيها أكثر، حين وضعت أم حين رفعت، ومنها أنّه أتى بقصعة ثريد فوضعت بين يدى القوم فتعاقبوها من غدوة إلى الظّهيرة، يقوم قوم ويجلس آخرون. ومنها أنّه أطعم ثمانين رجلا فى بيت أبى طلحة من أقراص شعير جعلها أنس

تحت إبطه حتى شبعوا والطعام بحاله، ومنها أنّه أمر عمر رضى الله عنه أن يزود أربع مائة راكب من تمر فزوّدهم وبقى كأنّه لم ينقص تمرة واحدة. وعن جابر بن عبد الله قال: حضرت صلاة العصر وليس معنا ماء غير فضلة، فجعلت فى إناء وأتى بها النبى صلّى الله عليه وسلم فأدخل (87) فيه [يده] (1)، وفرج أصابعه وقال: «حىّ على الوضوء والبركة من الله»، قال فلقد رأيت الماء ينفرج من بين أصابعه صلّى الله عليه وسلم، وتوضا الناس، وشربوا، وهم ألف وأربع مائة رجل. وعن جابر أيضا قال: أصاب الناس عطش يوم الحديبية فجلس الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فوضع يده فى ماء قليل فى ركوة، فرأيت الماء مثل العيون، وكنّا خمس عشرة مائة. ومنها أنّه أتى بقدح فيه ماء فوضع أصابعه فى القدح فما وسع أصابعه كلّها فوضع هؤلاء الأربع وقال: «هلموا فتوضّأوا أجمعين»، وهم من السبعين إلى الثمانين، ومنها أنّه أتى بقعب فيه ماء يسير، فوضع كفّه على القعب، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه صلّى الله عليه وسلم حتى توضّأ القوم وشربوا، وهم زهاء من ثلاثمائة. ومنها قضيّة ذات المزادتين وشرب القوم من مزادتها وملأوا ظروفهم ولم ينقص منها شئ ومنها أنّه ورد بئرا فى غزوة تبوك، وفيه ماء لا يروى واحدا، والقوم عطاش

فشكوا إليه، فأخذ سهما من كنانته وأمر من غرزه فيه ففار الماء وارتوى القوم وكانوا المئتى ألفا. ومنها أنّ قوما شكوا إليه ملوحة فى مائهم وأنّهم فى جهد من الظمأ لذلك مع قلته، فجاء إليهم فى نفر من أصحابه حتى وقف على بئرهم فتفل فيها وانصرف فتفجر الماء كأعذب ما يكون. ومنها أنّ أبا جهل طلب غرّة منه صلّى الله عليه وسلم فوافاه ساجدا، فأخذ صخرة بوسع طاقته وقوّته، وأقبل بها حتى أراد أن يطرحها عليه فألزقها الله بكفّه، وحيل بينه وبينه. ومنها أنّه كان صلّى الله عليه وسلم فى غزو الطائف فبينما هو يسير ليلا على راحلته بواد قرب الطائف إذ غشى سدرة فى سواد الليل وهو فى وسن (1) النوم، فانفرجت السدرة له نصفين، فمر بين نصفيها وبقيت منفرجة على حالها. ومنها أنّ امرأة أتته بصبىّ لها، فيه عاهة، فمسح على رأسه فاستوى شعره وبرأ داؤه، فسمع أهل اليمامة بذلك فأتت امرأة بصبىّ إلى مسيلمة فمسح على رأسه فصلع شعره وعاد الصلع فى نسله. ومنها أنّ سيف عكاشة بن محصن انكسر يوم بدر، فقال يا رسول الله انكسر سيفى، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم جذلا من حطب وأعطاه إيّاه، وقال: «هزّه»! فهزّه فصار سيفا، فتقدّم وجالد به الكفّار، وكان لم يزل بعد ذلك معه.

ومنها كتاب حاطب بن أبى بلتعة إلى أهل مكّة فأطلعه الله عليه، وقد تقدّم شرحه. ومنها أنّه لمّا سمّ فى الطعام مات الّذين أكلوا معه، وعاش صلّى الله عليه وسلم بعده أربع سنين. ومنها أنّ رجلا كان فى عسكره، لا يدع سادة ولا قادة إلاّ اتّبعها، يضربها بسيفه، وقال أصحابه: ما أجزى منّا اليوم أحد ما أجزى فلان، فقال صلّى الله عليه وسلم: «إنّه من أهل النار»، فقتل نفسه. ومنها أنّه عرض فى الخندق كدية لمّا حفروه، فأخذ المعول فضربها فصارت كثيبا أهيل. ومنها: لمّا انكسرت رجل أبى رافع (1) فى الحرب، أو قيل سقط من علوة فمسح رجله بيده، فكأنّه لم يشكها قطّ. وله صلّى الله عليه وسلم من المعجزات الظاهرة، والبراهين الباهرة ما هى أكثر من أن تحصى، صلّى الله عليه وسلم وعظّم وكرّم.

ذكر أزواجه وأنسابهن وعدتهن رضوان الله عليهن أجمعين

ذكر أزواجه وأنسابهنّ وعدّتهنّ رضوان الله عليهنّ أجمعين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصىّ بن كلاب، تلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى قصىّ بن كلاب، وكان قد تزوّجها قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجلان: أوّلهما، وهى بكر، عتيق بن (89) عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم فولدت له جارية ثم هلك عنها، فخلف عليها النبّاش بن زرارة، وقيل هند بن زرارة التيمى (1)، فولدت له ابنا وبنتا، ثم هلك عنها، فتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وماتت عنده حسبما تقدّم، ولم يتزوّج صلّى الله عليه وسلم عليها حتّى ماتت رضى الله عنها. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها واستغفار لها، فذكرها ذات يوم فاحتملتنى الغيرة فقلت: عوضك الله من كبيرة السنّ، قالت: فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم غضب غضبا شديدا، وسقطت فى جلدى، وقلت: اللهمّ، إن أذهبت غضب رسولك لم أعد أذكرها بسوء ما بقيت، فقال: «كيف قلت، والله لقد آمنت بى إذ كفر بى الناس، وآوتنى إذ رفضنى الناس، وصدّقتنى إذ كذبنى الناس، ورزقت منها الولد حيث حرمتموه»، قالت: فغدا وراح علىّ بها شهرا. سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤىّ، تزوّجها بعد خديجة بمكّة قبل الهجرة، وكانت قبله

تحت السكران بن عمرو، أخى سهل بن عمرو، فكبرت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأراد طلاقها، فوهبت نوبتها لعائشة فقالت: لا رغبة لى فى الرجال، وإنّما أريد أن أحشر فى أزواجك، فأمسكها، وصار يقسّم لبقيّة نسائه دونها، ونوبتها لعائشة. عائشة بنت أبى بكر الصدّيق عبد الله بن أبى قحافة عثمان بن عامر بن عمرو ابن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة ين كعب بن لؤىّ بن غالب التيمى، تلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى مرّة بن كعب، تزوّجها بمكّة قبل الهجرة بسنتين وقيل بثلاث، وهى إذ ذاك ابنة (90) ست سنين وقيل سبع، وبنى بها صلّى الله عليه وسلم بالمدينة وهى ابنة تسع على رأس سبعة أشهر من الهجرة، وقيل ثمانية عشر شهرا، ومات عنها وهى ابنة ثمانى عشرة سنة، وتوفّيت فى المدينة سنة ثمان وخمسين وقيل سبع وخمسين، ودفنت فى البقيع وصلّى عليها أبو هريرة رضى الله عنه، ولم يتزوّج صلّى الله عليه وسلم بكرا غيرها، وكنيتها أمّ عبد الله، وروى أنّها سقطت منه صلّى الله عليه وسلم سقطا، ولم يثبت. حفصة بنت عمر بن الخطّاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رباح بن عبد الله ابن قيظ بن زراح بن عدىّ بن كعب بن لؤىّ، تلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى كعب ابن لؤىّ، وكانت قبله تحت خنيس بن حذافة السهمى، وكان صحابيّا بدريّا، توفّى بالمدينة، وروى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلّقها، فأتاه جبريل عليه السّلام، فقال: إنّ الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنّها صوّامة قوّامة. وروى أنّه لمّا بلغ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه طلاقها حثا التراب على رأسه وقال: ما يعبأ الله

بعمر وابنته بعد هذا! فنزل جبريل من الغد وقال للنّبىّ صلّى الله عليه وسلم: إنّ الله تعالى يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر، وتوفّيت عام تسع وعشرين وقيل ثمان وعشرين وهو عام إفريقية، والله أعلم. أم حبيبة رملة بنت أبى سفيان صخر بن حرب بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف. تلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى عبد مناف، وكانت قبله تحت [عبيد الله] (1) ابن جحش، وهاجرت معه إلى الحبشة، فتنصّر بها وأتمّ الله لها الإسلام وتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهى بالحبشة، وأصدقها عند النجاشى أربع مائة دينار (91)، وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمرو بن أميّة الضمرى فيها إلى الحبشة، وولى نكاحها عثمان بن عفّان، وقيل خالد بن سعيد بن العاص، توفّيت سنة أربع وأربعين أمّ سلمة هند بنت أبى أميّة بن المغيرة بن عبد الله بن [عمر] (2) بن مخزوم ابن يقظة بن مرّة بن كعب بن لؤىّ، تلقّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى مرّة بن كعب، وكانت قبله تحت أبى سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن [عمر] (2) ابن مخزوم، وولدت له [عمر] (2) وزينب، فكانا ربيبى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان عمر مع علىّ عليه السّلام يوم الجمل، وولاّه البحرين، وله عقب بالمدينة، توفّيت سنة اثنتين وستين (3)، ودفنت بالبقيع، وهى آخر أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقيل إنّ ميمونة آخر أزواجه، وهو الصحيح. زينب بنت جحش بن رياب بن يعمر بن صبرة بن مرّة بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، تلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى خزيمة

ابن مدركة، وهى ابنة عمّته أمية بنت عبد المطّلب، كانت قبله تحت مولاه زيد ابن حارثة، فطلّقها، فزوّجها الله تعالى إيّاها من السماء، ولم يعقد عليها، وصحّ أنّها كانت تقول لأزواج النّبىّ صلّى الله عليه وسلم: زوّجكنّ آباؤكنّ وزوّجنى الله من فوق سبع سموات، وتوفّيت بالمدينة سنة عشرين، ودفنت فى البقيع، وهى أوّل من مات من أزواجه بعده، وأوّل من حمل على نعش. جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار بن [حبيب] (1) بن عائذ بن مالك ابن المصطلق الخزاعيّة، سبيت فى غزوة بنى المصطلق، فوقعت فى سهم ثابت بن قيس ابن شمّاس، فكاتبها، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم تستعينه فى كتابها، وكانت (92) امرأة ملاحة (2)، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أو خير من ذلك أؤدّى عنك، وأتزوّجك»، فقبلت، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنها، وتزوّجها فى سنة ستّ من الهجرة، وتوفّيت فى شهر ربيع الأوّل سنة ستّ وخمسين. صفيّة بنت حيىّ بن أخطب بن أبى يحيى بن كعب بن الخزرج (3) النضيريّة، من ولد هارون بن عمران سبيت من خيبر سنة سبع من الهجرة، فاصطفاها صلّى الله عليه وسلم لنفسه، وأعتقها، وجعل عتقها صداقها، وكانت قبله تحت كنانة بن أبى الحقيق، قتله رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتوفّيت سنة ستّ وثلاثين (4)، وقيل سنة خمسين، وقد قيل إنّها آخر أمّهات المؤمنين موتا، والله أعلم.

ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهرم بن رويبة بن [عبد الله] (1) ابن هلال بن عامر بن صعصعة، وهى خالة خالد بن الوليد، وعبد الله بن عبّاس رضى الله عنهما، تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسرف (2)، وبنى بها فيه، وماتت ودفنت به، وقيل هى آخر من تزوّج من أمّهات المؤمنين، وآخر من توفّى منهنّ، حكاه المنذرى، وكانت قبله تحت أبى سبرة (3) العامرىّ، توفّيت سنة ثلاث وستّين. فهؤلاء بعد خديجة، وهنّ جملة من مات عنهنّ صلّى الله عليه وسلم، وتزوّج زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمر بن عبد مناف بن هلال، وكانت تسمّى أمّ المساكين لكثرة إطعام المساكين، وكانت قبله تحت عبد الله بن جحش، وقيل الطفيل بن الحارث، وتزوّجها سنة ثلاث من الهجرة، ولم تلبث عنده، إلاّ يسيرا وتوفّيت عنده. وتزوّج فاطمة بنت الضحّاك بعد وفاة ابنته زينب، وخيّرها حين نزلت آية التخيير فاختارت الدنيا، ففارقها، وكانت بعد ذلك تلقط البعر وتقول: (93) أنا الشّقيّة اخترت الدنيا (4). وتزوّج أساف أخت دحية الكلبى، وخولة بنت الهذيل، وقيل خولة بنت حكيم، وهى التى وهبت نفسها للنبى عليه السلام، وقيل الواهبة نفسها

أمّ شريك، ويجوز أن تكونا وهبتا أنفسهما له صلّى الله عليه وسلم، وتزوّج أسماء بنت كعب الجونيّة، وعمرة بنت يزيد، إحدى نساء بنى كلاب، ثم من بنى الوحيد، وطلّقهما قبل أن يدخل بهما، وتزوّج امرأة من غفار فلمّا نزعت ثيابها رأى بها بياضا فقال: «الحقى بأهلك»، وتزوّج امرأة تميميّة فلمّا دخل عليها قالت: أعوذ بالله منك! فقال صلّى الله عليه وسلم: «منع الله عائذه، الحقى بأهلك»، وقبل إنّ بعض نسائه علّمتها، وقالت لها: إنّك لتحظين به عنده، وتزوّج عالية بنت [ظبيان] (1)، وطلّقها حين دخلت عليه، وتزوّج بنت الصلت، وماتت قبل أن يدخل عليها، وتزوّج مليكة الليثيّة، فلمّا دخل عليها قال لها: «هبى لى نفسك»، قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟ فسرّحها، وخطب امرأة من مرّة، فقال أبوها: إنّ بها برصا، ولم يكن بها فرجع، فإذا هى برصاء، وخطب أخرى من أبيها، فوصفها له وأطنب، وقال: وأزيدك أنّها لم تمرض قطّ، فقال: «ما لهذه عند الله من خير»! فتركها وقيل إنّه تزوّجها، فلمّا قال أبوها ذلك طلّقها ولم يبن بها. وذكر أبو سعيد فى شرف النبوة أن جملة أزواج النبى صلّى الله عليه وسلم إحدى وعشرين امرأة، طلّق منهنّ ستّا، ومات عنده خمس، وتوفّى صلّى الله عليه وسلم عن عشر، منهن واحدة لم يدخل بها، وكان يقسم لتسع، وكان صداقه لنسائه خمس مائة درهم لكلّ واحدة، هذا أصحّ ما قيل، إلاّ صفيّة، فإنّ صداقها عتقها، لم يرولها صداق غيره، وأمّ حبيبة أصدقها عند النجاشى أربع مائة دينار والله أعلم.

(94) ذكر أولاده الذكور والإناث ومن تزوج بهن

(94) ذكر أولاده الذكور والإناث ومن تزوّج بهن ولدت له خديجة فى الجاهليّة ولدا، وسمّى عبد مناف، وولدت فى الإسلام القاسم، وبه كان يكنى صلّى الله عليه وسلم، وعبد الله ويسمى الطيّب والطاهر، وقيل الطّيب غير الطاهر، ومن الإناث: زينب، ورقيّة، وأمّ كلثوم، وفاطمة صلوات الله عليهن أجمعين. وعن محمّد بن إسحق أنّ ولده كلّهم ولدوا قبل الإسلام، وهلك البنون قبل الإسلام، وهم يرضعون، وقيل مات القاسم وهو ابن سنتين، وقيل بلغ أن يركب النجيب ويسير عليه، وأمّا البنات فأدركن الإسلام، وآمنّ به واتّبعنه، وهاجرن معه صلّى الله عليه وسلم، وقيل ولدوا كلّهم فى الجاهليّة إلاّ عبد الله، وأكبر بنيه القاسم، ثم الطيّب، ثم الطاهر، وأكبر بناته زينب، ثم رقيّة، ثم أمّ كلثوم، وقيل بل فاطمة أصغرهنّ، هؤلاء كلّهم من خديجة رضى الله عنها. وأمّا إبراهيم فإنّه ولد له من مارية القبطيّة، ومات وله من العمر سبعون ليلة وقيل سبعة أشهر، وقيل ثمانية عشر شهرا، فكلّ أولاده ماتوا قبله إلاّ فاطمة رضى الله عنها، فإنّها ماتت بعده بستّة أشهر، والله أعلم. ذكر من تزوّج ببناته صلّى الله عليه وسلم زينب، تزوّجها أبو العاص بن الربيع بن عبد العزّى بن عبد شمس، وهو ابن خالتها، أمّه هند، وقيل هالة، بنت خويلد، أخت خديجة، وكانت خديجة أشارت بزواجها منه، وكان صلّى الله عليه وسلم لا يخالفها، وذلك قبل أن ينزل عليه الوحى. وكان من الرجال المعدودين فى المال والتّجارة والأمانة، ولمّا بدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم

وبادأ قريشا بأمر الله عزّ وجلّ، (95) جاءوا إلى أبى العاص فقالوا له، فارق صاحبتك ونحن نزوّجك بأىّ امرأة شئت، فقال: لا أفارق صاحبتى، وما يسرّنى أنّ لى بامرأتى أفضل امرأة من قريش. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: كان الإسلام قد فرّق بين زينب وبين أبى العاص حين أسلمت، إلاّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان لا يقدر على أن يفرّق بينهما، إذ كان مغلوبا بمكّة، ولمّا أسر المسلمون أبا العاص أرسل إلى زينب يقول: خذى لى أمانا من أبيك، فخرجت فأطلعت رأسها من باب حجرتها، والنبى صلّى الله عليه وسلم يصلّى بالناس، فقالت: أيّها النّاس، أنا زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وإنّى قد أجرت أبا العاص، فلمّا فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أيّها الناس، إنّى لم أعلم بهذا حتى سمعتموه، ألا وإنّه يجير على المسلمين أدناهم». وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ النبى صلّى الله عليه وسلم ردّ زينب على أبى العاص بمهر جديد ونكاح جديد، وقيل بل ردّها عليه بالنكاح الأوّل (1)، وقد ولدت زينب لأبى العاص عليّا، مات صغيرا، وأمامة الّتى حملها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى الصلاة، وعاشت حتى تزوّجها علىّ عليه السّلام، بعد فاطمة رضى الله عنها، فكانت عنده حتّى أصيب: فخلف عليها المغيرة بن زيد بن الحارث بن عبد المطّلب فتوفّيت عنده. فاطمة عليها السلام، تزوّجها علىّ كرّم الله وجهه فى الإسلام، ولدت له حسنا وحسينا ومحسنا، فذهب محسن صغيرا، وولدت له رقيّة، وزينب، وأمّ كلثوم،

وتوفّيت رقيّه ولم تبلغ، وتزوّج زينب عبد الله بن جعفر، وتزوّج أمّ كلثوم عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، فولدت (96) له زيد بن عمر، ثم خلف عليها بعده عون بن جعفر، فلم تلد له شيئا، وماتت عنده. رقيّة، تزوّجها عثمان بن عفّان رضى الله عنه فولدت له عبد الله، وبه كان يكنى أوّلا، ثم كنى بأبى عمرو، وكانت قبله عند عتيبة (1) بن أبى لهب، ولم يبن بها، حتى بعث صلّى الله عليه وسلم، فلمّا أنزلت عليه {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ»}، وآمنت رقيّة، قالت له أمّ جميل بنت حرب بن أمية-حمّالة الحطب-: طلّقها يا بنى، فإنّها قد صبأت، فطلّقها، فخلف عليها عثمان، وقيل إنّ نكاح عثمان كان فى الجاهليّة، وهاجر عثمان إلى الحبشة، وهاجرت معه، توفّيت رقيّة يوم ورد زيد بن حارثة بشيرا بفتح بدر، وجاء وعثمان واقف على قبر رقيّة يدفنها، وكان تمريضها منعه من شهود بدر، وضرب له رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسهم فى غنيمتها. وروى أنّه لما عزّى بابنته رقيّة قال: «الحمد لله، دفن البنات من المكرمات». أمّ كلثوم، تزوّج بها عثمان بعد موت أختها رقيّة، وكانت قبله عند أخى عتيبة بن أبى لهب زوج رقيّة، فلمّا أنزلت: {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ»} قال أبو لهب: رأسى من رءوسكما حرام إن لم تطلّقا ابنتى محمّد، فطلّقاهما ولم يبنيا بهما، وجاء عتيبة حين فارق أمّ كلثوم النبى صلّى الله عليه وسلم وقال: كفرت [بدينك] (2)

ذكر أعمامه وعماته صلى الله عليه وسلم

وفارقت ابنتك، وسطا عليه، وشقّ قميصه صلّى الله عليه وسلم فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «أما إنّى أسأل الله أن يسلّط عليك كلبا من كلابه»، فكان خارجا إلى الشام تاجرا مع نفر من قريش حتى نزلوا مكانا من الشام يقال له الزرقاء ليلا، فأطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول: يا ويل أمه، هو والله آكلى بدعوة محمّد، وقال أبو لهب: يا معشر قريش، أعينونا (97) هذه الليلة، فإنّى أخاف دعوة محمّد! فجمعوا أحمالهم وفرشوا لعتيبة فى أعلاها وناموا حوله، وانصرف الأسد عنهم، حتى أمنوا وعتيبة فى وسطهم، ثم أقبل الأسد يتخطّاهم ويتشمّمهم حتّى أخذ برأس عتيبة ففدغه، فمات بدعوته صلّى الله عليه وسلم. ولم تلد أمّ كلثوم لعثمان شيئا، وقيل ولدت له فلم يعش منها ولا من أختها له ولد، وتوفّيت عنده فى شعبان سنة تسع، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لو كانت عندنا ثالثة زوّجنا كها يا عثمان». وجلس النبى صلّى الله عليه وسلم على قبرها، قال محمّد بن عبد الرّحمن بن زرارة [عن أنس رضى الله عنه] (1): فرأيت عينية صلّى الله عليه وسلم تدمعان، وقال: «هل منكم أحد لم [يقارف] (2) الليلة أهله»؟ فقال أبو طلحة: أنا يا رسول الله. قال: «انزل»! يعنى: فوارها. ذكر أعمامه وعمّاته صلّى الله عليه وسلم وكان له من العمومة أحد عشر، أولاد عبد المطّلب: الحارث: وبه كان يكنى، لأنّه أكبر ولده، ومن ولده وولد

[ولده] (1) جماعة لهم صحبة من النبى صلّى الله عليه وسلم، منهم: أبو سفيان بن الحارث، أسلم عام الفتح وشهد حنينا، وقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أبو سفيان سيّد فتيان الجنّة». ولم يعقب، ونوفل بن الحارث، هاجر وأسلم أيّام الخندق، وله عقب، وعبد شمس، وسمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم عبد الله، وله عقب بالشام. فثم، مات صغيرا، وهو أخو الحارث لأمّه. الزبير، وكان من أشراف قريش، وابنه عبد الله شهد حنينا وثبت يومئذ واستشهد بأجنادين (2)، وروى أنه وجد إلى جنب سبعة قد قتلهم وقتلوه، وضباعة بنت الزبير، لها صحبة، وأمّ الحكم بنت الزبير (98) وروت عن النبى صلّى الله عليه وسلم. أبو طالب، واسمه عبد مناف، وهو أخو عبد الله أبى النبى صلّى الله عليه وسلم لأبيه وأمّه. وعاتكة صاحبة الرؤيا فى [شأن (3)] بدر، أمّهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمر بن مخزوم وله من الولد: طالب مات كافرا، وعقيل، وجعفر، وعلىّ، وأمّ هانئ، لهم صحبة، واسم أمّ هانئ فاخته، وقيل هند. أبو لهب، واسمه عبد العزّى، كنّاه أبوه بذلك لحسن وجهه، وكان له من الولد عتبة [ومعتّب (4)] ثبتا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم حنين، ودرّة، لهم

ذكر شئ من ابتداء أمره ولمع من خبره

صحبة، وعتيبة قتله الأسد بالزّرقاء بدعوة النبى صلّى الله عليه وسلم، وقد تقدّم ذكر ذلك. عبد الكعبة، حجل، وقيل اسمه المغيرة، ضرار، أخو العبّاس. شقيقه: الغيداق، وسمّى بذلك لأنّه كان أكرم قريش وأكثرهم إطعاما. وروى ابن ماجة بسنده عن علىّ بن صالح قال: كان ولد عبد المطّلب كلّ واحد منهم يأكل جدعة. حمزة بن عبد المطّلب، أسد الله، وأسد رسوله، وأخو رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الرضاعة، أسلم قديما، وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرا، وقتل يوم أحد شهيدا، ولم يكن له إلاّ ابنة. أبو الفضل العبّاس، أسلم وحسن إسلامه، وهاجر إلى المدينة، وكان أسنّ من النبى صلّى الله عليه وسلم بثلاث سنين، وكان له من الولد: الفضل، وهو أكبر ولده، وبه كان يكنى، وعبد الله، وقثم ولهم صحبة، وكان له السقاية وزمزم، دفعهما له النبى صلّى الله عليه وسلم يوم الفتح، وكان عليهما من قبل. ذكر شئ من ابتداء أمره ولمع من خبره قلت: لنذكر هاهنا طرفا من أخباره، إذ هو أحد أعمام النبى المصطفى، (99) وأحد الاثنين الشرفاء، وجدّ الأئمّة الخلفاء. روى أنّ عبد المطّلب بن هاشم أتته امرأته نتيلة النمريّة بولده العبّاس وهو رضيع فقالت: يا أبا الحارث، قل فى هذا الغلام مقالة واحدة، فجعل يرقّصة، ويقول: ظّنى بعبّاس حبيبى إن كبر … يمنّع القوم إذا ضاع الدّبر

تفسير كلمات من هذا الرجز

ويترع السّجل إذا اليوم اقمطرّ … وسبأ الزقّ العظيم المفنجرّ ويفصل الخطّة فى اليوم المبرّ … ويكشف الخطب إذا الخطب نفر أكمل من عبد كلال وحجر … لو جمعا لم يبلغا منه العشر تفسير كلمات من هذا الرجز قوله: ضاع الدبر، أى أسلم القوم أدبارهم، ولم يكن لهم حافظ. وقوله: يترع السجل، هذا مثل ضربه لغنائه فى الحرب، وكشفه الكرب، والسجل: الدلو فيه ماء. وقوله: إذا اليوم اقمطرّ، أى اشتدّ حرّه. وقوله: سبأ الزقّ، يقال سبأ الرجل الخمرة إذا اشتراها للشرب، لا للبيع، والعرب كانت تتمدّح بذلك، وهو عندهم السخاء الكبير. وقوله: المفنجرّ، هو الكبير الذى ينفجر ما فيه لكثرته، والنون زائدة. وقوله: الخطّة، هو الأمر. وقوله: المبرّ، هو الذى له فضل على غيره. وقوله: عبد كلال، هو ملك من التبابعة، يقال إنّه كان على دين المسيح ابن مريم عليه السلام. وقوله: حجر، هو ملك من كندة، وهو أبو امرئ القيس الشاعر، وقد تقدّم الإخبار عنهما فى الجزء الأوّل من هذا التاريخ. ويروى أنّ عبد المطّلب رأى العبّاس، رضى الله عنه يلعب مع الصبيان القلة، فقال صبىّ منهم:

مخيلة ما ليس فيها لى تفسير ذلك

والبيت لا يضرب هاتيك القله … إلاّ ابن وئغاء كتون مهمله فقال العبّاس رضى الله عنه: وبيت ربّى لا لعبت معنا … إنّك بذّاء قئول (100) بالخنا فأكبّ عليه عبد المطّلب واحتمله، وارتجز يقول: لم يبننى عمرو ولا قصى … إن لم يسوّد فتى لؤى مخيلة ما ليس فيها لى تفسير ذلك قوله: هاتيك القلة، هى لعبة يلعبها الصبيان، يأخذون عودين طول أحدهما نحو من ذراع، والآخر صغير، فيضربون الأصغر بالأكبر، وهى يقال لها اليوم العقلة، وكان صبيان الأحياء قديما يلعبونها. وقوله: وثغاء، هى الفاجرة، وثغت فرجها أى أفسدته وأهلكته. وقوله: كتون، هى اللصوق بالرجال لفجورها. وقوله: سهلة، هى التى لا ضابط لها. وقول العبّاس: إنّك بذّاء، أى تقول الفجر. وقول عبد المطّلب: لم يبننى عمرو ولا قصىّ: يرفع نسبى، بنيت الشئ أى رفعته، وعمرو هو هاشم، وقصىّ هو أبو عبد مناف، وكان اسمه زيدا ثم لقب قصيّا؛ لأنّه كان قاصيا عن قومه ثم قدم عليهم فجمعهم فى الحرم فسمّى مجمّعا.

قال الشاعر: أبوهم قصىّ كان يدعى مجمّعا … به جمع الله القبائل من فهر وقوله: لؤىّ، هو لؤىّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر، والنضر عند أكثر النسّابين هو قريش، وقد تقدّم القول فى ذلك. وقوله: المخيلة، هى الميسم والعلامة، يخال من أجلها أى يظنّ، وقد ظهرت على فلان مخيلة خير. وقوله: ليس فيها لىّ، اللىّ هو المطل، والله أعلم. ويروى أن قريشا سوّدت العباس رضى الله عنه فى حال صغره، وذلك أنّهم كانوا إذا حضرتهم الحرب أقرعوا بين السّادات منهم (101)، فأيّهم خرج سهمه قدّموه وصدروا عن رأيه، فأدخلوا معهم فى القرعة مرّة العبّاس وهو صغير، لما كان يبدو عليه من النجابة، فخرج سهمه فأجلسوه على ترس وأحاطوا به، وذلك فى حرب الفجار. وروى أن الإسلام أدرك العبّاس رضى الله عنه وجفنته دائرة على فقراء قريش من بنى هاشم، وجنده معدّان لسفهائهم، وانتهت السيادة بمكّة إليه وإلى أبى سفيان بن حرب، وفى ذلك قال العبّاس بن مرداس السّلمى يأمر رجلا من قومه كان ظلم بمكّة أن يعوذ بهما مستجيرا، فقال: إن كان جارك لم تنفعك ذمّته … وقد شربت بكأس الذلّ أنفاسا فأت البيوت وكن من أهلها صدرا … لا يلق باديهم فحشا ولا باسا وثمّ كن بفناء البيت معتصما … تلق ابن حرب وتلق القرم عبّاسا قرما قريش وحلاّ فى ذوائبها … المجد والحزم ما حازا وما ساسا

ذكر عماته صلى الله عليه وسلم

ساقى الحجيج وهذا ياسر فلج … والمجد يورث أخماسا وأسداسا وكانوا يفتخرون به، وإذا قمروا شيئا لم يأخذوه وأطعموا ذوى الحاجة. وقوله: فلج، أى غالب لمن قمره فى الميسر، وإنّما كانوا يتقامرون على الجزر، ويقسّمون لحمها على عشرة أنصبة، ثم يضربون عليها بالقداح، ثمّ إنّ العبّاس انفرد بسيادة قريش، وشهد له النبى صلّى الله عليه وسلم فقال: «هذا العبّاس أجود قريش كفّا وأوصلها يدا». ذكر عمّاته صلّى الله عليه وسلم وكان له من العمّات ست: صفيّة بنت عبد المطّلب، أسلمت وهاجرت، وهى أمّ الزّبير بن العوّام، توفّيت بالمدينة فى خلافة عمر (102) رضى الله عنه، وهى أخت حمزة لأمّه. عاتكة، أسلمت، وهى صاحبة الرّؤيا فى بدر (1)، وكانت عند أميّة بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم، فولدت له عبد الله، أسلم وله صحبة (2)، وزهيرا وقريبة الكبرى. أروى، وكانت عند عمير بن وهب بن عبد الدّار بن قصىّ، فولدت له طليب بن عمير، وكان من المهاجرين الأوّلين شهد بدرا، وقتل بأجنادين شهيدا، ليس له عقب.

ذكر مواليه صلى الله عليه وسلم

أمية، كانت عند جحش بن [رياب (1)]، ولدت له عبد الله، قتل بأحد شهيدا، وأبا أحمد الشّاعر الأعمى، واسمه عبيد (2)، وزينب زوج النبى صلّى الله عليه وسلم، وحبيبة وحمنة، كلّهم لهم صحبة، وعبيد الله بن جحش، أسلم ثم تنصّر ومات بالحبشة كافرا. برّة، وكانت عند عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فولدت له أبا سلمة، واسمه عبد الله، وكان زوج أمّ سلمة قبل النبى صلّى الله عليه وسلم، وتزوّجها بعد عبد الأسد أبو رهم بن عبد العزّى بن أبى قيس، فولدت له أبا سبرة بن أبى رهم. أمّ حكيم، وهى البيضاء، وكانت عند كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، فولدت له أروى بنت كريز، وهى أم عثمان بن عفّان رضى الله عنه. ذكر مواليه صلّى الله عليه وسلم كان عدّة مواليه صلّى الله عليه وسلم من الرجال واحدا وثلاثين نفرا، منهم: زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبى وكان لخديجة رضى الله عنها، فاستوهبه صلّى الله عليه وسلم منها وأعنقه. ابنه أسامة بن زيد، وكان يقال حبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بن حب رسول الله صلّى الله عليه وسلم (103). ثوبان بن بجدد، وكان له نسب فى اليمن.

أبو كبشة، من مولّدى مكّة شرّفها الله تعالى وقيل إنّه من دوس واسمه سليم، شهد بدرا، ابتاعه صلّى الله عليه وسلم ثم أعتقه، وتوفّى فى أوّل يوم استخلف عمر بن الخطّاب رضى الله عنه. أنسة (1) من مولدى السراة، اشتراه صلّى الله عليه وسلم وأعتقه. شقران واسمه صالح، قيل ورثه من أبيه، وقيل اشتراه من عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه وأعتقه. رباح، أسود نوبى، اشتراه من وفد عبد القيس فأعتقه. يسار، نوبى، أصابه صلّى الله عليه وسلم فى بعض غزواته وهو الذى قتله العرنّيّون، قطعوا يده ورجله، وغرزوا الشوك فى عينيه، واستاقوا لقاح النبى صلّى الله عليه وسلم، وأدخل المدينة ميّتا. أبو رافع، واسمه أسلم، وقيل إبراهيم وكان عبدا للعبّاس فوهبه النبى صلّى الله عليه وسلم، فأعتقه حين بشّره بإسلام عمّه العبّاس وزوّجه سلمى مولاته، فولدت عبيد الله، وكان عبيد الله كاتبا لعلىّ عليه السّلام خلافته كلّها. أبو موهبة (2) من مولّدى مزينة اشتراه وأعتقه. فضالة، نزل الشام ومات بها. رافع، كان مولى لسعيد بن العاص، فورثه ولده فأعتقه بعضهم وأمسك بعضهم، فجاء رافع إلى النبى صلّى الله عليه وسلم يستعينه، فوهب له، وكان يقول: أنا مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. مدعم، أسود وهبه له رفاعة بن زيد الجذامى، قتل بوادى القرى، أصابه

سهم، وهو الذى قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الشملة التى غلّها تشتعل عليه نارا (1)». كركرة، كان على ثقل النبى صلّى الله عليه وسلم، وكان نوبيّا، أهداه له هوذة بن علىّ الحنفى فأعتقه. زيد، جدّ [بلال بن يسار بن زيد (2)]. طهمان، [مابور (3)] القبطى أهداه (104) له المقوقس صاحب مصر. واقد، أبو واقد. هشام، أبو ضميرة، حنية، أبو عسيب، أبو عبيد. سفينة، كان سفينة هذا عبدا لأمّ سلمة زوج النبى صلّى الله عليه وسلم فأعتقته، واشترطت عليه أن يخدم النبى صلّى الله عليه وسلم [مدة] (4) حياته، فقال: لو لم تشترطى علىّ ما فارقته، وكان اسمه رباح، وقيل مهران، فسمّاه صلّى الله عليه وسلم سفينة، لأنّه كان معهم فى سفر، وكان كلّ من أعيا ألقى عليه متاعه، ترسا أو سيفا، فمرّ به النبى صلّى الله عليه وسلم وقد أوسق (5) متاعا، فقال: «أنت سفينة»، وكان أسود من مولّدى الأعراب. أبو هند، وهو الذى قال فى حقّه: «زوّجوا أبا هند وتزوّجوا إليه»، ابتاعه منصرفه من الحديبية وأعتقه. أنجشة، وكان حاديا للجمال، وهو الذى قال له: «رويدك يا أنجشة، رفقا بالقوارير».

ذكر الإناث من مواليه ومن اصطفى منهن لنفسه

أبو لبابة، كان لبعض عمّاته فوهبته له فأعتقه. رويقع، سباه من هوازن وأعتقه صلّى الله عليه وسلم. قلت: هؤلاء المشهورون، وقد قيل إنّهم أربعون رجلا، والله أعلم. ذكر الإناث من مواليه ومن اصطفى منهنّ لنفسه أمّا سراريه صلّى الله عليه وسلم: فمارية القبطيّة، أمّ إبراهيم ولده صلّى الله عليه وسلم، وريحانة بنت عمر القريظيّة، اصطفاها لنفسه من سبى بنى قريظة. وأمّا خدمه فخمس: سلمى أمّ رافع، وبركة أمّ أيمن، ورثها من أمّه وكانت حاضنته صلّى الله عليه وسلم، وميمونة بنت سعد، وقيل إنّها من جملة من اصطفاهنّ لنفسه، مع خلاف فى ذلك، [وخضرة] (1) ورضوى. ذكر من خدمه من الأحرار صلّى الله عليه وسلم وهم أحد عشر نفرا: أنس بن مالك بن النّضر الأنصارى (105). هند وأسماء ابنتا حارثة الأسلمّيتان. ربيعة بن كعب الأسلمىّ. عبد الله بن مسعود، وكان صاحب نعليه إذا قام ألبسه إياهما، وإذا جلس جعلهما فى [دراعته (1)] حتى يقوم. عقبة بن عامر الجهنى، وكان صاحب بغلته يقود به فى الأسفار. بلال بن رباح المؤذّن.

ذكر من كان يحرسه فى غزواته صلى الله عليه وسلم

سعد مولى أبى بكر الصّدّيق. ذو مخمر ابن أخى النجاشى ملك الحبشة، وقيل ابن أخته، ويقال ذو مخبر. بكير بن شدّاخ اللّيثىّ. أبو ذرّ الغفارىّ، رضى الله عنهم أجمعين. ذكر من كان يحرسه فى غزواته صلّى الله عليه وسلم وهم ثمانية نفر: سعد بن معاذ، حرسه يوم بدر حين نام بالعريش، ذكوان ابن عبد الله بن قيس، محمد بن مسلمة الأنصارى، حرسه بأحد، الزّبير بن العوّام، حرسه يوم الخندق، عباد بن [بشر (1)]، كان يلى حرسه، سعد بن أبى وقّاص، أبو أيّوب الأنصارى، حرسه بخيبر، بلال، حرسه بوادى القرى، ولمّا نزلت: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ»} إلى قوله {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ»} (2) ترك الحرس. ذكر رسله إلى الملوك والقبائل قلت: قد تقدّم القول فى ذكر ذلك، وما كان بين المقوقس، وبين حاطب ابن أبى بلتعة، ولم نذكر ما تمّ لبقيّة رسله، فأردنا أن نذكر ذلك هاهنا، وبالله نستعين. أمّا الرسل فعدّتهم أحد عشر: عمرو بن أميّة الضمرىّ، أرسله إلى النجاشى، وأسمه أصحمة، ومعناه عطية، فأخذ الكتاب، ووضعه على عينيه ونزل عن

سريره فجلس على الأرض، وأسلم وحسن إسلامه، وصلّى عليه النبى صلّى الله عليه وسلم صلاة الغائب، وقد تقدّم ذلك، وروى أنّه كان لا يزال يرى على قبره النور. دحية بن خليفة الكلبى، بعثه (106) إلى قيصر ملك الروم، واسمه هرقل، فسأله عن النبى صلّى الله عليه وسلم، وثبت عنده صحة نبوّته فهمّ بالإسلام، فلم توافقه الروم، وخافهم على ملكه فأمسك. عبد الله بن حذافة السّهمىّ، بعث إلى كسرى ملك فارس، فمزّق الكتاب، فقال صلّى الله عليه وسلم: «مزّق الله ملكه» فمزّق الله ملكه، وملك قومه فهل ترى لهم من باقية. حاطب بن أبى بلتعة اللخمى، بعثه إلى المقوقس، وقد تقدّم ذكر ذلك. عمرو بن العاص، بعثه إلى ملكى عمان جيفر وعبد ابنى الجلندى وهما من [الأزد (1)]، فأسلما وصدقا، وخلّيا بين عمرو وبين الصدقة والحكم فيما بينهم، فلم يزل عندهم حتى توفّى صلّى الله عليه وسلم. سليط بن عمرو العامرى، بعثه إلى هوذة بن علىّ الحنفّى، فأكرمه ونزّله، وكتب إلى النبى صلّى الله عليه وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا خطيب قومى وشاعرهم، فاجعل لى بعض الأمر، فأبى النبىّ صلّى الله عليه وسلم، ولم يزل، ومات زمن الفتح. شجاع بن وهب الأسدى، بعثه إلى الحارث بن أبى شمر الغسّانى ملك البلقاء من أرض الشام، قال شجاع: فانتهيت إليه وهو بغوطة دمشق، فقرأ كتاب

ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم

رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثمّ رمى به، وقال: أنا سائر إليه، وعزم على ذلك فمنعه قيصر. المهاجر بن أبى أميّة المخزومىّ، بعثه إلى المنذر بن ساوى العبدى ملك البحرين (1)، فأسلم وصدق إسلامه. وأبو موسى الأشعرى بعثه إلى اليمن. ومعاذ بن جبل، رفيقه فكانا جميعا فى حملة اليمن داعين إلى الإسلام، فأسلم عامّة أهل اليمن، ملوكهم وعامّتهم، طوعا من غير قتال، والله أعلم. ذكر كتّابه صلّى الله عليه وسلم وهم ثلاثة عشر نفرا: أبو بكر الصّدّيق رضى الله عنه، عمر بن الخطّاب رضى الله عنه (107) عثمان بن عفّان رضى الله عنه، علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، عامر بن فهيرة رضى الله عنه، عبد الله بن أرقم رضى الله عنه، أبىّ بن كعب رضى الله عنه، ثابت بن قيس رضى الله عنه، خالد بن سعيد رضى الله عنه، حنظلة بن الرّبيع الأسدىّ، زيد بن ثابت رضى الله عنهما، معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه، شرحبيل بن حسنة رضى الله عنه. وكان معاوية وزيد بن ثابت ألزمهما لذلك وأخصّهما به، والله أعلم.

ذكر رفقائه النجباء رضوان الله عليهم أجمعين

ذكر رفقائه النجباء رضوان الله عليهم أجمعين وهم اثنا عشر نفرا: أبو بكر، عمر، علىّ، حمزة، جعفر، أبوذرّ، المقداد، سلمان، حذيفة، ابن مسعود، عمّار، بلال، وكان علىّ عليه السّلام والزّبير، ومحمّد بن مسلمة، وعاصم بن أبى الأفلح، والمقداد بن الأسود، يضربون الأعناق بين يديه. ذكر دوابّه صلّى الله عليه وسلم وكان له صلّى الله عليه وسلم عشرة أفراس: السّكب: وهو أوّل فرس ملكه، وأوّل فرس غزا عليه، اشتراه من أعرابى من بنى فزارة، وكان تحته يوم أحد، وكان اسمه عند الأعرابى الضرس سمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم السكب، وكان أغرّ محّجلا، طلق اليمين، له [سمحة (1)]، وسابق عليه فسبق، وكان أعزّ خيله عليه. المرتجز: اشتراه من أعرابى من بنى مرّة، وجحده الأعرابى، وقال: من يشهد لك فشهد له خزيمة بن ثابت، فقال: «كيف تشهد على ما لا تحضر»؟ فقال: يا رسول الله، نصدّقك فى خبر السماء، ولا نصدّقك فى خبر الأرض؟ فسمّاه رسول الله ذا الشهادتين. لزاز: أهداه له المقوقس، وكان يعجبه ويركبه فى أكثر غزواته. الّلحيف أهداه له الربيعة بن أبى البراء [فأثابه (2)] (108) عليه فرائض من نعم بنى كلاب.

ذكر نعمه صلى الله عليه وسلم

والظرب: أهداه له فروة بن عمرو الجذامىّ. الورد: أهداه له تميم الدارى فأعطاه عمر فحمل عليه فى سبيل الله. ملاوح: وكان لأبى بردة بن [نيّار (1)]. سبحة: سمى بذلك كونه جاء سابقا فسبح عليه. البحر: اشتراه من تجّار قدموا من اليمن فسبق عليه ثلاث مرّات، فمسح صلّى الله عليه وسلم وقال: «ما أنت إلاّ بحر». وكان له صلّى الله عليه وسلم بغلة شهباء يقال لها الدّلدل، يركبها فى المدينة وفى الأسفار، أهداها له المقوقس، وقد تقدّم ذلك، وهى أوّل بغلة ركبت (2) فى الإسلام، وعاشت بعده حتى كبرت وزالت أضراسها، وكان يجشّ لها الشعير، وبقيت إلى زمان معاوية، وماتت بينبع. وكانت له بغلة أخرى يقال لها فضّة، وهبها [لأبى] بكر (3)، وبغلة أخرى يقال لها الأيليّة، أهداها له ملك أيلة، وكان له حمار يقال له يعفور، وعفير مات فى حجّة الوداع، والله أعلم. ذكر نعمه صلّى الله عليه وسلم كانت له عشرون لقحة بالغابة، يراح له كلّ ليلة منها بقربتين من اللبن، من أسمائهم: لقاعز، والحنّاء، والسّمراء، والعريس، والسعدية، والبغوم، [واليسيرة (4)]، [والرّيا (4)]، وكانت له لقحة تدعى بردة، أهداها له

ذكر سلاحه صلى الله عليه وسلم

الضحاك بن سفيان، كانت تحلب كما تحلب لقحتان غزيرتان، وكانت له [مهرية (1)] أرسلها إليه سعد بن عبادة من نعم بنى عقيل، وكانت له القصواء ابتاعها أبو بكر وأخرى [معها] (2) من بنى قشير بثمان مائة درهم، وهى التى هاجر عليها، وكانت إذ ذاك رباعيّة، وكان لا يحمله إذا نزل عليه الوحى غيرها، وهى العضباء والجدعاء، وهى التى سبقت فشقّ ذلك على المسلمين فقال صلّى الله عليه وسلم (109): «إن من قدر الله تعالى أن لا يرتفع شئ إلاّ وضعه الله». وكان له صلّى الله عليه وسلم مائة من الغنم، ولم يعلم أنه أقنى شيئا من البقر، وكان [له] (3) سبع شياة، وهنّ عجرة، وزمزم، وسقيا، وبركة، [وورسة (4)]، وأطلال، وأطراف، وكانت ترعاهنّ أمّ أيمن، وكانت له شاة يختصّ بشرب لبنها تدعى غيثة، وكان له ديك أبيض، ذكره أبو سعد، والله أعلم. ذكر سلاحه صلّى الله عليه وسلم وكانت له أربعة رماح، ثلاثة أصابها من رماح بنى قينقاع، واحد يقال له المثنّى، وكان له عنزة وهى حربة دون الرمح، كان يمشى بها فى يده، وتحمل بين يديه فى العيدين حتى تركز أمامه، يتّخذها سترة يصلّى إليها، وكان له محجن قدر ذراع يتناول به الشئ، وهو الذى استلم به الركن فى حجّته، حجّة الوداع وكان له مخصرة سمّى العرجون، وقضيب يسمّى الممشوق. وكان له أربع قسىّ؛ قوس من شوحط تدعى الروحاء، وآخر من شوحط

أيضا تدعى البيضاء، وأخرى من نبع تدعى الصّفراء، وقوس تدعى الكتوم، كسرت يوم بدر. وكان له جعبة تدعى الكافور، وترس كان عليه قتال عقاب، أهدى له فوضع يده عليه فأذهبه الله تعالى. وكان له تسعة أسياف: ذو الفقار [تنفّله] (1) يوم بدر، وهو الذى رأى منه كأنّ فى ذبابه ثلمة فأوّلها هزيمة، فكانت يوم أحد، وكان قبله لمنبّه بن الحجّاج السّهمىّ، وثلاثة أسياف أصابها من بنى القينقاع: سيف قلعىّ، وسيف يدعى البتّار، وآخر يدعى الحتف، وكان له آخر سمّى المخزم، وآخر يدعى الرسوب، وآخر ورثه من أبيه، وآخر يقال له العضب، وهو أوّل سيف تقلّد به صلّى الله عليه وسلم (110)، قال أنس بن مالك: كان نعل سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلم فضّة، [وقبيعته] (2) فضّة وما بين ذلك حلق فضّة. وكان له درعان، أصابهما من سلاح بنى قينقاع، يقال لأحدهما: السعديّة، والأخرى فضّة. وعن محمّد بن مسلمة قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم أحد عليه درعاه، درعه ذات الفضول، ودرعه فضّة، ورأيت عليه يوم حنين (3) درعين: ذات الفضول والسعديّة، ويقال كانت عنده درع داود عليه السّلام. وكان له مغفر يسمّى السّبوغ، ومنطقة من أدم مبشور، وفيها ثلاث حلق

ذكر أثوابه صلى الله عليه وسلم

من فضّة، والإبزيم من فضّة، والطرف من فضّة. وكان له راية سوداء يقال لها العقاب. ذكر أثوابه صلّى الله عليه وسلم وترك صلّى الله عليه وسلم لمّا مات ثوبين حبرة (1)، وإزارا عمانيّا، وثوبين صحاريّين، وقميصا صحاريّا، وقميصا سحوليّا، وجبّة يمنيّة، وخميصة، وكساء أبيض، وقلانس صغارا لاطيه (2) ثلاثا أو أربعا، وإزارا طوله خمسة أشبار، وملحفة مورسّة. وكان له ربعة فيها مرآة ومشط عاج ومكحلة ومقراض وسواك. وكان له فراش من أدم حشوه ليف. وكان له قدح مضبّب (3) [بثلاث] (4) ضباب، وقيل حديد، وفيه حلقة يعلّق بها، يسع أكثر من نصف المدّ، وكان له قدح آخر يدعى الريّان، [وتور] (5) من حجارة يدعى المخضب، ومخضب من شبّة يكون فيه الحنّاء، والكتم (6) توضع على رأسه إذا وجد حرّا وقدح من زجاج، ومغسل من صفر، [وقصعة] (7)، وصاع يخرج به فطرته.

وكان له سرير وقطيفة، وخاتم من فضة فصّه منه، نقشه محمّد رسول الله، وقيل كان من حديد ملوىّ بفضّة. وأهدى له النجاشى خفّين أسودين (111) ساذجين فلبسهما، وكان له كساء أسود كساه فى حياته، فقالت له يوما أم سلمة: بأبى أنت وأمّى يا رسول الله، ما فعل كساؤك الأسود؟ قال: «كسوته»، قالت: ما رأيت شيئا قطّ كان أحسن من بياضك فى سواده. وكانت له عمامة يعتمّ بها يقال لها السحاب، فكساها لعلىّ بن أبى طالب عليه السّلام، فربّما طلع علىّ فيها فيقول: «إيّاكم علىّ فى السحاب». وكان له ثوبان للجمعة غير ثيابه التى كان يلبسها فى سائر الأيّام، وكان له منديل يمسح به وجهه الكريم من الوضوء، وربّما مسحه بطرف ردائه، صلّى الله عليه وسلم وكرم وعظّم. وفى أوّل هذه السنة-وهى سنة إحدى عشرة-قبل وفاته صلّى الله عليه وسلم كان قد سيّر أسامة بن زيد إلى أرض السراة بناحية البلقاء، وأمّره على جماعة من المهاجرين والأنصار. وفيها كان ظهور مسيلمة الكذّاب، وفيها كان ظهور الأسود العنسى، وكذلك ظهور طلحة بن خويلد، وكلّ من هؤلاء ادّعى النبوّة، وكذلك ظهرت سجاح فى بنى تميم وادّعت النّبوّة، وكان طلحة بن خويلد قد تسمّى بذى النون، وزعم أنّه اسم الذى يأتيه بالرسالة. وفيها كان أمر الردّة وحدثها، وفيها كانت خلافة أبى بكر رضى الله عنه. وفيها توجّه خالد بن الوليد رضى الله عنه إلى اليمامة لحرب مسيلمة فى بنى حنيفة، ممّا يأتى لمع من ذلك فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه.

ذكر خلافة الإمام أبى بكر الصديق رضى الله عنه ونسبه وبعض سيرته

ذكر خلافة الإمام أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه ونسبه وبعض سيرته أمّا نسبه رضى الله عنه فهو: أبو بكر عبد الله عتيق بن أبى قحافة عثمان ابن عامر بن عمرو [بن كعب] (1) بن سعد بن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤىّ بن غالب، يلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى مرّة بن كعب، وكان يسمّى أبو بكر فى الجاهليّة عبد الكعبة كما يأتى بيانه فى موضعه إن شاء الله تعالى. أمّه تسمى (112) أمّ الخير، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر الأكبر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة ابن كعب، ولد رضى الله عنه بمنى، روى أنّ سلمى بنت صخر وهى أمّ الصدّيق رضى الله عنه أرضعته أربع سنين، ثم أرادت فصاله فوضعت على ثديها صبرا، فلمّا وجد طعمه قال: يا أمّاه اغسلى ثدييك! فقالت: يا بنىّ، إنّ لبنى فسد وخبث طعمه، فقال لها: إن وجدت ذلك الخبيث قبل أن يخرج اللبن فاغسلى ثدييك، وإن كنت قد بخلت بلبانك فإنى أصدّ عنه، فضمّنه إلى صدرها ورشفته، وجعلت ترقّصه، وتقول: يا ربّ عبد الكعبه … أمتع به يا ربّه فهو بصخر أشبه ثم تحوّلت عن هذا الروىّ فقالت: عتيق يا عتيق … ذو المنظر الأنيق

تفسير كلمات من هذا الخبر

والمقول الدّليق كالمصعب الفنيق … رشفت منه ريق كالزرنب الفتيق ثم تحوّلت عن هذا الروىّ فقالت: ما نهضت والدة عن ندّه … أروع بهلول نسيج وحده ثم إنّ السرور استخفّها، فهتفت بأعلى صوتها كما تهتف النساء عند الفرح، ودخل أبو قحافة فقال: ما بالك يا سلمى؟ أحمقت؟! فأخبرته، بمقاله، فقال: أتعجبين من هذا، فو الذى كان يحلف به أبو قخافة، ما نظرت إلى ابنك هذا قطّ إلا تبيّنت السّؤدد فى حماليق عينيه. تفسير كلمات من هذا الخبر أما قولها: عبد الكعبة، فهو اسم كان للصدّيق رضى الله عنه، فسمّاه النبى صلّى الله عليه وسلم: عبد الله. وقولها: فهو بصخر أشبه، فإنّها تعنى أباها، وهو صخر بن عمرو بن كعب ابن تيم بن مرّة، وهى بنت عمّ أبى قحافة. وقولها: المنظر الأنيق، فهو المعجب المستحسن. وقولها: المقول (113) الدليق، فهو اللسان الحادّ الماضى. وقولها: كالمصعب الفنيق، المصعب: الفحل من الإبل الّذى لم يذلّل بالعمل، والفنيق: المكرّم الممتلئ الجسم العبل (1).

وقولها: كالزرنب الفتيق، يقال إنّ الزنب نبت طيّب الريح، ويقال إنّه أخلاط من الطيب. وقولها: أروع، هو الحسن المنظر، الذى يروع من رآه. وقولها: بهلول، يقال: هو الحسن، ويقال: الشجاعة. وقولها: نسيج وحده، أى لا شبيه له، وهو مثال يضرب، وأصله من الثوب النفيس، فهو ينسج وحده. وقوله: هتفت: أى رفعت صوتها، وكلّ مصوّت هاتف، والله أعلم. وروى عن القاضى الإمام أبى الحسن أحمد بن محمّد الزبيرى بإسناده، فى كتابه المسمى معالى الفرش إلى عوالى العرش عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: اجتمع المهاجرون والأنصار عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: وعيشك يا رسول الله إنّى لم أسجد لصنم قطّ، فغضب عمر بن الخطّاب رضى الله عنه وقال: تقول وعيشك يا رسول الله إنّى لم أسجد، وقد كنت فى الجاهليّة كذا كذا سنة؟ فقال أبو بكر رضى الله عنه: إنّ أبا قحافة أخذ بيدى فانطلق بى إلى مخدع فيه الأصنام، فقال لى: هذه آلهتك الشمّ العلى فاسجد لها، وخلاّنى وذهب، فدنوت من الصنم، وقلت: إنّى جائع فأطعمنى، فلم يجبنى. فقلت: إنّى عطشان فارونى، فلم يجبنى: فقلت: إنّى عار فاكسنى، فلم يجبنى، فأخذت صخرة وقلت: إنّى ملق هذه الصخرة عليك، فإن كنت إلها فامنع نفسك! فلم يجبنى، فألقيت الصخرة عليه، فخرّ لوجهه، وأقبل والدى، فقال: ما هذا يا بنىّ؟ فقلت: هذا الذى ترى، فانطلق بى (114) إلى أمّى، وأخبرها، فقالت: دعه! فهذا الذى ناجانى الله به، فقلت: يا أمّاه، وما الذى ناجاك به؟ فقالت: ليلة أصابنى المخاض لم يكن عندى

ذكر شئ من أمر الردة ومنع الزكاة

أحد، فسمعت هاتفا يقول: يا أمة الله على التحقيق، ألا أبشرى بالولد العتيق، اسمه فى السماء الصدّيق، لمحمّد صاحب وصديق، قال أبو هريرة رضى الله عنه: فلمّا انقضى كلام أبى بكر رضى الله عنه نزل جبريل على النبى صلّى الله عليه وسلم، وقال: صدق أبو بكر، فصدّقه ثلاثا. بويع له بالخلافة يوم قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم بإجماع المهاجرين والأنصار، وكان ذلك فى سقيفة بنى ساعدة، وله من العمر يومئذ ستّون سنة وأشهر، وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشرين يوما، وقبض رضى الله عنه يوم الإثنين لعشر بقين من جمادى الآخرة من سنة ثلاث عشرة، وهو ابن ثلاث وستّين سنة وأشهر، وصلّى عليه عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، ودفن مع النبى صلّى الله عليه وسلم: قال الكلبى: سمّ، سمّه يهودى، وهو أول خليفة سمّ، ولم يل الخلافة من أبوه حىّ غير أبى بكر، ومات فى حياة أبيه، ولحقه بعد ستّة أشهر، والله أعلم. ذكر شئ من أمر الرّدّة ومنع الزّكاة قال: أخبرنا أبو الحسن على بن أحمد بن إسحق بن إبراهيم البغدادىّ، قراءة عليه من كتابه فى منزله، سنة خمس عشرة وخمس مائة، قال: حدّثنا أبو العبّاس الوليد بن حمّاد الرّملىّ، قال: أخبرنا الحسين بن زياد التّميمىّ، عن أبى إسماعيل محمّد بن عبد الله الأزدىّ البصرىّ، قال: إنّ الله عزّ وجلّ لمّا قبض نبيّه صلّى الله عليه وسلم ارتدّ كثير من العرب (115) عن الإسلام بعد وفاة

رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكفروا بالزّكاة، وقالوا: قد كنّا ندفع أموالنا إلى محمّد فما بال ابن أبى قحافة يسألنا أموالنا؟ والله لا نعطيه منها شيئا أبدا، فمنعوا أبا بكر الزّكاة، وكفروا بها، فاستشار أبو بكر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيهم، فأجمع رأيهم جميعا على أن يتمسّكوا بدينهم، وأن يخلّوا بين النّاس وبين ما اختاروه لأنفسهم، وظنّوا أنّهم لا طاقة لهم بمن ارتدّ منهم عن الإسلام، لطول ما قاسى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من جهاده فيهم، فقال أبو بكر رضى الله عنه: والله لو لم أجد أحدا يؤازرنى لجاهدتهم بنفسى وحدى حتى أموت، أو يرجعوا إلى الإسلام، ولو منعونى عقالا ممّا كانوا يعطونه رسول الله صلّى الله عليه وسلم لجاهدتهم حتى ألحق بالله، فلم يزل أبو بكر رضى الله عنه يجاهدهم بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبالمقبل من المسلمين مدبرهم، حتى عادوا جميعا إلى الإسلام، ودخلوا فيما كانوا خرجوا منه، فلمّا دوّخ الله عزّ وجلّ العرب، وانتهت الفتوح من كل وجه إلى أبى بكر رضى الله عنه، واطمأنّت العرب بالإسلام، وأذعنت به، واجتمعت عليه، حدّث أبو بكر نفسه بغزو الرّوم، وأسرّ ذلك فى نفسه، فلم يطلع عليه أحدا كما يأتى ذكر ذلك فى سنة اثنتى عشرة، إن شاء الله تعالى. وفيها أمر أبو بكر رضى الله عنه بجمع القرآن العظيم، وفيها مات عبد الله ابن أبى بكر رضى الله عنهما، وهو أعرق الناس فى صحبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإنّه وأباه وجدّه كلّهم رأوا النبىّ صلّى الله عليه وسلم وصحبوه.

ذكر سنة اثنتى عشرة للهجرة النبوية النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة اثنتى عشرة للهجرة النبويّة النيل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم خمسة أذرع وسبعة أصابع، مبلغ الزيادة ثلاثة عشر ذراعا وتسعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الإمام أبو بكر رضى الله عنه خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى هذه [السّنة] (116) بالمدينة، على ساكنها أفضل الصّلاة والسّلام، ومكّة شرّفها الله تعالى دار الإسلام، ومصر فى يد المقوقس ملك القبط، وهو يقوم بالخراج للرّوم بالشّام والشام فى يد قيصر هرقل ملك الرّوم، والعراق وفارس والعجم فى مملكة الفرس، واليمن دار إسلام أكثرها، فيها سار خالد بن الوليد رضى الله عنه إلى اليمامة، وقتل مسيلمة الكذّاب، وصالح الحرّة من طرف بلاد العراق على تسعين ألف درهم، وصالح بانقيا وباروسما على عشرة آلاف درهم، وفتح الأنبار، واستشهد من المسلمين باليمامة ألف ومائتا رجل، منهم سبعون يحمعون القرآن. ذكر لمع من خبر مسيلمة وسجاح ادّعت سجاح وهى ببنى تميم النّبوّة بعد وفاة النبى صلّى الله عليه وسلم، وكان فيما ادّعت به أنّه أنزل عليها: يا أيّها المؤمنون لنا نصف الأرض، ولقريش نصفها، ولكن قريشا قوم يبغون، فاجتمعت بنو تميم كلّها لينصروها، وكان منهم الأحنف ابن قيس، وحارثة بن بدر، ووجوه تميم كلّها، وكان قيس بن عاصم مؤذّنها لأنّه ارتدّ بعد الإسلام ثم عاد فأسلم.

ولمّا بلغها خبر مسيلمة الكذّاب وأنّه ادّعى أيضا النّبوّة، وأنّه يزعم أنّه نزل عليه قرآن ووحى، فجمعت جيوشها وقالت لبنى تميم: إنّ الله لم يجعل هذا الأمر فى ربيعة وإنّما اختص به مضر، فأطاعوها وساروا معها بجموعهم لحرب مسيلمة فى بنى حنيفة، وبلغ مسيلمة خبرها فاشتدّ عليه ذلك، وتحصّن فى اليمامة، فجاءت سجاح وجيوشها من تميم وغيرها، فأحاطت به فأرسل إلى وجوه قومه، وقال: ما ترون؟ قالوا: نرى أن تسلّم هذا الأمر إليها وتدعنا، فإن لم تفعل فهو البوار (117) فقال: أنظرونى. وكان مسيلمة داهية من أكبر دهاة العرب، ثم بعث إليها يقول: إنّ الله جلّ ذكره-عن زعمه-أنزل إلىّ كتابا وعلىّ وحيا قرآنا، وأنت تدّعين كذلك، فهلمّ نجتمع فنتدارس، فمن عرف الحقّ تبعه، فاجتمعنا فأكلنا العرب فاطبة بقومى وقومك، فأجابت لذلك، فأمر مسيلمة أن تضرب قبّة من أدم وأمر بالعود والمندل، فسجر (1) فيها، وقال: أكثروا من الطيب، فإنّ المرأة إذا تنشقت رائحة الطّيب حنّت للباه، ففعلوا ذلك، واجتمعا فى تلك القبّة، ولم يكن بينهما ثالث، فقالت: هات ما أنزل عليك. فقال: ألم تر كيف فعل ربّك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشى، ومن بين ذكر وأنثى، ثم إلى ربّك المنتهى، قالت: ثم ماذا؟ فقال: ألم تر أنّ الله خلقنا أفواجا، وجعل النساء للرّجال أزواجا، نولج فيهن [قعسا] (2) إيلاجا، ونخرجها منهنّ إخراجا، وهو مع ذلك يتراءى لها بغرموله وقد أنعظ، فلحّت ببصرها نحوه، ثم قالت وقد ألانت كلامها: فبأىّ شئ أمرك، فما أظنّك إلاّ على حقّ دونى، فقال:

ألا قومى إلى المخدع … فقد هيئ لك المضجع فإن شئت سلقناك … وإن شئت على أربع وإن شئت بثلثيه … وإن شئت به أجمع فقالت: بل به أجمع يا نبى الله، فقام إليها، فقام إليها وواقعها، فلمّا قام عنها قالت: إنّ مثلى لا يجرى أمرها هكذا، فتكون وصمة على قومى، ولكنّى مسلّمة الأمر إليك، ومعترفة بأمرك، واخطبنى من أوليائى يزوّجوك، فخرجت وخرج، واجتمع الحيّان، فقالت لهم سجاح: إنّه قد قرأ علىّ ما أنزل عليه فوجدته حقّا فاتبعته. ثم إنّه خطبها من قومها فزوّجوه (118) وسألوه عن المهر فقال: قد وضعت عن تميم خاصة صلاة العصر (1)، فبنو تميم إلى الآن بالرّمل لا يصلّون العصر، ويقولون هذا حقّ لنا، ومهر كريمة منّا، ويفخرون بذلك، وفى ذلك قال الشاعر: أضحت نبيّتنا أنثى يطاف بها … وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا وقيل: أسلمت سجاح بعد قتل مسيلمة، وكان عمره إلى حين قتل مائة وخمسين سنة. وفيها شرب خالد بن الوليد السّمّ، وقال: بسم الله وبالله ربّ الأرض والسّماء الذى لا يضرّ مع اسمه شئ، فلم يضرّه ذلك. وفيها حجّ أبو بكر رضى الله عنه بالنّاس، واستخلف عثمان بن عفّان رضى الله عنه بالمدينة. وفيها كانت البعوث إلى الشام.

ذكر ابتداء فتح الشام وما لخص عنه

ذكر ابتداء فتح الشام وما لخّص عنه وذلك أنّ أبا بكر رضى الله عنه لما حدّث نفسه بغزو الروم، وكتم ذلك فى سرّه، فبينا هو فى ذلك إذ جاءه شر حبيل بن حسنة فقال: يا خليفة رسول الله، أتحدّث نفسك أن تبعث إلى الشام جندا؟ فقال: نعم، قد حدّثت نفسى بذلك فما أطلعتك عليه؟ فقال: إنّى رأيت فيما يرى النائم كأنّك فى ناس من المسلمين فوق جبل، فأقبلت تمشى معهم حتى صعدت منه إلى قبّة عالية أعلى الجبل، فأشرفت على الناس ومعك أصحابك أولئك، ثم إنّك هبطت من تلك القبّة إلى أرض سهلة دمثة، فيها القرى والعيون والزروع والحصون، فقلت: يا معشر المسلمين شنّوا الغارة على المشركين، فأنا الضامن لكم الفتح والغنيمة، وأنا فيهم ومعى راية فتوجّهت (119) بها إلى أهل القرية، فدخلتها فسألونى الأمان، فأمّنتهم ثم جئت، فأجدك قد انتهيت إلى حصن عظيم ففتح لك، وألقوا إليك السلم، وجعل لك عرش فجلست عليه، ثم قال لك قائل: يفتح الله عليك وينصرك، فاشكر ربّك واعمل بطاعته. ثمّ قرأ عليك: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ. .»} إلى آخر السورة، ثم انتهت. قال أبو بكر رضى الله عنه: نامت عينك، ثم دمعت عيناه، وقال: أمّا الجبل الذى رأيت، فإنّا نكابد من أمر هذا الجند مشقّة ويكابدونه، ثم نعلو بعد ويعلو أمرنا، وأمّا نزولنا من القبّة إلى تلك الأرض الدمثة السهلة ذات الزروع والحصون، فإنّا ننزل إلى أمر أسهل ممّا كنا، فيه الخصب والمعاش، وأمّا قولى للمسلمين: شنّوا الغارة، فإنّى ضامن لكم الفتح والغنيمة، فإنّ ذلك توجيهى

إن شاء الله تعالى المسلمين إلى بلاد المشركين، وأمرى إيّاهم بالجهاد فى سبيل الله، وأمّا الراية التى كانت معك فتوجّهت إلى قرية فدخلتها فاستأمنوك فأمّنتهم، فإنّك تكون أحد الأمراء من المتوجّهين، ويفتح الله على يديك، وأمّا الحصن الذى فتح الله لى فهو ذلك الوجه يفتح الله علىّ، وأمّا العرش الذى رأيتنى جالسا عليه فإنّ الله عزّ وجلّ يرفعنى ويضع المشركين، وأمّا أمرى بطاعة ربّى، وقرأ علىّ هذه السورة، فإنّه نعى إلىّ نفسى، فإنّ هذه السورة حين نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم علم أنّ نفسه نعيت إليه، ثم سالت عيناه بالبكاء رضى الله عنه. ثم قال: لآمرنّ بالمعروف، ولأنهينّ عن المنكر، ولأجاهدنّ من ترك أمر الله عز وجل، ولأجهّزنّ الجيوش إلى العادلين بالله فى مشارق الأرض ومغاربها، حتى يقولوا أحد، أو يؤدّوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فإذا توفّانى (120) ربّى لم يجدنى مقصّرا، ولا فى ثواب المجاهدين زاهدا، ثم إنّه بعد ذلك أمّر الأمراء وجهّز البعوث. قال: حدّثنا الوليد بن حمّاد، قال: حدّثنا الحسن (1) بن زياد عن أبى إسمعيل محمّد بن عبد الله، قال: حدّثنى الحارث بن كعب، عن عبد الله بن أبى أوفى الخزاعى، وكانت له صحبة، قال: [لمّا (2)] أراد أبو بكر رضى الله عنه أن يجهز الجنود إلى الشام دعا عمر، وعثمان، وعليّا، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن ابن عوف، وسعد بن أبى وقّاص، وأبا عبيدة بن الجرّاح، ووجوه المهاجرين

والأنصار من أهل بدر وغيرهم، فدخلوا عليه، قال عبد الله بن أبى أوفى الخزاعىّ: وأنا فيهم، فقال: إنّ الله تعالى لا تحصى نعمه، ولا تبلغ الأعمال جزاءها، فله الحمد كثيرا على ما اصطنع عندكم، قد (1) جمع كلمتكم، وأصلح ذات بينكم، وهداكم إلى الإسلام، ونفى عنكم الشيطان، فليس يطمع أن تشركوا بالله، ولا أن تتّخذوا إلها غيره، والعرب بنو أمّ وأب (2)، وقد أردت أن أستنفرهم إلى الروم بالشام، فمن هلك منهم هلك شهيدا، وما عند الله خير للأبرار، ومن عاش منهم عاش مدافعا عن الدين، مستوجبا على الله عزّ وجلّ ثواب المجاهدين، هذا رأيى الذى رأيت، فليشر علىّ كلّ امرئ بمبلغ رأيه. فقام عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبى صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: الحمد لله الذى يختصّ بالخير من يشاء من خلقه، والله ما استبقتنا إلى شئ من الخير إلاّ سبقتنا إليه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، قد والله أردت [لقاءك] (3) بهذا الرأى الذى ذكرت، فما قضى الله أن يكون ذلك حتى ذكرته الآن، فقد أصبت، أصاب الله بك سبل الرشاد، سرّب إليهم الخيل فى إثر الخيل، وابعث الرجال تتبعها الرجال (121) والجنود تتبعها الجنود، فإن الله عزّ وجلّ ناصر دينه، ومعزّ الإسلام وأهله، ومنجز ما وعد رسوله صلّى الله عليه وسلم. ثم قام عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه، فقال: يا خليفة رسول الله، إنّها الروم وبنو الأصفر، حدّ حديد، وركن شديد، والله ما أرى أن تقحم الخيل

عليهم إقحاما، ولكن تبعث الخيل فتغير فى أدانى أرضهم، ثم تبعثها فتغير، ثم ترجع إليك، ثم تبعثها فتغير ثم ترجع، فإذا فعلوا ذلك مرارا أضرّ (1) بعدوّهم، وغنموا من أدانى أرضهم فقووا به على قتالهم، ثم تبعث إلى أقاصى أهل اليمن، وإلى أقاصى ربيعة ومضر، فتجمعهم إليك جميعا، فإن شئت عند ذلك غزوتهم بنفسك، وإن شئت بعثت إليهم من ترى لغزوهم، ثم جلس، وسكت الناس. فقال لهم أبو بكر رضى الله عنه: ماذا ترون رحمكم الله؟ فقام عثمان رضى الله عنه، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، وصلّى على النبى صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: نرى أنّك ناصح لأهل هذا الدين، عليهم شفيق، فإذا رأيت رأيك [علّمتهم] (2) رشدا وصلاحا وخيرا، فاعزم على إمضائه، فإنّك غير ظنين ولامتّهم (3) عليهم. فقال طلحة، والزبير، وسعد، وأبو عبيدة، رضى الله عنهم، وسعيد بن زيد، وجميع من حضر ذلك المجلس من المهاجرين والأنصار: صدق عثمان فيما قال ما رأيت من رأى فأمضه؛ فإنّا سامعون لك مطيعون، لا نخالف أمرك، ولا نتّهم رأيك، ولا نتخلّف عن دعوتك وإجابتك، فذكروا هذا وشبيهه، وعلىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه فى القوم لا يتكلّم، فقال له أبو بكر: ما ترى يا أبا الحسن؟ قال: أرى أنّك مبارك ميمون النقيبة (4)، وأنّك إذا سرت إليهم بنفسك، أو بعثت إليهم نصرت إن شاء الله تعالى، (122) [فقال أبو بكر: بشّرك الله] (5) بخير، فمن أين علمت هذا؟ قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا يزال

هذا الدين ظاهرا على كلّ من ناوأه، حتى يقوم الدين وأهله ظاهرين». فقال أبو بكر: سبحان الله، ما أحسن هذا الحديث لقد سرّك الله فى الدّنيا والآخرة. ثمّ إنّ أبا بكر قام فى الناس فحمد الله وأثنى عليه، وذكره بما هو أهله، وصلّى على النبى صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: أيّها الناس، إنّ الله عزّ وجلّ قد أنعم عليكم بالإسلام، وأعزّكم بالجهاد، وفضّلكم بهذا الدين على أهل كلّ دين، فتجهّزوا عباد الله إلى غزو عدّوكم الروم بالشام، فإنّى مؤمّر عليكم أمراء، وعاقد لهم عليكم، فأطيعوا ربّكم، ولا تخالفوا أمراءكم، ولتحسن نيّتكم وسريرتكم (1)، فإنّ الله مع الذين اتّقوا والذين هم محسنون. قال: وسكت النّاس، فو الله ما أجابه أحد هيبة لغزو الروم، لما يعلمون من كثرة عددهم وشدّة شوكتهم، فقام عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فقال: يا معشر المسلمين، ما لكم لا تجيبون خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا دعاكم لما يحييكم؟ فقام خالد بن سعيد بن العاص، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبى صلّى الله عليه وسلم ثم قال: الحمد لله الذى لا إله إلاّ هو، بعث محمّدا، صلّى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون، فإنّ الله تعالى منجز وعده، ومعزّ دينه، ومهلك أعداءه، ثم أقبل على أبى بكر فقال: نحن غير مخالفين لك، ولا متخلّفين عنك، وأنت الوالى الناصح الشفيق، ننفر إذا استنفرتنا، ونطيعك إذا أمرتنا، ونجيبك إذا دعوتنا: ففرح أبو بكر رضى الله عنه بمقاله، وقال:

جزاك الله من أخ وخليل خيرا، فقد أسلمت مرتغبا (123) وهاجرت محتسبا، وهربت بدينك من الكفّار، لكى يطاع الله ورسوله وتكون كلمة الله العليا، فسر (1) رحمك الله. قال: فتجهّز خالد بن سعيد بن العاص بأحسن جهاز، ثم أتى أبا بكر وعنده المهاجرون والأنصار، فسلّم ثم قال: والله لئن أخرّ من رأس حالق، أو تخطّفنى الطير فى الهواء بين السماء والأرض أحبّ إلىّ [من] (2) أن أبطئ عنك ولا أجيب دعوتك، فو الله ما أنا فى الدنيا براغب، ولا على البقاء بحريص، وإنّى أشهدكم أنّى وإخوتى وفتياتى ومن أطاعنى من أهلى حبيس فى سبيل الله، نقاتل المشركين حتى يهلكهم الله، أو نموت عن آخرنا. فقال له أبو بكر خيرا، ودعا له المسلمون بخير، وقال له أبو بكر: إنّى لأرجو أن تكون من نصحاء الله فى عباده: بإقامة كتابه، واتّباع سنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلم، فخرج هو وإخوته وغلمانه ومن تبعه، فكان أوّل من عسكر إلى الروم، ثم تبعه الناس. وأنفذ أبو بكر رضى الله عنه إلى اليمن، فأتت حمير بنسائها وأولادها، فاستبشر أبو بكر بذلك، ثم عقد الألوية وأمّر الأمراء المقدمين مثل: أبى عبيدة بن الجرّاح ويزيد بن أبى سفيان، ومعاذ بن جبل، وشر حبيل بن حسنة، وأمّر عليهم، وأمّر على الجميع أبا عبيد بن الجرّاح، إذا اجتمعوا كان الأمير عليهم، فإن تفرّقوا فكلّ من هؤلاء أمير بحاله، وأوصاهم بما يعتمدونه.

ذكر سنة ثلاث عشرة للهجرة النبوية النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثلاث عشرة للهجرة النبويّة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وستة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا، وسبعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث (124) الإمام أبو بكر الصدّيق، رضى الله عنه، بالمدينة إلى أن توفّى فى تاريخ ما تقدّم، وفيها كان عبور الجيوش الإسلاميّة إلى الشام، وكان قد أمّر خالد بن الوليد ثم عزله، وولّى أبا عبيدة بن الجرّاح، وذلك لما رأى من شفقة أبى عبيدة على المسلمين، وكونه لم يجسر على العبور إلى الشام، وكان أبو عبيدة قد نزل البلقاء وصالح أهلها بعد قتال، وهو أوّل صلح كان بالشام، ثم إن خالد ابن الوليد رضى الله عنه قطع المفازة لمّا جاءه أمر أبى بكر رضى الله عنه، وهى مفازة العلا وتبوك، وخطم الجمال بعد ما عطّشها وسقاها، وعاد فى كل يوم ينحر عشرة، فيأكلون لحومها، ويشربون ما فى بطونها من الماء، حتى قطع بهم المفازة. وفيها كانت وقعة اليرموك، وكان المسلمون أربعين ألفا، معهم ألف صحابى، فيهم نحو من مائة ممّن شهد بدرا، وكانت الروم فى مائتى ألف، منهم ثمانون ألف مقيّد، وأربعون مسلسل، وأربعون ألف مشدود بالعمائم، كلّ ذلك لئلاّ ينهزموا. وأبى الله إلاّ نصرة دينه، وإظهار كلمة الإيمان على كلمة عبدة الصلبان.

ومن كلام عائشة رضى الله عنها فى أبيها بعد وفاته

وفيها فتحت صيدا، وجبيل، وبيروت، وبيسان، وطبريّة. وفيها كانت وقعة النساطين بكسكر، ووقعة الجالينوس وغيرها، وسيأتى ذكر شئ من ذلك فى أيام خلافة عمر رضى الله عنه. وفيها كانت خلافة عمر رضى الله عنه. وفيها كانت وفاة أبى بكر رضى الله عنه بطرف من سل، وقيل بل من سقية اليهودى له، حسبما تقدّم من الكلام، والله أعلم. وقيل إنّ أبا بكر رضى الله عنه لم يكن يأكل من بيت مال المسلمين شيئا. ولا يجرى عليه من الفئ درهم، إلاّ أنّه استسلف (125) من بيت المال مالا، فلما حضرته الوفاة أمر عائشة رضى الله عنها بردّه، فردّته. ومن كلام عائشة رضى الله عنها فى أبيها بعد وفاته قالت: من جملة كلام [عن] أبى بكر: والله من لا تعطونه الأيدى ذاك طود منيف، وظلّ مديد، أنجح إذ كذّبتم، وسبق إذ ونيتم، سبق الجواد إذا استولى على الأمد، فتى قريش ناشئا، وكهفها كهلا، يفّك عانيها، ويريش ملقها وتراب شعبها، فمّا برحت شكيمته فى ذات الله تشتدّ، حتى اتّخذ بفنائه مسجدا، يحيى فيه ما أمات المبطلون، كان والله قيد الجوانح، غزير الدّمعة، شجىّ النّشيج، فانقضّت إليه نسوان مكّة وولدانها، يسخرون منه ويستهزئون به، والله يستهزئ بهم ويمدهّم فى طغيانهم يعمهون، فأكبرت ذلك رجالات قريش، فما فلّوا صفاة، ولا قصفوا له قناة، حتى ضرب الحقّ بجرأته، وألقى بركنه، ورست أوتاده، فلمّا قبض الله نبيه صلّى الله عليه وسلم ضرب الشيطان رواقه، ومدّ طنبه،

صفة الإمام أبى بكر رضى الله عنه وأرضاه

ومدّ حباله، وأجلب بخيله ورجله، فقام الصدّيق حاسرا مشمرا، فردّ الإسلام على غرّة، وأقام أود نفاقه، فانذعر النفّاق بوطئه، وانتعش الناس بعدله، حتى أراح الحقّ على أهله، وحقن الدماء فى أهلها. صفة الإمام أبى بكر رضى الله عنه وأرضاه كان أبيض، نحيفا، طويلا، خفيف العارضين، غائر العينين، أجنأ (1)، ناتئ الجبهة، عارى الأشاجع (2)، لا يستمسك إزاره، يسترخى عن حقويه (3)، يخضب، وفى تاريخ القضاعىّ رحمه الله تعالى أنّه كان آدم اللون، والله أعلم. (126) ومن كلامه رضى الله عنه المعروف بقى مصارع السوء، والموت أشدّ ما قبله وأهون ما بعده، أربع من كنّ فيه كان من خيار عباد الله: من فرّج للتائب، واستغفر للمذنب، وأعان المحسن، ودعا للمدبر، ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه: البغى، والنّكث، والمكر. أسماء كتّابه رضى الله عنه كان كاتبه عثمان بن عفّان إلى حين وفاته، رضى الله عنه. أسماء حجابه رضى الله عنه كان حاجبه سويدا، ويقال شريف مولاه رضى الله عنه. نقش خاتمه رضى الله عنه كان نقش خاتمه: نعم القادر الله، وقال ابن عبّاس رضى الله عنه: بل كان نقش خاتمه: عبد ذليل لربّ جليل، والله أعلم.

ذكر خلافة الإمام الفاروق عمر بن الخطاب ونسبه وبعض سيرته رضى الله عنه

ذكر خلافة الإمام الفاروق عمر بن الخطّاب ونسبه وبعض سيرته رضى الله عنه أما نسبه، رضى الله عنه فهو أبو حفص عمر بن الخطّاب بن نفيل بن عبد العزّى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدىّ بن كعب، يلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى كعب بن مرّة، أمّه [حنتمة (1)] بنت هشام بن المغيرة بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرّة بن كعب. بويع له رضى الله عنه يوم الثلاثاء لعشر بقين من جمادى الآخرة، سنة ثلاث عشرة للهجرة، وله اثنتان وخمسون سنة وأشهر، وكانت خلافته عشر سنين، وستّة (127) أشهر، وأربعة أيّام. أجمع أهل العلم أنّ أفرس الناس أربعة نفر: رجلان وامرأتان، صفراء بنت شعيب، لما تفرّست فى موسى صلوات الله عليه، فقالت: {يا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ»} (2)، وعزيز مصر، لما تفرّس فى يوسف صلوات الله عليه، فقال: {أَكْرِمِي مَثْااهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً»} (3). وخديجة بنت خويلد رضى الله عنها، لما تفرّست فى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فخطبته لنفسها، وكانت أوّل من آمن به، فعادت سيّدة نساء العالمين، وأبو بكر رضى الله عنه لما تفرّس فى عمر رضى الله عنه فاستخلفه على الأمّة، فكان نعم الخليفة، ونعم من استخلف عنه.

ذكر إسلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه

وكان نفيل جدّ عمر شريفا نبيلا، تتحاكم إليه قريش، وولد عمر رضى الله عنه بعد الفيل بثلاث سنين، وقيل بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، وكان عمر شديدا على المسلمين، فلمّا أسلم أعزّ الله به دينه، أسلم بعد أربعين رجلا، وإحدى عشرة امرأة. وكان لعمر فى الجاهليّة السفارة، وكانت قريش إذا وقعت بينهم عداوة بعثوه سفيرا، وإن نافرهم منافر أو فاخرهم بعثوه منافرا ومفاخرا ورضوا به، وأسلمت فاطمة بنت الخطّاب أخته، وزوجها سعيد بن عمرو بن نفيل، وكانا يكتمان إسلامهما من عمر، وكان نعيم بن عبد الله النّحام من قوم عمر من بنى عدىّ قد أسلم مستخفيا من عمر. ذكر إسلام عمر بن الخطّاب رضى الله عنه قال: وخرج عمر يوما متوشّحا سيفه، يريد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، ذكروا له أنّهم مجتمعون فى بيت عند الصفا، معه (128) صلّى الله عليه وسلم عمّه حمزة، وأبو بكر، وعلىّ، فى رجال من المسلمين ممّن كان أقام مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكّة (1)، فلقيه نعيم بن عبد الله، فقال: أين تريد يا عمر؟ قال: أريد محمّدا، هذا الصابئ الذى فرّق أمرنا، وسفّه أحلام قريش، وعاب دينها، وسبّ آلهتها، فأقتله! فقال: غرّتك نفسك يا عمر، أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض وقد قتلت محمّدا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: أىّ أهل بيتى؟ قال: أختك، وابن عمّك سعيد بن زيد، فعليك بهما. فرجع عمر إليهما وعندهما خبّاب بن الأرتّ، معه صحيفة فيها سورة طه،

يقرئهما إيّاها، فلمّا سمعوا حسّ عمر تغيّب خبّاب، فلمّا دنا قال: ما هذه الهينمة (1)؟ فأنكراه، فقال: بلى! قالا: لا، فقال: قد أخبرت أنّكما تابعتما محمّدا على دينه، وبطش بسعيد، فدفعت عنه فاطمة، فضربها فشجّها، فقالا له: نعم، قد أسلمنا وآمنّا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك! فلمّا رأى عمر الدم رقّ وقال لأخته: أعطينى هذه الصحيفة، لأنظر ما جاء به محمّد، فقالت: أخشاك عليها؟ فحلف ليردنّها، فقالت: يا أخى، أنت نجس مشرك، وما يمسّها إلاّ طاهر، فقام فاغتسل وقرأ الصحيفة، فقال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلمّا سمعه خبّاب خرج وقال: إنّى لأرجو أن يكون الله قد خصّك بدعوة نبيّه، فإنّى سمعته يقول أمس: «اللهم أيّد الإسلام بأبى الحكم ابن هشام أو بعمر بن الخطّاب»! فالله الله يا عمر. فقال عمر: دلّنى يا خباب على محمّد، فدلّه عليه، فأخذ عمر سيفه وعمد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فضرب الباب عليهم، فسمعوا صوت عمر، ورآه رجل من خلل الباب، فرجع فزعا، فقال: يا رسول الله، هذا (129) عمر متوشّحا سيفه! (2) فقال حمزة: فأذن له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه، وإن أراد شرّا قتلناه بسيفه، فأذن له النبى صلّى الله عليه وسلم، وخرج إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلقيه فى الحجرة، فأخذ بجمع ردائه، وجذبه جذبا شديدا وقال: «ما جاء بك يا بن الخطّاب، فو الله ما أرى أن تنتهى حتى ينزل الله بك قارعة»، فقال: جئتك يا رسول الله لأومن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله، فكبّر عليه السلام تكبيرة عرف

أهل البيت أنّ عمر قد أسلم، فتفرّق أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلم من مكانهم، وقد عزّوا فى أنفسهم، حين أسلم عمر وحمزة. وروى أنّ عمر رضى الله عنه قال: كنت للإسلام مباعدا، وكنت صاحب شراب فى الجاهليّة، وكنت أجتمع مع رجال من قريش، فخرجت أريدهم، فلم أجد أحدا منهم، فقلت: لو أتيت فلانا الخمار، لعلّى أجد عنده خمرا فأشربها، فأتيته فلم أجده، فقلت: لو أتيت الكعبة فطفت بها سبعا، فجئت المسجد فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قائما يصلّى، فقلت: لو أنّى استمعت لمحمّد الليلة، حتى أسمع ما يقول، ثم قلت: لئن دنوت منه لأروّعنّه، فجئت من قبل الحجرة التى تحت ثيابها، فمشيت رويدا، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم قائم يصلّى ويقرأ، فلمّا سمعت القرآن رق قلبى ودخلنى الإسلام. فبتّ مكانى حتّى انصرف عليه السلام، فتبعته، فلمّا سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حسّى عرفنى وظنّ أنّى إنّما اتّبعته لأوذيه، فنهمنى (1)، ثم قال: «ما جاء بك يا بن الخطّاب هذه الساعة؟ فقلت: جئت لأومن بالله ورسوله، وبما جاء من عند الله، قال: فحمد الله رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: «هداك الله يا عمر»! ثم مسح صدرى، ودعا لى بالثبات، ثم دخل عليه السلام بيته، وانصرفت. قال ابن مسعود: ما زلنا أعزّة منذ أسلم عمر، ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نطوف بالبيت ونصلّى حتّى أسلم عمر، فقاتلهم حتى تركونا نصلّى، فصلّينا وطفنا. وقال ابن مسعود: كان إسلام عمر فتحا، وهجرته نصرا، وإمارته رحمة،

قال عمر رضى الله عنه: لمّا أسلمت قلت: أىّ رجل أنقل للحديث؟ فقيل لى: جميل بن معمر الجمحى، فأتيته فقلت: هل علمت أنّى أسلمت وتابعت محمّدا؟ فما راجعنى حتى قام يجرّ رداءه، فوقف على باب المسجد، فصرخ بأعلى صوته، وقريش فى أنديتها حول الكعبة: ألا وإنّ ابن الخطّاب قد صبأ، فقلت: كذب، ولكنّى أسلمت، ودخلت فى دين محمّد، قال: وثاروا إلىّ فقاتلونى وقاتلتهم حتّى قامت الشمس على رءوسهم، فقعدت وقاموا على رأسى، فنالوا منّى. قال عمر رضى الله عنه: فقلت: اصنعوا ما شئتم، فأقسم لو كنّا ثلاثمائة لتركناها لكم، أو تركتموها لنا. قال عبد الله بن عمر: فبينا هم كذلك إذ أقبل شيخ من قريش، عليه جبّة من أعلى مكة، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر، قال: فمه! رجل اختار لنفسه أمرا فما تريدون منه؟، أترون بنى عدىّ يسلمونه، فو الله لكأنّما كانوا ثوبا كشف عنه. قال عبد الله: فقلت لأبى بعد أن هاجر: يا أبت، من الذى وزّع الناس عنك بمكّة يوم أسلمت جزاه الله خيرا، قال: ذلك العاص بن وائل السهمىّ، لا جزاه الله خيرا. ولد عمر رضى الله عنه قبل يوم الفجار بأربع سنين، وولدت ابنته حفصة، زوج النبى صلّى الله عليه وسلم، قبل المبعث بخمس سنين، وأسلم عمر، رضى الله عنه، بعد المبعث فى السنة السادسة، وهو يومئذ ابن تسع وعشرين سنة، وتوفّى لهلال المحرم سنة أربع وعشرين (131) وهو ابن ستّين سنة، وهو الصحيح. وشهد عمر المشاهد كلّها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وتوفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو

عنه راض، وولى الخلافة سنة ثلاث عشرة، فى اليوم الذى مات فيه أبو بكر رضى الله عنه بوصيّة من أبى بكر، وكانت سيرته من محاسن السّير، وأنزل نفسه من مال الله تعالى بمنزلة رجل من المسلمين، لم يستأثر بشئ دونهم. وهو أوّل من دوّن الدواوين فى الإسلام، ونوّر شهر رمضان بصلاة الأشفاع وهو أوّل من تسمّى بأمير المؤمنين، ناداه رجل: يا خليفة الله، قال: ذاك نبى الله داود، قال: يا خليفة رسول الله، قال: ذاك صاحبكم المفقود، قال: يا خليفة خليفة رسول الله. قال: ذاك أمر يطول، أنتم المؤمنون وأنا أميركم. ويروى أنّه قيل له: يا عمر، فقال: لا تبخس مقامى شرفه، ويقال إنّ المغيرة ابن شعبة أوّل من دعاه بأمير المؤمنين، فقال ذاك إذا، وقيل السبب فى ذلك أنّ عمر كتب إلى عامله بالعراق أن تبعث إلىّ رجلين نبيلين جلدين نسلهما عن العراق وأهله، فبعث إليه لبيد بن ربيعة العامرى وعدىّ بن حاتم الطائى، فأناخا بباب المسجد، فلقيا عمرو بن العاص، فقالا: استأذن لنا على أمير المؤمنين، فوثب عمرو فقال: السّلام عليك يا أمير المؤمنين. وكان عمر كما وصفه علىّ عليهما السلام، فقال فى كلام ذكر فيه أبا بكر وأثنى عليه، ثم قال: ثم ولى عمر الأمر بعده، بعد أن استشار المسلمين فيه، فكره قوم ورضى قوم، فكنت ممّن رضى فلم يفارق الدنيا حتى رضى به من كان كرهه، فأقام الأمر على منهاج صاحبيه، يتّبع آثارهما كاتّباع الفصيل أمّه، رحيما بالضعفاء ناصرا للمظلومين (132) قويّا فى حقّ الله وأمره، لا تأخذه فيه لومة لائم، ضرب الله بالحقّ على لسانه، شبهّه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بجبريل فى غلظته على الأعداء، والغيظ على الكفّار، فمن أحبّنى فليحبّهما، ومن أبغضهما فقد أبغضنى، وأنا منه برئ.

وقال صلّى الله عليه وسلم: «إنّ الله جلّ جلاله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه»، ونزل القرآن بموافقته فى أسرى بدر قال الله تعالى: {لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ»} (1)، وذلك أنّه لمّا جئ بالأسرى يوم بدر قال لأصحابه: «ما تقولون فى هؤلاء»؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك وأهلك استبقهم [واستتبهم] (2)، لعلّ الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تكون قوّة على الكفّار، وقال عمر: يا رسول الله، كذّبوك، وأخرجوك، فاضرب أعناقهم، ومكّن عليّا من عقيل فيضرب عنقه، ومكّنى من فلان-[نسيب] (3) لعمر-فأضرب عنقه، فإنّ هؤلاء أئمة الكفر، فقال عبد الله بن رواحة: انظروا واديا كثير الحطب، فأدخلهم فيه، ثم أحزمه عليهم نارا، فقال العبّاس: قطعتك رحم (4). فسكت النبى صلّى الله عليه وسلم، فقال ناس: يأخذ بقول أبى بكر، وقال آخرون: يأخذ بقول عمر، وقال آخرون: يأخذ بقول ابن رواحة، فخرج النبى صلّى الله عليه وسلم فقال: «إنّ الله سبحانه وتعالى ليليّن قلوب رجال [فيه] (5)، حتّى تكون ألين من اللبن، وإنّ الله سبحانه وتعالى ليشدّد قلوب رجال، حتّى تكون أشدّ من الحجارة، وإنّ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»} (6)، ومثلك كمثل عيسى، قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ}

{عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»} (1)، ومثلك يا عمر كمثل نوح، حيث قال: {لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ (133) مِنَ الْكافِرِينَ دَيّاراً»} (2). ومثل موسى قال: {رَبَّنَا اِطْمِسْ عَلى أَمْاالِهِمْ، وَاُشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ»} (3). ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أنتم اليوم عالة، فلا يفلتنّ أحد منكم إلاّ بفداء أو ضربة عنق»، قال عبد الله بن مسعود: إلاّ سهيل بن بيضاء، فإنّى سمعته يذكر الإسلام، فسكت النبى صلّى الله عليه وسلم، فما رأيتنى فى يوم أخوف أن تقع علىّ الحجارة من السماء منّى فى ذلك اليوم حتّى قال النبى صلّى الله عليه وسلم: «إلاّ سهيل بن بيضاء»، فلمّا كان من الغد جئت النبى صلّى الله عليه وسلم، وإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان، فقلت: يا رسول الله، خبّرنى عن أىّ شئ تبكيان؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد تباكيت، فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «أبكى على أصحابى من أخذهم الفداء، ولقد عرض علىّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة»، لشجرة قريبة من النبى صلّى الله عليه وسلم. قال ابن عبّاس: كان هذا يوم بدر، والمسلمون يومئذ قليل، فلمّا كثروا واشتدّ سلطانهم أنزل الله عزّ وجلّ: {فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ، وَإِمّا فِداءً»} (4) فخيّر الله سبحانه نبيّه والمؤمنين فى أمر الأسارى: إن شاءوا قتلوهم واستعبدوهم، أو فادوهم، أو أعتقوهم، {لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ»} (5)، أى: فى الّلوح المحفوظ، بأنّ الله سبحانه يحلّ لكم الغنيمة «لمسّكم» فى أخذ الغنيمة والفداء قبل أن تؤمروا «عذاب عظيم». قال صلّى الله عليه وسلم: «لو نزل عذاب من السّماء ما نجا

منه إلاّ عمر بن الخطّاب وسعد بن معاذ، فإنّهما أمسكا عمّا أخذ من الغنائم». وقيل معنى قوله تعالى: «لولا كتاب من الله سبق» أنّه لا يعذّب أحدا ممّن شهد بدرا مع النبى صلّى الله عليه وسلم، لمسّكم العذاب. ووافق عمر القرآن فى مقام (134) إبراهيم، وذلك أنّ النبى صلّى الله عليه وسلم مرّ بالمقام ومعه عمر، فقال: يا رسول الله، هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال «نعم»، قال: أفلا نتّخذه مصلّى؟ فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «لم أؤمر بذلك»، فلم تغب الشمس من ذلك اليوم حتى نزلت: {وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى»} (1)، ووافق عمر القرآن فى الحجاب، وذلك أنّه قال للنبى صلّى الله عليه وسلم: إنّه يدخل عليك البرّ والفاجر، فلو حجبت أمّهات المؤمنين، فنزلت آية الحجاب. قال عمر: بلغنى شئ كان بين أمّهات المؤمنين وبين النبى صلّى الله عليه وسلم، فاستعرضتهنّ أقول لهنّ: لتكفنّ عن رسول الله أو ليبدلنّه الله عزّ وجلّ أزواجا خيرا منكنّ، حتى أتيت على آخرهنّ، فقالت أمّ سلمة: يا عمر، ما فى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما يعظ به نساءه حتى تعظهنّ، فأمسكت، فنزلت: {عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْااجاً خَيْراً مِنْكُنَّ»} (2) الآية. ولمّا أصاب عمر أرضه بخيبر، قال للنبى صلّى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ما أصبت مالا أنفس عندى منه، فما تأمر؟ فقال عليه السلام: «إن شئت تصدّقت بها، وحبست أصلها»، فجعلها عمر صدقة لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، وتصدّق بها على الفقراء، والمساكين، وأبناء السبيل، والغزاة فى سبيل الله، والضيف،

وفى الرقاب، لا جناح على من وليها أن يأكل منها، ويطعم صديقا غير متموّل مالا، ثم أوصى بها إلى حفصة، ثم إلى الأكابر من ولده، وهى أوّل صدقة تصدّق بها فى الإسلام. وقال عليه السّلام: «لست أدرى ما مقامى فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدى: أبى بكر وعمر، واهتدوا بهدى ابن عمّار، وتمسكوا بعهد أمّ معبد»، وقال صلّى الله عليه وسلم: «أتيت فى منامى (135) بقدح لبن فشربته، حتّى رأيت الرىّ يخرج من أظافرى، ثم أعطيته عمر بن الخطّاب فشرب فضله»، قالوا فما أوّلته يا رسول الله؟ قال: «العلم» وقال عليه السّلام: «إنّ الله تعالى وضع العلم على لسان عمر، فهو يقول به». قال ابن شهاب: كنا نتحدّث أنّ ملكا ينطق على لسان عمر، قال ابن مسعود: لو وضع علم أحياء العرب فى كفّة، ووضع علم عمر فى كفّة لرجح علم عمر، وقال: ما شئ أنفع من كلام، ولا أحسن من كلام، أخذت مضجعى، فسمعت قائلا يقول: السّلام على أهل البيت، خذوا من دنياكم، أو قال: من دنيا فانية لأخرى باقية، واستعدّوا المعاد إلى الله عزّ وجلّ، فإنّه لا قليل من الأجر، ولا غنىّ عن علم الله عزّ وجلّ، ولا عمل بعد الموت، أصلح الله أعمالكم. وسمع عمر رجلا يقول: الّلهم اجعلنى من الأقلّين، فقال له: ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: سمعت الله عزّ وجلّ يقول: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ»} (1)، و {وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاّ قَلِيلٌ»} (2)، فقال عمر رضى الله عنه: عليك من الدعاء بما يعرف.

وقال ناس من الصحابة لعمر رضى الله عنه: ما بال الناس فى الجاهليّة كانوا إذا ظلموا فدعوا يستجاب لهم، ونحن اليوم ندعو فلا يستجاب لنا، وإن كنّا مظلومين؟ فقال عمر: كان ذلك ولا أجر لهم إلاّ ذاك، فلمّا نزل الوعد والوعيد، والحدود والقصاص، والعقود وكلهم الله عزّ وجلّ إلى ذلك. ومن أجوبته الحسنة أنّه قال: إنّ فى يوم كذا من شهر كذا ساعة لا يدعو الله سبحانه فيها أحد إلاّ استجاب له، فقيل له: أرأيت إن دعا الله عزّ وجلّ فيها منافق؟ فقال: إنّ المنافق لا يوفّق لتلك السّاعة، وقال صلّى الله عليه وسلم: «قد كان فى الأمم (136) قبلكم محدّثون، فإن يكن فى هذه الأمّة أحد فعمر»، وقال عليه السلام: «لو كان بعدى نبىّ لكان عمر». وكان عمر شديد الغيرة، قال النبى صلّى الله عليه وسلم: «دخلت الجنّة، فرأيت فيها دارا أو قصرا، وسمعت فيها ضوضأة، فقلت: لمن هذا؟ فقيل: لرجل من قريش، فظننت أنّى أنا هو، فقلت: من هو؟ فقالوا عمر، فلولا غيرتك يا أبا حفص لدخلته»، فبكى عمر، وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟ خرج عمر رضى الله عنه يوما ومعه النّاس، فمرّ بعجوز فاستوقفته، فوقف لها وجعل يحدّثها وتحدثه، فقال الجارود العبدرى: حبست الناس على هذه العجوز؟ فقال: ويلك، أتدرى من هذه؟ هذه امرأة سمع الله عزّ وجلّ كلامها وشكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة، التى أنزل الله عزّ وجلّ فيها: «قد سمع الله قول التى تجادلك فى زوجها وتشتكى إلى الله»، والله لو وقفت إلى الّليل ما فارقتها إلاّ إلى الصلاة، ثم أرجع إليها.

وروى أنّها قالت لعمر: إيها يا عمر، عهدتك تسمّى عميرا فى سوق عكاظ تزع الصبيان بالعصىّ، فلم تذهب الأيّام حتّى دعيت عمر، ثم لم تذهب الأيّام حتى سمّيت أمير المؤمنين، فاتّق الله فى الرعيّة، واعلم أنّ من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشى الفوت، فقال لها الجارود: قد أكثرت أيّتها المرأة على أمير المؤمنين، فقال له عمر، ثم ذكر ما تقدّم، وقيل إنّ اسم المرأة خولة بنت حكيم، امرأة عبادة بن الصامت، كذلك اختلف فى اسم أبيها، فقيل حكيم وقيل ثعلبة. مرّ عمر رضى الله عنه بضجنان، فقال: لقد رأيتنى وأنا أرعى غنم الخطّاب فى هذا المكان، وعلىّ مدرعة صوف، وكان والله ما علمت فظّا غليظا يضربنى إذا (137) قصّرت، ويتعبنى إذا عملت، ثم أصبحت اليوم وأمر أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم إلىّ، ثم تمثّل: لا شئ مما ترى تبقى بشاشته … يبقى الإله ويفنى المال والولد لم تغن عن هرمز يوما خزائنه … والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا حوض هنالك مورود بلا كذب … لا بدّ من ورده يوما كما وردوا قال ابن عبّاس رضى الله عنه (1): قال لى عمر رضى الله عنه: أنشدنى لأشعر شعرائكم زهير، قلت: كيف جعلته أشعر شعرائنا؟ قال: لأنّه كان لا يعاظل بين الكلام، ولا يطلب [وحشىّ الشعر] (2)، ولا يطلب الرجل إلا بما يكون فى الرجال، وقال عمر: أشعر الشعراء من يقول: فلست بمستبق أخا لا تلمّه … على شعث أىّ الرّجال المهذّب

ومما يستحسن من عدله وإنصافه

وهو النابغة. قال الشّعبى: كان أبو بكر، وعمر وعلىّ كلّهم شعراء، وكان علىّ عليه السّلام أشعر الثلاثة، سار عمر رضى الله عنه يوما على ناقة له فظلعت، فعرض له رجل معه ناقته فركبها وقال: كأنّ راكبها غصن بمروحة … إذا تخطّت به أو شارب ثمل وشهد رجل عند عمر على هلال رمضان، وكان قد أصيب بعينه فى غزاة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال له عمر: بأىّ عينيك رأيته؟ قال: بشرّهما، يعنى الصحيحة، فقال له عمر: فإن أفطرت فما أنت صانع؟ فقال: أفطر معكم، فقبل شهادته. وقال عمر رضى الله عنه: من أعطى الدعاء لم يحرم الإجابة، ومن أعطى الشكر لم يحرم الزّيادة، ومن أعطى الاستغفار لم يحرم القبول، قال الله تعالى: {اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ»} (1)، وقال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ»} (2)، وقال تعالى: {اِسْتَغْفِرُوا (138) رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً»} (3). ومما يستحسن من عدله وإنصافه ما ذكره عبد الله بن عبّاس قال: أتدرون من يتكلّم بملء فيه: عمر بن الخطّاب، كان يكسوهم اللّين ويلبس الخشن، ويطعمهم الطيّب ويأكل الخبز المغلوث (4)، قال: وأعطى عمر رجلا عطاء وزاده ألفا، فقيل له: لو زدت عبد الله بن عمر، فإنّه ابنك، وهو لذلك مستحقّ، فقال: هذا ثبت أبوه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم أحد، ولم يثبت أبو هذا-يريد نفسه. وكان يجرى لنفسه

ذكر سنة أربع عشرة للهجرة النبوية النيل المبارك فى هذه السنة

من بيت المال درهمين كلّ يوم، فلمّا ولى عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه قيل له: لو أخذت ما كان عمر يأخذ، فقال: إنّ عمر كان لا مال له، وأنا لى ما يغنينى. وقال عمر: أتدرون ما يحلّ لى من مال الله؟ يحلّ لى حلّتان: حلّة للشّتاء وحلّة للصّيف، وما أحجّ عليه وأعتمر من الظهر، ومولى، وقوت عيالى كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، ثم أنا بعد ذلك رجل من المسلمين يصيبنى ما أصابهم. سمع عمر رجلا ينشد: فلولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى … وجدّك لم أحفل متى قام عوّدى (1) فقال عمر: لولا أن أسير فى سبيل الله، وأضع جبهتى على الأرض لله، وأجالس قوما ينتقون أحسن الحديث، كما ينتقى أطايب الثمر، لم أبال أن أكون متّ. ذكر سنة أربع عشرة للهجرة النبويّة النيل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم ستّة أذرع وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث (139) الإمام عمر بن الخطّاب رضى الله عنه أمير المؤمنين بالمدينة، والجيوش الإسلاميّة فى حروب الشّام، وفيها أمر عمر رضى الله عنه بقيام شهر رمضان، وكتب بذلك إلى سائر الأمصار التى عادت فى أيدى المسلمين،

ذكر فتح دمشق وحمص وما معهما ملخصا

وفيها ولد سعيد بن المسيّب، وفيها كانت وقعة القادسيّة، كما يأتى ذكرها بعد ذلك إن شاء الله تعالى، وفيها كان فتح الأردنّ ودمشق وحمص. ذكر فتح دمشق وحمص وما معهما ملخّصا وذلك أنّ الأمير كان على العساكر خالد بن الوليد رضى الله عنه طول خلافة أبى بكر رحمه الله وأرضى عنه، فلمّا ولى الأمر عمر بن الخطّاب رضى الله عنه قال: والله لأعزلنّ خالد بن الوليد، والمثنّى بن حارثة، ليعلما أنّ الله عزّ وجلّ هو الناصر لدينه، فعزلهما، وعزل خالد بأبى عبيدة، فجاءه الكتاب وهما فى حصار دمشق، فكتمه أبو عبيدة رضى الله عنه ولم يطلع عليه خالدا، وبقى خالد يصلّى بالناس على حاله، ولمّا علم خالد ذلك قال لأبى عبيدة: كيف لم تعلمنى بولايتك وأنت تصلّى خلفى، والسلطان سلطانك؟ فقال أبو عبيدة: ما السلطان أردت، وكلّ ما ترى إلى زوال، ونحن إخوان فأيّنا ولّى عليه أخوه لم يضرّه فى دينه ولا دنياه، بل المولى يكون أقربهما إلى الفتنة، وأوقعهما فى الخطيئة، إلاّ من عصم الله. وكان أبو عبيدة منازل دمشق من باب الجابية، وخالد من باب شرقى، وكان الروم أبو عبيدة أحبّ إليهم من خالد رضى الله عنهما، للينه، ولما بلغهم أنّه أقدم هجرة وإسلاما، وفتح لأبى عبيدة باب الجابية فدخل صلحا، وخالد على الباب الشرقى ليس عنده خبر، فولج دمشق عنوة، وأراد سبيهم، فمنعه أبو عبيدة، وقال: قد أمّنتهم، وفتحت منتصف رجب سنة أربع عشرة، لثلاثة عشر شهرا من خلافة عمر، وهو الصحيح.

(140) وفتح الله تعالى لعمر رضى الله عنه على يد خالد، وهو أمير من قبل أبى عبيدة حمص، افتتحها صلحا على مائة ألف وتسعين ألف دينار، ودخلها المسلمون. وكان هرقل ملك الروم فى كلّ ذلك بأنطاكيّة، وهو يمدّهم بالعساكر، فيرجعون خائبين، وكان يقول لأهل دينه: أنتم أكثر من المسلمين، وأنتم بشر وهم بشر، فما بالهم ينصرون عليكم؟ فقال شيخ من أصحابه: ذلك من أجل أنّ القوم يصومون بالنهار، ويقومون بالليل، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ومن أجل أنّا نشرب الخمر، ونرتكب المحارم، وننقض العهد، ونأمر بما يسخط الله، وننهى عما يرضى الله، ونفسد فى الأرض، فقال هرقل: صدقت لأخرجنّ من هذه القرية، وما لى فى صحبتكم من خير، فأشير عليه بأن لا يفعل، فأقام واستصرخ بأهل روميّة وأهل قسطنطينيّة، وأرمينيّة، وأجناد الجزائر، وأمر أن يحشر إليه كلّ من بلغ الحلم من أهل مملكته، وبعث إلى المسلمين جيوشا لا تحصى. وجاءت الأخبار إلى أبى عبيدة من جهة عيونه بذلك، فأطلع المسلمين على ذلك واستشارهم، فقال يزيد بن أبى سفيان: أرى أن نعسكر على باب حمص المسلمين، وتدخل النساء والذرارى المدينة، وابعث إلى المسلمين وأمّر بهم كعمرو بن العاص وخالد بن الوليد فيكونوا معك، فقال شرحبيل: لا أرى أن تدخل ذرارى المسلمين مع أهل حمص وهم على دين عدوّنا، ولا نأمن إن تشاغلنا بحرب من يأتينا أن تثب أهل حمص على ذرارينا، فيتقرّبوا بهم إلى عدوّنا، فقال أبو عبيدة: سلطان المسلمين أحبّ إليهم من سلطان عدوّكم، وإنّى أرى أن أخرجهم من المدينة

وأدخل النساء، وأنزل معهم الرجالة، ونكون نحن بإزاء العدوّ، فقال شرحبيل: كيف يحلّ (141) إخراجهم، وقد صالحناهم على تركهم فى ديارهم؟ فقال ميسرة ابن مسروق: إنّا لسنا أهل مدائن وحصون، وإنّا أصحاب البرّ والبلد القفر، فأخرجنا من بلاد الروم إلى بلادنا، واضمم قواصيك، واكتب لأمير المؤمنين فليمدّك، فاستصوب رأيه المسلمون. وأمر أبو عبيدة بردّ المال الذى أخذه من أهل حمص بخروجه عنهم، فدعوا له بالنصر، وردّ على أهل دمشق أيضا ما كان أخذ منهم، وقال: إنّما أخذناه على أنّا نمنعكم، ونحن باقون على الوفاء لكم. وأشار شرحبيل بن حسنة على أبى عبيدة ألاّ يخرج من الشام وقد افتتحها، وأنّه إن فعل ذلك عسر عليه أيضا دخولها، ونقض أهل إيلياء الصلح، فسار إليهم عمرو بن العاص، وبلغهم ذلك فداخلهم الرعب، وكان ذلك قصد عمرو، ثم سار خالد بن الوليد إلى عمرو مددا، فنزل اليرموك، وأقبل عمرو بن العاص معه، وأقام أبو عبيدة باليرموك. وأقبلت جموع الرّوم، وهى ثلاثة عساكر، فلم يمرّوا بقرية من القرى الّتى افتتحها المسلمون إلاّ سبوا أهلها، ونزلوا اليرموك على ألويتهم وراياتهم، وأمر خالد رجالا كانوا نصارى ثم أسلموا أن يدخلوا عسكر الروم ويكتموا إسلامهم، ليكونوا عيونا للمسلمين، ثم إنّ الروم أساءوا السيرة مع أهل القرى والمدن، وجاروا عليهم، وقطعت المؤن عن المسلمين، إلاّ ما كان يأتيهم من الأردنّ، لأنّه كان فى أيديهم.

ذكر وقعة اليرموك

وجاءت جيوش الرّوم فأحاطت بالمسلمين من كلّ جانب، فكتب أبو عبيدة لعمر بن الخطّاب رضى الله عنه كتابا يطلب المدد، ويعلمه ما هم فيه، فبكى المسلمون لما قرئ عليهم كتاب أبى عبيدة، وقالوا: سيّرنا إلى إخواننا وسر معنا، فلو قدمت الشام شدّ الله ظهور المسلمين! فقال (142) للّذى جاء بالكتاب: كم بين المسلمين وبين الروم؟ قال: بين أدناهم وبين المسلمين ثلاثة أيّام، وبين جمعهم وجمعهم خمس ليال، فقال عمر: هيهات، متى يأتى هؤلاء غياثنا، ثم كتب إلى أبى عبيدة كتابا شجّعه فيه، ورغّبه فى الشهادة، وأخبره بقوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ»} (1)، وسيّر نجدة بألف فارس، فلمّا دخلوا عسكر أبى عبيدة قويت نفوسهم. ذكر وقعة اليرموك قال: وسار أبو عبيدة بالنّاس من دمشق حتى نزل اليرموك، ولما تدانى العسكران لم يتقّدم عليهم الروم، وألقى الله فى قلوبهم الرّعب، هذا والمسلمون على مصافّهم، ثم انصرفت الرّوم عنهم ذلك اليوم، فلمّا كان من الغد وأقبلت الرّوم كأنّها سحابة منقضة، بدر أمراء الأجناد يعظون أصحابهم، فبرز معاذ ابن جبل رضى الله عنه، وقال: معاشر المسلمين اصبروا، فو الله لا ينجيكم اليوم إلاّ الصبر، ثم نزل عن فرسه وقال: من أراد أن يركبه ويقاتل عليه فليفعل، فوثب عليه ابنه عبد الرحمن، وهو غلام حين احتلم، وقال: يا أبت، إنّى لأرجو أن لا يكون فارس أعظم غناء منّى، ولا راجل أعظم غناء منك.

وحملت الرّوم حملة رجل واحد، فزال المسلمون عن الميمنة إلى القلب، وانكشفوا عن راياتهم، وصبرت طوائف من قبائل العرب مع أمرائهم، وحمل خالد بن الوليد رضى الله عنه على ميسرة الرّوم، وقد كانت دخلت عسكر المسلمين حتى صارت ميمنة المسلمين، والقلب شيئا واحدا، فقتل خالد-وهو فى قريب من الألف-ستّة آلاف فارس، وكان بإزائه قريب من المائة ألف، فنادى خالد رضى الله عنه: يا أهل الإسلام، لم يبق للقوم من الحلية إلاّ (143) ما رأيتم، الشّدة الشّدة، فو الذى نفسى بيده إنّى لأرجو أن يمنحكم الله تعالى أكتافهم، وانتهى خالد فى تلك الساعة بالحملة إلى [الدّرنجار] (1)، وفض الله جموع الروم، وهم ثلاثة عساكر. وكان لمّا انهزم المسلمون أولا سمعوا صوتا ملأ العسكر يقول: يا نصر الله اقترب، الثّبات الثّبات يا معشر المسلمين، فانعطف عليه، فإذا هو أبو سفيان ابن حرب تحت راية ابنه يزيد. وانتهى الرّوم إلى مكان مشرف على أهوية، فسقط فى تلك الأهوية تقدير ثمانين ألفا، لم يعدوا إلاّ بالقصب، وبات المسلمون على مراكزهم، فلمّا أصبحوا لم ينظروا فى ذلك الوادى شيئا، فظنّوا أنّ العدوّ قد كمن لهم، فبعثوا الخيل إثرهم، فأخبرهم الرعاة أنّه قد ترحّل منهم البارحة نحو من أربعين ألفا فاتّبعهم خالد فى الخيل، فقتل سائرهم، حتى مرّ بدمشق فاستقبله أهلها فسألوه البقاء على العهد، ففعل، ثم مرّ فى إثرهم حتى أتى حمص، فخرج إليه أهلها فقالوا: نحن

ذكر سنة خمس عشرة للهجرة النبوية النيل المبارك فى هذه السنة

على العهد، فأعطنا أمانك، ففعل، وبقى أبو عبيدة باليرموك، يدفن قتلى المسلمين. وسار ملك الرّوم منهزما، راجعا إلى القسطنطينيّة، وأقام أبو عبيدة بموضعه حتى اجتمعت إليه جنود المسلمين، وولّى دمشق وحمص وغيرهما لولاته، ثم رحل حتى أتى الأردنّ فعسكر بها. ذكر سنة خمس عشرة للهجرة النبويّة النيل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الإمام عمر بن الخطّاب، رضى الله عنه، أمير المؤمنين بالمدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسّلام (144) والحجاز واليمن دار إسلام، وكذلك الشام فى أيدى المسلمين. وقيل فى هذه السنة كان فتح دمشق ووقعة اليرموك حسبما تقدّم من ذلك، وفيها كانت وقعة مرج الديباج، عندما لحق خالد بالروم من أهل دمشق به، وفيها كان فتح حمص، وبعلبك، وقنّسرين، والعواصم، وحماة، وحلب، وأنطاكية، وقيسارّية، حسبما شهد بذلك فتوح الشّام، وفيها توفّى سعد بن عبادة رحمه الله تعالى، وفيها حجّ بالناس عمر رضى الله عنه.

ذكر سنة ست عشرة للهجرة النبوية النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ستّ عشرة للهجرة النبويّة النيل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم ستّة أذرع وخمسة أصابع، ومبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الإمام عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، أمير المؤمنين بالمدينة إلى حين قدومه بيت المقدس فى هذه السّنة، والحجاز واليمن دارا إسلام، وكذلك الشام فى أيدى الأمراء من المسلمين، فيها دوّن الإمام عمر رضى الله عنه الدواوين، وفيها كان فتح بيت المقدس. ذكر فتح إيلياء وهى بيت المقدس الشّريف، وهو أوّل فتوح فتحه الإسلام له، قيل: لمّا نزل أبو عبيدة رضى الله عنه الأردنّ بالعساكر كاتب أهل إيلياء، ودعاهم إلى الإسلام أو يعطوا الجزية، فامتنعوا، فنزل عليهم بالجيوش وحاصرهم، فخرجوا ذات يوم فقاتلوا المسلمين، وكانت النوبة يومئذ لخالد بن الوليد رضى الله عنه، ويزيد بن أبى سفيان، فهزموهم حتى أدخلوهم (145) الحصن، ثم قدم سعيد ابن يزيد، وكان على دمشق من قبل أبى عبيدة، وكان قد كتب إلى أبى عبيدة قبل قدومه: أيّها الأمير، ما كنت لأوثر على الجهاد شيئا، فابعث إلى عملك، فإنّى قادم عليك والسّلام. فأنفذ أبو عبيدة يزيد بن أبى سفيان عاملا على دمشق، فلمّا اشتدّ على أهل

أهل إيلياء الحصار من المسلمين طلبوا من أبى عبيدة الصلح، فأجابهم، فقالوا: أرسل إلى خليفتك عمر، فهو الذى يعطينا العهد، ويكتب لنا الأمان، فكتب أبو عبيدة لعمر رضى الله عنه بذلك، فلمّا جاءه الكتاب استشار الصحابة رضوان الله عليهم فى السفر، فقال له عثمان رضى الله عنه: إنّ الله تبارك وتعالى قد أذلّ المشركين ولن يزدادوا إلاّ ذلاّ، ولن يزداد المسلمون إلاّ قوّة وعزّا، فإن أقمت بمكانك كان ذلك استخفافا بأمرهم، واستحقارا لهم، وإنّ القوم لن يلبثوا حتى ينزلوا على حكم أبى عبيدة ويعطوا الجزية. قال علىّ كرّم الله وجهه: يا أمير المؤمنين، إنّهم سألوك منزلة لهم فيها الذلّ والصغار، وللمسلمين فيها العزّ والفتح، وليس بينك وبين ذلك إلاّ أن تقدم، ولك الأجر، وفى كلّ ظمأ ومخمصة، والثواب فى قطع كلّ واد، وفى كلّ نفقة، ولست آمن إن يئسوا من قبولك الصلح أن يتمسّكوا بحصنهم، ويأتيهم مدد فيطول حصار المسلمين إيّاهم، ولا آمن أن يدنو المسلمون من حصنهم فيرشقوهم بالنبل، ويقذفونهم بالمجانيق، ورجل من المسلمين خير ممّا طلعت عليه الشّمس، فقال عمر رضى الله عنه: قد أحسن عثمان النظر فى مكيدة العدوّ، وقد أحسن علىّ النظر لأهل الإسلام. سيروا على اسم الله. فسار عمر وولّى علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه، وخرج العبّاس رضى الله عنه، عمّ النبى صلّى الله عليه وسلم، فعسكر بالناس، وخرج معه وجوه المهاجرين والأنصار، (146) وخرج عمر رضى الله عنه راكبا على بعير له عليه غرارتان، إحداهما سويق، والأخرى تمر، وبين يديه قربة فيها ماء، وخلفه جفنة.

فلمّا قربوا من إيلياء استقبله الناس، وكان أوّل مقنب (1) لقيه، فسلّموا عليه، ولم يعرفوا عمر، فقالوا: هل عندكم من أمير المؤمنين علم؟ فسكتوا، ثم لقيهم مقنب (1) آخر، فسألوهم عن أمير المؤمنين عمر، فقال عمر: ألا تخبرون القوم عن صاحبهم؟ فقالوا: هذا أمير المؤمنين، فاقتحموا عن خيلهم، فقال عمر: لا تفعلوا. فساروا قبل المسلمين يصفّون الخيل، ويشرعون الرماح على حافتى الطريق، ثم طلع أبو عبيدة بن الجرّاح فى كبكبة من الخيل وهو على قلوص مكنّفا (2) بعباءة، وخطام ناقته من شعر، وعليه سلاحه، وقد تنكّب قوسه، فلمّا رأى عمر أناخ راحلته، وأناخ عمر بعيره فنزلا، ومدّ أبو عبيدة يده إلى عمر ليصافحه، فمدّ عمر يده إليه، فأهوى أبو عبيدة ليقبّل يد عمر، يريد تعظيمه فى العامّة، فأهوى عمر إلى رجل أبى عبيدة ليقبّلها، فقال أبو عبيدة: مه يا أمير المؤمنين، وتنحّى عنه، فقال عمر: مه يا أبا عبيدة، فتعانقا، ثمّ ركبا وتسايرا، ونزلا بالجابية. وجنود أبى عبيدة محاصرة إيلياء. وأتى إلى عمر ببرذون وثياب بيض، وسألوه ركوب البرذون، ولباس الثياب، وقالوا: إنّ ذلك أهيب لك عندهم، فلم يلبس الثياب، وركب البرذون فهملج به، وخطام ناقته بيده لم يفلته بعد، فنزل عن البرذون وقال: لقد غرّنى هذا، وأنكرت نفسى، ثم قال: يا معشر

ذكر ابتداء دخول المسلمين العراق

المسلمين عليكم بالقصد، وبما أعزّكم به الله، ثم دعا عمر أبا عبيدة، وأمره أن يكتب لهم الأمان، ويخبرهم بقدومه. وسار أبو عبيدة وتبعه عمر فى المنازل حتى قدما، فتلقاه يزيد (147) ابن أبى سفيان، وسأله أن يغيّر زيّه، وأخبره أنّ ذلك أجمل فى النّاس، وأعظم فى نكاية العدوّ، فقال: يا ابن أبى سفيان، ما أزيّن نفسى بما يشيننى عند الله تعالى، ولا أعظّم نفسى عند النّاس بما يصغّرنى عند الله عزّ وجلّ، فلمّا نزل عمر رضى الله عنه إيلياء نزل إليهم عظيمهم فصالحهم. وولّى أبو عبيدة عمرو بن العاص فلسطين، وطهّر الله تعالى البيت المقدّس على يد أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه. وفيها كان عبور الجيوش الإسلاميّة العراق، وحرب فارس. ذكر ابتداء دخول المسلمين العراق ثم إنّ الإمام عمر رضى الله عنه، ندب النّاس إلى العراق لقتال الفرس، فتثاقل الناس عنه لمّا سمعوا ذكر الفرس، ثم انتدب أبا عبيدة بن مسعود الثقفى وسار معه المسلمون، فقاتلهم الفرس بالفيلة، وكانت العرب لا تعرف القبلة فانهزم المسلمون، وقتل أبو عبيدة بن مسعود-رحمه الله تعالى-وأشراف الناس، وغرق من المسلمون بشر كثير، وسبق عبد الله بن يزيد إلى الجسر فقطعه، فقيل له: لم فعلت ذاك؟ فقال: حتى تقاتلوا عن أميركم، فأخذ الرّاية المثنى بن حارثة، فجال بها ورجعت الفرس عنه، ونزل خفّان، وكتب إلى عمر يستمدّه، وبلغت الهزيمة المدينة، فكان أوّل من قدمها عبد الله بن يزيد منهزما، فلمّا رآه عمر قال:

ما عندك؟ فأخبره ما جرى على المسلمين، فقال: ما سمعت رجلا حضر أمرا فحدّث الناس عنه كان أثبت خبرا من عبد الله بن يزيد. ورأى عمر جزع النّاس من فرارهم، فقال: معاشر المسلمين «إذا لقيتم» (1)، يعنى إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ»} (2)، فكان يطيّب قلوب النّاس بقوله. وكان ذلك الجيش أوّل جيش هزمته فارس من المسلمين، فأقام (148) عمر مدّة لا يذكر العراق، ثم جاءته قبائل العرب يطلبون الجهاد واللّحاق بالشّام، فحرّضهم على قتال فارس والمسير إلى العراق، وأخبر بما قتل من جند المسلمين بها، فأجابوه بعد أن أبطأوأ، وأمّر على كلّ قبيلة رجلا منهم، وأمّر على بجيلة جرير ابن عبد الله. فساروا حتّى إذا كانوا قريبا من المثنّى بن حارثة كتب إليه أن أقبل إلىّ فإنّما أنت مدد لى، فكتب إليه جرير: لست فاعلا ذلك إلاّ أن يأمرنى أمير المؤمنين، وأنت أمير وأنا أمير، ثم ساروا نحو الجسر فلقيه مهران بن ياذان، وهو عظيم من عظماء الفرس عند النجيلة، فاقتتلوا وقتل مهران، وكوتب عمر رضى الله عنه باختلاف المثنّى وجرير، فكتب عمر إلى المثنّى: إنّى لم أكن لأستعملك على رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد وجهت سعد بن أبى وقّاص إلى العراق وأمرتكما بالسّمع والطّاعة له. وشنّ المسلمون الغارات على السّواد، وتحصّن الدّهاقين فى الحصون، وبعثوا إلى المدائن يستغيثون بأهل فارس، وملكهم يومئذ بوران بنت شيرين ابنة كسرى

الذى قتل أبوه وكان صبيّا، وجاءت الأعاجم فى ثلاثة صفوف، ومع كلّ صفّ فيل، ولفرسانهم رجل كرجل الرعد، فقال المثنّى: يا معشر المسلمين، إنّ هذه الأصوات منهم فشل، فالزموا الصّمت. ثم حملت الأعاجم على المسلمين فثبتوا، ثم حملوا عليهم ثانية فثبتوا، فلمّا كانت الحملة الثالثة انتقضت صفوف المسلمين، ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وصرف الله وجوه أهل الكفر، فهزموا إلى شاطئ الفرات، وعبر أهل القوّة منهم الجسر فقطعوه، لئلا يلحقهم المسلمون، فاقتحم رجل من المسلمين الفرات وهو يقرأ: {وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ (149) إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ»} الآية (1)، وتبعه النّاس، فما فقد منهم عقال، إلاّ وقد صاح رجل انقطع من سرجه، فدار فوق الماء إلى أن أخذ وسلم، وحصل من الكسب والأموال والأسلاب ما لا يحصى كثرة. ثم سار المسلمون إلى بغداد ومرّوا على الأنبار فتحصّن صاحبها، فأرسل إليه: ما يمنعك أن تنزل إلينا ونؤمّنك على قريتك؟ فنزل، فطلبوا منه أن يبعث إليهم دليلا إلى بغداد، ليكون العبور منها إلى مدائن كسرى، ففعل، وسيّر معهم الأدلاّء، فسار بهم، فصبحوا القوم فى أسواقهم، فقتلوا وسبوا، وأخذوا الأموال، وغنموا غنائم عظيمة.

ذكر وقعة القادسية مع رستم

ذكر وقعة القادسيّة مع رستم ثم إنّ عمر رضى الله عنه مدّهم بسعد بن أبى وقّاص رضى الله عنه، بعد أن همّ أن يمدّهم بنفسه، ثم بدا له أن يوجّه عبد الرحمن بن عوف، فقال له عبد الرحمن: فداك أبى وأمّى، قال عبد الرحمن: ما فديت أحدا بأبوى بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم غير عمر، انصرف إلى المدينة، فو الله لئن قتلت إنّى أخاف على المسلمين، ولكن ابعث يا أمير المؤمنين، قال: فمن أبعث؟ قال: ابعث الأسد على براثنه، سعد ابن أبى وقّاص! فبعثه فى أربعة آلاف فارس، فنزل القادسيّة، ثم استمدّ عمر، فمدّه بالمغيرة والأشعث بن قيس وغيرهما من فرسان العرب. وبلغ المثنّى قدوم سعد أميرا، فوجّه إليه من يلقاه، ثم لقيه بعد ذلك، فأراه سعد كتاب عمر، فسمع وأطاع، وأعطاه الخمس، وجاءه جرير أيضا فأطاعه. وسار سعد فى ستّة آلاف، وشنّ الغارات، فسار إليه رستم فى ستّين ألفا من أساورة العجم، وكان بينهما جسر القادسيّة، وتراسلوا، وكان (150) رسول المسلمين المغيرة بن شعبة، ثم تزاحفوا وعامّة أجنّة المسلمين التى يتترّسون بها برادع الرحال، وقد يعرّص فيه الجريد، لكن بقلوب أقوى من الحديد، فاقتتلوا وسعد فى القصر، قصر العذيب، ومعه زوجتاه، فسرّح إليه رستم خيلا، فأحدقوا بسعد، ومعه فى القصر قريب من ثلاثين رجلا، فقالت له سلمى زوجته: اخرج إلى القوم! فقال: أخاف أن ألقى بيدى إلى التّهلكة، فقالت: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة! ثم قالت: وامثنّاه، لا مثنّى اليوم، وكانت قبل ذلك عند المثنّى، فغار سعد، فلطم وجهها، فقالت: يا سعد: غيرة وجبنا.

وبلغ المسلمين خبر الخيل، فنفذوا (1) إلى سعد خيلا فيهم عمرو بن معدى كرب، فقتلوهم جميعا. وكان أبو محجن الثقفى محبوسا فى القصر وهو مريض، فلمّا رأى ما تصنع الخيل قال لأمّ ولد سعد: أطلقينى، ولك عهد الله، أنّى إن لم أقتل رجعت إليك ولأضعنّ رجلى فى الحديد، فأطلقته، فركب فرسا لسعد، فنظر سعد فجعل ينكر فرسه ويعرفها، فلمّا فرغوا من القتال وقتل الله رستم وهزم جيشه، دخل أبو محجن القصر، ووضع رجله فى قيده، وأنزل سعد من القصر، فسأل عن فرسه فعرف ما كان من أبى محجن، فأطلقه وآلى ألا يحبسه أبدا. دخل ابن لأبى محجن على معاوية بن أبى سفيان، فقال معاوية: يا أهل الشّام، تدرون من هذا؟ قالوا: لا، قال: هذا ابن الذى يقول: إذا متّ فادفنّى إلى جنب كرمة … تروّى عظامى بعد موتى عروقها ولا تدفننّى بالفلاة فإنّنى … أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها فقال ابن أبى محجن: أما والله لو شئت لذكرت من شعره ما هو (151) أحسن من هذا، قوله: لا تسأل الناس عن مالى وكثرته … وسائل النّاس عن بأسى وعن خلقى قد أطعن الطّعنة النّجلاء عن عرض … وأكتم السرّ فيه ضربة العنق وكان مع الفرس يوم القادسيّة ثمانية عشر فيلا. وذكر الشّعبى أنّ الفرس كانوا يوم القادسيّة فى مائة ألف وعشرين ألفا، معهم ثلاثون فيلا، ولحقت الفرس بدير قرّة، ونهض سعد بالمسلمين فنزل بهم دير قرّة، وقسم بينهم سعد الأموال، وأعطاهم على قدر ما قرأوا من القرآن.

ذكر سنة سبع عشرة للهجرة النبوية النيل المبارك فى هذه السنة

وكان لرستم ستّمائة ألف من أوانى الذّهب والفضّة، وأعجبهم بياض الفضّة فكانوا يقولون من يأخذ صفراء ببيضاء، ووجدوا من الكافور شيئا كثيرا فلم يعرفوه، فتبايعوه بينهم كيلا بكيل من برّ وشعير. وهربت الفرس حتى نزلوا المدائن، ومعهم الخزائن والأموال، وبنات كسرى. وتبعهم سعد بالعسكر، وتخلّف عنهم لمرض ناله، فلمّا أفاق لحقهم، وحاصرهم بالمدائن إلى أن دخلت سنة سبع عشرة. ذكر سنة سبع عشرة للهجرة النبويّة النيل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم ستّة أذرع وخمسة أصابع، مبلغ الزّيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الإمام عمر بن الخطاب رضى الله عنه أمير المؤمنين بالمدينة، والحجاز واليمن دارا إسلام، وكذلك الشّام بكماله، والعراق إلى حدود المدائن، والمدائن فى أوّل هذه السّنة فى حصار المسلمين، ومصر دار حرب (152)، والمقوقس بها، وقسمين البطرخ إلى سنة عشرين، افتتحها المسلمون، وكان فتحها على يد عمرو ابن العاص، وسيأتى ذكر ذلك فى سنة عشرين، إن شاء الله تعالى.

ذكر وقعة جلولا بين الفرس والمسلمين

وفى هذه السّنة قام بأمر ملك فارس يزدجرد بن كسرى أبرويز، فأمرهم بالتّحمّل من المدائن، ثم شخص بالجنود حتى نزل حلوان، واستعمل عليهم أخا رستم صاحب القادسيّة. ذكر وقعة جلولا بين الفرس والمسلمين ولمّا ظهر المسلمون على الأعاجم، وقام فيهم يزدجرد كاتب أهل الرىّ وهمدان وقومس وإصبهان ونهاوند، وتراسلوا وتعاقدوا على أن يغزوا عمر ابن الخطّاب فى بلاده، وأن يسيروا مع ملكهم يزدجرد إلى سائر أرض المسلمين، وكتب سعد بن أبى وقّاص بذلك إلى عمر رضى الله عنه، فاشتدّ ذلك على عمر، فصعد المنبر وصرخ: يا أهل الإسلام، يا أبناء المسلمين، أين المهاجرون؟ أين الأنصار؟ فاجتمع الناس إليه يهرعون، فقال: إنّ سعدا كتب إلىّ أن الشّيطان قد جمع جموعا ليطفئ نور الله، وهم أهل همدان والرّى وقومس وإصبهان ونهاوند وغيرهم أمم مختلفة ألسنتها وأهوائها وأديانها وممالكها، وإنّهم تعاقدوا أن يخرجوكم من بلادكم، ويخرجوا إخوانكم من بلادهم، فأشيروا علىّ وأوجزوا ولا تطنبوا، فإنّ هذا يوم له ما بعده من الأيّام! فقام طلحة رضى الله عنه فقال، بعد حمد الله تعالى والصلاة على نبيّه صلّى الله عليه وسلم: أمّا بعد، فقد حنّكتك الأمور، وجرّبتك الدّهور، وعجنتك البلايا، وأحكمتك (1) التّجارب، فأنت ولىّ ما وليت، لا ننبو فى يديك، ولا نكلّ (2) عليك، بل نقبلها منك، ونأخذها عنك، فادعنا نجبك، وقدنا نتبعك، واحملنا نركب،

فإنّك مبارك الأمر، لم ينكشف عن شئ من عواقب قضاء الله (153) لك إلاّ عن توفيق. فقال عمر رضى الله عنه: تكلّموا أيّها الناس، فقام عثمان رضى الله عنه فقال بعد حمد الله والصلاة على رسوله صلّى الله عليه وسلم: أما بعد يا أمير المؤمنين، فإنّى أرى [أن] تكتب لأهل الشام فيسيروا من شامهم، وإلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم، وتسير أنت بجيش من أهل الحرمين إلى أهل الكوفة، فيلتقى جموع المسلمين بجموع المشركين، فإنّك إن فعلت ذلك لم يبق أحد من العرب يتخلّف عنك، ثم جلس. فقال عمر رضى الله عنه: تكلّموا أيّها النّاس! فقال علىّ كرّم الله وجهه: أما بعد يا أمير المؤمنين، فإنّ الله لم يزل يعرفك ويعرف المسلمين، البركة فى رأيك واليمن، وإنّك إن شخصت بأهل الشام من شامهم لم تأمن مسير الروم إلى ذراريهم برّا وبحرا، وإن شخصت بأهل اليمن من يمنهم لا تأمن مسير الحبشة، وإن شخصت بأهل الحجاز لم تأمن من انتقاض سفهاء العرب وجهّالهم، حتّى تكون ما تدع من العورة خلفك أهمّ إليك ممّا بين يديك، أمّا كثرة العدوّ فإنّا لم نكن نقاتلهم بالكثرة، ولكن بحول الله وقوّته، وإن أنت سرت ونظرت إليك الأعاجم قالوا: هذا ملك العرب لم يبق خلفه أحد، فكان ذلك أشدّ لطلبهم وحربهم، ولكن اكتب إلى أهل البصرة، فليتفرّقوا ثلاث فرق: فرقة تقيم فى ذراريهم حرسا لهم، وفرقة تقيم على أهل عهدهم، وفرقة تسير إلى إخوانهم من المسلمين مددا لهم، واكتب إلى أهل الكوفة بمثل ذلك. فاستصوب عمر ذلك، ثم كتب إلى المسلمين: إنّى استعملت عليكم النعمان

ابن مقرن، فإن قتل فحذيفة، فإن قتل فجرير بن عبد الله، فإن قتل فالمغيرة ابن شعبة، فإن قتل فالضحاك بن قيس الكندى، وأنفذ (1) الكتاب مع السائب ابن الأقرع (154) الثقفى، وولاّه قسمة الغنائم، وقال: يا سائب، إن هلك الجيش فاذهب فى بسيط الأرض ولا أنظرنّ إليك بواحدة من عينىّ أبدا، فإنّى متى رأيتك جدّدت لى حزنا. وسار المسلمون حتى نزلوا بعقر نهاوند وكانوا سبعة آلاف، وتزاحف الفريقان، واقتتلوا حتى حجز بينهم الليل، وبات المسلمون يعصبون جراحاتهم، وبات المشركون فى خمورهم ولذّتهم ومزاميرهم، فلمّا أصبح النعمان عبّى كتائبه، وسار يقف على كلّ راية يحضّها على القتال، فبكى المسلمون وقالوا: أيّها الأمير مرنا بأمرك، فقال: انتظر بهم زوال الشمس ومهبّ الرياح، وأن تفتح السماء لمواقيت الصلاة وينزل النصر، فإنّى رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعل ذلك. ثم إنّ الله تعالى أيّد المسلمين بنصره، وانهزم جيش الفرس وكفره، واستشهد النعمان رحمة الله عليه، وجمعت الغنائم إلى السائب بن الأقرع، فأتى رجل فقال: أتؤمّننّى على أهلى ودمى ومالى وأدلّك على كنز فى غيبة، فيكون لأمير المؤمنين خاصّة، فأمّنه فأتى بهم إلى صخرة فاقتلعوها، فاستخرجوا سفطين فيهما تيجان مكلّلة بالياقوت الأحمر، قد نسج بعضها إلى بعض، فرأى السائب ما لم يره قطّ. وقسمت الغنائم سهمين سوى السفطين، فأصاب سهم كل واحد ثلاثين ألفا، وقدم السائب بالسفطين على عمر، وبشّره بالفتح، فقال عمر: ما فعل النعمان؟

قال: أكرمه الله بالشهادة، فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ويحك أبدار مضيعة أصيب؟ قال: لا، وأقبل السائب يحدثه بالفتح، وعمر إنّما يسأله عن الناس، فقال: هل أصيب من المسلمين غيره، فقال: أمّا من نعرف فلا، فانتحب عمر وقال: الضعفاء الضعفاء، فترحّم عليهم، ودعا لهم ثم قال: وما عليهم ألاّ يعرفهم عمر، قد عرفهم الله الذى (155) أكرمهم بالشهادة، ثم قال عمر: هل أعطيت كل ذى حقّ حقّه؟ قال: نعم. ثم أخرج السفطين فأخبره خبرهما، قال: من جعلنى أحقّ بهما؟ فأرسل إلى علىّ وعبد الله بن أرقم وابن مسعود، فأمرهم أن يختموا عليهما، فلمّا أصبح أرسل إلى السائب فأتاه فقال: ويلك تنازعنى دينى؟ إنّما دعوتنى إلى النار، فقال السائب: مالى ولك يا أمير المؤمنين، أقلقت فؤادى، قال: أخبرنى عن السفطين، فقال: والله لا كتمتك حرفا، فأخبره. فقال: يا سائب، لمّا أخذت مضجعى جاءتنى ملائكة من ربّى، فملأوا سفطيك نارا، وجعلوا يدفعونهما فى مجرى، وأنا أعاهد الله لأردنّهما على من أفاءهما الله سبحانه عليه، فقدم بهما العراق، فاشتراهما عمرو بن حريث بعطاء المقاتلة والذرية، فباع أحدهما بذلك وربح الثانى (1) وكان أوّل قرشى اعتقر بالكوفة دارا، فتفرّق العجم بعد ذلك فما اجتمعوا. وفيها أصاب الناس القحط والمجاعة، حتى استسقى عمر بالعبّاس رضى الله عنه، فسقوا، وقيل بل كان ذلك فى سنة ثمانى عشرة، والله أعلم.

(156) ذكر سنة ثمانى عشرة للهجرة النبوية النيل المبارك فى هذه السنة

وفيها أكل عمر رضى الله عنه خبز الشعير، فاستنكرته بطنه فقرقر جوفه، فضرب بطنه بيده وقال: هو والله ما ترين حتى يوسّع الله على الناس أو قال على المسلمين. وفيها تزوّج عمر أمّ كلثوم بنت علىّ عليه السّلام. وفيها فتح الجزيرة وأرمينية وفارس والأهواز ورامهرمز وتستر والسوس، وأسر الهرمزان، وسار الناس إلى كرمان، وقيل إنّ هذه الفتوحات كلّها كانت فى سنة ثمان عشرة، كما يأتى بيانه إن شاء الله تعالى. وفيها اعتمر عمر، وبنى المسجد الحرام، وقيل فيها بنيت الكوفة والبصرة، وتحوّل سعد بن أبى وقّاص إلى المدائن، والله أعلم. (156) ذكر سنة ثمانى عشرة للهجرة النبويّة النيل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم سبعة أذرع وثمانية عشرة إصبعا، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأحد عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الإمام عمر بن الخطّاب رضى الله عنه أمير المؤمنين بالمدينة، إلى أن قدم الشام فى هذه السنة. وفيها كان طاعون عمواس من أرض فلسطين، مات به من المسلمين خمسة وعشرون ألفا، فيهم أبو عبيدة بن الجرّاح، واستخلف مكانه معاذ بن جبل

ذكر سنة تسع عشرة للهجرة النبوية النيل المبارك فى هذه السنة

رضى الله عنه فمات أيضا، فاستخلف مكانه عمرو بن العاص رضى الله عنه. وفيها مات الفضل بن العبّاس، ويزيد بن أبى سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وسهيل بن عمر رحمة الله عليهم أجمعين. وفيها قدم عمر رضى الله عنه الشام، وكتب إلى سعد بن أبى وقّاص: إنّ الله عزّ وجلّ فتح الشام والعراق على المسلمين، فابعث جندا إلى الجزيرة وأمّر عليهم أحد الثلاثة: خالد بن عرفطة، أو هشام بن عتبة، أو عيّاض بن غنم! فقال سعد: ما أخّر أمير المؤمنين عيّاض بن غنم آخر القوم إلاّ أنّ له فيه هوى أن أولّيه، فولاّه، وبعث به مع جيش، وأصحبه بأبى موسى الأشعرى، وعمرو ابن سعد بن أبى وقّاص، وهو إذ ذاك غلام، فنزل عيّاض الرها، وصالح أهلها على الجزية، وكذلك حرّان. وفيها فتحت جرجان وأذربيجان. وفيها استقضى عمر رضى الله عنه شريحا، وفيها حوّل المقام إلى موضعه الآن، وكان ملتصقا بالبيت، والله أعلم. ذكر سنة تسع عشرة للهجرة النبويّة النيل المبارك فى هذه السّنة: (157) الماء القديم ستّة أذرع واثنا عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الإمام عمر بن الخطّاب رضى الله عنه أمير المؤمنين، والحجاز واليمن والشام والعراق إلى حدود بلاد فارس دور إسلام، ببركات النبى عليه السلام، وجيوش

المسلمين تفتح بلاد المشركين مؤيّدين من الله تعالى بالنصر المبين، ومصر دار حرب فى يد المقوقس عظيم القبط، وقسمين البطرخ بها، إلى حين ما يأتى ذكر فتحها فى سنة عشرين إن شاء الله تعالى. وفى هذه السنة بعث سعد أبا موسى الأشعرى إلى نصيبين، وبعث عثمان ابن أبى العاص الثقفى إلى أرمينية، ثم صالح أهلها، ثم كان فتح قيساريّة الروم وقنّسرين، وهرب هرقل ملك الروم إلى روميّة ثم فتحت الرىّ وإصبهان، ثم كانت وقعة أبى موسى بتستر، ثم وقعته بدست بيسان، فأرسل أبو موسى الأحنف بن قيس إلى عمر رضى الله عنه مع جماعة فأعرض عنهم عمر، وحجبهم ثلاثة أيّام، فمرّ عمر بعد ذلك بالأحنف وهو بالسوق فضربه بالدرة، ثم قال: ما عليك لو جعلت بعض ثمن ثوبيك فى المساكين، فرجع الأحنف إلى أصحابه وقال: إنّما أتينا من قبل ثيابنا، فلبسوا الأردية والأرز، ثم دخلوا عليه، فقال: كنتم أتيتمونى فى ثياب لا أعرفها. فقدّم إليه الأحنف هديّة من أبى موسى، وهى: برذون وقارورة دهن وخمس نمرات (1) وعشرون سلة من خبيص وسوارى ابن كسرى، وقيمتها مائة ألف دينار، فدعا سراقة فألبسهما إيّاه، وحمد الله تعالى، ثم قال: ألقهما، فإنّهما ممّا أفاء الله على المسلمين، ثم قرّب الأحنف إليه الأسير وهو صاحب مقدّمة (158) كسرى، فقال عمر رضى الله عنه: الحمد لله الذى أظفرنا الله بك، فقال الأسير: بكلام الأحياء أكلّمك أم بكلام الأموات؟ قال: أو لست حيّا؟

بل بكلام الأحياء، ثم أمر بضرب عنقه، فقال: أكان فيما جاءكم به نبيّكم أن تجعلوا عهدا ثم تحقروه؟ فقال عمر: وأى عهد لك؟ فقال: ألم تقل: تكلّم بكلام الأحياء؟ فقال عمر: قاتلك الله، أخذت هذا عهدا؟ ما أعلمك! خلّوا سبيله. ثم فتح السلال فمسّ الخبيص، ثم قال: أرى طعاما ليّنا، ثم ذاقه، وقال: رحم الله أبا موسى، لئن كان طعاما أوسع جميع الناس من هذا القرى لقد أحسن، فقيل له: لو أنفق خراج فارس على أن يوسع على المسلمين من هذا ما بلغه، فقال عمر: فما تجعلنى أحقّ به من المسلمين؟ والله لئن أكلت قريش هذا الطعام لتنحرنّ بعضها بعضا، ثم بعث بسلاسل منها إلى أزواج النبى صلّى الله عليه وسلم ودعا لبقيّته أبناء الشهداء وليس فيهم إلاّ يتيم، فأجلسهم سماطين، وقربت السلاسل فأكلوا، ولم يأكل معهم غيرهم. ثم جاء الأحنف فى رجال إلى حفصة فاستأذن عليها فأذنت، فلمّا قرب من الستر قال: يا أمّ المؤمنين، أما يجب أن تكون ثياب أمير المؤمنين ألين ممّا يلبسه، وطعامه ألين ممّا يأكل، فيكون ذلك معينا له على ما يتعاهد من أمر المسلمين؟ وليس فيما أحلّ الله بأس، وقد وسّع الله عزّ وجلّ على المسلمين فى ولايته، فقالت: مكانكم، ثم أرسلت إليه، وكان يعظّمها لمكانها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلمّا جاء أخبرته بما قالوا، فقال: أى بنيّة، ما فى الأرض حاجة أحبّ إلىّ من حاجتك، ولا نفس أعزّ علىّ من نفسك، يا بنيّة، أتعلمين أنّه ليس أحد أعلم بداخلة الرجل من أهله، يشهدون منه ما غاب عن غيرهم؟ (159) قالت: نعم، فقال: نشدتك الله هل أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يتغدّ يوما إلاّ أضرّ بعشائه، ولم يتعشّ إلا أضرّ بغدائه؟ قالت: الّلهمّ نعم! ثم قال: فهل تعلمين أنّه صلّى الله عليه وسلم أتى

بطعام على خوان فاجترّه (1) فوضعه على الأرض واستوفز على عقبه، وقال: إنّما أنا عبد آكل كما تأكل العبيد، وأجلس جلسة عبد؟ ثم بكى فقالت: حسبك يا أبتاه! فقال: أى بنيّة: نشدتك الله هل تعلمين أنّه صلّى الله عليه وسلم يرفع ثوبه ليغسله فيأتيه بلال فيدعوه إلى الصلاة الغداة فينظر فى نواحى البيت فما يجد ما يخرج فيه إلى الصلاة؟ فبكت حفصة حتى كادت نفسها تخرج، ثم قال: أى بنيّة، نشدتك الله هل تعلمين أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر بثوبين يتّخذان له من الحسنة، ففرغ من أحدهما، فدعاه بلال، فلبسه، وقد عقد أحد طرفيه بين كتفيه ليس عليه غيره؟ فبكت حفصة ثم قالت: نشدتك الله يا أبت ألاّ تذكر سوى ما ذكرت، فقال: أى بنيّة، أرأيت لو أنّ ثلاثة سلكوا طريقا، فسلك أوّلهم وهو سيّدهم ثم تبعه الآخر، فسلك طريقه واقتصّ أثره، ثم جاء الآخر فسلك غير طريقهما متى تظنّينه يدركهما؟ قالت: لا يدركهما أبدا، قال: فو الله لئن تبعت غير طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبى بكر لا أدركهما أبدا، فبكى الأحنف وأصحابه وخرجوا. ثم سأل أهل المدينة الأحنف وأصحابه عن إخوانهم من المسلمين، فقالوا: إنّهم يهيلون الذهب والفضّة هيلا، فنشط المسلمون إلى الجهاد. وكان عمر، رضى الله عنه، قد جعل لجرير بن عبد الله ولقومه ربع الغنائم، يضرّيه به على الجهاد، فلما اجتمعت الغنائم أمثال الآطام (2) (160) طلب جرير

ذكر سنة عشرين للهجرة النبوية النيل المبارك فى هذه السنة

من سعد ما جعله له عمر، فقال سعد: حتى أكتب لأمير المؤمنين، فكتب إليه، فأجابه عمر رضى الله عنه: صدق جرير، خيّره بين أن يكون جهاده وجهاد قومه على جعل، وبين أن يكون رجلا من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، فأخبر سعد جريرا بذلك، فقال: صدق أمير المؤمنين، قد رددت على المسلمين، ورضيت أن أكون رجلا منهم، فعرف له ذلك عمر. وفى سنة تسع عشرة مات أبىّ بن كعب رضى الله عنه مع اختلاف فيه، وكذلك عمرو بن معدى كرب رحمه الله تعالى. ذكر سنة عشرين للهجرة النبويّة النيل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم أربعة أذرع وتسعة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الإمام عمر بن الخطّاب رضى الله عنه أمير المؤمنين بالشام فى هذه السنة، مع اختلاف فى ذلك، والإسلام أعزّه الله ثابت أصله، باسق فرعه قد علت كلمته، وسما حكمه ونمى شرعه، حتى أنار الشرق بأنوار الدين، وعادت كلمة التوحيد جارية على كلّ دين، أدامها الله تعالى إلى يوم الدين. فى هذه السنة فتحت مصر على يد عمرو بن العاص رضى الله عنه، وكان فتحها يوم الجمعة مستهلّ المحرّم من هذه السنة.

ذكر عمر بن العاص ولمعا من خبره رضى الله عنه

ذكر عمر بن العاص ولمعا من خبره رضى الله عنه روى أنّ العاص بن وائل السهمى كان يرقّص ابنه عمرا فى صغره، ويقول: ظنّى بعمرو أن يفوق حلما … وينشق الخصم الألدّ غما وأن يسود جمحا وسهما … وأن يقود الجيش مجرا دهما يلهم أحشاد الأعادى لهما تفسير ذلك: (161) قوله: الخصم النشق: أن يصبّ الدواء وغيره فى الأنف، وذلك المصبوب فيه هو النشوق بفتح النون، وإن صبّ الدواء وغيره من الحلق فهو الوجور، فإن صبّ فى جانبى الفم فهو اللدود، وقوله: مجرا دهما، المجر هو العظيم، والدهم هو الكبير، وهو الذى يبغت، وما بغتك من شئ فقد رهمك، ويقال: جيش دهم، وعدد دهم، أى كبير، وقوله: يلهم أى يبتلع، فالإلهام الابتلاع بكثرة، وقوله: أحشاد جمع حشود، وهم المحشودون، يقال: حشدت القوم أحشدهم حشدا، وهم حشد بفتح الشين. وروى أنّ هشام بن المغيرة كانت بينه وبين العاص بن وائل نبوة، وكان أبو جهل بن هشام حديث السنّ معجبا بنفسه، فمرّ بالعاص بن وائل وهو فى نادى قومه، وابنه عمرو بن العاص بين يديه، وهو يومئذ صغير السنّ، قال أبو جهل للعاص بن وائل كلمة يتهدّده بها، فلم يجبه العاص بشئ، فقال له ولده عمرو: يا أبت ما لك لا تجيبه؟ فقال له أبوه: ما الذى أقول له، قال: تقول: إذا كنت يومك ذا عاجزا … مهينا، فأنت غدا أعجز

ولو كنت تعقل ألهاك عن … وعيدك لى ما به تنبز قال: فاستطير العاص بن وائل سرورا به، وقال له: أنت ابنى حقّا، وكان قبل ذلك يعصيه، ويقدم غيره من ولده عليه. قلت: والذى عناه عمرو بقوله: ما به تنبز، أنّ أبا جهل كان فيه خنث، وينبز بالداء العضال، وكان نديما للحكم [بن] (1) أبى العاص بن أميّة، فكان مثله فى ذلك جميعا، يجمعهما علّة الخنث. وروى أنّ أمّ عمرو بن العاص، وهى النابغة، امرأة من عنزة، وقع عليها شئ، فضربت يوما ولدها عمرو بن العاص، (162) وهو صغير جدّا عند ما دبّ، فقال لها: ستعلمين، وذهب إلى أبيه وهو فى نادى قومه، فجلس فى حجره، فبال عليه، وكان أبوه قاذورة متقزّزا، فى خلقه عسر، فتأفّف منه، وأراد ضربه، فمنعه قومه وقالوا: هذا طفل لا يعقل، فنهض مغضبا فدخل على النابغة، فأوجعها ضربا، وأقسم لها بما يعظّمه لئن بعثت به إليه وهو فى نادى قومه ليعودنّ لها بأشدّ ما بدا، ولمّا خرج من عندها قال لها عمرو: كيف رأيت، ألم أقل لك؟! فصكّت وجهها، ونادت بالويل، فرجع العاص إليها وتناول السوط، فقالت: مهلا حتى أخبرك، وحدّثته فقال: والكعبة إنّه لذو دهاء، فاحذريه! فكانت تحذره مدّة طويلة، ثم نقمت عليه أمرا فضربته، ورصدته فلم يجد محيصا عنها سحابة يومه ذلك، فلمّا كان من الغد، أملس منها فذهب إلى أبيه وهو فى الحجر مع سادة قريش، فلمّا رآه انتهره، فقال له عمرو: إنّ أمّى تدعوك،

تفسير كلم من هذا الحديث

فقال: كذبت، وجهجه به، فذهب ثم عاد وفى يده نقبة خلق وضرة، كانت أمّه تمتهن فيها، ثم قصد والده من قبل ظهره فلم يشعر به حتى قام على القوم، فنشر تلك النقبة، وقال لأبيه: تقول لك أمّى: تعال، وهذه النّقبة أمارة، فرمى القوم يأبصارهم، وكاد العاص بن وائل يتميّز غضبا، فتناول من ولده النّقبة، واحتضنه، وأتى به منزله، وانحنى على المرأة ضربا، وجعلت تستوقفه وتستصيبه (1)، وقد أخذ الغضب ببصره وسمعه، حتى إذا أثخنها ضربا وسكن غضبه جلس وقد خامره الندم على ما كان منه إليها، فقالت: والله ما لى ذنب إليك، وما أحسبنى ذهبت إلاّ من قبل ولدك، فإنّى ضربته أمس، فقال: ويحك، ألم تنفذيه إلىّ (163) بالنّقبة أمارة؟ فقالت: ما فعلت وربّ البيت! فقال لابنه: ألم تقل ذلك؟ فقال: إنّها ضربتنى بالأمس فقال: أشهد أنّك أدهى العرب، ثم قال لأمّه: لا تعرضى له بعد. تفسير كلم من هذا الحديث قوله: عند ما دبّ، الدّبيب أضعف المشى، وهو أوّل مشى الطفل، ومشى الشيخ الهرم، وقوله: نادى قومه، أى مجلسهم، والنادى اسم المجلس ما دام المتجالسون به، وقوله: قاذورة أى متقززا، وقوله: فتأفّف أى قال أفّ أفّ، وقوله: سحابة يومه، أى جميع يومه، هذا كلام العرب؛ يقولون: ما رأيت فلانا سحابة يومى، أى فى جميع يومى، وقوله: جهجه به: أى نفّره وشرّده ومنعه الاستقرار، والجهجهة فى الأصل حكاية قول القائل: جه جه جه، وقوله:

ذكر مصر ومبتدئها ملخصا من وجه

أملس منها، أى ذهب ولم تشعر به، وقوله: النقبة: هو مئزر يخاط طرفاه فيؤتزر به، فهو كالسراويل بغير نيفق ولا ساقين محجوزين، وقوله: وضرة، أى ذات وضر، والوضر: وسخ الدهن وما ضاهاه، وقوله: تمتهن أى تخدم، والمهنة الخدمة، والله أعلم. ذكر مصر ومبتدئها ملخّصا من وجه قلت: قد تقدّم القول من العبد فى ذكر مصر ومبتدئها منذ أوّل زمان وإلى آخر وقت، فى الجزء الأوّل (1) من هذا التّاريخ. وذكرنا عجائبها وغرائبها وملوكها وكهنتها وسحرتها وكنوزها ورموزها وأعلامها وأهرامها، ولم نبخل بحمد الله وحسن إلهامه وتوفيقه بشئ من أحوالها، جهد الطاقة، وحدّ الاستطاعة، وأخّرنا هذا الفصل اللطيف ها هنا، كونه لائقا بهذا المكان مستحليا به، لئلاّ يخلو جزء من أجزاء هذا التّاريخ من نبذة (164) خفيفة وزبدة لطيفة، والله المستعان إلى هذه المعان. ذكر القاضى ابن لهيعة، والقضاعى، وجماعة من المشائخ المصريّين؛ منهم عبد الله بن خالد، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ورشد بن سعد، كلّهم يذكر عن التابعين، رضوان الله عليهم أجمعين، فى حديث مصر أن بيصر بن حام ابن نوح عليه السّلام لمّا نزل إلى الأرض التى أمّها عند خروجه من بابل سكن منف بولده وأهل بيته، وهم ثلاثون إنسانا، منهم أربعة أولاد لبيصر من صلبه

وهم: مصر، وفارق، ومناح، وباح (1)، وإنّما اسم منف مافه، ومافه لفظة قبطيّة، تفسيرها: ثلاثون، وكان مصر أكبر أولاده، وأحبّهم إليه، فاستخلفه بيصر أبوه على إخوته، فاقتطع أرض مصر لنفسه، مسيرة شهر عرضا فى شهر طولا، وهى من الشجرتين (2) إلى أسوان، ومن أيلة إلى برقة. وكان لمصر أربعة أولاد وهم قفط (3)، وأشمن، وأترب، وصا، فقسم لهم شطّ النيل بأربعة أقسام، وجعل لكلّ واحد وولده قطعة، ولمّا هلك مصر خلفه ابنه قفط، وخلف قفط أشمن، وخلف أشمن أترب، وخلف أترب صا. ثم صار الملك فى ولد صا، ملك منهم خمس، أوّلهم: رادس (4) بن صا، ثم ماليون بن رادس (5)، ثم أخوه ماليا، ثم لوطس بن ماليا، فلمّا حضرت لوطس الوفاة ملّك ابنته حوريا، فإنّه لم يكن له ذكر من ولده، ثم ملكت ابنة عمّها دلوكة بنت [زباء] (6)، ثم ابنة عمّ لها يقال لها مانوفن، فلمّا تداولتهم النساء غزتهم العماليق، فقاتلهم الوليد بن دومغ، فصالحوه على أن يملكهم من العمالقة سبع، أوّلهم الوليد بن دومغ.

(165) وقد ذكرت جميع هؤلاء العمالقة وسيرهم ومددهم وسبب تمليكهم مصر فى الجزء الأول (1) من هذا التّاريخ مفصّلا، مبرهنا، ما لعلّه لم يوجد فى تاريخ غيره، وإنّما استمددت ذلك من كتاب قبطى عتيق، كان قد وجدته فى الدير الأبيض الذى قبالة سوهاج من صعيد مصر، وقد ذكرت أيضا فى ذلك الجزء هذا الكتاب القبطىّ وسبب تحصيله ممّا يغنى عن إعادته هاهنا. ولم تزل العماليق ملوك مصر من حين تغلّبوا على قبطها حسبما تقدّم من الكلام، وكان الكاهن أشمويل أوّل من بنى مقياسا الماء بمدينته المعروفة به وهى الأشمونين، فلمّا استخلف يوسف عليه السّلام بنى مقياسا للماء بمنف، وكانت دلوكة بنت زباء قبل ذلك قد بنت مقياسا بأنصنا، وبنت آخر بأخميم، وقيل هى بانية البربا وحيط العجوز (2)، وكانت عالمة بأنواع السحر وبقيّة من علم الطلّسمات والعزائم، وطلبتها الأعداء فلم يقدروا عليها، وأهلكتهم فى مواطنهم حسبما تقدّم من الكلام فى ذلك الجزء عند ذكرها. ولمّا فتحت مصر، وصارت فى أيدى المسلمين بمعونة الله تعالى وعنايته بدين الإسلام، بنى عمر بن عبد العزيز مقياسا بحلوان، وبنى أسامة بن زيد التنوخى مقياسا فى الجزيرة، وهو الذى هدمه الماء، وبنى المأمون مقياسا بالسرورات، وبنى المتوكّل هذا المقياس الذى تقاس فيه فى هذا الوقت عند وضعى لهذا التاريخ، وهو فى سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، أحسن الله فيها العاقبة.

وحكت الجماعة المشائخ رضى الله عنهم أنّه وجد فى كتاب قبطىّ باللغة القبطية ما نقل إلى العربيّة أن الريّان بن الوليد كان يجبى خراج مصر أربعة وعشرين ألف ألف مرّتين، وأربع مائة ألف دينار، فكان يصرف منها فى عمارة (166) الضياع لحفر الخليج والترع وعمل الجسور، ونقوية من يحتاج إليه من التقوية من المزارعين، من غير رجوع عليه بشئ منها، لإقامة العوامل، وثمن الآلات، وأجرة من يستعان به لحمل البذار، وسائر هذه المنافع العائد مصلحتها لتحضير سائر أراضيهم، وتغليقها بالزراعة وتطبيقها بالبذار، فيصرف فى جميع ذلك من الجملة المذكورة ثمان مائة ألف دينار. وما يصرف فى الأرزاق للأولياء ممّن يحمل السلاح من الجند المعدودين للحرب وللشاكرديّة وغيرهم من الغلمان ومن يجرى مجراهم، وعدة جميعهم مائة ألف رجل وأحد عشر ألفا مع ألف كاتب مسوّمين بالدواوين، سوى من تبعهم من الخزان ومن يجرى مجراهم ثمانية ألف ألف-مرّتين-دينار، وما يصرف للأرامل والأيتام من ذوى الحاجة فرضا لهم من بيت المال من غير حوالة أربع مائة ألف دينار. وما يصرف فى أرزاق كهنة برابيهم، وأئمّتهم، وبيوت صلواتهم، على ما جرت به رسومهم من جملة ذلك مائتا ألف دينار، وما يصرف فى الصدقات ممّا يصبّ صبّا، وينادى مناد فى الناس: برئت الذمّة من أحد كشف وجهة لفاقة نزلت به، فليحضر فلا يردّ عنه أحد، والأمناء حضور. فإذا رأوا رجلا لم تجر له عادة بالحضور أفرد بعد قبض ما يقبضه من صدقته.

حتى إذا فرغ وفرّق جميع ذلك المرصّد، واجتمع من هذه الطائفة من اجتمع، دخل أمناؤه إليه فهنّئوه بتفرقة المال، ودعوا له بالبقاء وداوم العزّ، وأنهوا إليه حال تلك الطائفة التى اجتمعت، فيأمر بتغيير لباسهم ولمّ شعثهم، ويأمر بالسماط (167) فتمدّ، ويحضر بنفسه الطعام، ويدعى بهم فيأكلون ويشربون بين يديه، ثم يستعلم منهم من كلّ واحد ما سبب فاقته، فإن كانت من آفات الزمان ردّ عليه مثل ما كان له، وإن كان عن سوء رأى وتدبير ضمّه إلى من يشرف عليه، بعد أن يقام له ما يصلحه، فالمرصد لذلك من الجملة مائة ألف دينار. وما يصرف فى نفقات مطبخه وسائر رواتبه مائتا ألف دينار، ثم يحمل الباقى إلى بيت المال لنوائب الزمان ما جملته عشرة ألف ألف-مرّتين-وستمائة ألف دينار. وذكرت الجماعة أنّ فرعون كان يجبى خراج مصر خمسين ألف ألف دينار، فيأخذ الربع من ذلك لنفسه وأهله، والربع الثانى لوزرائه وكتّابه وجنده، والربع الثالث مرصّد لحفر الخلج، وعمل الجسور والترع، وأعمال مصالح الأرض، والربع الرابع يردّه فى المدن والقرى، فإذا لحقهم فى بعض السنين ظمأ أو استبحار أو فساد فى الزرع أخرجه وردّه عليهم، وصرفه فى مصالحهم. وتقبّلها المقوقس من [فوقاس] (1) بن هروك، متملّك الروم، بتسمة عشر ألف ألف دينار، وكان يجبيها عشرين ألف ألف دينار.

ذكر سبب دخول عمرو بن العاص مصر فى الجاهلية

فلمّا افتتحها عمرو بن العاص جباها اثنى عشر ألف ألف دينار، ثم جباها بعد ذلك تسعة آلاف ألف دينار، وجباها عبد الله بن سعد بن أبى سرح أربعة عشر ألف ألف دينار، وهو الذى بنى مدينة القيروان بالغرب، والله أعلم. ذكر سبب دخول عمرو بن العاص مصر فى الجاهليّة قال (1): حدّثنا عمر بن صالح، عمّن رواه من الثقاة قال: لمّا كان سنة ثمانى عشرة، وقدم عمر بن الخطّاب رضى الله عنه الجابية، خلا به عمرو بن العاص، وذكر له مصر واستأذنه فى المسير إليها وكان عمرو بن العاص قد دخلها فى الجاهليّة، وعرف طرقها، ورأى كثرة ما فيها. وكان سبب دخول عمرو بن العاص مصر كما روى، قال: حدّثنا [يحيى ابن خلد العدوى] (2)، عن ابن لهيعة ويحيى بن أيّوب، عن [خلد] (3) بن يزيد، أنّه بلغه أن عمرا قدم إلى بيت المقدس، فخرج فى بعض جبالها يرعى إبله وإبل أصحابه، وكان رعى الإبل نوبا بينهم، فبينا عمرو بن العاص يرعى إبله إذ مرّ به شيخ شمّاس، وقد أصابه العطش فى يوم شديد الحرّ، حتى كاد يتلف عطشا، فوقف على عمرو فاستسقاه، فسقاه عمرو من قربته، فنهل حتى روى، ونام الشمّاس مكانه.

وكانت إلى جنب الشمّاس حيث نام حفرة، فخرجت منها حيّة عظيمة تريد الشمّاس، فبصر بها عمرو فنزع لها بسهم فقتلها، فلمّا استيقظ الشمّاس ونظر الحيّة وعظمها، وكيف نجا منها قال: وما هذه؟ فأخبره عمرو، فأقبل الشماس إلى عمرو يقبّل رأسه، وقال: قد أحيانى الله بك مرّتين؛ مرّة من شدّة العطش، ومرّة من هذه الحيّة، فما أقدمك هذه البلاد؟ قال: قدمت مع أصحاب لى نطلب الفضل فى تجارتنا، فقال الشمّاس: وكم تراك ترجو أن تصيب فى تجارتك؟ قال: رجائى أن أصيب ما أشترى به بعيرا، فإنّى لا أملك إلاّ بعيرين، فأملى أن أصيب بعيرا آخر، فتعود ثلاثة أبعرة، فقال له الشمّاس: أرأيت دية أحدكم بينكم كم تكون؟ قال: مائة من الإبل، قال الشمّاس: لسنا أصحاب إبل إنّما نحن أصحاب دنانير، قال عمرو: يكون ذلك ألف دينار. فقال الشمّاس: إنّى رجل غريب فى هذه البلاد، وإنّما قدمت أصلّى فى كنيسة بيت المقدس، وأسيح فى هذه الجبال شهرا، جعلت ذلك علىّ نذرا، وقد قضيت ذلك، وأنا أريد الرّجوع إلى أهلى، فهل لك أن تتبعنى (169) إلى بلادى، ولك عهد الله منّى وميثاقه، أن أعطيك ديتين، لأنّ الله تعالى أنجانى بك مرّتين، فقال له عمرو: وأين تكون بلادك؟ قال: مصر، فى مدينة يقال لها الإسكندريّة، فقال عمرو: لا أعرفها ولم أدخلها قطّ، فقال الشمّاس: لو دخلتها لعلمت أنّك لم تدخل قطّ مثلها، فوثق منه عمرو، وأخذ عليه العهود، وشاور أصحابه وقال: إن وفى لى بما قال فلكم علىّ العهد أن أعطيكم شطر ذلك، على أن يصحبنى رجل منكم آنس به، فبعثوا معه رجلا، فدخل عمرو مصر مع الشمّاس، ونظر إلى الإسكندريّة فرأى عمرو من عمارتها عجبا.

ذكر فتح مصر على يد عمرو بن العاص رضى الله عنه

ووافق دخول عمرو الإسكندريّة عيدا فيها عظيما، يجتمع فيه سائر ملوكهم، وأبناء ملوكهم، وأشرافهم، ولهم [أكرة] (1) من ذهب مكلّلة، يترامى بها ملوكهم، ويتلقونها بأكمامهم، فمن وقعت تلك الأكرة فى كمّه واستقرّت فيه لم يمت حتى يملكهم، فلما قدم عمرو أحضره الشمّاس معه للفرجة فى ذلك المجلس، ورمى بتلك الأكرة، فأقبلت تهوى حتى وقعت فى كمّ عمرو، فعجبوا من ذلك، وقالوا: ما كذبتنا أكرتنا قطّ إلاّ هذه المرّة: أترى هذا الأعرابى يملكنا؟ هذا ما لا يكون أبدا. ثم إنّ ذلك الشمّاس وفى لعمرو بما قال له، وأعطاه ألف دينار، وأكرمه، وسيّره مع من وصله إلى أصحابه، فوفى أيضا عمرو لأصحابه، وشاطرهم المال كما ذكر، قال عمرو: فكان ذلك أوّل مال عقدته وملكته، وهذا سببه، والله أعلم. ذكر فتح مصر على يد عمرو بن العاص رضى الله عنه قال (2): حدّثنا عثمان بن صالح، قال: حدّثنا ابن لهيعة، عن [عبيد الله] (3) ابن أبى جعفر، وعيّاش بن عبّاس [القتبانى] (4)، وغيرهما، يزيد بعضهم على بعض، قال: لمّا قدم عمر بن الخطّاب رضى الله عنه الجابية قام إليه عمرو ابن العاص، فخلا به، فقال: (170) يا أمير المؤمنين، ائذن لى أن أسير إلى مصر،

وحرّضه على ذلك، وقال له: إنّك إن فتحتها كانت قوّة للمسلمين، وعونا لهم، وهى أكثر الأرض أموالا، [وأعجزها] (1) عن قتال وحرب، فتخوّف عمر رضى الله عنه على المسلمين، وكره ذلك، فلم يزل به عمرو يعظّم أمرها وأموالها، ويستصغر حرب أهلها وعجزهم، ويهوّن عليه أمرها، حتّى ركن لذلك عمر رضى الله عنه، فعقد له على أربعة آلاف، كلّهم من عك، ويقال بل ثلاثة آلاف وخمسمائة. قال (2): حدّثنا أبو الأسود النضر بن عبد الله أو ابن عبد الجبّار-وهو الصحيح-، قال: حدّثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن [أبى حبيب] (3) أنّ عمرو ابن العاص دخل مصر بثلاثة آلاف وخمسمائة، وأنّ عمر بن الخطّاب رضى الله عنه قال له: سر وأنا مستخير الله تعالى فى سيرك، وسيأتيك كتابى سريعا إن شاء الله تعالى، فإن أدركك كتابى آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها، أو شيئا من أرضها، فانصرف قافلا، وإن أنت دخلتها قبل أن يأتيك كتابى فامض لوجهك، واستعن بالله واستنصره. فسار عمرو ولم يشعر به أحد من الناس، واستخار عمر رضى الله عنه الله تعالى، فكأنّه تخوّف على المسلمين فى وجهتهم تلك، فكتب إلى عمرو بن العاص أن ينصرف بمن معه من المسلمين، فأدرك الكتاب عمرا وهو بمنزلة رفح، فتخوّف عمرو من أخذ الكتاب إن هو أخذه من الرسول وفتحه أن يجد فيه الانصراف كما عهد إليه عمر، فلم يأخذ الكتاب من الرسول، ودافعه، وسار

لوجهه حتى نزل قرية فيما بين رفح والعريش، فسأل عنها، فقيل: إنّها من مصر، فدعى بالكتاب فقرأه على المسلمين، فقال عمرو لمن معه: ألستم تعلمون أنّ هذه القرية من مصر؟ قالوا: بلى، قال: فإنّ أمير المؤمنين عهد إلىّ وأمرنى (171) إن لحقنى كتابه ولم أدخل أرض مصر أن أرجع، وإن كنت دخلت أرض مصر فأمضى لما ندبنى إليه، فسيروا بنا على بركة الله. ويقال: بل كان عمرو بفلطسين، فتقدّم بأصحابه إلى مصر، بغير إذن عمر رضى الله عنه، فكتب إليه وهو دون العريش، فحبس الكتاب ولم يقرأه حتى بلغ العريش، فقرأه فإذا فيه: من عمر بن الخطاب إلى العاصى بن العاصى. أما بعد، فإنّك سرت بالمسلمين إلى مصر، وبها جموع الروم، وإنّما معك نفر يسير، ولعمرى لو كانوا [ثكل أمّك] (1) ما سرت بهم، فإن لم تكن بلغت مصر فارجع، فقال عمرو: الحمد لله، أيّة أرض هذه؟ قالوا: مصر، فتقدّم على ما كان عليه، واتّفقت أكثر الروايات على مثل هذا الكلام وأنظاره. وكان صفة عمرو بن العاص كما حدّث سعد بن عفير، عن الليث بن سعد، قصيرا، عظيم الهامة، ناتئ الجبهة، واسع الفم، عظيم اللحية، عريض ما بين المنكبين والقدمين، قال الليث بن سعد: يملأ هذا المسجد. فلمّا بلغ المقوقس قدوم عمرو بن العاص إلى مصر، توجّه من الإسكندرّية إلى الفسطاط، فكان يجهّز العساكر، وكان على القصر رجل من الروم، يقال له الأعيرج واليا، وكان من تحت أمر المقوقس.

وأقبل عمرو حتى [إذا] (1) كان بجبل الخلال [نفرت] (2) معه راشدة وقبائل من لخم، فكان أوّل موضع قوتل فيه الفرما، قاتلته الروم قتالا شديدا نحوا من شهر، ثم فتح الله على يديه. وكان عبد الله بن مسعود على ميمنة عمرو بن العاص، منذ توجّه من قيساريّة، إلى أن فرغ من حربه. وعن مشائخ من أهل مصر قالوا: كان بالإسكندريّة أسقف القبط يقال له: أبو ميامين (3)، فلمّا بلغه قدوم عمرو بن العاص إلى مصر، كتب إلى (172) القبط يعلمهم أن لا للروم دولة، وأن ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقّى عمرو ابن العاص، فيقال إنّ القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو عونا، قال عثمان فى حديثه: ثم توجّه عمرو فلا يدافع إلاّ بالأمر الخفيف، حتى نزل القواصر. قال: حدّثنا عبد الملك بن المسلمة، قال: حدّثنا ابن وهب، قال: حدّثنا عبد الرحمن بن شريح أنّه سمع شراحيل بن يزيد يحدّث عن أبى الحسين أنّه سمع من رجل من لخم يحدّث كريب بن أبرهة (4) قال: كنت أرعى غنما لأهلى [بالقواصر] (5)، فنزل عمرو ومن معه، فدنوت إلى أقرب منازلهم، فإذا [بنفر] (5) من القبط كنت قريبا منهم، فقال بعضهم لبعض: ألا تعجبون

من هؤلاء القوم، يقدمون على جموع الروم وإنّما هم قلّة من الناس فأجابه رجل آخر فقال: إنّ هؤلاء لا يتوجّهون [إلى أحد] (1) إلاّ ويظهرون عليه، حتى يقتلوا خيرهم، قال: فقمت إليه فأخذت بتلابيبه، فقلت: أنت تقول هذا؟ انطلق معى إلى عمرو بن العاص حتى يسمع الذى قلت، فطلب إلىّ أصحابه حتى خلصوه، فرددت الغنم إلى منزلى، ثم جئت حتى دخلت فى القوم. قال عثمان فى حديثه: فقدم عمرو ولا يدافع إلاّ بالأمر الخفيف، حتى أتى بلبيس، فقاتلوه بها قتالا شديدا، وأبطأ عليه الفتح، فكتب إلى عمر بن الخطّاب رضى الله عنه يستمدّه، فأمدّه بأربعة آلاف، تمام ثمانية آلاف، فقاتلهم. ثم رجع إلى حديث [ابن] (1) وهب، عن عبد الرحمن بن شريح، عن شراحيل ابن يزيد، عن أبى الحسين أنّه سمع رجلا من لخم قال: فجاء رجل إلى عمرو ابن العاص فقال: اندب معى خيلا حتى آتى من ورائهم عند القتال، فأخرج معه (173) خمسمائة فارس، فساروا من وراء الجبل، حتى دخلوا مغار بنى وائل قبل الصبح، وكانت الروم قد خندقوا خندقا، وجعلوا له أبوابا، فثّبتوا (2) فى أقبيتها حسك الحديد، فالتقى القوم حين أصبحوا، وخرج اللخمى بمن معه من ورائهم، فانهزموا حتى دخلوا الحصن. وقال غير ابن وهب: بعث خمسمائة عليهم خارجة بن حذافة، فلمّا كان وجه الصبح نهض القوم، فصلّوا الصبح، ثم ركبوا خيلهم، وغدا عمرو بن العاص على

القتال، فقاتلهم من [وجههم] (1)، وحملت التى كانت من ورائهم، واقتحمت عليهم [فانهزموا] (2). قال ابن وهب فى حديثه: فسار عمرو حتى نزل على الحصن، فحاصرهم، حتى سألوه أن يسيّر منهم بضعة عشر أهل بيت [ويفتحوا] (2) له الحصن، ففعل ذلك، ففرض عمرو لكلّ رجل من أصحابه [دينارا وجبّة] (2) وبرنسا وعمامة وخفين، وسألوه أن [يهيّئوا له ولأصحابه صنيعا] (3) ففعل. قال عبد الرحمن: قال، حدّثنى أبو عبد الله بن عبد الحكم أنّ عمرو ابن العاص أمر أصحابه فتهيّئوا (4)، ولبسوا البرود، ثم أقبلوا قال [ابن] (5) وهب فى حديثه: وسألوه أن يصنعوا له طعاما ولأصحابه، فلمّا فرغ عمرو من طعامهم سألهم: كم أنفقتم؟ قالوا: عشرين ألف دينار، قال عمرو: لا حاجة لنا فى صنيعكم بعد اليوم، أدّوا إلينا عشرين ألف دينار، فجاءه نفر من القبط، فاستأذنوا إلى قراهم وأهلهم، فقال لهم عمرو: كيف رأيتم أمرنا! قالوا: لم نر إلاّ حسنا، فقال الرجل الذى قال فى المرّة الأولى ما قال لهم: إنّكم لن تزالوا تظهرون على كلّ من لقيتم حتى تقتلوا خيركم، فغضب عمرو وأمر به، فطلب إليه أصحابه وأخبروه أنّه لا يدرى ما يقول حتى خلّصوه، فلما بلغ عمرا قتل عمر بن الخطّاب رضى الله عنه

أرسل (174) فى طلب ذلك القبطى فوجده قد هلك، فعجب عمرو من كلامه، قال عمرو: فلمّا قتل عمر بن الخطّاب، قلت: هو ما قال القبطى، فلما حدّثت (1) إنّما قتله أبو لؤلؤة رجل نصرانى قلت: لم يعن هذا إنّما عنى من قتله المسلمون فلما قتل عثمان عرفت أنّما قال الرجل حقّ. قال ابن وهب فى حديثه: فلمّا فرغ القبط من صنيعهم، أمر عمرو بن العاص بطعام، فصنع لهم من الثريد ولحم الأباعر، وجعل الأكارع على وجوه الجفان، وأمر أصحابه بلبس الأكسية، واشتمل الصماء، والقعود على الركب، فلمّا حضرت الروم وضعوا كراسىّ الديباج فجلسوا عليها، وجلست العرب إلى جوانبهم، فجعل الرجل من العرب يلتقم اللقمة من الثريد شبه البعير، وينهش من تلك الأكارع فيتطاير على من إلى جنبه من الروم، فيستغيث الرومى بذلك، وقالوا: أين أولئك الذين كانوا أتونا قبل؟ فقيل لهم: أولئك أصحاب المشورة، وهؤلاء أصحاب الحرب (2). وروى فتح القصر من وجه آخر فيه طول، فاختصرنا هذا، إذ القصد أن لا يخلو تأريخنا من واقعة جرت بطريق الاختصار، والله الموفق للصواب. ولمّا طلب المقوقس من عمرو بن العاص رسلا يسمعون كلامه، أنفذ إليه عبادة بن الصامت، وكان شديد السواد، هائل الطول والمنظر، مع جماعة من المسلمين، فلمّا رآه المقوقس هابه وقال: قدّموا غير هذا يكلّمنى! فقالوا: هو

ذكر بعض شئ مما ورد فى صفة مصر

المقدّم علينا، فقال المقوقس بعد كلام طويل: تقدّم وقل برفق، فإنّى أهابك، وإن اشتدّ كلامك كان أهيب، فقال عبادة: قد سمعت كلامك، وإنّ فيمن خلفت ورائى من أصحابى ألف رجل أسود، كلّهم أفظع منظرا منّى، فى كلام طويل هذا آخره. ثمّ تناظروا مناظرات (175) كثيرة، آخرها أنّ عبادة قال: لا نرضى منكم بغير ثلاث خصال: إمّا أن تدخلوا فى ديننا، أو تؤدّوا الجزية، أو يحكم السّيف بيننا، فارتضوا بعد مشاجرات كثيرة بالجزية، والله أعلم. ذكر بعض شئ ممّا ورد فى صفة مصر قال (1): حدّثنا علىّ، قال: حدّثنا عبد الرحمن، قال: حدّثنا عبد الله بن صالح، عن ابن لهيعة، عن بكر بن سوادة، وبكر بن عمرو الخولانى، يرفعان الحديث إلى عبد الله بن [عمرو] (2) رضى الله عنه، قال: قبط مصر أكرم الأعاجم كلّها، وأسمحهم يدا، وأفضلهم عنصرا، وأقربهم رحما بالعرب عامة، وبقريش خاصة، ومن أراد أن يذكر الفردوس، أو ينظر إلى مثلها، فلينظر إلى مصر وأراضيها، حين يخضرّ زرعها وتنوّر ثمارها. قال: حدّثنا علىّ، قال: حدّثنا عبد الرحمن، قال: حدّثنا أبو الأسود النضر بن عبد الله، أو ابن عبد الجبّار، قال: حدّثنا ابن لهيعة، عن يزيد

ابن عمرو المعافرى، عن كعب الأحبار، قال: من أراد أن ينظر إلى [شبه] (1) الجنّة فلينظر إلى مصر إذا أزهرت. وقال ابن لهيعة: كان منهم السحرة آمنوا كلّهم فى ساعة واحدة، ولا يعلم جماعة أسلمت فى ساعة واحدة أكثر من جماعة القبط. وعن ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة السبئى (2)، وبكر بن عمرو الخولانى ويزيد بن أبى حبيب المالكى، يزيد بعضهم على بعض فى الحديث، أنّ سحرة مصر كانوا اثنى عشر ساحرا رؤساء، تحت يد كلّ ساحر منهم عشرون عرّيفا، تحت يد كلّ عرّيف منهم ألف من السحرة، فكان جميع السحرة مائتى ألف وأربعين ألفا ومائتين [واثنين] (3) وخمسين إنسانا، بالرؤساء والعرفاء، فلمّا عاينوا ما عاينوا تحقّقوا أنّ ذلك من السماء، وأنّ السحر لا يقوم لأمر الله، فخرّ الرؤساء الاثنا عشر (176) عند ذلك سجّدا، فاتّبعهم العرفاء، واتبع العرفاء الباقون، وقالوا: آمنّا بربّ العالمين، ربّ موسى وهارون. قال: حدّثنا علىّ، قال: حدّثنا عبد الرحمن، قال: وكانت مصر كما حدّثنا عبد الله بن صالح، وعثمان بن صالح، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب، عن عبد الرحمن بن شماسة (4) المهرى، عن أبى رهم (5) السماعى، قال: كانت

مصر لها قناطرو جسور بتقدير وتدبير، حتى إنّ الماء ليجرى تحت منازلها وأفنيتها، فيحبسونه كيف شاءوا، ويرسلونه كيف شاءوا، فذلك قوله تعالى فيما حكاه من قول فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ»} (1). ولم يكن فى الأرض يومئذ ملك أعظم من ملك مصر، وكانت الجنّات [بحافتى (2)] النيل، من أولّه إلى آخره، فى الجانبين جميعا، من أسوان إلى رشيد، وبها سبع خلج؛ وهم: خليج الإسكندريّة، وخليج سخا، وخليج دمياط، وخليج منف، وخليج الفيّوم وخليج [المنهى (3)]، وخليج السردوس، ذات جنّات متّصلة، لا ينقطع منها شئ عن شئ، والزرع ما بين الجبلين، من أولّ حدود مصر إلى آخرها، ممّا يبلغه الماء. وكان جميع أرض مصر كلّها تروى من ستّة عشر ذراعا، لما قدّروا ودبّروا من قناطرها وخلجانها وجسورها، فلذلك قوله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ»} (4)، قالوا: والمقام الكريم: المنابر، التى كان بها ألف منبر. وأمّا خليج الفيّوم والمنهى فحفرهما يوسف عليه السّلام، والسّردوس حفره هامان وزير فرعون، والله أعلم.

ذكر شئ مما ورد من الحديث فى الوصية بقبط مصر

ذكر شئ مما ورد من الحديث فى الوصيّة بقبط مصر قال (1): حدّثنا علىّ بن الحسن بن خلف بن قديد، قال: حدّثنا عبد الرحمن ابن عبد الحكم، قال: حدّثنا أشهب بن عبد العزيز، وعبد الملك بن مسلمة، قالا: حدّثنا مالك (177) بن أنس، عن ابن شهاب، عن كعب بن مالك: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرا، فإنّ لهم ذمّة ورحما». قال ابن شهاب: وكان يقال إنّ أمّ إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام منهم. قال: حدّثنا عبد الرحمن، قال: حدّثنا عبد الملك بن مسلمة، قال: حدّثنا عبد الله بن وهب، عن حرملة بن عمران، عن عبد الرحمن بن [شماسة (2)] المهرى، قال: سمعت أبا ذرّ يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا، فإنّ لهم دمّة ورحما»، وقال صاحب هذا الحديث يرفعه إلى [بجير (3)] بن ذاخر المعافرى، عن عمرو بن العاص، عن عمر بن الخطّاب، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إنّ الله سيفتح عليكم بعدى مصر، فاستوصوا بقبطها خيرا، فإنّ لكم منهم صهرا وذمّة». قال: حدّثنا علىّ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، قال: حدّثنا عبد الملك بن مسلمة، ويحيى بن عبد الله بن بكير (4)، عن ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، أنّ

ولنعد إلى سياقة التاريخ

أبا سالم الجيشانى سفيان بن هانئ، أخبره أنّ بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخبره أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنّكم ستكونون أجنادا، وإنّ خير أجنادكم أهل الغرب منكم، فاتّقوا الله فى القبط، لا تأكلوهم أكل الحضر». قال: حدّثنا علىّ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، قال: حدّثنا عبد الملك بن مسلمة، عن الليث بن سعد، وابن لهيعة، قالا: قال عبد الملك: حدّثنا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن [يزيد] (1) بن أبى حبيب، أنّ أبا سلمة بن عبد الرحمن حدّثه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أوصى عند وفاته أن تخرج اليهود من جزيرة العرب، وقال: «الله الله فى قبط مصر، فإنّكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عدّة وأعوانا فى سبيل الله». قال: حدّثنا علىّ، قال: حدّثنا (178) عبد الرحمن، قال: حدّثنا عثمان ابن صالح، قال: حدّثنا مروان القصاص، قال: صاهر إلى القبط من الأنبياء ثلاثة: إبراهيم خليل الله عليه السّلام [تسرّر هاجر] (2)، ويوسف عليه السّلام تزوّج بنت صاحب عين شمس، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم تسرّر [مارية] (3) القبطيّة. ولنعد إلى سياقة التّاريخ وفيها، وهى سنة عشرين للهجرة النبويّة على صاحبها أفضل الصّلاة والسّلام تولّى عمرو بن العاص مصر: حربها وخراجها، وكتب إليه عمر رضى الله عنه أن يستقضى كعب بن يسار، فامتنع كعب من ذلك، فتركه وولّى قيس بن أبى عاصم السهمى، وجبى مصر هاتيك السنة عشرة آلاف ألف دينار.

وفيها فتح أبو موسى الأشعرى السوس، ودلّ على خبيئة دانيال، فأخذ أبو موسى خاتمه، وفصّه حجر أحمر. وفيها حاصر أبو موسى الأشعرى الأهواز، فسألهم ملكهم الصلح، على أن يحصى ثمانين من أهل الحصن ويقتل البقيّة، فاستأذن عمر رضى الله عنه، فكتب إليه عمر: افعل ذلك! فأنزل الملك فقتله، لأنّ الملك ما استثنى نفسه فيهم، واستحيى ثمانين كان الملك عيّنهم له، وقتل البقيّة. وفيها فتحت تستر، ويوم فتحها فتحت الإسكندريّة. وفيها مات بلال، مؤذّن النبى صلّى الله عليه وسلم. وفيها مات أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب، واسمه المغيرة، وكان أخا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الرضاع، وكان فيه شبه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وفيها ماتت صفيّة، عمّته صلّى الله عليه وسلم. وفيها مات هرقل ملك الروم. وفيها عدا الكندى إلى بلد الروم، وهو أوّل من دخلها، وقتل ميسرة. وزلزلت الأرض بالمدينة، وماتت زينب بنت جحش، زوج النبى صلّى الله عليه وسلم، وتزوّج عمر رضى الله عنه فاطمة بنت الوليد. (179) وفيها قسم عمر رضى الله عنه خيبر بين المسلمين، وأجلى اليهود عنها، وقسّم وادى القرى، وأجلى يهود نجران إلى الكوفة. وفيها بعث علقمة بن [مجزّز] (1) إلى الحبشة، وكان خراجها فى زمن

ذكر سنة إحدى وعشرين النيل المبارك فى هذه السنة

فرعون مصر ستّة وسبعين ألف ألف دينار، وفى زمن بنى أميّة ألفى ألف وسبعمائة ألف وثلاثة وعشرين ألف دينار، وفى زمن بنى العبّاس ألفى ألف ومائة ألف وثمانين ألف دينار. وكان خراج فارس فى زمن الفرس أربعين ألف ألف دينار، وكرمان ستّين ألف ألف دينار، وخوزستان خمسين ألف ألف دينار، والله أعلم. ذكر سنة إحدى وعشرين النيل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم خمسة أذرع وإصبعان، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع. ما لخّص من الحوادث الإمام عمر بن الخطّاب رضى الله عنه أمير المؤمنين، والدنيا عادت دار إسلام، يتلى فيها القرآن، وخلت من عبادة الأوثان والصلبان. وفيها فتحت [الماهين] (1) وهمدان، ووصل المسلمون بلاد العجم، وفتحت إصبهان. وفيها كانت وقعة أبى موسى مع الهرمزان، وأسر، وبعث إلى الإمام عمر ابن الخطّاب، وقد ألبس ثياب الديباج المنسوجة بالذهب مرصّعة بالدرّ والجوهر ووضع على رأسه التاج مكلّلا بالياقوت الأحمر، ممنطقا بمنطقة فيها حبّ الجوهر، وختموه بخاتمه.

فلمّا قدم به المدينة قال: هل لملككم يوم يجلس فيه؟ فقيل: إنّه يمشى فى الأسواق، ليتعاهد أمور المسلمين، قال: فمن حرسه؟ قالوا: الله حارسه، قال: فمن شرطه؟ قالوا: هو شرطى نفسه. فأتى به إلى المسجد، وعمر نائم فى المسجد متوسّدا الحصى، فاتتبه (180) عمر رضى الله عنه لجلبة الناس، فرآه فاستعاذ بالله من أهل النار، وأمر بإلقاء ما عليه، وأمر بقتله، فقال: يا أمير المؤمنين، قدمتّ عطشا، فقال: لا يجمع الله عليك القتل والعطش، اسقوه! فأتى بقدح من خشب فيه ماء، فقال: إنّى لم أشرب فى هذا قطّ، فاسقونى فى إناء نظيف! فأتى بزجاجة فيها ماء، فلمّا أخذها ارتعد وعاد يتلفّت يمينا وشمالا، فقال له عمر: اشرب! قال: إنّى أخاف أن أقتل قبل أن أشرب، قال: لا بأس عليك، لا تقتل حتى تشرب، فألقى الزجاجة فكسرها، فقال عمر: جيئوه بغيرها! قال: لست اليوم بشارب، فقال عمر: اضربوا عنقه! فقال أنس بن مالك: أليس إنّك أمنته؟ قال عمر: لتجيئنّى بالمخرج أو لأعاقبنّك، قال: أو لم تقل: لا تقتل حتى تشرب؟ فقال عمر: أسلم يا هرمزان! قال: أمّا دينى فلا أتركه، وأمّا دمى فقد أحرزته، فحبسه عمر، ولم يزل يدعوه إلى الإسلام حتى أسلم. وفيها مات خالد بن الوليد رضى الله عنه، ودفن بحمص. وعن محمّد بن سلام عن أبان بن عثمان قال: لم تبق امرأة من بنى المغيرة إلاّ وجزّت ناصيتها، ووضعته على خالد. وفيها قتل الجارود بالبحرين. وفيها ولد الحسن البصرى والشعبى، واسمه عامر بن شراحيل.

وفيها بعث عمرو بن العاص عقبة بن نافع فافتتح زويلة. وكان الأمير فى هذه السنة على دمشق عمر بن سعد، وفى ولايته حوران وحمص وقنّسرين والحيرة، ومعاوية بن أبى سفيان على البلقاء والأردنّ وفلسطين والسواحل وأنطاكية والمعرّة وما معهم، وعمرو بن العاص بمصر وأعمالها، وأبو موسى الأشعرى ببلاد العجم. وفيها حجّ رضى الله عنه، واستخلف زيد بن ثابت على المدينة، وكان عامله على مكّة واليمن والطائف واليمامة. وفيها مسحت بلاد السواد، فكان عامره وعابره ستة وثلاثين ألف جريب، ولم تمسح سبخة ولا تلّ ولا مستنقع ماء. والذى مسح ما دون جبل حلوان إلى منتهى القادسيّة المتّصل بالعذيب، من أرض العرب إلى الفرات عرضا تقدير ثمانين فرسخا، من تخوم الموصل مع الماء إلى ساحل البحر بلاد عبادان، من شرقى دجلة طولا قدره مائة وخمسة وعشرون فرسخا. وفرض على كلّ جريب درهما وقفيزا من غلّة، وجريب الكرم عشرة الدراهم وجريب النخل خمسة الدراهم، وجريب القصب ستّة، وجريب البرّ أربعة، والشعير درهمين، وعلى الموسر من أهل الذّمة ثمانية وأربعين درهما، والمتوسّط نصفها، والفقير ربعها. فكان جملة خراجه أوّل سنة ستّة وثمانين ألف ألف درهم، والسنة الثانية مائة ألف ألف وعشرين ألف ألف، وجباه عمر بن عبد العزيز مائة ألف ألف وأربعة وعشرين ألف ألف. وفى زمن الحجّاج ستّون ألف ألف، وقد كانت

ذكر سنة اثنتين وعشرين النيل المبارك فى هذه السنة

الأكاسرة تجبيه مائة ألف ألف وخمسين ألف ألف، والجبل والرىّ إلى حلوان ثلاثين ألف ألف سوى خراسان، والله أعلم. وفيها ضربت الدراهم على سكك الكسرويّة ونقش فى بعضها اسمه، وبعضها الحمد لله، وبعضها لا إله إلاّ الله، وبعضها محمّد رسول الله. ذكر سنة اثنتين وعشرين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستّة أذرع واثنا عشر إصبعا، مبلغ الزّيادة ستة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث (182) الإمام عمر رضى الله عنه أمير المؤمنين، والنوّاب الأمراء المذكورون فى السنة التى قبلها على حالهم، والقاضى شريح بحاله قاضيا، وبمصر فى هذه السنة القاضى قيس بحاله. فيها فتحت آذربيجان، على يد المغيرة بن شعبة، وغزا معاوية بن أبى سفيان الصّائفة من أرض الروم، وأسر عبد الله بن حذافة (1). وفيها بعث عمر رضى الله عنه نعيما إلى همدان ثانية فحاصرها، فأعطوا الجزية، ثم خرج إلى الرىّ، فبعث من دخل عليهم من حيث لا يعلمون، فقاتلهم وغلبهم.

ذكر سنة ثلاث وعشرين النيل المبارك فى هذه السنة

وفيها أخذ يزيد قومس بالأمان، وغزا عبد الرحمن بن ربيعة الروم. وقالت الروم: إنّ مع هؤلاء القوم ملائكة يقاتلون، فانهزموا، واختلفت أقاويلهم، فمنهم من ادّعى أنّه رأى كلّ ملك: رجلاه فى الأرض، ورأسه فى السماء، ومنهم من قال غير ذلك، وظفر المسلمون بهم ظفرا مؤيّدا. وفيها ولد يزيد بن معاوية بن أبى سفيان، وقيل فى سنة خمس وعشرين، وولد فيها عبد الملك بن مروان. وفيها خرج الأحنف بن قيس إلى خراسان، فافتتح هراة، وسار إلى مرو، وسيّر مطرف بن عبد الله إلى نيسابور، وفتحت جرجان وقزوين وطبرستان وشهرزور والصامغان. وفيها فتحت طرابلس الغرب وبرقة. ذكر سنة ثلاث وعشرين النيل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وثمانية عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الإمام عمر رضى الله عنه أمير المؤمنين إلى حين وفاته فى هذه السنة (183) وهو يومئذ بالمدينة، وعمرو بن العاص بمصر وما فتح من بلاد المغرب، والقاضى قيس بحاله، وعلى مكّة شرّفها الله تعالى نافع بن عبد الحارث الخزاعى، وعلى الطائف سفيان بن عبد الله الثقفى، وعلى صنعاء اليمن يعلى بن منية، وعلى الجند

ذكر وفاة الإمام عمر رضى الله عنه

عبد الله بن أبى ربيعة، وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة، وعلى البصرة أبو موسى الأشعرى، وعلى حمص عمير بن سعد، وعلى دمشق معاوية بن أبى سفيان، وعلى البحرين وما والاها عثمان بن أبى العاص الثقفى، وعلى قضاء الكوفة القاضى شريح. وفيها فتحت إصطخر، [ونوّج] (1)، وكرمان، وسجستان، وعسقلان. وفيها حجّ عمر رضى الله عنه بأزواج النبى صلّى الله عليه وسلم. وفيها توفّى قتادة بن النعمان الأنصارى رحمه الله، وهو الذى ردّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم عينه. وفيها توفّى واقد بن عبد الله التميمى حليف الخطّاب، وهو أوّل من قاتل فى سبيل الله فى الإسلام، وقيل بل عمرو الحضرمى، والله أعلم. وفيها توفّى عيلان بن سلمة، وهو الذى أسلم وتحته عشر نسوة. وفيها توفّى الإمام عمر بن الخطّاب رضى الله عنه. ذكر وفاة الإمام عمر رضى الله عنه لمّا كانت السنة التى قتل فيها رضى الله عنه حجّ بأزواج النبى صلّى الله عليه وسلم، وبعث إلى أمراء الأجناد فقدموا عليه، وفيهم سعد بن أبى وقّاص، وهو من أهل الشورى. ولمّا كان فى حجّه نزل الأبطح، فكثب كثيبا من رمل تحت رأسه ووضع رأسه عليه، وقال: اللهم كبرت سنّى، ودقّ عظمى، وانتشرت رعيّتى،

فاقبضنى إليك غير عاجز ولا مفرّط، فما انسلخ ذو الحجّة حتى قتل رضى الله عنه. وكان لمّا جاء إلى الجمرة ليرميها (184) فى حجّته أتاه حجر فوقع فى صلعته فأدماها، فقال رجل من بنى لهب: أشعر أمير المؤمنين لا يحجّ بعدها، ثم جاء إلى الجمرة الثانية فصاح رجل: يا خليفة رسول الله، فقال رجل: لا يحجّ أمير المؤمنين بعدها. وعن أبى موسى الأشعرى قال: رأيت كأنّى انتهيت إلى جبل، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فوقه، وإلى جنبه أبو بكر، وإذا هو يومئ إلى عمر أن: تعال! قال أنس: فقلت لأبى موسى: ألا تكتب بهذا إلى عمر، فقال: ما كنت لأنمى إليه نفسه. خطب عمر الناس يوم جمعة فقال: رأيت كأنّ ديكا نفرنى ولا أراه إلاّ حضور أجلى، فقلت: يسوق الله لى الشهادة ويقتلنى رجل أعجمى، وإنّ ناسا يأمروننى أن أستخلف عليهم، وإنّ الله لن يضيع دينه وخلافته، فإن عجل بى أمر فالخلافة شورى فى هؤلاء الستّة الذين مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وقد عرفت أنّ أناسا يطعنون فى هذا الأمر، وأنا قاتلتهم بيدى هذه على الإسلام، فإن فعلوا ذلك فأولئك هم الكفرة الضّلال، إنى والله ما أدع شيئا أهمّ عندى من الكلالة، لقد سألت نبى الله صلّى الله عليه وسلم عنها، فما أغلظ فى شئ ما أغلظ فيها، حتى طعن بإصبعه فى بطنى فقال: «يا عمر، يكفيك الآية التى نزلت فى آخر سورة النساء، وإن أعش فسأقضى فيها قضيّة، لا يختلف فيها أحد يقرأ القرآن». وقال: اللهم ارزقنى شهادة فى سبيلك، وموتة ببلد نبيّك صلّى الله عليه وسلم، فقالت

حفصة: وأنّى لك الشهادة بهذه البلدة، فقال: يا بنيّة، يأتى الله بها من حيث شاء، قال: وكان بينه وبين فارس مسيرة شهر، وبينه وبين القوم كذلك. قالت عائشة رضى الله عنها: لمّا حجّ عمر أقبل رجل متنقّب، فأنشد عمر: (185) جزى الله خيرا من إمام وباركت … يد الله فى ذاك الأديم الممزّق قضيت أمورا ثم غادرت بعدها … بوائق فى أكمامها لم تفتّق وكنت تشوب الدين بالحلم والتّقى … وحكم صليب الرأى غير مزوّق فمن يسع، أو يركب جناحى نعامة … ليدرك ما قدّمت بالأمس يسبق وما كنت أخشى أن تكون وفاته … بكف سبىّ أحمر العين أزرق قالت عائشة رضى الله عنها: فظننته المزرّد بن ضرار أخى الشماخ، قالت: فلقيته بعد ذلك، فحلف بالله أنّه ما شهد الموسم الذى سمعت فيه هذه الأبيات (1). وكان يقال إنّ هذا الشعر لجنّى. والله أعلم. بلغ أمّ كلثوم بنت علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه، زوجة عمر رضى الله عنه أنّ كعب الأحبار يقول: إنّ عمر باب من أبواب جهنّم، فغضبت، ثمّ غدت إلى حفصة بنت عمر، فقالت: ألا تعجبين لما بلغنى عن هذا اليهودى، إنّه يزعم أنّ أمير المؤمنين باب من أبواب جهنّم، أو على باب جهنّم. فقالت: وا أبتاه، ثم أرسلت إلى عمر فأتاها، فأخبرته بقول كعب، فقال: وا عمراه، ثم قال: إنّى لأرجو أن لا يكون الله سبحانه خلقنى شقيّا، ثم أرسل إلى كعب فسأله عمّا قيل عنه، فقال: صدقوا، إنّك على باب جهنّم تذبّ الناس عنه، لو قد هلكت

فتح ذلك الباب عليهم، ولن يمرّ لك إلاّ ثلاث حتى تستشهد فى سبيل الله، فقال: وأنّى لى بالشهادة وبينى وبين أجناد العرب ما علمت؟ فقال كعب: إنّ سبل الله تعالى كثيرة، وأفضل سبله الصلاة، فلمّا كان اليوم الثالث قال عمر: يا كعب، هذا اليوم الثالث، قال: إنّ لى الليلة إلى الصباح، فخرج عمر رضى الله عنه ليوقظ الناس أهل المسجد إلى الصلاة، فطعنه أبو لؤلؤة، (186) وقال عمر رضى الله عنه عندما قال له كعب ما قال: تواعدنى كعب ثلاثا أعدّها … وأعلم أنّ القول ما قال لى كعب وما بى لقاء الموت، إنّى لميّت … ولكنّ ما بى الذّنب يتبعه الذّنب (1) وقالت عائشة رضى الله عنها: سمعت نائحة الجنّ تبكى قبل قتل عمر، تقول: ليبك على الإسلام من كان باكيا … فقد وشكوا هلكا وما قدم العهد وأدبرت الدنيا وأدبر أهلها … وقد ملّها من كان يؤمن بالوعد (2) وكان عمر رضى الله عنه لا يؤذن لسبى أن يدخل المدينة، فكتب المغيرة ابن شعبة، وهو على الكوفة، يستأذن على أبى لؤلؤة، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ عندى غلاما، وعنده أعمال كثيرة فيها منافع للمسلمين، إنّه حدّاد نقّاش، فلو أذنت له، فأذن له، وضرب عليه المغيرة مائة درهم فى كلّ شهر، فاشتكى إلى عمر ثقل خراجه، فقال: ماذا تحسن؟ فذكر الأعمال التى يحسنها، فقال عمر: ما خراجك بكثير فى جنب ما تعمل، ثم دعاه عمر فقال: ألم أخبر أنّك تقول: لو شئت

صنعت رحى تطحن بالهواء؟ فالتفت أبو لؤلؤة ساخطا عابسا فقال: لأصنعنّ لك رحى يتحدّث الناس بها فى الشرق والغرب، فلمّا ولّى قال للرهط الذين كانوا معه: تواعدنى العبد، وقيل إنّ عمر قال لعلىّ عليه السّلام: ما تراه أراد بكلمته؟ قال: تواعدك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: لقد علمت أنّ لكلمته غورا. ويقال إنّ عيينة بن حصن الفزارى قال لعمر يوما: إنّ الله سبحانه جعلك فتنة على أمّة محمّد، فقال عمر: كذبت، إنّ ربّى ليعلم أنّى لم أضمر لها غير العدل عليها، والإحسان إليها، فقال عيينة: إنّى لم أذهب هناك، ولكن يفقدون سيرتك فيضرب بعضهم بعضا، فقال عمر: لست (187) لذلك بآمن، فقال: يا أمير المؤمنين، احترس من الأعاجم وأخرجهم من جزيرة العرب، فإنّى لا آمنهم عليك، فلمّا طعن عمر قال: ما فعل عيينة بن حصن؟ فقيل: مات بالحاجر (1). فقال: إنّ هناك لرأيا. وكان أبو لؤلؤة قد سباه المغيرة من نهاوند، ولمّا كان يوم الأربعاء، لسبع بقين من ذى الحجة سنة ثلاث وعشرين، خرج عمر رضى الله عنه فأيقظ الناس للصلاة على عادته، وكان أبو لؤلؤة قد كمن له فى المسجد، ومعه خنجر برأسين ونصابه فى وسطه، وسقاه السمّ، فلمّا دنا من عمر ضربه وطعنه ثلاث طعنات، إحداهنّ تحت سرّته، فخرق الصفاق، وهى التى قتلته رضى الله عنه، ثم أغار على أهل المسجد فطعن من يليه، ممّن على يمينه وعلى يساره، حتى طعن أحد عشر رجلا سوى عمر، وقيل ثلاثة عشر-على اختلاف الرواية-مات منهم أربعة: منهم إياس بن البكير الكنانى، وكليب بن قيس، فرمى عليه

رجل برنسا، فلمّا علم أنّه مأخوذ نحر نفسه، فقال عمر رضى الله عنه: مروا عبد الرحمن فليصلّ بالناس، فصلّى بهم صلاة خفيفة، فأمّا من وراءه فقد رأى ما رأى، وأمّا من كان فى نواحى المسجد فلا يدرون إلاّ أنهم فقدوا صوت عمر، وسمعوا سبحان الله، سبحان الله. ثم حمل عمر إلى بيته، ثم قال لابن عبّاس: انظر من قتلنى! فخرج ثم دخل، فقال: غلام المغيرة. فقال عمر: الصّناع؟ يعنى النجار، قال: نعم، قال: قاتله الله، لقد كنت أمرت به معروفا، الحمد لله الذى لم يجعل منّيتى بيد رجل يدّعى الإسلام، ثم قال لابن عبّاس: كنت وأبوك تريدان أن تكثر العلوج بالمدينة، فقال: إن شئت فعلناها، يعنى قتلناهم، فقال: أبعد ما تكلّموا (188) بلسانكم، وصلّوا صلاتكم، وحجّوا حجّكم؟ وكأنّ المسلمين لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ. ثم دعا عمر ابنه عبد الله فقال: يا بنىّ، أوص الخليفة من بعدى بتقوى الله عز وجلّ، والأخذ بكتاب الله تعالى، وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلم، وبالمهاجرين {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْاالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْااناً، وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ»} (1)، وأن يعرف لهم منزلتهم وكرامتهم وسابقتهم، وأوصه بالأنصار {الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ»} إلى قوله {فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»} (2)، وأوصه بالأعراب خيرا، فإنّهم شجرة العرب، ومادة الإسلام، أن يأخذ من أموالهم

صدقاتهم، يطهّرهم ويزكّيهم ويردّها على فقرائهم، وأوصه بأهل الأمصار خيرا، فإنّهم جباة الأموال، وردّ الإسلام، وأن لا يأخذ منهم إلاّ طاقتهم، ويقاتل من وراءهم، وأوصه بأهل ذمّة الله وذمّة رسوله خيرا، أن يفى لهم بعهدهم، إنّ هذا عهدى وأمرى إلى من وليّنه أمر الأمّة، وإنّى آمر أمراء الأمصار أن يفقّهوا من يليهم من المسلمين فى كتاب الله عزّ وجلّ. فقال ابن عبّاس: يا أمير المؤمنين، أبشر بثلاث خصال أكرمك الله عزّ وجلّ بهنّ، فقال: وما هنّ يا ابن عبّاس؟ قال: خلافتك كانت نصرا، ولقد ملأت الأرض عدلا، وإذا استرحمت رحمت، فقال: أتشهد لى بها يا ابن عبّاس؟ قال: نعم. ثم دخل علىّ عليه السّلام فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بكرامة الله، فقد كان إسلامك فتحا، وخلافتك نصرا، ولقد ملأت الأرض عدلا، وما اختلف فى ولايتك رجلان، فأعجبته هذه الكلمة، فقال: أتشهد لى بها عند ربّى؟ (189) قال: نعم. وروى أنّ ابن عبّاس قال له: أبشر يا أمير المؤمنين، أسلمت إذ كفروا، وجاهدت مع رسول الله إذ خذلوا، وتوفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو عنك راض، فقال عمر: المغرور والله من غررتموه، لو أنّ لى ما طلعت عليه الشمس لا فتديت به من هول المطلع، اذهب إلى عائشة فقل لها: إنّ عمر يقرئك السلام، ولا تقل أمير المؤمنين، فإنّى لست للمؤمنين اليوم بأمير، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فإن أذنت وإلاّ فادمنّى فى مقابر المسلمين، فأتاها فوجدها عند الباب تبكى، فأبلغها مقالة عمر، فقالت: رحم الله عمر، لقد كان مرتفعا فى حياته وعند موته، نعم، قد كنت ادّخرته لنفسى، فأنا أوثره على نفسى.

ثم جاء عبد الله فقال: قد أذنت لك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: الحمد لله، ما كان شئ أهمّ إلىّ من ذلك المضجع، يا عبد الله، إذا أنا مت فاحملنى على سريرى، ثم قف على الباب فقل يستأذن عمر بن الخطّاب، فإن أذنت فأدخلنى، وإن بدا لها فادفنّى فى مقابر المسلمين. ثم دعا عمر طبيبا من العرب فسقاه نبيذا، فشبّه النبيذ بالدم لما خرج من الطعنة، فدعى له آخر من الأنصار، فسقاه لبنا فخرج من الطعنة أبيض، فقال الطبيب: يا أمير المؤمنين اعهد عهدك فإنّك ميّت، فقال عمر: صدقنى أخو بنى معاوية، ولو قلت غير ذلك لكذّبتك. ولم يزل عمر منذ حمل إلى بيته فى غشية واحدة بعد واحدة من نزف الدم، أسفر، ثم أفاق، فقال: يا ابن عبّاس أصلّى الناس؟ قلت: نعم، قال: لا حظّ فى الإسلام لمن ترك الصلاة، ثم دعا بوضوء فتوضّأ وصلّى. ثم سمع هدّة بالباب، فقال: ما شأن الناس؟ قال ابن عبّاس: الناس يريدون الدخول عليك (190)، قال: ائذن لهم، فدخلوا فقالوا: استخلف علينا عثمان! فقال عمر: فكيف بحبّه المال والجاه؟ فخرجوا، ثم سمع هدّة فقال: ما شأن الناس؟ قال: إنّهم يريدون الدخول عليك، فأذن لهم، فدخلوا، فقالوا: استخلف علينا علىّ بن أبى طالب! فقال: إذا يحملكم على طريقة من الحقّ، فقال عبد الله بن عمر: فأكببت عليه ثم قلت: ما يمنعك منه؟ قال: أى بنىّ لا أتحمّلها حيّا وميّتا، وإن أستخلف فسنّة، وإن لم أستخلف فسنّة، توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم يستخلف، وتوفّى أبو بكر واستخلف، فقال عبد الله: فعلمت أنّه والله لن يعدل بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ثم قال عمر: ولا أعلم أحدا أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء الستّة الذين توفّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.

وروى أنه قال: إن أولّ عثمان أولّ رجلا صالحا فى نفسه، وأخف إيثاره قراباته بأن يغلبوه على رأيه، والله لو فعلت ليفعلنّ، وو الله لئن فعل ليفعلنّ، وإن أولّ عليّا أولّ شجاعا تقيّا، على دعابة فيه، وخليق أن يحملهم على طريقة صالحة، وإن أولّ الزبير أوّل لقسا شرسا شكسا، وإن أولّ طلحة أولّ ذا إباء وكبر، وإن أولّ عبد الرحمن أولّ رجلا ليّن الجانب، سلس القياد، وليس يصلح لهذا الأمر إلاّ شدّة فى غير عنف، ولين فى غير ضعف، وجود فى غير سرف، وإمساك فى غير بخل، ولكن أدعها شورى بين هؤلاء الستّة فيختار المسلمون لأنفسهم من شاءوا، ويدخل عبد الله بن عمر معهم، وليس له من الأمر شئ وإن استخلف سعدا فذاك، وإلاّ فأيّكم أستخلف فليستعن به، فإنّى لم أعزله عن عجز ولا خيانة، فقال سعيد بن زيد: لو عيّنت رجلا (191) ائتمنك الناس، قال: قد رأيت فى أصحابى حرصا سيئا، فقال المغيرة: فأين أنت عن عبد الله بن عمر؟ فقال: قاتلك الله، ما أردت الله بهذا؟ كيف أستخاف رجلا لم يحسن أن يطلّق امرأته. وتطاول عمرو بن العاص لأن يكون فى أهل الشورى، فقال له عمر: اطمئنّ كما وضعك الله، والله لا أجعل فيها من حمل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم سلاحا. ولمّا حضرته الوفاة قال لابنه عبد الله: ضع خدّى على الأرض! ثم قال: ويل لعمر إن لم يغفر الله له، ثم قال: يا بنىّ، ضع ركبتيك بين كتفىّ، وضع راحتك اليمنى على جبهتى، وراحتك اليسرى تحت ذقنى، وغمّض بصرى، وأحسن غسلى، وكفّنّى فى وتر من الثياب، ولا تغلوا فى كفنى، فإن يك ربّي راضيا عنّى فلن يرضى بثيابكم هذه حتى يكسونى من ثياب الجنّة، وإن يك ساخطا

فسيسلبنى سلبا سريعا ويلبسنى شرّ ثياب، وإذا حفرتم فاحفروا قدر مضجعى، فإن يك ربّى راضيا عنّى فسيوسّعه على مدّ بصرى، وإن يك ساخطا علىّ فسيضيّقه حتى تختلف أضلاعى، وإذا حملتمونى إلى حفرتى فأسرعوا بى المشى، فإنّما هو خير تقدمونى عليه، أو شرّ تضعونه عن رقابكم، ولا تمشينّ فى جنازتى امرأة، ولا تقم علىّ نائحة، ولا تزكّونى فربّى أعلم بى. فلمّا مات لم تصب المسلمين بعد نبيّهم مثلها. قال ابن عبّاس: لمّا وضع عمر على سريره، وقفت أنا وعبد الرحمن بن عوف فإذا رجل من خلفنا وقد وضع يده على منكبى، فالتفتّ فإذا علىّ، ففرّجت له بينى وبين عبد الرحمن، فقال: رحمك الله يا عمر، إنّى لأرجو أن يكون الله قد ألحقك بصاحبيك، فطالما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم (192) يقول: دخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر. ولما دفن عمر رحمه الله ورضى عنه جاء عبد الله بن سلام وقد فاتته الصلاة عليه، فوقف على قبره، وقال: جزاك الله عن الإسلام خيرا، فو الله لئن فاتتنى الصلاة عليك لما فاتنى حسن الثناء عليك، أما والله لقد علمت يقينا أنّك كنت سخيّا بالحقّ، بخيلا بالباطل، ترضى حين الرضى، وتسخط حين السخط، ليّنا حين ينفع اللين، شديدا حين تنفع الشدّة، ما كنت عيّابا ولا مزّاحا، كنت والله عفيف الطرف. ولمّا بلغ ابن مسعود موت عمر، وكان بمسجد الكوفة، طرح رداءه وقام يبكى، وقال: إذا ذكر الصالحون فحيّهلا بعمر، لقد كان إذا نحر الجزور أطعم ابن السبيل كبدها وسنامها، ويكون العنق لآل عمر، ولقد كان عمر حصنا

للإسلام وأهله، يدخل فيه الإسلام، ولا يخرج منه، فانثلم الحائط، فالإسلام اليوم يخرج منه ولا يدخل فيه. دخل علىّ عليه السّلام على عمر وهو مسجّى، فقال: ما أحد من الناس أحبّ أن ألقى الله عزّ وجلّ بمثل هذا المسجّى. وقالت عاتكة بنت زيد (1) ترثيه: فجعنى فيروز (2) … لا درّ درّه بأبيض تال للقران منيب عطوف على الأدنى غليظ على العدى … أخى ثقة فى النائبات نجيب فتى ما يقل لا يكذب القول فعله … سريع إلى الخيرات غير قطوب وروى أنه لما احتضر قال لولده: يا بنىّ احسب ما علىّ من الدين، فحسبه فوجده ستّة وثمانين ألف درهم، فقال: إن وفى بها مال وإلاّ فأوفها عنّى، وإن لم يف بها فأدّها بمنى من مال آل عمر (193) وإن لم تف بها أموالهم فسل فيها فى بنى عدىّ، فإن لم تف بها أموالهم فسل فيها قريشا ولا تعدهم إلى غيرهم. ولمّا مات صلّى عليه صهيب، ودفن مع صاحبيه، رضوان الله عليه. واجتمع أهل الشورى يتشاورون، فمكثوا يوما أو يومين سكوتا لا يبدون حرفا، كما يأتى ذكر ذلك عند خلافة عثمان رضى الله عنه.

ذكر أولاد عمر بن الخطاب رضى الله عنه

ذكر أولاد عمر بن الخطاب رضى الله عنه وهم: عبد الله بن عمر رضى الله عنه، يكنّى أبا عبد الرحمن، وكان بارع الفضل، مبرّزا فى الزهد، عرض عليه علىّ عليه السّلام ولاية الشام فأبى، وعرضت عليه الخلافة فأباها، ويقال إنّه أسلم قبل أبيه، وقيل أسلم أبوه قبله، ولم يشهد بدرا لأنّه كان صغيرا، وهو أوّل من بايع تحت الشجرة، وقيل إنّ أوّل من بايع أبو سنان الأسدىّ، ولم يقاتل فى الفتنة، وندم عند موته، وقال: لا آسى على شئ من أمر الدنيا إلاّ أنّى لم أقاتل مع علىّ الفئة الباغية. ولمّا مات عثمان دخل على عبد الله بن عمر مروان (1) فى جماعة، فقالوا: نبايع لك بالخلافة، فأبى وقال: كيف لى بالناس؟ فقالوا: تقاتلهم. [فقال: والله لو اجتمع علىّ أهل الأرض-إلاّ أهل فدك-ما قاتلتهم] (2)، فخرج مروان وهو يقول: والملك بعد أبى ليلى لمن غلبا. رأت حفصة أخته له رؤيا، فقصّتها على النبى صلّى الله عليه وسلم، فقال: «نعم الرجل أخوك، لو كان يكثر الصلاة من الليل»، فكان بعد ذلك أكثر الناس صلاة. استفتاه رجل من أهل العراق فى محرم قتل جرادة، وآخر فى محرم قتل نملة، وآخر فى محرم قتل قملة، فقال: وا عجبا لأهل العراق، يقتلون ابن بنت نبيّهم ويستفتون فى هذا!

وعاش عبد الله بن عمر إلى زمن الحجّاج بن يوسف، ويقال إنّه دسّ له رجلا، فسمّ زجّ رمحه، وجعله فى طريقه، فأصاب ظهر (194) قدمه، فدخل عليه الحجّاج يعوده، فقال: من أصابك؟ قال: أنت أصبتنى، قال: لا تقل هذا رحمك الله، قال: حملت السلاح فى بلد لم يحمل فيه قبلك. والحجّاج هو الذى صلّى على عبد الله بن عمر يوم مات، وقيل إنّ الحجّاج أخّر الصلاة يوما، فقال له ابن عمر: إنّ الشمس لا تنتظرك، فقال له الحجّاج: لقد هممت أن أضرب الذى فيه عيناك، فقال ابن عمر: إن تفعل فإنّك مسلّط سيفه، فعزّ ذلك على الحجّاج، فدسّ له حتى أصابه، وكان يتقدّم الحجّاج فى المناسك. وروى أنّه أسلم يوم أسلم أبوه وكان صغيرا، وشهد الخندق وما بعده، ومات سنة أربع وسبعين بمكّة، وله أربع وثمانون سنة، ومات بعد عبد الله ابن الزبير بشهرين أو ثلاثة. وكان عبد الله يضرب ولده على اللحن ولا يضربهم على الغلط فى القرآن. وممّا يتعلّق بذكر عبد الله بن عمر أنّ أمّ ولد لمروان كتبت إلى وكيلها بالمدينة أن اشتر لى غلاما كاتبا قارئا، عالما بالسنة، فصيح اللسان، عفيفا، فكتب إليها: قرأت كتابك، وطلبت لك غلاما على ما وصفت، فلم أجد إلاّ عبد الله ابن عمر بن الخطّاب، وقد رأى أهله ألا يبيعوه.

ومن كلامه رضى الله عنه

ومن كلامه رضى الله عنه لا يصيب الرجل حقيقة الإيمان حتى يترك المراء وهو محقّ، والكذب وهو مازح. وكان يقول: تعلموا أنسابكم تصلوا أرحامكم، فربّ رحم قطعت بجهل صاحبها بها. وقال ابن عمر لرجل يمازحه: إنّك تحبّ الفتنة، فوجم الرجل واغتمّ، فقال ابن عمر: ألست تحبّ المال والولد؟ قال الله تعالى: {أَنَّما أَمْاالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»} (1). مرّ ابن عمر بغلام يرعى غنما، فقال له: بعنى شاة، فقال: إنّى عبد مسترعى، فقال ابن عمر: فأين العلل؟ (195) يريد أن يعتلّ لأهلها بأنّ الذّئب أكلها، أو أنّها ضاعت، فقال له الغلام: فأين الله؟ فاشتراه عبد الله وأعتقه، فقال له الغلام: أسأل الذى رزقنى العتق الأصغر أن يعتقك العتق الأكبر. صلّى أشعب صلاة خفيفة فعابه عبد الله بن عمر، فقال أشعب: إنّها صلاة لم يخالطها رياء. كان ابن عمر لا يتخلّف عن السرايا فى حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا عن الحجّ فى أيّام الفتنة، قال ميمون بن مهران: ما رأيت أورع من ابن عمر، ولا أعلم من ابن عبّاس. ولعبد الله بن عمر أولاد؛ منهم سالم بن عبد الله بن عمر، يكنى أبا عمرو، وكان فقيها عابدا، مات بالمدينة، وصلّى عليه هشام بن عبد الملك، سنة ستّ ومائة، وقال هشام: ما أدرى أى الأمرين أسرّ به: أبتمام حجّى، أم بصلاتى على سالم.

ومن أولاد عمر رضى الله عنه

ومن أولاد عمر رضى الله عنه عبيد الله بن عمر، كان شديد البطش، وله أخبار بصفّين فى قتاله عليّا مع معاوية، ولمّا بويع لعلىّ بالخلافة هرب منه، وخاف أن يقيّده بالهرمزان، وسيأتى ذكر ذلك إن شاء الله تعالى. وكان مع معاوية، وكان معه سيف عمر رضى الله عنه، وهو ذو الوشاح، وسيأتى مصافاته عند ذكر حرب صفّين. ولمّا استمرّ القتل بصفّين، قال معاوية: من لربيعة؟ وكانوا يقاتلون مع علىّ قتالا شديدا أنكوا فيه (1)، فقال له عبيد الله بن عمر: أنا لهم إن أعطيتنى ما أسلك فيه، قال: سل! قال: الغمامة تصرفها معى، وهى كتيبة معاوية، وكان يقال لها الغمامة والخضراء والشهباء، فصرفها معاوية معه، فمال عبيد الله إلى فسطاطه ومعه بحريّة بنت هانئ بن قبيصة الشيبانى، فظاهر بين درعين. فقالت له زوجته: ما هذا؟ (196) قال: عبّأنى معاوية لقومك فى الغمامة، فما ظنّك؟ قالت: ظنّى أنّهم سيد عوننى أيّما منك، فقتل ذلك اليوم. فلمّا كان العشىّ وتراجع الناس، أقبلت بحريّة على بغلتها، وعليها خميصة سوداء، ومعها غلمة لها، حتى انتهت إلى ربيعة، فسلّمت، ثم قالت: يا معشر ربيعة، لا يخز الله هذه الوجوه، قالوا: من أنت؟ قالت: أنا بحريّة بنت هانئ، قالوا: مرحبا وأهلا وسهلا بسيّدة نسائنا، وابنة سيّدنا، ما حاجتك؟ قالت: جثّة عبيد الله بن عمر بن الخطّاب، قالوا: أذنّا لك فيها، وأشاروا إلى الناحية

التى صرع فيها، وكانت الريح هاجت عليهم، فقلعت أوتاد أبنيتهم، وإذا برجل من بنى حنيفة قد أوثق طنبا من أطناب خبائه برجل عبيد الله بن عمر وهو مسلوب، فلمّا رأته رمت خميصتها عليه، وأمرت غلمانها فحفروا له، ثم وارته. وكان الذى قتله سلبه سيفه، فلمّا تولّى الأمر معاوية أخذ السيف من قاتله، فردّه على آل عمر. وأمّا زيد أخو عمر رضى الله عنهما كان أسنّ من عمر، وأسلم قبل عمر، وشهد بدرا وأحد والخندق والمشاهد كلّها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وكان زيد صاحب الراية يوم اليمامة، وانكشف المسلمون، فجعل زيد يقول: اللهم إنّى أبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء وأعتذر إليك من فرار أصحابى، ثم تقدّم بالراية فضارب بسيفه، حتى قتل رحمه الله، ورقعت الراية فأخذها سالم مولى أبى حذيفة، فقال له المسلمون: يا سالم، إنّا نخاف أن نؤتى من قتلك، فقال: بئس حامل القرآن أنا إن أتيتم من قبلى. وقال عمر رضى الله عنه لمّا استشهد زيد رحمه الله: سبقنى إلى أخى الحسنيين، أسلم قبلى واستشهد قبلى. وكان (197) الذى قتل زيدا رجل يقال له أبو مريم الحنفى، فلمّا جاء إلى عمر، قال له: أقتلت أخى زيدا؟ فقال: أكرمه بيدى ولم يهنّى بيده. ولمّا شهد زيد بدرا مع عمر كان بينهما درع، فقال كلّ واحد لصاحبه: والله ما يلبسها غيرك، وكان ممّن ثبت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم أحد. وكان عمر يقول: ما هبّت صبا قطّ إلاّ ذكرت أخى زيدا (1)، وأقسم عمر

صفته رضى الله عنه

يوم أحد على زيد أن يلبس درعه، فلبسها زبد لقسمه، ثم نزعها، فسأله عمر، فقال زيد: أريد لنفسى ما تريد من الشهادة لنفسك. وذكر ابن قتيبة فى المعارف قال: مات زيد بن عمر بن الخطّاب وأمّه أمّ كلثوم فى ساعة واحدة، فلم يرث أحد منهما صاحبه، وصلّى عليهما عبد الله ابن عمر، فقدّم زيدا وأخّر أمّ كلثوم، فجرت السنة بتقديم الرجال (1). صفته رضى الله عنه كان طويلا، شديد الأدمة، أعسر يسرا (2)، أصلع، كثّ اللحية، ضخما يخضب بالحنّآء والكتم، وفى تأريخ أبى يعقوب أنّه كان كوسجا. كتّابه رضى الله عنه كتب له عثمان بن عفّان رضى الله عنه، وزيد بن ثابت الأنصارى، وربيعة ابن مخزم، والله أعلم. حاجبه رضى الله عنه [يرفأ] (3) مولاه. نقش خاتمه رضى الله عنه كفى بالموت واعظا، ويقال: آمنت بالذى خلقنى، وقال ابن عبّاس: الله المعين لمن صبر.

(198) ذكر سنة أربع وعشرين النيل المبارك فى هذه السنة

(198) ذكر سنة أربع وعشرين النيل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم ذراعان وأربعة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستّة أصابع. ذكر خلافة الإمام ذى النورين عثمان رضى الله عنه ونسبه وبعض سيرته أمّا نسبه رضى الله عنه فهو: أبو عمرو، وأبو عبد الله، وأبو ليلى، عثمان ابن عفّان بن أبى العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، يلقى النبى صلّى الله عليه وسلم فى عبد مناف. أمّه رضى الله عنه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وأمّها أمّ حكيم البيضاء بنت عبد المطّلب، يلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم هو والزبير ابن العوّام بأمّيهما فى عبد المطّلب؛ لأنّ أمّ الزبير صفيّة بنت عبد المطلب، وهما عمّتا رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وكانت أمّ حكيم البيضاء ترقّص عثمان فى صغره، وتقول: ظنّى به صدق وبر … فأمره فيأتمر من فئة بيض صبر … يحمون عورات الدّبر قال عثمان رضى الله عنه: قدمت من الشام، فلمّا كنت بموضع كذا إذا أنا بمناد ينادى: أيّها النوام هبّوا، إنّ أحمد قد خرج بمكّة، فلم يتمالك دون أن قدم حتى أتى النبى صلّى الله عليه وسلم، فأسلم. ولما أسلم أخذه الحكم بن العاص بن أميّة عمّه

فأوثقه رباطا، وقال: أترغب عن ملّة آبائك إلى دين محمّد، والله لا أحلّك حتى تدع ما أنت عليه، قال: والله لا أدعه أبدا، فلمّا رأى صلابته فى دينه تركه. وحلفت أمّه أروى ألاّ تأكل له طعاما، ولا تلبس له ثوبا، ولا تشرب له شرابا حتى يدع دين محمّد، وتحوّلت إلى بنت أختها فأقامت حولا، فلمّا يئست منه عادت إلى منزلها. وهاجر عثمان رضى الله عنه (199) الهجرتين إلى أرض الحبشة، فرارا من قريش، وكانت معه فى الهجرة الثانية زوجته رقيّة بنت النبى صلّى الله عليه وسلم، وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنهما لأول من هاجر إلى الله سبحانه بعد إبراهيم ولوط» (1) يريد قوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»} (2). وكان عثمان رضى الله عنه تاجرا فى الجاهليّة والإسلام، يدفع ماله قراضا، ولم يشهد عثمان بدرا بسبب مرض رقيّة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد تقدّم ذكر ذلك (3)، وتخلّف عثمان عن بيعة الرضوان، وكانت من أجله، وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وجّهه إلى مكّة فى أمر لا يقوم فيه غيره مقامه من صلح قريش، فأتاه صلّى الله عليه وسلم خبر كاذب بأنّ عثمان قتل، فجمع عليه السّلام أصحابه، وبايعهم على قتال أهل مكّة، وبايع عن عثمان، فضرب بإحدى يديه على الأخرى، وقال: «هذه لعثمان»، فكانت يد رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعثمان خيرا من يد عثمان لنفسه.

قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سألت ربّى ألاّ يدخل النار أحدا صاهرته أو صاهر إلىّ». نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى عثمان فقال: «هذا المؤمن التّقى الشهيد شبيه إبراهيم عليه السّلام». وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة. وكان علىّ كرّم الله وجهه يقول: كان عثمان أوصلنا للرحم، وكان من الذين آمنوا واتقّوا وأحسنوا، والله يحبّ المحسنين. وكان عثمان رضى الله عنه يتختّم فى يساره، ويشدّ أسنانه بالذهب، وكان به سلس البول، وكان يتوضّأ لكلّ صلاة، وكان بالليل يلى وضوءه بنفسه. وقال صلّى الله عليه وسلم: «أصدق أمّتى حياء عثمان» وقال صلّى الله عليه وسلم: (200) «أرحمكم أبو بكر، وأشدّكم فى الدين عمر، وأقرؤكم أبىّ، وأصدقكم حياء عثمان، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ، وأقضاكم علىّ، وأفرضكم زيد، ألا وإنّ لكلّ أمة أمينا، وأمين هذه الأمّة أبو عبيدة بن الجرّاح». تمارى عثمان والزبير فى شئ، فقال الزبير: يا ابن صفيّة، فقال عثمان: هى أدنتك من الظلّ، ولولاها كنت ضاحيا. واشترى عثمان بئر دومة، وكانت ركيّة (1) ليهودىّ، فاشترى نصفها باثنى عشر ألفا فجعلها للمسلمين، فاشتكى اليهودىّ، فقال له عثمان: إن شئت جعلت على نصيبك قربتين، وعلى نصيبك قربتين، وإن شئت فلى يوم ولك يوم، فقال اليهودى: لى يوم ولك يوم، فإذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم

ذكر نبذ مما جرى فى هذه الغزاة

ليومين، فلمّا رأى اليهودىّ قال: أفسدت علىّ ركيّتى، فاشترى النصف الآخر بثمانية آلاف وجعلها للمسلمين. وقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «من يزيد فى المسجد؟» فاشترى عثمان موضع خمس سوار، فزاده فى المسجد، وجهّز جيش العسرة فى غزاة تبوك. وروى أنّ عثمان رضى الله عنه حمل فى جيش العسرة على ألف بعير وسبعين فرسا، وأنفق فى جيش العسرة ألف دينار، فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «اللهمّ لا تنس هذا اليوم لعثمان، اللهمّ إنّى راض عن عثمان فارض عنه»، وكانت هذه الغزاة -وهى غزوة تبوك-فى رجب سنة تسع للجرة. ذكر نبذ مما جرى فى هذه الغزاة كان عليه السّلام قلمّا يخرج فى غزوة إلاّ كنى عنها، وأخبر أنّه يريد غيرها، إلاّ فى هذه الغزوة-وهى غزوة تبوك-فإنّه بيّنها لبعد المسافة، وشدّة الزّمان، وكثرة الروم، وأخبرهم أنّه يريد الروم (201) ليتأهّب الناس، وحضّ أهل الغنى واليسار على النفقة، فلم ينفق أحد من المسلمين ما أنفق عثمان رضى الله عنه، واعتذر إليه ناس من الأعراب، وفيهم أنزل الله تعالى: {وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ»} الآية (1) ولم يعذرهم الله، وتخلّف رجال من المسلمين من غير شكّ ولا نفاق، وعسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ثنيّة الوداع، وعسكر عبد الله بن أبىّ عسكره، أسفل منه، وكان عسكره ليس بأقلّ العسكرين، ثم تخلّف عنه عبد الله ابن أبىّ فيمن تخلّف من المنافقين.

وخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم على بن أبى طالب كرّم الله وجهه على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، فقال المنافقون: ما خلّفه إلاّ استثقالا له، وفى هذه الغزاة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا ترضى يا علىّ أن تكون منّى بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبىّ بعدى»، وذلك أنّ عليّا عليه السّلام لمّا بلغه أنّ المنافقين قالوا فى شأنه أنّ ما خلّفه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى المدينة إلاّ استثقالا له، أخذ سلاحه ثم خرج إليه وهو نازل بالجرف (1)، فقال: يا نبىّ الله، زعم المنافقون أنّك إنّما خلّفتنى استثقالا لى، فقال: «كذبوا، ولكنّى خلفتك لما تركت ورائى، فاخلفنى فى أهلى وأهلك»، ثم قال له ما قال. وتخلّف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ناس، فيقول أصحابه: يا رسول الله تخلّف فلان، فيقول عليه السّلام: «دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه. وتأخّر أبو ذرّ على بعير له، فلمّا أبطأ به أخذ متاعه فحعله على ظهره، ولحق برسول الله صلّى الله عليه وسلم ماشيا، فنظر رجل من المسلمين فقال: يا رسول الله، هذا رجل يمشى على الطريق، فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: «كن أبا ذرّ»، فلمّا تأمله القوم قالوا: هو والله أبو ذرّ، فقال عليه السّلام: «رحم الله أبا ذرّ، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده». وفى هذه الغزاة تخلّف ثلاثة من المسلمين، ولم يكونوا أهل نفاق، وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال ابن أميّة، قال كعب بن مالك:

لما تجهّز المسلمون جعلت أغدو وأروح ولا أتجهّز معهم وأقول: أنا قادر على الجهاد أىّ وقت شئت، ولمّا سار المسلمون غدوت لأتجهّز، وألحق برسول الله صلّى الله عليه وسلم. قال: فلم يزل ذلك دأبى حتى فرط الغزو، وكنت إذا مشيت فى النّاس بعد خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا أرى إلاّ رجلا مغموصا عليه فى النّفاق، أو معذورا بضعف أو زمانة، قال كعب: فلمّا بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم تبوك قال: «ما فعل كعب؟» فقال رجل: حبسه برداه، والنظر فى عطفيه، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلاّ خيرا، فسكت النبى صلّى الله عليه وسلم قال: فلمّا قفل عليه السّلام حضرنى شئ، فبقيت أتذكّر الكذب، وأقول ماذا يخرجنى من سخط رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا قدم، فلمّا أطلّ قادما راح عنّى الباطل، وعرفت أنّه لا ينجينى إلاّ الصدق، فلمّا دخل المسجد، وصلّى ركعتين جلس للناس، وجاء المخلّفون يعتذرون إليه، فقبل عذرهم وعلانيتهم وأيمانهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، واستغفر لهم. قال كعب: فجئت فسلّمت عليه، فتبسّم تبسّم المغضب، ثم قال: «ما خلّفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك؟» فقلت: يا رسول الله، لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنّى سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكنّى إن حدّثتك كذبا لترضينّ عنّى، وليوشكنّ الله أن يسخطك علىّ، ولئن حدّثتك الصدق لتجدنّ (1) علىّ، وإنّى [لأرجونّ [(2) الله وعقباى منه

(203) رضاك علىّ، لا والله، ما لى من عذر، وما كنت قطّ أقوى ولا أيسر منّى حين تخلّفت عنك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أمّا هذا فقد صدقت فيه، فقم حتى يحكم الله فيك»، فقمت، وسار معى رجال من قومى، فقالوا لى: لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إليه بما اعتذر المخلّفون، قال: فأردت أن أرجع فأكذّب نفسى، ثم قيل لى: إنّه قد قال رجلان من خيار المسلمين مثل مقالتك، وهما مرارة بن الربيع، وهلال بن أميّة، فتأسّيت بهما لصلاحهما، ثم نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كلامنا أيّها الثلاثة دون غيرنا، فاجتنبنا الناس وتغيّروا لنا، فأقمنا خمسين ليلة. قال كعب: فكنت أصلّى الصلوات مع المسلمين، وأطوف الأسواق، ولا يكلّمنى أحد، وأسلّم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأقول فى نفسى: هل حرّك شفتيه بردّ السلام أم لا؟ وأسارقه النظر، فينظر إلىّ إذا صلّيت، وإذا نظرت إليه أعرض عنّى، قال: فلمّا طال ذلك علىّ من جفوة المسلمين، كنت أغدو إلى السوق، فبينا أنا أمشى بالسوق إذا نبطىّ يسأل عنّى من نبط الشام، ممّن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلّ على كعب، فأشاروا إلىّ، فأتانى، فأعطانى كتابا من ملك غسّان، وكتبه فى سرقة حرير، يقول فيه: إنّ صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك، فقلت: هذا والله أشدّ طمع فىّ رجل مشرك، فعمدت إلى تنّور فسجرته. فلمّا مضت علىّ أربعون ليلة، أتانى أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أعتزل امرأتى، قال: فقلت: أطلّقها، قال: لا، بل لا يقربها، وأرسل إلى صاحبىّ بمثل ذلك، فقلت لا مرأتى: الحقى بأهلك، واستأذنت امرأة (204) هلال رسول الله صلّى الله عليه وسلم

فى هلال، وقالت: إنّه شيخ كبير ضائع، لا خادم له، أفأخدمه؟ فأذن لها، قال: فقيل لى: لو استأذنت أيضا فى امرأتك، فقلت: إنّ هلالا شيخ كبير، وأنا شابّ، فلمّا مضت خمسون ليلة صلّيت الصبح على ظهر بيت من بيوتنا، على الحال التى ذكر الله منّا، وهو قوله تعالى: {ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ»} (1) إذ سمعت صوتا يقول: يا كعب، أبشر! قال: فخررت ساجدا، وآذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم النّاس بتوبة الله عزّ وجلّ علينا حين صلّى الفجر، فذهب النّاس يبشروننا، وركض رجل إلى فرسه، وسعى آخر حتى أوفى على الخيل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فنزعت ثوبىّ، وكسوتهما لمن بشّرنى، وو الله لا أملك غيرهما، واستعرت غيرهما، فأتيت رسول الله، وتلقّانى الناس يبشّروننى بالتوبة، قال: فدخلت المسجد، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس، وحوله النّاس، فقام لى طلحة بن عبيد الله، فهنّأنى، فو الله ما قام إلىّ من المهاجرين رجل غيره. قال كعب: فقال لى رسول الله ووجهه يبرق من السرور: «أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك»، قال، فقلت: يا رسول الله، أمن عندك، أم من عند الله؟ فقال: «بل من عند الله»! قال كعب: فلمّا جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إنّ من توبتى أن أنخلع من مالى صدقة إلى الله وإلى رسوله، قال: «أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك»، قلت: إنّى ممسك سهمى

ومن مناقب عثمان رضى الله عنه

الذى بخيبر، وقلت: يا رسول الله، إنّ الله نجّانى بالصدق، وإنّ من توبتى ألاّ أحدّث إلاّ صدقا ما حييت. والله ما أعلم أحدا من الناس أبلاه الله فى صدق الحديث منذ ذكرت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أفضل (205) ممّا (1) أبلانى، والله ما تعمّدت من كذبة منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى يومى هذا، وإنّى لأرجو أن يحفظنى الله فيما بقى، وأنزل الله عزّ وجلّ: {لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ»} (2) الآية. ثم قال: «وعلى الثلاثة الذين خلّنوا»، إلى قوله: {وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ»} (3). وأنزل الله سبحانه فى الذين كذبوا: {سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا اِنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ، فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ، إِنَّهُمْ رِجْسٌ، وَمَأْااهُمْ جَهَنَّمُ، جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ، يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ، فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ»} (4). ومن مناقب عثمان رضى الله عنه قال ابن عمر رضى الله عنه: كنّا جلوسا أنا وأبو سعيد الخدرى ورافع بن خديج، فجاءنا غلام لعثمان بن عفّان، فقال: قوموا معى إلى أمير المؤمنين عثمان، فسلوه أن يكاتبنى، ففعلنا، فقال: إنّى شريته بخمسين ومائة، فإذا جاءنى بها

فهو حرّ، فأحضر المال، فقال له عثمان: أتذكر يوم عركت أذنك؟ قال: بلى يا سيّدى، قال: ألم أنهك أن تقول سيّدى، قم فخذ أذنى، فأبى، فلم يزل به حتى أخذ أذنه فعركها، وهو يقول شدّ، حتى إذا رأى أنّه قد بلغ منه قال: حسبك، أنت حرّ، والمال الذى أتيت به لك، والقصاص فى الدنيا أهون من القصاص فى الآخرة. وكان الحسن يقول، إذا ذكر قتل عثمان: عجبا، لهم أرزاق دارّة، وخير كثير، وذات بين حسن، ما على الأرض مؤمن يخاف مؤمنا إلاّ يودّ نصره وينصره ويألفه، فلو صبروا على الأثرة لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والأرزاق (206)، ولكن لم يصبروا، فسلّوا السيوف مع من سلّ، فصار عن الكفّار مغمدا وعلى المسلمين مسلولا إلى يوم القيامة. وذلك أنّ عثمان كان يقول: أيّها الناس، اغدوا على أعطياتكم، فيغدون فيأخذونها وافية، ثم يقول: أيّها الناس، اغدوا على أرزاقكم، فيأخذون السمن والعسل. وكان عثمان هيّنا ليّنا، إذا قام من اللّيل يتوضّأ لا يوقظ أحدا من أهله. قالت عائشة رضى الله عنها: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لرجل: «ادع لى بعض أصحابى، فقلت: هو أبو بكر؟ قال: لا! فقلت: فعمر؟ قال: لا! قلت: هو ابن عمّك؟ قال: لا! فقلت: عثمان؟ قال: نعم»! فأتاه فسارّه فى أذنه، ولون عثمان يتغيّر، فلمّا كان يوم الدار وحصر قيل له: ألا تقاتل؟ قال: لا! إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم عهد إلىّ عهدا وأنا صابر نفسى عليه.

وحفظ عثمان القرآن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. أتى عثمان رضى الله عنه منزل عائشة، فسأل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت: ذهب يبتغى لأهله قوتا، وإنّه ما أوقد فى أبياته نارا منذ سبعة أيّام، فقال: رحمك الله، أفلا أعلمتنى؟ فلمّا رجع بعث بطعام وشاة إلى بيت كلّ واحدة من نسائه، فلمّا رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «ما هذا يا عائشة؟»، قالت: بعث به عثمان قال: «ابعثى منه للنسوة»! قالت: ما منهنّ امرأة إلاّ أتاها مثل هذا. فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يديه، وقال: «اللهم لا تنسها لعثمان». وكان عثمان رضى الله عنه تاركا لكلّ ما يعاب عليه، كان له جليس يأنس به فحدّ فى الشراب، فقال له عثمان: لا تعد إلى مجلسى والخلوة معى، ما لم يكن معنا ثالث. وقال علىّ عليه السّلام وذكر عثمان: أما والله لقد سبقت له سوابق من الله عز وجل لا يعذّبه الله بعدها أبدا. دخل عثمان على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو (207) مضجع، فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالت عائشة رضى الله عنها: لم تفعل هذا بأبى بكر حين دخل، ولا بعمر، فقال: «إنّ عثمان شديد الحياء، ولو رآنى على تلك الحالة التى رآنى عليها أبو بكر وعمر لانقبض عن حاجته وقصّر عنها». ولما حجّ عمر رضى الله عنه فكان الحادى يحدو به ويقول: إنّ الأمير بعده ابن عفّان

فلمّا ولى عثمان وحجّ كان الحادى يحدو به ويقول: إنّ الأمير بعده علىّ … وفى الزبير خلف [رضىّ] (1) لمّا تزوّج عثمان نائلة بنت الفرافصة قال لها أبوها: إنّك تقدمين على نساء من قريش هنّ أقدر منك على العطر، فلا تغلبى عن الكحل والماء وتطهّرى، وأتت المدينة مع أخيها ضبّ بن الفرافصة، فقالت: [ألست ترى] (2) … يا ضبّ بالله أنّنى مصاحبة نحو المدينة أركبا نؤمّ أمير المؤمنين أخا التقى … وخير قريش منصبا ومراكبا ومهرها عثمان عشرة آلاف درهم، وأعطاها غلاما اسمه وكيسان (3) وامرأته فأعتقتهما نائلة. ولما أهديت نائلة إلى عثمان رضى الله عنه جلست على سرير، وجلس عثمان على سرير، فلمّا وضع عثمان قلنسوته بدت صلعته، قال لها: لا تكرهى ما ترين من الصلع، فإنّ وراءه ما تحبّين، فقالت: إنّى من نسوة أحبّ بعولتهنّ إليهنّ الشيخ السّيد (4)، فقال: إمّا أن تقومى إلىّ وإمّا أن أقوم إليك، فقالت: ما تجشّمته من مسافة السماوة أبعد من عرض هذا البيت، فلمّا جلست إليه مسح رأسها، ثم قال: اطرحى ملحفتك، ففعلت، ثم قال: اطرحى خمارك، ففعلت، ثم قال: اطرحى درعك، ففعلت، ثم قال: وإزارك، فقالت: أنت وذاك (208) فلم تزل عنده حتى قتل.

ذكر أمر الشورى وبيعة عثمان رضى الله عنه

ولمّا دخل أهل مصر لقتل عثمان رضى الله عنه، ضرب رجل منهم عجيزتها، فقالت: أشهد أنّك لفاسق، وأنّك لم تأت غضبا لله تعالى، ولا محاماة عن الدين، وضربه رجل بالسيف، فاتقته بيدها، فأصاب السيف إصبعين من أصابعها، كما يأتى ذكر ذلك فى موضعه إن شاء الله تعالى. وولدت نائلة لعثمان مريم، يزوّجها عمرو بن الوليد بن عقبة، وكانت سيّئة الخلق، وكانت تقول لزوجها: جئتك بردا وسلاما، فيقول: أفسد بردك وسلامك سوء خلقك. ولمّا خطب معاوية نائلة بنت الفرافصة بعد قتلة عثمان وألحّ عليها قالت: ما الذى قال يعجبه منّى؟ قالوا: ثغرك، فأخذت المرآة، ونظرت إلى ثغرها فرأته حسنا، فتناولت الفهر، وكسرت ثناياتهما، وقالت: لا يحتلبنكن أحد بعد عثمان، فلمّا بلغ معاوية ذلك أمسك عنها. ورثت فائلة عثمان، فقالت: وما لى لا أبكى وتبكى قرابتى … وقد نزعت عنا فضول أبا عمرو إذا جئته يوما ترجّى نواله … بدا لك من سيماه أبيض كالبدر ذكر أمر الشورى وبيعة عثمان رضى الله عنه لما طعن عمر رضى الله عنه استدعى عليّا، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقّاص فلمّا دخلوا لم يكلّم أحدا إلاّ عليّا وعثمان، فقال: يا علىّ، لعلّ هؤلاء سيعرفون قرابتك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم،

وصهرك، وما آتاك الله من الفقه والعلم، فإن وليت هذا الأمر فاتّق الله، ثم قال لعثمان: لعل هؤلاء يعرفون لك صهرك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإن وليت هذا الأمر فاتّق الله، ولا تحملنّ بنى معيط على رقاب الناس، ثم دعا صهيبا فقال (209) له: صلّ بالناس إلى أن يتّفقوا على إمام، فلمّا خرجوا قال عمر: إن وليها الأجلح (1) سلك بهم الطريق، فقال له ابنه: فما يمنعك منه يا أمير المؤمنين؟ قال: أكره أن أتحمّلها حيّا وميّتا. قال ابن عبّاس رضى الله عنه: قال لى عمر قبل أن يطعن: ما أدرى كيف أصنع بأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلم؟ قال: فقلت: استخلف عليهم! فقال: صاحبكم؟ قلت: نعم، لقرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسابقته وبلائه، فقال: إنّ فيه فكاهة، قلت: فأين أنت عن طلحة؟ قال: أين الزهو والنخوة؟ أنف فى السماء واست فى الماء، قلت: فعبد الرحمن بن عوف؟ قال: صالح على ضعف فيه، قلت: فسعد؟ قال: ذاك صاحب مقنب ومال، لا يقوم بقرية لو حمل أمرها، قلت: فالزبير؟ قال: مؤمن الرضا، كافر الغضب، شحيح، قلت: فأين أنت عن عثمان؟ قال: لو وليها لحمل بنى معيط على رقاب الناس، ولو فعلها لقتلوه. وكان طلحة غائبا فى أيّام الشورى، فبعثوا إليه من يستحثّه، فلم يحضر إلاّ بعد المبايعة لعثمان، فجلس فى بيته، وقال: أعلى مثلى يفتأت؟ فجاءه عثمان، فقال له طلحة: إن رددت الأمر تردّه؟ قال عثمان: نعم! قال: فأنا أمضيه، وبايعه.

ولمّا دفن عمر رضى الله عنه أمسك أصحاب الشورى، ولم يحدّثوا شيئا، ودفن عمر رحمه الله يوم الأحد، مستهلّ المحرّم من سنة أربع وعشرين، وهو اليوم الرابع من طعنه، وعمره يومئذ ثلاث وستّون سنة، وفيه خلاف. ولمّا اجتمعوا فى بيت المال أو فى دار المسوّر بن مخرمة، وحكموا عبد الرحمن ابن عوف على أن يخرج نفسه من الخلافة، أخذ بيد علىّ عليه السّلام وقال: عليك عهد الله وميثاقه إن بايعتك ألاّ تحمل بنى عبد المطّلب على رقاب الناس، ولتسيرنّ بسيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لا تحول عنها (210) ولا تغضى ولا تقصّر فى شئ منها! فقال علىّ عليه السّلام: لا آخذ عهد الله وميثاقه على ما لا أدركه ولا يدركه غيرى، من ذا يطيق سيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ ولكن أسير من سيرة رسول الله بما يبلغه الاجتهاد منّى، وبقدر علمى، فأرسل عبد الرحمن يده، ثم أخذ بيد عثمان، ثم استخلفه بالعهود والمواثيق ألاّ يحمل بنى أميّة على رقاب الناس وأن يسير بسيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر، ولا يخالف شيئا من ذلك، فحلف له، فقال علىّ عليه السّلام لعبد الرحمن: قد أعطاك أبو عبد الله الرضا، فشأنك فبايعه، فعاد وأخذ بيد علىّ عليه السلام، وعرض عليه ما كان عرضه، فقال على: الاجتهاد، فبويع لعثمان رضى الله عنه ليلة السبت ثالث المحرّم، وقيل: مستهلّ المحرّم وهو الصحيح، والله أعلم. وحجّ بالناس فى هذه السنة عبد الرحمن بن عوف بأمر عثمان، ثم حجّ عثمان فى خلافته كلّها عشر سنين، خلا السنة التى حوصر فيها، وهى سنة خمس وثلاثين وجّه عثمان عبد الله بن عبّاس فحجّ بالناس.

أول خطبة خطبها عثمان رضى الله عنه

أوّل خطبة خطبها عثمان رضى الله عنه لمّا بويع رضى الله عنه صعد المنبر فقال بعد أن حمد الله وصلّى على النبى صلّى الله عليه وسلم: أيّها الناس، إنّ أوّل كلّ مركب صعب، وإنّ بعد اليوم أيّاما، وإن أعش فستأتيكم الخطبة على وجهها، فما كنّا خطباء، وسيعلّمنا الله، وكان من قضاء الله تعالى أنّ عبيد الله بن عمر أصاب الهرمزان من المسلمين، ولا وارث له إلاّ المسلمون عامّة، وأنا إمامكم، وقد عفوت عنه، فتعفون؟ قالوا: نعم، فقال علىّ: لقد فسق، فإنّه أتى عظيما، قتل مسلما بلا ذنب. وقال لعبيد الله: يا فاسق، لئن ظفرت بك يوما لأقتلنّك بالهرمزان، (211) وروى أنه لما أعطى عثمان رضى الله عنه من العهد لعبد الرحمن ما أعطى، وبايعه عبد الرحمن، قال الزبير: نفعت الختونة يا ابن عوف، لأنّ محمّد بن عبد الرحمن بن عوف تزوّج ابنة عثمان، فقال عبد الرحمن: كلاّ، ولكنّى وجدته أرضى فى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم منك. وكان سبب قتله (1) الهرمزان أنّ عبد الرحمن بن أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه قال: مررت على قاتل عمر أبى لؤلؤة، ومعه الهرمزان وجفينة، وهم نجّى، فلمّا بغتّهم ثاروا، فسقط من بينهم خنجر له رأسان، ونصابه فى وسطه، فانظروا الخنجر الذى قتل به عمر، فنظروه على النعت الذى نعته عبد الرحمن، فانطلق عبيد الله بن عمر حين سمع ذلك، ومعه السيف، فدعا الهرمزان، فلمّا خرج إليه

قال له: انطلق معى حتى أنظر إلى فرس، وتأخّر عنه، فلمّا تقدّمه علاه بالسّيف، ووجد حرّ السيف، قال: لا والله! وقيل إنّه قال: لا إله إلاّ الله. ثم أتى جفينة فدعاه، فلمّا جاءه علاه بالسيف، وكان جفينة نصرانيّا من نجران، وكان ظئرا لسعد بن أبى وقّاص، فأقدمه المدينة، فعلاه عبيد الله بالسيف فصلّب بين عينيه، ثم انطلق عبيد الله فقتل ابنة لأبى لؤلؤة، وأراد عبيد الله يومئذ لا يترك سبيّا بالمدينة إلا قتله، فاجتمع المهاجرون وتوعدوه، فقال: والله لأقتلنّهم وغيرهم، وعرض ببعض المهاجرين، فلم يزل عمرو بن العاص به حتى أخذ السيف منه، فلمّا أخذ منه السيف جاءه سعد بن أبى وقّاص، فأخذ كلّ واحد منهما برأس صاحبه، حتى حجز الناس بينهما، وجاء إليه عثمان بن عفّان، وذلك قبل أن يبايع له فى أيّام الشورى، فكلّمه، وأخذ كلّ واحد منهما برأس صاحبه، حتى حجز الناس بينها. ولما تقابل عثمان رضى الله عنه وعبيد الله بن عمر قال عثمان له: لعمرى لقد أصبحت تهذر دائبا … وغالت أسود الأرض عنك الغوائل فقال عبيد الله: وما أنا باللحم الغريض تسوغه … فكل من خشاش الأرض إن كنت آكلا فلما بويع عثمان قال: أشيروا علىّ فى قتل هذا الذى فتق (212) فى الدين فتقا، فأشار المهاجرون بقتله، وشجّعوا عثمان على ذلك، وقال آخرون: أبعد الله الهرمزان وجفينة، أتريدون أن تتبعوا عبيد الله أباه، ليس بالجزاء منكم، وكثر القول، وكادت تكون فتنة، فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين إنّ هذا

الأمر كان فى فترة ولم يكن فى سلطانك، فأعرض عنه، ففرّق الناس كلمة عمرو ابن العاص، وودى (1) عثمان الرجلين والجارية، وكانت حفصة ممّن شجّع عثمان على قتل أخيها عبيد الله، وكان أشدّ الناس فى أمر عبيد الله علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه، قال: اقتلوه به، فإنّ الهرمزان قد كان أسلم وحجّ، وليس للولىّ أن يعفو عن القاتل، وإنّما يدعو الولى إذا رفع إليه، فإن شاء عفا. وكان عمر قد أوصى إلى حفصة زوج النبى صلّى الله عليه وسلم، فإن ماتت فإلى الأكبر من ولد عمر وآله. وكانت وصيّته بالربع، وقال لولده عبد الله: اضمن للمسلمين ما استسلفته من بيت مالهم، فلم يدفن عمر حتى أشهد بها عبد الله على نفسه أصحاب الشورى وغيرهم، ولم تمض جمعة من موت عمر حتى جعل عبد الله على المال الذى ضمنه عن عمر أبيه فى بيت المال، وأشهد على براءته منه، وسمع عمر رضى الله عنه حفصة تندبه وتقول: يا صاحب رسول الله، يا أمير المؤمنين، فقال: أى بنيّة، إنّى أجرح عليك بمالى عليك من الحقّ أن لا تندبينى بعد مجلسك هذا، فأمّا عيناك فلن تملكيهما، قالت عائشة رضى الله عنها: لمّا دفن عمر فى بيتى لم أضع خمارى عن رأسى، ولم أزل متحفّظة حتى بنيت بينى وبينه جدارا، وأوصى عمر رضى الله عنه عند موته أبا طلحة، وقال له: كن فى خمسين من أصحابك من الأنصار، مع هؤلاء النفر أهل الشورى، وقم على باب البيت الذى يجتمعون (213) فيه، ولا تترك أحدا يدخل معهم فيه، ولا يمض عليهم اليوم الثالث حتى يؤمّروا عليهم أحدهم، الّلهمّ أنت خليفتى عليهم.

ذكر خطبة عثمان بعد تلك الأولى

وكانت خلافة عمر رضى الله عنه عشر سنين، وخمسة أشهر، وإحدى عشرة (1) ليلة من ولاية أبى بكر رضى الله عنه، واستقبل عثمان رضى الله عنه ولايته غرّة المحرّم، سنة أربع وعشر بن للهجرة النبويّة على صاحبها أفضل الصّلاة والسّلام. ولمّا وضع نعش عمر ليصلّى عليه، أقبل علىّ وعثمان رضى الله عنهما ويد كلّ واحد منهما فى يد صاحبه، فقال عبد الرحمن بن عوف: أيريد كلّ منكما أن يصلّى إماما إنّ هذا لحرص على الإمارة، قد أمّر غيركما، قم يا صهيب، فقام فكبّر عليه أربعا وصلّى عليه فى المسجد (1). ولمّا سقط الحائط على قبر النبى صلّى الله عليه وسلم زمن الوليد بن عبد الملك، وأخذ فى بنائه، بدت لهم قدم ففزعوا، وظنّوا أنّها قدم النبى صلّى الله عليه وسلم، فقال عروة بن الزبير: والله ما هى قدم النبى صلّى الله عليه وسلم، وإنّما هى قدم عمر بن الخطّاب رضى الله عنه. ذكر خطبة عثمان بعد تلك الأولى الحمد لله الذى هدانا للإسلام، وأكرمنا بمحمّد عليه السلام، أمّا بعد، أيّها الناس، فاتّقوا الله فى سرّ أمركم وعلانيته، وكونوا أعوانا على البر والصّلة، ولا يكن إخوان العلانية أعداء السرّ، فإنّا قد كنّا نحذر أولئك، من رأى منكم منكرا فليغيّره، وإن لم تكن له قوّة فليرفعه إلىّ، وكفّوا سفهاءكم، فإنّ السفيه إذا قمع انقمع، وإذا ترك تتابع. إنّى وليت أمركم، فأستعين بالله، ولو كنت بمعزل عن الأمر لكان خيرا لى وأسلم، مضى صاحباى وهما لى سلف وقدوة، (214) وإنّما أنا متّبع.

ذكر سنة خمس وعشرين النيل المبارك فى هذه السنة

وكان عثمان رضى الله عنه أحبّ إلى قريش من عمر، لشدّة عمر رضى الله عنه ولين عثمان ورفقه بهم. قال الفرزدق: صلّى صهيب ثلاثا ثم أنزلها … على ابن عفّان ملكا غير مقسور وصيّة من أبى حفص لسنّتهم … كانوا أخلاّء مهدىّ ومأمور وفى هذه السّنة، وهى سنة أربع وعشرين، فتحت نيسابور على يد عثمان ابن أبى العاص الثقفى. وفيها ماتت أم أيمن رضى الله عنها حاضنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهى التى أمست دون الروحاء لمّا هاجرت، فاشتدّ بها العطش، فدلّى عليها من السماء دلو برشاء أبيض، فشربته فكانت تقول: ما عطشت بعدها مع صومى فى الهواجر. ذكر سنة خمس وعشرين النيل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم تسعة أذرع واثنا عشر إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع. ما لخّص من الحوادث الإمام عثمان رضى الله عنه أمير المؤمنين بالمدينة، وقد استقرّ بعمّال عمر رضى الله عنه على أعمالهم، بوصيّة من عمر أن يستقرّ بعمّاله سنة بعده، ثم له الخيار فيمن يعزله وفيمن يستأمره، وأن يولّى سعد بن أبى وقّاص الكوفة، وأن يقرّ أبا موسى الأشعرى على البصرة.

فلمّا ولى عثمان عزل المغيرة، وولّى سعدا الكوفة سنة ثم عزله، وولّى أخاه لأمّه الوليد بن عقبة بن أبى معيط، كما يأتى ذكر ذلك فى موضعه إن شاء الله تعالى. وفيها عزل عمرو بن العاص عن مصر، وولاّها عبد الله بن أبى سرح. وفيها ضمّ حمص وقنسرين وفلسطين إلى معاوية بن أبى سفيان. وفيها ولد يزيد بن معاوية بن أبى سفيان. وفيها نقض أهل الإسكندرية عهدهم، فغزاهم عمرو بن العاص قبل عزله، وقتلهم قتلا ذريعا. وفيها (215) غزا الوليد بن عقبة آذربيجان، وبعث سليمان بن ربيعة إلى أرمينية، فغنم وسلم. وفيها غزا معاوية الروم، فبلغ عموريّة ووجد الحصون بين أنطاكية وطرسوس خالية، فجعل فيها جماعة من أهل الشام والجزيرة. وفيها سيّر عبد الله بن أبى سرح عمرو بن العاص إلى بلاد إفريقية. وفيها أرسل عثمان رضى الله عنه عبد الله بن عامر إلى كابل، وهى عمالة سجستان. وفيها توفّى ابن أم مكتوم، وهو أوّل من هاجر إلى المدينة المنوّرة وكان يؤذّن مع بلال، وفيه نزلت: {عَبَسَ وَتَوَلّى»} (1)، ولما نزلت: {لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ»}، قال: ربّ إنّا أولو ضرر، فأنزل: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ»} (2)،

ذكر سنة ست وعشرين النيل المبارك فى هذه السنة

وكان يغزو ويقول: ادفعوا إلىّ اللواء فإنّى لا أقرّ، وشهد القادسيّة ومعه راية سوداء. ذكر سنة ستّ وعشرين النّيل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الإمام عثمان رضى الله عنه أمير المؤمنين بالمدينة، وعبد الله بن أبى سرح بمصر، والقاضى بها عثمان بن قيس بحاله. وفيها فتحت إفريقية وما معها، وكان مروان بن الحكم فى فتحها، فابتاع خمس المغانم بمائتى ألف دينار، أو بمائة ألف دينار، وكلّم عثمان فوهبها له، وأعطى سعيد بن العاص مائة ألف، فدخل عليه علىّ، والزبير، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، رضوان الله عليهم، وكلّموه فى ذلك، وأن أبا بكر وعمر لم يفعلاه، فقال عثمان رضى الله عنه: إنّ أبا بكر وعمر كانا يتأوّلان فى (216) هذا المال، كلّفا أنفسهما وذوى أرحامهما، وإنّى تأوّلت فيه صلة رحمى، فقالوا: أما كان لأبى بكر وعمر قرابة وذوو رحم؟ فقال: بلى، ولكن كانا يحتسبان فى منع قرابتهما، وأنا أحتسب فى إعطاء قرابتى! قالوا: فهديهما كان أحبّ إلينا من هديك، فقال عثمان: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلىّ العظيم، فكان ذلك أوّل التغيّر عليه.

ذكر سنة سبع وعشرين النيل المبارك فى هذه السنة

وفيها تزوّج عثمان بنت خالد بن أسد، وزاد فى المسجد ووسّعه. وفيها توفّيت حفصة بنت عمر، زوج النبى صلّى الله عليه وسلم، مع خلاف فيه. ذكر سنة سبع وعشرين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الإمام عثمان رضى الله عنه، أمير المؤمنين بالمدينة، والعمّال بحالهم، وعبد الله ابن أبى سرح على مصر، وكذلك [قيس بن العاص] (1) بحاله. وقيل فى هذه السّنة كان فتح الأندلس، فتحها عثمان بن عبد الله بن الحصين من قبل عبد الله بن أبى سرح، واجتمع أهل إفريقية إلى عبد الله بن أبى سرح، وسألوه أن يأخذ منهم ثلاثمائة قنطار ذهبا، على أن يكفّ عنهم، ففعل، وقبل منهم. وكان المسلمون عشرين ألفا، وبلغ الفارس منهم ثلاثة آلاف دينار، والراجل ألف دينار، واشترى مروان الخمس، حسبما تقدّم من الكلام.

وفيها كانت غزاة معاوية بن أبى سفيان قبرص فى البحر، ومعه فاضة زوجته، وكان معه أمّ حرام الأنصاريّة، التى أخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنّها أوّل من يغزو فى البحر، كانت مع زوجها عبادة بن الصامت، وتوفّيت (217) هناك، وقبرها تستسقى به أهل قبرص فيسقوا. وقيل إنّ عثمان رضى الله عنه أوى الحكم بن [أبى] (1) العاص بن أميّة، وردّه إلى المدينة فى هذه السنة، وكان ممّن يؤذى سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويحكى مشيته، فاطّلع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو فى بعض حجر نسائه، فخرج إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعنزة، وقال: عذيرى من هذا الوزغة اللعين، ثم قال له: لا تساكنّى أنت ولا ولدك، فغرّبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الطائف، فهو الطريد (2)، فيقال: إنّ عثمان كان استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى ردّهم، فلمّا ردّهم أنكر الناس ذلك من فعل عثمان، وهو ممّا نقموا عليه. وفيها أيضا ولّى الوليد بن عقبة بن أبى معيط الكوفة، فلمّا قدم قال له سعد (3): يا أبا وهب، أمير أنت أم مأمور؟ قال: أمير! فقال سعد: ما أدرى أحمقت بعدك أم كست بعدى؟ قال: ما حمقت ولا كست، ولكنّ القوم ملكوا فاستأثروا، فقال سعد: ما أراك إلاّ صادقا، فأنكر الناس أيضا ذلك على عثمان، حتى قال بعضهم، وهو يزيد بن قيس الأحبى ومعقل بن قيس [الرّياحىّ] (4): لقد أراد عثمان كرامة أخيه بهوان أمّة محمّد.

ولمّا فعل الوليد فى الصلاة ما فعل جاء رجال إلى عثمان فأخبروه، فاستقدمه فقدم. وكانا الذى شهد عليه بما صنع زهير بن عوف الأزدى، ورجل من بنى أسد، وكان قد قصدا غرّته، فتفقّداه فى صلاة العصر فلم يرياه، فانطلقا إلى بابه ليدخلا عليه فمنعهما البوّاب، فأعطياه دينارا، ودخلا عليه، فإذا هو سكران لا يعقل، فحملاه ووضعاه فى سريره، فقاء خمرا، وانتزع زهير خاتمه من يده، ومضيا إلى عثمان (218) فأخبراه، فاستشار عثمان عليّا، فقال: أرى أن تشخصه إليك، فإذا شهد عليه وجهه [و] (1) حدّده (2)، فلمّا قدم أمر عثمان بجلده، فلم يقم أحد، فقام علىّ كرّم الله وجهه فجلده بدرّة يقال لها السبتية، لها رأسان، فضربه أربعين، فذلك ثمانون، ويقال إنّه لم يكن بسيرة الوليد بأس، ولكنّه كان مسرفا على نفسه. وفى الوليد قال الحطيئة: شهد الحطيئة حين يلقى ربّه … أنّ الوليد أحق بالعذر نادى وقد تمت (3) … صلاتهم لأزيدكم ثملا وما يدرى ليزيدهم خيرا ولو قبلوا … منه لزادهم على عشر فأبوا أبا وهب ولو فعلوا … لقرنت بين الشّفع والوتر حبسوا عنانك إذ جريت ولو … حلّوا عنانك لم تزل تجرى وذلك أنه كان صلّى بالناس صلاة فزاد فيها، ثم التفت إليهم وقال:

ذكر سنة ثمان وعشرين النيل المبارك فى هذه السنة

أتحبّون أن أزيدكم؟ وكان ثملا، وولّى عثمان بعد الوليد سعيد بن العاص، فغسل المنبر ودار الإمارة. ذكر سنة ثمان وعشرين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وثمانية عشر إصبعا، مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا فقط. ما لخّص من الحوادث الإمام عثمان رضى الله عنه أمير المؤمنين بالمدينة، والأمراء العمّال كذلك، وعبد الله بن أبى سرح بمصر والقاضى ابن قيس بحالهما. وفيها قدم عبد الله بن الزبير على عثمان بفتح إفريقية وما يليها. وفيها تزوّج عثمان نائلة بنت الفرافصة، وكانت نصرانيّة وأسلمت، وقد تقدّم خبرها. (219) وفيها حمى عثمان رضى الله عنه الحمى، وهو البقيع، لخيل المسلمين، وكان يحمل كلّ سنة على خمسمائة فرس وألف بعير، فأنكر الناس عليه الحمى، وأنكروا عليه ما أعطاه زيد بن ثابت مائة ألف درهم من ألف ألف حملها أبو موسى الأشعرى، قال أسلم بن أوس الساعدى، ويقال بل قالها عبد الرحمن ابن حنبل، أخو كلدة، فى عثمان رضى الله عنه: أقسم بالله جهد اليمين … ما ترك الله خلقا سدى

ذكر سنة تسع وعشرين النيل المبارك فى هذه السنة

دعوت الّلعين (1) … فأدنيته خلافا لسنّة من قد مضى وأعطيت مروان خمس العبا … د ظلما لهم وحميت الحمى وما أتاك به الأشعرى … من الفئ أنهبته من ترى فأما الأمينان إذ بينا … منار الطّريق عليه الهدى فما أخذا درهما غيلة … ولم يصرفا درهما فى هوى وهذا القول مردود عليه لأنّ للإمام أن يتصرّف فى مال الله تعالى بالاجتهاد، ولو أخطأ-والعياذ بالله-لم يجز فى شرع الدين الخروج عليه ولا عناده، وأمّا حمى عثمان رضى الله عنه فإنّما فعل ذلك بخيل المسلمين التى يجاهدون عليها، وإبلهم، وهو حمى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال أكثر أهل العلم إنّه يجوز ذلك، والله أعلم. ذكر سنة تسع وعشرين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وستة عشر إصبعا، مبلغ الزّيادة ستة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الإمام عثمان رضى الله عنه أمير المؤمنين بالمدينة، وفيها تغيرت (220) أناس من ولاة الأنصار، عزل أبا موسى الأشعرى عن البصرة، وولّى عبد الله بن عامر ابن [كريز (2)]، وجمع له جند عثمان بن [أبى] (3) العاص الثقفى وعمان والبحرين،

واستعمل على خراسان عمير بن عثمان بن سعد، وعلى سجستان عبد الله بن [عمير] (1) الليثى، وألحق بكل واحد من هؤلاء عدّة أعمال. وبعث إلى الأهواز وفارس عند ما نكثوا [عبيد الله] (2) بن معمر، فسار إليهم، والتقوا على باب إصطخر، فقتل عبيد الله وانهزم المسلمون، فسار عبد الله ابن عامر بن كريز من البصرة، فاقتتلوا، وانهزم الفرس، وفتحت خوزستان (3). وفيها رجم عثمان رضى الله عنه امرأة من حنيفة أدخلت على زوجها فولدت لستّة أشهر، فقال علىّ عليه السّلام: إنّ الله يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً»} (4) وقال فى الرضاع: {حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ»} (5)، فالرضاع أربعة وعشرون، والحمل ستّة أشهر، فبعث بردّها، وجدها رجمت. وفى هذه السنة ظهر الطعن على عثمان رضى الله عنه وتكاتب الناس فيه، وبلغ عثمان ذلك فخرج متوكّئا على مروان وهو يقول: إنّ لكلّ شئ آفة، ولكلّ نعمة عاهة، وإنّ آفة هذه الأمّة، وعاهة هذه النعمة، عيّابون طعّانون، يظهرون ما تحبّون، ويسترون ما تكرهون، طغام مثل النعام، ينعقون أوّل ناعق وأحبّ مواردهم إليهم الكذب، أما والله لقد نقموا على ابن الخطّاب فقمعهم ومنعهم، ونعم الله أنا أعزّ ناصرا، وأكثر عددا، فما لى لا أفعل فى الحق ما أشاء، فقال مروان: إنّه لا يحكم بينك وبينهم إلاّ السيف، فقال عثمان: اسكت فلست من أهله.

ذكر سنة ثلاثين للهجرة النبوية النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثلاثين للهجرة النبويّة النيل المبارك فى هذه السّنة: (221) الماء القديم أربعة أذرع وستّة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا، وواحد وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الإمام عثمان رضى الله عنه أمير المؤمنين بالمدينة، والولاة بالأمصار حسبما تقدّم من ذكرهم فى السنة الخالية. فيها سقط خاتم النبى صلّى الله عليه وسلم من يد عثمان فى بئر أريس، وكانت قليلة الماء، فنزحت فلم يوجد. وفيها [أخذ] (1) عثمان رضى الله عنه من حفصة الصحف التى كتبت أيّام عمر، وأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن ابن الحارث أن ينسخوها فى المصاحف، وقال عثمان: إذا اختلفتم فاكتبوا بلسان قريش (2)، فلمّا كتبوا ردّ الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كلّ مصر بمصحف وحرق ما سواه.

ذكر سنة إحدى وثلاثين النيل المبارك فى هذه السنة

وفيها ذكر عن أبى ذرّ ما ذكر، فأشخصه معاوية من الشام، وخرج أبو ذرّ وسكن الربذة. وفيها مات أبىّ بن كعب رحمه الله وكان أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يقرأ القرآن عليه. وفيها دخل علىّ كرم الله وجهه على عثمان رضى الله عنه فخلا به، وجعل عثمان يعاتبه، وعلىّ عليه السّلام مطرق، فقال: ما لك لا تقول؟ فقال: إن قلت لم أقل إلاّ ما تكره، وليس لك عندى إلاّ ما تحبّ. ذكر سنة إحدى وثلاثين النيل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا، واثنا عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الإمام عثمان رضى الله عنه أمير المؤمنين بالمدينة، والولاة بالأمصار حسبما تقدّم. فيها كانت غزاة [الأساودة] (1)، وقتل يزدجرد، وسار ابن [عامر] (2) (222) إلى خراسان وفتحها ثانية.

ذكر سنة اثنتين وثلاثين النيل المبارك فى هذه السنة

وفيها خرج قسطنطين بن هرقل فى خمسمائة مركب فقهره المسلمون، فمضى فى مركب واحد إلى صقلّيّة، فسأله أهلها عن حالهم، فأخبرهم، فقالوا: هلكت النصرانيّة، ثم أدخلوه الحمام فقتلوه بها. وفيها مات أبو الدرداء، وعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنهما، وأبو سفيان ابن حرب، وقد ذهب بصره، وعبد الله بن زيد، وهو الذى رأى الأدان (1)، رحمة الله عليهم أجمعين. ذكر سنة اثنتين وثلاثين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وتسعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الإمام عثمان رضى الله عنه أمير المؤمنين بالمدينة، وولاة الأمصار بحالهم. فيها كانت غزاة معاوية بن أبى سفيان [مضيق] (2) القسطنطينيّة، وبصحبته زوجته عاتكة. وفيها مات العبّاس رضى الله عنه، وكان قد كفّ بصره، ودفن بالبقيع،

وله ثمان وثمانون سنة، وكان إذا مرّ بعمر أو بعثمان وهما راكبان ترجّلا إجلالا له. وفيها مات كعب الأحبار رحمه الله. وفيها مات سلمان الفارسىّ رضى الله عنه، ولمّا اشتدّ مرضه قال لزوجته: آتينى بالصرّة المسك، التى وجدتها يوم جلولاء، غرستها فى ماء ونضحتها حوله، وقال: ألا يأتينى زوّار، فيجدون الريح طيّبا ولا يأكلون (1)، ومات وهو ابن مائتى سنة وخمسين سنة (2)، رحمه الله تعالى. وفيها مات أبو ذرّ الغفارىّ رضى الله عنه، وكان أمر ابنته أن تذبح شاة وتطبخها، وقال: إذا جاء الذين يدفنوننى فإنّهم قوم صالحون، [فقولى (3)] لهم: أبى يقسم عليكم-وهو أبو ذرّ-أن لا (223) تركبوا حتى تأكلوا، فلمّا نضجت قدرها قال: انظرى هل ترين أحدا؟ قالت: ركب، قال: استقبلينى (4) الكعبة، ففعلت، فقال: بسم الله، وبالله، وعلى ملّة رسول الله، ثم مات، رضى الله عنه، فخرجت ابنته فتلقّتهم، وقالت: رحمكم الله، اشهدوا أبا ذر! فقالوا: نعم، وكرامة! وكان فيهم ابن مسعود، فبكى، وقال: صدق

ذكر سنة ثلاث وثلاثين النيل المبارك فى هذه السنة

رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يموت وحده ويبعث وحده». فغسلوه وكفّنوه، وصلّوا عليه ودفنوه، وحملوا أهله معهم إلى المدينة (1)، ودفن بالربذة، ولا عقب له. ذكر سنة ثلاث وثلاثين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا فقط. ما لخص من الحوادث الإمام عثمان رضى الله عنه أمير المؤمنين بالمدينة، وولاة الأمصار بحالهم حسبما تقدّم. فيها غزا ابن أبى سرح الحبشة، وغزا عبد الله بن سعد إفريقية ثانية حين نقض أهلها، وغزا معاوية حصن المرأة (2). وفيها حضر أهل مصر يتظلّمون من ابن أبى سرح، فكتب إليه عثمان رضى الله عنه ينهاه ويتهدّده، فلم ينزع، وضرب بعض من شكاه حتى قتله، فقدم المدينة على عثمان سبعمائة، فنزلوا المسجد، وشكوا ما صنع بهم ابن أبى سرح إلى أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فكلّمه طلحة فيهم، وأرسلت إليه عائشة أن ينصفهم من عامله، ودخل عليه علىّ بن أبى طلب كرّم الله وجهه فى جماعة فقال: إنّما يسألك القوم رجلا مكان رجل، وقد ادّعوا دما، فاعزله

ذكر سنة أربع وثلاثون النيل المبارك فى هذه السنة

واقتصّ لهم منه (224) إن وجب لهم عليه حقّا بما يقتضيه القضاء، فقال لهم: اختاروا رجلا أولّه عليكم، فاختاروا محمّد بن أبى بكر الصدّيق، فكتب عهده على مصر، ووجّه معهم عدّة من المهاجرين والأنصار، ينظرون فيما بين ابن أبى سرج وأهل مصر. ذكر سنة أربع وثلاثون النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستّة أذرع وتسعة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع. الإمام عثمان رضى الله عنه أمير المؤمنين بالمدينة. فيها خاض الناس فى أمر عثمان رضى الله عنه فأكثروا، وكاتب المنحرفين عنه للاجتماع فى أمره ومناظرته فيما نقموا عليه، فشاور فى أمرهم، فقال عبد الله بن عامر: اشغلهم بالجهاد! وقال ابن سعد: أعطهم المال! وقال معاوية: مر عمّالك يكفى كلّ منهم من قبله! وقال عمرو: اعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزما وامض قدما، فردّهم إلى أعمالهم، وأمرهم بتجهيز البعوث. وفيها خرج عثمان رضى الله عنه وجلس على المنبر، وقال: لقد عبتم علىّ ما أقررتم لابن الخطّاب بمثله، لكن وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم وكرهتم، وكنت حمى لكم (1)، وأوطأتكم كتفى، وكففت يدى ولسانى عنكم، فاجترأتم على أمر الله، والله لأنا أعزّ نفرا، وأقرب

ذكر سنة خمس وثلاثين النيل المبارك فى هذه السنة

ناصرا، وأكثر عددا، [وأحرى (1)] إن قلت هلمّ أتى إلىّ، ولقد أعددت لكم أقرانا، وأفضلت عليكم فضولا، وكشّرت لكم عن نابى، وأخرجت منّى ما لم أكن أحبّه (2)، ومنطقا (225) لم أنطق به، فكفّوا عنّى ألسنتكم وطعنكم على ولاتكم، فإنّى قد كففت عنكم من لو كان [هو الذى (3)] يكلّمكم لرضيتم منه بدون منطقى هذا، ألا ما (4) تفقدون من حقّكم؟ والله ما قصّرت عن بلوغ ما بلغه من كان قبلى، ولم تكونوا تختلفون عليه. فقام مروان بن الحكم فقال: إن شئتم حكّمنا والله بيننا وبينكم السيف، نحن والله وأنتم كما قيل: فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم … [معارسكم (5)] تبنون فى دمن الشوك (6) فقال له عثمان: اسكت لا سكّت. ذكر سنة خمس وثلاثين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإصبعان.

ذكر مقتل عثمان بن عفان رضى الله عنه

ذكر مقتل عثمان بن عفّان رضى الله عنه اجتمع أهل الأمصار الثلاثة؛ وهم أهل الكوفة، وأهل البصرة، وأهل مصر، قبل عثمان بسنة فى المسجد الحرام، ورئيس أهل الكوفة كعب بن عبدة النهدى (1) ورئيس أهل البصرة المثنّى بن مخرمة العبدى، ورئيس أهل مصر كنانة بن بشر السكونى ثم التجيبى، فتذاكروا أمر عثمان، وقالوا: لا يسعنا الرضا بهذا، وأجمعوا أنّهم إذا رجع كلّ واحد إلى مصره أن يكون رسول من شهد مكّة- من أهل الخلاف على عثمان-إلى من هو على مثل رأيهم من أهل بلدهم، وأن يوافوا عثمان فى العام المقبل، فيستعتبوه، فإن أعتبهم، وإلا رأوا فيه رأيهم. فلمّا حضر الموقف خرج الأشتر النخعى إلى المدينة فى مائتين، وخرج حكيم ابن جبلة العبدى فى مائة، وجاء أهل مصر (226) فى أربعمائة، وقيل فى خمسمائة، وقيل بل أكثر من ذلك، وعليهم أبو عمرو، وبديل بن ورقاء الخزاعى، وعبد الرحمن بن عديس البلوى، وكنانة بن بشر النجيبى، وعروة بن شتم (2). فلمّا قدموا المدينة أتوا دار عثمان، ووثب معهم من أهل المدينة رجال؛ منهم عمّار بن ياسر، ورفاعة بن رافع (3) والحجاج بن غزّية (4)، وعامر بن بكر، فحصروه الحصار الأوّل، ودفع عن عثمان جماعة منهم: زيد بن ثابت،

وأبو أسيد الساعدى [وكعب بن مالك] (1) بن أبى كعب من بنى سلمة من الأنصار، وحسّان بن ثابت. واجتمع الناس إلى علىّ كرّم الله وجهه وسألوه أن يكلّم عثمان، فأتاه فقال: إنّ الناس قد كلّمونى فى أمرك، وو الله ما أدرى ما أقول، وما أعرّفك شيئا تجهله، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه، وإنّك لتعلم ما أعلم، وما سبقناك إلى شئ فنخبرك عنه، لقد صحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ورأيت وسمعت [منه] (2) ما رأينا وما سمعنا، وليس ابن أبى قحافة ولا ابن الخطّاب بأولى منك إلاّ الحق (3)، ولأنت أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم رحما، وقد نلت [من] (4) صهره ما لم ينالاه، فالله الله فى نفسك، فإنّك لا تبصر من عمى، ولا تعلم من جهل! فقال له عثمان: لو كنت مكانى ما عنّفتك ولا أسلمتك، ولا عتبت عليك أن وصلت، نشدتك الله، ألم يولّ عمر المغيرة بن شعبة وليس هناك؟ قال: نعم! قال: أفلم يولّ معاوية؟ قال علىّ: إنّ معاوية كان أشدّ خوفا وطاعة لعمر من يرفأ (5)، وهو الآن يدبّر الأمور دونك، ويقطعها بغير علمك، ويقول للناس: هذا بأمر عثمان ويبلغك فلا تنكر. ثمّ خرج (227) فصعد عثمان المنبر، فقال بعد حمد الله سبحانه والصلاة على

نبيّه-ثم قال ذلك الكلام المقدّم ذكره الذى أوله: إنّ لكلّ شئ آفة، ولكلّ أمر عاهة (1). وروى أنّ عثمان أتى عليّا فقال له: يا بن عمّ، إنّ قرابتى قريبة، وحقّى عظيم، وإنّ القوم فيما بلغنى أجمعوا على قتلى، وأنا أعلم أن لك عند الناس قدرا وهم يسمعون منك، وأحبّ أن تردّهم، وأنا أصير إلى ما تشير به وتراه، ولا أخرج عن أمرك ولا أخالفك، فركب علىّ عليه السلام ومعه سعيد بن زيد بن عمرو ابن نفيل، وأبو الجهم حذيفة العدوى، وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد [وأبو أسيد] (2) الساعدى، وزيد بن ثابت، وحسّان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومحمّد بن مسلمة، فكلّموهم فرجعوا إلى مصرهم. ثم لم ينشبوا حتى رجعوا وادّعوا أمورا أقسم عثمان أنّه لم يعلمها. وكان مروان يأتى عثمان فيقول: إنّ عليّا يؤلّب عليك الناس، فإذا سمع عثمان ما يقوله مروان يقول: اللهمّ إنّ عليّا أبى إلاّ حبّ الإمارة، فلا تبارك له فيها. ولمّا نزل المصرّيون بذى خشب، بعث عثمان إليهم محمّد بن سلمة، وجابر ابن عبد الله فى خمسين من الأنصار، ولم يزالوا بهم حتى ردّهم، فرأوا بعيرا وعليه ميسم (3) الصدقة، وعليه غلام لعثمان، معه كتاب فيه: أن اقتل فلانا وفلانا،

فرجعوا إلى عثمان فحصروه، ولمّا أحاطوا بداره فى المرّة الأولى أشرف عليهم عثمان رضى الله عنه فقال: ما الّذى نقمتم علىّ؟ فإنّى معتبكم، ونازل عند محبّتكم. فقالوا: زدت فى الحمى لإبل الصدقة على حمى عمر. قال: لأنّ ذلك زاد فى ولايتى، فزدت لها. قالوا: فإنّك لم تشهد بدرا. قال (228): لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خلفنى على ابنته. قالوا: لم تشهد بيعة الرضوان. قال: إنّما كانت من أجلى، بعثنى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصفّق بيده، وشماله خير من يمينى. قالوا: فررت يوم الزحف. قال: إنّ الله سبحانه عفا عن ذلك. قالوا: ضربت أبشارنا، ووليت علينا سفهائنا، وسيّرت خيارنا. قال: إنّما سيّرت من سيّرت مخافة الفتنة، فمن مات منهم فودوه، واقتصّوا منّى لمن ضربته، وأمّا عمّالى فمن شئتم عزله عزلتموه، ومن شئتم إقراره فأقرّوه. قالوا: فمال الله الذى أعطيته قرابتك؟ قال: اكتبوا به علىّ للمسلمين صكّا، لأعجّل ما قدرت على تعجيله، وأسعى فى باقيه، إنّى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلاّ بإحدى ثلاث: زنا بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو أن يقتل نفسا بغير حقّ فيقتل به»،

والله ما زنيت فى جاهليّة ولا إسلام، ولا قتلت نفسا بغير حقّها، ولا ابتغيت بدينى بدلا منذ هدانى الله عزّ وجلّ للإسلام، ولا والله ما وضعت يدى على عورتى مذ بايعت بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إكراما ليده. فلمّا قال لهم ذلك رجع حلماؤهم على سفهائهم، ولم يقلع بعضهم، فنفذ عثمان إليهم المغيرة، فقالوا: ارجع يا فاسق، ارجع يا أعور! فنفذ عثمان عمرو بن العاص، فقالوا: ارجع يا عدوّ الله، لا سلم الله عليك، ارجع يا بن النابغة، فلست عندنا بأمين ولا مؤتمن! فقال لهم ابن عمر: ليس لهم إلاّ علىّ، فبعث إليه، فأتاه فقال: يا أبا الحسن، ائت القوم، فادعهم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، قال: نعم، إن أعطيتنى عهد الله وميثاقه على أن تفى لهم بما أضمنه عنك، ففعل. فلمّا أتاهم قالوا له: وراءك وراءك، قال على: بل أمامى، تعطون ما تحبّون: كتاب الله، والعتبى (229) من كلّ ما سخطتم، فرضوا، وأتى معه أشرافهم حتّى دخلوا على عثمان، وكتب بينهم كتاب، وشهد فيه عبد الله بن عمر، والزبير، وطلحة، وغيرهم، وذلك فى ذى القعدة سنة خمس وثلاثين. وأشار علىّ عليه السّلام على عثمان رضى الله عنه أن يصعد المنبر ويعتذر، فصعد فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من زلّ فليتب، ومن أخطأ فليتب» وأنا أوّل من اتّعظ، فإذا نزلت فليأتنى أشرافكم، فو الله لو ردّنى إلى الحق عبد أو أمة لا تبعته، وما عن الله مذهب إلاّ إليه.

فسرّ الناس بقوله، ثم جاء مروان [فزجر] (1) النّاس، وردّهم عن بابه، ولم يزل بعثمان يفتله فى الذروة والغارب، حتى لفته عن رأيه. فلمّا كانوا بإيلة وجدوا الكتاب (2)، وكان مروان كتبه على لسان عثمان، وهو كان كاتبه، فرجعوا عودهم على بدئهم، وأروه الكتاب، فدخل به على عثمان، فقال: أمّا الخطّ فخطّ كاتبى، وأما الخاتم فعلى خاتمى، فقال علىّ: فمن تتّهم؟ قال: أتّهم كاتبى وأتّهمك، فخرج علىّ عليه السّلام مغضبا، وهو يقول: هو أمرك، ثم جاء المصريّون، فحلف أنّه لم يكتب ولم يأمر، فقالوا: هذا أشرّ يكتب عنك بما لا تعلم؟ ما مثلك يلى أمور المسلمين، فاخلع نفسك من الخلافة. قال: ما أنزع قميصا قمّصنيه الله سبحانه، فحصر عند ذلك الحصار الثانى، وأجلب عليه محمّد بن أبى بكر الصّدّيق ببنى تيم. ولمّا حلف عثمان صدّقوه، وعلموا أنّه لا يحلف بباطل، إلاّ أنّهم قالوا: لن تبرأ حتى تدفع إليها مروان، ولمّا حاصروه، ومنعوه الماء، أشرف عليهم فقال: أفيكم علىّ؟ قالوا: لا، فقال: أفيكم سعد؟ قالوا: لا، فسكت، ثمّ قال: ألا أحد يسقينا ماء؟ فبلغ ذلك عليّا، فبعث إليه بثلاث قرب (230) مملوءة ماء، جرح بسببها عدّة من موالى بنى هاشم وبنى أمية حتّى وصلت إليه، وما كادت تصل إليه.

ثم أشرف عثمان رضى الله عنه يوما على النّاس من داره وهو محصور، فقال: ائتونى بصاحبيكم الّلذين ألّباكم علىّ، فجئ بهما كأنّهما حماران، فقال: أنشد كما الله، هل تعلمان أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء مستعذب إلاّ بئر رومة، فقال: «من يشترى بئر رومة، فيجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين بخير له منها الجنة؟»، فاشتريتها من صلب مالى، قالا: اللهم نعم، قال: فعلام تمنعوننى أن أشرب من مائها، وأفطر على الماء الملح؟ ثم قال: أنشد كما الله هل تعلمان أنّ المسجد ضاق بأهله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من يشترى بقعة آل فلان ليزاد فى المسجد بخير منها الجنة؟»، فاشتريتها من صلب مالى، قالا: الّلهمّ نعم، قال: أنشد كما الله، هل تعلمان أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان على [أحد (1)]، أو على حراء، فتحرّك الجبل حتى تساقطت حجارته إلى الحضيض، فركضه برجله وقال: «اسكن، فما عليك إلاّ نبىّ أو صدّيق أو شهيد»، وفى رواية أنه قال ذلك فى المسجد، وفيه علىّ والزبير وطلحة وسعيد، وقال فيه (2): هل تعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع مربد آل فلان؟» فابتعته بعشرين ألفا، فهل علمتم أنّ أحدا منع أن يصلّى فيه غيرى؟ وقال فيه: هل تعلمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم نظر فى وجوه القوم فقال: «من جهز هؤلاء؟» يعنى جيش العسرة-فجهّزتهم حتى لم يفتقدوا عقالا ولا خطاما، فقالوا: الّلهمّ نعم. وتمّ الحديث.

ولمّا اشتدّ حصار عثمان قال له سعيد بن العاص: أنا أشير عليك أن تحرم وتلبى، وتخرج فتأتى مكّة، فلا يعرض لك ولا يقدم عليك، فبلغهم (231) ذلك فقالوا: والله لئن خرج لا فارقناه، حتى يحكم الله بيننا وبينه. ثم كتب عثمان إلى عبد الله بن عامر بن كريز ومعاوية، وأعلمهما أنّ أهل البغى والعدوان عدوا عليه وأحاطوا به، وهم يطلبون قتله أو خلعه، وأمرهما أن ينجداه برجال ذوى بأس ونجدة ورأى، فوجّه إليه ابن عامر مجاشع بن مسعود السلمى فى خمسمائة، ووجّه إليه معاوية حبيب بن مسلمة الفهرى فى ألف فارس، وبلغ أهل مصر ومن معهم من أهل العراق المحاصرين له فعاجلوه. ويقال: إنّ معاوية أمدّه بأربعة آلاف مع يزيد بن أسد بن كريز البجلى، فتلقاه الناس بمقتل عثمان، فرجع وقال: لو دخلت المدينة وعثمان حىّ ما تركت بها محتلما إلاّ قتلته، لأنّ الخادل والقاتل سواء. وكان أشار المغيرة على عثمان أن يأمر مواليه ومن معه بالدخول فى السلاح فقعل، ثم أمر مواليه بإلقاء السلاح والانصراف عنه. فقال الوليد بن عقبة بن أبى معيط: وكفّ يديه ثم أغلق بابه … وأيقن أنّ الله ليس بغافل وقال لأهل الدار لا تقتلوهم … عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل فكيف رأيت الله ألقى عليهم ال‍ … ‍عداوة والبغضاء بعد التّواصل وكيف رأيت الخير أدبر بعده … عن النّاس إدبار المخاض الحوامل وانتدب لنصرة عثمان قطن بن عبد الله بن الحصين الحارثى، فقال له عثمان رضى الله عنه: انصرف محمودا راشدا، وأنا أكلهم إلى الله عزّ وجلّ، ولا

أقاتلهم، فإنّ ذلك أعظم لحجّتى عليهم، فكان يقول: وددت والله لو قتلت مع عثمان. وقال أبو هريرة لعثمان رضى الله عنه: أنفرجهم عنك بالضرب؟ فقال: لا، إنّك إن قتلت رجلا واحدا فكأنّما قتلت الناس جميعا. ودخل زيد بن ثابت على عثمان، فقال: إنّ الأنصار بالباب يقولون إن شئت كنّا أنصار الله مرّتين، فقال عثمان: أمّا القتل فلا. وقال عثمان لأصحابه: أعظمكم عنّى غناء من كفّ يده وسلاحه. وقال عثمان: من رأى لنا سمعا وطاعة فليلق سلاحه، فألقى الناس أسلحتهم إلاّ مروان بن الحكم، فإنّه قال: وأنا أعزم على نفسى ألاّ ألقى سلاحى، قال أبو هريرة: كنت فيمن أقسم عليه عثمان، فألقيت سلاحى فما أدرى من أخذ سيفى. وجاء عبد الله بن الزبير لينصر عثمان، فقال له أنشد الله رجلا أراق فىّ دما، وكان فى الدار مع عثمان سبعمائة رجل، منهم الحسن، والحسين، وعبد الله ابن الزبير. وأمّر عثمان ابن الزبير على الدار، وقال: من كانت لى عليه طاعة فليطع ابن الزبير، وجاءت أمّ حبيبة بنت أبى سفيان زوج النبى صلّى الله عليه وسلم بإداوة (1) فيها ماء إلى عثمان وهو محصور، فمنعت منه، فقالت: إنّه كان المتولّى لوصايانا وأمر أيتامنا، وإنّى أريد مناظرته، فأذنوا لها، فأعطته الإداوة (2).

وقال أسامة بن زيد لعلىّ بن أبى طالب كرمّ اللهّ وجه: أنت واللهّ أعزّ علىّ من سمعى وبصرى، فأطعنى، واخرج إلى أرضك بينبع، فإنّ عثمان إن قتل وأنت بالمدينة رميت بدمه، وإن أنت لم تشهد أمره لم يعدل الناس عنك، فقال ابن عباس لأسامة: يا أبا محمدّ، أيطلب أثر بعد عين؟ أبعد ثلاثة من قريش ينبغى لعلى أن يعتزل؟ وصلى علىّ عليه السّلام بالناس يوم النحر وعثمان محصور، فكتب إليه عثمان ببيت الممزّق: (233) فإن كنت مأكولا فكن خير آكل … وإلاّ فأدركنى ولما أمزّق وهذا البيت للممزّق الشّاعر وبه سّمّى ممزّقا، وإنما اسمه شأس. ولمّا اجتمعت طوائف الأنصار فى المدينة، خرج عثمان يوم جمعة، فلمّا صعد المنبر قام رجل مصرى فشتمه وعابه، فالتفت عثمان يمينا وشمالا، ينظر هل ينكر عليه أحد، فلم يتكلّم أحد، وقام جهجاه بن سعيد الغفارى، فقال مثل ذلك، وانتزع من عثمان عصا كانت فى يده، فكسرها على ركبتيه، وكانت عصا رسول اللهّ صلّى الله عليه وسلم، فوقعت بعد ذلك الأكلة فى ركبتيه، فما منعه أحد، فقام عثمان فتكلّم كلمات يسيرة على دهش شديد، وصلّى صلاة خفيفة، ثم حفّ به بنو أميّة ومواليه، حتى دخل داره، فحصروه. واجتمعت الأنصار إلى زيد بن ثابت، فقالوا: ما ترى؟ قال: إنّكم نصرتم رسول الله صلّى الله عليه وسلم مرّة، فانصروا خليفته تكونوا أنصار الله مرّتين، فرّد عليه رجل قوله، فقال عبد الله بن سلاّم: الله الله فى دم هذا الرجل، فو الله ما بقى من

أجله إلاّ اليسير، فدعوه يمت على فراشه، فإنكم إن قتلتموه سلّ عليكم سيف الله المغمود، فلن يغتمد حتى يقتل منكم خمسة وثلاثون ألفا. ولمّا بلغ عليّا عليه السّلام أنّهم يريدن قتل عثمان رضى الله عنه قال: إنّما أردنا قتل مروان، فأمّا عثمان فلا والله، وبعث بابنيه الحسن والحسين عليهما السّلام وقال: اذهبا بسيفيكما، فقوما على باب عثمان، ولا تدعا أحدا يصل إليه! وبعث الزبير ابنه عبد الله، وبعث عدّة من المهاجرين والأنصار أبناءهم، فمنعوهم من الدخول إلى عثمان، فأصاب الحسين سهم فاختضب بدمه، فلمّا رأى النّاس ما بالحسين (234) من الدم، وشجّ من أبناء المهاجرين محمّد بن طلحة، وشجّ قنبر وأصاب مروان سهم، قالوا: والله لئن رأت بنو هاشم الدماء على وجه الحسين لتعصبنّ له، ولتكشفّن عن عثمان، ولتبطلنّ ما نريد، ولكن مرّوا بنا حتى نتسّور عليه الدار فنقتله، من غير أن يشعر بنا أحد، فتسوّر عليه ثلاثة: سودان ورومان اليمانى ومحمّد بن أبى بكر الصدّيق، فقيل: لم يكن محمّد بن أبى بكر، وإنّما رجل من بنى أسد بن خزيمة، وقيل: رجل من أهل مصر، يقال له: جبلة ابن الأيهم، وجاء رافع بن مالك الأنصارى، ثم الزرقى، لباب عثمان، فأرسل فيه نارا، فأشعلها فى أحد الجانبين فاحترق ووقع، ودفع الناس الباب الآخر، ثم اقتحموا الدار، وقال عدىّ بن حاتم: اقتلوه، فإنّه لا يحيق (1) فيه عتاب، وتهيأ مروان للقتال فى جماعة، فنهاهم عثمان، فقتله كنانة بن بشر بن غياث التّجيبىّ وقتل عمرو بن الحمق الخزاعى. وأوّل من أدماه نيّار بن عياض الأسلمىّ، وكان بالمدينة نيّاران؛ أحدهما

نيّار الخير، والآخر نيّار الشرّ، وهو هذا الذى أدمى عثمان رضى الله عنه أوّلا. وقال عبد الله بن سلاّم: أتيت عثمان وهو محصور، فقال: مرحبا يا أخى، رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى هذه الليلة، فقال لى: يا عثمان، حصروك؟ قلت: نعم! قال: فأدلى دلوا فشربت حتى رويت، وإنّى لأجد برد الماء بين ثديىّ وكتفىّ، ثم قال: إن شئت أفطرت عندنا، وإن شئت دعوت الله فنصرت عليهم، فاخترت أن أفطر عندهم، فقتل ذلك اليوم وكان صائما. ويقال إنّه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، وروى أنه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى المنام، (235) فقال: أنت شاهد فينا الجمعة، فقتل يوم الجمعة قبل الصلاة، فى ذلك اليوم الذى رأى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقام عثمان من ساعته، فلبس سراويله، وما لبسها فى جاهليّة ولا إسلام قبل ذلك اليوم، ودعا بمصحفه فنشره بين يده، فتحرّم به من الفتنة، فقتل رضى الله عنه وهو بين يده. وروى عقبة بن عامر، قال: رأى النبى صلّى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء أنّه دخل جنّة عدن، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فأعطيته تفّاحة، فلمّا وقعت فى يدى انفلقت عن حوراء مرضيّة، كأنّ أشفار (1) عينيها مقادم أجنحة النسور. فقلت: لمن أنت؟ فقالت للخليفة المقتول ظلما، عثمان بن عفان».

لو يقال إن عثمان رضى الله عنه أخذ يوم الدار الحربة ليقاتل بها، فنودى من السماء: مهلا يا عثمان. فرماها من يده، ورفع كنانة بن بشر التجيبى عمودا من حديد، فضربه على جبهته فخرّ إلى الأرض، وضربه سودان المرادى بالسّيف، فكانت أوّل قطرة قطرت من دمه على المصحف، على قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»} (1)، ودخل رومان عليه وفى يده خنجر، فقال له: على أىّ دين أنت يا نعثل؟ فقال: لست بنعثل، ولكنّى عثمان، فقال: على أىّ دين أنت؟ فقال: على ملّة إبراهيم حنيفا مسلما، وما أنا من المشركين، وقعد عمرو ابن الحمق على صدره فوجأه (2) تسع وجآت بمشاقص كانت معه، وجاء علىّ عليه السّلام مستعجلا، حتى دخل على امرأة عثمان فقال لها: من قتله؟ قالت: لا أدرى دخل عليه رجلان لا أعرفهما إلاّ إذا أريتهما، وكان محمّد بن أبى بكر معهما. (236) قال: ولمّا رآه عثمان قال: لو رآك أبوك لساءه مكانك منّى، فتراخت يده عنه، فخرج تائبا، وكان يقول: والله ما قتلته ولا أمسكته، وقتله الرجلان، وصرخت امرأته، فلم يسمع صراخها لما كان فى البيت من الجلبة والغوير (3)، فصعدت سطح الدار وقالت: قتل أمير المؤمنين! فدخل الحسن والحسين عليهما السلام فوجداه مذبوحا. وروى أنّه لمّا دخلوا على عثمان قامت امرأته فأدخلته بينها وبين ثيابها، وكانت جسيمة، فأدخل رجل من أهل مصر سيفا مصلتا بينها وبين ثيابها،

وكشفت عورتها، فقبضت على السيف، فقطع أصابعها، فقالت لغلام لعثمان: أعنّى على هذا الفاسق، فضربه الغلام، فقتله. وبلغ عليّا الخبر فجاء وطلحة وسعد، وجاء أهل المدينة وقد ذهبت عقولهم لتلك المصيبة، فاسترجع الناس ولطم علىّ الحسن، ودفع فى صدر الحسين، وشتم محمّد بن طلحة، ولعن ابن الزبير. وقاتل دون عثمان فى ذلك اليوم ثلاثة نفر، فقتلوا معه، وهم: عبد الله بن وهب بن زمعة بن الأسود، وعبد الله بن عوف، وعبد الله بن عبد الرحمن ابن العوّام بن خويلد. ولمّا عاد علىّ عليه السّلام إلى منزله وهو غضبان، جاءه الناس يهرعون إليه ويقولون: أنت أمير المؤمنين! فقال: ليس هذا إليكم، إنّما ذلك إلى أهل بدر، فمن رضوا به فهو الخليفة، فأتاه أهل بدر، فقالوا: ما نرى أحدا أحقّ بها منك، وسيأتى ذكر ذلك فى موضعه إن شاء الله تعالى. قال أبو قلابة: دخلت فندقا بالشام فإذا رجل مقطوع اليدين والرجلين، أعمى، ملقى على وجهه، ينادى: يا ويله، النار! فأتيته، فسألته عن حاله، قال: كنت فيمن دخل (237) على عثمان يوم الدار، وكنت فى سرعان من وصل إليه، فلمّا دنوت منه صرخت امرأته، فرفعت يدى فلطمتها، فنظر إلىّ عثمان وتغرغرت عيناه، وقال: سلبك الله يديك ورجليك، وأعمى بصرك، وأصابك بنار جهنّم! فخرجت هاربا حتى أتيت مكانى، فأتانى آت ففعل [بى] (1) ما ترى، فو الله ما أدرى إنسيّا كان أو جنّيّا؟ وقد استجاب الله فى يديه ورجليه وبصره،

فو الله ما بقى إلاّ النار، قال أبو قلابة: فهممت أن أطأه برجلى، ثم قلت: بعدا لك وسحقا. ولمّا وقعت ضربة على يد عثمان رضى الله عنه فقطعتها، قال عثمان: أما والله إنّها لأوّل يد خطت المفصل. ودعت عائشة رضى الله عنها على أخيها محمّد بن أبى بكر بما ارتكب من عثمان، فقالت: الّلهمّ اقتل مذّمما قصاصا لعثمان، وارم الأشتر بسهم من سهامك لا يشوى، وكان الأشتر ممّن ألبّ على عثمان، وأجلب عليه، وأرد عمّارا بحفرته فى عثمان، فأجاب الله دعاءها فى جميعهم. وبقى عثمان فى بيته مقتولا يومين أو ثلاثة، وقيل بل يوما وليلة، حتى حمله أربعة رجال، منهم جبير بن مطعم، وامرأة، ولمّا جاءوا ليصلّوا عليه منعوهم، فقال أبو الجهم: إن لا تدعونا نصلّى عليه فقد صلّت عليه الملائكة، ثم صلّى بهم جبير بن مطعم، وحملت أمّ البنين بنت عيينة امرأة عثمان السراج بين أيديهم، وحمل عثمان على باب من جريد، ولقيهم قوم فقاتلوهم حتى طرحوه، فجاء عمير ابن ضابئ البرجمى، فتوطّأ بطنه وهو يقول: ما رأيت كافرا ألين بطنا منه، وكان أبوه ضابئ اندسّ ليتوجّأ عثمان، ويفتك به، ففطن به، فحبسه عثمان فقال وهو محبوس: (238) هممت ولم أفعل وكدت وليتنى … تركت على عثمان تبكى حلائله وما الفتك إلاّ لا مرئ ذى حفيظة … إذا ريع لم ترعد لجبن مفاصله

وكان عمير بن ضابئ ممّن شهد الدار، وقرّعه الحجّاج بذلك حين قتله. ودفن عثمان رحمه الله وأرضى عنه فى حش كوكب، وهو نخل لرجل يقال له كوكب، والحشّ: البستان، وكان عثمان كثيرا ما يمر بحش كوكب فيقول: سيدفن فى هذا المكان رجل صالح، وكان عثمان قد اشتراه وزاده فى البقيع، وهو أوّل من دفن فيه، وهى مقبرة بنى أميّة إلى آخر وقت، وصلّى عليه المسوّر ابن مخرمة. ولمّا منع من دفن عثمان قالت أمّ حبيبة-زوج النبى صلّى الله عليه وسلم-وهى واقفة بباب المسجد: ليخلّنّ بيننا وبين عثمان، أو لأكشفنّ ستر رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقتل رضى الله عنه يوم الجمعة، لثمانى عشرة ليلة خلت من ذى الحجّة، سنة خمس وثلاثين هجرّية، ودفن ليلا بين المغرب والعشاء، وهو يومئذ ابن اثنتين وثمانين سنة. وكانت خلافته اثنتى عشرة سنة، غير اثنى عشر يوما، وهو الصّحيح، وكان مقتله-على رأى-إحدى عشرة سنة، وأحد عشر شهرا، وثمانية عشر يوما من مقتل عمر بن الخطّاب رضى الله عنهما، وقبل صلاة العصر فى رواية، وفى أخرى قبل صلاة الجمعة، والله أعلم. ولمّا جاء الصارخ بقتله قال علىّ عليه السّلام ومدّ يده: الّلهمّ إنّى أبرأ إليك من دم عثمان! قال إسحاق بن علىّ: أعيذ عليّا بالله أن يكون قتل عثمان، وأعيذ عثمان بالله أن يكون علىّ قتله. وهذا ينظر إلى قول النبى صلّى الله عليه وسلم: «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة من قتل

نبيّا، أو قتله نبىّ، وهو بعينه قول الآخر: (239) كان عثمان أتقى لله أن يقتله علىّ، وكان علىّ أتقى لله أن يقتل عثمان. وانتهبوا داره، وقالوا: كيف يحلّ لنا دمه، ولم يحلّ لنا ماله؟ فقالت امرأته: لصوص والله، ما الله أردتم بقتله، ولقد قتلتموه صوّاما قوّاما، يقرأ القرآن فى ركعة، قال الشاعر: لعمر أبيك فلا تكذبنّ … لقد ذهب الخير إلاّ قليلا لقد فتن الناس فى دينهم … وأبقى ابن عفّان شرّا طويلا حسّان بن ثابت يرثى عثمان، فقال: أبكى أبا عمرو لحسن بلائه … أمسى رهينا فى بقيع الغرقد وكأنّ أصحاب النّبىّ عشيّة … بدن تنحّر عند باب المسجد الوليد بن عقبة يرثى عثمان، ويهدّد، ويقول: بنى هاشم ردوا سلاح ابن أختكم … ولا تنهبوه لا تحلّ مناهبه فهم قتلوه كى يكونوا مكانه … كما غدرت يوما بكسرى مراذبه بنى هاشم كيف العداوة بيننا … وعند علىّ سيفه وجنائبه وقال حسّان: صبرا جميلا بنى الأحرار لا تهنوا … قد ينفع الصّبر فى المكروه أحيانا يا ليت شعرى وليت الطير تخبرنى … ما كان شأن علىّ وابن عفّانا (1)

لتسمعنّ وشيكا فى ديارهم … الله أكبر، واثأرات عثمانا قلت: وهذا البيت الثّالث ليس لحسّان، وإنّما استشهد به، وقد قيل قبل الإسلام بزمن طويل، ذكر ذلك عبد الملك بن هشام فى كتاب التيجان: ملوك التبابعة من حمير (1)، والله أعلم. ومن الأبيات: من سرّه الموت صرفا لا مزاج له … فليأت مأدبة فى دار عثمانا (2) ضحّوا بأشمط عنوان السجود له … يقطّع اللّيل تسبيحا وقرآنا ويقال إنّ البيت الأخير لعمران بن حطّان السدوسى، والله أعلم. وقال حسّان: قتلتم ولىّ الله فى وسط داره … وجئتم بأمر جائر غير مهتد فلا ظفرت أيمان قوم تعاونوا … على قتل عثمان الرشيد المسدّد القاسم بن أمية بن أبى الصلت يقول: لعمرى لبئس الذّبح ضحيتم به … وخنتم رسول الله فى صاحبه ليلى الأخيلّية تعزى معاوية وتقول: قتل ابن عفّان الإما … م وضاع أمر المسلمينا وتشتتت سبل الرشا … د لصادرين وواردينا فانهض معاوى نهضة … تشفى بها الداء الدفينا أنت الذى من بعده … تدعى أمير المؤمنينا

وقال حسّان، وقيل: أيمن بن خزيم (1): ضّحوا بعثمان فى الشّهر الحرام ضحى … فأىّ ذبح حرام [ويلهم (2) ] ذبحوا وأى سنّة [كفر (3) …] سنّ أولههم وباب شرّ على سلطانهم فتحوا … ماذا أرادوا أضل الله سعيهم بسفك ذاك الدم الزاكى الذى سفحوا قال سعيد بن المسيّب: قال لى علىّ بن زيد: انظر إلى وجه هذا الرجل، فنظرت، فإذا هو مسودّ الوجه، فقال لى: سله عن أمره. فقلت: حسبى حديثك، فقال: الّلهمّ إنّ هذا يسبّ عثمان وعليّا جميعا، وكنت أنهاه، فلا ينتهى، فقلت: اللهمّ إنّ هذا يسب رجلين قد سبق لهما ما تعلم، فاللهمّ إن كان ما يقول سخطا فأرنى فيه آية، فاسودّ وجهه كما ترى. ولمّا قتل أقبل من البصرة مجاشع بن مسعود السلمى فيمن وجّهه عبد الله ابن عامر لنصرة عثمان، فلمّا كان ببعض الطريق بلغه مقتل عثمان، ويقال (241) إنّ الذى أخبره زفر بن الحارث الكلابى لما قال له مجاشع وقد لقيه: ما وراءك؟ قال: قتل نعثل، قال: ويحك، ما تقول؟ قال: أخبرك بالحقّ، وهذه طاقات من شعره معى، قال مجاشع: لعنك الله، ولعن ما أقبل منك وما أدبر، ثم شدّ عليه فقتله، وهو أوّل من قتل بدم عثمان.

ولمّا قفل ابن عبّاس من الحجّ، وكان عثمان أمّره على الحجّ بالناس، فرجع وقد قتل عثمان، فقال لعلىّ: إنّك إن قمت بهذا الأمر ألزمك الناس دم عثمان إلى يوم القيامة. وقال عبد الله بن عمر: والله ما علمت أنّ عليّا شرك فى دم عثمان فى سرّ ولا علانية، ولكنّه كان رأسا يفزع إليه، فأضيف إليه ما حدث. وقال أبو موسى الأشعرىّ لمّا قتل عثمان: هذه حيضة من حيضات الفتن، وبقيت المثقلة الرداج (1)، التى من هاج فيها هاجت إليه، ومن أشرف لها أشرفت له. وكان سعيد بن المسيب يسمّى العام الذى قتل فيه عثمان رضى الله عنه عام الحزن، وقال أبو حميد الساعدى، وكان بدريّا (2): والله ما كنّا نظنّ أنّ عثمان يقتل، الّلهمّ إنّ لك علىّ ألاّ أضحك حتى ألقاك. وقال ابن عبّاس: لو اجتمع الناس على قتل عثمان لرموا بالحجارة كما رمى قوم لوط. وكانت عائشة رضى الله عنها تقول: ليتنى كنت نسيا منسيّا قبل أمر عثمان، والله ما أحببت له شيئا إلاّ منيت بمثله، حتى لو أحببت قتله لقتلت. وجاء الأشتر إلى عائشة فقال: يا أمّ المؤمنين، ما ترين هذا الرجل يعنى عثمان، فقالت: معاذ الله أن آمر بسفك دماء المسلمين، وقتل إمامهم، واستحلال حرمتهم، لعن الله

نبذ من أخبار بنى عثمان رضى الله عنه

قتلة عثمان المقتول ظلما، أفاد (1) الله من محمد بن أبى بكر، وأهدى (242) إلى الأشتر سهما من سهامه، وهراق دم ابن بديل فو الله ما [من] القوم أحد إلاّ أصيب بدعوتها. نبذ من أخبار بنى عثمان رضى الله عنه ومن أولاده عمرو بن عثمان، وهو أكبر ولده وأشرفهم، وأمّه رقيّة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم (2)، دعاه مروان إلى الشخوص معه إلى الشام ليبايع له بالخلافة فأبى، ولعمرو هذا مع مسلم بن عقيل فى وقعة الحرّة خبر يذكر فى موضعه إن شاء الله تعالى، وكان عمرو بن عثمان هذا تزوّج امرأة من ولد السائب، فلمّا نصّت عليه طلّقها على المنصّة، فجاء أبوها إلى عبد الله بن الزبير فأخبره خبره، وقال: أخشى أن يظنّ الناس أنّ طلاقها عن عاهة بها، فقم فادخل عليها لتنظرها، فقال ابن الزبير: أو خير من ذلك، جيئونى بالمصعب، فجاء، فزوّجها عبد الله من أخيه المصعب، فما يعرف امرأة نصّت على زوجين فى ليلة غيرها. ومن أولاد عمرو بن عثمان: عبد الله، كان يدعى المطرف لجماله وحسنه، كانت تحت الحسن بن الحسن بن علىّ بن أبى طالب فاطمة بنت الحسين بن علىّ ابن أبى طالب وكانت جميلة يرغب فيها، فلمّا حضرت الحسن الوفاة، قال لفاطمة زوجته: كأنّى بك إذا متّ نظرت إلى عبد الله بن عمرو بن عثمان المطرف مرجّلا

جمّته (1)، لا بسا حلّته، متعرّضا لخطبتك، فانكحى من شئت غيره! فحلفت بعتق عبيدها وصدقة مالها أنّها لا تتزوّجه، ثم مات الحسن وخرج بجنازته، وحضرها المطرف عبد الله بن عمرو بن عثمان، فنظر إلى فاطمة حاسرا تلطم وجهها، فأرسل إليها أنّ لنا فى وجهك حاجة، فارفقى به، فعرف فيها الاسترخاء، وخمّرت وجهها، فلمّا حلّت (243) خطبها، فقالت: كيف أصنع بيمينى؟ قال: لك مكان كلّ شئ شيئان، فقبلت، وتزوّجها، وأبرّ يمينها، فولدت له محمّدا الذى يقال له الديباج. وكان جميل بثينة يقول لبثينة: ما رأيت عبد الله بن عمرو بن عثمان يخطر على البلاط إلاّ دخلتنى الغيرة عليك، خوفا أن تريه أو ترى مثله وإن بعدت دارك، وكان عبد الله بن عمرو كثير التزويج والطلاق، قالت له امرأة من نسائه: مثلك مثل الدنيا، لا يدوم نعيمها، ولا يؤمن فجائعها، وأخذه المنصور مع الطالبيّين أيام محمّد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن حسن (2)، فضرب عنقه صبرا. ومن ولد عثمان رضى الله عنه سعيد بن عثمان، ولى خراسان من قبل معاوية، وفتح سمرقند، وكان أعور بخيلا، وكان عند سعيد بن عثمان غلمان من أبناء الملوك من السغد، دفعوا إليه رهائن، فقدم بهم سعيد حين عزله معاوية لمّا خاف أن يطلب الخلافة لنفسه، فلمّا صار بهم إلى المدينة أخذ كسوتهم ومناطقهم،

ودفعها لغلمانه، وكساهم الصوف، وألزمهم أعمالا صعبة، فدخلوا عليه فى مجلسه، فقتلوه، ثم قتلوا أنفسهم. فقال الوليد بن عقبة: ألا إنّ خير النّاس نفسا ووالدا … سعيد بن عثمان قتيل الأعاجم ولمّا بايع معاوية لولده يزيد قال صبيان المدينة فى أقوالهم: والله لا مبايعا يزيد … حتّى ينال رأسه الحديد إنّ الأمير بعده سعيد فلمّا قدم سعيد بن عثمان على معاوية قال له: يا بن أخى، ما شئ بلغنى عنك من ترشيحك للخلافة؟ قال: وما ينكر من ذلك يا معاوية؟ والله إنّ أبى لخير من أبى يزيد، وإنّ أمّى لخير من أمّه، ولأنا خير منه، ولقد استعملناك (244) فما عزلناك، ووصلناك فما قطعناك، وصار أمرنا فى يديك، فخلأتنا عنه أجمع، فقال معاوية: صدقت فى أنّ اباك خير منّى، وأنّ أمّك خير من أمّه، لأنّ أمّك من قريش وأمّه من كلب، وبحسب امرأة أن تكون من صالحى نسائها، وأمّا قولك أنّك خير منه، فو الله ما يسرّنى أنّ بينى وبين العراق حبلا نظم لى فيه أمثالك، الحق بالعراق عمل زياد، فقد أمرته أن يولّيك خراسان، ثم عزله بعد ذلك خوفا منه. ومن ولد عثمان رضى الله عنه أبان بن عثمان، شهد أبان الجمل مع عائشة، وولى المدينة فى أيّام عبد الملك بن مروان، فقال عروة بن الزبير: الله أكبر، جاء فى الحديث أنّ: «هلاك بنى أميّة عند ولاية رجل أحول»، وكان أبان

أحول أبرص، وكانوا يظنّونه الأحول الذى هلاك بنى أميّة عند ولايته، وكان ذلك الأحول هشام بن عبد الملك، وكان أبان صاحب رشوة وجور، وأصابه فالج، فمات فى خلافة يزيد بن عبد الملك. ومن ولد أبان عبد الرحمن، كان يصلّى فى كلّ يوم ألف ركعة، ويكثر الحجّ والعمرة، وله خطر، ومروءة، وصلاح، وصدقة، كان إذا تصدّق قال: اللهمّ هذا لوجهك الكريم، فخفّف عنّى الموت، فصلّى الغداة فى خروجه إلى الحجّ، ثم نام، فأيقظوه فوجدوه ميتا. وكان محمّد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان يسمّى الديباج لحسنه، وأمّه فاطمة بنت الحسين صلوات الله عليه، فقدم الرمّاح بن ميّادة المدينة، وأميرها عبد الواحد ابن سليمان، فسمع عبد الواحد يقول: إنّى لأهمّ بالتزويج فابغونى أيّما! فقال ابن ميّادة: أنا أدلّك، قال: على من؟ وفّقك الله؟ فقال: دخلت مسجدكم هذا فإذا أشبه شئ به وبمن فيه الجنّة وأهلها، فبينا أنا أمشى (245) إذ قادتنى رائحة عطر من رجل، فوقعت عينى عليه، واستلهانى حسنه، وتكلّم فكأنّما قرأ قرآنا، وتلا زبورا، حتى سكت، فلولا علمى بالأمير لقلت إنّه هو، فسألته عنه، فأخبرت أنّه من الحيّين للخليفتين عثمان وعلىّ: وأنّه قد نالته ولادة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلها نور ساطع فى غرّته، فإن اجتمعت أنت وهو على ولد، بأن تتزوّج ابنته ساد العباد، وجاب ذكره البلاد، فقال: ذاك محمّد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، ولد [فاطمة] (1) بنت الحسين، فقال ابن ميّادة: لهم بهجة لم يعطها الله غيرهم … وكلّ عطاء الله فضل مقسّم

صفة الإمام عثمان رضى الله عنه

صفة الإمام عثمان رضى الله عنه كان ربعة، أبيض مشربا صفرة، حسن الوجه، رقيق البشرة، كأنّه فضّة وذهب، سبط الشعر، عبل (1) الساقين، كثيف شعرهما، عظيم اللحية يصفّرها، مضبّب الأسنان بالذهب. كاتبه رضى الله عنه مروان بن الحكم. حاجبه رضى الله عنه حمران بن أبان، مولاه. وكان رضى الله عنه أوّل من اتّخذ صاحب شرطة، فكان صاحب شرطته عبد الله بن قنفد التميمى، ذكر ذلك البلاذرى، والله أعلم. نقش خاتمه رضى الله عنه آمنت بالله مخلصا، ويقال: لتنصرنّ أو لتندمنّ، وقال ابن عبّاس: أحينى سعيدا وأمتنى شهيدا.

ذكر خلافة الإمام الأنزع والبطل السميدع على بن أبى طالب كرم الله وجهه ونسبه وما لخص من أخباره

ذكر خلافة الإمام الأنزع والبطل السميدع علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه ونسبه وما لخّص من أخباره أما نسبه، رضى الله عنه، فهو أبو الحسن علىّ بن أبى طالب، واسم أبى طالب عبد مناف بن عبد المطّلب، واسمه شيبة الحمد بن هاشم، واسمه عمرو، جامع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من عبد المطّلب إلى آدم وحوّاء، وأمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم ابن عبد مناف، تلقى أباه فى هاشم، وتلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأمّه فى هاشم أيضا. وهو أوّل خليفة كان أبواه هاشميّين، ولم يل بعده ممّن كان أبواه هاشميّين غير محمّد الأمين بن هارون الرّشيد، وهو أبو السبطين، وأبو الريحانتين، وأبو الحسنين-وكنّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبا تراب، وسبب ذلك: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى غزاة ودّان وهو وعمّار بن ياسر رضى الله عنهما نائمان على الأرض، فأيقظهما، فوجد عليّا قد تمرّغ فى البوغاء، فقال: اجلس يا أبا تراب. وقيل: بل غاضب فاطمة عليها السّلام، فخرج مغتاظا، فنام على التراب. وقيل: كان إذا غاضب فاطمة أكرمها عن أن يسبّها فيضع التراب على رأسه، فقال له ذلك. حدّث هشام الكلبى، قال: كنت يوما عند ابن القطامى، فقال: من منكم يعرف علىّ بن عبد مناف بن شيبة بن عمرو بن المغيرة بن زيد، وهو أشرف الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال القوم: لا نعرفه، فقال: هو علىّ بن أبى طالب،

وأبو طالب اسمه عبد مناف، وعبد المطّلب اسمه شيبة، وهاشم اسمه عمرو، وعبد مناف اسمه المغيرة، وقصىّ اسمه زيد. وأسلمت أمّه، وماتت قبل أن تهاجر، (247) وقيل: بل هاجرت، وفى ذلك خلاف. وعلىّ كرّم الله وجهه أصغر أولاد أبى طالب، هو أصغر من جعفر بعشر سنين، وجعفر أصغر من عقيل بعشر سنين. وروى أنّ عليّا عليه السّلام أوّل من أسلم، وروى ذلك سلمان الفارسى، وأبو الدرداء (1)، والمقداد، وخبّاب، وجابر بن شهاب، أنّ عليّا أوّل من أسلم من الرجال بعد خديجة، وهو الذى عليه أكثر العلماء، ومن يرى أنّ إسلامه كان قبل إسلام أبى بكر يقول: خفى إسلام علىّ لأنّه أخفى إسلامه، وظهر إسلام أبى بكر لأنّه أظهره، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أوّلكم ورودا على الحوض وأوّلكم إسلاما علىّ» (2)، أسلم علىّ وهو ابن ثمان سنين، وفى مثل هذا السنّ أسلم الزبير وطلحة وسعد، أسنانهم متقاربة. وقيل: أسلم علىّ وهو ابن خمس عشرة سنة، وقيل: ثلاث عشرة سنة. روى أنّ أبا طالب بن عبد المطّلب قال لفاطمة: يا بنت أسد، وهى زوجته وأمّ أولاده: ما لى لا أرى عليّا يحضر طعامنا؟ فقالت: إنّ خديجة بنت خويلد قد تألّفته، فقال أبو طالب: لا أحضر طعاما غاب عنه علىّ، فأرسلت فاطمة أمّه إلى خديجة زوج النبى صلّى الله عليه وسلم ولدها جعفر يعلمها ما كان من أبى طالب،

تفسير كلمات من هذا الخبر

وتسألها إيفاد علىّ إليها، فانطلق جعفر، ففعل ذلك، وجاء بعلىّ رضى الله عنه وقد حضر عند أبى طالب، فلما رآه بشّ به، وأجلسه على فخذه، وجعل كفّه على رأسه، ووضع فى فيه لقمة، فلاكها علىّ رضى الله عنه ثم لفظها، وبكى، فقال أبو طالب: يا فاطمة، خذى إليك هذا الطفل، وانظرى ما شأنه! فأخذته أمّه، ولا طفته، وسكّتته، وسألته، فقال: أتكتمين علىّ؟ فقالت: نعم (248) قال: يا أمّاه، إنّى لأجد لكفّ محمد بردا، ولطعامه قداوة، وإنّى وجدت لكفّ أبى حرّا، ولطعامه وخامة ونغلا، فقالت له: لا تفه بهذا، وإن سألك أبوك فقل: إنّى مغست، ولمّا فرغ أبو طالب من غدائه قال: يا فاطمة ما بال ابنى؟ فقالت: إنّه كان مغس، ثم قد عوفى، فقال: كلاّ وهبل، ما به إلاّ إيثار محمّد علينا، فألحقيه به، ولا تعرضى له بعد، فيوشك أن يهصر به أصلاب قريش. تفسير كلمات من هذا الخبر قوله: فلاكها ثم لفظها: الّلوك المضغ، واللفظ: إلقاء الشئ من الفم، وقوله: أجد لطعامه قداوة، أى طيبة وطيب رائحة، وقد قدى اللحم قديا، وقدوا، وقداوة، وقوله: ونغل: النغل: تغيّر الرائحة وفسادها، وقوله: يوشك: معناه يسرع، والوشيك السريع، وقوله: يهصر، أى يعطف، ويثنى ليكسر، والله أعلم. وروى عن ابن عبّاس رضى الله عنه (1) أنّ علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه

قال: لمّا نزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ»} (1)، قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن الله عزّ وجلّ أمرنى أن أنذر عشيرتى الأقربين، فضقت بذلك ذرعا، وعلمت أنّى متى أبادههم بهذا الأمر أرمنهم ما أكره، فصمت عليه حتّى أتانى جبريل، فقال لى: يا محمّد إن لا تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربّك، فأمر عليّا أن يصنع [صاعا من طعام] (2)، وأن يجعل عليه رجل شاة (3)، واملأ لنا عسّا من لبن، ثم اجمع إلىّ بنى عبد المطّلب، حتّى أكلّمهم وأبلّغهم ما أمرت به. قال علىّ: فصنعت ذلك ما أمرنى به، ثم دعوتهم إليه، وهم يومئذ أربعون رجلا، (249) يزيدون رجلا، أو ينقصون رجلا، فيهم أعمامه: أبو طالب، والعبّاس، وحمزة وأبو لهب، فلمّا اجتمعوا إليه، دعانى بالطعام الذى صنعت لهم، فجئت به، فلمّا وضعته تناول رسول الله صلّى الله عليه وسلم حذية من اللحم، فشقّها بأسنانه، ثم ألقاها فى نواحى الصحفة (4)، ثم قال: كلوا بسم الله، قال فأكل القوم حتى ما لهم بشئ حاجة، وما أرى إلاّ مواضع أيديهم، وأيم الذى نفسى على بيده، إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل الذى قدّمته لجميعهم. ثم قال: اسق القوم يا على، فجئتهم بذلك العسّ، فشربوا منه حتى رووا جميعا، وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلمّا أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يكلّمهم بدّد أبو لهب الكلام (5)، فقال: شدّ ما (6) سحركم

تفسير ألفاظ من هذا الخبر

صاحبكم فتفرّق القوم، ولم يكلمهم النبى صلّى الله عليه وسلم. فقال: الغد يا علىّ، إنّ هذا الرجل قد سبقنى إلى ما سمعت من القول، فتفرّق القوم قبل أن أكلّمهم، فعد لنا، يا علىّ، بمثل ذلك الذى صنعت، واجمعهم لى، قال: ففعلت، ثم دعانى بالطعام، فقرّبته إليه، وفعل كما فعل بالأمس، وأكلوا حتى ما لهم بشئ حاجة، ثم قال: اسقهم فشربوا حتى رووا منه جميعا. ثم تكلّم النبى صلّى الله عليه وسلم فقال: يا بنى عبد المطّلب، إنّى والله ما أعلم شابّا فى العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، إنّى قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرنى الله أن أدعوكم، فأيّكم يؤازرنى على هذا الأمر، على أن يكون أخى، ووصيّى، وخليفتى فيكم؟ قال: فأحجم القوم جميعا، وقلت: وإنّى لأحدثهم سنّا، وأرمصهم عينا، وأعظمهم بطنا، وأخمشهم ساقا: أنا يا نبىّ الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتى (250) وقال: إنّ هذا أخى ووصيّى وخليفتى فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا! فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبى طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (1). تفسير ألفاظ من هذا الخبر قوله: أبادههم، هو مثل أباديهم، يقولون: بدأت وبدهت على البدل، وإذا بدأت الكلام من غير أن تتهيّأ له فقد ابتدهته، وهى [البده] (2)، أصلها بديهة، وقوله: حذية من اللحم، هى القطعة المستطيلة منه، وقوله: عسّ من اللبن، العسّ إناء من أوانى اللبن، ليس بالكبير، وقوله: شدّ ما سحركم، أى ما أشدّ سحره لكم، وقوله أحجم القوم: الإحجام هو النكوص، والتأخّر عن الشّئ،

وقوله: أحدثهم سنّا، أى أصغرهم، وكان علىّ عليه السّلام إذ ذاك لم يبلغ عشر سنين، وهذا أوّل ما بعث النبى صلّى الله عليه وسلم، وقوله: أخمشهم ساقا، الخمش دقّة الساقين، والله أعلم. نشأ علىّ عليه السّلام فى حجر سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنّ أبا طالب كان قد أقتر وأخلّ (1)، وجلس علىّ بمكّة، بعد أن هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاثا يؤدّى الودائع التى كانت عنده، وآخى بينه وبين نفسه صلّى الله عليه وسلم وبين سهل بن حنيف الأنصارى رضى الله عنه. وكان ابن عبّاس يقول: اجتمع لعلىّ رضى الله عنه أربع خصال ليست لغيره: هو أوّل عربىّ [وعجمىّ] (2) صلّى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى كلّ زحف، وصبر معه يوم فرّ غيره، وغسّل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأدخله قبره. ولمّا قتل مصعب بن عمير يوم أحد، وكان اللواء معه، أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم اللّواء (251) بيده، وقال: «لأعطينّ اللواء اليوم لرجل يحب الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله»، فتشوّف الناس من يكون ذاك؟ فأعطاه عليّا، وكان عمره يومئذ عشرين سنة، لم يتخلّف عنه صلّى الله عليه وسلم إلاّ فى غزاة تبوك، تخلّف عنه بأمره، وقال صلّى الله عليه وسلم وهو على حراء: «اسكن حراء، فما عليك إلاّ نبى أو صدّيق أو شهيد»، وكان عليه العشرة المشهود لهم بالجنّة. وبعثه صلّى الله عليه وسلم قاضيا، قال: إنّك بعثتنى إلى قوم ذوى أسنان، وأنا حديث السّن لا علم لى بالقضاء، فقال عليه السلام: «إنّ الله سيهدى قلبك ويثبّتك،

إذا جاءك الخصمان فلا تقضينّ على الأوّل حتّى تسمع من الثانى، فإنّه يتبيّن لك القضاء»، ثم ضرب فى صدره بيده، وقال: «اللهمّ اهد قلبه، وسدّد لسانه»، قال علىّ: فما شككت بعدها فى قضاء بين اثنين. وقال علىّ عليه السّلام: ما تقدّمت على الخلافة إلاّ خوفا أن ينزو (1) على الأمر تيس من تيوس بنى أميّة يلعب بكتاب الله. زوّجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم لفاطمة، وقال لها: «زوّجتك أوّل أصحابى إسلاما، وأكثرهم علما وحكما»، وقال من ذكر قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لأعطينّ غدا الراية رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، ليس بفرّار، يفتح الله على يديه» إنّما ذلك كان فى غزاة خيبر. ولمّا نزل قوله تعالى: {إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ»} (2)، دعا صلّى الله عليه وسلم عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا فى بيت أمّ معبد، أو أمّ سلمة، وقال: «اللهمّ هؤلاء أهل بيتى، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا»، وقيل: إنّ هذه (252) الآية نزلت فى نساء النبى صلّى الله عليه وسلم، وسياق الآية دليل على ذلك، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّهِ وَرَسُولِهِ»} إلى قوله تعالى: {يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ»}، إلى قوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ»}، إلى أن قال تعالى: {وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ، إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ»}، ثم قال بعد ذلك: {وَاُذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ»} (3).

ذكر أول خطبة خطبها كرم الله وجهه

وقال علىّ كرّم الله وجهه: والله إنّه لعهد النبى الأمّى صلّى الله عليه وسلم إلىّ أنّه لا يحبّنى إلاّ مؤمن، ولا يبغضنى إلاّ منافق. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلىّ عليه السّلام: «ألا أعلّمك كلمات إذا قلتهنّ غفر الله لك مع أنّك مغفور لك»! قال: بلى، «لا إله إلاّ الله الحكيم العليم، لا إله إلاّ الله العلىّ العظيم، لا إله إلاّ الله ربّ السموات وربّ العرش الكريم»، وقال صلّى الله عليه وسلم: «يا علىّ يهلك فيك رجلان: محبّ مطر، وكذّاب مفتر»، وقال له: «تفترق فيك أمّتى كما افترقت بنو إسرائيل فى عيسى بن مريم». بويع عليه السلام بالخلافة يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة بقيت من ذى الحجّة سنة خمس وثلاثين، بعد صلاة العصر، وقيل لثمانى عشرة ليلة بقيت من ذى الحجّة، وهو يوم قتلة عثمان رضى الله عنه، وكان أوّل من بايعه طلحة بلسانه، وسعد بيده ثم صعد المنبر، وكان أوّل من صعد إليه المنبر طلحة، فبايعه بيده، وكانت إصبع طلحة شلاء، فتطير علىّ عليه السّلام منها، وقال: ما أخلقه إن مكث، ثم بايعه سعد، والزبير، وأصحاب النبى صلّى الله عليه وسلم على طبقاتهم. ذكر أول خطبة خطبها كرّم الله وجهه ولمّا انتهى أمر المبايعة واستقرّ الأمر، قال (1) بعد [أن] حمد الله سبحانه، وصلّى على نبيّه صلّى الله عليه وسلم: أمّا بعد، فلا يرعين مرع إلاّ على نفسه، شغل من الجنّة والنار أمامه، ساع مجتهد، وطالب يرجو، ومقصّر فى النّار ثلاثة واثنان: ملك

ومن خطبه عليه السلام

طار بجناحه، ونبىّ أخذ الله بيده، لا سادس هلك من ادعى، وردى من اقتحم، اليمين والشمال مضلّة، والوسطى الجادة، منهج عليه أنوار الكتاب والسنة وآثار النبوّة، إنّ الله سبحانه داوى هذه الأمّة بدواءين: السيف والسوط، لا هوادة عند الإمام فيهما، استتروا بييوتكم، وأصلحوا ذات بينكم، والتوبة من ورائكم، من أبدى صفحته للحقّ هلك، قد كانت أمور لم تكونوا عندى فيها محمودين، أما إنّى لو أشاء أن أقول لقلت: عفا الله عمّا سلف، سبق الرجلان وقام الثالث كالغراب الأبقع، همّه بطنه، انظروا فإن أنكرتم فأنكروا، وإن عرفتم فأدّوا، حقّ وباطل، ولكلّ أهل، ولئن أمر الباطل لقديما ما فعل، ولئن قلّ الحق لربّما ولعلّ، ولقلّ ما أدبر شئ فأقبل، ولئن رجعت إليكم أموركم إنكم لسعداء، وإنّى لأخشى أن تكونوا فى فترة، وما علينا إلاّ الاجتهاد، ألا إنّ أبرار عترتى وأطايب أرومتى أحلم الناس صغارا، وأعلم النّاس كبارا، ألا وإنّا أهل البيت من علم الله علمنا، وبحكم الله حكمنا، ومن قول صادق سمعنا، فإن تتّبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا، وإن لم تفعلوا يهلكهم الله بأيدينا، معنا راية الحقّ، من تبعها لحق، ومن تأخّر عنها غرق، ألا وبنا تدرك ترة كلّ مؤمن، وبنا تخلع ربقة الذلّ من أعناقكم. ومن خطبه عليه السّلام (254) قال بعد حمد الله والصلاة على رسوله صلّى الله عليه وسلم: أيّها المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهن الصمّ الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم عدوّكم،

تقولون فى المجالس كيت وكيت، فإذا جاء القتال قلتم: حيدى حياد (1)، ما عزّت والله دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، أعاليل بأضاليل، سألتمونى التأخير، دفاع ذى الدين المطول، لا يمنع الضيم الذليل، ولا يدرك الحقّ إلاّ بالجدّ، أىّ دار بعد داركم تمنعون، أم مع أىّ إمام بعدى تقاتلون، المغرور والله من غررتموه، من فاز بكم فقد فاز بالسهم الأخيب، أصبحت والله لا أصدّق قولكم ولا أطمع فى خيركم (2)، فرّق الله بينى وبينكم، وأعقبنى من هو خير لى منكم، والله لوددت أنّ لى بكلّ عشرة منكم رجلا من بنى فراس بن غنم، صرف الدينار بالدرهم. ولمّا بويع واجتمعت عليه المهاجرون والأنصار، تخلّف عن بيعته قوم فلم يكرههم، وسئل عنهم فقال: أولئك قوم قعدوا عن الحقّ، ولم يقوموا مع الباطل، وروى أنّه قال فيهم: أولئك قوم خذلوا الحقّ، ولم ينصروا الباطل، وكان ممّن تخلّف عن بيعته عبد الله بن عمر بن الخطّاب، فأتى به إليه ملبّبا (3)، فقال له علىّ عليه السّلام: بايع! فامتنع، وقال: حتّى يحتمل عليك الناس. قال: فأعطنى حميلا (4)؛ قال: لا! وكان الأشتر قد شهر عليه السيف، وقال لعلىّ: إنّ ابن عمر قد أمن سيفك وسوطك، فأمكنّى منه! فقال له علىّ: دعه! فو الله ما علمته إلاّ سيّئ الخلق صغيرا وكبيرا، وأنا حميله.

ذكر سنة ست وثلاثين النيل المبارك فى هذه السنة

ثم جئ بسعد بن أبى وقّاص، فقيل له: بايع! فقال: يا أبا الحسن، إذا لم يبق غيرى بايعتك، فقال: خلّوا سبيل أبى إسحاق! وبعث إلى محمّد بن مسلمة الأنصارى، فقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمرنى إذا اختلف النّاس أن أخرج بسيفى، فأضرب به عرض أحد، حتى ينقطع، فإذا انقطع أتيت بيتى فقعدت فيه لا أبرح، حتّى تأتينى يد خاطفة، أو منيّة قاضية، قال فانطلق إذا. وكان عمّار بن ياسر قال لعلىّ عليه السّلام يوم قتل عثمان: لتنصبنّ لنا نفسك، أو لنبد أنّ بك. وتخلّف عن بيعة علىّ عليه السّلام أهل الشام، وأشار المغيرة بن شعبة على علىّ أن يقرّ معاوية بالشام، وأن يولّى طلحة والزبير حتى يستقيم له الأمر، فأشار ابن عبّاس بأن لا يفعل، ثم كان من طلحة والزبير ما يأتى ذكره فى وقعة الجمل مع عائشة، رضى الله عنهم أجمعين. ذكر سنة ست وثلاثين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وثمانية عشر إصبعا، تبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وإصبعين. ما لخّص من الحوادث الإمام علىّ كرّم الله وجهه أمير المؤمنين بالمدينة إلى حين خروجه إلى العراق، فيها فرّق عمّاله إلى الأمصار، فبعث عثمان بن حنيف إلى البصرة، وعمارة بن شهاب إلى الكوفة، وعبيد الله بن عبّاس اليمن، وقيس بن سعد مصر، وسهل بن حنيف

ذكر نبذ مما جرى فى وقعة الجمل

الشام، فلمّا مضى لقيه رجال من الشام فقالوا: من أنت؟ قال: أمير على الشام، قالوا: إن كان عثمان بن عفّان بعثك فأهلا بك، وإن كان غيره فارجع من حيث جئت، فرجع، وأمّا قيس بن سعد لمّا وصل إيلة فلقيه خيل، قالوا: من أنت؟ قال: من [فالة] (1) عثمان، فأنا أطلب من أوى إليه فأنتصر به، فمضى حتى (256) دخل مصر، فافترق الناس فرقا، حتى قتل محمّد بن أبى حذيفة، واستقرّ قيس بن سعد بمصر. وفيها كانت وقعة الجمل بين علىّ وعائشة رضى الله عنهما. ذكر نبذ ممّا جرى فى وقعة الجمل كانت وقعة الجمل بين علىّ وطلحة والزبير وعائشة رضى الله عنهم يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ستّ وثلاثين، وذلك أنّ طلحة والزبير وعائشة لما قدموا تلقاهم الناس، وكان عثمان بن حنيف عامل علىّ عليه السّلام على البصرة، فخرج إليهم فى جمع فتواقعوا، حتى زالت الشمس، ثم اصطلحوا، وكتبوا بينهم كتابا أن يكفّوا عن الحرب حتى يقدم علىّ عليه السّلام وعلى أن يكون لعثمان بن حنيف الإمارة والصلاة وبيت المال. فلمّا قدم علىّ عليه السّلام وصحبته عمّار بن ياسر، ومعهما أهل الكوفة، وكان علىّ عليه السّلام قبل خروجه من المدينة دخل بيت المال فوجد فيه مالا، فقسّمه بين النّاس، وساوى بينهم، وكنسه ونام فيه، وعزم على التوجّه إلى العراق لمّا بلغه خبر طلحة والزبير وعائشة رضى الله عنهم، فأشار عليه عبد الله بن سلاّم بلزوم المدينة، وقال له: أين تريد؟ قال: العراق، قال: عليك بمنبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم،

فالزمه، ولا أراه يحرّرك، والذى نفسى بيده لئن خرجت إلى العراق لا ترجع إلى منبر رسول الله فيما بقى، فكان كذلك، وأقام علىّ بالمدينة بعد المبايعة بالخلافة أربعة أشهر، ثم توجّه للعراق، والله أعلم. فلمّا قدم علىّ عليه السّلام ومعه عمّار بن ياسر، وكان قد أتى عليّا فى سبعة آلاف من أهل الكوفة، وكان علىّ فى أربعة آلاف من أهل المدينة، فقال عمّار: والله إنّى لأعلم أنّ عائشة زوجته فى الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بهذا لتتّبعوه أو لتتّبعوها، وكان عمّار يوم الجمل على الخيل، والراية مع محمّد بن الحنفيّة، وعلى الميمنة الحسن، (257) وعلى الميسرة الحسين، وكان على الرجّالة محمّد بن أبى بكر الصدّيق. ولمّا قدم علىّ عليه السّلام البصرة، قال لعبد الله بن عبّاس: ائت الزبير، ولا تأت طلحة، فإن الزّبير ألين، وطلحة كالثور عاقص بقرنه، يركب الصّعوبة، ويقول هى أسهل (1)، فأقرئه منّى السّلام، وقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتنى بالحجاز، وأنكرتنى بالعراق؟ فما عدا [ممّا] بدا (2)، فلمّا أبلغه ابن عبّاس مقالة علىّ قال له الزّبير: قل له: بيننا وبينك عهد خليفة، ودم خليفة، واجتماع ثلاثة، وانفراد واحد، وأمّ مبرورة، ومشاورة العشيرة، ونشر المصاحف، نحلّ ما أحلّت، ونحرّم ما حرّمت، قال علىّ كرّم الله وجهه: ما زال الزبير منا أهل البيت حتى أدرك ولده عبد الله، فلفته عنّا.

وخطبت عائشة رضى الله عنها يوم الجمل، وكان فى عسكرها لغط، فقالت: صه صه، فكأنّما قطعت الألسن فى الأفواه، فقالت: أيّها الناس، إن لى عليكم حقّ الأمومة، وحرمة الموعظة، مات رسول الله صلّى الله عليه وسلم بين سحرى ونحرى، وأنا إحدى نسائه فى الجنّة، ذخرنى له ربّى، وبى ميّز بين منافقكم ومؤمنكم، وإنّ أبى ثالث ثلاثة من المؤمنين، فهو ثالث الإسلام، وثانى اثنين فى الغار، وأوّل من سمّى صدّيقا، مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو عنه راض، طوقّه طوق الإمامة، ثم اضطرب حبل الدين فمسك أبى بطرفيه، ورتق فتقه، وأغاض نبع الرّدة، وأطفأ ما أو قدت يهود، وأنتم يومئذ جحظ العيون، تنظرون الغدوة وتستمعون الصّيحة، رأب الثأى (1)، وأودم (2) الغلطة، وانتأش (3) من المهواة، واحتجن دفين الدواء، حتى أعطن (4) الوارد، وأورد الصادر، وعلّ الناهل، فقبضه الله عزّ وجلّ (258) واطئا على هامات النفاق، مذكيا نار الحرب للمشركين، فانتظمت طاعتكم بحبله، ثم ولّى أمركم رجلا مرعيا إذا ركن إليه، بعيد ما بين اللابتين، يقظان اللّيل فى نصرة الإسلام، فسلك مسلك السابق، وفرّق شمل الفتنة، وجمع أعضاد ما جمع القرآن، وأنا نصب المسألة عن مسيرى هذا، لم ألتمس فيه إثما، ولم أوطئكم فتنة، أقول قولى هذا، وأستغفر الله لى ولكم، وأسأله أن يصلّى على محمّد، وأن يخلفه فيكم بأفضل الخلافة، خلافة المرسلين.

وكتبت عائشة إلى أمّ سلمة رضى الله عنها كتابا تقول فيه: ولنعم المطلع مطلع فرّقت فيه بين فئتين متشاجرتين، فإن أقعد فعن غير حرج، وإن أمض فإلى ما لا غنى لى عن الازدياد منه. وخطب علىّ عليه السّلام يوم الجمل، فقال فى خطبته، بعد حمد الله تعالى والصلاة على نبيه صلّى الله عليه وسلم: أمّا بعد، فإنّ الله عزّ وجلّ بعث محمّدا صلّى الله عليه وسلم إلى الثقلين كافّة، والناس فى اختلاف، والعرب بشرّ المنازل، فرأب الله به الثأى، ولأم به الصدع، ورتق به الفتق، وأمّن به السّبل، وحقن به الدماء، وقطع به العداوة الواغرة للقلوب، والضغائن المخشّنة للصدور، ثم قبضه الله إليه مشكورا سعيه، مرضيّا عمله، مغفورا ذنبه، كريما عند الله نزله، فيالها مصيبة عمّت المسلمين، وخصّت الأقربين، وولى أبو بكر رضى الله عنه فسار بسيرة رضيها المسلمون، ثم ولى عمر فسار بسيرة أبى بكر رضى الله عنهما ثم ولى عثمان، فنال منكم ونلتم منه، حتّى إذا كان من أمره ما كان، أتيتموه فقتلتموه، ثم أتيتمونى فقلتم: بايعنا، فقلت: لا أفعل، وقبضت يدى، فبسطتموها، ونازعتكم بكفّى، فجذبتموها، وقلتم: لا نرضى إلاّ بك، ولا نجتمع إلاّ عليك، (259) وتداككتم علىّ تداكّ الإبل الهيم على حياضها يوم وردها، حتى ظننت أنّكم قاتلىّ، أو بعضكم قاتل بعضا، فبايعتمونى على الأمر، وبايعنى طلحة والزبير، فما لبثا أن استأذنانى إلى العمرة، فصارا إلى البصرة، ففعلا بها الأفاعيل، وهما يعلمان والله أنّى لست بدون واحد ممّن مضى، ولو أشاء أن أقول لقلت: الّلهمّ إنّهما قطعا قرابتى، ونكثا بيعتى، وألّبا علىّ عدوّى، الّلهمّ فلا تحكم لهما ما أبرما، وأرهما المسألة فيما عملا وأمّلا.

قال الحارث بن سويد، وكان يوم الجمل فى عسكر طلحة: والله ما رأيت مثل يوم الجمل، لقد أشرعوا رماحهم فى صدورنا، وأشرعنا رماحنا فى صدورهم، فلو شاءت الرجال أن تمشى عليها لمشت، يقول هؤلاء: لا إله إلاّ الله والله أكبر، ويقول الآخرون كذلك، فو الله لوددت أنّى لم أشهد الجمل، وأنّى أعمى مقطوع اليدين والرجلين. وقال عبد الله بن سلمة: ما يسرّنى أن غبت عن ذلك اليوم، ولا عن مشهد شهده علىّ رضى الله عنه بحمر النعم. وكان اسم جمل عائشة عسكرا، وكان يعلى بن منية وهبه لها، وجعل لها هودجا من حديد، وجهّز من ماله خمس مائة فارس بأسلحتهم وأزوادهم، وكان يعلى بن منية أكثر أهل البصرة مالا. وكان علىّ يقول: بليت بأنضّ النّاس، وأنطق النّاس، وأطوع النّاس فى الناس (1)، يريد بأنضّ النّاس يعلى بن منية كان أكثرهم ناضا (2)، ويريد بأنطق الناس طلحة بن عبيد الله، وبأطوع النّاس فى النّاس عائشة رضى الله عنها، وروى أنّ عليّا كان يقول: بليت بأشجع النّاس، يعنى الزبير، وأسخى الناس، يعنى طلحة. وكان كعب بن سور ممسكا زمام الجمل، فأتاه (260) سهم فقتله، فتعاقد النّاس الزّمام، كلّما أخذه واحد قتل، حتّى عدّ من قتل الزّمام سبعون رجلا، وقيل

قطعت عليه سبعون يدا، وشكّت السهام الجمل حتى صار كأنّه جناح نسر، وأخذ بزمامه رجل من بنى ضبّة وهو يقول: نحن بنو ضبّة أصحاب الجمل … الموت أحلى عندنا من العسل ننعى ابن عفّان بأطراف الأسل … ردّوا علينا شيخنا ثم بجل ولمّا عقر الجمل، احتمل الهودج حتى وضع بين يدى علىّ، فأمر به فأدخل فى منزل عبد الله بن بديل، وكان الذى احتمله محمّد بن أبى بكر، أخا عائشة، وعمّار ابن ياسر، وكان علىّ قد دنا من الهودج، ولمّا سار إليه، فكلّم عائشة، فقالت له: ملكت فأسجح، فجّهزها وأحسن جهازها، وبعث معها أربعين امرأة، ويقال: جهّز معها سبعين امرأة، أكثرهم من نساء همدان، فلم يزالوا معها حتّى قدمت المدينة. قال الشاعر ممّن شهد الجمل: شهدت الحروب فشيبننى … فلم ترعينى كيوم الجمل (1) أشدّ على مؤمن فتنة … وأقتل منه لخرق بطل (2) فليت الظعينة فى بيتها … وليتك عسكر لم ترتحل كنى بعسكر عن الجمل إذ كان اسمه. قال قتادة: قتل يوم الجمل مع عائشة رضى الله عنها عشرون ألفا، منهم ثمانمائة من بنى ضبّة، وقتل من أصحاب علىّ خمسمائة.

ذكر طلحة بن عبيد الله وأخباره ومقتله

قال ابن عبّاس: ولما انقضى أمر الجمل دعا علىّ عليه السّلام بآجرّتين، فعلاهما، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: يا أنصار المرأة، وأصحاب البهيمة، رغا فحننتم، وعقر فانهزمتم، نزلتم شرّ (261) بلاد، أبعدها من السماء، وبها مغيض الماء، ولها شرّ أسماء، هى البصرة، والبصيرة، والمؤتفكة، وتدمر. وقتل فى ذلك اليوم طلحة بن عبيد الله، رضى الله عنه. ذكر طلحة بن عبيد الله وأخباره ومقتله طلحة بن عبيد الله من بنى تميم بن مرة، وكان سبب إسلامه رضى الله عنه أنّه حضر سوق بصرى من الشام، فإذا راهب فى صومعته يقول: سلوا هؤلاء القوم أفيهم أحد من أهل الحرم؟ قال طلحة: فقلت: نعم، فقال لى. ظهر أحمد؟ قلت: من أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطّلب، هذا زمانه وهو آخر الأنبياء، ومخرجه من الحرم، ومهاجره إلى نخل، قال طلحة: فوقع قوله فى قلبى، فلمّا أتيت مكّة قلت: هل كان من حدث؟ قالوا: نعم، محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب الأمين، تنبّأ وتبعه ابن أبى قحافة، قال: فدخلت على أبى بكر فسألته، فقال: نعم وقد اتّبعته، فإنّه يدعو إلى الحقّ، فأخبره طلحة بقول الراهب، ثم أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأسلم طلحة، وأخبر النبى صلّى الله عليه وسلم بقول الراهب، وسمّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلحة الفيّاض لكرمه، وسمّى أيضا طلحة الخير. وكان طلحة من أجمل الناس، رأته امرأة يوم دخل البصرة، فقالت: من هذا الذى كأن وجهه دينار هرقلى، وكان لا يغيّر شيبه، سأله رجل شيئا، فقال: إنّ حائطى بمكان كذا، قد أعطيت فيه ستّمائة ألف، فإن شئت فخذ المال، وإن شئت فخذ الحائط.

سمع علىّ كرّم الله وجهه رجلا ينشد: فتى كان يدنيه الغنى من صديقه … إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر فقال: ذلك طلحة رضى الله عنه. وثبت طلحة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم (262) يوم أحد، وبايعه على الموت، فرمى مالك بن زهير الجشمى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسهم، فاتّقاه طلحة، فأصاب السهم خنصره، فقال: حس، فقال النبى صلّى الله عليه وسلم: لو قال: بسم الله، لدخل الجنّة والناس ينظرون إليه (1)، وهذه الكلمة: حس ممّا تقولها العرب للشئ المؤلم، وجرح طلحة بضعة وثلاثين جرحا، وقال عليه السلام: «من أراد أن ينظر إلى رجل يمشى على الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة». وكان طلحة يلبس المصبغات، وهو الذى قال له عمر رضى الله عنه: إنّكم أيّها الرهط يقتدى بكم، فلو رآك جاهل لقال: على طلحة ثياب مصبغات، وإنّما كانا مصبوغين بمدر. وكانت غلّة طلحة فى كلّ يوم ألف واف، وزن كل درهم درهم وثلث (2)، وقيل كانت غلته بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف، وغلّته بالشراة عشرة آلاف دينار، وكان لا يدع عائلا من بنى تيم إلاّ أغناه وكفاه مئونة عياله ويزوّج أيا ما هم، ويخدم من لا خادم له، وكان يبعث لعائشة إذا جاءته غلّته عشرة آلاف

وترك ألفى ألف درهم ومائتى ألف دينار، وكان ماله قد اغتيل، وكانت قيمة ما ترك من العقار والأموال ثلاثين ألف ألف درهم، ومن الناضّ ألفى ألف درهم ومائتى ألف دينار، والباقى عروض. ولمّا حضر يوم الجمل قال طلحة: إنّا كنّا داهنّا فى أمر عثمان، فلا أقلّ من أن نبذل فيه دماءنا، الّلهمّ خذ لعثمان منّى حتى ترضى، فلمّا أصابه السهم اعتنق فرسه، وركضه حتى مات فى بنى تيم، ودفن طلحة عند قنطرة قرّة بالبصرة، رحمه الله، وأرضى عنه. دخل ولد طلحة على علىّ كرّم الله وجهه، فرحّب به (263) علىّ عليه السّلام فقال: أترحّب بى يا أمير المؤمنين، وقد قاتلت أبى، وأخذت ماله؟ فقال: أمّا مالك فهو معزول فى بيت المال، فاذهب فخذه، وأمّا قتالى أباك فإنّى أرجو أن أكون أنا وأبوك ممّن قال الله عزّ وجلّ فيهم: {وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ»} الآية (1)، وكان الذى قبض من طلحة أرضا له فردّها علىّ رضى الله عنه وردّ غلّتها للسنين الماضية. وكان لطلحة أولاد، منهم محمّد السجّاد، وقتل يوم الجمل مع أبيه، ولمّا ولد محمّد هذا جاءت به أمّه حمنة بنت جحش رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسمّاه محمّدا وكنّاه أبا إسحاق، وقال: «لا أجمع له بين اسمى وكنيتى»، وكان علىّ رضى الله عنه قد نهى الناس عن قتل محمد هذا، قال: إيّاكم وصاحب البرنس، فقتله شريح ابن أوفى العبسىّ، فلمّا رآه علىّ مقتولا استرجع، وقال: السجّاد؟ وربّ الكعبة هذا الذى قتله برّه بأبيه، وكان أبوه قد أمره بالتقدّم، فتقدّم، ونثل درعه بين

رجليه، ووقف عليها، وكان كلّما حمل عليه رجل قال: نشدتك [بحاميم] (1)، فقتله شريح، وقال: وأشعث قوّام بآيات ربّه … قليل الأذى فيما ترى العين مسلم ضممت إليه بالقناة قميصه … فخرّ صريعا لليدين وللفم على غير ذنب غير أن ليس تابعا … عليّا ومن لا يتبع الحقّ يندم يناشدنى حاميم والرّمح شاجر … فهلاّ تلا حاميم قبل التقدّم وقيل: قتله الأشتر، ولمّا رأى الحسن صلوات الله عليه جزع أبيه علىّ كرّم الله وجهه على محمّد بن طلحة قال: يا أمير المؤمنين، قد كنت أنهاك عن سيرك هذا، فغلبنى عليك فلان وفلان، فقال يا بنىّ، كان ذلك فى الكتاب مسطورا، وددت لو متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة. (264) خرج علىّ عليه السّلام فى ليلة يوم الجمل، ومعه قنبر مولاه، وبيده شمعة يتصفّح وجوه القتلى، فوقف على طلحة فى بطن واد فمسح الغبار عن وجهه، وقال: أعزز علىّ أبا محمّد أن أراك معفّرا فى التراب، تحت نجوم السماء، وبطون الأودية، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ثمّ بكى وقال: شفيت نفسى وقتلت معشرى … [إليك] (2) أشكو عجرى وبجرى ومن أولاد طلحة: عائشة بنت طلحة، كانت من أنبل نساء قريش، وأجملهنّ، تزوّجها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصدّيق، ثم خلف عليها مصعب

ابن الزبير، ثم خلف عليها عمر بن عبد الله بن معمر المثنّى، وهى إحدى عقيلتى قريش، قال مصعب بن الزبير لحبىّ المدنيّة: ابغنى أيّما أتزوّجها، قالت: عائشة بنت طلحة، على عظم فى أذنيها وقدميها، فقال: أمّا الأذنان فيغطّيهما الخمار، وأما القدمان فيغطّيهما الخفّان، فتزوّجها، وأصدقها خمس مائة ألف درهم، فقال يونس بن أبى إياس الديلى، ويقال ابن همّام السلولى: أبلغ أمير المؤمنين رسالة … من ناصح ما إن يريد متاعا بضع الفتاة بألف ألف كامل … وتبيت سادات الجيوش جياعا فلو اننى الفاروق أخبر بالّذى … شاهدته ورأيته لارتاعا وكانت عائشة هذه سيّئة الخلق، تشارّ أزواجها، غضبت يوما على عبد الله ابن عبد الرحمن بن أبى بكر، وكان أبا عذرتها، فخرجت إلى المسجد، فرآها أبو هريرة رضى الله عنه، فقال: سبحان الله، سبحان الله، ما أحسن ما غذّاك أهلك، أحسن وجها منك. وقيل لعمر بن عبيد الله بن معمر، وهو آخر أزواجها، لو طلّقتها لاسترحت من سوء خلقها، فقال: يقولون طلّقها وتصبح ثاويا … مقيما عليك الهمّ أضغاث حالم فإنّ فراقى أهل بيت أودّهم … لهم زلفة عندى لإحدى العظائم وجرت لعائشة هذه مع الحارث بن خالد المخزومى قصّة كانت سبب عزله عن ولاية [مكة] (1)؛ وذلك أنّ الحارث المخزومىّ قدم على عبد الملك بن مروان أيّام خلافته، فأقام ببابه ستّة أشهر لا يؤذن له، فانصرف وقال:

ذكر الزبير وأخباره ومقتله

تبعتك إذ عينى عليها غشاوة … فلما انجلت قطّعت نفسى ألومها فما بى إن أقصيتنى من ضراعة … ولا افتقرت نفسى إلى من يلومها عطفت عليك النّفس حتّى كأنّما … بكفيّك يجرى بؤسها ونعيمها ورحل، فأرسل إليه عبد الملك فردّه، وقال: يا حارث، أترى على نفسك غضاضة فى وقوفك على بابى؟ فقال: لا، ولكن طالت غيبتى، وانتشرت ضيعتى، ووجدت فضلا من قول، فقلت، فقال: كم دينك؟ قال: ثلاثون ألفا، قال: فاختر إمّا قضاءها عنك، أو توليتك مكّة، فاختار الولاية، فقدم مكّة، وبها عائشة بنت طلحة، فأرسلت إليه وقد أقيمت الصلاة، أنّى لم أقض طوافى، فاصبر، حتى أفرغ، وألحق بالجماعة، فقام بالناس ينتظر فراغها من الطواف، فكتب بذلك لعبد الملك، فعزله. وناحت عائشة بنت طلحة على زوجها عمر قائمة، فقيل لها: لم تفعلى ذلك بأحد من أزواجك، فقالت: فعلته لثلاث خلال: كان أقربهم بى رحما، وكان سيّد بنى تيم، وعزمت ألاّ أتزوّج بعده. ولعائشة هذه أخبار دقيقة تشتمل على معان رقيقة، مع عمر بن أبى ربيعة المخزومى الشاعر، نأتى منها طرفا عند ذكر عمر المذكور، إن شاء الله تعالى. وقتل يوم الجمل الزّبير، رحمه الله. ذكر الزّبير وأخباره ومقتله (266) الزّبير يكنى أبا عبد الله بن العوّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى ابن قصىّ، يلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى قصىّ بن كلاب، وأمّه صفيّة بنت عبد المطّلب، عمّة النبىّ صلّى الله عليه وسلم وهو حوارىّ (1) رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

وكان الزّبير رابع الإسلام، أو خامسه، أسلم رابعا أو خامسا، دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: بأبى أنت وأمّى، إلى ماذا تدعو؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّى رسول الله، قال: فإنّى أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّك رسول الله، صلّى الله عليك. ثم قال: يا رسول الله، إن شئت لنباديهم بالإسلام ولا نستسرّ به، فإننّا على حقّ وهم على باطل، فقال عليه السلام: إنّا لم نؤمر بالقتال بعد. قال (1): وشهد الزبير بدرا وهو ابن تسع عشرة سنة، وقيل: ابن ستّ عشرة سنة، ولم يتخلّف عن غزاة غزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكانت على الزبير يوم بدر عمامة صفراء، قد اعتجر بها، وكانت يومئذ على الملائكة عمائم صفر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «نزلت الملائكة اليوم على سيما الزبير، وهو أسد الله وأسد رسوله». رخّص رسول الله صلّى الله عليه وسلم للزبير فى قميص حرير. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «من يأتينى بخبر القوم»؟ قال الزبير: أنا، فقال صلّى الله عليه وسلم: «إنّ لكلّ نبىّ حواريّا، وإن حواريى الزبير. ولما قتل عمر بن الخطّاب رضى الله عنه محا الزبير نفسه من الديوان. وفداه رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم الأحزاب بأبويه (2).

قال عبد الله بن الزبير: لمّا كان يوم الجمل دعانى أبى الزبير، فقال: يا بنىّ، إنّه لا يقتل اليوم إلاّ ظالم أو مظلوم، وإنّى لا أرانى إلاّ سأقتل مظلوما، وإنّ أكبر همّى دينى، وما أرى ديننا (267) يبقى من أموالنا شيئا، ثم يا بنىّ بع مالى، واقض دينى، فإن فضل بعد قضائه شئ فثلثه لولدك، وإن عجزت عن شئ من دينى، فاستعن بمولاى، قلت: ومن مولاك يا أبه؟ قال: الله تبارك وتعالى، قال عبد الله: فما وقعت من دينه فى كربة إلاّ قلت: يا مولاى، اقض عنه، فيقضيه الله سبحانه وتعالى. ولم يدع الزبير إلاّ أرضين، منها الغابة (1)، وإحدى عشرة دارا بالمدينة، ودارا بالكوفة، ودارا بمصر، ودارين بالبصرة، ولم يتولّ الزبير إمارة قطّ، ولا جباية، ولا خراجا، إلا أن يكون فى غزوة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أو مع أبى بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم. قال عبد الله: فحسبت ما عليه من الدين، فبلغ ألفى ألف ومائتى ألف درهم، وإنّما كان الرجل يستودعه المال، فيقول الزبير: هو سلف علىّ، إنّى أخشى عليه الضيعة، قال عبد الله: فلقينى حكيم بن حزام، فقال: يا ابن أخى، كم على أخى من الدين؟ قلت: مائة ألف، قال: والله ما أرى أموالكم تتّسع لهذا، قلت: أرأيت إن كان ألفى ألف ومائتى ألف؟ قال: ما أراكم تطيقونها، فإن عجزتم عن ذلك فاستعينوا بى. وكان الزبير اشترى الغابة بمائة ألف وسبعين ألفا، فبيعت بألف ألف وستّمائة

ألف. ثم قلت: من كان له على الزبير دين فليأتنا [بالغابة] (1)، قال: فأتانى عبد الله بن جعفر، وكان له عليه مائة ألف، فقال: إن شئتم تركتها لكم، فقلت: لا، قال: فإن شئتم جعلتموها ممّا يؤخّر إن أخّرتم شيئا، قلت: لا، قال: فاقطعوا لى قطعة! فقلت: لك من هاهنا إلى هاهنا، فباع منه بدينه، وبقيت منه أربعة أسهم، فبعناها بأربع مائة ألف وخمسين ألفا. قال: فلما قضيت دينه أتانى ولد الزبير (268) وكانوا تسعة ذكور، وذلك أنّه لمّا ولد الزبير ولده عبد الله، وهو أكبر ولده، قال: إنّى رأيت طلحة سمّى ولده بأسماء الأنبياء، وإنّما أسمّى ابنى بأسماء الشهداء، فسمّاه عبد الله، باسم عبد الله ابن جحش (2)، فلعلّه يستشهد، وسمّى ولده الآخر المنذر، باسم المنذر بن عمرو ابن [خنيس] (3)، وسمّى الآخر عروة، باسم عروة بن مسعود الثقفى (4)، وسمّى الآخر حمزة، باسم حمزة بن عبد المطّلب (5)، وسمى الآخر جعفر، باسم جعفر ابن أبى طالب (6)، وسمّى الآخر مصعبا، باسم مصعب بن عمير (7) الليثى، وسمّى الآخر عبيدة بن الحارث (8)، وسمّى الآخر خالدا، باسم خالد بن سعيد (9)، وسمّى

الآخر عمرا، باسم عمرو بن سعيد بن العاص، قتل يوم اليرموك. قال عبد الله بن الزبير: فأتونى وقالوا: اقسم ميراثنا! فقلت: لا والله حتى أنادى بالموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا نقضه، فنادى المنادى أربع سنين، ثم قسمت ميراثه، وكان الزبير أربع نسوة، فصار لكلّ امرأة منهنّ من ثمن عقاراته ألف ألف ومائة ألف وكان ثمن ماله أربعة ألف ألف وأربع مائة ألف، وكان الثلثان الّذى اقتسمه الورثة خمسة وثلاثين ألف ألف درهم ومائتى ألف درهم، هذا القول ساقه صاحب كتاب التذكرة الحمدونيّة (1) فى تذكرته، وعليه العهدة فى ذلك. وأقطع رسول الله صلّى الله عليه وسلم الزبير أرضا من أراضى بنى النضير، ذات نخل وشجر، وأقطعه أبو بكر رضى الله عنه ما بين الجرف إلى قباء، وأقطعه عمر العقيق (2)، وكان قد أقطعه رسول الله صلّى الله عليه وسلم حضر (3) فرسه، فركض الزبير حتى أعيا، ثم رمى السوط، فأقطعه ذلك. قالت أسماء ابنة أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه: لقد تزوّجنى الزبير وما له فى الأرض مال، ولا مملوك، ولا له شئ يملك، إلاّ (269) فرسه، وكنت أعلفه وأكفيه مئونته، وأسوسه، وأدقّ النوى [لناضحه] (4)، وأعلفه وأستقى الماء، وأخرز غربه، تعنى دلوه، وما كنت أحسن الخبز، فيخبزن لى جاراتى، قالت

أسماء: وكنت أحمل النوى على رأسى من المدينة، فلقيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما، والنوى على رأسى، ومعه صلّى الله عليه وسلم نفر من أصحابه، فدعانى، ثم قال: «أخ أخ»، ليحملنى، فاستحييت من الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، وكان الزبير أغير الناس، فعرف صلّى الله عليه وسلم أنّى استحييته، فتركنى ومضى، وذكرت ذلك للزبير، فقال: أعلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أغار؟ والله لحملك النوى أشدّ علىّ من ركوبك خلفه، ثم أنفذ لى أبو بكر بعد ذلك خادما، فكفانى مئونة سياسة الفرس، وكأنّما أعتقنى. قال قتادة: كنت مع الزبير يوم الجمل، فجاءه فارس فسلّم عليه، وقال: أيّها الأمير، وكانوا لا يسلّمون عليه إلاّ بالإمرة، إنّ القوم قد أتوا موضع كذا، فنظرت إليهم، فلم أر قوما أرثّ سلاحا، ولا أقلّ عددا، ولا أرعب قلوبا منهم، ثم جاءه فارس آخر، فقال: أيّها الأمير، إنّ القوم قد وصلوا مكان كذا، فسمعوا بما جمع الله سبحانه لك (1) من العدّة والعدد، فقذف الله فى قلوبهم الرعب، فولّوا مدبرين، فقال الزبير: إيها عنك، فو الله لو لم يجد ابن أبى طالب إلاّ العرفج (2) لدبّ إلينا فيه، ثم جاء آخر، وقد كادت الخيل تخرج من الرهج، فقال: أيّها الأمير، هؤلاء القوم والله قد أتوك وفيهم عمّار بن ياسر، فقال الزبير: والله؟ ما جعله الله فيهم! فقيل: بلى، قد جعله الله فيهم، (270) فبعث الزبير رجلا من ثقاته ينظر إن كان عمّار فيهم، فأتاه فقال: قد صدقك من أخبرك، فقال الزبير:

واقطع ظهراه، ثم أخذه أفكل (1) حتى انتفض السلاح عليه، فقال الناس: أهذا الذى نقاتل معه؟ أليس هذا فارس رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فلمّا تشاغل الناس انصرف فجلس على دابّته عائدا، ثم جاء فارسان إلى الأحنف بن قيس فأكبّا عليه، فقال الأحنف: يا عمرو بن جرموز يا فلان، فأتياه فناجياه، ثم انصرفا، ثم أتى عمرو ابن جرموز، فقال: لقيته بوادى السباع فقتلته، وكان قرّة بن شريك يقول: والذى نفسى بيده، إن صاحب الزبير إلاّ الأحنف. ويقال إنّ عليّا عليه السلام دعا الزبير أن يبرز إليه وهو آمن حتى يكلّمه، ففعل، واجتمعا حتى التقت أعناق خيلهما، فقال: يا زبير أنشدك الله، الذى لا إله إلاّ هو، أخرج نبى الله صلّى الله عليه وسلم يمشى وخرجت معه أنا وأنت، فقال: «يا زبير لتقاتلنّه ظالما»، وضرب كتفك، فقال الزبير: الّلهم نعم! قال: أفجئت تقاتلنى؟ فرجع عن قتاله، وسار عن البصرة راجعا ليله، فنزل بماء لبنى مجاشع، فلحقه رجل من بنى تميم يقال له ابن جرموز، فقتله، وجاء بسيفه إلى على كرّم الله وجهه، فقال علىّ: «بشّر قاتل ابن صفيّة بالنّار»، أشهد لسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ذلك. وأتى ابن جرموز برأسه إلى علىّ، فدفنه مع بدنه بوادى السباع. وقال علىّ: إنّى لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير، من الذين قال الله

سبحانه فى حقّهم: {وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْااناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ»} (1). ويقال: إنّ الأحنف هو الذى طعنه، وكان لمّا حمل على الأحنف قال الأحنف: الله الله يا زبير (271) فأمسك الزبير عنه، فحمل ابن جرموز ورجل آخر معه على الزبير، فقال الزبير: قاتلك الله، تذكّرنا بالله وتنساه. فغافصاه حتى قتلاه، واحتزا رأسه، وأخذ ابن جرموز سيفه، وأتى عليّا عليه السّلام فلمّا رآه علىّ قال: سيف طالما جلّى به الكرب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولكنّه الحين ومصارع السوء. قال جرير للفرزدق: قتل الزبير وأنتم جيرانه … غيّا لمن قتل الزّبير طويلا ويقال: إنّ الزبير لمّا انصرف لقيه رجل من بنى مجاشع، فقال: يا زبير أنت فى جوارى، فقال الأحنف: يا عجبا للزبير! ألّب بين النّاس ثم نجا بنفسه، فسمعه ابن جرموز، فتبعه حتى قتله. وكان الأحنف قد أتى طلحة والزبير، فدعواه إلى بيعتهما، والطلب بدم عثمان، ومخالفة علىّ، فقال لهما: أمرتمانى ببيعته، ثم تأمراننى بقتاله، فقالا: أفّ لك، إنّما أنت فريسة آكل، وتابع غالب. وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، امرأة الزبير ترثيه:

غدر ابن جرموز بفارس بهمة … يوم اللّقاء وكان غير معرّد (1) يا عمرو لو نبّهته لوجدته … لا طائشا رعش البنان ولا اليد شلّت يمينك إن قتلت لمسلما … حلّت عليك عقوبة المتبلّد ثكلتك أمّك هل ظفرت بمثله … فيمن مضى [ممن] (2) يروح ويغتدى كم غمرة قد خاضها لم يثنه … عنها طرادك يا بن فقع [القردد] (3) وعاتكة هذه هى التى كان أهل المدينة يقولون: من أراد الشهادة فليتزوّج عاتكة، كانت زوجة لعبد الله بن أبى بكر، ثم زوجة عمر بن الخطّاب، ثم زوجة الزّبير. وغزا الزبير مصر، فصعد السور وحده (272) وقاتل عليه، وكان فتحها بصعوده. والزبير أحد من شهد له النبى صلّى الله عليه وسلم بالجنّة، وقتل رضى الله عنه وهو ابن ستّين سنة. وقال عمرو بن جرموز فى قتله للزبير: أتيت عليّا برأس الزّبي‍ … ر أرجو لديه به الزلفة فبشّر بالنّار إذ جئته … فبئس بشارة ذى التحفة وسيّان عندى قتل الزّبير … وضرطة عير بذى الجحفة

ويقال: إنّ الزبير أوّل من سلّ سيفا فى الله عزّ وجلّ، وذلك أنّه نفخت نفخة من الشيطان: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأقبل الزبير سوق الناس بسيفه، وكان عليه السّلام قد ذهب إلى أعلى مكّة، فرآه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «ما لك يا زبير»، فقال: أخبرت أنك أخذت، فصلّى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ودعا له ولسيفه. وقال جرير ينعى على بنى مجاشع قتل الزّبير: قالت قريش ما أذلّ مجاشعا … دارا وأكرم ذا القتيل قتيلا لو كنت حرّا يا بن قين مجاشع … شيعت ضيفك فرسخا أو ميلا أفبعد قتلكم خليل محمّد … ترجو القيون مع الرّسول سبيلا وقيل: إنّ هذه الأبيات أيضا من قوله: إنى تذكّرنى الزبير حمامة … تدعو ببطن الواديين هديلا (1) قال محمّد بن جرير الطبرى فى تاريخه (2): ولمّا استقر علىّ بالبصرة بعث عبد الله بن عبّاس إلى عائشة رضى الله عنها، يأمرها بالخروج إلى المدينة، فدخل عليها ابن عبّاس، بغير إذنها، واجتذب وسادة فجلس عليها، فقالت له: يا بن عبّاس، أخطأت السّنة المأمور بها، (273) دخلت علينا بغير إذننا، وجلست على رحلنا بغير أمرنا، فقال لها: لو كنت فى البيت الذى خلّفك فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما كنّا دخلناه إلاّ بأمرك، ولا جلسنا على رحلك إلاّ بإذنك، إنّ أمير المؤمنين

يأمرك بسرعة الأوبة، والتأهّب للخروج إلى المدينة، قالت: أبيت ما قلت وخالفت ما وصفت، قال: فمضى فأعاد ذلك على علىّ عليه السّلام، فردّه إليها، وقال: قل لها إن أنت أبيت تعلمين (1)، فلمّا أخبرها أنعمت، وأجابت إلى الخروج. قال: وأتاها علىّ عليه السّلام فى اليوم الثانى، وبصحبته الحسن والحسين، صلوات الله عليهما، مع بقيّة أولاده وأولاد إخوته، وفتيان من بنى هاشم وغيرهم من شيعته، فلمّا أبصرته النساء صحن فى وجهه، وقلن له: يا قاتل الأحبّة! فقال: لو كنت قاتل الأحبّة لقتلت من فى هذا البيت، وأشار إلى بيت من تلك البيوت قد اختفى فيه مروان بن الحكم، وعبد الله بن عامر، وعبد الله بن الزبير وغيرهم، فضرب من معه بأيديهم إلى قوائم سيوفهم لما علموا بمن فى البيوت مخافة أن يخرجوا عليه فيقتلوه. فقالت له عائشة، بعد كلام كثير جدّا بينهما، أضربت عنه: أحبّ أن أقيم معكم، فأسير إلى قتال عدوّك عند مسيرك، فقال لها: بل ترجعى إلى البيت الذى أمرك بلزومه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فسألته أن يؤمّن عبد الله بن الزّبير (2)، قال: قد أمّنته، ثم أمّن الوليد بن عقبة، وجميع ولد عثمان، وغيرهم من بنى أميّة، ثم أمّن الناس جميعا، وقد كان نادى يوم الوقعة: من ألقى سلاحه فهو آمن، [ومن دخل داره فهو آمن] (3).

قال الطبرى: وخرجت عائشة من البصرة يوم السبت لعشر من رجب (1)، سنة ستّ وثلاثين هجريّة، وشيّعها علىّ بنفسه أميالا. (274) قال الطبرى (2): ولما فرغ علىّ عليه السّلام من بيعة أهل البصرة أمّر عليها عبد الله بن عبّاس، ثم سار إلى الكوفة، فدخلها لاثنتى عشرة ليلة بقيت من رجب، ودخل إلى بيت المال فى جماعة من المهاجرين والأنصار، فنظر إلى ما فيه من العين والورق، فجعل يقول: يا صفراء غرّى غيرى، يا بيضاء غرّى غيرى، وأدام النظر إلى المال مفكّرا، ثم قال: اقسموه بين أصحابى، ومن معى، خمس مائة خمس مائة، ففعلوا فما نقص درهم ولا زاد درهم، وكان عدد من قسم عليهم اثنى عشر ألفا. وكان قد بعث إلى مصر قيس بن سعد أميرا، حسبما ذكرنا. قال الطبرى (3): وكان معاوية وعمرو بن العاص رضى الله عنهما جاهدين على إخراج قيس بن سعد من مصر، ليغلبا عليها، وكان قيس شديد النكاية، حسن التدبير، صاحب دهاء، ومكايدة للأعداء، فلم يقدرا عليه بحيلة من الحيل، حتى كاد معاوية قيسا من جهة علىّ عليه السّلام. وذلك أنّ معاوية كان يجد رجالا من ذوى الرأى من قريش، فيقول: ما ابتدعت مكايدة تطّ كانت أعجب عندى من مكايدة كدت بها قيس بن سعد من قبل علىّ بن أبى طالب، وذلك أنّى كنت أقول لأهل الشّام: لا تسبّوا قيسا،

فإنّه لنا شيعة، وقد أتتنا كتبه بذلك، ونصحه لنا، ألا ترون إلى ما يفعله بإخوانكم الذين عنده من أهل خربتا (1)، يجرى عليهم عطاياهم وأرزاقهم، ويحسن إلى كلّ راكب قدم عليه منكم، فلا تستنكرونه (2) فى شئ. وكتبت بذلك إلى شيعتى والنواب بالشام، قال: فبلغ ذلك جواسيس علىّ، فأبلغوه عليّا، ونماه إليه محمّد بن أبى بكر، وعبد الله بن جعفر، فاتّهم قيسا، وكتب إليه علىّ عليه السّلام يأمره بقتال أهل خربتا، وهم يومئذ نحو من عشرة آلاف، فأبى قيس أن يقاتلهم، وكتب إلى علىّ عليه السّلام أنّهم (275) وجوه أهل مصر وأشرافهم، وقد رضوا منّى أن أؤمّن سربهم، وأن أجرى عليهم عطاياهم، وأدرّ عليهم أرزاقهم، وقد علمت أنّ هواهم مع معاوية، فلست مكايدهم بأمر أهون علىّ وعليك من الذى أفعل بهم، فذرنى، فأنا أعلم بما [أدارى] (3) منهم. فأبى عليه إلاّ قتالهم، وأبى قيس أن يقاتلهم، ثم كتب قيس إلى علىّ رضى الله عنه يقول: إن كنت قد اتّهمتنى فأرسل إلى عملك غيرى! فبعث إلى علىّ عليه السّلام محمّد بن أبى بكر الصّديق رضى الله عنه أميرا إلى مصر (4)، فلمّا قدم على قيس تلقاه وأنزله وخلا به، وقال: ليس عزلكم إيّاى بمانعى أن أنصح لكم،

وأنا من أمركم هذا على بصيرة، وإنّى أدلّك على الذى كنت أكايد به معاوية وعمرا وأهل خربتا، فكايدهم أنت كذلك، ولا يحدث عليك أمر تخشاه! وأظهره على ما كان يعتمده. فأغشّه محمّد بن أبى بكر إلى معاوية كتابا يقول فيه ما رواه المسعودىّ (1): من محمّد بن أبى بكر إلى الغاوى معاوية بن صخر، أمّا بعد، فإنّ الله تعالى بعظمته وسلطانه خلق خلقه من غير عىّ منه (2)، ولا ضعف فى قوّته، خلقهم عبيدا، وجعل منهم غويّا ورشيدا، وشقيّا وسعيدا، اختار على علمه واصطفى، واستحبّ (3) منهم محمّدا المصطفى صلّى الله عليه وسلم فانتخبه (4) بعلمه، واصطفاه برسالته، وأمنه على وحيه، وجعله رسولا ومبشّرا ونذيرا، فكان أوّل من أجاب، وآمن وأناب، وصدّق وأسلم وسلّم، أخوه وابن عمّه علىّ بن أبى طالب، صدّقه بالغيب المكتوم، [وآثره] (5) على كلّ حميم، ووقاه بنفسه كلّ هول، وحارب حربه، وسالم سلمه، فلم يزل مبتذلا لنفسه فى ساعات الليل والنهار، والخوف (276) والجوع والخضوع، حتى برز سابقا لا نظير له فيمن اتّبعه، ولا مقاربا له فى فعله. وقد رأيتك تساميه، وأنت أنت، وهو هو: أصدق النّاس نيّة، وأحسنهم سرّا وعلانية، وأفضلهم قربة، وخيرهم زوجة وولدا، أخوه وابن عمّه، ووارث

علمه، عمّه سيد الشهداء يوم أحد، وأبوه الذابّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأنت اللعين ابن اللعين، لم تزل أنت وأبوك تبغيان لرسول الله صلّى الله عليه وسلم الغوائل، وتجتهدان فى إطفاء نور الله، تجمعان على ذلك الجموع، وتبذلان فيه المال، وتؤلّبان عليه القبائل، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون، على ذلك مات أبوك، وعليه خلفته، والشهيد عليك من تدنى، ويلجأ إليك من تعتدّه للنفاق ورءوس الأحزاب، والشاهد لعلىّ فضله القديم المبين أنصار الله ورسوله الذين معه، أكرمهم الله بفضله، وأثنى عليهم فى كتابه من المهاجرين والأنصار، فهم معه كتائب وعصائب، يرون الحقّ فى اتّباعه. فكيف يا لك الويل تعدل نفسك بعلىّ، وهو وارث رسول الله، ووصيّه، وأبو ولده، أوّل الناس له اتّباعا، وأقربهم به عهدا، يخبره بسرّه، ويطلعه على أمره، وأنت عدوّه وابن عدوّه، فتمتّع فى دنياك ما استطعت بباطلك. وليمددك ابن العاص فى غوايتك، فكأنّ أجلك قد انقضى، وكيدك قد وهى، ثم يتبيّن لك أنّ العاقبة لعلىّ المرتضى، واعلم أنّك تكايد ربّك الذى قد أمنت مكره، فهو لك بالمرصاد، وأنت منه فى غرور، والسلام على من اتّبع الهدى. فكتب معاوية رضى الله عنه جوابه يقول: من معاوية إلى الزارى على أبيه محمّد بن أبى بكر، أمّا بعد، فقد أتانى كتابك تذكر فيه ما الله [أهله] (1) فى قدرته وعظمته وسلطانه، وما اصطفى به رسوله (277) صلّى الله عليه وسلم، مع كلام فيه لك

تضعيف، ولأبيك فيه تعنيف، وذكرت فضل ابن أبى طالب، وقديم سوابقه، وقرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومواساته إيّاه فى كلّ هول وخوف، فكان احتجاجك علىّ، وعيبك لى، بفضل غيرك لا بفضلك، فأحمده ربّا صرف هذا الفضل عنك، وجعله لغيرك، فقد كنّا وأبوك معنا (1) نعرف فضل ابن أبى طالب، فلمّا اختار الله لنبيّه ما عنده، وأتمّ له ما وعده، وأظهر دعوته، وأبلغ حجّته، وقبضه الله إليه صلوات الله عليه كان أبوك وفاروقه أوّل من ابتزّه حقّه، وخالفه على أمره، على ذلك اتّفقا واتّسقا، ثم إنّهما دعواه إلى بيعتهما، فأبطأ عنهما، فهمّا به الهموم، وأرادا به العظيم، ثم إنّه بايعهما وسلّم لهما، فأقاما لا يشركانه فى أمرهما، ولا يطلعانه على سرّهما، حتى قبضهما الله إليه. ثم قام ثالثهما عثمان، فهدى بهديهما، وسار بسيرهما، فعبته أنت وصاحبك، حتى طمع فيه الأقاصى، من أهل المعاصى، فطلبتما له الغوائل، وأظهرتما عداوتكما حتّى بلغتما فيه منا كما، فخذ حذرك يا ابن أبى قحافة (2)، وقس شبرك بفترك، يقصر عن أن توازى الجبال حلمه، لا تلين على قسر قناته، ولا يدرك ذو مقال [أناته] (3)، أبوك مهّد مهاده، [وبنى] (4) لملكه وساده، فإن يك ما نحن فيه صوابا، فأبوك أسّسه (5)، ونحن شركاؤه فيه، ولولا فعل ذلك أبوك [من قبل،

ما خالفنا ابن أبى طالب، ولسلّمنا إليه، ولكنّا رأينا أباك] (1) فعل ذلك به من قبلنا، فأخذنا بمثله، فعقّ أباك ما بدا لك، والسلام. قال المسعودى (2): وخرج قيس بن سعد من مصر لمّا عزل حتى أتى المدينة، فأخافه مروان بن الحكم، والأسود، وجاءه حسّان بن ثابت، وكان حسّان عثمانيّا وقال له: نزعك ابن أبى طالب وقد قتلت عثمان؟ فبقى عليك (278) الإثم، ولم يوف إليك بالشّكر، فقال له قيس: والله يا أعمى القلب والبصيرة، لولا أنّ الذى منّى وبين رهطك، وأجنى بذلك بين قومى وقومك حربا، لعلوت رأسك بهذا السيف فى ساعتى هذه، انزع عنّى، نزعك الله عافيتك، ثم إنّ قيسا خرج، هو وسهل بن حنيف، حتى قدما على علىّ عليه السّلام الكوفة، فخبّره قيس بن سعد الخبر، فصدّقه، وعلم أن الذى أشار عليه بعزله لم ينصحه. قال: وكتب معاوية إلى مروان والأسود يقول لهما: أمددتما عليّا بقيس ابن سعد، ورأيه، ونكايته فو الله لو أنّكما أمددتماه بمائة ألف مقاتل ما كان ذلك بأغيظ لى من إخراجكما قيس بن سعد إلى علىّ بن أبى طالب. قال (3): وكان جرير بن عبد الله البجلى بهمدان، عاملا عليها لعثمان، فلمّا انصرف علىّ رضى الله عنه من البصرة إلى الكوفة كتب إليه أن يأخذ له البيعة على من قبله، ويقدم عليه، ففعل ذلك، وانصرف إليه معزولا، فلمّا أراد علىّ عليه السّلام إنفاذ رسول إلى معاوية، قال جرير بن عبد الله: ابعثنى إليه، فأوهيه فى واد لا يسعه غير الدخول فى طاعتك.

فقال الأشتر النخعى: لا تبعثه، فو الله إنّى لأظنّ هواه مع معاوية، فقال علىّ رضى الله عنه: دعنا حتّى ننظر ما الذى يرجع به إلينا، ووجّهه إلى معاوية، يدعوه إلى طاعة علىّ عليه السّلام، وقدم جرير على معاوية، فكلّمه، فأبطأ جوابه عليه، فقال جرير: إنّى رأيتك توقّفت بين الحقّ والباطل وقوف رجل ينتظر رأى غيره، وكذلك فعل معاوية، فإنّه انتظر شرحبيل بن السمط (1) الكندى، فلمّا قال جرير لمعاوية ما قال، قال معاوية لشرحبيل: هذا جرير يدعو إلى بيعة علىّ، فقال شرحبيل: إنما أنت عامل لأمير المؤمنين عثمان رضى الله عنه وابن عمّه (279) وأنت أولى الناس بدمه. فلمّا سمع ذلك جرير انصرف إلى علىّ رضى الله عنه، وأخبره الخبر، فقال مالك الأشتر: يا جرير، أما أعرف غشّك وغدرك، وكونك بعت دينك لعثمان بولاية همدان؟ فغضب جرير، ولم يحضر صفّين. فأتى علىّ كرّم الله وجهه دار جرير فشعّثها، وأحرق مجلسه، فقال له أبو زرعة بن عمرو بن جرير: أصلحك الله، إنّ فى الدار أنصباء لغير جرير، فأمسك علىّ رضى الله عنه. وقام أبو مسلم الخولانىّ واسمه عبد الرحمن فقال لمعاوية: لم تقاتل عليّا، وأنت تعلم سابقته وفضله؟ فقال له معاوية: كف، ليدفع إلينا قتلة عثمان، ولا قتال بيننا وبينه، فإنّ عثمان قتل مظلوما محرما، فقال له: اكتب له كتابا!

فكتب معاوية لعلىّ رضى الله عنهما يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، من معاوية إلى علىّ، أمّا بعد، فإنّ الله سبحانه وتعالى اصطفى محمّدا بعلمه ووحيه، وجعله الأمين على وحيه، ثم اجتبى له من المسلمين أعوانا، أيّده بهم، فكانوا فى المنازل عنده على قدر فضائلهم فى الإسلام، فكان أنصحهم لله عز وجل ولرسوله خليفته ثم خليفته، ثم الخليفة الثالث المقتول ظلما عثمان رضى الله عنه، فكلّهم حسدت، وعلى كلّهم بغيت، عرفنا ذلك فى نظرك الشزر، وقولك الهجر، وتنفّسك الصعداء وإبطائك عن بيعة الخلفاء، ولم تكن لأحد منهم أشدّ حسدا [منك] لابن عمّتك، وكان أحقّهم ألاّ تفعل ذلك به، لقرابته وفضله، فقطعت رحمه، وقبّحت حسنه، وأظهرت له العداوة، وبطنت له بالغشّ، وألّبت عليه الناس، حتى ضربت إليه آباط الإبل من كلّ وجه، وقيدت إليه الخيل من كل أفق، وشهر عليه السلاح فى حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقتل معك فى المحلّة، وأنت تسمع الهائعة، لا تدرأ عنه بقول ولا عمل (280) ولعمرى يا ابن أبى طالب، لو قمت فى أمره مقاما ينهى الناس عنه، وتقبح لهم ما انتهكوا، ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا، ولمحا ذلك عنهم ما كانوا يعرفون منك من المجانبة له والبغى عليه وأخرى أنت بها عند أولياء عثمان ظنين: إيواؤك قتلة عثمان، فهم عضدك ويدك وأنصارك. وقد بلغنى أنّك تتبرأ من دم عثمان رضى الله عنه، فإن كان كذلك فادفع إلينا قتلته لنقتلهم به، ثم نحن أسرع الناس لحاقا بك، وإلاّ فليس بيننا وبينك إلاّ السيوف، فو الّذى لا إله غيره لنطلبنّ قتلة عثمان فى الجبال والرمال والبرّ والبحر، حتى نقتلهم أو تلحق أرواحنا بالله عزّ وجلّ.

وكتب جوابه

ودفعه إلى أبى مسلم الخولانى، فلمّا وصل إلى علىّ كرّم الله وجهه جمع الناس فى المسجد، وقرأه عليهم. وكتب جوابه: بسم الله الرّحمن الرّحيم، من أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب، إلى معاوية ابن أبى سفيان، أمّا بعد: فإنّ أخا خولان قدم بكتاب منك تذكر فيه محمّدا صلّى الله عليه وسلم وما أكرمه الله عزّ وجلّ به من الهدى والوحى، فالحمد لله الّذى صدقه الوعد، ومكّن له فى البلاد، وأظهره على الدين كلّه، ولو كره المشركون، وقمع به أهل العداوة والشنآن من قومه، الذين شنفوا له، وكذّبوه، وظاهروا عليه، وعلى إخراج أصحابه، وقلبوا له الأمور، حتى ظهر أمر الله وهم كارهون، فكان أشدّ عليه الأدنى فالأدنى من قومه، إلاّ من عصمه الله تعالى. وذكرت أنّ الله جلّ ثناؤه، وتباركت أسماؤه اختار له من المؤمنين أعوانا أيّده بهم، فكانوا فى منازلهم عنده على قدر فضائلهم فى الإسلام، فكان أفضلهم خليفته، ثم خليفته من بعده، ولعمرى إنّ مكانهما من الإسلام لعظيم، (281) وإنّ المصاب بهما لرزء جليل، وذكرت ابن عفّان كان فى الفضل ثالثا، فإن يكن عثمان محسنا، فسيلقى ربّا شكورا، يضاعف له الحسنات، ويجزى بها، وإن كان مسيئا فسيلقى ربّا غفورا، لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، وإنّى لأرجو، إذا أعطى الله المؤمنين على قدر أعمالهم أن يكون قسمنا أوفر قسم أهل بيت من المسلمين. وإنّ الله سبحانه بعث محمّدا صلّى الله عليه وسلم فدعا للإيمان بالله، والتوحيد له، فكنّا

أهل بيت أوّل من آمن وأناب، فبغى لنا قومنا الغوائل، وهمّوا بنا الهموم، وألحقوا بنا الوشائط، واضطرّونا إلى شعب ضيّق، وضعوا علينا فيه المراصد، ومنعونا من الطعام والشراب، وكتبوا بيننا وبينهم كتابا، ألاّ يؤاكلونا، ولا يشاربونا، ولا يناكحونا، ولا يكلّمونا، أو ندفع إليهم نبيّنا، فيقتلوه أو يمثّلوا به. فعزم الله سبحانه لنا على منعه، والذبّ عنه، وسائر من أسلم من قريش، أخلياء ممّا نحن فيه، من هو من حليف ممنوع وذى عشيرة لا يبغى عليه كما بغى علينا فهم من التلف بمكان نجوة وأمن، فمكّننا بذلك ما شاء الله سبحانه. ثم أذن الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم فى الهجرة، وأمره بقتال المشركين، فكان إذا حضرت الناس ودعيت نزال، قدم أهل بيته، فوقى بهم أصحابه، فقتل عبيدة وحمزة يوم أحد وجعفر يوم مؤتة، وتعرّض من لو شئت أن أسمّيه لمثل ما تعرّضوا له من الشهادة، ولكن آجالهم حضرت ومنيّتهم أخّرت. وذكرت إبطائى عن الخلفاء، وحسدى لهم، فأمّا الحسد فمعاذ الله أن أكون أسررته أو أعلنته، وأما الإبطاء فما أعتذر فى الناس منه، ولقد أتانى أبوك وقد قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم (282) وبايع الناس الصدّيق رضى الله عنه، فقال أبوك: أنت أحقّ بهذا الأمر، ابسط يدك أبايعك، وعلمت ذلك من قول أبيك، فكنت الذى أبيت ذلك مخافة الفرقة، وقرب عهد الناس بالكفر والجاهليّة، فإن تعرف من حقّى ما كان أبوك يعرفه تصب رشدك، وإلاّ تفعل فسيغنينى الله عزّ وجلّ عنك.

ذكر حرب صفين بين على ومعاوية رضى الله عنهما

وذكرت عثمان رضى الله عنه، وتأليبى النّاس عليه، وإنّ عثمان صنع ما رأيت فركب الناس منه ما علمت، وأنا عن ذلك بمعزل، إلاّ أن تتجنّى فتجنّ ما بدا لك. وذكرت قتلة عثمان بزعمك، وسألتنى دفعهم إليك، وما أعرف له قاتلا بعينه إلاّ ضربت أنفه وعينه، ولا يسعنى دفع من قبلى ممّن اتّهمته وأظننته إليك، ولئن لم تنزع عن غيّك وشقائك، لتعرفنّ الذين تزعم أنّهم قتلوه طالبين، لا يكلفونك طلبهم فى سهل ولا جبل، والسلام. ونفذ الكتاب مع أبى مسلم وأبى هريرة، فكان ذلك بدء صفّين. ذكر حرب صفّين بين علىّ ومعاوية رضى الله عنهما قال المسعودى (1) رحمه الله: إنّ معاوية رضى الله عنه طلب عمرو بن العاص، واستشاره فيما كتبه علىّ عليه السّلام، فأشار عليه أن يرسل إلى وجوه الشام، ويلزم عليّا بدم عثمان، ففعل ذلك معاوية. وقد كان الشيطان بن بشير (2) لمّا قدم على معاوية بقميص عثمان الذى قتل فيه رضى الله عنه وهو بدمائه غريقا، وأصابع زوجته نائلة بنت الفرافصة، فوضع معاوية القميص على المنبر، وكتب إلى سائر وجوه أهل الشام فجمعهم عليه، وثاب الناس إليه، ومكث القميص على المنبر والأصابع معلقة فيه حولا كاملا، وآلى رجال من أهل الشام على أنفسهم ألاّ يأتوا النساء، ولا يمسّهم الماء [للغسل] (3) (283) إلاّ من أحلام، ولا يناموا على

ذكر سبب قدوم عمرو بن العاص على معاوية

فرش حتى يأخذوا بدم عثمان، ويقتلوا قتلته، أو يقتلوا دون ذلك. ومن رواية المسعودى (1): لمّا قدم جرير بن عبد الله عائدا من عند معاوية إلى علىّ عليه السّلام أخبره أنّ أهل الشام مجتمعون على معاوية وعلى بيعته، وعلى قتال علىّ، وأنّهم يبكون على عثمان، ويقولون: علىّ قاتله، وآوى قتلته، وأنّهم لا ينتهون عنه حتى يقتلهم أو يقتلوه. فقال الأشتر لعلىّ: قد كنت نهيتك أن تبعث هذا (2) الأعور، وأخبرتك عداوته وغشّه، ولو كنت بعثتنى كان خيرا من هذا الذى أقام عنده، حتى لم يدع بابا نرجو فتحه إلاّ أغلته، ولا بابا نرجو علقه إلاّ فتحه، فقال له جرير: لو كنت ثمّ لقتلوك، لقد ذكروا أنّك من قتلة عثمان، فقال الأشتر: لو أتيتهم والله يا جرير لم يعينى جوابهم، ولكنت حملت معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر، ولو أطاعنى فيك أمير المؤمنين لحبسك وأشباهك، حتّى يستقيم هذا الأمر، قال: فخرج جرير إلى قرقيسياء، وكتب إلى معاوية، فكتب إليه معاوية يستقدمه، فكان ذلك. ذكر سبب قدوم عمرو بن العاص على معاوية قال الطبرى فى تأريخه (3)، وغيره من أهل التّاريخ: إنّ معاوية رضى الله عنه لما استشار قومه وعشيرته فى قتال علىّ كرم الله وجهه، فقال له أخوه عتبة

ابن أبى سفيان: هذا أمر لا يتمّ لك إلاّ بعمرو بن العاص، فإنّه فريع زمانه فى تدبّر الأمور وإحكامها، وهو يخدع ولا يخدع، وقلوب أهل الشام مائلة إليه، فقال معاوية: صدقت، ولكنّ ميله إلى علىّ بن أبى طالب أكثر، ومحبّته له أثرّ، وأخشى أنه لا يجيبنى إلى ما أريد، فقال: اخدعه بالأموال، وولاية مصر! فكتب إليه معاوية يقول: من معاوية بن أبى سفيان (284) خليفة عثمان ابن عفّان إمام المسلمين، وخليفة رسول ربّ العالمين، ذى النورين، وصاحب جيش العسرة، وبئر رومة، المعدوم الناصر، الكبير الخادل، المحصور فى منزله، المقتول عطشا وظلما فى محرابه، المعذّب بأسياف الفسقة، إلى عمرو بن العاص، صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وثقته، وأمير عساكره، المعظّم رأيه، المجرّب تدبيره، أما بعد: لم يخف عليك احتراق قلوب المؤمنين بما أصيبوا من الفجعة بقتلة عثمان، وما ارتكب فيه جاره حسدا وبغيا، بامتناعه عن نصرته، وخذلانه إيّاه، وإشلاء (1) الغارة عليه، حتّى قتلوه فى محرابه، فيالها من مصيبة عمّت جميع المسلمين، وفرضت عليهم طلب دمه ممّن قتله، وأنا أدعوك اليوم إلى الحظّ الأجزل من الثواب، والنصيب الأوفر من حسن المآب، بقتال من آوى قتلة عثمان بن عفّان. فكتب إليه عمرو بن العاص يقول: من عمرو بن العاص صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى معاوية بن أبى سفيان، أمّا بعد: فقد وصل كتابك وقرأته وفهمته، فأمّا ما دعوتنى إليه من خلع ربقة الإسلام من عنقى، والتهوّر فى الضلالة معك، وإعانتى إيّاك على الباطل، واختراط السيف فى وجه علىّ رضى الله عنه

أخى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ووصيّه، ووارثه، وقاضى دينه، ومنجز وعده، وزوج ابنته سيدة نساء أهل الجنّة، وأمّ السبطين الحسن والحسين، سيّدى شباب أهل الجنّة، فكيف لى بذلك؟ وقولك إنّك خليفة فقد صدقت، ولكن تبيّن اليوم عزلك، ببيعة غير من استخلفك، فزالت خلافتك بزوال خلافته، وأمّا ما عظّمتنى به ونسبتنى إليه من صحبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، مع جميع ما ذكرت فلا أغترّ بالتزكية ولا أميل بها عن الله، وأمّا ما نسبت (285) أبا الحسن أخا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إليه من الحسد والبغى على عثمان رضى الله عنه وسمّيت الصحابة فسقة، وزعمت أنّه أشلاهم على قتله، فهذا كذب محض، وهو أنّه ليس كذلك. ويحك يا معاوية، أما علمت أنّ أبا الحسن بذل نفسه بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبات على فراشه، وهو صاحب السبق إلى الإسلام، وقد قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «هو منّى كهارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبىّ بعدى»، وقد قال فيه يوم غدير خم: «ألا من كنت مولاه فعلىّ مولاه، الّلهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه كيف ما دار»، وهو الّذى قال فيه عليه السّلام يوم خيبر: «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله»، فكان هو، وهو الذى قال فيه يوم الطير: «الّلهمّ ائتنى بأحبّ خلقك إليك» فلمّا دخل علىّ قال عليه السلام: «وال وال». وقد علمت يا معاوية ما أنزل الله تعالى فى كتابه العزيز من الآيات المتلوّات فى فضيلته، التى لم يشرك فيها أحدا غيره وهو قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}

{وَيَخافُونَ يَوْماً»} (1) الآية، وقوله تعالى: {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ»} (2) الآية، وقوله تعالى: لرسوله: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً»} (3)، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أما ترضى أن يكون سلمك سلمى، وحربك حربى، وتكون أخى ووليّى فى الدنيا والآخرة يا أبا الحسن؟ من أحبّك فقد أحبّنى، ومن أبغضك فقد أبغضنى، ومن أحبّك أدخله الله الجنّة، ومن أبغضك أدخله الله النار»، وكتابك يا معاوية إنّما يخدع من لا له عقل ولا دين، والسلام. وكتب فى آخره يقول: جهلت ولم تعلم محلّك عندنا … فأرسلت شيئا من خطاب ولم تدر (286) فثق بالّذى عندى لك اليوم آنفا … من الخير والإحسان والجاه والقدر وإن كنت فى ريب بما قد ذكرته … فاكتب بمنشور كريم على مصر أليس صغيرا ملك مصر ببيعة … هى العار فى الدنيا إلى آخر العمر فإن كنت ما تدرى فتلك مصيبة … وأعظم حسراتى إذا لم تكن تدرى قال: فكتب له معاوية منشورا على مصر، وأنفذه إليه، فلمّا وصل إليه بقى عمرو مفكرا لا يدرى ما يفعل، حتى ذهب عنه النوم، وتمثّل يقول:

تطاول ليلى بالهموم الطوارق … وصادفت من دهرى وجوه البوائق أأخدعه والخدع فيه سجيّة … أم أعطيه من نفسى نصيحة صادق أأقعد فى بيتى وفى ذاك راحة … لشيخ يخاف الموت فى كلّ بارق فلمّا أصبح دعا وردان مولاه، وكان وردان رجلا عاقلا لبيبا، فشاوره فى ذلك، فقال له وردان: إنّ مع علىّ آخرة ولا دنيا معه، وهى التى تبقى لك، وإنّ مع معاوية دنيا ولا آخرة معه، وهى الّتى لا تبقى عليك، فاختر لنفسك أيّهما أحببت، قال: فتبسّم عمرو، وتمثل يقول: لا قاتل الله وردانا وفطمته … لقد أصاب الذى فى القلب وردان لما تعرضت الدنيا عرضت لها … بحرص نفس وفى الأطماع حرمان نفس تعفّ وأخرى الحرص يمنعها … والمرء يأكل تينا وهو عريان (1) أما علىّ فدين ليس يشركه … دنيا وذاك له دنيا وسلطان فاخترت من طمعى دنيا على بصرى … وما معى بالّذى أختار برهان إنى لأعرف ما فيها وأبصره … وفىّ أيضا لما أهواه ألوان لكنّ نفسى تحبّ العيش فى شرف … وليس يرضى بذلّ النّفس إنسان قلت: لست أظنّ هذه الأشعار من كلام عمرو بن العاص رضى الله عنه،

(287) ولا هذا الكلام السخيف، لما فيه من القصور عن بلاغة تلك الأقوام، رضى الله عنهم، ولعلّه مفتعل عليهم من بعض المتوالين، والله أعلم. ثم إنّ عمرا رحل طالبا معاوية، فمنعه عبد الله ولده، ومولاه وردان فلم يمتنع حتّى إذا كان بمفرق الطريقين: طريق العراق وطريق الشام، فقال له وردان: طريق العراق طريق الآخرة، وطريق الشام طريق الدنيا، وإن نحن منقلبون عنها، فأيّهما تسلك وفّقك الله؟ فقال: طريق الشام يا وردان، والربّ مسامح وغفور، فقم! حتى لحق بمعاوية رضى الله عنهما. ولنعد إلى أخبار حرب صفّين، بحول الله وقوّته وبركة إلهامه، قال الطبرى (1) رحمه الله: وخرج علىّ عليه السّلام حتى خيّم بالنخيلة، وقدم عليه عبد الله بن عبّاس بأهل البصرة، فسار علىّ كرّم الله وجهه حتى عبر آخذا على طريق الجزيرة، وعبر الفرات، وكان (2) مسيره من الكوفة لخمس خلون من شوال سنة ستّ وثلاثين، واستخلف على الكوفة أبا مسعود عقبة بن [عامر] (3) الأنصارى، واجتاز فى طريقه بالمدائن إلى الأنبار، حتى نزل الرقّة، فعقد له هناك جسر، فعبر إلى جانب الفرات من ناحية الشام، وقد تنوزع فى عدّة من كان معه، فمكثّر ومقلل، والمتّفق عليه أنّ جميع جمعه سبعون (4) ألفا، وقيل تسعون ألفا.

فلمّا بلغ معاوية سير علىّ عليه السّلام استشار عمرا، فقال له: إنّه سار إليك بنفسه، فسر إليه بنفسك، ولا تغب عنه برأيك ومكيدتك، فقال: إذا جهّز الناس، فصار عمرو يحرض الناس على قتال علىّ كرّم الله وجهه ويضعّفه عندهم، ويقلّل أمر أصحابه وأتباعه. وأقبل معاوية فى جيوش الشّام، واختلف أيضا فى جموع معاوية، فمقلّل ومكثّر، والمتّفق عليه (288) من جموعه خمسة وثمانون ألفا، فلمّا تراءى الجمعان، نزل معاوية وأصحابه منزلا اختاروه، فكانت الشريعة بأيديهم، وكان على خيل معاوية أبو الأعور السلمى، وأجمعوا رأيهم أن يمنعوا أصحاب علىّ عليه السّلام الماء، قال: ففزع النّاس إلى أمير المؤمنين علىّ كرّم الله وجهه فأخبروه بذلك، فقال عليه السّلام: ادعوا لى صعصعة بن صوحان، فلمّا حضر، قال: امض إلى معاوية وقل له: إنّا سرنا [مسيرنا] (1) هذا إليكم، ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، وإنّك قد قدمت علينا بخيلك ورجلك، تقاتلنا (2) قبل أن نقاتلك، ونحن ما رأينا إلاّ الكفّ عنك، حتّى ندعوك ونحتج عليك، وهذه أخرى قد فعلتموها: قد حلتم بين الناس وبين الماء، والناس غير منتهين أو يشربوا، فابعث إلى أصحابك فليخلّوا بين الناس وبين الماء، وليكفّوا حتى ننظر فيما يعود صلاحه على الفئتين، وإن أعجبك أن تترك الناس يقتتلون على الماء حتّى يكون الغالب هو الشّارب فعلنا.

فقال معاوية لأصحابه: ما ترون؟ فقال الوليد بن عقبة: امنعهم الماء كما منعوه عثمان بن عفّان، فقال عمرو بن العاص: خلّ بينهم وبين الماء، فإنّ القوم لن يعطشوا وأنت ريّان، ولكن [بغير] (1) الماء انظر فيما بينك وبينهم، فأعاد الوليد مقالته، وقال عبد الله بن أبى سرح: امنعهم الماء إلى الليل، فإنّهم إن لم يقدروا عليه رجعوا وإن رجعوا كانت ذلّة لهم وكسرة عليهم، امنعهم الماء، منعهم الله يوم القيامة من حوض الكوثر، فقال صعصعة: إنّما يمنعه الله يوم القيامة الفجرة المكرة أولى الفجور، وشربة الخمر، ضربك وضرب أمثالك مثل هذا الفاسق، وأشار إلى الوليد بن عقبة. قال: فتواثبوا إليه يشتمونه ويهددونه، (289) فقال معاوية: كفّوا عن الرجل فإنّه رسول، فلما رجع صعصعة إلى علىّ عليه السّلام وأصحابه حدّثهم بما قال معاوية، وما ردّ به عليهم، قال: فما الّذى رد عليك معاوية؟ قال: قلت له: ماذا ترد به علىّ؟ فقال: سيأتيكم رأى، قال: فو الله ما راعنا إلاّ [تسريته] (2) الخيل [إلى] (3) أبى الأعور السلمى أن كفّهم عن الماء، قال: فأبرزنا علىّ إليهم فارتمينا، ثم اطّعنّا، ثم اضطربنا بالسيوف ساعة، فنصرنا الله عليهم، وصار الماء فى أيدينا دونهم، فقلنا: لا والله لا نسقيكم القطرة، فارجعوا بخيبتكم إلى عسكركم فأرسل إلينا علىّ عليه السلام يقول: خذوا من الماء حاجتكم وخلّوا عنهم، فإنّ الله تعالى قد نصركم عليهم.

وذكر المسعودى فى تأريخه (1) أنّ الماء صار فى حوز أصحاب علىّ عليه السّلام، قال معاوية لعمرو بن العاص: يا أبا عبد الله، ما ظنّك بالرجل، أتراه يمنعنا الماء كما منعناه إيّاه؟ فقال له عمرو: لا يفعل، إنّه الرجل جاء إلى غير هذا، وإنّه لا يرضى، أو تدخل فى طاعته، أو يقطع حبل عاتقك، قال (2): فأرسل إليه معاوية يستأذنه فى وروده الماء، فأذن له، وأباحه [على] (3) ذلك. قال الطبرى (4): ومكث علىّ رضى الله عنه يومين لا يرسل إلى معاوية أحدا، وكذلك معاوية أيضا، ثم إنّ عليّا عليه السّلام دعا بشير بن عمرو الأنصارى، وسعيد بن قيس الهمدانى، وشبيب النميرى، وقال لهم: ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله، وإلى الطاعة والجماعة، فقال شبيب (5) بن ربعى: يا أمير المؤمنين ألا تطمعه فى سلطان [توليه] (6) إيّاه، فيكون له بها أثرة عندك إن هو بايعك؟ فقال علىّ عليه السلام: ائتوه واحتجّوا عليه، وانظروا ما رأيه! وهذا فى أول ذى القعدة (7). قال: فأتوه، ودخلوا عليه، قال: فتكلّم أبو عمرة بشير بن عمرو، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وصلّى على النبى صلّى الله عليه وسلم (290) وقال: يا معاوية إنّ الدنيا عنك زائلة، وإنّك راجع إلى الآخرة، وأن لا بدّ أن يحاسبك الله عزّ وجلّ

بعملك، ويجازيك بما قدّمت يداك، وإنّى أشدك الله، لا تفرّق جماعة اجتمعوا فى الله، وأن تحقن دماء هذه الأمّة. قال: فقطع عليه معاوية الكلام وقال: فهلاّ أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال أبو عمرة: إنّ صاحبى ليس مثلك، وإنّه أحقّ بهذا الأمر منك لفضله وسابقته، وقرابته، وتفدّمه فى الإسلام، قال: فماذا تقول؟ قال: آمرك بتقوى الله تعالى، وإجابة ابن عمّك إلى ما يدعو إليه من الحقّ، فإنّه أسلم لك فى دنياك، وخير لك فى آخرتك. قال معاوية رضى الله عنه: وبطل (1) دم عثمان؟ لا والله لا أفعل ذلك أبدا، قال: فذهب سعد بن قيس يتكلّم فبادره شبيب بن ربعى، فتكلّم، وحمد الله تعالى وصلّى على نبيّه صلّى الله عليه وسلم وقال: يا معاوية، إنّى قد فهمت ما رددت على ابن محصن، على أنّه ما يخفى علينا ما تعزو وما تطلب، إنّك لن تجد شيئا تستهوى (2) به الناس، وتستميل به قلوبهم وأهواءهم، وتستخلص به طاعتهم إلاّ قولك: قتل إمامكم مظلوما، فنحن نطلب بدمه، فاستجاب لك سفهاء [طغام] (3)، وقد علمنا أنّك أبطأت عنه بالنصرة، وأحببت أن تكون بهذه المنزلة التى أصبحت تطلب أمرا، وطالبه، يحول الله دونه (4)، وربّما أوتى المتمنّى أمنيته، وو الله ما لك فى واحدة [منهما] (5) خير، والله لئن أخطأك ما ترجو لأنّك شرّ العرب حالا فى ذلك،

ولئن أصبت ما تتمنّى لا تصبه حتّى تستحقّ من ربّك صلىّ النار، فاتّق الله يا معاوية ودع ما أنت عليه، ولا تنازع الأمر أهله. قال: فتكلّم معاوية وحمد الله تعالى، وأثنى عليه، وصلّى على النبى صلّى الله عليه وسلم ثم قال: أما بعد، فإنّ أوّل ما عرفت به سفهك وقلّة حلمك قطعك على (291) هذا الحسيب الشريف سيّد قومه منطقه، ثم عتبت فيما لا علم لك به، فقد كذبت ولوّ مت أيّها الأعرابى الجلف الجافى فى كلّ ما ذكرت ووصفت، انصرفوا فليس بينى وبينكم إلاّ السيف! وغضب وحرّج، وخرجوا من عنده، وشبيب بن ربعى يقول: أفعلينا تهوّل بالسّيف؟ فلنعجلنّ به إليك، وأتوا عليّا، وأخبروه بالذى كان من قوله. ثم كانت الحروب بينهم، وأخذ علىّ عليه السّلام يأمر الرجل ذا الشرف ليخرج ويخرج معه جماعة، ويخرج إليهم من أصحاب معاوية آخر، ومعه جماعة فيقتتلان فى خيلهما ورجلهما، ثم ينصرفان، وأخذوا يكرهون أن يلقوا جميع أهل العراق بجميع أهل الشام (1)، لما يتوخون من أن يكون ذلك سببا لا ستئصال جميعهم وهلاكهم. وكان علىّ رضى الله عنه يخرج لهم مرّة مالك الأشتر، ومرّة حجر بن عدى الكندى، ومرّة شبيب بن ربعى النميرى، ومرّة خالد بن النعمان (2)، ومرّة زياد ابن [النضر [(3) الحارثىّ، ومرّة زياد بن [خصفة التيمى] (4)، ومرّة [سعيد] (5)

ابن قيس الهمدانى، ومرّة معقل بن قيس الرياحى، ومرّة [قيس بن سعد] (1) الأنصارى، وكان أكثر القوم خروجا الأشتر النخعى. وكان معاوية رضى الله عنه أيضا يخرج إليهم عبد الرحمن المخزومى، ومرّة أبا الأعور السلمى، ومرّة حبيب بن [مسلمة] (2) الفهرى، ومرّة ابن ذى الكلاع الحميرى، ومرّة عبيد الله بن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، ومرّة شرحبيل ابن السمط الكندى، ومرّة حمزة بن مالك الهمدانى، فاقتتلوا ذا القعدة (3) بأسره، وربّما اقتتلوا فى اليوم مرّتين أوّله وآخره. قال الطبرى (4): وذكر من حضر وشهد حرب صفّين، قال: خرج الأشتر يوما يقاتل (292) بصفّين فى رجال من القرّاء، ورجال من فرسان العرب، فاشتدّ قتالهم، قال: فخرج علينا رجل لم أر والله رجلا قطّ مثله فى هول القامة والمنظر، ولا أعظم منه. فدعا المبارزة، فلم يخرج إليه إلاّ الأشتر، فتجاولا واختلفا ضربتين، فضربه الأشتر فقتله، فأيم الله لقد كنّا أشفقنا على الأشتر منه، [وسألناه ألاّ] (5) يخرج إليه، فلمّا قتله الأشتر خرج آخر، فقال: أقسم بالله لأقتلنّ قاتلك أو ليقتلنّى، فعطف عليه الأشتر فضربه، فإذا هو بين يدى فرسه، وحمله أصحابه، فاستنقذوه جريحا.

ذكر سنة سبع وثلاثين النيل المبارك فى هذه السنة

قال الطبرى: فلما انقضى ذو القعدة (1) تداعى الناس إلى أن يكفّ بعضهم عن بعض. وحجّ فى هذه السنة بالناس عبيد الله بن عبّاس (2) بأمر علىّ عليه السّلام، وكان عامله على اليمن، والله أعلم ذكر سنة سبع وثلاثين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا وثلاثة أصابع. ما لخّص من الحوادث الإمام علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه أمير المؤمنين، وعلى مكّة شرّفها الله تعالى أميرا قثم بن العبّاس، والمدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام سهل بن حنيف، من قبل الإمام علىّ عليه السّلام، والبصرة عبد الله بن عبّاس، والكوفة أبو مسعود الأنصارى، ومصر محمّد بن أبى بكر الصدّيق رضى الله عنه، وخراسان خليد (3) بن قرّة اليربوعى، من قبل الإمام علىّ عليه السّلام، والشّام معاوية رضى الله عنه من قبل نفسه، وهو فى حرب صفّين مع الإمام علىّ صلوات الله عليه. وكان شهر المحرّم من هذه السنة جميعه (293) موادعة بينهما، جرت طمعا

فى الصلح، واتّفاق الكلمة، واجتماع الأمر، ثم اختلفوا ولم يتّفق لهما حال، ولا انتظم لهم سلك. فلمّا دنا سلخ المحرّم أمر علىّ عليه السّلام مرثد بن الحارث الجشمى، فنادى على الناس من أهل الشّام عند غروب الشمس: ألا إنّ أمير المؤمنين يقول لكم: إنّى قد استدمتكم لتراجعوا الحقّ، وتثيبوا إليه، واحتججت عليكم بكتاب الله، ودعوتكم إليه، فلم [تناهوا] (1) عن الطغيان، ولم تجيبوا إلى الحقّ، وإنّى قد نبذت إليكم على سواء، إنّ الله لا يحبّ الخائنين. قال (2): ففزع أهل الشام إلى أمرائهم ورؤسائهم، وخرج معاوية وعمرو ابن العاص فى الناس يكتبان الكتائب، ويعبئان الناس، وأوقدوا النيران، وبات علىّ عليه السّلام طول ليلته يعبّئ الناس، ويكتّب الكتائب، ويحرّض الناس على القتال، ويقول: لا تقاتلوا القوم حتى يبدؤوكم بالقتال، فأنتم بحمد الله على حجّة، وترككم إيّاهم حتّى يبدؤوكم حجّة أخرى لكم، فإذا قاتلتموهم وهزمتموهم، فلا تقتلوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثّلوا بقتيل، فإذا وصلتم إلى رحال القوم، فلا تهتكوا سترا، ولا تدخلوا بيتا، ولا تأخذوا شيئا من أموالهم، إلاّ ما وجدتموه فى عسكرهم، ولا [نهيّجوا] (3) امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم، فإنّهن ضعاف القوى والأنفس. وأصبح من الغد، فبعث إلى الميمنة والميسرة، وكان ذلك فى أوّل يوم

من شهر صفر سنة سبع وثلاثين هجريّة، وهو يوم الأربعاء، وعبّأ الجيش، وأخرج الأشتر أمام النّاس، وأخرج إليه معاوية حبيب بن مسلمة الفهرىّ، فكان بينهما قتال شديد، والناس قد تصافّوا: أهل العراق وأهل الشّام سائر يومهم، وأسفرت (294) عن قتلى من الفريقين جميعا، وانصرفوا. فلمّا كان فى اليوم الثانى، وهو يوم الخميس، أخرج علىّ عليه السّلام هاشم ابن عتبة بن أبى وقّاص الزهرى، وهو ابن أخى سعد بن أبى وقّاص، وسمّى المرقال، لأنّه كان يرقل من تقدّمه فى الحرب، وكان أعور، ذهبت عينه يوم اليرموك، وكان من شيعة علىّ رضى الله عنه، فأخرج إليه معاوية أبا الأعور السلمى، وهو سفيان بن عوف، وكان من شيعة معاوية، والمنحرفين عن علىّ، فكان ذلك اليوم بينهم سجال، وانصرفوا فى آخر النهار. وأخرج فى اليوم الثالث، وهو يوم الجمعة، علىّ رضى الله عنه أبا اليقظان، عمّار بن ياسر، رضى الله عنه، فى عدّة من البدريّين، وغيرهم من المهاجرين والأنصار، فيمن أسرع معهم من الناس، فأخرج إليه معاوية رضى الله عنه عمرو ابن العاص فى نفر من الشام، فكان بينهم سجال إلى الظهر، ثم حمل عمّار فيمن ذكرنا من الناس فأزال عمرا عن موضعه، وألحقه بعسكر معاوية، وأسفرت عن قتلى كثيرة من أهل الشام دون أهل العراق (1). وأخرج علىّ رضى الله عنه فى اليوم الرابع، يوم السبت، ابنه محمّد بن الحنفيّة

فى همدان، ومن خفّ معه من شيعته، فأخرج معاوية عبيد الله بن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فكان بينهما قتال وقتلى. وأخرج علىّ فى اليوم الخامس عبد الله بن عبّاس، فأخرج إليه معاوية الوليد بن عقبة، فاقتتلوا قتالا شديدا، وأكثر الوليد من سبّ بنى عبد المطّلب، فناداه عبد الله بن عبّاس: ابرز إلىّ يا صفوان، فأبى، وكان يوما صعبا (1). وأخرج علىّ فى اليوم السّادس سعيد بن قيس الهمدانىّ، وهو يومئذ سيّد همدان، فأخرج له معاوية ابن ذى الكلاع الحميرى، فكان بينهما حرب شديد إلى آخر النهار، وأسفرت عن قتلى كثيرة من الفريقين. وأخرج علىّ (295) عليه السّلام فى اليوم السابع الأشتر النخعى فى قومه، وفيمن خفّ معه، وأخرج إليه معاوية حبيب بن مسلمة الفهرىّ، فتكافأوا، وأبوا إلاّ الموت، وأسفرت عن كثير من القتلى، وكان فى أهل الشّام أعم وأكثر. وخرج فى اليوم الثامن، وهو يوم الأربعاء، علىّ عليه السّلام بنفسه وأصحابه البدريّين، رضوان الله عليهم، وجماعة من المهاجرين والأنصار، ومن ربيعة وهمدان. قال الطبرى رحمه الله: قال ابن عبّاس رضى الله عنه (2): رأيت ذلك اليوم عليّا عليه السّلام وعليه عمامة بيضاء، وكأنّ عينيه سراجان، وهو يقف على

طوائف الناس فى مراتبهم [فيحثّهم] (1)، ويحرّضهم على القتال والحرب، وهو على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلم الشهباء، وخرج معاوية فى رؤساء أهل الشام، فكان بينهما قتال شديد إلى آخر النهار، وانصرفوا عند المساء، وكلّ غير ظافر. وكذلك خرج فى اليوم التاسع، وهو يوم الخميس، علىّ عليه السّلام ومعاوية رضى الله عنه فاقتتلوا إلى ضحوة نهار، وبرز أمام الناس عبيد الله بن عمر ابن الخطّاب، فى أربعة آلاف من [الخضريّة] (2)، وابن عمر يتقدّمهم، فناداه علىّ عليه السّلام: ويحك يا ابن عمر، على ماذا تقاتلنى؟ فو الله لو كان أبوك حيّا ما فعله، قال: أطلب بدم عثمان، فقال: أنت تطلب بدم عثمان من غير قاتله، والله يطلبك بدم الهرمزان، إذ أنت قاتله بيدك ظلما وعدوانا، وأمر علىّ الأشتر بالخروج إليه، فانصرف عنه عبيد الله ولم يقاتله، وكثرت القتلى يوم ذاك، فقال عمّار بن ياسر: إنّى أرى وجوها لا يزالون يضاربون حتى يرتاب المبطلون، والله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا شعبات (3) هجر لكنّا على الحقّ، وكانوا على الباطل، ثم تقدّم عمّار بن ياسر رضى الله عنه فقاتل قتالا شديدا، ثم رجع إلى (296) موضعه، فاستسقى فأتته امرأة من نساء بنى شيبان من مصافّهم، بعسّ فيه لبن، فدفعته إليه، فقال: الله أكبر، اليوم التقى الأحبّة تحت الأسنّة، صدق الصادق، وبذلك أخبرنى الناطق، هذا اليوم الذى وعدت فيه.

ثم قال (1): يا أيّها النّاس، والذى نفسى بيده لنقاتلنّكم على تأويله، كما قاتلناكم على تنزيله، ثم توسّط القوم، واشتكت عليه الأستّة، فقتل رضى الله عنه قتله أبو العادم العاملىّ، وابن جوين السكسكى، واختلفا فى سلبه، فاحتكما إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال لهما: اخرجا عنّى، فإنّى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول، أو قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ولعت قريش بعمّار، ما لهم ولعمّار، يدعوهم إلى الجنّة، ويدعونه إلى النّار». وكان قتل عمّار رضى الله عنه عند المساء، وعمره يومئذ ثلاث وتسعون سنة وصلى عليه علىّ عليه السّلام ولم يغسّله، ودفن بصفّين رحمة الله عليه، وقد تنوزع فى نسبه، فمن الناس من ألحقه ببنى مخزوم ومنهم من رأى أنّه من حلفائهم، والله أعلم. قال الطبرى (2): إنّ عمّارا لمّا قتل، خرج فى تلك الليلة رجل من عسكر علىّ عليه السّلام إلى عسكر معاوية رضى الله عنه على فرسه، ليسمع ما يقولون فى قتل عمّار، فإذا أربعة يتسايرون، وهم معاوية بن أبى سفيان، وأبو الأعور السّلمى وعمرو بن العاص، وابنه عبد الله، وهو خير الأربعة، قال: فأدخل فرسه بينهم،

فقال عبد الله بن عمرو لأبيه: يا أبت، قتلتم هذا الرجل فى يومكم هذا، وقد قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما قال، قال: وما قال يا بنىّ؟ قال: ألم تكن معنا ونحن نبنى المسجد، والناس ينقلون حجرا حجرا، ولبنة لبنة، وعمّار ينقل حجرين حجرين، ولبنتين لبنتين (297) فغشى عليه، فأتاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: «ويحك [يا ابن سميّة] (1)، النّاس ينقلون حجرا حجرا، ولبنة لبنة، وأنت تنقل حجرين حجرين، ولبنتين لبنتين، رغبة فى الآخرة، وأنت مع ذلك تقتلك الفئة الفئة الباغية»؟ قال: فدفع عمرو صدر فرسه، وجذب معاوية إليه، فقال: يا معاوية، ألا تسمع ما يقول عبد الله؟ قال: وما يقول؟ فأخبره الخبر، فقال معاوية: إنّك لشيخ أخرق، ولا تزال تحدّث بالحديث، وأن تدحض فى شيبك (2)، أونحن قتلناه؟ إنّما قتله من جاء به. قال (3): ولمّا صرع عمّار، تقدّم سعد بن قيس فى همدان، وقيس بن سعد فى الأنصار وربيعة، وعدىّ بن حاتم فى طيئ، فخلطوا الجمع بالجمع، واشتدّ القتال، وحطمت همدان أهل الشام، حتى زووهم إلى قبّة معاوية، قال: وأمر علىّ عليه السّلام الأشتر أن يتقدّم باللواء إلى أهل حمص، وعزلهم عن أهل قنّسرين (4)، وأكثروا القتل فيهم، وأبلى المرقال فيهم يومئذ بمن معه، فلا يقوم معه أحد، وكان صاحب لواء علىّ عليه السّلام وجعل يرقل كما يرقل الفحل فى قيده،

وعلىّ وراءه يقول: يا أعور، لا تكن جبانا، ثم إنّ المرقال صدر (1) لابن ذى الكلاع، واختلفا الطعنتين، فطعنه هاشم المرقال فقتله، وقتل بعده تسعة عشر رجلا، ثم حلف مع جماعة أن لا يرجعوا، أو لينتهوا، أو ليقتلوا، واجتلد الناس، فقتل المرقال فى معمعة الحرب، فتناول ابنه اللواء حين قتل أبوه، وكثر العجاج، ووقف على مصرع أبيه ومن صرع معه من الأسلميّين وغيرهم، فدعا لهم، وترحّم عليهم (2). قال (3): وحمل حريث بن جابر الجحفى على عبيد الله بن عمر بن الخطّاب فقتله، وقيل إنّ الذى قتل عبيد الله بن عمر هو ابن الأشتر (4) (298)، وقيل إنّ عليّا عليه السّلام ضربه ضربة قطع ما عليه من الحديد، حتى خالط السيف حشو جوفه، وقد ذكرنا قتلة عبيد الله بن عمر فيما تقدّم من الكلام من رواية أخرى (5)، والله أعلم. وعاد علىّ عليه السّلام يحرّض النّاس على القتال، وهو على البغلة الشهباء أمام القوم، وحمل معه جماعة، فلم يبق لأهل الشام صفّ إلاّ انتقض كلّما أتوا عليه، حتى انتهوا إلى قبّة معاوية وعلىّ رضى الله عنه لا يمرّ بفارس إلا قدّه، ثم نادى علىّ عليه السّلام: يا معاوية على ماذا [يقتل] (6) الناس بينى وبينك؟

هلمّ أحاكمك إلى الله، فأيّنا قتل صاحبه استقامت له الأمور، فقال عمرو بن العاص: قد أنصفك الرجل، فقال معاوية: ما أنصفت أنت، فإنّك لتعلم أنّه ما بارزه أحد قطّ إلاّ قتله أو أسره، فقال عمرو: ما يجمل بك أن يناديك فتتخلّف عن مبارزته، فقال معاوية: أظنّك قد طمعت بها بعدى. وقيل إنّ معاوية ألزم عمرا بخروجه إلى علىّ عليه السّلام فبرز إليه على رغم منه، فلمّا رآه عرفه، فرفع السيف وهمّ أن يضربه، فكشف عمرو عن عورته، وقال: أخوك يا أبا الحسن (1)! فحوّل وجهه عنه، وقال: قبّحت قبّحك الله، فرجع عمرو إلى مصافّه سالما. واقتتل الناس تلك الليلة كلّها إلى الصباح، وهى ليلة [الهرير] (2)، حتى تقصّفت الرماح، وفقد النبل وصار الناس إلى السيوف، وأخذ علىّ رضى الله عنه يسير من الميمنة إلى الميسرة، ويأمر كلّ كتيبة أن تتقدّم على [التى تليها] (3)، ولم يزل يفعل ذلك حتّى أصبحوا، وقد صارت المعركة خلف ظهور أصحاب علىّ عليه السّلام والأشتر فى ميمنة الناس، وعبد الله بن عبّاس فى الميسرة، وعلىّ عليه السّلام فى القلب تارة، وتارة فى الميمنة، وتارة فى الميسرة، والناس (299) [يقتتلون] (4) من كلّ جانب، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة، وكسفت فيه الشمس، وارتفع القتام، وتقطّعت الألوية والرايات، ولم يعرفوا مواقيت الصلاة.

قال المسعودى (1) رحمة الله: إنّ جملة من قتله علىّ رضى الله عنه بيده وسيفه فى يوم واحد وليلة واحدة خمسمائة وثلاثة وعشرون رجلا أكثرهم فى اليوم، علم ذلك لأنّه كان كلّما ضرب رجلا كبّر، وكان إذا ضرب قتل، ذكر ذلك عنه من كان يليه فى حربه لا يفارقه من ولده، وغيرهم. وكان الأشتر ذلك اليوم فى ميمنة الجيش، وقد أشرف على الفتح، قال (2): فنادت مشيخة الشام: يا معشر العرب، الله الله فى الحرمات والنساء والبنات، فعندها قال معاوية لعمرو بن العاص، وقد عاين انكشافه، وانكشاف جيوشه: ما عندك يا أبا عبد الله، فما خبأتك إلاّ لها، فقال عمرو: مر من كان معه مصحف فليرفعه على رمحه، قال: فكثر فى الجيش رفع المصاحف، وارتفعت الضجّات، ونادوا: كتاب الله بيننا وبينكم، من لثغور المسلمين؟ من لحفظ الشام بعد أهله؟ من لجهاد الروم؟ من لجهاد الترك من الكفّار؟ ورفع من عسكر معاوية نحو من خمسمائة مصحف. قال: فلمّا رأى أهل العراق ذلك، قالوا: نجيب إلى كتاب الله، فقال علىّ: ويحكم امضوا على حقّكم وصدقكم، القتال لعدوّكم، فإنّ معاوية، وابن العاص وابن أبى معيط، وعدّد جماعة، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، فأنا أعرف بهم منكم، صحبتهم طويلا أطفالا ورجالا، فكانوا أشرّ أطفال وشرّ رجال (3)، وإنّما هذا منهم مكر وخديعة، وهى خديعة ابن العاص.

وجرى له مع القوم خطب طويل، حتّى هدّدوه أن يصنعوا به ما صنعوا بعثمان، وقال له الأشعث بن قيس: إن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد، قال: (300) ذلك إليك، قال: فأتاه الأشعث بن قيس، فقال له الأشعث: ما مرامك يا معاوية؟ قال: نرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله عزّ وجلّ به فى كتابه، تبعثون منكم رجلا ترضون به وتختارونه، ونبعث نحن كذلك، ونأخذ عليهما عهد الله وميثاقه أن يعملا بما فى كتاب الله تعالى، وننقاد جميعا إلى ما اتّفقا عليه من حكم الكتاب، فقال (1): نعم، وصوّب الأشعث قوله، ورجع إلى علىّ عليه السّلام فأخبره بذلك، فقال أكثر الناس: رضينا وقبلنا، وغلبوا رأى علىّ فيما أراده. واختار أهل الشام عمرو بن العاص للتحكيم، وقال الأشعث ومن ارتدّ بعد ذلك إلى رأى الخوارج: ونحن رضينا بأبى موسى الأشعرى، فقال علىّ عليه السّلام: ويحكم قد عصيتمونى فى الأولى فلا تعصونى الآن، إنّى لا أرى أن أولّى أبا موسى الأشعرى هذا الأمر، فإنّه غير ثقة، فقال الأشعث ومن معه: لا نرضى إلاّ أبا موسى الأشعرىّ، فقال علىّ: ويحكم، إنّه فارقنى، وخذّل عنّى الناس (2)، وفعل كذا وكذا، وعدّد له أشياء فعلها أبو موسى، ثمّ إنّه هرب شهورا حتى أمّنته، ألا هذا عبد الله بن عبّاس، أولّيه ذلك، فقال الأشعث وأصحابه: والله لا يحكم فيها مضريّان، قال: فالأشتر؟ قالوا: وهل أشعل هذه النار التى نحن نتوقّدها

إلاّ الأشتر، قال: فاصنعوا الآن ما شئتم أن تصنعوا، وافعلوا ما بدا لكم أن تفعلوه. قال (1): فبعثوا إلى أبى موسى الأشعرىّ، فأحضروه، وكتبوا بينهم صحيفة تتضمّن أنّ كلاّ من الجيشين عند حكم الله وكتابه، وأنّ الحكمين يحييان ما أحيا القرآن، ويميتان ما أماته القرآن، ولا يتّبعان الهوى، ولا يداهنان فى شئ من ذلك، فإن فعلا فلا حكم لهما، وصيّروا ذلك لأجل إلى رمضان، وكان كتب الصحيفة لأيّام بقين من صفر سنة سبع وثلاثين هجريّة. ثم مرّ (301) الأشعث بن قيس بالصّحيفة، حتى انتهى إلى مجلس بنى تميم فيه جماعة من زعمائهم، فقرأها عليهم، فجرى بين الأشعث وبين أناس منهم خطب طويل، ثم قال عروة (2) للأشعث: أتحكّمون فى دين الله وأمره ونهيه [الرجال] (3)؟، لا حكم إلاّ الله، فكان أوّل من قالها. ولمّا وقع أمر التحكيم، أمر علىّ عليه السّلام بالرحيل لعلمه باختلاف الكلمة، وتفاوت الرأى، وعدم انتظام أمورهم، وما لحقه منهم من الاختلاف، وكثر قول التحكيم فى جيش العراق، وتضارب القوم بالمخاصر، واجتذبوا السيوف (4)، وتسابّوا، ولام كل فريق منهم الآخر فى رأيه، وسار علىّ رضى الله عنه يريد الكوفة، ولحق معاوية بدمشق.

ذكر سنة ثمان وثلاثين النيل المبارك فى هذه السنة

قال الروحى فى تأريخه المسمّى بتحفة الخلفاء: كان عدّة القتلى بصفّين سبعين ألفا: من أهل الشام خمسة وأربعين ألفا، ومن أهل العراق خمسة وعشرين ألفا، منهم خمسة وعشرون بدريّا، فيهم عمّار بن ياسر، وكانت أذنه قطعت يوم اليمامة، قلت: وعمّار رضى الله عنه أوّل من بنى مسجدا يصلّى فيه، وفيه أنزلت: {إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ»} (1)، وكانت مدّة الحرب بصفّين مائة يوم وعشرة أيّام. وفيها استعمل علىّ رضى الله عنه على الرى يزيد بن ححيمة التيمى، فكسر من الخراج ثلاثين ألفا، فطلبه بذلك، وخفقه عدّة خفقات بالدّرة وحبسه، ووكل به سعدا مولاه، فهرب منه يزيد ولحق بمعاوية، فأعاده إلى الرىّ واليا، وكان يزيد هذا شهد مع علىّ عليه السّلام حرب الجمل، وصفّين، والنهروان، ثم ولاّه الرىّ، فكان من أمره ما كان. ذكر سنة ثمان وثلاثين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وخمسة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا وتسعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الإمام علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه أمير المؤمنين بالكوفة، وباقى الأمراء ولاة الأعمال بحالهم، إلاّ محمّد بن أبى بكر، فإنّه قتل فى هذه السّنة،

ذكر الحكمين وأمر التحكيم

وسيأتى ذكر ذلك فى موضعه، وبعث علىّ عليه السّلام مالك الأشتر النخعى واليا إلى مصر، فسمّ فى الطريق، ومات قبل دخوله إلى مصر، وسيأتى ذكر ذلك أيضا فى مكانه اللائق به إن شاء الله تعالى. ولمّا دخل علىّ الكوفة انحاز عنه اثنا عشر ألفا من القرّاء وغيرهم، وجعلوا عليهم شبيب بن ربعى، وعلى صلاتهم عبد الله بن الكوّاء اليشكرى، وكان اجتماعهم بقرية يقال لها حرورة فلذلك سمّوا بذلك الحرورية، وخرج إليهم علىّ، وكان له معهم مناظرات يأتى ذكر شئ من ذلك فى موضعه، إن شاء الله تعالى. ذكر الحكمين وأمر التّحكيم قال (1) المسعودى رحمه الله: وفى سنة ثمان وثلاثين، كان اجتماع الحكمين بدومة الجندل، فبعث على كرّم الله وجهه عبد الله بن عبّاس، وشريح بن هانئ الهمدانىّ فى أربعمائة رجل، فلمّا وصل القوم المكان الذى كان فيه الاجتماع قال ابن عبّاس لأبى موسى: إنّ عليّا لم يرض بك حكما، لفضل غيرك والمقدّمين عليك، وإن النّاس أبوا إلاّ أنت، وأظنّ ذلك لشرّ يراد بهم، وقد رموك

بداهية العرب، فمهما نسيت فلا تنس أنّ عليّا بايعه الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، وليست فيه خصلة تباعده من الخلافة، وأن ليس فى معاوية خصلة تقرّبه من الخلافة. قال (1): ووصّى معاوية عمرا حين فارقه، فقال: يا أبا عبد الله، إنّ أهل العراق قد أكرهوا عليّا على أبى موسى الأشعرىّ، وإنّ أهل الشام راضون بك، وقد ضمّ (303) إليك رجل طويل اللسان، قصير الرأى، فلا تلقه برأيك كلّه. فلمّا التقى أبو موسى وعمرو بن العاص بدومة الجندل، قال عمرو لأبى موسى: خبّرنى ما رأيك (2)؟ فقال: أرى أن نخلع هذين الرجلين، وأجعل الأمر شورى بين المسلمين، يختارون لأنفسهم من يختارون، فقال عمرو الرأى ما رأيته! فأقبلا على الناس وهم مجتمعون، فقال عمرو لأبى موسى: تكلّم بما وقع الاتّفاق عليه، فإنّ رأينا جميعا قد اجتمع، وأنت أقدم وأسبق. قال: فتكلّم أبو موسى، فقال: رأيى ورأى عمرو قد اتّفق على أمر نرجو أن يصلح الله به أمّة نبيه صلّى الله عليه وسلم، فقال عمرو: صدق أبو موسى، تقدّم فتكلّم! قال: فتقدّم أبو موسى ليتكلّم، فدعاه ابن عبّاس، فقال: ويحك إنّى لأظنّه قد خدعك، إن كنتما اتّفقتما على أمر فقدّمه فى الكلام قبلك، ثم تكلّم أنت بعده، فإنّ عمرا رجل غدّار، ولا آمن أن يكون أعطاك الرضا فيما بينك وبينه، فإذا قمت فى الناس خالفك.

وكان أبو موسى متغفّلا (1)، فقال: لا أرضاه أن يكون المقدّم علىّ فى القول، ثم تقدّم، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على نبيّه صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: أيّها الناس، إنّا قد نظرنا فى أمر هذه الأمّة، فلم نر أصلح لها، ولا ألمّ لشعثها من أمر قد اجتمع عليه رأيى ورأى عمرو بن العاص، وهو: أن نخلع عليّا ومعاوية جميعا، واستلقوا أمركم، وولّوا عليكم من رأيتموه لهذا الأمر أهلا، ثمّ تنحى. وأقبل عمرو بن العاص، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، وصلّى على النبى صلّى الله عليه وسلم ثمّ قال: هذا قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أيضا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبتّ صاحبى معاوية، فإنّه ولىّ ابن عفّان، والطالب بدمه، وأحقّ الناس بمقامه، فقال أبو موسى: ما لك (304) لا وفّقك الله، غدرت وفجرت، إنّما مثلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث، فقال عمرو. إنّما مثلك كمثل الحمار يحمل أسفارا. قال (2): وحمل شريح على عمرو فضربه بالسوط، وحمل ولد لعمرو فضرب شريحا بالسوط، وقام الناس فحجزوا بينهما، فكان شريح بن هانئ بعد ذلك يقول: ما ندمت على شئ كندامتى على ضرب عمرو بالسوط، ألاّ أكون قد ضربته بالسيف، ثم إنّ الناس التمسوا أبا موسى الأشعرى، فركب راحلته وأتى مكّة شرّفها الله تعالى وقال لابن عبّاس: غدرنى الفاسق، ولكنّى [اطمأننت] (3) إليه، ولا ظننت أنّه يؤثر شيئا على نصيحة المسلمين، ثم انصرف عمرو وأهل

الشام إلى معاوية، فسلّموا عليه بالخلافة، ورجع ابن هانئ وابن عبّاس إلى علىّ عليه السّلام فأخبروه بذلك، هذا من رواية المسعودىّ (1)، رحمه الله. وقال الطّبرىّ رحمه الله: إنّ أبا موسى الأشعرى وعمرو بن العاص لمّا اجتمعا بدومة الجندل، لم يزل عمرو بأبى موسى إلى أن أجابه بأنّ عثمان قتل مظلوما، وأنّ أولى الناس بالأمر وليّه [الطالب بدمه] (2)، وكتب بذلك بينهما صحيفة، وقال الطبرى (3): إنّ عمرا لمّا رجع إلى معاوية، لم يأته، ولا عبأ به، وأتى منزله وقال: قد كنت آتيه وأحتفل بأمره إذ كانت لى إليه حاجة، فأمّا إذا كان الأمر قد صار بيدى، أولّى فيه من شئت. فلمّا بلغ معاوية ذلك عمل الحيلة على عمرو، وأمر بطعام فصنع، ثم دعا بخاصّته وأهله ومواليه، وقال: دعوا قوم عمرو، فليجلسوا قبلكم، فكلّما قام رجل منهم فليجلس رجل منكم مكانه، فإذا خرجوا ولم يبق فى الدار منهم أحد، فامنعوهم من الدخول إلى الدار، وأغلقوا الباب (305) دونهم، ثم غدا معاوية إلى عمرو ابن العاص، فدخل عليه وعمرو جالس على فرشه، فلم يقم عنها، فجاءه معاوية فجلس دون الفرش، واتّكأ على جنبه، وكان عمرو قد أعدّ فى نفسه أنّ الأمر قد صار فى يده، يندب إليه من يشاء، ويضعها فيمن يريد، قال: فحادثه معاوية

ساعة، وضاحكه، ثمّ قال: يا أبا عبد الله، ثمّ غداء قد راح (1)، هل لك فيه؟ فقال عمرو: نعم. فدعا معاوية بالطّعام المستعدّ، فوضع، فقيل لأصحاب معاوية: هلموا إلى الغداء، فقال معاوية: أصحابك يا أبا عبد الله الأولى بالتقدّم على أصحابى، فأعجب بذلك عمرو، فعاد كلّما قام رجل من أصحاب عمرو، جلس رجل من أصحاب معاوية، وقام الموكّلون بالباب، فمنعوا أصحاب عمرو من العود، وغلقوا الباب دونهم، فلمّا عاين عمرو أن لا ثمّ عنده أحد من أصحابه، علم قصد معاوية، فقال عمرو: فعلتها أبا يزيد؟ فقال: نعم، فإنّما بينى وبينك أمران، اختر أيّهما شئت: البيعة لى، أو القتل لك، فليس والله غيرهما، فحينئذ بايعه على رغم منه، فى محضر من مشايخ الشام، ثم انصرف معاوية إلى منزله. ولما بلغ عليّا عليه السّلام ما كان من أمر أبى موسى وعمرو، قال: إنّى كنت تقدّمت إليكم فى هذه الحكومة، ونهيتكم عنها فأبيتم إلاّ عصيانى، فكيف رأيتم عاقبة أمركم؟ والله إنّى لأعلم من جهلكم على خلافى والترك لأمرى ما يوهيكم، ولو أشاء أخذه لفعلت، لكنّ الله يفعل ما يريد. قال الطبرى رحمه الله (2): ثم إنّ الخوارج اجتمعوا فى أربعة آلاف رجل، فبايعوا عبد الله بن وهب الراسبى، ولحقوا بالمدائن فقتلوا عبد الله بن [حبّاب] (3)

ذكر وقعة الخوارج بالنهروان

وكان عاملا لعلىّ عليه السلام على المدائن، ذبحوه (306) ذبحا، وشقّوا بطن امرأته وكانت حاملا، وقتلوا خلقا من الناس. ذكر وقعة الخوارج بالنّهروان قال الطبرى (1): فلمّا بلغ عليّا عليه السّلام ما فعلوه، خرج من الكوفة فى خمسة [وثلاثين ألفا] (2) من أهلها، وأتاه من البصرة من قبل عبد الله بن عبّاس ثلاثة آلاف (3)، منهم الأحنف بن قيس، ثم نزل علىّ عليه السّلام الأنبار، والتحقت به العساكر، فخطب الناس وحرّضهم على القتال، وسار حتى أتى النهروان وبعث للخوارج الحارث بن مرّة العبدى رسولا، يدعوهم إلى الرجوع، فقتلوه ومثّلوا به، وبعثوا إلى علىّ عليه السّلام يقولون: إن تبت عن حكومتك، وشهدت على نفسك بالكفر، ثم تعود فتسلم، ثم نبايعك بعدها. وإن أبيت فاعتزل عنّا، حتّى نختار لأنفسنا إماما، فإنّا منك [براء] (4). قال: فبعث إليهم يقول: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا فنقتلهم بهم، أو نتركهم حتى أفرغ من قتال أهل المغرب، ولعلّ الله يقلّب قلوبكم، فقالوا: كلّنا قتلة أصحابك، وكلّنا نستحلّ دماءهم ودماءكم، فقال علىّ عليه السّلام لأصحابه: سيروا الآن على بركة الله، فو الله لا يفلت منهم إلاّ عشرة، ولا يقتل منكم إلاّ عشرة.

وسار حتى أشرف عليهم، فقال: الله أكبر، صدق الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم وتصافّ القوم، فوقف عليهم بنفسه، ودعاهم إلى التوبة، فأبوا ورموا أصحابه بالنبل، فقيل له: قد رمونا، فقال لهم: كفّوا عنهم، وكرّر القول عليهم ثلاثا، حتى أتى رجل [متشحّط] (1) بدمه، فقال علىّ عليه السّلام: الله أكبر، الآن حلّ قتالهم، احملوا عليهم، وحمل رجل من الخوارج، وهو يقول: أضربهم ولو أرى عليّا … ألبسته أبيض مشرفيّا قال: فخرج إليه، وأجابه (307) يقول: يا أيّهذا المبتغى عليّا … [إنّى] (2) أراك جاهلا شقيّا قد كنت عن لقائه غنيّا … هلم فابرز [هاهنا] (3) إليّا وشدّ عليه فقتله، ثم أتوا عليهم جميعا، فلم يفلت منهم إلاّ عشرة، ولم يقتل من أصحاب علىّ عليه السّلام غير عشرة، ومرّ عليهم علىّ وهم صرعى، فقال: لقد صرعكم من غرّكم، قالوا: ومن غرّهم يا إمام؟ قال: الشيطان، وأنفس السوء، فقال أصحابه: قطع دابرهم إلى يوم القيامة، فقال علىّ عليه السّلام: والذى نفسى بيده، إنّهم لفى أصلاب الرجال وأرحام النساء، لا تخرج خارجة إلاّ خرجت بعدها مثلها، حتى تخرج خارجة من الفرات ودجلة، مع رجل يقال له [الأشمط] (4)، فيخرج إليهم رجل من أهل البيت، فيستأصلهم، ولا تخرج بعدها خارجة إلى يوم القيامة.

ذكر قتلة محمد بن أبى بكر الصديق رضى الله عنه

ثم جمع ما كان فى عسكر الخوارج، فقسم السلاح والدوابّ بين المسلمين، وردّ المتاع والعبيد والإماء على أهاليهم، ثم خطب الناس، فقال: إنّ الله قد أحسن إليكم، وأعزّ نصركم، فتوجّهوا إلى عدوّكم، فقالوا: يا أمير المؤمنين قد كلّت سيوفنا، ونفدت نبالنا، ونصلت أسنّة رماحنا، فدعنا نستعدّ بأحسن عدّة، ونخرج لأمرك طائعين، وكان الذى كلّمه بهذا الأشعث بن قيس، ثم دخل الكوفة. وفيها قتل محمّد بن أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه. ذكر قتلة محمّد بن أبى بكر الصّدّيق رضى الله عنه وذلك أنّ محمّد بن أبى بكر كان عاملا على مصر من قبل علىّ عليه السّلام حسبما تقدّم من الكلام فى ذلك، وكان قد سيّر ابن [مضاهم] (1) الكلبى فى جيش إلى أهل خربتا، فأفشلوا، فهزم أهل خربتا ابن مضاهم، وقتلوه، وهزموا (308) جيشه، وفسدت مصر على محمّد بن أبى بكر، فبلغ ذلك عليّا، فقال: ما لمصر إلاّ أحد الرجلين: صاحبنا الذى عزلناه عنها، يعنى قيسا، أو مالك ابن الحارث، يعنى الأشتر. وكان علىّ لمّا انصرف من صفّين ردّ الأشتر إلى عمله بالجزيرة، فكتب إليه وهو يومئذ بعمله أن أقدم علىّ، فقدم عليه، فعقد له على مصر، فبلغ معاوية الخبر

فعظم عليه، وقد كان طمع فى مصر، قال: فبعث إلى [الجايستار] (1)، وهو رجل من أهل الخراج، فقال له: إنّ الأشتر سيقدم عليك طالبا مصر، فإن أنت كفيته لم آخذ منك خراجا ما بقيت، فاحتل عليه بما قدرت، قال: فخرج [الجايستار] (1) حتى أتى القلزم، فأقام به حتى قدم الأشتر من العراق طالبا مصر، فلمّا انتهى إلى القلزم تلقاه [الجايستار] (1)، فقال: أيّها الأمير، هذا منزل وطعام وعلف، وأنا رجل من أهل الخراج، فنزل عنده، فقدّم له طعاما، حتى إذا أكل، أتاه بشربة من عسل، قد برّد بماء، وكان الأشتر يحبّ ذلك، وجعل فيه سمّا قاتلا، فكان سبب موته، وأقبل معاوية يقول للناس من أهل الشام: أيّها النّاس، إنّ عليّا قد وجّه الأشتر إلى مصر، فادعوا الله أن يكفيكموه، فكانوا كلّ يوم يدعون على الأشتر، وقدم [الجايستار] (1) على معاوية، وعرّفه بموت الأشتر، فقال: إنّ لله جندا منهم العسل، فصارت مثلا. ثم قام خطيبا، وقال: أمّا بعد، فإنّه قد كان لعلىّ بن أبى طالب يداز، فقطعت إحداهما يوم صفّين، يعنى عمّار بن ياسر، وقطعت الأخرى اليوم، يعنى الأشتر، ثم وجّه [عمرو بن العاص إلى مصر] (2) فى أربعة آلاف (3)، ووجّه معه ابن حديج، وأبا الأعور السلمى. ولمّا قارب عمرو مصر، قام محمّد بن أبى بكر فى أهل مصر خطيبا، وانتدب (309) النّاس لحرب عمرو بن العاص، فانتدب معه نحوا من ألفى رجل،

واستقبل عمرو بن العاص كنانة بن بشر، وهو على مقدّمة محمّد بن أبى بكر، فلمّا دنا عمرو من كنانة سرّح الكتائب، فجعل كنانة لا يأتيه من كتائب أهل الشام كتيبة إلا شدّ عليها بمن معه، فيردّهم إلى عمرو، ففعل ذلك بهم مرارا، فلمّا رأى عمرو ذلك بعث إلى معاوية بن حديج فأتاه فى مثل الدهم، فأحاطوا بكنانة، واجتمع أهل الشام عليهم من كل جانب، فلمّا رأى كنانة ذلك نزل عن فرسه، ونزل معه أصحابه وكنانة يقرأ: {وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً»} (1) الآية، ولم يزل يضاربهم بسيفه حتّى استشهد. وأقبل عمرو بن العاص نحو محمّد بن أبى بكر وقد تفرّق عنه أصحابه، فلمّا رأى محمّد ذلك، خرج يمشى فى الطريق حتى انتهى به إلى خربة فى ناحية الطريق، فآوى إليها، وجاء عمرو بن العاص حتى دخل الفسطاط، وخرج معاوية ابن حديج فى خيله فى طلب محمّد بن أبى بكر، حتّى انتهى إلى قارعة الطريق، فسأل من الناس هل مرّ بكم أحد تستنكرونه، فقال أحدهم: لا والله، إلاّ أنى دخلت تلك الخربة، فإذا أنا برجل جالس [فيها، فقال ابن حديج:] (2) هو وربّ الكعبة، قال (3): فانطلقوا يركضون، حتّى دخلوا عليه فاستخرجوه، وقد كاد يموت عطشا، فأقبلوا نحو الفسطاط. قال: ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبى بكر إلى عمرو بن العاص، وكان معه فى الجند، فقال: أيقتل أخى صبرا؟ ابعث إلى ابن حديج فانهه، فبعث عمرو

ابن العاص إلى ابن حديج، يأمره أن يبعث بمحمّد إليه، فقال معاوية بن حديج: قتلتم كنانة بن بشر، وأخلّى أنا محمّد بن أبى بكر؟ هيهات هيهات، {أَكُفّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ»} (1)، فقال لهم محمّد بن أبى بكر (310): اسقونى شربة من الماء، فقال له ابن حديج: لا سقى الله من يسقيك قطرة من الماء، أنتم منعتم عثمان أن يشرب الماء، وقتلتموه صائما محرّما، فتلقّاه الله بالرحيق المختوم، والله لأقتلنّك يا ابن أبى بكر، حتّى يسقيك الله الحميم والغسّاق، فقال له محمّد بن أبى بكر: يابن اليهوديّة النسّاجة، ليس ذلك إليك، ولا إلى من ذكرت، إنّما ذلك إلى الله عزّ وجلّ، أما والله لو كان سيفى فى يدى ما بلغتم بى هذا! فقال له ابن حديج: أتدرى ما أصنع بك؟ أدخلك فى جوف حمل، ثم أحرقه بالنار، فقال له محمّد بن أبى بكر: إن فعلتم بى ذلك فطالما فعلتم (2) ذلك بأولياء الله تعالى، وإنّى لأرجو أن تكون هذه النار التى تحرقنى بها [أن] (3) يجعلها الله عزّ وجلّ [علىّ] (3) بردا وسلاما، كما جعلها على خليله إبراهيم، وأن يجعلها عليك وعلى أوليائك كما جعلها على نمرود وأوليائه، وأن الله عزّ وجلّ ليحرقك ومن ذكرته، يعنى معاوية بن أبى سفيان، وهذا، وأشار إلى عمرو بن العاص، بنار تلظّى عليكم كلما خمدت (4) زادها الله سعيرا.

فقال له ابن حديج: إنّما أقتلك بعثمان، فقال له محمّد: وما أنت وعثمان، إنّ عثمان عمل بالجور، ونبذ حكم القرآن، وقد قال الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ»} (1)، {فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ»} (2)، {وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ»} (3)، فنقمنا ذلك عليه، فقتلناه، [وحسّنت] (4) أنت له ذلك [ونظراؤك] (5)، فقد برّ أنا الله إن شاء الله من دمه، وأنت شريكه فى إثمه وعظم ذنبه. قال: فغضب ابن حديج، وقتله، ثم ألقاه فى جوف حمار ميّت، ثم أحرقه بالنار، فلما بلغ ذلك عائشة رضى الله عنها جزعت جزعا شديدا، وأقامت شهرا تدعو على معاوية، وعمرو بن العاص دبر كلّ صلاة، وأخذت عيال محمّد (311) إليها، فكان القاسم بن محمّد بن أبى بكر فى عيالها. وقد كان محمّد بن أبى بكر قد نفّذ إلى علىّ-عليه السّلام-يستنجده، فمدّه بمالك بن كعب فى ألفين، فسار خمسا، ثم إنّ الحجّاج بن غزيّة الأنصارى قدم على علىّ عليه السّلام من مصر، وكان حاضرا بما جرى، وعاين هلاك محمّد ابن أبى بكر رضى الله عنه، ثم قدم عبد الرحمن شبيب الفزارى، وكان عينه بالشام، فعرّفه أن البشر أقدمت على معاوية بن أبى سفيان بقتل محمّد بن أبى بكر رحمه الله، وقال: يا أمير المؤمنين: لم أر قوما قط أشدّ سرورا من أهل الشام، حين أتاهم قتل محمّد بن أبى بكر، فقال على عليه السّلام: إنّ حزننا عليه بقدر سرورهم لا بل يزيد أضعافا، ثم استرجع.

ذكر سنة تسع وثلاثين النيل المبارك فى هذه السنة

قال جماعة المؤرّخين (1): ولم يكن بين علىّ رضى الله عنه وبين معاوية رضى الله عنه من الحرب إلاّ ما ذكر بصفّين، غير أنّ معاوية كان يسرّح سراياه، فيغير على أطراف العراق، فيسرح علىّ عليه السّلام من يحفظها منهم، والله أعلم. ذكر سنة تسع وثلاثين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وإصبعان، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة أصابع. ما لخّص من الحوادث الإمام علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه أمير المؤمنين بالكوفة، وفيها خطب الناس، فقال (2): يا عجبا من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم، وفشلكم عن حقّكم، إذا قلت لكم: اغزوهم فى الصيف، قلتم: هذه حمّارة القيظ، انظر ينصرم الحرّ، وإذا قلت لكم: اغزوهم فى الشتاء، قلتم: هذا صرّ وقرّ، فإذا كنتم تفرّون من الحرّ والبرد فأنتم والله من السيف (312) أفرّ، يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا طغام الأحلام، ويا عقول ربّاب الحجال، أفسدتم علىّ رأيى بالعصيان، حتّى قالت قريش: ابن أبى طالب شجاع، ولكن لا رأى له فى

الحرب، لله درّهم: من أعلم بها منّى، والله لقد نهضت فيها وأنا ابن العشرين، ولقد نيّفت اليوم على الستّين، ولكن لا أرى لمن لا يطاع. وكان علىّ كرّم الله وجهه إذا ورد عليه مال من الفئ، لم يترك منه شيئا فى يومه ذلك، إلاّ ما عجز عن قسمه، وكان رضى الله عنه لا يخصّ بالفئ حميما ولا قريبا، ولا يخصّ بالولايات إلاّ أهل العلوم والديانات، وذوى الأمانات، وإذا بلغته عن أحد خيانة كتب إليه: {قَدْ [جاءَتْكُمْ] مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ»} (1)، {وَيا قَوْمِ [أَوْفُوا الْمِكْيالَ] وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ، وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ»}، إلى قوله تعالى: {وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ»} (2)، إذا أتاك كتابى هذا فاحتفظ بما فى يديك من عملنا، حتى نبعث إليك من يتسلّمه. ثم يرفع طرفه إلى السماء، ويقول: اللهمّ إنّك تعلم أنّى لم آمرهم بظلم عبادك، ولا بترك حقّك. وكان يقول فى دعائه: اللهمّ إنّ ذنوبى لا تضرّك، وإنّ رحمتك إيّاى لا تفقصك، اللهمّ أعطنى ما لا ينقصك، وأعطنى ما لا ينفعك، وكان يقول: أنا أخو رسول الله، وابن عمّه، لا يقولها بعدى إلا كذّاب.

ذكر سنة أربعين هجرية النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة أربعين هجريّة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثمانية أذرع وستة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وستّة أصابع. ما لخّص من الحوادث الإمام علىّ كرّم الله وجهه أمير المؤمنين بالكوفة إلى حين قتل رضى الله عنه. (313) ذكر مقتل الإمام علىّ كرّم الله وجهه أجمع أهل التاريخ (1) أنّ عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله، والبرك بن عبد الله، وعمرو بن بكر التميمى، اجتمعوا فتذاكروا أمر الناس، وعابوا أمر ولاتهم، ثم ذكروا أهل النهروان، فترّحموا عليهم، وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم؟ فلو شرينا أنفسنا قاتلنا أئمّة الضلالة، وأرحنا المسلمين منهم جميعا، فقال ابن ملجم لعنه الله: أنا أكفيكم علىّ بن أبى طالب، وكان من أهل مصر، وقال البرك ابن عبد الله: وأنا أكفيكم معاوية بن أبى سفيان، وقال عمرو بن بكر: وأنا أكفيكم عمرو بن العاص، فتعاهدوا على ذلك وتحالفوا، وأكّدوا الأيمان بالله تعالى، لا ينكص رجل منهم عن صاحبه الذى وجّه إليه [حتى يقتله، أو يموت دونه]، (2) وأقبل كلّ واحد إلى المصر الذى فيه صاحبه.

قال: فخرج ابن ملجم لعنه الله إلى الكوفة، فلقى امرأة من تيم [الرّباب] (1)، يقال لها قطام ابنة [الشجنة] (2)، وقد قتل أبوها وأخوها وبعلها يوم النهروان، وكانت فاتنة الحسن، فلمّا رآها ابن ملجم افتتن بها، ونسى حاجته، فخطبها من نفسها، قالت: لا أتزوّجك إلاّ بإحدى شيئين، قال: وما هما؟ قالت: ألف ناقة، وألف عبد وقينة، أو قتل ابن أبى طالب، قاتل الأحبّة، فقال: وا عجبا إنّما مأتاى والله لذلك، فقالت: أطلب لك من يشدّ ظهرك، ويساعدك على أمرك. ثم بعثت إلى رجل من قومها من تيم [الرّباب] (1)، يقال له وردان، فكلّمته، فأجابها، وأتى ابن ملجم رجلا من أشجع، يقال له شبيب بن نجزة (3)، فدعاه إلى قتل على بن أبى طالب، فقال: ويحك لو كان على غير علىّ كان أهون، قد عرفت قدمه فى الإسلام، وسابقته، وقرابته من النبى صلّى الله عليه وسلم، وما أجدنى لذلك منشرحا، فلم يزل به حتى أجابه. قال (4): فجاءوا إلى قطام، وهى معتكفة (314) فى المسجد الأعظم، السّابع والعشرين من شهر رمضان، فقال ابن ملجم: هذه الليلة التى واعدت فيها أصحابى أن يقتل كلّ واحد صاحبه، فدعت لهم بالحرير، فعصبتهم، وأخذوا أسيافهم وخرجوا، وجلسوا مقابل السدّة التى يخرج منها علىّ عليه السّلام، فلمّا خرج لصلاة الصبح ضربه شبيب، فوقع السيف فى عضادة الباب، وضربه اللعين ابن ملجم

فى [قرنه] (1) بالسيف، وهرب وردان، وشدّ الناس على ابن ملجم فأخذوه، وتأخّر علىّ عليه السّلام، ودفع فى صدر جعدة بن هبيرة يصلّى بالناس، ونجا شبيب فى ازدحام الناس، وأقبل وردان حتّى دخل منزله، فدخل عليه رجل من بنى أبيه وهو ينزع [الحرير] (2) عن صدره، فقال: ما هذا الحرير (2) والسيف؟ فأخبره بما كان من أمره، فانصرف الرجل، فجاء بسيفه فعلاه به فقتله، قال (3): ثم أمر علىّ عليه السّلام بابن ملجم، فأحضر بين يديه فقال: يا عدوّ الله ألم أحسن إليك؟ قال: بلى، قال: فما حملك على هذا؟ قال: شحذت سيفى أربعين صباحا، فسألت الله تعالى أن يقتل به شرّ خلقه، فقال على رضى الله عنه: لا أراك إلاّ مقتولا به ولا أراك إلاّ من أشرّ خلقه. وقيل إنّ الناس دخلوا على الحسن بن علىّ عليهما السّلام فزعين لما حدث من أمر علىّ عليه السّلام فبينما هم عنده، وابن ملجم مكتوفا بين يديه، إذ نادته أمّ كلثوم ابنة على: يا عدوّ الله إنّه لا بأس على أبى، والله مخزيك، فقال ابن ملجم لعنه الله: فعلى من تبكين؟ والله لقد اشتريته (4) بألف، وسممته بألف، ولو كانت هذه الضربة بجميع أهل المصر ما بقى منهم أحد. وقال الطبرى والروحى جميعا إنّ عليّا-عليه السّلام-قال: أطيبوا طعام ابن ملجم، وألينوا فراشه، فإن أعش فعفو وقصاص، وإن أمت فألحقوه بى أخاصمه عند ربّ العالمين.

قال الطّبرى (1) رحمه الله: إن عليّا-عليه السّلام-لم ينم تلك اللّيلة التى ضربه ابن ملجم صبيحتها، وأنّه لم يزل يمشى من الباب إلى الباب، الذى للحجرة وهو يقول: والله ما كذبت، ولا كذبت، إنّها الليلة التى وعدت فيها، فلما خرج صاح بطّ كنّ فى الدّار، فصاح بهنّ بعض من فى الدار، فقال على عليه السّلام: ويحك دعهنّ فإنّهن نوائح، وخرج فضرب. قال الروحى (2) رحمه الله: ودخل النّاس على علىّ عليه السّلام فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين، أرأيت إن فقدناك، ولا نفقدك، أنبايع الحسن؟ فقال: لا آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر بأمركم. وقال المسعودى رحمه الله: ضرب علىّ عليه السلام ليلة الجمعة، فمكث تلك الليلة مع ليلة السبت، وتوفى كرّم الله وجهه وأرضاه ليلة الأحد، لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان سنة أربعين هجرية، وعمره يومئذ ثلاث وستون سنة، وهو الأشهر المتّفق عليه، وصلّى عليه ابنه الحسن عليه السلام، ودفن بالرحبة عند المسجد بالكوفة ليلا، وغيّب قبره، وكانت خلافته خمس سنين إلاّ ثلاثة أشهر، ولمّا توفّى صلوات الله عليه بعث الحسن عليه السّلام إلى ابن ملجم، فقتله بعد ما مثّل به، ثم أخذه الناس، فأدرجوه فى بوارىّ، ثم أحرقوه بالنار. وأما البرك بن عبد الله، فإنّه فى تلك الليلة التى قتل فيها علىّ عليه السلام، قعد لمعاوية رضى الله عنه فلمّا خرج ليصلّى الصّبح شدّ عليه بسيفه، فوقع السيف فى عجيزته،

ثم أخذ، فلمّا قدم إلى معاوية قال: إنّ عندى خبرا أسرّك به، فإن أخبرتك به تعف عنى؟ قال: نعم، فقال: إنّ أخالى قتل علىّ بن أبى طالب (316) فى هذه الّليلة، قال: فلعلّه لم يقدر على ذلك، قال: بلى، إنّ عليّا يخرج وليس معه حرس، فأمر معاوية بقتله، فقتل، وقيل: بل اعتقله حتى صح قتل علىّ عليه السّلام فأجاره وأطلقه. وبعث معاوية إلى الساعدى، وكان طبيبا حاذقا، فلمّا نظر إلى معاوية قال: اختر إحدى خصلتين: إمّا أن أحمى حديدة وأضعها على موضع السيف فيبرأ، وإما أسقيك شربة تقطع منك الولد وتبرأ، فإنّ ضربتك مسمومة، فقال معاوية: أما النار فلا صبر لى عليها، وأما انقطاع الولد فإنّ فى يزيد وعبد الله ما تقرّ به عينى، ثم سقاه شربة فبرأ، ولم يولد له بعدها ولد. وأما عمرو بن بكر، فإنّه جلس لعمرو بن العاص تلك الليلة أيضا، فلم يخرج عمرو إلى الصلاة، لما أراد الله من تأخير أجله، وكان قد شكا من وجع فى بطنه، وأمر خارجة بن أبى حبيبة (1)، وكان صاحب شرطته، أن يصلّى بالناس، فشدّ عليه عمرو بن بكر وهو يحسب أنّه عمرو بن العاص، فضربه فقتله من وقته، فأخذ، وانطلقوا به إلى عمرو بن العاص، ورآهم يسلّمون عليه بالإمرة، فقال ابن بكر: من هذا الذى تسلّمون عليه بالإمرة؟ فقالوا: عمرو بن العاص، قال: فمن قتلت أنا؟ قالوا: قتلت خارجة، فقال: واخيبتاه، ثم قال لعمرو بن العاص: أما والله يا فاسق ما ظننته غيرك، قال عمرو: أردتنى وأراد الله خارجة، ثم قدّمه فقتله.

ذكر شئ من أحكام على رضى الله عنه وقضاياه وبعض سيرته

ذكر شئ من أحكام علىّ رضى الله عنه وقضاياه وبعض سيرته عن زرّ بن حبيش (1) أنّ رجلين جلسا يتغدّيان، ومع أحدهما خمسة أرغفة، ومع الآخر ثلاثة أرغفة، فلمّا وضعا الغداء بين أيديهما، مرّ بهما رجل، فسلّم عليهما، فقالا: اجلس فكل! فأكل معهما، حتى استوفوا (317) الأرغفة الثمانية، فقام الرّجل وطرح لهما ثمانية دراهم، وقال: خذاها عوضا عمّا أكلته لكما، فقال صاحب الخمسة أرغفة: لى خمسة الدراهم ولك ثلاثة، وقال صاحب الثلاثة: لا أرضى، والدراهم بيننا نصفان. فارتفعا إلى علىّ عليه السّلام فقال لصاحب الثلاثة: قد بذل لك صاحبك ما بذل، فارض به، فقال: لا أرضى إلاّ بمرّ الحقّ، فقال علىّ: ليس لك فى مرّ الحقّ إلاّ درهم واحد، وله سبعة، فقال: سبحان الله يا أمير المؤمنين، لم أرض بثلاثة، وتقول أنت ليس لى فى مرّ الحقّ إلاّ درهم، قال: نعم، قال: عرّفنى وجه ذلك حتى أقبله، فقال: أليست الثمانية أرغفة أربعة وعشرين ثلثا، أكلتموها وأنتم ثلاثة أنفس؟ قال: نعم، قال: فأكلت أنت ثمانية أثلاث، وإنّما لك تسعة، فأكل صاحبك ثمانية أثلاث وله خمسة عشر ثلثا، أكل منها ثمانية ويبقى سبعة، وأكل لك واحدا من تسعة أثلاث، فلك واحد بواحدك، وله سبعة، فقال الرجل: الآن رضيت.

قال سعيد بن عمرو [بن سعيد] (1) بن العاص: قلت لعبد الله بن عيّاش [ابن] (2) أبى ربيعة: يا عمّ، لم كان صفو الناس إلى علىّ؟ قال: يا بن أخى، إنّ عليّا كان له ما شئت من ضرس قاطع فى العلم، وكان له البسطة فى العشيرة، [والقدم] (1) فى الإسلام، والصهر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والفقه فى السّنّة، والنجدة فى الحرب. ولقد أحسن الضرار إذ قال له معاوية: يا ضرار، صف لى عليّا، فاستعفاه، فأبى أن يعفيه، فقال: أمّا إذا، فكان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس (3) بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة، (318) طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، وكان فينا كأحدنا، إذا سألناه يعطينا، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن مع تقريبه إيّانا وقربنا منه لا نكاد نكلّمه هيبة له، يعظّم أهل الدين، ويقرّب المساكين، لا يطمع القوىّ فى باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، أشهد لقد رأيته فى بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضا يده على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكى بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا، غرّى غيرى، إلىّ تعرّضت أم إلى نحوى تشوّقت، هيهات هيهات قد باينتك ثلاثا، لا رجعة لى عليك، فعمرك قصير، وخطرك قليل، فآه من قلّة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق،

قال: فبكى معاوية، وقال: يرحم الله أبا الحسن، لقد كان كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح واحدها فى حجرها. أثنى رجل على علىّ عليه السّلام وكان يتّهم نيّته، فقال له علىّ عليه السّلام: أنا فوق ما فى نفسك، ودون ما تصف. وكان معاوية رضى الله عنه إذا نزلت به مشكلة، يكتب فيها إلى علىّ عليه السّلام يسأله فيها، فلمّا قتل عليه السّلام قال معاوية: ذهب الفقه والعلم بموت علىّ بن أبى طالب. قيل لعلىّ رضى الله عنه: كم بين السماء والأرض؟ قال: دعوة مستجابة، وقيل له: كم بين المشرق والمغرب؟ قال: مسيرة يوم للشمس. وسئل الحسن البصرى رحمة الله عليه عن علىّ عليه السّلام فقال: كان والله سهما صائبا من مرامى الله على عدوّه، وربّانىّ هذه الأمّة، وذا فضلها، وذا سابقها، وذا قرابتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يكن بالنّومة عن أمر الله عزّ وجلّ، ولا بالملولة فى دين الله، ولا بالسرقة لمال الله عزّ وجلّ (319) أعطى القرآن عزائمه، ففاز منه برياض مونقة، ذلك ابن أبى طالب، يا لكع. وكان ابن معين يقول: أبو بكر وعمر وعثمان، ولم يختلف أهل الأثر فى أنّ عليّا أفضل الناس بعد أبى بكر وعمر. وقف مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، فى التفضيل بين علىّ وعثمان رضى الله عنهما. ومن غرائب الحديث ما ورد فى قاتله عليه السّلام: قال صاحب كتاب غريب الحديث: إنّ الرشيد بعث رسولا إلى ملك الروم

فنزل على بطريق كبير من بطارقة الروم، وأقام عنده إلى حيث يستأذن له بالحضور فمكث أيّاما، واستأنس به البطريق، فخرجا ذات يوم إلى ظاهر تلك الناحية يتسايران، قال: فنظرت إلى سواد عن بعد على ساحل البحر، فسألت ذلك البطريق عنه، فقال: هو دير قديم لا يعلم بانيه، وفيه راهب تعظّمه أهل النصرانيّة كلّها، لعلمه ودينه وكبر بيته، ولى به أنسة لقدم المجاورة، وكثرة تكرارى إليه ألنمس بركته. فلمّا علم وتحقّق حسن نيّتى وظنّى به، قال لى يوما فى خلوة من الناس: إنّى مسرّ إليك بشئ، وناصحك فى أمر آخرتك، لثقتى بعقلك وحلمك، وحسن فهمك، اعلم أنّى منذ أعوام كنت جالسا بأعلى هذا الدير، وأنا أنظر البحر وهوله، متفكّرا فى عظيم قدرة الله تعالى، وخطر ببالى أمر المسلمين، واستيلائهم على الدنيا، وانتصارهم على دين المسيح، فبينا أنا فى هذه الفكرة لم أشعر إلاّ بطائر خرج من البحر كالبختى العظيم، فرفرت على هذا الدّير حتى خشيت أن يقتلعه، ثم رمى من منقاره رأس آدمى، ثم أتبعه بيده، ثم بيده الأخرى، ثم بحشو بطنه، ثم بفخذيه ورجليه، فلمّا (320) تكاملت الأعضاء كلّها التصقوا بقدرة الله عزّ وجلّ، وعاد آدميّا قائما على قدميه، ثم إنّ الطائر قطّعه كما كان وابتلعه قطعة قطعة، وحلّق نحو البحر. فلمّا عاينت ذلك غبت عن الدنيا ساعة لهول ما عاينت، ولم أزل فى فكرة ذلك إلى ثانى يوم مثل ذلك الوقت الذى ظهر فيه ذلك الطائر، لم أشعر إلاّ بذلك الطائر وقد فعل بذلك الآدمى كفعلته بالأمس، ثم كان كذلك فى اليوم الثالث، وقد أنست بفعله، فصبرت عليه، حتى تكامل ذلك الآدمى، واستوى إنسيّا

ذكر أزواجه وأولاده رضوان الله عليهم

قائما، فقلت له: بحقّ من بلاك بهذا البلاء، ألا أخبرتنى من أنت؟ فقال: أنا عبد الرحمن بن ملجم، قاتل علىّ بن أبى طالب، قد وكّل الله به هذا الطائر، أو قال هذا الملك، فهو يفعل به ما تراه فى كلّ يوم إلى يوم القيامة، فمنذ ذلك اليوم أقررت بالإسلام، وقد نصحتك الآن فكن كيف شئت، قال البطريق: وإنّى أيضا مسلم منذ ذلك اليوم، وأنا أخفى إسلامى، خوفا على نفسى، وأهلى، وولايتى، واشهد علىّ أنّى أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمدا رسول الله. ذكر أزواجه وأولاده رضوان الله عليهم قال الطبرى (1): رحمه الله: أوّل زوجاته عليه السّلام: فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولم يتزوّج عليها حتّى توفّيت عنده، وكان له من الأولاد: الحسن والحسين وولد آخر كان اسمه محسنا، توفّى صغيرا، ومن الإناث: زينب الكبرى، وأمّ كلثوم رضوان الله عليهم أجمعين، ثم تزوّج أمّ البنين ابنة حزام فولدت له العبّاس، وجعفر، وعبد الله، وعثمان، جميعهم قتلوا مع الحسين أخيهم رضوان الله عليهم أجمعين، وتزوج (321) ليلى ابنة مسعود بن خالد، فولدت له [عبيد] (2) الله، وأبا بكر، وتزوّج أسماء بنت عميس الخثعميّة، فولدت له يحيى ومحمّدا الأصغر، وتزوّج أمامة بنت أبى العاصى، وأمّها زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فولدت له محمّدا الأوسط، وتزوّج خولة بنت [جعفر بن] (3) قيس الحنفيّة، فولدت له محمّدا الأكبر، المعروف بابن الحنفيّة، وتزوج أمّ سعيد بنت عروة بن مسعود، فولدت له أمّ الحسن، ورملة الكبرى.

ذكر صفته كرم الله وجهه

وكانت له عليه السلام بنات من أمّهات لم تحضرنى أسماؤهنّ، فمن بناته عليه السّلام: أمّ هانئ، وميمونة، وزينب الصغرى، ورملة الصغرى، وفاطمة، وخديجة، وأمامة، وأمّ الكرام، وأمّ سلمة، وأمّ جعفر، [وجمانة] (1)، ونفيسة، كلّهن بنات علىّ عليه السّلام، وأمّهاتهنّ أمّهات أولاد، وتزوّج أيضا [محياة] (2) بنت امرئ القيس بن علىّ بن أوس، فولدت له جارية توفّيت وهى صغيرة، فجميع ولده عليه السّلام أربعة عشر ذكرا، وسبع عشرة امرأة. قال الروحى (3) وغيره: إنّ النسل الشريف من خمسة، وهم: الحسن والحسين ومحمّد بن الحنفية، وعمر (4)، والعبّاس، رضوان الله عليهم أجمعين. وسنذكر فصلا جيّدا فيه جملة كافية عن ذرّيته عليه السّلام من نسب بنيه الخمسة المذكورين، فى أوّل الجزء المختصّ بذكر العبيديّين المنتسبين إلى الفاطميّين الخلفاء المصريّين، لنخرج نسب المدّعين، حسبما ذكره المحققون لهذه الأنساب الطّاهرة عليهم السّلام. ذكر صفته كرّم الله وجهه كان آدم اللون، عظيم العينين، عظيم اللحية، بطينا، أصلع، إلى القصر أقرب منه إلى الطول، كأنّما كسر ثم جبر، خفيف المشى، ضحوك السنّ.

ذكر كتابه عليه السلام

ذكر كتّابه عليه السّلام كان كاتبه سعيد بن ضرار الهمدانى، وعبيد الله بن أبى رافع، مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ذكر حاجبه رضى الله عنه (322) كان حاجبه قنبر مولاه، وكان قبله بشر مولاه. نقش خاتمه عليه السّلام الله الملك على عبده، ويقال: الملك لله الواحد القهّار. ذكر خلافة أحد شباب أهل الجنّة الحسن بن علىّ صلوات الله عليه أما نسبه الشريف فهو: ذو الشرفين، المعلم الطرفين: أبو محمّد الحسن ابن علىّ بن أبى طالب، وباقى ذلك فقد تقدّم، أمّه سيّدة نساء العالمين، وقرّة عين سيّد الأولين والآخرين محمّد الأمين، صلّى الله عليه وعلى آله أجمعين، صلاة دائمة إلى يوم الدين. روى عن عبد الله بن عبّاس رضى الله عنه قال: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتته فاطمة صلوات الله عليها باكية، فقال لها النبى صلّى الله عليه وسلم: «فداك أبوك، ما أبكاك؟» قالت: إنّ الحسن والحسين خرجا يدبّان، فما دريت أين باتا؟ قال: «إنّ الذى خلقهما ألطف بهما منك»، ثم دعا الله لهما بالحفظ، قال: «اللهمّ إن كانا أخذا برّا أو بحرا فسلّمهما واحفظهما»، فجاءه جبريل عليه السلام فأخبره أنّهما فى حظيرة بنى النجار، وأنّ الله سبحانه وتعالى قد وكل بهما

ملكا يكلؤهما، فقام النبىّ صلّى الله عليه وسلم، فأتى الحظيرة، فإذا هما نائمان متعانقان، وإذا الملك الموكّل بهما قد بسط لهما أحد جناحيه، وأظلّهما بالآخر، فأكبّ عليهما النبى صلّى الله عليه وسلم يقبّلهما، حتى انتبها من نومهما، فحمل الحسن على عاتقه الأيمن، والحسين على عاتقه الأيسر، وقال: «والله لأشرّفكما، كما شرّفكما الله عزّ وجلّ»، فتلقّاه الصدّيق رضى الله عنه فقال: يا رسول الله ناولنى أحد الصبيين، أخفّف عنك، فقال صلّى الله عليه وسلم: «نعم المطيّة مطيّتهما، ونعم الراكبان، وأبوهما خير منهما»، وذكر حديثا (323) طويلا. وعن أم أيمن قالت: جاءت فاطمة بالحسن والحسين، رضوان الله عليهم، إلى النبى صلّى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، انحلهما، فقال: «نحلت هذا الكبير المهابة والحلم، ونحلت هذا الصغير المحبّة والبهاء». وعن ابن عبّاس رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «أحشر أنا والأنبياء فى صعيد واحد، فينادى مناد: معاشر الأنبياء تفاخروا بالأولاد، فأفتخر بولدىّ الحسن والحسين». قلت: هذا صبح لا يحجب فلقه، وسائغ لا يستوعب طلقه، ولا معدل بالسيادة عن رضيعى ثدى التقى، وربيبى حجر الهدى، إذ كلّ فضيلة فإلى أرومتهما انتسابها، وعلى جرثومتهما عرضها وحسابها. ولو وقفت كتابى هذا فى ربوع مجانيها، ما تلبثت إلاّ يسيرا، حتّى يسقط حسيرا، كما أنّى لو وكلته بتسمية المقدّسين بولادهما، المقتبسين من سادتهما، من غير إلمام بذكر مناقبهم، التى كثّرت بحوم الرفيع، وغرقد البقيع، لم نقض فى ذلك بحثا، بل لم يأت على بعضه إلاّ سحبا، ومن أقرّ به عين مصطفاه، فقد بلغ من النجابة والسيادة،

ذكر سنة إحدى وأربعين النيل المبارك فى هذه السنة

ما لا يمكن عليه زيادة، وإنّ موقع الإطناب، من هذا الباب، من قول النبى صلّى الله عليه وسلم: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة، إلاّ ابنى الخالة عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريّا»، فهذه هى النجابة المؤبّدة المحتومة، والسيادة المخلّدة المعصومة. روى أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلم جلس على المنبر، ومعه الحسن بن علىّ عليهما السّلام فجعل يقبل على العبّاس مرّة وعلى الحسن مرّة، ثم قال: «إنّ ابنى هذا سيّد، ولعل الله عزّ وجلّ أن يصلح به بين (324) فئتين عظيمتين من المسلمين»، ولهذا الحديث سلّم الحسن عليه السّلام الأمر لمعاوية رضى الله عنه. فكان أوّل من بايع الحسن عليه السّلام قيس بن سعد، ثم تلاه الناس، وكانت يوم الأربعاء ثالث شوّال البيعة للحسن رضى الله عنه، ثم أقام متمسّكا بالأمر ستّة أشهر، وستّة أيام، لم يحدث أمرا، ثم سار إلى معاوية، والتقيا بمسكن (1) قادما من الكوفة، وسلّم الأمر له، كما يأتى ذكر ذلك فى سنة إحدى وأربعين، إن شاء الله تعالى. ذكر سنة إحدى وأربعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثمانية أذرع وستّة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وستّة أصابع. ما لخّص من الحوادث الإمام الحسن صلوات الله عليه أمير المؤمنين إلى حين ما سلّم الأمر لمعاوية،

لخمس بقين من شهر ربيع الأوّل من هذه السنة، وقيل إنّه صالحه بأرض بأذرح (1)، من عمل العراق، فى جمادى الأولى، وأخذ منه مائة ألف دينار، روى ذلك أبو بشر الدولابى رحمه الله تعالى. وقال المسعودى (2) رحمه الله: إنّ الحسن عليه السّلام لمّا صالح معاوية، واتّفقا على ما اتّفقا عليه، واجتمعا بالكوفة، كلّم عمرو بن العاص معاوية فى أن يأمر الحسن أن يقوم فيخطب الناس، قال: فكره ذلك معاوية، وقال: ليس برأى، فقال عمرو: إنّما أريد أن يخطب الناس، فيندو وجهه منهم، ولم يزل عمرو بمعاوية حتى أطاعه، فخرج معاوية فخطب الناس، ثم أمر رجلا فنادى: قم يا حسن، فكلّم النّاس، فقام الحسن فتشّهد فى بديهته، ثم قال: أمّا بعد، أيّها الناس، إنّ الله هداكم بأوّلنا، وحقن (325) دماءكم بآخرنا، وإنّ لهذا الأمر مدّة، والدنيا دول، وقد قال الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلم: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ»} (3). وروى الشعبى رحمه الله ما ذكره الروحى رحمه الله قال (4): شهدت خطبة الحسن حين سلّم الأمر لمعاوية، قال: قام الحسن عليه السلام، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، وصلّى على النبى صلّى الله عليه وسلم ثم قال: أمّا بعد، فإنّ أكيس الكيس التّقى، وأحمق الحمق الفجور، وإنّ هذا الأمر الذى اختلفت فيه أنا ومعاوية إنّما هو

لامرئ كان أحقّ به منّى، أو أحقّ به منه، فتركته له إرادة صلاح الأمّة، وحقنا لدمائهم، «وإن أدرى لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين»، فكانت مدّة خلافة الحسن عليه السّلام ستّة أشهر وستّة أيام، متّفق عليه من أرباب التّواريخ (1). وروى سفينة ما ذكره الرّوحى وغيره متّفق عليه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «الخلافة بعدى ثلاثون عاما ثم تكون ملكا»، أو قال ملوكا، فكان آخر خلافة الحسن عليه السّلام تمام ثلاثين سنة، وثلاثة عشر يوما، من أوّل خلافة أبى بكر الصديق رضى الله عنه. ثم خرج الحسن بن علىّ عليهما السّلام إلى المدينة فى سنة إحدى وأربعين، ومات بها فى شهر ربيع الأوّل سنة تسع وأربعين مسموما، فاشتكى أربعين يوما ثم توفّى صلوات الله عليه وكان له من العمر سبع وأربعون سنة، ولد نصف رمضان سنة ثلاث، وولد الحسين صلوات الله عليهما بعده بعشرة أشهر واثنى عشر يوما، وقتل عليه السّلام فى سنة إحدى وستّين، وعمره يوم ذاك تسع وخمسون سنة، كما يأتى ذكر ذلك فى موضعه، إن شاء الله تعالى. وقيل مات الحسن عليه السّلام ليلة السبت، لثمان خلون من المحرّم (326) سنة خمسين، وذكر المسعودى أنّ وفاة الحسن رضى الله عنه كانت وله خمسة وخمسون سنة (2) مسموما، وذلك أنّ معاوية بن أبى سفيان دسّ إلى جعدة

ذكر صفته عليه السلام

بنت الأشعث زوجة الحسن عليه السّلام أنّك إن احتلت عليه حتّى يموت وجّهت إليك مائة ألف درهم، وزوّجتك يزيد، فكان ذلك سبب سمّه ووفاته. فلما مات عليه السّلام صلّى عليه سعيد بن العاص، ودفن بالبقيع مع أمّه فاطمة صلوات الله عليهما (1)، ووفى معاوية لجعدة بالمال، وأرسل إليها: إنّا نحبّ حياة يزيد، ولولا ذلك لو فّينا لك بزواجه. ذكر صفته عليه السّلام كان أشبه الناس بسيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، من أعلاه إلى سرّته، وقيل ما بين الصدر إلى الرّأس، [والحسين] (2) ما دون ذلك، فوق الربعة ودون الطويل، رضى الله عنه. لم يستجدّ كاتبا ولا حاجبا فيذكرا، وإنّما استقلّ بكاتب أبيه وحاجبه. نقش خاتمه عليه السّلام الله أكبر وبه استعنت، وفى تاريخ القضاعى: لا إله إلاّ الله الملك الحقّ المبين، والله عزّ وجلّ أعلم. نجز ولله الحمد والمنّة الجزء الثالث من التاريخ المسمّى بكنز الدّر، وجامع الغرر.

فصل يتضمن ذكر بقية الشعراء المخضرمين

بخطّ يد واضعه ومصنّفه، وجامعه ومؤلّفه، أضعف عباد الله، وأفقرهم إلى الله، أبى بكر بن عبد الله بن أيبك صاحب صرخد، كان عرف والده بالدوادارى، غفر الله له ولو الديه ولمن قرأه. (327) وتجاوز عن كل خطأ تراه. فصل يتضمّن ذكر بقيّة الشعراء المخضرمين قال العبد المؤلّف لهذا التّاريخ البديع المشتمل على نور الربيع: قد تقدّم القول فى الجزء الأوّل (1) بذكر الشعراء الفحول من الجاهليّة، ونثرنا فى هذا الجزء جماعة من الشعراء المخضرمين، وهم المدركون الملّة الإسلاميّة، وأخّرنا منهم هذه البقيّة لنذكرهم على السياقة والتوالى، وعلى الله اتّكالى. طبقات الشعر خمس: المرقّص، والمطرب، والمقبول، والمسموع، والمتروك فالمرقّص ما كان مخترعا أو مولّدا، تكاد تلحقه بطبقة الاختراع، لما يوجد فيه من اليسر الذى يمكّن أزمّة القلوب من يديه، ويلقى منها محبّة عليه، وذلك راجع إلى الذوق والحس، مغن بالإشارة عن العبارة، كقول امرئ القيس: سموت إليها بعد ما نام أهلها … سموّ حباب الماء حالا على حال وكقول وضّاح اليمن: قالت لقد أعييتنا حجّة … فأت إذا ما هجع السامر واسقط علينا كسقوط الندا … ليلة لا ناه ولا آمر

وكقول الصّقلىّ (1): باكر إلى اللّذات واركب لها … سوابق اللهو ذوات المراح من قبل أن ترشف شمس الضحى … ريق الغوادى من ثغور الأقاح وكقول ابن طلحة الأندلسى: والشمس لا تشرب خمر النّدى … فى الرّوض إلاّ بكئوس الشقيق والمطرب: ما نقص فيه الغوص عن درجة الاختراع، إلاّ أنّ فيه مسحة من الابتداع، كقول زهير فى المتقدّمين: (328) تراه إذا ما جئته متهلّلا … كأنّك تعطيه الذى أنت سائله وكقول أبى تمّام من المتأخّرين: ولو لم يكن فى كفّه غير نفسه … لجاد بها فليتّق الله سائله والمقبول: ما كان عليه طلاوة ممّا لا يكون فيه غوص على تشبيه وتمثيل وتورية، وما أشبه ذلك، كقول طرفة فى المتقدّمين: ستبدى لك الأيّام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد وكقول ابن شرف من المتأخّرين: لا تسأل الناس والأيّام عن خبر … هما يبثّانك الأخبار تطفيلا والمسموع: ما عليه أكثر الشعراء ممّا به عليه القافية والوزن، دون أن يمجّه الطبع، ويستنقله السمع، كقول امرئ القيس فى المتقدّمين: وقوفا بها صحبى علىّ مطيّهم … يقولون لا تهلك أسى وتجمّل

(329) حسان بن ثابت الأنصارى رضى الله عنه

وكقول ابن المعتزّ من المتأخّرين: سقى الجزيرة ذات الظلّ والشجر … ودير عبدون هطّالا من المطر والمتروك: ما كان كلاّ على السمع والطبع، كقول المتنبّى: فقلقلت بالهمّ الذى قلقل الحشا … قلاقل عيس كلّهنّ قلاقل والمقصود من ذكر هذه المقدّمة أن يعلم القارئ لهذا التاريخ أن لم نعتمد ونقتصر مع ذكر الشعراء الذين عنينا بذكرهم آخر كل جزء من هذا التّاريخ إلاّ ما كان من طبقتى المرقّص والمطرب من أشعارهم، إذ هما أعلى طبقات الشعر رتبة، وكلاهما دائر على غوص فكرة. ولله درّ القائل: إذا كنت لم تشعر لمعنى تثيره … فقل أنا وزّان وما أنا شاعر وقد يجئ من طبقتى المقبول والمسموع ما يكون توطئة المرقّص والمطرب، فاجعله من جملة العدد بشفاعة ما يتعلّق به، ومعظم الاعتماد فى هذا المختار على المرقّص والمطرب من الأشعار، لكونه أعلق بالأفكار وأجول فى الأقطار. (329) حسّان بن ثابت الأنصارى رضى الله عنه شاعر سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم المؤيّد بروح القدس، ممّا لحقه من معانى التخيّل ولمس الغوص بطبقة المطرب. قوله فى آل جفنة (1): لله درّ عصابة نادمتهم … يوما بجلّق فى الزّمان الأوّل

لبيد بن ربيعة وقد تقدم ذكره فى الجاهلية

أولاد جفنة حول قبر أبيهم … قبر ابن مارية (1) الكريم المفضل الملحقين فقيرهم بغنيّهم … والمشفقين على اليتيم الأرمل بيض الوجوه كريمة أنسابهم … شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم … لا يسألون عن السّواد المقبل وقوله: أصون عرضى بمالى لا أدنّسه … لا بارك الله بعد العرض فى المال أحتال للمال إن أودى فأجمعه … ولست للعرض إن أودى بمحتال وقوله لأبى سفيان بن حرب فى المجاوبة عن النبى صلّى الله عليه وسلم: وأنت زنيم نيط من آل هاشم … كما نيط خلف الراكب القدح الفرد (2) لبيد بن ربيعة وقد تقدم ذكره فى الجاهليّة معدود من الشعراء المخضرمين كونه أدرك الإسلام، وعدّ من شعراء النبى صلّى الله عليه وسلم، وقع له فى طبقة المرقص قوله: وغداة ريح قد كشفت وقرّة … إذ أصبحت بيد الشمال زمامها (3) وله فى المطرب: إن الرزيّة لا رزية مثلها … فقدان كلّ أخ كمثل الكوكب ذهب الّذين يعاش فى أكنافهم … وبقيت فى خلف كجلد الأجرب

(330) النابغة الجعدى

وقوله (1): وما المرء إلاّ كالشهاب وضوئه … يحور رمادا بعد إذ هو ساطع وما المال والأهلون إلاّ ودائع … ولا بدّ يوما أن تردّ الودائع أليس ورائى إن تراخت منيّتى … لزوم العصا تحنى عليها الأصابع (330) النّابغة الجعدىّ (2) هو من المخضرمين ممن أدرك الجاهليّة والإسلام، ومعتدّ من شعراء النبى صلّى الله عليه وسلم، وأنشدوا له فى التشبيهات العقم قوله: كليب لعمرى كان أكثر ناصرا … وأيسر جرما منك ضرّج بالدم رمى ضرع ناب فاستقلّ بطعنة … كحاشية البرد اليمانى المسهّم وله فى المرقّص يصف فرسا: كأنّ تمايل أرساغه … رقاب وعول على مشرب وله فى المطرّب: سألتنى عن أناس هلكوا … شرب الدهر عليهم وأكل الحطيئة فى المشبّهات من العقم يصف لغام ناقة: ترى بين لحيها إذا ما تلغّمت … لغاما كبيت العنكبوت الممدّد

عمرو بن شأس

وله فى المرقّص: كسوب ومتلاف متى ما سألته … تهلل واهتزّ اهتزاز المهنّد ومن مطرّباته: هم القوم الذين إذا ألمّت … من الأيّام مظلمة أضاءوا ومن مطرّباته: الحمد لله أنّى فى جوار فتى … حامى الحقيقة نفّاع وضرّار لا يرفع الطّرف إلاّ عند مكرمة … من الحياة ولا يغضى على عار عمرو بن شأس (1) له صحبة، وله فى المطرّب: إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا … كفى للعطايا نور وجهك هاديا أليس تريك العيس خفّة أذرع … وإن كنّ حسرا أن تكون أماميا (2) الشمّاخ (3) له فى المطرب: إذا ما راية رفعت لمجد … تلقّاها عرابة (4) باليمين

عبدة بن الطبيب

ومن المشبّهات العقم قوله: إذا [أنبض] (1) … الرامون عنها ترنّمت ترنّم ثكلى أوجعتها الجنائز عبدة بن الطبيب (2) فى المطرّب، قوله: فما كان قيس (3) … هلكه هلك واحد ولكنّه بنيان قوم تهدّما (331) متمّم بن نويرة (4) له فى المطرّب: وقالوا أتبكى كلّ قبر رأيته … لقبر ثوى بين اللّوى فالدّكادك فقلت لهم إنّ الأسى يبعث الأسى … دعونى، فهذا كلّه قبر مالك كعب بن زهير (5) له فى المرقص: [ولا تمسّك] (6) … بالوعد الذى وعدت إلاّ كما يمسك الماء الغرابيل

عمرو بن معد كرب

عمرو بن معد كرب (1) فى المطرّب: فلو أنّ قومى أنطقتنى رماحهم … نطقت ولكنّ الرّماح أجرّت العبّاس بن مرداس (2) له فى المطرّب: وإنّى من القوم الذين هم هم … إذا غاب منهم كوكب قام صاحبه أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم … دجى الّليل حتى نظّم الجزع ثاقبه الخنساء وقد تقدّمت لها فى المرقّص: وإن صخرا لتأتمّ الهداة به … كأنّه علم فى رأسه نار وقولها: يذكّرنى طلوع الشمس صخرا … وأذكره لكلّ غروب شمس جنوب أخت عمرو ذى الكلب فى المرقّص: تمشى النسور إليه وهى لاهية … مشى العذارى عليهنّ الجلابيب وقولها: وأقسم يا عمرو لو نبّهناك … إذا نبّها منك داء عضالا

(332) الزبربان

إذا نبّها ليث عرّيسة … مغيثا مفيدا نفوسا ومالا وبيداء مجهولة خضتها … بوجناء لا تتشكّى الكلالا فكنت النّهار بها شمسه … وكنت دجى اللّيل فيها الهلالا (332) الزّبربان له فى المطرّب: أبلغ سراة بنى عبس مغلغلة … وفى العتاب حياة بين أقوام تعدو الذّئاب على من لا كلاب له … وتتّقى مربض المستأسد الحامى عمرو بن الأهتم (1) له فى المطرّب: ذرينى فإنّ البخل يا أمّ مالك (2) … لصالح أخلاق الرّجال سروق لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها … ولكنّ أخلاق الرّجال تضيق أوس بن [مغراء] (3) له فى المطرّب: لعمرك ما تبلى سرابيل عامر … من اللؤم أو تبلى عليها جلودها

أبو ذؤيب الهذلى

أبو ذؤيب الهذلى (1) فى المطرّب: تعلقها منه (2) … دلال ومقلة تظل لأرباب (3) الشّقاء تديرها الوليد بن عقبة (4) له فى المطرّب: فإنّك والكتاب إلى علىّ … كدابغة وقد حكم الأديم انتهى القول فى ذكر الشعراء المخضرمين، وما اختير ولخّص من أشعارهم، ونتلو ذلك بذكر الشعراء المولّدين المخصوصين بالجزء (5) الثالث من هذا التاريخ، وهو الجزء المختصّ بذكر أخبار الأمويّين المسمى بالدّرّة السميّة فى أخبار دولة بنى أميّة. وبتمام ذكر هذه الطبقة من الشعراء، وهو الجزء الثالث تمّ الجزء ولله الحمد والمنّة ووافق الفراغ من نسخه اليوم المبارك السادس والعشرين من شهر ذى القعدة سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، أحسن الله نقضها بخير.

الختام

الختام (333) نتلو ذلك فى أوّل الجزء الرابع إن شاء الله تعالى ما مثاله: ذكر أوّل ابتداء الدّولة الأموية بخلافة معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه موفّقا لذلك إن شاء الله تعالى والحمد لله ربّ العالمين وصلواته على سيّدنا محمّد وآله وصحبه أجمعين وحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل

استدراكات

استدراكات ص 130 س 2: «ولدت له [يعنى النبى صلّى الله عليه وسلم] فى الجاهليّة ولدا وسمّى عبد مناف». هذا ما ذكره المصنّف، ولم نعثر فى كتب السّيرة والتّواريخ المعتمدة على من قال بأنّه كان للنّبىّ صلّى الله عليه وسلم-ولد يسمّى عبد مناف، غير أن كتّاب طبقات المحدّثين أشاروا إلى حديث مكذوب رواه الهيثم بن عدىّ عن هشام بن عروة عن أبيه، قال فيه: «ولدت خديجة للنّبىّ صلّى الله عليه وسلم عبد العزّى وعبد مناف والقاسم». وقد نقد ابن حجر العسقلانى (فى لسان الميزان ج‍ 6 ص 209 - 210) هذا الحديث وعدّه من افتراء الهيثم بن عدىّ على هشام، لا سيّما وأن الهيثم كذبه البخارىّ وأبو داود وآخرون. وذكر ابن حجر أن جماعة من علماء الحديث قالوا: لم ينقل أحد من الثّقاة ما نقله الهيثم عن هشام، فلم يسمّ صلّى الله عليه وسلم عبد مناف ولا عبد العزى قطّ وانظر أيضا فيما ذكره علماء آخرون فى نقض هذا الحديث: شرح المواهب اللدنيّة 3:193 - 194. وعن الهيثم بن عدىّ انظر: الجرح والتعديل لابن أبى حاتم الرّازى، طبع حيدر آباد الدّكن 9:85، ميزان الاعتدال للذّهبى (طبع مصر) 4:324 - 325، مروج الذّهب المسعودى 3:446، وهامش (2) ص 5 من هذا الجزء من كنز الدرر لابن الدوادارى. ص 168 - 169 (كلام عائشة-رضى الله عنها-فى أبيها بعد وفاته): نشر أخيرا كتاب لمحمّد بن القاسم الأنبارى (توفّى سنة 327) بعنوان: «شرح خطبة عائشة أمّ المؤمنين فى أبيها»، تحقيق صلاح الدين المنجّد،

بيروت 1400 (1980 م)، تناول فيه مؤلّفه هذه الخطبة-التى اختصرها ابن الدّوادارى-بالشّرح والتوضيح، غير أنّه وقعت بعض الاختلافات بين كنز الدرر وذلك الشّرح، رأينا أن نثبت أهمّها هاهنا: الصفحة\السطر\كنز الدرر\الأنبارى 168\ 12\نجح إذ كذّبتم \أنجح والله إذ أكدبتم 168\ 13\ويريش ملقها\ويريش معلقها 168\ 14\وتراب شعبها\ويرأب شعها 168\ 16\فانقضت إليه نسوان مكة\فأقصفت عليه نسوان أهل مكة 168\ 18\حتى ضرب الحقّ بجرأته \حتى إذا ضرب الدّين بجرانه 169\ 2\وأقام أود نفاقه \وأقام أوده بنقافه 169\ 2\فانذعر النّفاق \فامذفرّ النّفاق (يعنى تفرّق) 169\ 2\وانتاش الناس بعدله \وانتاش الدّين فنعشه ولقد وردت هذه الخطبة بتمامها-مع اختلاف فى اللّفظ-فى: نهاية الأرب للنّويرى 7:23 - 231، وصبح الأعشى للقلقشندى 1:247 - 248

تصويبات

تصويبات المرجو أن يصوّب القراء الأخطاء قبل البدء فى قراءة الكتاب ص \س \الخطأ\الصواب 30\ 4\ركضه \ركضة 32\ 4\هذا، فقال \هذا، فقالت 38\ 8\أبو طالب \أبو طالب حتى حصروه فى الشعب، ومات أبو طالب. 44\ 3\أبو قطيفة\أبى قطيفة 50\ 14\هاذم \هادم 55\ 17\أعلم] (1) \أعلم] (2) 56\ 17\البطرح \البطرخ 76\ 9\نجاه فزارة\نجّاه فراره 85\ 17\نسائه \نساءه 96\ 2\قصره \قصر، 104\ 5\قطّ اختار\قطّ إلا اختار 119\ 19\فسكفاهم \فكفاهم 122\ 9\غزو\غزوة 125\ 1\سهل \سهيل 137\ 13\سهلة\مهملة 155\ 1\الزنب \الزرنب

ص \س \الخطأ\الصواب 166\ 17\أبا عبيد\أبا عهيدة 168\ 15\قيد\وقيذ 168\ 18\فلّوا\فلّوا له 175\ 10\عن \من 193\ 16\المسلمون \المسلمين 199\ 12\أهوائها\أهواؤها 205\ 11\الأرز\الأزر 206\ 8\بسلاسل \بسلال 209\ 2\ولمعا\ولمع 215\ 4\الخليج \الخلج 221\ 6\بفلطسين \بفلسطين 243\ 19\مرتفعا\مرتفقا 245\ 19\رّ\ربّى 252\ 11\قتلك \قبلك 252\ 13\إلى أخى \أخى إلى 256\ 18\جعلت على نصيبك \جعلت على نصيبى 257\ 8\للجرة\للهجرة 264\ 13\مضجع \مضطجع 265\هامش 3\ولم أقف \ولم أقف على اسمه فيما راجعت من المصادر

ص \س \الخطأ\الصواب 266\ 13\أبا عمرو\أبى عمرو 272\الهامش \. . . . \ (1) يعنى فى المسجد النبوى بالمدينة 274\هامش 2\القاعدبن \القاعدين 275\ 1\أقرّ\أفسرّ 277\ 1\فاضة\فاختة 287\ 4\سرج \سرح 292\ 13\سفهائنا\سفهاءنا 296\ 11\الخادل \الخاذل 318\هامش 1\على بن المدين \على بن المدينى 335\ 12\. . . أحسن وجها\وما رأيت أحسن وجها 381\ 11\إلا الله \إلا لله 385\ 5\واستلقوا\واستقلوا 387\ 4\اعبد الله \عبد الله 396\ 2\لا أرى \لا رأى 404\ 12\رسو\رسول 412\ 16\خمسة\خمس 413\ 14\الدر الدرر 422\ 4\الزّبربان \الزّبرقان

4 - الدرة السمية فى أخبار الدولة الأموية

الجزء الرابع المحتويات الصفحة ذكر خلافة معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه ونسبه وملخّص من سيرته 4 ذكر سنة اثنين وأربعين 14 ذكر سنة ثلاث وأربعين 24 ذكر الأحنف بن قيس ونسبه وما لخّص من أخباره 25 ذكر سنة أربع وأربعين 27 ذكر سنة خمس وأربعين 28 ذكر سنة ست وأربعين 29 ذكر سنة سبع وأربعين 31 ذكر نبذ من أخبار عبد الله بن عباس 34 ذكر سنة ثمان وأربعين 37 ذكر سنة تسع وأربعين 38 ذكر سنة خمسين هجرية 42 ذكر سنة إحدى وخمسين 49 ذكر سنة اثنتين وخمسين 42 ذكر سنة ثلاث وخمسين 54

ذكر سنة أربع وخمسين 55 ذكر سنة خمس وخمسين 59 ذكر سنة ست وخمسين 61 ذكر سنة سبع وخمسين 63 ذكر سنة ثمان وخمسين 67 ذكر سنة تسع وخمسين 68 ذكر سنة ستين هجرية 70 ذكر وفاة معاوية رضى الله عنه 70 ذكر شئ من أخلاق معاوية رضى الله عنه 73 ذكر أزواجه وأولاده رضى الله عنه 76 ذكر خلافة يزيد بن معاوية عفا الله عنه وأخباره وما لخّص من سيرته 78 ذكر سنة إحدى وستين 84 ذكر مقتل الحسين صلوات الله عليه 85 ذكر سنة اثنتين وستين 106 ذكر وقعة الحرّة ملخّصا 111 ذكر سنة ثلاث وستين 112 ذكر سنة أربع وستين 116 ذكر حصار ابن الزبير الأوّل 117 ذكر وفاة يزيد بن معاوية رحمه الله 121 ذكر خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية رحمة الله عليه ورضوانه 124 ذكر خلافة عبد الله بن الزبير رضى الله عنه ونسبه وما لخّص من سيرته 127

ذكر سنة خمس وستين 131 ذكر خلافة مروان بن الحكم عفا الله عنه ونسبه وما لخّص من خبره 132 ذكر سنة ست وستين 133 ذكر خلافة عبد الملك بن مروان ونسبه وما لخّص من أخباره 135 ذكر سنة سبع وستين 137 ذكر مصعب بن الزبير ونبذ من أخباره 138 ذكر سنة ثمان وستين 141 ذكر خبر الفرزدق والنوار 141 ذكر سنة تسع وستين 147 ذكر المختار ونبذ من أخباره 148 ذكر مقتل عمر بن سعد بن أبى وقاص 154 أمر الكرسىّ وخبره 156 ذكر سنة سبعين 158 ذكر قتلة المختار 159 ذكر سنة إحدى وسبعين 163 ذكر سعيد بن العاص ونبذ من خبره 166 ذكر سنة اثنتين وسبعين 169 ذكر مقتل مصعب بن الزبير 169 ذكر الحجاج ونسبه ولمع من خبره 174 ذكر سنة ثلاث وسبعين 184 ذكر مقتل ابن الزبير رحمه الله 187

ذكر سنة أربع وسبعين 193 ذكر سنة خمس وسبعين 196 ذكر نصيب وخبره ولمع من شعره 197 ذكر سنة ست وسبعين 213 ذكر سنة سبع وسبعين 215 ذكر سنة ثمان وسبعين 217 ذكر شبيب ولمع من أخباره 217 ذكر سنة تسع وسبعين 222 ذكر عبد الله بن جعفر ولمع من خبره 228 ذكر ثمانين هجرية 230 ذكر سنة إحدى وثمانين 234 ذكر سنة اثنتين وثمانين 237 ذكر سنة ثلاث وثمانين 238 ذكر سنة أربع وثمانين 240 ذكر سنة خمس وثمانين 241 ذكر سنة ست وثمانين 241 ذكر خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان وبعض أخباره وسيرته 244 ذكر سنة سبع وثمانين 246 ذكر سنة ثمان وثمانين 249 ذكر جامع بنى أمية ولمع من خبره 250 ذكر سنة تسع وثمانين 261

ذكر ابن سريج ونسبه ولمع من خبره 269 ذكر سنة تسعين هجرية 274 ذكر سنة إحدى وتسعين 278 ذكر سنة اثنتين وتسعين 281 ذكر سنة ثلاث وتسعين 283 ذكر عمر بن أبى ربيعة المخزومى ولمع من خبره 284 ذكر سنة أربع وتسعين 299 ذكر سنة خمس وتسعين 312 ذكر سنة ست وتسعين 321 ذكر خلافة سليمان بن عبد الملك بن مروان ولمع من خبره 323 ذكر سنة سبع وتسعين 326 ذكر سنة ثمان وتسعين 327 ذكر من أفرط به القصر 329 ذكر من أفرط به الطول 331 ذكر طرف من خبر كثيّر وعزّة 332 ذكر سنة تسع وتسعين 339 ذكر خلافة عمر بن عبد العزيز بن مروان رضى الله عنه ولمع من خبره 342 ذكر سنة مائة هجرية 344 ذكر سنة إحدى ومائة 352 ذكر خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان ولمع من أخباره 354 ذكر سنة اثنتين ومائة 356

ذكر يزيد بن المهلب بن أبى صفرة ولمع من خبره 358 ذكر سنة ثلاث ومائة 364 ذكر الغريض ونسبه ولمع من خبره 366 ذكر العرجىّ ولمع من خبره 371 ذكر ابن محرز وطرف من خبره 374 ذكر سنة أربع ومائة 375 ذكر خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان وما لخّص من سيرته 377 ذكر سنة خمس ومائة 378 ذكر سنة ست ومائة 380 ذكر معبد وما لخّص من خبره 381 ذكر سنة سبع ومائة 383 ذكر سنة ثمان ومائة 385 ذكر سنة تسع ومائة 387 ذكر سنة مائة وعشر 391 ذكر سنة مائة وإحدى عشرة 393 ذكر سنة مائة واثنتى عشرة 396 ذكر سنة مائة وثلاث عشرة 400 ذكر سنة مائة وأربع عشرة 402 ذكر سنة مائة وخمس عشرة 404 ذكر سنة مائة وست عشرة 406 ذكر سنة مائة وسبع عشرة 407

ذكر سنة مائة وثمان عشرة 410 ذكر سنة مائة وتسع عشرة 410 ذكر سنة عشرين ومائة 414 ذكر سنة إحدى وعشرين ومائة 415 ذكر سنة اثنتين وعشرين ومائة 416 ذكر سنة ثلاث وعشرين ومائة 417 ذكر سنة أربع وعشرين ومائة 419 ذكر سنة خمس وعشرين ومائة 420 ذكر خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان وبعض خبره 422 ذكر سنة ست وعشرين ومائة 425 ذكر خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان وبعض خبره 428 ذكر خلافة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان وبعض خبره 430 ذكر سنة سبع وعشرين ومائة 432 ذكر خلافة مروان بن محمد بن مروان آخر ملوك بنى أمية 434 ذكر سنة ثمان وعشرين ومائة 436 ذكر سنة تسع وعشرين ومائة 437 ذكر سنة ثلاثين ومائة 439 ذكر أبى مسلم ونسبه ولمع من خبره 440 ذكر سنة إحدى وثلاثين ومائة 444 ذكر سنة اثنتين وثلاثين ومائة 444 جامع أخبار بنى أمية 446

ذكر جزيرة الأندلس وحدودها وملوكها القديمة وفتحها إلى حين بنى أمية 452 ذكر ابتداء مملكة بنى أمية بالأندلس 457 عبد الرحمن بن معاوية الداخل 459 هشام بن عبد الرحمن الداخل 464 الحكم بن هشام المعروف بالربضى 469 أبو المطرف عبد الرحمن بن الحكم بن هشام 470 محمد بن عبد الرحمن المنعوت بالأمين 472 أبو الحكم المنذر بن محمد الأمين 473 عبد الله بن محمد الأمين 474 الناصر لدين الله عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله 476 المستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن 480 هشام بن الحكم المنعوت بالمؤيد بالله 483 المهدى بالله محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر 490 المستعين بالله سليمان بن الحكم 492 دولة المهدى الثانية 493 دولة المؤيد الثانية 495 دولة المستعين بالله سليمان بن الحكم 497 المرتضى بالله عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن الناصر 500 المستظهر بالله عبد الرحمن بن هشام 501 المستكفى بالله محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله 502 المعتدّ بالله هشام بن محمد بن عبد الملك 502

فصل يتضمّن ذكر شعراء الإسلام إلى حين انقضاء دولة بنى أمية بالمشرق 504 الفهارس 527 فهرس الأعلام والأمم والطوائف 529 فهرس الأماكن والبلدان 593 فهرس المصطلحات والكلمات 610 فهرس الشعراء والمؤلفين والكتب 648

الجزء الرابع من تاريخ كنز الدّرر وجامع الغرر تأليف أضعف عباد الله وأفقرهم إلى الله أبو بكر ابن عبد الله بن أيبك صاحب صرخد، كان عرف والده رحمه الله بالدواه دارى، انتسابا لخدمة الأمير المرحوم سيف الدين بلبان الرومى الدوادار الظاهرى، تغمّده الله برحمته وأسكنهم فسيح جنّته بمحمّد وآله. وهو، الدّرة السمية فى أخبار الدولة الأموية

[مقدمة المؤلف]

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} [مقدمة المؤلف] ربّ اختم بخير الحمد لله الذى ارتضى لتدبير عباده أكرمهم وأشرفهم، واجتبى لمصالح أمورهم أعلمهم وأعرفهم، وجعل اعتقاد ذلك حتما فيمن وقع الاجتماع عليه، وتيقنه شرطا فيمن ارتفع الخلاف فيه، وأدّى الوفاق إليه، ففرض الإخلاص لمن اصطفاهم وخصهم بالملك، وأوجب لأولياهم من كريم جزايه مثلما أوجبه لأولى النسك. وصلى الله على سيدنا محمّد الذى جعل النجاة فى الإقرار برسالته، وخير العاجلة والآجلة للمجتهدين فى طاعته، وعلى آله الأيمة الأبرار، وذريته الهداة الأطهار، الذين غدوا أقمارا فى الأرض ونجوما، وصلت أنوارهم شهبا لقذف ذوى الضلال ورجوما، وعلى أصحابه نجوم الهدى، الذى بأيهم اقتدى فقد اهتدى، وأجزل حظهم من الإجلال والتعظيم، وخصهم بأفضل التحيات والتسليم. وبعد فإنّ العبد تقدّم منه القول، بحول ذى القوّة والطول، فيما مضى فى الجزء الأوّل والثانى والثالث، ممّا يلهى متأمّلهم عن سماع المثانى والمثالث، لما قد احتوو عليه من غرايب الأخبار، ونوادر الآثار، وجلايل النقود، وفرايد العقود، وأبكار الرهود، ولآلئ المنشور، مما نظرته فاستملحته لما لمحته، واستحليته لما تصفحته، فأثبته عندما صححته.

فلله الحمد على ما علمنا، وله الشكر إذ ألهمنا، لنستحق بذلك المزيد، فيما نقصد ونر [يد]، ثم عقلنا عيس الكلام، بفاضل الزمام، وذلك عند ا. . . ذكر الخلفاء الملوك الأعلام، صدور الإسلام، فأنخنا (3) مطايا العيس، عند آخر الجزؤ الثالث، فكان التعريس إلى المنزلة السّميّة، وأوّل ذكر الدولة الأموية من بنى أميّة. وبالله المستعان، لأكون أمرء معان.

ذكر خلافة معوية بن أبى سفيان رضى الله عنه ونسبه وملخص من سيرته

ذكر خلافة معوية بن أبى سفيان رضى الله عنه ونسبه وملخّص من سيرته أما نسبه رضى الله عنه فيكنى أبو عبد الرحمان معوية بن أبى سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، يلقى سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى عبد مناف، أمّه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، ولد بالخيف من منى. روى أن هند بنت عتبة أم معوية رضى الله عنه خرجت من مكة تريد الطايف، ومعها معوية قد جعلته بين يديها فى مركب لها. فرآه شيخ من الأعراب فقال: يا ظعينة، شدى يديك بهذا الغلام، وأكرميه فإنّه سيد كرام، وصول أرحام. فقالت هند: بل ملك همام كبار عظام، ضروب هام، ويفيض إنعام. قولها: كرام وعظام وكبار، أى كريم عظيم كبير، وذلك ما جاء على معنى فعال بمعنى فعيل. (1) معوية. . . سفيان: انظر سير أعلام النبلاء 3/ص 119 - 162 والمصادر المذكورة هناك (3 - 5) أبى. . . فى عبد مناف: قارن كنز الدرر 3/ 126 (5) هند بنت عتبة: انظر أعلام النساء 5/ 239 - 251 (7 - 6،13) روى. . . هاشم: ورد النص فى أنباء نجباء الأبناء 62 - 67 (7 - 11) خرجت. . . إنعام: ورد النص أيضا فى أعلام النساء 5/ 250 (11) يفيض: فى أعلام النساء 5/ 250؛ أنباء نجباء الأبناء 63: «مفيض»

وروى أنها خرجت به، وهو طفل، ويده فى يدها، فعثر. فقالت: قم. فلا تعست، وسمعها أعرابى فقال: مهلا عليه فإنه سيسود قومه. فقالت: ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه. وروى أن العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه كان فى الجاهلية نديما لأبى سفيان بن حرب، فجلسا على شراب لهما فى دار أبى سفيان ومعاوية معهما يسقيهما، وهو إذ ذاك صغيرا. فلما أخذت الخمرة منهما، أنشد العباس شعر مطرود بن كعب الخزاعى، وكان جاور (4) فى بنى سهم فى سنة شديدة، وله بنات، فتبرّموا به تبرّما أظهروه. فخرج هو وبناته يحملون أثاثهم متحولين عنهم. فقال فى ذلك <من الكامل>: يا أيها الرّجل المحوّل رحله … هل لا نزلت بآل عبد مناف (1 - 3) روى. . . قومه: انظر أعلام النساء 5/ 250؛ سير أعلام النبلاء 3/ص 121؛ العقد الفريد 2/ 287 (7) مطرود. . . الخزاعى: انظر الأعلام 8/ 156؛ أنساب الأشراف 1/ 60؛ معجم الشعراء 282؛579؛ وفيات الأعيان 1/ 61

الآخذون العهد من آفاقها قال: فحمى أبو سفيان لما سمع الشعر، وجعل يعدّ مآثر حرب بن أمية ومآثر نفسه، وتناولا في المفاخر إلى أن قال العباس لأبى سفيان: نافرنى إلى فتاك-هذا-يعنى معوية-فإنه نجيب. فقال أبو سفيان: قد فعلت، وكان ذلك بينهما، وهند تسمع، فاهتبلت الفرصة وقالت مخاطبة لابنها معوية <من مجزوء الرجز>: اقض فدتك نفسى … لآل عبد شمس فهم سراة الحمس (1) الظاعنون: فى أمالى المرتضى 2/ 268؛ أنساب الأشراف 1/ 60؛ المحبر 164: «الراحلون» (2) الملحقون: فى أمالى المرتضى 2/ 268؛ أنساب الأشراف 1/ 60: «الخالطون» (5) يقاتلون: فى أنباء نجباء الأبناء 64؛ المحبر 164: «يقابلون» (8) لعمرك جوهر: فى معجم الشعراء 283: «لعمرى من مها»

تفسير كلمات من هذا الخبر

فقطع عليها معوية-رضى الله عنه-قولها فقال <من مجزوء الرجز>: صه يا بنة المكارم … فعبد شمس هاشم هما بزعم الزاعم … كانا كغربى صارم فلما سمع العباس وأبو سفيان مقالة معاوية ابتدراه أيّ‍ [هما] (5) يتناوله قبل صاحبه، فتعاوراه ضمّا وتقبيلا وتفدية وافترقا راضيان. تفسير كلمات من هذا الخبر قوله: هبلتك أمّك، فالأصل الهلاك والتلاف، ومنه قيل للمثقل سمنّا أنه لمهبل فكذلك يقال للفاسد العقل: مهبل وهبيل، والعرب تطلق هذه الكلمة ونظايرها بالدعاء المكروه، ولا تريد بها شرا بل تجريها مجرا اللغو الذى لا يعتد به، وقد تجريها مجرى الحصر والندب إلى الفعل والقول، ومن نظايرها قولهم إذا استحسنوا فعل إنسان أو قوله: قاتله الله، وما له هوت أمّه. قال الشاعر <من الطويل>: هوت أمّه ما يبعث الصبح غاديا … وما يؤدى الليل حين يؤوب فهذا فى المدح والتعظيم، ومنها قول عمر بن عبد العزيز رضى الله (8) هبلتك أمّك: انظر هنا ص 5، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 10 (14) هوت. . . يؤوب: ورد البيت أيضا فى لسان العرب 20/ 250؛ مجمع الأمثال 2/ 458

عنه: ويل أمر الإمارة لولا قول الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ}، فهذه لفظة أراد بها المدح وحملها على الذم جهل بمواقع الكلم، ومنها قول امرئ القيس يصف رجلا بجودة [الرماية] فقال <من المديد>: فهو لا يتمنى رميّته … ما له لا عدّ من نفره وظاهر هذا أنه دعاء عليه بأن يهلك حتى لا يعدّ مع قومه إذا عدّوا، وهو لا يريد ذلك، بل تعجّب من جودة رمايته ومدحه. ومنها قولهم: لا أب له، فى استعظام ما يكون منه، قال الشاعر <من الطويل>: فما راعنى إلاّ زهاة معانقى … فأىّ عنيق لى لا أباليا وقد نطق صلّى الله عليه وسلّم من نظايرها بقوله لصفية: عقرى حلقى أى عقرها الله وحلقها، وقوله: عليك بذات الدين [تر؟؟؟ ت] يداك، وهو دعاء بالفقر. وأما قول الشاعر أيضا. . . (5) فهو. . . نفره: ورد البيت أيضا فى الأغانى 9/ 99؛ ديوان امرئ القيس 125؛ مجمع الأمثال 2/ 304 (10) لصفية: يعنى زوجة محمد، انظر فهرس كنز الدرر ج 3؛ كنز /3/ 52/عقرى حلقى: فى لسان العرب 6/ 271: «وفى حديث النبى صلّى الله عليه وسلّم حين قيل له يوم النّفر فى صفيّة أنها حائض. فقال: عقرى حلقى ما أراها إلا حابستنا. . .»

(6) فالإقراف ها هنا تغير الجسم وضؤولته. وقوله: الآخذون العهد من آفاقها، معناه أنّ هاشم بن عبد مناف انطلق إلى الشأم فأخذ من قيصر ملك الروم ومن ملوك غسان عهودا وذمة لقريش أن يأتوا الشام ويتجروا به، وانطلق أخوه عبد شمس بن عبد مناف إلى بلاد الحبشة فأخذ لتجار قريش عهدا من النجاشى الأكبر، وذهب عبد المطلب إلى اليمن فأخذ عهدا من ملوكها لتجار قريش، وذهب أخوهم نوفل بن عبد مناف إلى العراق وأخذ من ملوك آل ساسان ومن ساد من بالعراق من العرب عهدا بذلك. فتوجهت قريش بالتجارة إلى هذه الأربعة الوجوه على حال آمنة بما عفد لهم بنو عبد مناف من الذمم، فسمّي بنو عبد مناف لذلك المجبرين، لأنّ الله جبر بهم قريشا وأغناها بالتجارة، وكان الأصل أن يقال الجابرون، ولكن هاكذا جاء، فيدل على أنّ جبرت وأجبرت بمعنى واحد، والمشهور الكثير جبرت الكسير والفقير فأنا جابر، وأجبرت فلانا على الأمر أى أكرهته وأنا مجبر. وقد أدخلوا أفعل فى باب التمكّن من الفعل، فقالوا: سقيت الرجل بيدى، وقالوا: أسقيته أى مكنته من الورد، وقتّه أى أعطيته قوتا، وأقته أى مكنته من شئ يتوصل به إلى القوت، وأقبرته إذا أعطيته ما يقبر فيه من الأرض، ولعل تسميتهم المجبرين من هذا، لأنّهم لم يجبروا قريشا بأموالهم، بل مكنوهم من فعل ما ينجبرون به. فالذى ذكرناه هو مقصود الشاعر، والله أعلم. وقوله: ويقاتلون الريح، يقول: يحاذونها فيهبّون بالجود كهبوبها، ويروى <من الكامل>: (1 - 9) الآخذون. . . المجبرين: انظر تاريخ الطبرى 1/ 1089

المطعمون إذا الرياح تناوحت أى تقابلت فى الهبوب. (7) وقوله: تغيب الشمس فى الرجّاف: الرجّاف هو البحر، سمّى بذلك لاضطرابه. وقوله: فعال التلد والأطراف، يريد قديم الأفعال، وحديثها يعنى المكارم التالدة والطارفة أى القديمة والجديدة، هد مجاز اللفظين. وقوله: عمرو العلا هشم الثّريد لقومه فذلك أنّ قريشا أصابتهم سنة شديدة فنالت منهم، فارتحل هاشم بن عبد مناف وأوغل-وكان اسمه عمرا-إلى الشام، فأوقر عيرا له من الكعك والفتيت ثم قدم مكة ونحر الإبل فطبخ لحومها ثم هشم ذلك الكعك والفتيت فاتخذ منه الثريد فأطعمه الناس حتى أحيوا، فسمى بذلك هاشما. وقوله: مسنتون، أى أصابتهم السنة وهى المجاعة. وقوله: عجاف، أى هزال. وقوله: تناقلا المفاخرة، المناقلة فى الكلام أن يقول هذا مرة وهذا مرة فتداولا القول عنهما. وقوله: نافرنى إلى ولدك، فإن المنافرة هى المحاكمة، واختلف فى اشتقاقها، فقيل: كانوا يتحاكمون فى المفاخرة، فيقولون للحاكم بينهما: أيّنا {أَعَزُّ نَفَراً}؟ وقيل: بل هو من النفير، لأنهم (1) المطعمون. . . تناوحت: انظر لسان العرب 11/ 13 (6 - 12) وقوله. . . المجاعة: قارن لطائف المعارف 10: «أول من هشم الثريد: عمرو بن عبد مناف. فسمى بذلك: هاشما. . .»، انظر أيضا لسان العرب 16/ 94 (8 - 9) هاشم. . . مناف: انظر السيرة النبوية 2/ 7؛ كتاب أخبار مكة 1/ 67 - 68،134، كتاب الإعلام 3/ 47؛ تواريخ مدينة مكة 4/ 34 - 38

كانوا ينفرون إلى الحكام، ويقول: نافرت فلانا فنفرنى عليه الحاكم، وكانوا يعطون الحاكم شيّا من أموالهم فيسمونه النفارة. وقوله: اهتبلت الفرصة، أى انتهزتها فبادرت إليها. وقول هند: سراة الحمس بالحاء المهملة، السراة جمع السرى، وسراة كل شئ خياره-بفتح السين، والحمس: قريش وخزاعة، وكل من قارب بلدة مكة من قبايل العرب، فقد تحمّس لمجاورته لهم، وأصل اللفظة الشدة وهى الحماسّة، فسموا حمسا لأنهم كانوا ذوى تشدّد فى نحل جاهليتهم. وفى بعض الحديث أنّ النبى صلّى الله عليه وسلّم صنع (8) أمرا فصنع مثله رجل من الأنصار، فأنكر النبى صلّى الله عليه وسلّم ما فعل الأنصارى وقال له: أى أحمس أنت! يريد أنّ هذا الذى فعلته أنا ممّا يفعله الحمس دون غيرها، فقال له الأنصارى: وأنا أحمس! يريد إنّى على دينك ومتبع لك. وقولها: على قديم الحرس، الحرس هو الدهر اسم له. وقوله: صه: هى لفظة معناها الأمر بالسكوت. وقوله: فعبد شمس هاشم يريد أنّهما كالشئ الواحد وذلك أنّهما إخوان لأمّ وأب توءمان. وقيل إن أحدهما خرج من بطن أمه، وإصبعه ملتصقة بجبهة أخيه، فنحيت الإصبع، فقطرت من الموضع قطرات من الدم، فتعنفوا ذلك وكرهوه، وقال من تكهّن: سيكون بينهما دم. فكانت الملاحم المشهورة بين بنى أميّة وبنى هاشم. (5 - 8) الحمس. . . جاهليتهم: قارن لسان العرب 7/ 357 - 359 (8 - 11) الحديث. . . أحمس: قارن المعجم المفهرس 8/ 5 (12) على. . . له: انظر لسان العرب 7/ 348 (14 - 16) ذلك. . . الدم: انظر تاريخ الطبرى 1/ 1089

وقوله: كغربى صارم، الغربان هما حدّان السيف القاطع، والمعنى يريد أنهما كحدى السيف لا فضل لأحدهما على الآخر، وهذا حسن من القول جدّا، وممّا لم يسبق إليه فيما علمت. ألا ترى أنه لو قال: هما كالعينين فى الرأس وكاليدين فى الجسد لأمكن أن يقال: أيّتهما اليمنى؟ ولقد اجتهد هرمز بن قرطبة الفزارى فى التسوية بين عامر بن الطّفيل وعلقمة بن علاثة حين تنافرا إليه فقال: هما كركبتى البعير الأورق، أو قال الآدم يقعان إلى الأرض معا. فقيل له: أيتهما اليمنى؟ فلم يحر جوابا. قلت: وإن كان فى هذا التشبيه بركبتى البعير شئ من البشاعة، فإن العرب في ذلك الوقت كانت تنطق باللفاظ تستبشع فى هذا الوقت، فلذلك إن الفاضل يتوخى ذلك (9) إذ لو جاء أحد فى عصرنا هذا فشبه بعض الرؤساء الكبار بركبة جمل دسّها منه فى مكان لا يذكر، فحسب كل وقت فصاحة وبلاغة ولكل لفظ زمان صناعة وصياغة، وتذكرت بقول معوية رضى الله عنه فعبد شمس هاشم، نبذة هى من سحر القول بلغ بها صاحبها غاية الحسن والأدب، ووصل بها إلى فوق ما طلب، وذلك أن بعض بنى أميّة لم يحضرنى اسمه عرض للرشيد رحمه الله فى طريقه فأعطاه رقعة فيها مكتوب <من الرمل>: (5 - 6) اجتهد. . . علاثة: انظر كتاب الشعر 192 (5 - 6) عامر بن الطفيل: انظر الأعلام 4/ 20 - /21/علقمة بن علاثة: انظر الأعلام 5/ 48 (9 - 15) قلت. . . طلب: لم أقف على هذا النص فى أنباء نجباء الأبناء (15 - 17) وذلك. . . مكتوب: قارن مروج الذهب 4/رقم 2551

يا أمين الله إنّى قايل … قول ذى صدق ولبّ وحسب لكم الفضل علينا ولنا … بكم الفضل على كلّ العرب عبد شمس كان يتلوا هاشما … وهما بعد لأمّ ولأب فصل الأرحام منّا إنّما … عبد شمس عمّ عبد المطّلب فأمر له الرشيد بأربعة آلاف دينار، لكلّ بيت منها ألف، وقال: لو زدت لزدناك. فهذا سلك أسلوب التسوية سلوكا ظريفا وتأدّب بتفضيل هاشم. ولنعود إلى سياقة التأريخ بحول الله وقوته ومنّه وكرمه ورأفته. بويع لمعوية رضى الله عنه بالكوفة فى شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين. وكانت خلافته منذ صالحه الحسن عليه السلام واجتمع الناس عليه، تسع عشرة سنة وأربعة أشهر وسبعة عشر يوما، وعمره يوميذ ثمان وخمسون سنة وشهور. وهو أوّل من اتّخذ المقصورة فى المسجد، وذلك أنه أبصر يوما على منبره كلبا فأمر بذلك. وهو أول من استخلف ولى العهد فى حال (10) صحته. وأول من عهد إلى ابنه. وهو أول من اتّخذ ديوان الخاتم، وكان سبب ذلك، أن عمرو بن عبد الله بن الزبير قدم عليه فأمر له بماية ألفم، وكتب بها إلى زياد بالعراق، فأخذ عمرو الكتاب وفضّه وجعل (1 - 6) يا أمين. . . لزدناك: ورد النص فى مروج الذهب 4/رقم 2551 (8 - 9) بويع. . . أربعين: فى تاريخ الطبرى 2/ 8 - 9 (حوادث 41): «. . . دخل معاوية الكوفة فى غرّة جمادى الأولى من هذه السنة وقيل دخلها فى شهر ربيع الآخر، وهذا قول الواقدى»؛ فى الكامل 3/ 406 (حوادث 41): «بايع الحسن معاوية دخل الكوفة وبايعه الناس. . .» (12 - 9،14) وهو. . . المضيرة: ورد النص فى لطائف المعارف 15 - 16

ذكر سنة اثنين وأربعين

الماية مايتين. فلمّا ورد زياد على معاوية ليرفع الحساب رفع باسم عمرو مايتى ألف درهم، فقال معاوية: ما أمرنا له إلاّ بماية ألف واحدة، فأراه الكتاب، فكتب إلى مروان بن الحكم، وهو يوم ذاك على المدينة باسترجاع الماية من عمرو ففعل. ثم أمر بنصب ديوان الخاتم، وهو أول من غيّر قضية من قضايا سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنه ألحق زياد بأبى سفيان وغيّر قوله صلّى الله عليه وسلّم الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقد تقدم القول فى ذلك، وهو أول من عقد المضيرة بالسكر، وكان أبو هريرة رضى الله عنه يعجب بها ويستطبها، وأكلها عنده مدة أيام صفين، ويصلى خلف علىّ عليه السلم، فقيل له فى ذلك، فقال: مضيرة معوية أطيب، والصلاة خلف علىّ أفضل، والجلوس على هذا التل أسلم، فسمى شيخ المضيرة. ذكر سنة اثنين وأربعين النيل المبارك فى هذه السنة: لماء القديم أربع أذرع وثلثة أصابع. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وتسعة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة معوية ابن أبى سفيان رضى الله عنه والناس مجتمعون عليه، فيها ولى مروان بن الحكم المدينة، وخالد بن العاص بن هشام مكة، وقيل: فى هذه السنة مات عمرو بن العاص رحمه الله، وقيل (11) بل فى سنة ثلث وأربعين، وكانت ولايته مصر عشر سنين متفرقة وأربعة أشهر. (5) الولد. . . الحجر: انظر لطائف المعارف 15 حاشية 4 (16 - 18) قيل. . . أربعين: فى تاريخ الطبرى 2/ 27 - 28 (حوادث 43): «وفيها مات عمرو بن العاص»، كذا فى الكامل 3/ 425؛ وفقا لفنسنك؟؟؟، مقالة «عمرو بن العاص» 451، توفى فى سنة 42 تقريبا

قال المسعودى رحمه الله: مات عمرو بن العاص رضى الله عنه، وله من العمر تسعون سنة، ولمّا حضرته الوفاة قال: اللهمّ لا براءة عندى فاعتذر، ولا قوة لى فانتصر، أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فركبنا! اللهمّ هذه يدى إلى ذقنى. ثم قال: خدّوا لى فى الأرض، وشنّوا علىّ التراب شنّا. ووضع إصبعه فى فيه حتى مات رحمة الله عليه. وصلّى عليه ابنه عبد الله يوم عيد الفطر، فبدأ بالصلاة عليه قبل صلاة العيد، ثم صلا بالناس بعد ذلك صلاة العيد. وولّى معوية مكانه ابنه عبد الله، وقيل: بل ولّى مكانه أخا معوية عتبة ابن أبى سفيان، وهو الصحيح. وكان القاضى بمصر عثمان بن قيس لم يزل حتى ولّى عمرو بن العاص سليم بن خير، وكان قد أدرك عمر بن الخطاب رضى الله عنه وحضر خطبته بالجابية، وفوّض إليه مع القضاء القصص. وخلّف عمرو بن العاص رحمه الله من الدنانير العين ثلثماية ألف دينار، ومن الورق ألفى ألف درهم، وغلال بماية ألف دينار بمصر خزنه، وضيعته المعروفة بالرهط، وكان قيمتها عشرة آلاف دينار. وقال المسعودى: إن معوية قال لعمرو بن العاص ذات يوم: هل غششتنى مذ صحبتنى؟ قال: لا. فقال معوية: بلى والله يوم أشرت علىّ (1 - 6) مات. . . العيد: ورد النص فى مروج الذهب 3/رقم 1815 (7 - 8) عبد الله. . . سفيان: فى الكامل 3/ 425: «وفيها [سنة 43] ولّى معاوية عبد الله بن عمرو بن العاص»؛ فى كتاب الولاة 35: «ثم وليها عتبة. . . من قبل أخيه معاوية. . .»، كذا فى حكام مصر لفيستنفلد 28؛ كتاب الأنساب لزامبور 25

بمبارزة علىّ بن أبى طالب، وأنت تعلم ما هو. فقال عمرو: دعاك الرجل إلى المبارزة فكنت فى مبارزته على إحدى الحسنيين، إما أن تقتله فتكون قد قتلت قاتل الأقران، وتزداد شرفا إلى شرفك، وإما أن يقتلك فتكون قد استعجلت مرافقة {الشُّهَداءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً}. (12) فقال: يا عمرو، الثانية أشدّ علىّ من الأولى. وروى أن معوية رضى الله عنه كان قد كتب لعمرو بن العاص رضى الله عنه، وهو على مصر قبل وفاته، يقول: إنه قد كثر علىّ وفود العراق ووفود الشام والحجاز واليمن، فأرسل إلىّ خراج مصر سنة واحدة أستعين بذلك عليهم. فكتب إليه يقول <من الطويل>: معوى إن تدركك نفس شحيحة … فما ورّثتنى مصر أمّى ولا أبى ولولا دفاعى للأشعرى وصحبه … لألفيتها بدغوا كعاقدة السقبى قال: فعاوده معوية فى الطلب فكتب إليه القصيدة المشهورة الامية المعروفة بالجلجولة، وهى هذه <من المتقارب>: (6 - 8) روى. . . مصر: وردت الحادثة فى الأخبار الطوال 222 (10 - 11) معوى. . . السقبى (السّقب): ورد البيتان فى الأخبار الطوال 222 (11) كعاقدة: فى الأخبار الطوال 222: «كراغية» //السقبى (السّقب): انظر الأخبار الطوال 222 حاشية 1 (12) فعاوده. . . الطلب: فى الأخبار الطوال 222: «فلم يعاوده فى شئ من أمرها» (12 - 13) فكتب. . . هذه: فى مخطوطة آلوارت (سترد فيما بعد: م آ) 7516،1 ب-2 آ؛ 8288،1 ب-2 آ: «كتب عمرو بن العاص إلى معاوية. . . لما عزله عن مصر المحروسة وولاها لعبد الملك، هذه القصيدة فلما وقف عليها معوية ندم على عزل عمرو ثم ولاه مصر ثانيا وعزل عبد الملك وسأل معوية عمروا فى إخفاء هذه القصيدة-

معوية الفضل لا تنسى لى وهى هذه»؛ فى م آ 8285،12 ب-13 آ: «وهذه القصيدة لعمرو بن العاص. . . [بعض الكلمات غير واضحة فى الأصل] الله يعاتب بها معوية. . . ويذكر فيها بغيهما على أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب. . . [بعض الكلمات غير واضحة فى الأصل]» (1 - 8،23) معوية. . . جلجلى: وردت الأبيات فى م آ 7516،1 ب-2 آ؛8288،1 ب- 2 آمع بعض الاختلاف وبترتيب آخر؛ بعض أيضا فى م آ 8285،12 ب-13 آ، والقافية اللامية ترد فى م آ 7516،8288 منتهية بياء (1) الفضل: فى م آ 8285: مذكور بالهامش: «الكلب» (2) لبس: فى م آ 7516؛8288؛8285: «جمع» (3) الهمّلى: فى م آ 7516؛8288؛8285: «الجفلى» (6) وقاتلت من يتّقى: فى م آ 7516؛8288: «فقلت بمن التقى [كذا فى الأصل]»؛ فى م آ 8285: «وقلت لمن أتّقى» //مستفحلى: فى م آ 7516؛8288؛8285: «مستحفلى (مستحفل)» (8) بالأجهلى: فى م آ 7516؛8288: «بالأفضلى»

ولما عصيت إمام الهدى (2) بقولى. . . النعتلى (النعثلى): فى م آ 7516؛8288: «بقول ذم [كذا فى الأصل، لعل الأصح: لهم] ضل من يعثلى»، وأيضا النعتلى (النعثلى): فى تاريخ الطبرى (كتاب الفهارس) 596: «نعثل: هو عثمان بن عفان» (4) أكدت لهم: فى م آ 7516؛8288: «أذلهم» //إلى: فى م آ 7516؛8288: «عن» (5 - 6) وجهّزت. . . المحملى: فى م آ 7516؛8288: «وهرّبت أهل نفاق العراق … بسير الحمير إلى الجحفلى وأهددتهم بطغاة الفرات … يسيرون عسفا من الموصلى» (5) عسفا: فى م آ 8285: «قصدا» (8) كدت: فى م آ 7516؛8288؛8285: «قلت» //يشيلوا: فى م آ 7516؛8288: «يقيموا»؛ فى م آ 8285: «يسلّ» (9) لينقض: فى م آ 7516؛8288: «لأنقض» //معولى: فى م آ 7516؛8288: «مع علىّ»

وجهلك بى يابن أكّالة الكروش (1) وجهلك. . . لى: فى م آ 7516؛8288: «وجهدك يا ابن أكول الكبود … لعظم مصابك من بلبل» (2) احتيالى: فى م آ 7516؛8288؛8285: «مؤازرتى» (4) محاورتى: فى م آ 7516؛8288: «مخادعة» //دومة الجندل: انظر فيتشا فالييرى، مقالة «دومة الجندل» 624 - 626؛ فى كنز الدرر 3/ 383: «قال المسعودى. . .: وفى سنة ثمان وثلاثين، كان اجتماع الحكمين بدومة الجندل. . .»، انظر أيضا كنز الدرر 3/ 383 حاشية 1 (6) جانبى: فى م آ 7516؛8288: «لينتى» (7) وأخلعتها. . . بالخداع: فى م آ 7516؛8288: «خلعت الخلافة لك منهم»؛ فى م آ 8285: «أتخلعها» (8) فيك لمّا عجزت: فى م آ 7516؛8288: «لك بعد الأسى [؟]»؛ فى م آ 8285: «منك بعد الإياس»

وأرقيتك المنبر المشمخرّ … بلا حد سيف ولا منصلى ولم تك ويحك من أهلها … ورب المقام ولم تكملى وسيّرت ذكرك فى الخافقين … كسير الجنوب مع الشمألى نصرناك من جهلنا يابن هند … على البطل الأعظم الأفضلى فجيت تركنا أعالى الرؤوس … نزلنا إلى أسفل الأرجلى وكم قد سمعنا من المصطفى … وصايا مخصصة فى علىّ وفى يوم خمّ رقا منبرا … يبلّغ والركب لم يرحلى وفى كفه أنه معلنا … ينادى بأمر العزيز العلى [ألست بكم منكم بأولى … بالنفوس وأصدر بالأفضلى فوالى مواليه يا ذو الجلال … وعاد معادى أخى يا ولى (3) الجنوب مع الشمألى: فى م آ 7516؛8288: «الحمية فى المفصلى» (5) فجيت (فحيث). . . الأرجلى: فى م آ 8285: «فحيث تركناك فوق الرؤس … فأتركتنا أسفل الأسفل» نزلنا إلى: فى م آ 7516؛8288: «نزلت بنا» (7) يوم خم: المقصود غدير خم (8) ينادى: فى م آ 7516؛8288: «نداء» (9) ألست. . . بالأفضلى: فى م آ 7516؛8288: «ألست بأولى بكم بالنفو … س منكم فقالوا بلى أفضلى» (10) عاد. . . ولى: فى م آ 7516؛8288: «عادى [كذا] أعادى أخا المرسلى»

ولا تقطعوا العهد فى عترتى … فقاطعهم لى لم يوصلى فلما كان شيطاننا المستزل … لنا عن هدى الآخر بالأولى وإن عليّا. . . … تعالى والمرسلى وإن. . . … من المنجلى من كنت مولاه هذا أخى … علىّ له الآن نعم الولى وقال وليّكم فاحفظوه … كحفظى فمدخله مدخلى تنحنح شيخك لمّا رأى … عرى عقد حيدر لم تحلل وإنّا لما كنّا من جهلنا … لفى النار فى الدرك الأسفلى فما عذرنا وهو فضل الخطاب … لك الويل منه ثمّ لى فما دم عثمان بمنجى لنا … من النار والموقف المخلخلى] (2) هدى. . . بالأولى (الأوّلى): فى م آ 7516؛8288: «هوى الآخر الأوّلى» (3) وإن. . . المرسلى: فى م آ 7516؛8288: «وإن عليّا غدا خصمنا … ويعتز بالله وبالمرسلى»، وأيضا المرسلى: فى م آ 8285: «المرسلى» [وهو الأصح] (8) وإنّا. . . لفى: فى م آ 7516؛8288: «وتعلم أنّا بأفعالنا من»؛ فى م آ 8285: «فإنا وما كان من فعلنا من» (9) وهو: فى م آ 7516؛8288: «يوم»

(14) ألا يابن هند أبعت الجنان … بأمر عهدت وأمر جلى وأخّرت أخواك كيما تنال … يسير الحطام من الأعجلى ولم تقتنع بعد سحق المقام … وأدناه بالعرف الأكملى وكنت كمقتنص فى الشراك … يذود الضباء عن المنهلى كأنك أنسيت ليل الهرير … بصفّين عن هولك المهولى وقد تدرق درق النعام … حذارا من البطل المقبل وقد ضاق منك الخناق … وحار بك الرّحب الأسهل لحضت بعينك يا عمرو … أين المفرّ من الأسد الأنجلى فهل لك فى حيلة تدنوا بها … فإنّ فؤادى فى شغلى (1) أبعت: فى م آ 7516؛8288: «أبيع» (2) وأخّرت. . . تنال: فى م آ 7516؛8288: «وأخسر دينى كيما أنال» (3) وأدناه بالعرف: فى م آ 7516؛8288: «بأعلاه بالشرف» (5) عن هولك: فى م آ 7516؛8288: «فى وقعها» (6) المقبل: فى م آ 7516؛8288: «الأهولى» (7) الأسهل: فى م آ 7516؛8288: «كالمقفل» (8) يا عمرو: فى م آ 7516؛8288: «لى قايلا» //الأسد الأنجلى: فى م آ 7516؛ 8288: «البطل المقبلى» (9) فهل. . . شغلى: فى م آ 7516؛8288: «فما لك من حيلة تلتقيه … بها ففؤادى فى غيفل [كذا فى الأصل]»

وشاطرتنى طال ما يستقيم … لك الملك بالأمر لى فقمت بجهلى رافضا … أكشّف عن سوءتى بلبلى فستّر عنى وجهه وانثنى … حيا وروعى لم يأن لى منحت لغيرى وزن الجبال … وأعطيتنى زنة الخردلى فإن رمت تخليصها من يدى … فإنى لخبرك مصطلى بخيل جياد وشمّ الأنوف … وبالمرهفات والدبّلى [أكشّف عنك حجاب الغرور … وأيقض نايمة الأثكلى وإن كنت أخطأت فيما مضى … ففى عنقى علقوا جلجلى] (1) لك. . . لى: فى م آ 7516؛8288: «من الملك دهرى أن أكملى» (2) بجهلى رافضا: فى م آ 7516،8288: «بمجملتى راقصا» //بلبلى: فى م آ 7516، 8288،8285: «أذيل» (3) روعى لم يأن لى: فى م آ 7516،8288: «روعك لم يأتلى»؛ فى م آ 8285: «روعك لم يعتل» (4) أعطيتنى: فى م آ 8285: «لم تعطنى» (5) فإن. . . مصطلى: فى م آ 8285: «فإن لم تسامح فى ردها … فإنى لحربك بالمصطلى» // فإن. . . يدى: فى م آ 7516،8288: «فإن كنت تطمع فى ردها» (8) وإن. . . جلجلى: فى م آ 7516،8288: «وقد نلتها وبلغت المراد … وعنقى قد باء بالجلجلى»

ذكر سنة ثلث وأربعين النيل المبارك فى هذه السنة

قلت: لست أظن هذه الأبيات من قول عمرو بن العاص رضى الله عنه، فإنها سخيفة اللفظ ركيكة المعنى، وإلى مثل أوليك انتهت الفصاحة، ولعلها مفتعلة من بعض المتوالين وإلا أين هذا الشعر من ما حفظ من كلامه رضى الله عنه! وهو قوله: إمام عادل خير من مطر وابل، وأسد حطوم خير من إمام غشوم، وإمام غشوم خير من فتنة تدوم. وقوله: زلّة الرّجل عظم يجبر، وزلّة اللسان لا تبقى (15) ولا تذر. وقوله: ليس العاقل من يعرف الخير من الشر، ولكنه الذى يعرف خير الشرين. وقوله: من كثر إخوانه كثر غرماؤه. وقوله: أكرموا سفهاءكم فإنهم يكفونكم النار والعار. قيل: ولما بلغت الأبيات معوية أقلع عن مطالبته إلى أن مات. ذكر سنة ثلث وأربعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وثلثة أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشر ذراعا وخمسة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة معوية رضى الله عنه، وعتبة بن أبى سفيان بمصر، والقاضى سليم بحاله، والمغيرة بن شعبة بالكوفة، ومروان بن الحكم بالمدينة، (4 - 6) إمام. . . تذر: قارن تاريخ اليعقوبى 2/ 263 (8 - 9) أكرموا. . . العار: ورد النص فى وفيات الأعيان 2/ 505 (15) عتبة. . . سفيان: انظر كتاب الولاة 34 - 36 (15 - 16) القاضى سليم: انظر كتاب الولاة 303 - 304

ذكر الأحنف بن قيس ونسبه وما لخص من أخباره

وخالد بن العاص بن هشام بمكة، وزياد بن أبيه بفارس، وفيها قدم الأحنف بن قيس على معوية. ذكر الأحنف بن قيس ونسبه وما لخص من أخباره أمّا نسبه فاسمه الضحاك بن قيس، وقيل صخر بن قيس بن معوية ابن حصين، بنسب متصل إلى سعد بن زيد مناة بن تميم. كان من سادات التابعين. أدرك عهد النبى صلّى الله عليه وسلّم، ولم يصحبه، وشهد من الفتوحات قاشان والنمرة، على ما ذكر الحافظ أبو نعيم فى تاريخ إصفهان، وقال ابن قتيبة فى كتاب المعارف: إنّ الأحنف لما أتى النبى صلّى الله عليه وسلم فى وفد بنى تميم يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا. فقال لهم الأحنف: إنه ليدعوكم إلى مكارم الأخلاق، وينهاكم عن ملايمها، فأسلموا. وأسلم الأحنف، ولم يفد على النبى صلّى الله عليه وسلّم. (16) فلما كان فى زمن عمر بن الخطاب رضى الله [عنه] وفد عليه، وكان يروى عنه وعن عثمان وعلىّ رضى الله عنهما. وكان سيّد قومه مطاعا فيهم، موصوفا بالعقل والدهاء والعلم والحلم. وشهد مع علىّ عليه السلام ساير أيام صفين، وكان من أشدّ الناس على معوية، ولم يشهد وقعة الجمل بين علىّ وعايشة رضى الله عنهما. ولما استقر الأمر لمعوية رضى الله عنه دخل عليه يوما. فقال معوية: والله يا أحنف، ما أذكر يوم من أيام صفين إلا كانت حزازة فى قلبى (3 - 6،26) الأحنف. . . غضب: ورد النص فى وفيات الأعيان 2/ 499 - 500 (7 - 8) تاريخ إصفهان: انظر تاريخ إصفهان 1/ 224 (8 - 12) أتى. . . عليه: ورد النص فى المعارف 216 - 217

إلى يوم القيمة. فقال له الأحنف: والله يا معوية، إن القلوب التى أبغضناك بها لفى صدورنا، وإن السيوف التى قاتلناك بها لفى أغمادها، وإن تدن من الحرب فترا ندن منها شبرا، وإن تمش إليها نهرول نحوها، ثم قام وخرج. وكانت أخت معاوية من وراى حجاب تسمع، فقالت: يا أمير المؤمنين، من هذا الذى يتهدّد ويتوعّد؟ فقال: هذا الذى إذا غضب غضب لغضبه ماية ألف من بنى تميم لا يدرون فيم غضب. وقيل: إنه لم يرى اثنين تمازحا أرزن من معوية والأحنف. قال معوية يوما للأحنف: ما الشئ الملفّف فى البجاد، يا با بحر؟ فقال الأحنف: السخينة، يا أمير المؤمنين. ثم تضاحكا مليا، أراد معوية بقوله الملفف فى البجاد قول الشاعر <من الوافر>: إذا ما مات ميت من تميم … وسرّك أن يعيش فجئ بزاد بخبز أو بسمن أو بثمر … أو الشئ الملفّف فى البجاد تراه يطوّف الآفاق حرصا … ليأكل رأس لقمان بن عاد البجاد منديل تفرش العرب له عند الغداء يجتمع عليه العظم (17) وفضلات وفضالات العيش. وأراد الأحنف بقوله السخينة، أن العرب قديما كانت تعيّر قريشا بشئ يتخذونه من دقيق وماء، ويسخنونه، ويحسونه حسوا عند غلاء السعر بالحجاز يسمونه السخينة. (8 - 13) قال. . . عاد: ورد النص فى العقد الفريد 2/ 462، قارن أيضا مرآة الزمان، مخطوطة أحمد الثالث، حوادث 69 (الصفحة العاشرة)

ذكر سنة أربع وأربعين النيل المبارك فى هذه السنة

ومما حفظ من كلام الأحنف قوله: الكبير أكبر عقلا لكنه أكثر هما وشغلا. من لم يصبر على كلمة سمع كلمات. من تسرّع إلى الناس بما يكرهون، قالوا فيه ما لا يعلمون. من كل شئ يحفظ الأحمق إلاّ من نفسه، الكامل من عدّت هفواته. وذكر الشعراء عنده فقال: ما ظنك بقوم الصدق محمود إلاّ منهم. وقال له معوية يوما: ما السؤدد، يا با بحر؟ فقال: السؤدد مع السواد. فقال: ومن السيد؟ فقال: السيد من إذا أقبل هابوه، وإذا غاب عابوه. فقال معوية: لله درّك، يا با بحر. ذكر سنة أربع وأربعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلثة أذرع وثمانية عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وإصبع واحد. ما لخص من الحوادث الخليفة معوية رضى الله عنه مقيما بدمشق، وعتبة بن أبى سفيان بمصر إلى أن مات فى هذه السنة. فولى معوية مكانه عقبة بن عامر الجهنىّ، والقاضى سليم بحاله بمصر. (2 - 3) من. . . يعلمون: انظر سير أعلام النبلاء 4/ 93 (4) الكامل. . . هفواته: انظر سير أعلام النبلاء 4/ 93 (6) السؤدد مع السواد: انظر العقد الفريد 2/ 289 (13) عتبة. . . سفيان: انظر كتاب الولاة 36؛ فى الكامل 3/ 454 (حوادث 46): «وحج بالناس هذه السنة عتبة بن أبى سفيان» (14 - 15) عقبة. . . الجهنىّ: انظر كتاب الولاة 36 - 38،654 (الفهرس)

ذكر سنة خمس وأربعين النيل المبارك فى هذه السنة

[وفى سنة أربع وأربعين توفيت أم حبيبة زوج النبى صلّى الله عليه وسلم]. وفيها حج معوية، فلما قدم المدينة صعد المنير فنال من علىّ عليه السلام. فقام الحسن عليه السلام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنّ الله تعالى لم يبعث نبيّا إلا جعل له عدوّا من المجرمين، وأنا بن علىّ وأنت ابن صخر وأمى فاطمة وأمك (18) هند وجدتى خديجة وجدتك قتيلة وجدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجدك حرب فلعن الله الألمنا حسبا وأخملنا ذكرا وأعظمنا كفرا وأشدّنا نفاقا. قال: فصاح أهل المدينة عن صوت واحد: آمين آمين. فقطع معوية خطبته ونزل. روى هذا صاحب كتاب نثر الدر. ذكر سنة خمس وأربعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وسبعة أصابع. مبلغ الزيادة ست عشر ذراعا وخمسة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة معوية رضى الله عنه، وعقبة بن عامر الجهنىّ تولى مصر حربها وخراجها، والقاضى سليم بحاله، وفيها ولى معوية زيادا ابن أبيه (1) أم حبيبة: انظر كنز الدرر 3/ 430 (الفهرس) (5) قتيلة: فى الإرشاد 191: «فتيلة» (8) كتاب نثر الدر: انظر نثر الدر 1/ 329 - 330 (11) سبعة: فى درر التيجان 68 آ (حوادث 45): «سبعة عشر»

(19) ذكر سنة ست وأربعين النيل المبارك فى هذه السنة

البصرة، وكان المغيرة بن شعبة عاملا على الكوفة. فوقع الطاعون فى الكوفة فى سنة تسع وأربعين، فهرب منها المغيرة فمات. فجمع مع‍ [وية] إلى زياد الكوفة إلى البصرة. فكان أول من جمع له العراقين. وكان زياد كثير الرعاية لحارثة بن بدر الغدانى والأحنف بن قيس، وكان حارثة مكبّا على الشراب، فوقع أهل البصرة فيه عند زياد، ولا موه فى تقريبه ومعاشرته. فقال: يا قوم، كيف لى باطراح رجل هو يسايرنى منذ دخلت العراق، [و] لم يصك ركابه ركابى قط، ولا تقدمنى فنظرت إلى قفاه، ولا تأخر عنى فلويت إليه عنقى، ولا سألته من العلوم عن شئ إلا ظننته لا يحسن سواه. وأما الأحنف فلم يكن فيه ما يعيب. [وفى سنة خمس وأربعين توفى زيد بن ثابت الأنصارى وحفصة زوج النبى صلّى الله عليه وسلم]. (19) ذكر سنة ست وأربعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وسبعة أصابع. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وتسعة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة معوية رضى الله عنه، وعقبة بن عامر الجهنىّ بحاله على (1 - 3) كان. . . العراقين: انظر تاريخ الطبرى 2/ 86 (4 - 9) وكان. . . يعيب: ورد النص فى وفيات الأعيان 2/ 502 (10) حفصة: فى أعلام النساء 1/ 277: «وتوفيت حفصة فى المدينة سنة 45 وفى رواية سنة 41، وقيل سنة 27»

مصر، وكذلك القاضى سليم، وزياد بن أبيه بالبصرة، والمغيرة بن شعبة بالكوفة، ومروان بن الحكم بالمدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وخالد بن العاص بن هشام بمكة شرفها الله تعالى. وفيها قدم عقيل ابن أبى طالب على معوية، فأقبل عليه وأكرمه وقرّبه وقضى عنه دينه، وكان جملة كبيرة. ثم إنه ذاكره يوما فقال له: إن عليّا كان غير حافضا لك، وقطع من صلتك ولم يصطفيك. فقال له عقيل: والله لقد أجزل العطيّة ووصل القرابة، وحسن ظنّه بالله إذ ساء ظنّك به، وحفظ أمانته، وأصلح رعيّته إذ خنت أنت وأفسدت وجرت، فاكفف فإنك عما تقول بمعزل. قال: فسكت معوية. وقيل: إنه قال له يوما آخر: يا با يزيد، أنا خير لك من علىّ وأبر بك منه. قال عقيل: صدقت، إنّ علىّ آثر دينه على دنياه، فأنت خير من أخى لى، وأخى خير منك لنفسه. وقيل إن عقيلا دخل على معوية بعد كفّ بصره، فأجلسه معوية معه على سريره ثم قال: أنتم معاشر بنى هاشم تصابون فى أبصاركم. فقال عقيل: وأنتم معاشر بنى أمية تصابون فى بصايركم. ثم دخل عتبة بن أبى سفيان عليهما، فوسّع له معوية بينه وبين عقيل حتى جلس (20) بينهما، فقال عقيل: من هذا الذى قرّبه أمير المؤمنين دونى؟ قال معوية: هذا (4 - 5،31) قدم. . . نكره: ورد النص فى العقد الفريد 4/ 4 - 5 (5) دينه: انظر العقد الفريد 4/ 4 حاشية 5 (6) لم يصطفيك (يصطفك): فى العقد الفريد 4/ 5: «لا اصطنعك» (14) معاشر: فى العقد الفريد 4/ 5: «معشر» (16) قربه. . . دونى: فى العقد الفريد 4/ 5: «أجلس أمير المؤمنين بينى وبينه»

ذكر سنة سبع وأربعين النيل المبارك فى هذه السنة

أخوك وابن عمّك عتبة. قال: أما إنّه إن كان أقرب إليك منّى فأنا أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منك ومنه، وأنتما مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرض تحت سماء. قال عتبة: يا با يزيد أنت كما وصفت، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشرف ممّا ذكرت، وأمير المؤمنين عالم بحقّك، ولك عندنا ما تحبّ أكثر مما لنا عندك مما نكره. روى هذا الحديث صاحب كتاب العقد. ذكر سنة سبع وأربعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وثلثة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ست عشر ذراعا وإصبع واحد. ما لخص من الحوادث الخليفة معوية رضى الله عنه، والنواب حسبما تقدم من ذكرهم فى السنة الخالية، ويقال إنه ولى هذه السنة حديج مصر ويقال بل وليها مسلمة بن مخلّد الأنصارىّ. قال بن عبد ربه صاحب كتاب العقد: اجتمع قريش الشام والحجاز (5) كتاب العقد: العقد الفريد 4/ 4 - 5 (12) ولى. . . حديج (ابن حديج): انظر الكامل 3/ 455، قارن أيضا حكام مصر لفيستنفلد 29،51 (12 - 13) وليها. . . الأنصارىّ: فى كتاب الولاة 38: «وكان صرف عقبة عنها لعشر بقين من شهر ربيع الأول سنة سبع وأربعين. . . ثم وليها مسلمة. . . الأنصارىّ»، انظر أيضا النجوم الزاهرة 1/ 132؛ وفقا لزامبور، كتاب الأنساب 25، ولى مسلمة من سنة 47 (14 - 1،34) اجتمع. . . عليها: ورد النص فى العقد الفريد 4/ 7 - 8

عند معوية رضى الله عنه، وكان عنده عبد الله بن عباس رضى الله عنه، وكان جريا على معوية، فبلغه عنه بعض حديث، فقال معوية: رحم الله أبا عبد الله العباس وأبا سفيان، كانا بصفين دون الناس فحفظت الحىّ فى الميت وحفظت الميت فى الحىّ، استعملك علىّ، يابن عباس، على البصرة واستعمل أخاك عبيد الله على اليمن واستعمل قثم أخاكما على المدينة. فلما كان من الأمر ما كان بقيناكم ما فى أيديكم ولم أكشفكم عما دعت غرايركم، وقلت: آخذ (21) اليوم وأعطى اغدا مثله؟ وعلمت أن اللؤم يضر بعاقبة الكريم، ولو شيت لأخذت بحلاقمكم فقييتكم ما أكلتم، لا يزال يبلغنى عنكم ما تبرك له الإبل، وذنوبكم إلينا أكثر من ذنوبنا إليكم، خذلتم عثمان بالمدينة، وقتلتم أنصاره يوم الجمل وحاربتمونى يوم صفين، ولعمرى إن بنى تيم وعدىّ أعظم ذنوبا منّا إليكم، فاصرفوا عنا هذا الأمر، فحتّى متى أغض الجفون على القذا وأسحب الذيول على الأذى، وأقول: لعل وعسى! ما تقول يابن عباس؟ (5) قثم أخاكما: فى العقد الفريد 4/ 7: «أخاك [تماما]» (6) بقيناكم: فى العقد الفريد 4/ 7: «هنأتكم» (9) ما: فى العقد الفريد 2/ 135: «ما لا» (11) بنى. . . عدىّ: انظر العقد الفريد 4/ 7 حاشية 4 (12) فاصرفوا. . . الأمر: فى العقد الفريد 4/ 7: «إذ صرفوا عنكم هذا الأمر، وسنّوا فيكم هذه السّنّة» (13) لعل: فى العقد الفريد 4/ 7: «لعل الله»

فقال ابن عباس رضى الله عنه: رحم الله أبانا وأباك، كانا بصفين متعاوضين، لم يجن أحدهما على الآخر، وكان أبوك كذلك لأبى، من هنّأ أبيك بإخاء أبى كمن هنأ أبى بإخاء أبيك، لقد نصر أبى أباك فى الجاهلية، وحقن دمه فى الإسلام، وأما استعمال علىّ رضى الله عنه أيانا فلسنا دون هواه، وقد استعملت أنت رجالا لهواك لا لنفسك، منهم: ابن الحضرمىّ على البصرة فقتل، وبشر بن أرطأة على اليمن فخان، وحبيب ابن قرّة على الحجاز فرد، والضحاك بن قيس على الكوفة فحصب، ولو طلبتم ما عندنا وقينا أعراضنا، وليس الذى يبلغك عنّا بأعظم ما يبلغنا عنك، ولو وضع أصغر ذنوبكم إلينا على ماية حسنة لمحتها، ولو وضع أدنى معروفنا على ماية سية لمحتها. وأما خذلان عثمان، فلو لزمنا نصره لنصرناه، وقد خذله من هو أبرّ به منا، وأما قتالنا لأنصاره يوم الجمل، فعلى خروجهم ممّا دخلوا فيه، وأما حربنا لك فعلى تركك الحقّ وادعاك (2) متعاوضين: فى العقد الفريد 4/ 7: «متقارضين»، انظر أيضا العقد 4/ 7 حاشية 5 (3) كمن: فى العقد الفريد 4/ 8: «اكثر مما» (5) فلسنا: فى العقد الفريد 4/ 8: «فلنفسه» (5 - 6) ابن الحضرمىّ: انظر العقد الفريد 4/ 8 حاشية 2 (6) بشر بن أرطأة: فى العقد الفريد 4/ 8: «ابن بشر بن أرطأة»؛ فى الكامل 3/ 383: «بسر بن أبى أرطاة»؛ فى مروج الذهب 3/رقم 2085: «بسر بن أرطاة»، انظر أيضا مقالة «بسر بن (أبى) أرطاة» للامنس 1343 - 1344 (9) لمحتها: فى العقد الفريد 4/ 8: «لمحقها» (10) لمحتها: فى العقد الفريد 4/ 8: «لحسّنها»

ذكر نبذ من أخبار عبد الله بن عباس تليق ها هنا

الباطل. وأما إغراك إيانا بتيم وعدىّ، فلو أردناهم ما غلبونا (22) عليها، وسلّم وقام، وقام معوية وانفض المجلس على ذلك. ذكر نبذ من أخبار عبد الله بن عباس تليق ها هنا روى أن لبانة بنت الحرث أم عبد الله بن عباس رضى الله عنه كانت لما ترقصه فى صغره تقول <من الرجز>: ثكلث نفسى وثكلث بكرى … إن لم تسد فهرا وغير فهرى حسب ذاك ويداك الوفر وروى أن عمر الفاروق رضى الله عنه كان يقرّب عبد الله بن عباس رضى الله عنه وهو حديث السن فيشاوره ويستفتيه، ويأذن له مع جلة المهاجرين، ويدنى مجلسه ويقول له: إنى رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، دعاك فمسح رأسك وتفل فى فيك وقال: اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل، وكان يسأل فقهاء الصحابة رضوان الله عليهم عن المسيلة ثم يلتفت إلى (4 - 1،37) روى. . . الفضيلة: ورد النص فى أنباء نجباء الأبناء 79 - 82 (6) ثكلث (ثكلت) نفسى. . . فهرى (فهر): ورد البيت أيضا فى أعلام النساء 4/ 272، انظر أيضا الأمالى /2/ 117/تسد: فى أعلام النساء 4/ 272؛ الأمالى 2/ 117: «يسد» (7) حسب. . . الوفر (بالحسب العدّ وبذل الوفر): فى أعلام النساء 4/ 272؛ الأمالى 2/ 117: «بالحسب العدّ وبذل الوفر … حتّى يوارى فى ضريح القبر»

عبد الله بن عباس فيقول له: اقض غص غواص. وشاوره يوما فأعجبه رأيه، فقال: نشنشة-أعرفها من أخشن. قلت: هكذا رويت هذه الكلمة، نشنشة، بتقديم النون على الشين فى الموضعين، والمثل الساير فى هذا: شنشنة، أعرفها من أخزم، بتقديم الشين وبأخزم مكان أخنش، وله حديث مشهور، والشنشنة بتقديم الشين هى الطبيعة والعادة فى القلب، وأخشن وأخزم اسمان، والمعنى فى المثل أن هذه عادة أو طبيعة أعرفها من أخزم، ومراد عمر رضى الله عنه تشبيه عبد الله بوالده العباس رضى الله عنهما فى جودة الرأى. وكان يقال: إنه ليس لقرشى كرأى العباس رضى الله عنه. (23) وروى أن العباس قال لعبد الله ولده رضى الله عنهما: يا بنى، إنى أرى هذا الرجل، يعنى عمر رضى الله عنه، قد أكرمك وادناك واختصك دون أكابر أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، فاحفظ عنى ثلثا: لا تجرينّ عليه كذبا، ولا تفشينّ له سرا، ولا تغتابن عنده أحدا. قال الشعبى، وهو راوى هذا الحديث عن عبد الله بن عباس: فقلت لعبد الله: كل واحدة خير من ألف. فقال: أى والله ومن عشرة آلاف. وروى أنّ النبى صلّى الله عليه وسلّم لم يبايع صغيرا إلا الحسن والحسين وعبد الله ابن جعفر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير رضوان الله عليهم، فإنه (4) شنشنة. . . أخزم: ورد المثل فى لسان العرب 8/ 246، انظر أيضا نثر الدر 2/ 47 (10 - 13) العباس. . . أحدا: قارن أنساب الأشراف 3/ 51، نثر الدر 1/ 404 (12 - 13) تجرينّ عليه: فى نثر الدر 1/ 404: «يجرّبنّ عليك»، قارن أيضا أنباء نجباء الأبناء 81

بايعهم صغارا، وهذا أعدل شاهد على مقدمهم فى حلبة النجابة، وإعراقهم فى مخايل السيادة. ثم انتهى أمر ابن العباس إلى أنه كان يسمى البحر لكثرة علمه رضى الله عنه، وفيه قال حسان بن ثابت <من الطويل>: إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه … رأيت له فى كل مجمعة فضلا إذا قال لم يترك مقالا لقايل … بملتقطات لا ترى بينها فصلا كفى وشفى ما فى النفوس ولم يدع … لذى إربة، فى القول، جدّا ولا هزلا سموت إلى العليا بغير مشقّة … فنلت قضاها لا دنيّا ولا وغلا خلقت حليفا للمروّة والندى … فليحا ولا تخلق كهاما ولا حبلا قوله: فنلت قضاها، جمع قضاء، والوغل: الضعيف، والوغل أيضا الطالب ما ليس له بحق، والوغل أيضا الدعى، والواعل والواغل أيضا الذى يتطفل على شراب لم يدع إليه. والكهام: الكليل غير النافذ فى الأمور، وهو فى الأصل من وصف السيف الكال، والحبل: هو الغليظ الجافى. ومناقب عبد الله بن عباس رضى الله عنه مشهورة (24) فى مضانها، (3) البحر. . . علمه: انظر أنساب الأشراف 3/ 36 (5 - 9) إذا. . . حبلا: وردت الأبيات أيضا فى سير أعلام النبلاء 3/ص 353 (5) مجمعة: فى سير أعلام النبلاء 3/ص 353: «أقواله» (6 - 8) إذا. . . وغلا: وردت الأبيات أيضا فى ديوان حسان بن ثابت 212 (6 - 7) إذا. . . هزلا: ورد البيتان فى العقد الفريد 2/ 267 - 268 (6) بملتقطات: فى سير أعلام النبلاء 3/ص 353: «بمنتظمات»، انظر أيضا ديوان حسان ابن ثابت 212 حاشية 4 (7) كفى. . . هزلا: ورد البيت فى الأغانى 10/ 276

ذكر سنة ثمان وأربعين النيل المبارك فى هذه السنة

وحظ هذا الكتاب منها دلالة المخيلة على الفضيلة، وكذلك ساير ما لخصناه فى هذا التاريخ على هذه القاعدة بنى أساسه، إذ قصدنا قلة الإطناب طلبا لكثرة الكياسة ولنعود إلى سياقة التاريخ. ذكر سنة ثمان وأربعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وإصبعان. ما لخص من الحوادث الخليفة معوية رضى الله عنه، والنواب حسبما تقدم من الكلام فى السنة الخالية. قيل: كان لمعوية رضى الله عنه رجل بالمدينة يكتب له بما يكون من أمر قريش وغيرهم. فكتب له أن الحسن بن علىّ عليه السّلام أعتق جاريته وتزوّج بها، فكتب معوية إلى الحسن يقول: من أمير المؤمنين إلى الحسن ابن علىّ، أما بعد، فإنه بلغنى أنك تزوجت جاريتك وتركت أكفاوك من قريش ممن تستنجبه الولد وتمجد به فى الصهر، فلا لنفسك نظرت ولا على نسلك شفقت. قال: فكتب الحسن عليه السّلام يقول: أما بعد، فقد بلغنى كتابك (11 - 11،38) كان. . . البحر: ورد النص فى زهر الآداب 1/ 101

ذكر سنة تسع وأربعين النيل المبارك فى هذه السنة

وتعيرك إيّاى بأنى قد تزوجت مولاتى وتركت أكفاى من قريش، وليس فوق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منتها فى شرف، ولا غاية فى نسب، وقد أعتق مارية القبطية مولاته واستولدها إبراهيم، وإنما أنا بضعة منه، وكانت ملك يمينى فأخرجتها عن يدى، التمست بذلك ثواب الله عز وجل، ثم تزوجتها على سنّة أبى ونبيى صلّى الله عليه وسلّم، وقد رفع الله الإسلام بالحسنة، فلا لوم على رجل مسلم إلا فى أمر مأثم أو جاهل يعرف ويحرف، قد غيّر (25) قضايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى اللحاق العاهر بالنسب دون الحجر، وعرّض بإلحاقه النسب لزياد. قال: فلما قرأه معوية نبذه من يده ليزيد ولده. فلما قرأه يزيد قال: لشدّ ما فخر عليك الحسن! فقال معوية: ألا وإنها ألسنة بنى هاشم الحداد التى تفلق الصخر وتغرف من البحر! ذكر سنة تسع وأربعين النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ست عشر ذراعا وسبعة أصابع. (3) إبراهيم: انظر مروج الذهب 3/رقم 1492 - 1493 (4) فأخرجتها. . . بذلك: فى زهر الآداب 1/ 101: «خرجت عن يدى بأمر التمست فيه» (5) رفع. . . بالحسنة: فى زهر الآداب 1/ 101: «رفع الله بالإسلام الخسيسة» (7 - 8) غيّر. . . لزياد: هذا النص غير موجود فى زهر الآداب، قارن لطائف المعارف 15 (15) سبعة: فى درر التيجان 69 آ (حوادث 49)؛ النجوم الزاهرة 1/ 138: «ستة»

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفة معوية رضى الله عنه، والنواب حسبما تقدم. ومما روى صاحب كتاب العقد، أن معوية رضى الله عنه كان فى مجلس، وقد حضره رجال من قريش فيهم عبد الله بن عباس رضى الله عنه. فقال معوية: يا بنى هاشم، بما تفتخرون علينا؟ أليس الأب واحد والأم واحدة والدار واحدة؟ فقال بن عباس: نفتخر عليك بما أصبحت تفتخر به على ساير قريش، وتفتخر به قريش على ساير الأنصار، وتفتخر به الأنصار على ساير العرب، وتفتخر به العرب على ساير العجم، وتفتخر به العرب والعجم من أمته على ساير الأمم، وذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم بما لا تطيق له إنكار ولا منه فرار. فقال معوية: يا بن عباس، لقد أعطيت لسانا ذربا تكاد تغلب بباطله الحق. فقال بن عباس إن الباطل لا يغلب الحق فدع عنك المراء فبيس شعاير المرء الحسد. فقال معوية: صدقت، يابن عباس، أما والله إنى أحبك لأربع: لقرابتك (26) من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولأنك رجل من أسرتى، وكونك لسان قريش وزعيمها، وأما الرابعة فإن أباك كان خلا لأبى. وقد غفرت لك أربع: عدوك علىّ بصفين مع من عدا، وإساءتك إلى عثمان فى خذلانه مع من آساء، وسعيك على عايشة فى من سعى، ونفيك عنى زياد أخى فيمن نفى. فطويت هذا الأمر وعبته (3) كتاب العقد: لم أقف على هذا النص فى العقد الفريد

حتى استخرجت ذلك من كتاب الله عز وجل ومن قول الشاعر. فأما ما قرئ من كتاب الله عز وجل فقوله تعالى: {خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً}، وأما الشعر فقول النابغة <من الطويل>: ولست بمستبق أخا لمآثم … على شعث أىّ الرجال المهذّب فقد قبلنا منك الأجر وغفرنا لك الذنب. [قلت: وقد روى هذا البيت الذى للنابغة <من الطويل>: ولست بمستبق أخا لا تلمّه … على شعث، أىّ الرجال المهذّب] قال: فقام بن عباس قايما وقال: الحمد لله الذى أمر بحمده وأعدّ عليه ثوابه، أحمده كثيرا كما أنعم علينا كثيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله، أما بعد: فإنك ذكرت أنك تحبنى لقرابتى من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك واجب عليك وعلى كل مسلم ومؤمن آمن بالله ورسوله، لأنه الآجر الذى سألكم عليه لما أتاكم به من الضياء والبرهان المبين. فمن لم يحبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد خاب وخسر وكبا وخزى وحل محل الأشقياء. وأما قولك إنى من أسرتك وأهل بيتك، فهو لعمرى كذلك، وإنما أردت بذلك صلة الرحم وأنت (3) النابغة: يعنى النابغة الذبيانى (4) ولست. . . المهذّب: ورد البيت فى الأغانى 2/ 193؛ ديوان النابغة الذبيانى ص 74؛ العقد الثمين 5؛ كتاب الشعر /81/لمآثم: فى الأغانى 2/ 193؛ ديوان النابغة الذبيانى ص 74؛ العقد الثمين 5؛ كتاب الشعر 81: «لا تلمّه»

وأيم الله لم تزل وصولا للرحم، وهى من أفعال الأبرار فلا تثرتب عليك. وأما قولك إنى لسان قريش وزعيمها فإن لم أعط من ذلك شيئا إلا وأنت أعطيت مثله، ولكنك قلت ذلك لشرفك وفضلك كما قال (27) الأول <من الطويل>: وكلّ كريم للكريم مفضّل … يرا أهله أهلا وإن كان أفضلا وأما قولك إن أبى كان خلا لأبيك فقد كان ذلك، وقد علمت ما كان من أبى لأبيك يوم الفتح وكان شاكرا مكرما، وقد قال الأول <من الطويل>: سأحفظ من آخى أبى فى حياته … وأحفظه من بعده فى الأقاربى ولست لمن لا يحفظ العهد واثقا … صديقا ولا عند السليم بصاحبى وأما قولك فى عدوى عليك بصفين، فو الله لو لم أفعل لكنت من شرار العالمين، ويحك يا معوية، أكانت تحدثك نفسك أنى كنت خاذلا لابن عمى أمير المؤمنين، وقد نصروه المهاجرين والأنصار، أو كنت أظن بنفسى، أو أشك فى دينى، أم تجبن فى سجيتى، والله لو لم أفعل ذلك إلا لإحسانه لى. وأما قولك خذلان عثمان، فقد خذله من هو أمس به رحما منى ومنك، وأبعد رحما منى ومنك، فكان لى فى الأقربين والأبعدين أسوة. ولم والله أعدو عليه فيمن عدا، بل كنت كافا أهل الحجاز عنه. وأما قولك عايشة، فلو قعدت فى بيتها كما أمرها الله ورسوله لكان

ذكر سنة خمسين هجرية النيل المبارك فى هذه السنة

خيرا لها، لكن {كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً}. قال: فلم يجبه معوية بشئ. فلما كان فى الليل بعث إليه بماية ألف درهم. ذكر سنة خمسين هجرية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وستة وعشرين إصبعا. مبلغ الزيادة ست عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة معوية رضى الله عنه، والنواب بحالهم. [وفيها توفى المغيرة ابن شعبة وأضا. . . الكوفة. . . مع البصرة]. وفيها أخذ معوية (28) العهد لولده يزيد بالشام، وبعث بها إلى العراق والحجاز، وفرّق فى ذلك أموالا جمة. فبايع الناس بأجمعهم له بالسمع والطاعة إلا خمس نفر، وهم الحسين بن علىّ عليهما السلام، وعبد الرحمن ابن أبى بكر، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عباس رضى الله عنهم. وكان ذلك بعد وفاة الحسن عليه (5) ستة وعشرين (عشرون): فى النجوم الزاهرة 1/ 141: «ستة عشر» (8 - 9) المغيرة بن شعبة: انظر الكامل 3/ 461 (10 - 14) وفيها. . . عنهم: انظر تاريخ الطبرى 2/ 173 - 177 وأيضا فيها: فى تاريخ الطبرى 2/ 173 (حوادث 56): «وفيها دعا معاوية الناس إلى بيعة ابنه يزيد من بعده، وجعله ولىّ العهد»

السلام فى هذه السنة حسبما تقدم من ذكر ذلك وسببه. [فصح: قيل إن الحسن صلوات الله عليه توفى يوم الخميس رابع شهر صفر من سنة إحدى وخمسين، وأنه قبل موته بثلاثة أيام، خرج على أصحابه متوكيا على عصاه فقال: والله ما خرجت إليكم حتى قلبت من كبدى بعود، ولقد سقيت السمّ مرارا، فلم يك أصعب من هذه. فقالوا: من فعل بك هذا يابن رسول الله؟ قال: وما تريدون به؟ قالوا: نطالبه بدمك. قال: إنكم لا تقدرون عليه، الله حى ونبيه]. وكان معوية لما استقر له الأمر أخرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر إلى المدينة. فلقاهم قوم قالوا للحسن عليه السّلام: السلام عليك يا مذل العرب، السلام عليك يا مذل المؤمنين. فقال الحسن رضى الله عنه: كرهت أن أسفك دما. الإسلام على ملك الدنيا والآخرة خير وأبقى. قال الحافظ أبو نعيم فى تاريخه: إنه لما نصّب معوية ولده يزيد لولاية العهد أقعده فى قبة حمراء فجعل الناس يسلمون على معوية، ثم يسلمون على يزيد، حتى جاء رجل ففعل ذلك. ثم رجع إلى معوية (2 - 3) يوم. . . خمسين: تعطى فيتشا فالييرى فى مقالة «الحسن بن علىّ بن أبى طالب» 242، تواريخ لوفاته: سنة 49،50،48،58،59 (4 - 7) فقال. . . نبيه: قارن الإرشاد 192؛ مروج الذهب 3/رقم 1759 (12) أبو. . . تاريخه: لم أقف على هذا النص فى تاريخ أبى نعيم ولكن ورد النص فى وفيات الأعيان 2/ 500 - 501 (12 - 12،) 44 لما. . . فرجه: ورد النص فى وفيات الأعيان 2/ 500 - 501

فقال: يا أمير المؤمنين، إنك لو لم تولّ هذا أمور المسلمين لأضعتها، والأحنف بن قيس جالس. فقال له معوية: ما لك ألا تقول، يا با بحر؟ فقال: أخاف الله إن كذبت، وأخافكم إن صدقت. فقال له معوية: جزاك الله عن الطاعة خيرا، وأمر له بألوف كثيرة. فلما خرج لقيه ذلك الرجل بالباب فقال: يا با بحر، إنى لأعلم أن شرّ خلق الله هذا وابنه، ولكنهم قد استوثقوا من هذه الأموال بالأبواب والأقفال، وليس نطمع فى استخراجها إلا كما سمعت. فقال له الأحنف: أمسك عليك، إن ذا الوجهين خليق أن لا يكون {عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً.} ومن كلام الأحنف يقول: ما خان شريف، ولا كذب عاقل، ولا (29) اغتاب مؤمن. وسمع رجلا يقول: ما أبالى أمدحت أم ذممت. فقال: لقد استرحت من حيث تعب الكرام. وكان يقول: جنبوا مجلسنا ذكر الطعام والنساء، فإنى أبغض الرجل يكون وصافا لبطنه وفرجه. قال المسعودى رحمه الله: ولما امتنع أوليك النفر الخمس عن البيعة ليزيد، كتب بذلك مروان بن الحكم إلى معوية فعظم عليه. وحج فى عامه، فلما قرّب من المدينة خرج الناس إلى لقايه، وفيهم النفر المذكورين خلا عبد الله بن عباس. فلما رآهم معوية قطب فى وجوههم. (13) المسعودى: لم أقف على هذا النص فى مروج الذهب

ثم قال: ما أعرفنى بسفهكم وطيشكم! فقال له الحسين عليه السّلام: مهلا يا معوية، فإنا لسنا أهلا هذه المقالة. فقال معوية: بلى والله، وأشد منها وأغلظ، فإنكم تريدون أمرا، ويأبى الله ما تريدون. ثم دخل المدينة فنزلها. وجاء الناس يسلمون عليه. فجعل يشكوا من هؤليك الأربع. ثم جاؤا يدخلون عليه. فلم يأذن لهم، فركبوا رواحلهم ومضوا إلى مكة شرفها الله تعالى. ثم صعد معوية المنبر وقال فى أثناء خطبته: ومن أحق بالخلافة من يزيد، فى فضله وأدبه وهديه وموضعه من قريش؟ وإنى أرى أقواما يعيبونه، وما أظنهم مقلعين حتى تصبهم بوايق، ولقد أنذرت قبل أن يقع الاعتذار وذكر هؤلاى الأربع. ثم قال: والله ورب الكعبة، إذ لم يبايعوا لتكونن عليهم شؤما. ثم نزل فأتته عايشة رضى الله عنها. فقالت: يا معوية، قد قتلت أخى محمّدا بثأرك على ما زعمت أنك أنت صاحبه ولست كذلك. ثم قدمت المدينة فأخذت أبناء الصحابة بالشدة والعسف، والكلام الشّين. وأنت من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة، وكان أبوك (30) من الأحزاب، وليس مثلك من يهدد هؤلاى. فقال معوية: هم والله عندى أعزّ من سمعى وبصرى، ولكنى أخذت البيعة ليزيد. وقد بايعه جميع الناس! أفترين يا أم المؤمنين أن أنقض بيعته؟ وقد تمّت وخدعها بلين القول. فقال: فليكن ذلك منك بالرفق، فإنك تبلغ منهم ما أحببت. قال: فأحضر معوية عبد الله بن عباس رضى الله عنه، وشكى إليه

الحسين عليه السّلام. فقال بن عباس: قد مضى الأول بما فيه وأعلم أن كان عليّا قد ذهب فهذا ابنه، وليس على وجه الأرض ابن بنت نبى سواء. فقال معوية: يابن عباس، إنه لكما ذكرت. ثم أمر له بأموال جمة واستصحبه معه إلى مكة. فلما قربوا منها خرج الناس للقايه، وفيهم الأربعة المذكورين. فلما رآهم معوية حرك إليهم وأقبل على الحسين فقال: مرحبا بأبى عبد الله سيد شباب أهل الجنة. وقال بعده لعبد الرحمن ابن أبى بكر: مرحبا بشيخ قريش وابن صديقها. وقال لابن عمر: مرحبا بابن صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال لابن الزبير: مرحبا بابن حوارى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ثم قدم لهم أربع مراكب وركبهم وأدناهم. ولما استقر أنفذ إليهم بجوايز سنية، وزاد الحسين أضعافها عنهم فردها الحسين عليه ولم يقبلها. ثم استدعا الحسين عليه السّلام وخلا به. وقال: يا با عبد الله، إنى لم أترك بلدا إلا وأخذت فيه العهد والبيعة لأخوك وابن عمك يزيد. وإنى لو علمت أحدا أحق بها لأمة محمّد بايعت له. فقال الحسين: لا تقل هذا، يا معوية! فإنك تركت من هو خير منه أبا وأما وحسبا ونسبا. فقال معوية: أظنك تريدها لنفسك. فقال الحسين عليه السّلام: (31) وما ينكر من ذلك، يا معوية؟ فقال معوية: أما أمك فخير من أمه. وأما أبوك فله سابقة وفضيلة وقرابة ليست لأحد. ولكن قد جاءكم أبوك لى فقضى لى عليه. فو الله يزيد خير لأمة محمّد منك. فقال الحسين عليه السّلام: يزيد الخمور، يزيد الفجور، خير لأمة محمّد من ابن بنت نبيهم؟ فقال معوية: مهلا، يا با عبد الله، فو الله إنك لو ذكرت عند يزيد ما ذكر منك

لأحسنا. فقال الحسين: إن علم منى ما أعلم منه فليقل. فقال معوية: اتق الله يا با عبد الله فى نفسك واحذر أهل الشام إن سمعوا منك ما سمعته أنا منك، فإنهم أعداء أبيك وأعدايك! قال: ثم أحضر عبد الرحمن بن أبى بكر. فبدأه عبد الرحمن بالكلام قبل كلام معوية وقال: والله لا نبايع لابنك يزيد يوميذ أبدا، ولنردن الأمر شورى بين المسلمين. فقال معوية: إنى لأعرف سفهك، ولقد هممت أن أفعل بك كذا وكذا. فقال عبد الرحمن: يدركك الله به فى الدنيا ويدخر لك العقوبة فى الآخرة. فقال معوية: اللهم اكفنى شر هذا الشيخ، يا هذا اتق الله فى نفسك إن سمع أهل الشام هذا منك! فقال عبد الرحمن: أما نحن فقد اتقينا الله تعالى وجلسنا فى منازلنا! فلم تدعنا حتى تدعونا لبيعة يزيد الخمور والفجور والفهود والقرود. ثم وثب مغضبا ومضى. قال: ثم أحضر عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال: عهدى بك، تكره الفرقة وتقول: لا أحب أن أبت ليلة ليس علىّ أميرا. إنى أحذرك أن تشق العصاة فى فساد ذات البين. فقال عبد الله بن عمر: يا معوية، قد كان قبلك أيمة لهم أبناء، وما ابنك بأفضل منهم. فلم يوصوا لهم بشئ، غير أنه ليس عندى خلاف لك، إن اجتمع الناس (32) على ابنك وافقتهم. قال: فشكره معوية.

قال: ثم أحضر عبد الله بن الزبير. فلما رآه قال: ثعلب روّاغ كلما سد عليه جحر خرج من حجر، يابن الزبير! نفخت فى مناخر هؤلاء وحملتهم على غير دأبهم. فاتق الله ولا تكن مستاقا! فقال بن الزبير: يا معوية، ما كان عليه السلف من الأخيار والشورى، فنحن عليه. فقال معوية: امسك لسانك يا هذا، واحذر أهل الشام على نفسك. فإذا خلوت منى فقل ما أحببت، فإنى محتملك بخلاف الغير. ثم أمر لهم بجوايز جزيلة ولساير بنى هاشم. فكل قبل ذلك إلا الحسين عليه السّلام فإنه لم يقبل منها شئ. فلما كان من الغد أوصى معوية أهل الشام بما أحب. ثم خلى بالأربعة وعاودهم فى أمر البيعة ليزيد. فقال الكل عن لسان واحد: افعل، يا معوية كما فعل رسول الله وأبى بكر وعمر وعلىّ، لم يستخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحد، وترك أبو بكر أولاده، وتركها عمر شورى بين ستة، وتركها على شورى بين المسلمين. فاختاروا لهم الحسن. فلما ياس منهم صعد المنبر بعدما جمع أهل الشام إليه، وأجلس الأربعة بين يديه وقال: أيها الناس إن هؤلاى قد قيل عنهم إنهم لم يبايعوا لولدى يزيد. وها هم عندى سادة المسلمين وقد بايعوا وأطاعوا. فلم يستتم كلامه حتى شهروا أهل الشام سيوفهم وقالوا: يا أمير المؤمنين، ما الذى تعظمه من هؤلاء الأربع، أتأذن لنا فى ضرب رقابهم؟ فإنا لا نقنع

ذكر سنة إحدى وخمسين النيل المبارك فى هذه السنة

منهم إلا أن يبايعوا علانية لا سرا، حتى يسمع الناس هوابهم. فقال معوية: سبحان الله، ما أسرع الناس إلى الشر، اتقو الله، يا أهل الشام، ولا تسرعوا إلى (33) الفتنة. فلما سمعوا الأربعة خديعة معوية وقوله عليهم: إنهم بايعوا ولم يمتنعوا، علموا أنهم قد خدعوا وأنهم متى نكروا ذلك وكذبوا قتلوا لا محالة، فلم ينطقوا بحرف، وتفرق الناس وهم يظنون أن الأربعة قد بايعوا. ولما انصرفوا إلى منازلهم جاءهم الناس وقالوا: أرضيتم بيزيد خليفة وبايعتموه. فقالوا: لا والله، ما بايعناه قط، ولكنه خدعنا وخشينا الفتنة. ثم عاد معوية إلى الشام على ذلك، والناس بين مكذب ومصدق. ولما عاد إلى المدينة فى هذه السنة، أمر بحمل منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة إلى الشام. فلما حمل كسفت الشمس، ورأت الناس النجوم، وهبت ريح سوداء عاصفة. فجزع من ذلك وعظم عليه، فأعاد المنبر إلى موضعه، وزاد فيه ست مراقى. ذكر سنة إحدى وخمسين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلثة أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وستة وعشرون إصبعا. (17) ستة وعشرون: فى درر التيجان 70 آ (حوادث 51)؛ النجوم الزاهرة 1/ 142: «ثلاثة وعشرون»

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفة معوية رضى الله عنه، والنواب كذلك. فيها وفدت عكرشة بنت الأطرش على معوية متواكاة على عكّازها. فسلّمت عليه بالخلافة، ثم جلست. فقال معوية: يا عكرشة، اليوم صرت عندك أمير المؤمنين؟ ألست المقلّدة حمايل السيف بصفين واقفة بين الصفين، وأنت تقولين: أيها الناس، عليكم أنفسكم لا يعزكم من ضلّ إذا اهتديتم، إن الجنة لا ترحل من قطنها ولا يحزن على من سكنها ولا يموت (34) من دخلها فابتاعوا بدار لا يدوم نعيمها ولا ينصرم صمومها، مستطرين بالصبر على طلب حقوقكم، إذ معوية دلف إليكم بعجم العرب غلف القلوب، لا يفقهون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة، دعاهم بالدنيا فأجابوه، واستدعاهم إلى الباطل فلبّوه، فالله الله عباد الله فى دين الله عز وجل، يا معشر المهاجرين والأنصار، إمضوا على مصيركم، واصبروا على عزيمتكم فكأنى بكم غدا، وقد لقيتم أهل الشام كالحمر الناهقة، يقول معوية: وكأنى أراكى على عصاكى هذه، وقد انكفأ عليكى العسكران، يقولون: هذه عكرشة بنت الأطرش، فإن كدت تقتلين أهل (3 - 11،51) وفدت. . . أنصفهم: ورد النص فى العقد الفريد 2/ 111 - 112 (8) صمومها: فى العقد الفريد 2/ 111: «همومها» (12) مصيركم: فى العقد الفريد 2/ 111: «بصيرتكم» (14) يقول معوية: هاتان الكلمتان ناقصتان فى العقد الفريد 2/ 111 - 112

الشام. لولا قدر الله، فما حملك على هذا؟ فقالت: يا أمير المؤمنين، يقول الله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ،} وإن اللبيب إذا كره أمرا لا يحب إعادته. قال: صدقتى فاذكرى حاجتك. فقالت إنه كانت صدقاتنا تؤخذ من أغنياينا فتردّ على فقراينا، وإنا قد فقدنا ذلك فما عاد يجبر لنا كسيرا، ولا ينعش لنا فقيرا. فإن كان ذلك عن رأيك فمثلك من انتبه من الغفلة وراجع التوبة، وإن كان عن غير رأيك فمثلك لا يستعمل الخونة ولا يستعين بالظلم. فقال معوية: يا هذه، إنه يفوتنا من أمور رعيّتنا أمور تنفتق وبحور تتدفق. قالت: يا سبحان الله، ما فرض لنا حق، وفيه ضرر لغيرنا، وهو علاّم الغيوب. قال معوية: هيهات يا أهل العراق، إنى أرى تنهدكم على علىّ لما أفسدكم به من الحلم والإغضاء، ولولا الحلم لم تطاقوا. ثم أمر برد صدقاتهم فيهم وأنصفهم، وأكرمها وسرحها إلى العراق. وقيل إن معوية رضى الله عنه سأل لعدى بن حاتم الطائى، قال: إن علىّ كان يريد يدخلك فى الحكومة، ما الذى كنت تصنع؟ (35) قال: يا أمير المؤمنين، إن إرادة الله تعالى سبقت، وقد جرى ما جرى. فلم تسأل عن أمر لا وقع أن لو كان كيف يكون؟ فقال معوية: ناشدتك الله ما الذى (7) يفوتنا: فى العقد الفريد 2/ 112: «ينوبنا» (8) تنفتق: فى العقد الفريد 2/ 112: «تنبثق» (11) أنصفهم: فى العقد الفريد 2/ 112: «إنصافها»

ذكر سنة اثنين وخمسين النيل المبارك فى هذه السنة

كنت تصنع؟ قال: كنت أمضى إلى مكة والمدينة وأجمع من المهاجرين والأنصار أربعة آلاف. فإن لم أجد كمالها كملتها من أبنايهم. فإن لم أجد كملتها من نسايهم. فإنهم أهل الشورى، ويعقدون الأمانة، وحكمهم جايز على الأمة، فأحلفهم بالله تعالى ورسوله أيما أحق بها المهاجرين والأنصار أم الطلقاء. قال: فنظر إليه معوية وتبسّم وقال: والله ما كان يختلف عليه اثنان فقد كفى الله أمرك. ذكر سنة اثنين وخمسين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وثلثة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ست عشر ذراعا وإحدى وعشرين إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة معوية رضى الله عنه، والنواب بحالهم على ما تقدم من ذكرهم. [وفيها توفى أبو موسى الأشعرى رحمه الله، وأبو بكر بن عبد الله البجلى، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت الأنصارى، وله من العمر يومئذ ماية وعشرون سنة]. (10) إحدى وعشرين (عشرون): فى النجوم الزاهرة 1/ 143: «عشرون» (15) كعب بن مالك: وفقا لمونتكومرى-وات، مقالة «كعب بن مالك» 316، توفى فى سنة 50 أو /53/حسان. . . الأنصارى: وفقا لعرفات، مقالة «حسان بن ثابت» 272، توفى فى سنة 40 أو قبلها،50 أو 54.

فيها غزا يزيد بن معوية فى حياة أبيه الصايفة، ومعه جماعة من الصحابة، منهم أبو أيوب الأنصارى رضى الله عنه، ووصل يزيد القسطنطينية. وتوفى أبو أيوب رضى الله عنه فى هذه الغزاة، ودفن فى صورها. فقال الروم: لقد مات فيكم رجل عظيم القدر. فقيل لهم: هذا رجل من أصحاب نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، من أقدمنا إسلاما وأخصنا صحبة. فكانوا إذا محلوا، كشفوا عن قبره وسألوا الله عز وجل به فيمطروا ويسقوا، وبنا الروم على قبره بناء، وعلقوا عليه قناديل تقد، وعاد مشهدا هناك إلى الآن. روى أن معوية رضى الله عنه سأل يوما جلسايه، وعنده جماعة من (36) العرب فقال لهم: أخبرونى من أكرم الناس أبا وأما وجدا وجدة وخالا وخالة، وهو يظن أنهم يقولون أمير المؤمنين. فقام له عجلان وأخذ بيد الحسين عليه السّلام وقال: هذا أبوه علىّ، وأمه فاطمة، وجده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجدته خديجة، وخاله القثم، وخالته زينب، وعمه جعفر الطيار، وعمته أم هانئ بنت أبى طالب. فقال عمرو بن العاص لعجلان: إنّك لن تخطئ اسمك. فقال: ويحك يابن العاص، ما التمس أحد رضى المخلوق بمعصية الخالق إلا أحرمه أمنيته فى الدنيا وختم له بالسوء فى الآخرة. إنّ بنى هاشم أنضر قريش عودا، وأكرمهم جدودا، وأقوا زندا، وأعظمهم حدا، وأخير أمة رفدا، سادة أنجاد، قادة أجواد، تزهوا بهم (1 - 8) فيها. . . الآن: قارن الطبقات الكبرى 3/ 485

ذكر سنة ثلث وخمسين النيل المبارك فى هذه السنة

المحافل إذا طلبوا، وتتحمل بهم المنابر إذا خطبوا. قال: فقطع عليه معوية وقال: صدق أخى بنى تميم، فالحمد لله الذى شرف قريش عمّن سواهم من العالمين. ذكر سنة ثلث وخمسين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وسبعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ست عشر ذراعا وأربعة أصابع. [ما لخص من الحوادث] الخليفة معوية رضى الله عنه، والنواب بحالهم إلا زياد بن أبيه. فإنه هلك فى هذه السنة. وكان قد كتب إلى معوية يقول: إنى قد ضبطت لك العراقين بيمينى وفرغت شمالى لطاعة أمير المؤمنين، وهو يعرّض بالحجاز. فجمع له العراقين مع الحجاز. فلما بلغ أهل الحجاز ذلك، جزعوا جزعا عظيما. فاجتمع الكبير والصغير بمسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وضجوا إلى الله تعالى ولاذوا بالقبر المطهر الشريف ثلاثة أيام (37) لعلمهم بما زياد عليه من الظلم والعسف، وكان زياد قد جمع الناس بالعراق وأكرههم على لعنة علىّ عليه السّلام فمن أبى ذلك قتله. فبينما الناس كذلك فى أشد الأحوال، إذ خرج خارج من القصر. فقال: انصرفوا فإن (10 - 8،55) هلك. . . مؤتمن: ورد النص فى مروج الذهب 3/رقم 1824 - 1826 باختلاف بسيط، انظر أيضا تاريخ الطبرى 2/ 158 - 161 (حوادث 53)؛ الكامل 3/ 493 - 494

ذكر سنة أربع وخمسين النيل المبارك فى هذه السنة

الأمير عنكم مشغول بنفسه، وإذا به قد خرج فى كفه نثرة فحكها فسرت. ثم صارت آكلة سوداء، فجمع لها الأطباء فأشاروا بقطعها، فاستشار شريحا فى قطعها فقال له: لك رزق مقسوم وأجل معلوم، وإن أكره إن كان لك مدة أن تعيش أحذم، وإن حم أجلك أن تلقى ربك مقطوع اليد. فإذا سألك: لم قطعتها قلت: بغضا للقايك وفرارا من قضايك. فرجع عن قطعها. فلما مات، لام الناس شريحا كونه أشار عليه بذلك. فقال: والله لولا أمانة المشورة لوددت أن الله قطع يده يوما ورجله يوما وساير جسده يوما فيوما، وإنما المستشار مؤتمن. وهلك زيادا من تلك الآكلة، وهو ابن خمس وخمسين سنة، ودفن بالكوفة، وولى معوية لعبيد الله بن زياد مكان أبيه زياد، وسار سيرة أبيه فى الظلم والعسف وبغض أهل البيت. ذكر سنة أربع وخمسين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وثلثة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا واثمان أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة معوية رضى الله عنه، ومسلمة والقاضى سليم بمصر على حالهما، ومروان بن الحكم بالمدينة على ساكنها السلام، وكذلك ابن أبى

العاص بمكة، وعبيد الله بن زياد على العراقين، وأمر فارس وخراسان راجع (38) إلى كل من ولى العراقين يولى فيهما من أحب واختار. [وفى سنة أربع وخمسين توفى حكيم بن حزام وجرير بن عبد الله رحمهما الله]. ومن العقد عن الشعبى قال: دخل عبد الله بن عباس على معوية رضى الله عنهما، وعنده وجوه قريش. فقال له معوية: إنى أريد أسألك عن مسايل. قال: سل عمّا بدا لك. قال: ما تقول فى أبى بكر؟ قال: رحمة الله على أبى بكر، كان والله للقرآن تاليا وعن المنكر ناهيا، وبدينه عارفا، ومن الله خايفا، وعن الشبهات زاجرا، وبالمعروف آمرا، وبالليل قايما، وبالنهار صايما. فاق الصحابة ورعا وكفافا، وسادهم زهدا وعفافا، فغضب الله على من يبغضه ويطعن فيه! قال معوية: فما تقول فى عمر؟ فقال: رحم الله أبا حفص عمر! كان والله خليفة الإسلام، ومأوى الأيتام، ومنتهى الإحسان، ومحلّ الإيمان، وكهف الضعفاء، ومعقل الحنفاء، قايما بحقوق الله عز وجل، صابرا محتسبا حتى وضح الدين وابتهج المسلمين، فتح البلاد وأمّن العباد. فلعنة الله على من يبغضه أو يطعن فيه! (3) حكيم بن حزام: انظر الأعلام /2/ 298/جرير بن عبد الله: انظر المعارف 149،289 (5 - 6،59) العقد. . . سواه: لم أقف على هذا النص فى العقد الفريد ولكن ورد النص فى مروج الذهب 3/رقم 1878 - 1881.

قال معوية: إيه يابن عباس، فما تقول فى عثمان؟ فقال: رحم الله أبا عبد الرحمن عثمان، كان والله أكرم الجعدة، وأفضل البرية، هجّاد فى الأسحار، كثير الدموع عند ذكر النار، نهاض عند كل مكرمة، سبّاق إلى كل منجبة حييّا أبيّا، وقيا وفيّا، صاحب جيش العسرة، ختن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأعقب الله من لعنه اللعنة إلى يوم الدين! قال معوية: فما تقول فى علىّ؟ قال: رضى الله عن أبى الحسن! كان والله علم الهدا، وكهف التّقى ومحلّ الحجى، وبحر الندا، وطود البها، وكهف العلا، فى الورى داعيا إلى المحجّة العظما، مستمسكا بالعروة الوثقى، خير من آمن واتقى، وأفضل من تقمّص وارتدا، وأبرّ من انتعل وسعا، وأفصح من تنحنح (39) وقرا، وأكبر من شهد النجوى سوى الأنبياء والنبى المصطفى، فهل يوازنه أحد، وأبو السبطين؟ فهل يقارنه بشر، وزوج خير النساء؟ فهل يفوقه فايق، فى حومة الطعن جوال، وفى موقف الحرب قتال؟ لم تر عينى مثله ولن ترا، فعلى من يبغضه (2) الجعدة: فى مروج الذهب 3/رقم 1879: «الحفدة» (4) منجبة: فى مروج الذهب 3/رقم 1879: «منحة» (11) وأبو السبطين: فى مروج الذهب 3/رقم 1879: «وهو أبو السبطين» (12) وزوج: فى مروج الذهب 3/رقم 1879: «وهو زوج» (12 - 13) فى حومة. . . قتال: فى مروج الذهب 3/رقم 1879: «وهو للأسود قتّال وفى الحروب ختّال»

ويلعنه لعنة الله ولعنة الاعنين ولعنة الناس أجمعين. قال معوية: كثرت فى ابن عمك يابن عباس. فما تقول فى أبيك العباس؟ قال: رحم الله أبا الفضل، كان صنو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقرة عين، صفىّ الله، سيد الأعمام، له أخلاق آبايه الأجواد، وأحلام أجداده الأنجاد، تباعدت الأسباب عند فضيلته، صاحب البير والسقاية، والمشاعر والتلاوة، وكيف لا يكن كذلك وقد ساسه أكرم من دبّ إذ كان أبوه بعد الأب؟ فقال: يابن عباس، أنا أعلم أنك كلمانىّ أهل الملّة. قال: وكيف لا أكون كذلك، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم فقّهه فى الدين، وعلّمه التأويل؟ ثم قال بن عباس: يا معوية، إن الله-جل ثناؤه وتقدست أسماؤه- خصّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم بصحابة أبرّوه على الأموال، وبذلوا النفوس دونه فى كل حال، ووصفهم الله فى كتابه فقال: {رُحَماءُ بَيْنَهُمْ}، الآية، فآمنوا بمعالم الدين، وناصحوا لكافة المسلمين، حتى تهذّب طرفه، وقويت أسبابه، وظهر آلاء الله واستقر دينه، ورصخت أعلامه، وأزال الله به الشرك (2) كثرت: فى مروج الذهب 3/رقم 1880: «اكثرت» (4) الأنجاد: فى مروج الذهب 3/رقم 1880: «الأمجاد» (5) البير (البئر): فى مروج الذهب 3/رقم 1880: «البيت» (6) وكيف لا يكن: فى مروج الذهب 3/رقم 1880: «ولم لا يكون» (12) تهذّب طرفه: فى مروج الذهب 3/رقم 1881: «تهذّبت طرقه» (13) رصخت (رسخت): فى مروج الذهب 3/رقم 1881: «وضحت»

ذكر سنة خمس وخمسين النيل المبارك فى هذه السنة

والشك، وأزال رؤوسه ومحا أعدايه، وصارت كلمة العليا، وكلمة {الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى}، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزكية والأرواح الطاهرة العالية الأبية! فقد كانوا فى الحياة لله أولياء، وكانوا بعد الموت أحياء، وكانوا لعباد الله نصحاء، ورحلوا إلى الآخرة (40) قبل أن يطلبوا إليها، وخرجوا من الدنيا، وهم بعد فيها. قال: فقطع عليه معوية الكلام، وقال: إيه يابن عباس حدثنا فيما سواه. ذكر سنة خمس وخمسين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة معوية رضى الله عنه، والنواب بالأمصار حسبما تقدم من ذكرهم فى السنة الخالية. [وفى سنة خمس وخمسين توفى سعيد بن العاص رحمه الله، (6) حدثنا. . . سواه: فى مروج الذهب 3/رقم 1881: «خذ بنا غير هذا» (14) وفى. . . العاص: فى تاريخ أبى الفداء 1/ 198: «ثم دخلت سنة تسع وخمسين، وفيها توفى سعيد بن العاص»؛ فى الكامل 3/ 525 (حوادث 59): «وفيها مات سعيد ابن العاص»؛ وفقا لزيترستين، مقالة «سعيد بن العاص» 71، توفى فى سنة 59 أو 53 أو 57 أو 58

وأبو قتادة الأنصارى وجويرية زوج النبى صلّى الله عليه وسلّم، وكان سعيد بن العاص من الأجواد المعدودين فى طبقات الكرماء فى الإسلام، وسيأتى من ذلك طرفا جيدا ما يؤيد قولنا فيه عند ذكر قصره الذى يقول فيه أبو قطفة الشاعر من أبيات <من البسيط>: القصر فالنّخل فالجماء بينهما … أشهى إلى القلب من أبواب جيرون] وعن الشعبى قال: قدم الأحنف بن قيس على معوية. قال الأحنف: فقدّم من الحلو إلى الحامض، وأكثر من ذلك فأعجبنى منه. ثم قدّم لونا آخر فلم أدرى ما هو. فقلت: ما هذا يرحمك الله؟ فقال: مصارين البطّ محشوة ملحا. ثم تنصف وتحشى لحما صغيرا قد قليت بدهن الفستق وذرّ عليها الطبرزد يعنى السكر ويرش عليها أنواع الطيب. قال: فبكى الأحنف. فقال معوية: ما يبكيك، يا با بحر؟ قال: فقلت: ذكرتنى عليّا رضى الله عنه، بينما أنا عنده فحضر وقت إفطاره، فسألنى المقام، فأقمت إذ دعا بجراب مختوم. فقلت: ما فى هذا الجراب، يا أمير المؤمنين؟ فقال: جرش الملح وجرش الشعير. فقلت: خشيت عليه (1) أبو. . . الأنصارى: فى الكامل 3/ 500 (حوادث 54): «وفى هذه السنة توفى أبو قتادة الأنصارى. . .، وقيل: مات سنة أربعين. . .» //جويرية: وفقا للزركلى، الأعلام 2/ 146، توفيت فى سنة 56؛ فى أعلام النساء 1/ 227: «. . . وتوفيت فى المدينة سنة 56 وفى رواية سنة 50. . .»؛ فى الكامل 3/ 513 (حوادث 56): «وفى هذه [السنة] ماتت جويرية» (5) القصر. . . جيرون: ورد البيت فى الأغانى 1/ 8 (6 - 5،61) قال الأحنف. . . فضله: ورد النص فى التذكرة الحمدونية 1/ 69 (9) ملحا: فى التذكرة الحمدونية 1/ 69: «بالمخّ»

ذكر سنة ست وخمسين النيل المبارك فى هذه السنة

أن يؤخذ منه فختمته، إذ بخلت به؟ قال: لا ولكنى خشيت أن يلتّه الحسن والحسين بشئ من سمن أو زيت فأكون قد جمعت بين أدمين. فقلت: أفحرام هو ذلك؟ قال: لا ولكنى يجب على أيمة الحق أن يعتدّوا أنفسهم من ضعفاء الناس ليلا يطغى الفقير فقره. فقال معوية: صدقت، يا با بحر، ذكرت من لا أشك فضله. وكان الأحنف بن قيس أحد السادات الطلس، والأطلس الذى لا شعر (41) فى وجهه، وهم أربعة: عبد الله بن الزبير، وقيس بن سعد بن عبادة الأنصارى، والأحنف بن قيس هذا، والقاضى شريح، وكان شريحا من كبار التابعين وأدرك الجاهلية، واستقضاه عمر بن الخطاب على الكوفة، فأقام قاضيا خمسا وسبعين سنة لم يتعطل فيها إلا ثلث سنين فى فتنة ابن الزبير، [و] استعفى الحجاج فأعفاه، وهو شريح بن الحرث بن قيس بن الجهم الكندى رضى الله عنه. ذكر سنة ست وخمسين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وسبعة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وإصبعان. (1) منه. . . به: فى التذكرة الحمدونية 1/ 69: «أو بخلت به؟» (2) فأكون. . . أدمين: النص ناقص فى التذكرة الحمدونية 1/ 69 (6 - 12) وكان. . . الجهم: ورد النص فى وفيات الأعيان 2/ 460 - 461

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفة معوية رضى الله عنه، ونواب الأمصار بحالهم. وأما الأحنف بن قيس فإنه تغيرت منزلته عند عبيد الله بن زياد عما كانت عند أبيه زياد، وصار يقدم عليه من لا يساويه. فلما توجه عبيد الله إلى الشام للسلام على معوية، دخل عبيد الله على معوية وأعلمه بوصول رؤساء العراق. فقال: تعبرهم أولا فأولا على قدر مراتبهم عندك. فخرج إليهم وأدخلهم فكان آخر من دخل الأحنف بن قيس. فلما رآه معوية آخر الناس عظم عليه. فقال له: إلىّ إلىّ يا با بحر، حتى أجلسه معه على رتبته، وأقبل عليه يسايله ويحادثه، وأعرض عن الجميع. ثم إن أهل العراق أخذوا فى الشكر من عبيد الله والثناء عليه، والأحنف ساكت. فقال له معوية: لم لا تتكلم يا با بحر؟ فقال: إن تكلمت خالفتهم. فقال لهم معوية: اشهدوا علىّ إن عزلت عبيد الله عنكم، قوموا انظروا (42) فى أمير أوليه عليكم، وترجعون إلىّ بعد ثلاثة أيام. فلما خرجوا من عنده كان فيهم جماعة يطلبون الإمارة لأنفسهم، وفيهم من عيّن غيره. ثم إنهم سعوا فى الباطن مع خواصّ معوية. ثم اجتمعوا بعد ذلك ودخلوا على معوية. فأجلسهم على ترتيبهم. وأخذ الأحنف إليه كما فعل أولا وحادثه ساعة. ثم قال: ما فعلتم فيما انفصلتم عليه؟ فجعل كل واحد يذكر شخصا، وطال حديثهم فى ذلك، والأحنف ساكت لا يتكلم بحرف واحد، ولم (3 - 7،63) أما. . . بأخرى: ورد النص فى وفيات الأعيان 2/ 503 - 504

ذكر سنة سبع وخمسين النيل المبارك فى هذه السنة

يكن فى تلك الأيام تحدّث مع أحد فى شئ. فقال له معوية: لم لا تتكلم، يا با بحر؟ فقال الأحنف: إن وليت أحدا من أهل بيتك لم تجد من يعدل عبيد الله، وإن وليت غيره فذاك إليك. ولم يكن فى الحاضرين من ذكر عبيد الله فى هذا المجلس ولا سأل عوده. فقال معوية رضى الله عنه: اشهدوا علىّ أننى أعدت عبيد الله إلى ولايته. ثم إن معوية اجتمع بعبيد الله فى السر وعنفه على ما خير الأحنف. وقال: كيف لك برجل عزلك فى كلمة وأعادك بأخرى. قال: فعاد منذ ذلك اليوم أخص الناس بعبيد الله. وفيها ولى القضاء بمصر العابس بن سعيد عوضا عن سليم بن خير. ذكر سنة سبع وخمسين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع واثنا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة معوية رضى الله عنه بحاله أمير المؤمنين، ونواب الأمصار على حالهم. قال ابن عبد ربه صاحب كتاب العقد: وفدت أروى بنت الحارث (3) إليك: فى وفيات الأعيان 2/ 503: «إلى رأيك» (17 - 2،66) وفدت. . . خرجت: ورد النص فى العقد الفريد 2/ 119 - 120 مع اختلاف كبير، انظر أيضا أعلام النساء 1/ 28 - 30

ابن عبد المطلب، وهى عمة سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، (43) وهى عجوز كبيرة، على معوية رضى الله عنهما. فلما رآها معوية قال: مرحبا بك يا خالة، كيف أنت؟ قالت: بخير يابن أخت، لقد كفرت النعمة، وأسأت لابن عمك فى الصحبة، وتسمّيت بغير اسمك، وأخذت بغير حق، من غير دين كان منك، ولا من آبايك، ولا سابقة فى الإسلام، بعد أن كفرتم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأتعس الله الجدود، وأضرع منكم الخدود، وردّ الحق إلى أهله، ولو كره المشركون كانت كلمتنا العليا، ونبيّنا هو المنصور، وكنا أهل البيت الأعظم أعظم الناس فى هذا الدين حتى قبض الله نبيه صلّى الله عليه وسلم مشكورا سعيه، مرفوعا منزلته، وجيها عند الله ربه. فتنبهت علينا من بعده تيم وعدى، وكانا أحق بها من الطلقاء. ثم تغلبت أمية فانتزعتمونا حقنا، وولّيتم علينا من بعده، فأصبحتم تحتجّون على ساير العرب بقرابتكم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونحن أقرب إليه منكم وأولى بهذا الأمر، فكنا فيكم كمنزلة بنى إسراييل فى آل فرعون، وكان علىّ عليه السّلام بعد نبينا بمنزلة هرون من موسى، فغايتنا فى الجنة وغايتكم فى النار. فقال لها عمرو بن العاص: كفى أيتها العجوز وأقصرى عن قولك مع ذهاب عقلك، إذ لا تجوز شهادة واحد على جماعة! قالت: وأنت تتكلم، يابن النابغة الباغية، وأمك كانت أشهر بغى بمكة، وأرخص أجرة، وادّعاك خمس نفر من قريش. فكل يزعم أنك ولده، وسيلت أمك عن ذلك فقالت: كل أتانى (3) أخت: فى العقد الفريد 2/ 119: «أخى» (7) كانت: فى العقد الفريد 2/ 120: «وكانت» //كلمتنا العليا: فى العقد الفريد 2/ 120: «كلمتنا هى العليا» (8 - 10) وكنا. . . حقنا: النص ناقص فى العقد الفريد 2/ 120 (16) شهادة واحد: فى العقد الفريد 2/ 120: «شهادتك وحدك» (17) بغى: فى العقد الفريد 2/ 120: «تغنّى»

فانظروا أيهم أشبه به. فقيل: عليه شبه العاص بن وايل فألحقوك به. فقال مروان ابن الحكم: مه أيها العجوز، واقصرى وانظرى فيما جيت إليه. (44) فقالت: وأنت أيضا تتكلم، يابن الزرقاء! فو الله لأنت بعبد الحرث ابن كلدة أشبه منك بالحكم ابن أبى العاص، فإنك شبيهه فى زرقة بصره، وحمرة شعره، وقصر قامته، وجفر هامته، ولقد رأيت الحكم سبط الشعر، ظاهر الأدمة، مديد القامة، وما بينكما قرابة إلا كقربة الفرس المضمّر من الأثان. فاسأل عما أخبرتك به تجده حقا. ثم التفتت إلى معوية وقالت: والله ما جرّا علىّ هؤلاء إلا منك، وإن أمك القايلة فى قتل حمزة <من الرجز>: نحن جزيناكم بيوم بدر … والحرب بعد الحرب دار سعر شفيت وحشىّ غليل صدرى … فشكر وحشىّ علىّ دهرى حتى وأعظمى بقبرى (1) عليه. . . به: فى العقد الفريد 2/ 120: «فألحقوه به، فغلب عليك شبه العاص بن وائل» (2) اقصرى: فى العقد الفريد 2/ 120: «اقصدى» (3 - 7) فو الله. . . حقا: النص ناقص فى العقد الفريد 2/ 120 (10 - 12) نحن. . . بقبرى: وردت الأبيات فى أعلام النساء 1/ 29 والسيرة النبوية 2/ 91 بترتيب آخر (11) شفيت. . . صدرى: فى العقد الفريد 2/ 120: «ما كان لى من عتبة من صبر» (12) و: فى السيرة النبوية 2/ 91؛ العقد الفريد 2/ 120: «ترمّ»؛ فى أعلام النساء 1/ 29: «تغيب» //بقبرى: فى أعلام النساء 1/ 29؛ السيرة النبوية 2/ 91؛ العقد الفريد 2/ 120: «فى قبرى»

فقال معوية: عفا الله عما سلف يا خالة، هل لك من حاجة؟ قالت: إليك لا. ثم نهظت وخرجت مغضبة. فقال معوية لعمر [و] بن العاص ومروان بن الحكم: أفّ لكما، والله ما أسمعنى هذا الكلام إلا أنتما. ثم بعث إليها فردها ولطف بها وقال لها: يا عماه، هل من حاجة فتقضى. قالت: تعطينى ألفى دينار وألفى دينار وألفى دينار. فقال: ما تصنعين بألفى دينار؟ قالت: أشترى بها عين خوارة تكون لفقراء بنى الحارث. قال: هى لك. ثم ماذا تصنعين بألفى دينار أخرى؟ قالت: أزوج بها فقراء بنى عبد المطلب. فقال: هى لك. ثم ماذا تصنعين بألفى دينار ثالثة؟ قالت: أستعين بها على شدة الزمان وزيارة بيت الله الحرام. فقال: قد أمرت لك بذلك. فأين أنا من علىّ بن أبى طالب؟ قال: فبكت وقالت: كيف تذكر عليّا فض الله فاك؟ وتنهدت وأنشدت تقول <من الوافر>: (45) ألا يا عين ويحك فاسعدينا … ألا فاتلى أمير المؤمنينا عليّا خير من ركب المطايا … وفارسها ومن ركب السفينا (2 - 4،67) فقال. . . دينا: قارن أعلام النساء 1/ 30 - 31 (6) عين خوارة: فى أعلام النساء 1/ 30 - 31: «عينا خرخارة فى أرض خوارة» (13 - 2،67) ألا. . . لناظرينا: وردت الأبيات فى أعلام النساء 1/ 30 - 31 (14) عليّا: فى أعلام النساء 1/ 31: «رزينا»

ذكر سنة ثمان وخمسين النيل المبارك فى هذه السنة

ومن لبس النعال واحتذاها … ومن قرأ المثانىّ المبينا إذا استقبلت وجه أبا حسين … رأيت البدر راق لناظرينا ألا بلّغ معاوية بن حرب … فلا قرت عيون الشامتينا لقد علمت قريش من معدّ … بأنك خيرها حسبا ودينا ثم انصرفت بما سألت، وهى مكرمة مبجّلة. وفيها ولد محمد بن علىّ الباقر بالمدينة، والله أعلم. ذكر سنة ثمان وخمسين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وأربعة وعشرين إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة معوية رضى الله عنه، ونواب الأمصار بحالهم حسبما تقدم. ومما روى أنّ معوية كتب لعقيل بن أبى طالب فى أمر جرا بينهما فقال: من معوية بن أبى سفيان إلى عقيل بن أبى طالب. أما بعد يا بنى (2) راق: فى أعلام النساء 1/ 31: «راع» (6) محمد. . . الباقر: انظر الأعلام 7/ 153 (9) عشرين (عشرون): فى النجوم الزاهرة 1/ 152: «عشر»

ذكر سنة تسع وخمسين النيل المبارك فى هذه السنة

عبد المطلب، أنتم والله فروع قصىّ، وألباب عبد مناف، وصفوة هاشم، فأين أحلامكم الراسية، وعقولكم الكاسية، وحفضكم للأوامر، وحكمكم على العشاير؟ ولكم الصفح الجميل، والعفو الجزيل، مقترنا بشرف النبوة وعزة الرسالة. ولقد ساء والله أمير المؤمنين ما جرى، ولن نعود إلى مثله إلى أن نغيّب فى الثرى. فكتب إليه يقول <من الوافر>: صدقت وقلت حقا غير أنّى … أدرنى لا أراك ولا ترانى (46) ولست أقول سوءا فى صديقى … ولكنّى أصدّ إذا جفانى قال: فعاوده واستعذر منه، وأجازه بماية ألف درهم حتى رضى عنه. وفيها توفيت عايشة أم المؤمنين زوج النبى صلّى الله عليه وسلّم وأخيها عبد الرحمان وعبد الله بن عامر رضوان الله عليهم أجمعين. ذكر سنة تسع وخمسين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلثة أذرع وسبعة وعشرين إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإحدى عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة معوية رضى الله عنه، ونواب الأمصار فى هذه السنة على ما (10) فيها: انظر الكامل 3/ 520 (حوادث 58) (14) عشرين (عشرون): فى النجوم الزاهرة 1/ 153: «عشر»

يذكر وهو إن الأمير على مكة شرفها الله تعالى عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق، وعلى المدينة-على ساكنها أفضل الصلاة والسلام-الوليد بن عقبة بن أبى سفيان، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى الكوفة النعمان بن بشير، وعلى مصر مسلمة بحاله، والقاضى بها عابس بحاله. وفيها توفيت أم سلمة زوج النبى صلّى الله عليه وسلّم، وأبو هريرة رضى الله عنهما. روى صاحب كتاب العقد أن الذكوانية لما وفدت على معوية وهى بين خادمتين كأنها القبة الفضة، فسفرت عن لثامها وقالت: الحمد لله الذى خلق اللسان فجعل فيه البيان، ودأبه على النعم، وأجرى به القلم، فيما أبرم وحتم، وبرأ وحكم. صرّف الكلام باللغات المختلفة على المعانى المتصرفة، وألفها بالتقديم والتأخير، والأشباه والتباين والتناقض، والمؤالفة والتزايد. قادته القلوب إلى الألسن لكى يثبت محاسن أقوام وينشرها، أو مساويهم فيشهرها. قال (47) معوية: اذكرى حاجتك. قالت: لإنى لأشكوا رجلا عصى ربك وخالف أمرك. وذكرت إحدى نوابه فأمر لها بكتاب بما تختاره، وأجازها بعشرين الفم. (7) كتاب العقد: لم أقف على هذا النص فى العقد الفريد

ذكر سنة ستين هجرية النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ستين هجرية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثلثة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة معوية رضى الله عنه إلى حين وفاته فى هذه السنة على ما يأتى شرحه. ذكر وفاة معوية رضى الله عنه اختلف فى تاريخ موته. فقال هشام: مات معوية أول هلال شهر رجب. وقال الواقدى: مات النصف من شهر رجب، وقال علىّ بن محمد: مات لثمان بقين من رجب. وعلى الجملة إنه مات فى شهر رجب من هذه السنة. وتوفى وهو ابن خمس وسبعين سنة. وكانت خلافته استقلالا تسعة عشر سنة وثلثة أشهر. وقال الطبرى: بايع أهل الشام معوية بالخلافة فى سنة سبع وثلثين فى ذى القعدة، وذاك حين تفرق الحكمان. وكانوا بايعوه على الطلب بدم عثمان. ثم صالحه الحسن عليه السّلام لخمس بقين من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، وهو عام الجماعة.

وقال الطبرى رحمه الله: إن معوية أقام على الشام واليا وخليفة أربعين سنة، منها أربعة سنين فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، واثنا عشر سنة فى خلافة عثمان رضى الله عنه، وقاتل علىّ عليه السّلام خمس سنين. وخلص له الأمر تسع عشرة سنة. ولما ثقل فى المرض قال لأهله: احشوا عينىّ إثمدا، وأوسعوا رأسى دهنا. ففعلوا وبرّقوا (48) وجهه بالدهن. ثم مهّد له مجلسا وقال: أسندونى. ثم أمر الناس أن يدخلوا عليه، وليسلّموا قياما ولا يجلس أحدا. فجعل الرجل يدخل فيسلّم قايما فيراه مكحلا مدهّنا فيقول الناس: هو لمآبه. فلما خرجوا من عنده قال معوية متمثلا <من الكامل>: وتجلّدى للشّامتين أريهم … أنّى لريب الدّهر لا أتضعضع وإذ المنيّة أنشبت أظفارها … ألفيت كلّ تميمة لا تنفع وعن أبى بشر أنه قال: إن معوية قال فى مرضه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كسانى قميصا فرفعته، وقلّم صلّى الله عليه وسلّم يوما أظفاره فأخذت ثلثة من أظفاره، فجعلها فى قارورة. فإذا أنا متّ فألبسونى ذلك القميص، وقطّعوا تلك الأظفار الثلاثة واسحقوها وذرّوها فى عينىّ وفمى. ثم أغمى عليه. ثم أفاق. فقال لمن حضر من أهله: اتقوا الله فإن الله يقى من اتقاه، ولا واق لمن لا يتق الله. ثم مات رحمه الله، وصلى عليه الضحاك بن قيس، (1) الطبرى: لم أقف على هذا النص فى تاريخ الطبرى (4 - 8،72) ولما. . . عليه: ورد النص فى تاريخ الطبرى 2/ 200 - 203؛ الكامل 4/ 7،9، انظر أيضا نهاية الأرب 20/ 366 - 370

وكان ابنه يزيد غايبا بحوران، فبعثوا إليه البريد، فلما رآه قال <من البسيط>: جاء البريد بقرطاس يحثّ به … فأوجس القلب من قرطاسه جزعا قلنا: له الويل ماذا فى صحيفته؟ … قالوا: الخليفة أمسى متخنا وجعا فمادت الأرض أو كادت تميل بنا … كأنّ أعرض أركانها قد انقطعا أودى بن هند وأودى المجد يتبعه … كانا جميعا حليفى قاطنين معا ثم أقبل يزيد فأتى قبره، وهو بين باب الجابية وباب الصغير بدمشق، فصلى عليه وبكا واستقر نهاره على قبره. (3) يحثّ: فى تاريخ الطبرى 2/ 203؛ الكامل 4/ 9: «يخبّ» (4) له: فى تاريخ الطبرى 2/ 203؛ الكامل 4/ 9: «لك» //صحيفته: فى تاريخ الطبرى 2/ 203؛ الكامل 4/ 9: «كتابكم» //متخنا (مثخنا): فى تاريخ الطبرى 2/ 203؛ الكامل 4/ 9: «مثبتا» (5) تميل: فى تاريخ الطبرى 2/ 203؛ الكامل 4/ 9: «تميد» //كأنّ. . . انقطعا: فى تاريخ الطبرى 2/ 203؛ الكامل 4/ 9: «كأنّ أغبر من أركانها انقطعا» (6) أودى. . . معا: البيت ناقص فى تاريخ الطبرى /2/ 203/حليفى: فى الكامل 4/ 9: «فماتا»

ذكر شئ من أخلاق معوية رضى الله عنه

ذكر شئ من أخلاق معوية رضى الله عنه قال المسعودى رضى الله عنه: كان من أخلاق معوية رحمه الله تعالى (49) أنه كان يأذن فى اليوم والليلة خمس مرات، كان إذا صلى الفجر جلس للقضاة حتى يفرغ من قضيته. ثم يدخل فيأتى بصحفه فيقرأ أجزايه. ثم يدخل منزله فيأمر وينهى. ثم يصلى أربع ركعات. ثم يخرج فيأذن لخاصته فيحدثهم ويحدثونه. ويدخل عليه وزرايه فيكلمونه فيما يريدون. ثم يؤتى بالغداء الأصغر، وهو فضلة عشاء الليل وما أشبه ذلك. ثم يتحدث طويلا. ثم يدخل منزله لما أراد. ثم يخرج فيقول: يا غلام، أخرج الكرسى، ويسند ظهره إلى المقصورة، فتقدم إليه الامرأة والضعيف ومن لا له أحد، لا يمنعهم عنه مانع. فيقول أحدهم: ظلمت، فيقول: خلصوه. فيقول الآخر: عدى علىّ، فيقول: ابعثوا معه. ويقول الآخر: صنع بى، فيقول: انظروا فى أمره، حتى إذا لم يبق لأحد أمر يشكى منه، دخل فجلس على السرير. ثم يقول: ايذنوا للناس على قدر مراتبهم ولا يشغلنى أحد عن رد السلام. فيقال: كيف أصبح أمير المؤمنين؟ أطال الله بقاه. فيقول: بنعم من الله، فإذا استووا جلوسا قال: يا هؤلاء، إنما سمّيتم أشرافا لأنكم شرفتم على من دونكم بهذا المجلس. فارفعوا إلينا (2 - 6،75) كان. . . يدركوا: ورد النص فى مروج الذهب 3/رقم 1832 - 1838 باختلاف بسيط

حاجة من لا يصل إلينا. فيقوم الرجل فيقول: استشهد فلان، فيقول: افرضوا لولده، ويقول الآخر: غاب فلان عن أهله، فيقول: تعاهدوا بيته وأهله، اقضوا حوايجهم. ثم يؤتى بالغداء الأكبر فيتغدوا عنده على سبيل الممالحة، ثم ينصرفوا من عنده، ويدخل منزله. فلا يطمع فيه طامع حتى ينادى بالظهر. فيخرج فيصلى بالناس، ثم يصلى أربع ركعات. ثم يدخل إليه وزرايه فيتوامرونه فيما احتاجوا إليه بقية يومهم، ويجلس إلى العصر. ثم يخرج فيصلى العصر بالناس. ثم يدخل منزله فلا يطمع (50) فيه طامع، حتى إذا كان فى آخر أوقات العصر خرج فجلس على سريره، ويؤذن للناس على منازلهم، ويؤتا بالعشاء فيفرغ منه بمقدار ما ينادى للمغرب، ولا يدعى له بأصحاب الحوايج. ثم يرفع العشاء، ويصلى بالناس المغرب. ثم يصلى أربع ركعات، يقرأ فى كل ركعة خمسين آية يجهر تارة ويخافت تارة. ثم يدخل منزله فلا يطمع فيه طامع حتى ينادى بالعشاء الآخرة، فيخرج فيصلى بالناس. ثم يؤذن بالخاصة وخاصة الخاصة والوزراء والحاشية، فيشاورونه فيأمر بما أحب، وينصرفوا الوزراء والحاشية، وتقيم الخاصة والندماء والأدباء والفضلاء فيسهروا إلى ثلث الليل فى أخبار العرب وأيّامها والعجم وملوكها وسياستها لرعاياها وغير ذلك من الأمم السالفة. ثم تأتيه الطرف اللطيفة من عند نسايه من الحلواء وغير ذلك من (5) بالظهر: فى مروج الذهب 3/رقم 1835: «بالعشاء» (14) بالخاصة: فى مروج الذهب 3/رقم 1836: «للخاصة»

المآكل اللطيفة الخفيفة. ثم يدخل فينام ثلث الليل الوسط. ثم ينتبه ويتوضأ ويصلى أربع ركعات، ويحضر الدفاتر على الشموع فيقروا عليه فى سير الملوك وأخبارها والحروب والمكايدة، فيقرأ ذلك عليه غلمان له قد رتبهم لذلك، وقد وكلوا بحفظها. فلم يزل كذلك إلى الفجر الأول، فيكون الأمر على ما تقدم. واجتهد من أتا بعده مثل عبد الملك بن مروان وغيره أن يدركوا بعض ذلك فلم يصلوا إليه، وبلغ من أخذ قلوب الناس له فى الطاعة والقبول واعتدال السياسة خاصته وعامته أن جعلوا لعنة علىّ عليه السّلام عليهم سنّة ينشأ عليها صغيرهم ويهلك عليها كبيرهم. فإنّا لله وإنّا إليه راجعون من هذه المحنة العظيمة. [وروى لمعوية رضى الله عنه من شعره ما رواه أهل الأدب من الثقاة يقول <من الوافر>: نبذت سفاهتى وأرحت حلمى … وفىّ على تحلّمى اعتراض على أنى أجيب إذا دعتنى … إلى حاجاتها الحدق المراض ومن شعره أيضا <من الطويل>: إذا لم أجد بالحلم منّى عليكم … فمن ذا الذى بعدى يؤمّل للحلم خذيها هنيّا واذكرى فعل ماجد … حباك على فعل العداوة بالسلم]

ذكر أزواجه وأولاده رضى الله عنه

ذكر أزواجه وأولاده رضى الله عنه (51) أما نسايه فميسون بنت بحدل الكلابية وهى أم يزيد ولده، ويقال إنها ولدت له أمة فسميت أمة رب المشارق، وماتت وهى صغيرة، وتزوج أيضا فاختة بنت قرظة، ولدت له عبد الرحمان، وبه كان يكنى، وعبد الله وكان منهوكا ضعيفا. وتزوج أيضا نايلة بنت عمارة الكلبية، وقال لميسون: انطلقى فانظرى ابنة عمك. فلما عادت قال: كيف رأيتها؟ قالت: جميلة كاملة، ولكن رأيت تحت صرتها خالا فتوضعنّ رأس جوزها فى حجرها! قال: فطلقها، فتزوجها حبيب بن مسلمة. ثم النعمان بن بشير الأنصارى فقتل ووضع رأسه فى حجرها. وتزوج معوية أيضا كتود بنت قرظة، وهى أخت فاختة. فلما غزا قبرص كانت معه، فماتت هناك، والله أعلم. [وعن ابن الكلبى عن عبد الرحمان المدنى قال: لما حضرت معوية رضى الله عنه الوفاة أنشد <من الخفيف>: (1 - 10) ذكر. . . هناك: ورد النص فى تاريخ الطبرى 2/ 204؛ الكامل 4/ 10، انظر أيضا نهاية الأرب 20/ 374 - 375 (7) فتوضعنّ: فى تاريخ الطبرى 2/ 205؛ الكامل 4/ 10: «ليوضعنّ» (11 - 2،77) حضرت. . . كالتّراب: ورد النص فى الكامل 4/ 8، قارن أيضا التذكرة الحمدونية 1/ 212

ذكر صفته رضى الله عنه

إن تناقش يكن نقاشك يا ر … بّ عذابا لا طوق لى بالعذاب أو تجاوز فأنت ربّ رحيم … عن مسئ ذنوبه كالتّراب ثم قال: اللهم أقل العثرة، وتجاوز عن الخطية، واعف عن الزلة، وجد بحلمك على جهل من لم يرج سواك، ولم يثق إلا بك، يا رب، أين لذى خطيّة مهرب إلا إليك. فلما بلغ بن عباس ذلك بعد موته قال: لقد رغبت إلى من لا مرغوب إليه، مثله كرما وجودا، وإنى لأرجوا له، أما والله لقد كان الذى قبله خير منه، وإنه خير ممن يأتى بعده]. ذكر صفته رضى الله عنه كان طويل، أبيض، جميل، عظيم الأليتين. إذا ضحك انقلبت شفتيه العليا، أشهل، حسن الأطراف، يخضب بالحنّاء والكثم ثم بيض. ذكر كتّابه رضى الله عنه عبيد بن أيوب الغسانى وسرجون بن منصور الذمى (9 - 10) كان. . . بيض: قارن نهاية الأرب 20/ 374 (12) عبيد. . . الذمى: فى تاريخ القضاعى، ص 127: «عبيد بن أوس الغسانى»؛ فى نهاية الأرب 20/ 375: «. . . سرجون الرومى، وكتب له عبيد الله بن أويس الغسانى»، قارن مقالات لبيوركمان /57/سرجون. . . الذمى: فى الكامل 4/ 11: «سرجون الرومى»

ذكر حجابه رضى الله عنه

ذكر حجّابه رضى الله عنه صفوان أبو أيوب مولاه، وهو أول من اتخذ الحرس، كان على حرسه رجل من الموالى يقال له المختار. نقش خاتمه لا قوة إلا بالله. ذكر خلافة يزيد بن معاوية عفا الله عنه وأخباره وما لخص من سيرته أما نسبه فيكنى أبو خالد يزيد بن معوية بن أبى سفيان صخر بن حرب (52) بن أمية. أمه ميسون بنت بحدل بن منيف بن دلجة بن قنافة (2 - 3) صفوان. . . المختار: فى تاريخ القضاعى، ص 127: «يزيد مولاه، ثم صفوان مولاه»؛ فى الكامل 4/ 11: «. . . وعلى حرسه رجل من الموالى يقال له المختار. . .، وكان أوّل من اتخذ الحرس، وكان على حجابه سعد مولاه. . .»؛ فى نهاية الأرب 20/ 375 - 376: «سعد مولاه، ثم صفوان مولاه. . . وكان على حرسه رجل من الموالى يقال له الختار [كذا]، وقيل: أبو المخارق مالك مولى حمير» (5) لا. . . بالله: فى تاريخ القضاعى، ص 127: «لكل عمل ثواب وقيل: لا قوة إلا بالله»؛ فى نهاية الأرب 20/ 375: «لكل عمل ثواب، وقيل: كان نقشه لا حول ولا قوة إلا بالله» (6) يزيد بن معوية: انظر سير أعلام النبلاء 4/ 35 - 40 (9 - 1،79) ميسون. . . الكلبى: انظر تاريخ الطبرى 2/ 204؛ المحبر 21 (9) منيف بن دلجة: فى تاريخ الطبرى 2/ 204: «أنّيف بن ولجة»

ابن عدى بن زهير بن حارثة بن حباب الكلبى. روى أن معوية بن أبى سفيان رضى الله عنه قال لابنه يزيد، وقد أتت عليه سبع سنين من عمره: يا بنى، فى أى سورة أنت؟ فقال: فى السورة التى تلى: {إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً}. فقال له معوية: يا بنى، إن هذه السورة تليها سورتان هى منهما. ففى أيهما أنت؟ فقال: فى السورة التى فيها: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ}. فتمثل معوية بقول حذافة بن غانم العدوى من بنى عدىّ بن كلب <من الطويل>: ملوك وأبناء الملوك وسادة … تفلّق عنهم بيضة الطاير الصّقر (1) الكلبى: فى المحبر 21: «بن هبل» (2 - 1،82) روى. . . التمايما: ورد النص فى أنباء نجباء الأبناء 104 - 106 باختلاف بسيط (9) حذافة: انظر ترجمته فى الإصابة 1/ 317، انظر أيضا أنساب الأشراف 1/ 50 حاشية 3، والمراجع المذكورة هناك؛ السيرة النبوية 1/ 174 حاشية 4 (11 - 3،80) ملوك. . . الهجر: وردت الأبيات مع اختلاف فى ترتيب الأبيات وبعض الكلمات فى السيرة النبوية 1/ 175 - 177 (11) ملوك. . . سادة: فى السيرة النبوية 1/ 175: «بنوه سراة كهلهم وشبابهم»

متى تلق منهم ناشيا فى شأنه … تجده على إجراء والده يجرى هم ملووا لبطحاء مجدا وسؤددا … وهم نكّلوا عنّا غواة بنى بكر وهم يغفرون الذّنب ينقم مثله … وهم تركوا رأى السّفاهة والهجر وقال له يوما: أيضربك المؤدب يا يزيد؟ فقال: لا. قال: لم؟ قال: لأنه استن بسنة أمير المؤمنين فى العدل. وقال له يوما آخر: يا يزيد، إذا قال لك قايل من قومك ماذا تقول له؟ قال: أقول لهم: سلاما. قال: أحسنت والله، أعنى قوله تعالى: {وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً}، أى لا يسألنى عن قومى إلاّ جاهلا. وكان لمعوية ولد مضعوف اسمه عبد الله، فبينما معوية جالس مع أم عبد الله ولده، إذ مرت بهما ميسون أم يزيد، وكان ساقها حمش، والحمش دقة الساقين. فكانت تخفى (53) ذلك وتستره. فاتبعتها أم عبد الله بصرها. ثم قالت: لعن الله حمش ساقيك. فغضب لها معوية (1) متى. . . شأنه: فى أنباء نجباء الأبناء 104: «متى. . . شبابه»؛ فى السيرة النبوية 1/ 176: «متى ما تلاقى منهم الدّهر ناشئا» //على. . . يجرى: فى السيرة النبوية 1/ 176: «بإجريّا أوائله يجرى»، انظر السيرة النبوية 1/ 176 حاشيتين 3 - 4 (2) سؤددا: فى السيرة النبوية 1/ 176: «عزّة» (3) مثله: فى السيرة النبوية 1/ 177: «دونه» //وهم تركوا. . . الهجر: فى السيرة النبوية 1/ 177: «ويعفون عن قول السّفاهة والهجر» (9 - 16،81) وكان. . . فعلت: وردت الحادثة فى الكامل 4/ 126

وقال: أرأيت ذلك منها؟ قالت: نعم. فقال معوية: أما على ذلك، فلما انفرجت عنه ساقيها خير ممّا انفرجت عنه ساقاك! يريد أنّ ولدها خير من ولدك. فقالت له: لا والله، ولكنك تحب ابنها وتحابيه. فقال لها: سأريك. ثم إنه استدعى عبد الله ولدها فأتى، فقال له: يا بنى، إنى قاض لك اليوم كل حاجة، فاذكر حوايجك كانت ما كانت. فقال: يا أمير المؤمنين، اشتر لى حمارا. فقال له: يا بنى، أنت حمار، وأشترى لك حمارا. ثم إنه استحضر يزيدا وقال له: يا بنى، إنّ أمير المؤمنين قد بسط لك أملك فاذكر حاجة أن كانت لك. فاستقبل يزيد القبلة فسجد. ثم رفع رأسه فقال: الحمد لله على جميل رأى أمير المؤمنين فىّ. ثم قال: حاجتى أن تعهد إلىّ عهدك. فقال معوية: نعم ونعمى عين، أنت ولى عهدى. قال: فسجد يزيد وحمد الله. ثم قال له معوية: هل غير ذلك؟ قال: نعم، يزيد أمير المؤمنين كل رجل من أهل الشام عشرة دنانير فى عطايه ويعلمهم أن ذلك بشفاعتى. قال: قد فعلت فهل غير ذلك؟ قال: ويزيد أمير المؤمنين لأولاد من قتل معه بصفين وغيرها، ويجعل أمير المؤمنين عرض الطايفة العام إلىّ أستكفى فيه لأفتح أمرى بتجهيز الجيوش فى سبيل الله عز وجل. قال معوية: قد فعلت. فلمّا رأت أمّ عبد الله أنّ يزيد قد حصل على الخلافة قالت: يا أمير المؤمنين أنت أعلم بولدك، فأوص يزيد بى وبولدى خيرا. ثم قام يزيد فولى وهو يدعوا لأبيه، فتمثل معوية بقول الشاعر <من الطويل>:

إذا مات لم تفلح مزينة بعده … فنوطى عليه يا مزين التمايما (54) ولنعود إلى سياقة التاريخ بحول الله وقوته. فلما صلى يزيد على قبر أبيه وجلس، بهت إلى الناس وبهّت الناس إليه، لا يدرون يهنونه بالخلافة أم يعزونه بأبيه. فقام رجل أعرابى وأنشد هذه الأبيات <من البسيط>: أشكر يزيد الذى للفضل أولاكا … فقد أنالك ما أغناك مولاكا لا رزى أعظم مما قد رزئت به … وكل عقبى رجونا منك عقباكا أصبحت راع أمير الناس كلّهم … فأنت ترعاهم والله يرعاكا قال: ففتح ذلك الأعرابى باب الكلام للناس. ثم جلس فى دست الخلافة. وكان يوميذ الأمير على مكة عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق، وعلى المدينة الوليد بن عقبة بن أبى سفيان، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى الكوفة النعمان بن بشير، كل هؤلاء نواب كانوا لمعوية رضى الله عنه قبل موته. (5) الأبيات: هذه الأبيات لعبد الله بن همّام السّلولى، قارن كتاب الشعر 412 (6 - 8) أشكر. . . يرعاكا: وردت الأبيات فى أنساب الأشراف 4 ب/5؛ البيان 2/ 109؛ كتاب الشعر 412 - 413؛ مروج الذهب 3/رقم 1914 باختلاف كبير (8) أمير الناس: فى البيان 2/ 109، كتاب الشعر 413: «أهل الدّين» (11 - 11،84) كان. . . العاص: وردت الحادثة فى تاريخ الطبرى 2/ 216 - 220

فلم يكن ليزيد همة ولا شغل ولا أمر غير الحسين بن علىّ عليه السّلام وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير. فكتب إلى الوليد بن عتبة بن أبى سفيان: أما بعد فإنّ أمير المؤمنين معوية انتقل إلى الله عز وجل، فخذ الحسين بن علىّ وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير أخذا شديدا لا رخصة فيه حتى يبايعوا. فلما وقف الوليد على كتاب يزيد استشار مروان بن الحكم، فقال مروان: أرى أن تدعوهم فى هذه الساعة إلى البيعة. فإن فعلوا وإلا فاضرب رقابهم قبل أن يعلموا بموت معوية. فبعث الوليد إليهم فوجد الحسين عليه السّلام وبن الزبير جالسين فى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال الرسول: أجيبا الأمير. فقالا للرسول: ها نحن فى أثرك. فانصرف. ثم قال بن الزبير للحسين: ما عندك فيما بعث به إلينا فى غير وقت له به (55) عادة؟ فقال الحسين عليه السّلام: أرى أنّ طاغيتهم قد مات. فبعث إلينا ليأخذ البيعة علينا قبل ظهور الخبر. فقال بن الزبير: هو ذاك والله، فما تريد أن تصنع؟ قال الحسين: أجمع فتيانى وأصحابى وأدخل إليه، وهم وقوف بالباب. ثم فعل كذلك. فلما دخل على الوليد أوقفه على الكتاب. فقال الحسين: رحم الله معوية وعظم لك الأجر، ومثلى لا يبايع سرا فادعنى مع الناس. فقال الوليد: انصرف فى دعة الله. فقال مروان: والله لين فارقته الساعة قبل أن يبايع لا قدرت عليه بعده، احبسه حتى يبايع أو اضرب عنقه. فقال الحسين: أنت تقتلنى يابن الزرقاء تخسّ قبل

ذكر سنة إحدى وستين النيل المبارك فى هذه السنة

مرامك. ثم مضى. فقال مروان للوليد: لو كنت بمكانك كنت ضربت عنقه. قال: فبكا الوليد وقال: يا مروان، لقد أشرت علىّ بما فيه هلاك دينى وهلاكى، ليت الوليد لم تلده أمه، أأقتل حسينا والله لهو أحبّ إلىّ ممن طلعت عليه الشمس وأفضل. قال: ثم بعث إلى عبد الله بن الزبير فاختفى عنه. ثم هرب إلى مكة. ثم إن الحسين عليه السّلام خرج ليلا هو وإخوته وبنوه وبنو أخوه طالبين مكة. وأما عبد الله بن عمر فإنه بايع الوليد ليزيد وكذلك عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، وأقام عبد الله بن الزبير يصلى وحده بالناس من أصحابه ويقول: أنا العايذ بالبيت. وبلغ يزيد فعل الوليد بن عقبة بمكاتبة مروان له بذلك، فعزله عن المدينة وأضافها لعمرو بن سعيد بن العاص. ذكر سنة إحدى وستين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية أصابع. ما لخص من الحوادث (56) الخليفة يزيد بن معوية عفا الله عنه، ومكة والمدينة فى ولاية (8 - 9) وأقام. . . بالبيت: قارن أنساب الأشراف 4 ب/16 - 23

ذكر مقتل الحسين صلوات الله عليه

عمرو بن سعيد بن العاص، ومسلمة على مصر، والقاضى عابس بحالهما، والعراقين الكوفة والبصرة قد عادا فى ولاية عبيد الله بن زياد، وعزل النعمان بن بشير عن الكوفة، وسبب ذلك أن فى سنة ستين كاتبت أهل الكوفة الحسين عليه السّلام يدعونه إلى القدوم عليهم ليبايعونه على الخلافة ويقولون فى كتبهم: عجّل بحضورك إلينا وابعث إلينا من نثق به حتى نبايع ونقاتل دونك. فبعث إليهم مسلم بن عقيل، فوصل مسلم إلى الكوفة فبايع من أهلها اثنا عشر ألفا، ووالى الكوفة يوميذ النعمان بن بشير. فقيل له: إن البلد قد فسد عليك وإنك ضعيف الحال. فقال: أكون ضعيفا فى الله ولا أكون قويا فى معصيته. فنقل قوله إلى يزيد، فعزله وضم ولايتها إلى عبيد الله بن زياد، وأمر بقتل مسلم بن عقيل. وقدم عبيد الله بن زياد إلى الكوفة متلثما ودخلها، وجعل يمرّ بالناس ويسلّم عليهم. ولم يزل حتى نزل دار الإمارة وتتبع مسلم بن عقيل حتى قتله. ذكر مقتل الحسين صلوات الله عليه قال بن عباس رضى الله عنه: إن أهل الكوفة لم يسيروا كتبا إلى (3 - 12) عزل. . . قتله: وردت الحادثة فى تاريخ الطبرى 2/ 228؛ الكامل 4/ 19 - 36

الحسين عليه السّلام، وإن يزيد كان يفعل ذلك ويسير الكتب إلى الحسين عليه السّلام. قال الطبرى رحمه الله: وإن الحسين عليه السّلام شاور عبد الله بن عباس فى المسير إلى الكوفة. فلم يشر عليه بالخروج ونهاه عن ذلك، وقال: إن الناس عبيد الدينار والدرهم، وهذا يزيد وعبيد الله بن زياد يعطيان الناس الأموال، وقد بويع ليزيد، فلا آمن عليك أن تقتل والله. فقال: والله لين أقتل بالعراق أحبّ إلىّ أن أقتل بمكة. قال له عبد الله (57) بن الزبير: لو كان لى بالعراق مثل بعض شيعتك ما قعدت يوما واحدا. وكان ابن الزبير يجزع من الحسين وقد ثقلت عليه وطأته بمكة ومقامه بها، وإن الناس ميلهم للحسين أكثر من ميلهم إلى ابن الزبير. وإنّ الحسين إذا خرج من مكة استقام الأمر لما يطلبه من ادعاء الخلافة لنفسه، وكان أمر الله قدرا مقدورا. فخرج الحسين عليه السّلام قاصدا للعراق بعياله وأهله، واتصل الخبر بيزيد فكتب إليه يقول <من البسيط>: يايها الراكب المرخى مطيّته … على عذافرة فى سيرها قحم أبلغ قريشا على نأى الديار بها … بينى وبين الحسين الله والرحم يا قومنا لا تشبّوا النار إذ خمدت … تمسّكوا بحبال الخير واعتصموا وأنصفوا قومنا لا تظلموا بذخا … فربّ ذى بذخ زلّت به القدم (3) الطبرى: انظر تاريخ الطبرى 2/ 273 - 274، ولكن هذا النص هنا مختلف فى الطبرى (12 - 5،87) فخرج. . . عبيده: قارن تاريخ الطبرى 2/ 277؛ الأبيات ناقصة فى تاريخ الطبرى

قال: فلما قرأ الحسين عليه السّلام ذلك، كتب الجواب: فإن كذبوك فقل {لِي عَمَلِي، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أَعْمَلُ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ}. ثم سار فى وجهته فى اثنين وثمانين رجلا من أهله وأولاده وإخوته وأصحابه وعبيده. وروى أن زينب خرجت لقضى حاجة فسمعت هاتفا يقول <من الوافر>: ألا يا عين فاحتلفى بجهد … فمن يبكى على الشهداء بعدى على قوم تسوقهم المنايا … بمقدار إلى أجل ووعدى فأعلمت أخاها حسينا بذلك فقال: الذى قضاه هو كاين. قيل: ورأى الحسين عليه السّلام فى النوم قايلا يقول: إنّكم تسرعون المسير والمنايا تسرع بكم إلى الجنة. فلما قارب الكوفة لقيه ألف فارس من جند عبيد الله بن زياد شاكين فى السلاح يقدمهم جرير بن يزيد. (58) فقال لهم الحسين عليه السّلام: أنتم لنا أم علينا؟ فقالوا: بل عليكم، نحن من أصحاب عبيد الله بن زياد. قال: فنزل الحسين بكربلاء وقال: ما اسم هذا المكان؟ فقيل: كربلاء. فقال: دار كرب وبلاء. وكان قد تجمّع إليه قوم من الطريق فكان فى خمسين فارسا وماية راجلا، ونزل جند عبيد الله بإزايهم. ثم ورد كتاب يزيد بن معوية إلى عبيد الله بن زياد، إنه إذا أتاك كتابى (18 - 7،88) ثم. . . أصحابه: انظر تاريخ الطبرى 2/ 243،298 - 299، قارن أيضا الكامل 4/ 47

هذا فجعجع بالحسين ولا تفارقه وجرده إلىّ. فوجّه الكتاب إليه ويقول له: توجّه تحت طاعة بن عمك. فقال الحسين: والله لا أتبعك أو تذهب نفسى، وإن قتلتنى فاذهب برأسى إليه. قال: ثم إنّ الحسين أفرغ خرجين مملوءين كتبا وقال للحرّ، وهو يوميذ مقدم الجيش: هذه كتبكم إلىّ. قال الحر: لا ندرى ما هذه الكتب، ولا بد من إشخاصك إلى يزيد. قال الحسين عليه السّلام: الموت دون هذا. ثم ركب وركب أصحابه عازمين على العود إلى مكة، فجازوا بينه وبين الطريق. ثم جازوهم إلى قريب من الفراة وحازوا بينهم وبين الماء. قال: ثم إن عبيد الله بن زياد خطب الناس وحرضهم على محاربة الحسين فأجابوه إلى ذلك، وانتدب إليه عمرو بن سعد ابن أبى وقاص فى خمسة آلاف فصار فى مقابلته. ثم انتدب إليه شمر بن ذى الجوشن لعنه الله فى أربعة آلاف أخر. فلما صاروا بإزاى الحسين عليه السّلام قالوا للحسين: ما الذى جاء بك؟ قال: كتب إلىّ أهل الكوفة أن آتيهم فأتيتهم ليبايعونى. فإن كرهونى انصرفت من حيث أتيت. فكتب عمرو بن سعد ابن أبى وقاص إلى عبيد الله بن زياد بما قاله الحسين. فقال زياد: لا كيد ولا كرامة حتى يضع يده بيدى، وبعث إليهم أن شدوا عليه حتى يستسلم. ثم بعث (59) إليهم الحسين يقول: ما تريدون منى؟ قالوا: تنزل على حكم عبيد الله بن زياد وإلاّ لا مغاص. فعندها ركب الحسين عليه السّلام

وقال: يا خيل الله اركبى وبالجنة أبشرى. وكان ذلك يوم عاشوراء من سنة إحدى وستين، ويقال: إن جميع ما كان معه أربعين فارسا ومثلهم رجالة، ووضع الحسين عليه السّلام أمامه المصحف ووعظهم. وقال: يا قوم، ما الذى تطلبونى به بدم أم بمال؟ فقالوا: لا نريد منك إلا تنزل على حكم عبيد الله بن زياد ولا يصل إليك منا مكروه. قال: والله لا أعطيكم يدى إذا أبدا. ثم حمل بعضهم على بعض فقال الحسين: اشتد غضب الله على قوم قتلوا ابن بنت نبيّهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. والله لا أجبتهم إلى شئ فما يريدونه منى حتى ألقى الله عز وجل، وأنا مخضب بدمى. ولما اشتد الحرب وحمى الوطيس قال عليه السّلام: أما من ذابّ يذبّ على حرم رسول الله؟ أما من مغيث يغيثنا لوجه الله؟ فسمعه جرير بن يزيد، وكان أول من قدم عليه من جند عبيد الله. فقال: نعم نعم والله، وحمل بين يدى الحسين عليه السّلام. فكان أول من استشهد من الشهداء رضوان الله عليه. ثم قتل عبد الله بن مسلم بن عقيل بن أبى طالب. ثم قتل جعفر وعبد الرحمان ابنى عقيل بن أبى طالب. ثم قتل محمد وعون ابنى عبد الله ابن جعفر الطيار. ثم قتل العباس وجعفر وعثمان ومحمد وأبو بكر أولاد علىّ بن أبى طالب على دم واحد، وهم يوم ذاك أحداث صغار. ثم إن علىّ الأكبر بن الحسين عليه السّلام شدّ على الناس فى القتال وكان شجاعا (14 - 18) قتل. . . الحسين: انظر تاريخ الطبرى 2/ 385 - 388؛ الكامل 4/ 92 - 93

مقداما، وهو يهدر ويقول <من الرجز>: أنا علىّ بن الحسين بن علىّ … أنا الولىّ بن الولىّ بن الولى أنا بن من سار إلى رضوانه … حتى تركها بيضا تنجلى (60) فحملوا عليه وكاثروه، وقد أفشى فيهم القتل فقتلوه. فلما عاينه الحسين صلوات الله عليه مجدلا قال: على الدنيا بعد على العفاء. قال: وخرجت زينب بنت فاطمة الزهراء جاشية تنادى: وابن خياه، وأكبّت عليه. فردّها الحسين إلى الفسطاط. قال: ثم بقى الحسين عليه السّلام كلما انتهى إليه رجلا كره قتله فاشتد به العطش. فلم يجد ماء. فجعل يحمل بفرسه نحو الفراة فحالوا بينه وبين الفراة، ورماه أبو الجنوب لعنه الله بسهم فوقع فى جبهته فنزل الدم على وجهه وكريمته. فجعل يلقى الدم بكفه فإذا امتلأت خضب بها رأسه ولحيته ويقول: هكدى ألقى ربى مختضبا بدمى. ثم يومئ بالدم نحو السماء. قال: فصاح الشمر لعنه الله: ما تنتظرون بالرجل؟ ويحكم: اقتلوه. قال: فأخذته الرماح من كل جهة حتى سقط إلى الأرض. فقال عمرو بن سعد بن أبى وقاص: انزلوا إليه فجزوا رأسه! فنزل إليه نصر بن عرسة لعنه الله فجز رأسه صلوات الله عليه ورحمته وبركاته.

قيل: وثارت فى تلك الساعة غمامة سوداء مظلمة شديدة الأرياح والانزعاج ذات حمرة شديدة. فظن القوم أنهم هلكوا وجاءهم العذاب قبلا. فأقامت ساعة أو ساعتين ثم انجلت. قال أرباب التاريخ: وأمّا النسوة فكن فى الفسطاط ولم يعلمن بقتل الحسين عليه السّلام إلى بفرسه. فإنه أقبل يركض نحو الفسطاط، ثم أقبل القوم، خزاهم الله وقاتلهم، إلى نحو الفسطاط، فسلتوا النساء من حليهن حتى أخذوا قرطا من أذن أم كلثوم بنت علىّ عليه السّلام، وساقوا الحريم كما تساق الإماء والعبيد، وضربوا الفسطاط بالنار. وجاء سنان ابن أنس لعنه الله فقال لعمرو بن سعد (61) بن أبى وقاص رافعا صوته يقول <من الرجز>: املئ ركابى فضّة مع ذهبا … أنا قتلت السيّد المحجّبا قتلت خير الناس أمّا وأبا … وخيرهم إذ ينسبون النسبا وكان عدة المقتولين مع الحسين عليهم السّلام اثنين وسبعين رجلا. وقتل (2) حمرة شديدة: فى الإرشاد 251: «وروى يوسف بن عبده قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: لم تر هذه الحمرة فى السماء إلا بعد قتل الحسين عليه السلام» (8 - 4،93) وجا. . . عنه: انظر تاريخ الطبرى 2/ 368،371،374 - 375،386، الكامل 4/ 79 - 84؛ مروج الذهب 3/رقم 1902 - 1907 (11 - 12) املئ. . . النسبا (نسبا): ورد البيتان فى تاريخ الطبرى 2/ 282 (حوادث 60)،2/ 367 (حوادث 61)؛ الكامل 4/ 79؛ مروج الذهب 3/رقم 1901

من أصحاب عمرو بن سعد بن أبى وقاص ثمانية، وثمانين رجلا. ووجد فى الحسين صلوات الله عليه ثلثة وثلثين جرحا، ودفنه أهل العاصرية من بنى أسد، ودفنوا جميع أصحابه بعد قتلهم بيوم واحد بكربلاء. ثم بعث عمرو بن سعد بن أبى وقاص برأس الحسين مع الحول بن يزيد إلى عبيد الله بن زياد. فلما رآه جعل ينكث ثنيته الشريفة بقضيب كان فى يده ساعة. فقال له زيد بن أرقم: والله لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد وضع شفتيه على هذه الشفتين وقبلها. ثم بكا بن أرقم. فقال له عبيد الله ابن زياد قاتله الله وخزاه: لم تبكى؟ أبكى الله عيناك! والله لولا أنك شيخ وكبر سنك وذهب عقلك لضربت عنقك، أغرب إلى لعنة الله. ثم أمر بالرأس فطيف بها فى الكوفة على عود. ثم نصب ومعه أربعون رأسا من آل بيت محمد صلّى الله عليه وسلّم، وسلّم من أولاد الحسين عليه السّلام علىّ الأصغر، وهو زين العابدين رضى الله عنه، وعمره يوميذ ثلثة عشر سنة، واختلفوا فى سلامته وسببها. فقيل إنه لم يحضر القتال لضعفه، وإن زينب أجنّته تحّت ذيلها واستجارت ببعض القوم فيه حتى سلّم. ثم وضع فى حلوق النساء الحبال، وحملوا إلى الشام، وحمل بينهم رأس الحسين عليه السّلام، وركبوا على الجمال عرى بغير أقتاب، وطيف (2) العاصرية (لعل الأصح: الغاضريّة): فى مروج 3/رقم 1907 حاشية 3: «العاضرية»؛ فى مروج 7/ 542: «الغاضريّة: قرية قريبة من الكوفة. . .»

بهم البلاد كذلك، وبعث عبيد الله بن زياد لعنه الله وأخزاه (62) رسولا حثيثا إلى يزيد بن معوية يبشره بقتل الحسين، فلما بلغ يزيد قتلة الحسين، دمعت عيناه وقال: قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله بن مرجانة-يعنى زياد. أما والله لو أنى كنت محاربا للحسين لعفوت عنه. وأجمع أهل التاريخ أنه لما وصل الرأس إلى يزيد بن معوية وضع بين يديه فقرع ثناياه بقضيب. ثم قال: لقد كان حسينا حسن المبتسم، وأنشد أبياتا مشهورة تداولتها الرواة فى تواريخهم، من جملتها يقول <من الرمل>: ليت أشياخى ببدر شهدوا … وقعة الخزرج من وقع الأسل قد قتلنا القوم من ساداتهم … وعدلناها ببدر فاعتدل وهى خمسة أبيات، هذين البيتين منها والثلاثة الأخر لا يحل لى تسطيرها، ولا يجوز سماعها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، فإن كانت وقعت من يزيد فالويل له من ديان يوم الدين، إذ خصمه يوميذ سيد المرسلين. (9) ليت. . . الأسل: ورد البيت فى رسائل الجاحظ 2/ 15، انظر أيضا رسائل 2/ 15 حاشية 1؛ كتاب الكامل /1/ 710/وقعة: فى رسائل الجاحظ 2/ 15؛ كتاب الكامل 1/ 710: «جزع» (10) قد. . . فاعتدل: ورد البيت فى رسائل الجاحظ 2/ 15، انظر أيضا رسائل 2/ 15 حاشية /2/القوم: فى رسائل الجاحظ 2/ 15: «الغرّ»

[وروى أنه لما وضع الرأس الشريفة بين يديه، جعل ينكث ثناياه بقضيب كان فى يده ويقول <من الطويل>: تفلق هام من رجال أعزّة … علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما] ثم أمر بالرأس فنصب أياما على باب دمشق. وجلس يزيد مجلسا عاما وأحضر عليّا بن الحسين عليه السّلام وجميع نسايهم، والناس ينظرون إليهم، فقال يزيد لعلىّ: أبوك الذى قطع رحمى ونازعنى سلطانى فصنع الله به ما تراه. فقال علىّ رضى الله عنه: {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} {إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ}. فقال يزيد لابنه خالد: أجبه عما قال! فلم يدر ما يقول. فقال يزيد: {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}. ثم نظر يزيد إلى النساء والصبيان فرأى هيبة شنيعة. فقال: قبّح الله ابن مرجانة، لو كان بينه وبينكم قرابة ما فعل بكم هذا. هذا من رواية الطبرى. قال: ثم أمر يزيد بخطيب من خطباء بنى أمية (63) أن يصعد المنبر (3 - 11) تفلق (لعل الأصح: يفلّقن). . . هذا: ورد النص فى تاريخ الطبرى 2/ 282،376 - 377،380؛ الكامل 4/ 85 - 87 (5) عليّا (علىّ) بن الحسين: يعنى علىّ (الأصغر) بن الحسين، انظر تاريخ الطبرى (كتاب الفهارس)

وينال من علىّ عليه السّلام ومن الحسين صلوات الله عليه. ففعل وأطنب فى ذلك. قال: فاستأذن علىّ بن الحسين ليزيد أن يصعد المنبر ويذكر ما يريد فامتنع يزيد. ثم قال فى نفسه: وماذا عسى أن يقول هذا الطفل؟ فأذن له. فصعد علىّ رضى الله عنه المنبر، وخطب خطبة بليغة حتى أبكا العيون وأوجل القلوب، من جملتها يقول: أيها الناس من عرفنى فقد أكفا ومن لم يعرفنى فأنا أعرّفه نفسى وأنسب له حسبى ونسبى، أنا بن مكة ومنى، أنا بن زمزم والصفا، أنا بن من حمل الركن بأطراف الردى، أنا بن من حج وسعا ولبّا، أنا بن خير من ركب البراق فى الهوى، أنا بن من أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، أنا بن من بلغ به جبريل إلى سدرة المنتهى، أنا بن من {دَنا فَتَدَلّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى}. أنا ابن من صلى بالملايكة فى السماء، أنا بن محمد المصطفى، أنا بن علىّ المرتضى، أنا بن فاطمة الزهراء، أنا بن سيّدة النساء، أنا بن الشهداء أبناء الشهداء. قال: فضج الناس بالبكاء، وكادت تكون فتنة. قال: فأمر يزيد المؤذن بالأذان فأذّن حتى قطع كلامه. (10) فكان. . . أدنا (أدنى): فى القرآن 53/ 9: {فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى»}

وروى المسعودى أن الحسين عليه السّلام لما قتل بكربلاء وحمل رأسه الشريف إلى يزيد، خرجت بنت عقيل بن أبى طالب فى نساء من قومها، وهنّ حاسرات، وهى تقول <من البسيط>: ماذا تقولون إذا قال النبىّ لكم: … ماذا فعلتم وأنتم آخر الأممى بعترتى وبأهلى بعد مفتقدى … نصف أسارى ونصف ضرّجوا بدم؟ ماذا فعلتم يا بيس ما صنعت … أيديكم فابشروا بالنار فى حطم ما كان هذا جزايى إذ نصحت لكم … أن تخلفونى بشرّ فى ذوى رحم قال المسعودى، وروى عن أبيه قال: سمعت البارحة مناديا ينادى فى (64) المدينة، فى الوقت الذى قتل فيه الحسين بن علىّ عليه السّلام يقول <من الخفيف>: (1 - 5) الحسين. . . بدم: ورد النص فى مروج الذهب 3/رقم 1920 (2) بنت عقيل: اسمها زينب، انظر مروج الذهب 3/رقم 1920 حاشية 6 (4 - 5) ماذا. . . بدم: ورد البيتان فى الإرشاد 248؛ تاريخ الطبرى 2/ 283،384 - 385؛ الكامل 4/ 89 (5) مفتقدى: انظر مروج الذهب 3/رقم 1920 حاشية 8 (7) ما. . . رحم (لعل الأصح: رحمى): ورد البيت فى تاريخ الطبرى 2/ 283؛ الكامل 4/ 89؛ مروج الذهب 3/رقم 1920 (8) قال المسعودى: لم أقف على هذا النص فى مروج الذهب

أيّها القاتلون جهلا حسينا … أبشروا بالعذاب والتّنكيلا كلّ أهل السماء تدعوا عليكم … من نبىّ ومرسل وقبيلا قد لعنتم على لسان ابن داو … د وموسى وصاحب الإنجيلا وظهرت للحسين صلوات الله عليه كرامات خارقة بعد موته. منها أن قيس بن الأشعث أخذ عمامته وتعمّم بها. فسقط شعره والتوق حتى أعوجت رقبته إلى قفاه، ومات كذلك. ومنها أن أوس بن حبيب أخذ قميصه فلبسه وبرص جسده برصا شنيعا. ومنها أنّ عمرو بن ختاب الكلبى أخذ سراويله فلبسه فأقعد ومات مقعدا. نكثة: روى أنّه لما كان فى خلافة مروان بن محمد بن مروان، وهو آخر ملوك بنى أمية، اجتمعت أناس من أهل الحجاز عند رجل من أهل الكوفة أضيافا. فلما كان الليل أوقد عليهم الرجل مصباحا، وجلسوا للحديث فأجروا ذكر قتلة الحسين عليه السّلام فقال الحجازيون: إنه لم يشترك فى قتل الحسين أحد إلا وأصيب فى نفسه قبل موته. فقال ذلك الشيخ الكوفى: ما أكذبكم، يا أهل الحجاز؟ أنا والله ممن اشترك فى قتلته (1 - 3) أيّها. . . الإنجيلا (الإنجيل): وردت الأبيات فى الإرشاد 248؛ تاريخ الطبرى 2/ 385؛ الكامل 4/ 90 (9 - 7،98) روى. . . الآخرة: وردت هذه الحكاية مختلفة فى اللفظ والمعنى فى مرآة الزمان، مخطوطة أحمد الثالث، رقم 2907، حوادث 66 (الصفحة الخامسة والثلاثين)

وها أناذا. ثم مد يده يصلح المصباح، وكان موقودا بنفط، فتلوّت إصبعه من ذلك النفط، وعلقت فيه النار، فرفع يده ليطفيه بفمه، فلعبت النار فى لحيته مع عمامته وقويت، وعاد كلما صاح وأراد طفيها تزيد اشتعالا فى أثوابه. ثم إنه قام فعثر فى ذلك المصباح فانقلب عليه ذلك النفط فلعبت النار فى جسده، وهو يصيح ويستغيث، ولا تزداد إلا اشتعالا حتى هلك فى ساعته وصار فحمة سوداء. فنعوذ بالله من عذاب الله فى الدنيا والآخرة. (65) ومما يروى من ذكر شرف نفسه وكرم طباعه صلوات الله عليه أنشد بحضرته <من الكامل>: إنّ الصنيعة لا تكون صنيعة … حتى يصاب لها مكان المصنع فإذا صنعت صنيعة فاعمل بها … لله أو لذوى القرابة أو دع وكان الحسين عليه السّلام متّكيا فجلس وقال: من قايل هذين البيتين الذين يعلمان الناس البخل، وإنما أمطروا معروفكم مطرا عامّا، فإن أصاب الكرام كانوا له أهلا، وإن أصاب أيام كنتم أنتم له أهلا. وعن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخذ بيد الحسين بن علىّ عليه السّلام وهو يقول: أيها الناس، هذا حسين ابن (15) حذيفة: انظر الإصابة 318 (15 - 4،99) حذيفة. . . هو فى الجنة: ورد النص فى أنباء نجباء الأبناء 56 - 57

علىّ فاعرفوه، فو الذى نفسى بيده، لجد الحسين أكرم على الله من جد يوسف بن يعقوب. هذا الحسين جده فى الجنة وأمه فى الجنة وأبوه فى الجنة وعمه فى الجنة وعمته فى الجنة وخاله فى الجنة وخالته فى الجنة وأخوه فى الجنة وهو فى الجنة. وقتل الحسين صلوات الله عليه يوم عاشوراء من هذه السنة، وقتل الله عز وجل عبيد الله بن زياد يوم عاشوراء من السنة الأخرا، كما يأتى ذكر ذلك فى موضعه إنشاء الله تعالى، وفى قتل بن زياد يقول ابن الأسود الدؤلىّ فى ذلك <من الوافر>: أقول وذاك من جزع وخوف … أزال الله ملك بنى زياد وأبعدهم كما بعدوا وخانوا … كما بعدت ثمود وقوم عاد [ومن شعر الخبّاز البلدىّ <من الخفيف>: وكأنّ الهوى امرؤ علوىّ … ظنّ أنّى ولّيت قتل الحسين وكأنى يزيد بين يديه … فهو يختار أصعب القتلتين (5 - 6) قتل. . . الأخرا (الأخرى): ورد النص فى لطائف المعارف 145 (5 - 6) قتل. . . زياد: فى لطائف المعارف 145 حاشية 4: «. . . قتل عبيد الله بن زياد سنة 67» (7 - 10) وفى. . . عاد: ورد النص فى مروج الذهب 3/رقم 1921 (9 - 10) أقول. . . عاد: ورد البيتان أيضا فى ديوان أبى الأسود 241 (9) ذاك. . . خوف: فى أبى الأسود 241: «زادنى غضبا وغيظا» وأيضا خوف: فى مروج الذهب 3/رقم 1921: «وجد» (10) كما: فى مروج الذهب 3/رقم 1921: «بما» //بعدوا: فى أبى الأسود 241؛ مروج الذهب 3/رقم 1921: «غدروا» (11) الخبّاز البلدىّ: هو أبو بكر محمد بن أحمد بن حمدان المعروف بالخبّاز البلدىّ، انظر تاريخ التراث العربى (بالألمانية) لفؤاد سزكين 2/ 625 (12 - 13) وكأنّ. . . القتلتين: ورد البيتان فى يتيمة الدهر 2/ 210 مع اختلافات

وما أحسن قول من قال هذه الأبيات <من الوافر>: تقول الأرذلون بنى قشير … طوال الدهر ما تنسا عليّا بنو عمّ النبىّ وأقربوه … أحبّ الناس كلّهم إليّا . . . ضلال مبين وقال أيضا وكان فيه تشيّع <من مجزوء الرجز>: إن كان حبّى خمسة … بهم زكت فرايضى وبغض من والاهم … رفضا فإنى رافض وللخباز البلدى من رقيق شعره يقول <من السريع>: بدر بدا يشرب شمسا بدت … وحدّها فى الحسن من حدّه تغرب فى فيه ولكنّها … من بعد ذا تشرق فى خدّه وله أيضا وكان أمّيّا وأكثر معانيه فى الفرار <من الطويل>: كأنّ يمينى حين حاولت بس‍> طها <… لتوديع إلف والهوى يذرف الدّمعا يمين بن عمران وقد حاول ال‍> ‍عصا> … وقد جعلت تلك العصا ح‍> يّة <تسعا (9 - 10) بدر. . . خدّه: البيتان ينسبان ليوسف بن هارون الرمادى، وهما فى شعر الرمادى ص 135 - 136 (9) يشرب: فى شعر الرمادى ص 135: «يحمل» (10) تشرق: فى شعر الرمادى ص 136: «تطلع» (11) كان أمّيّا: انظر الوافى 2/ 57 (12 - 13) كأنّ. . . تسعا (تسعى): ورد البيتان فى الوافى 2/ 57؛ يتيمة الدهر 2/ 209 (12) إلف: فى الوافى 2/ 57؛ يتيمة الدهر 2/ 209: «إلفى»

وقال <من الكامل>: سار الحبيب وأودع ال‍> قلبا <… جرحا يزيد على الم‍> دى <كربا إذ قلت إذ سار السف‍> ين بهم <… والشوق ينهب مهجتى نهبا لو أنّ لى عزّا أصول به … لأ> خذت كلّ سفينة غصبا <] ولنعود إلى سياقة التاريخ بمعونة الله عز وجل، وفيها خلع بن الزبير طاعة يزيد وسبّه وعابه بشرب الخمر ولعب الكلاب والفهود والقرود والغفلة عن الدين. فلما بلغ يزيد ذلك أقسم بالله ليأتين بابن الزبير فى سلسلة من فضة مع جماعة فى سلاسل من حديد. ثم حلف: (66) لا يقبل لأحد منهم بيعة. وروى عن ابن عياش عن ثقاة من الرواة أن الحسين بن علىّ عليه السّلام لما سار إلى العراق تشمّر ابن الزبير للأمر الذى أراده ولبس المعافرىّ وشبر بطنه، وقال: إنما بطنى بطنى شبر وما عسى أن يسع (2 - 4) سار. . . غصبا: وردت الأبيات فى الوافى 2/ 58؛ يتيمة الدهر 2/ 209 (2) أودع: فى الوافى 2/ 58؛ يتيمة الدهر 2/ 209: «خلف» //جرحا. . . كربا: فى الوافى 2/ 58: يتيمة الدهر 2/ 209: «يبدى العزاء ويضمر الكربا» (3) إذ: فى الوافى 2/ 58، يتيمة الدهر 2/ 209: «قد» (10 - 11،103) ابن. . . للمساكين: ورد النص فى الأغانى 1/ 21 - 22 (12) المعافرىّ: انظر الأغانى 1/ 21 حاشية 5

لشبر! وجعل يظهر عيب بنى أميّة ويدعوا إلى خلافهم، وأمهله يزيد بن معوية سنة، ثم بعث إليه عشرة من أهل الشام عليهم النعمان بن بشير، وكان أهل الشام يسمّون ذلك العشرة الرّكب، وهم عبد الله بن عضاه الأشعرى، وروح ابن زنباع الجذامىّ، وسعد بن عمرة الهمدانى، ومالك بن هبيرة السّلولىّ، وأبو كبشة السّكسكىّ، وزمل بن عمرو العذرىّ، وعبد الله بن مسعود، وقيل: ابن سعدة الفزارىّ، وأخوه عبد الرحمان، وشريك بن عبد الله الكنانى، وعبد الله بن عامر الهمدانى، وجعل عليهم الجميع النعمان بن بشير. فأقبلوا حتى قدموا مكة-شرفها الله تعالى-على بن الزبير. فكان النعمان يخلوا به فى الحجر كثيرا. فقال عبد الله بن عضاه: يابن الزبير، إن هذا الأنصارى ما أومر بشئ إلا وقد أمرنا بمثله، إلا قد أمّر علينا. وإنى ما أدرى والله ما بين المهاجرين والأنصار. فقال بن الزبير: إلىّ ولك، يا ابن عضاه! إنما نحن بمنزلة حمامة من حمام مكة، أفكنت قاتلا حمامة من حمام مكة؟ قال: نعم، وما حرمة حمام مكة؟ يا غلام ايتنى بقوسى وأسهمى. فأتاه بقوسه وأسهمه. فأخذ سهما فوضعه فى كبد القوس. ثم سدّده نحو حمامة من حمام المسجد وقال: يا حمامة، (4) مالك. . . السّلولىّ: انظر الأغانى 1/ 21 حاشية 7 (12) إلىّ ولك: فى الأغانى 1/ 22: «ما لى ولك»

أيشرب يزيد الخمر؟ قولى: نعم والله: لين قلت لأرمينّك، أتخلعين يزيد ابن معوية وتفارقين أمة محمد وتقيمين بالحرم حتى يستحلّ بك؟ والله لين فعلت لأرمينّك. فقال ابن الزبير: ويحك! (67) أتكلم الطاير! قال: لا ولكنك يابن الزبير تتكلم، أقسم بالله، لتبايعنّ طايعا أو مكرها أو لتتعرّفنّ براية الأشعرى فى هذه البطحاء. ثم لا أعظّم من حقها ما تعظّم. فقال ابن الزبير: أيستحلّ الحرم! قال: إنما يحله من ألحد فيه. فحبسهم شهرا. ثم ردهم إلى يزيد ولم يجبهم بشئ. وقال أبو العباس الأعمى، واسمه السايب بن فرّوخ، يذكر شبر ابن الزبير لبطنه <من البسيط>: ما زال فى سورة الأعراف يدرسها … حتى فؤادى مثل الخزّ فى اللّين لو كان بطنك شبرا قد شبعت وقد … فضلت فضلا كثيرا للمساكين قلت: هذا ما رواه صاحب كتاب الأغانى فى الكتاب الكبير الحاوى. وأما ما ذكره صاحب كتاب التذكرة الحمدونية فى تذكرته قال: لما (5) الأشعرى: فى الأغانى 1/ 22: «الأشعريّين» (11) فضلت: فى الأغانى 1/ 22: «أفضلت» (12) كتاب الأغانى: الأغانى 1/ 21 - 22 (13) صاحب. . . تذكرته: فيما حققه إحسان عباس من التذكرة الحمدونية لم أعثر على هذا النص (13 - 5،105) لما. . . الحجر: ورد النص فى أنساب الأشراف 4 ب/16 - 17،21، قارن تاريخ الطبرى 2/ 395 - 399؛ الكامل 4/ 98 - 100

خرج الحسين عليه السّلام إلى العراق وقتل رحمه الله عليه وبلغ ابن الزبير مقتله [ف‍] ‍عظّم عليه وصعد المنبر فخطب وعاب أهل الكوفة خاصة وذمّ أهل العراق عامة وترحم على الحسين عليه السّلام. ولعن قاتله والمسبب فى قتله، وقال: والله لقد قتلتموه طويلا بالليل قيامه، كثيرا بالنهار صيامه، أحق منهم بما هم فيه، والله ما كان ممن يتبدّل بالقرآن الغنى ولا بالبكاء من خشية الله الحداء ولا بالصيام شرب الحرام ولا بالذكر طلب الصيد، معرّضا بيزيد لأنه كان صاحب صيد ولذة. فثار أصحاب بن الزبير إليه وقالوا: أظهر بيعتك فلم يبق بعد قتل الحسين من ينازعك، وكان يبايع الناس سرّا. فقال لهم: لا تعجّلوا هذا وعمرو بن سعيد بن العاص الأشدق بالمدينة ومكة، وهو إقامته مكة. وبلغ ذلك يزيد، فآلى ليؤتينّ ابن الزبير فى سلسلة من (68) فضة ووجه بها مع الرسول. فلما مر الرسول بالمدينة لقى بها الوليد ومروان فأخبرهما بما جاء فيه. فقال مروان متمثلا <من الطويل>: خذها فليست للعزيز مذلّة … وفيها مقال لامرئ متضعّف فلما قدم الرسول على ابن الزبير رده ردا رفيقا وقال: لا أكون بالمتضعّف، فقال الرسول: برّ قسم أمير المؤمنين! قال: لا أبرّ الله قسمه ولا وفّق له الوفاء بنذره. فقال له أخوه عمرو بن الزبير: ما عليك أن تبرّ قسم ابن عمك. قال: قلبى مثل قلبك. (13) خذها (فخذها). . . متضعّف: ورد البيت فى تاريخ الطبرى 2/ 398؛ الكامل 4/ 100 (16) أخوه. . . الزبير: فى أنساب الأشراف 4 ب/17: «عروة بن الزبير أو غيره»

قال الشاعر يخاطب بن الزبير <من البسيط>: لا يجعلنّك فى قيد وسلسلة … كيما يقول أتانا وهو مغلول وتمثل بن الزبير بقول الشاعر عند ما سئم أن يضع رجله فى السلسلة <من البسيط>: ولا ألين لغير الحقّ أسله … حتى يلين لضرس الماضغ الحجر ولما ييس يزيد من ابن الزبير، كتب إلى عمرو بن سعيد الأشدق، وأمره أن يوجه جيشا لحرب ابن الزبير. فسيّر جيشا لحربه فقاتل لابن الزبير، فهزمه ابن الزبير وأخذ أميره أسيرا، وكان الأمير على الجيش عمرو ابن الزبير أخا عبد الله بن الزبير، لأنه كان على شرطة عمرو بن سعيد، وكان كارها لأخيه عبد الله بن الزبير. فلما أخذه حبسه ونادى: من كانت له قبل أخى عمرو مظلمة فليحضر ليقتصّ منه، فلم يزل يقتص له ممن ضربه حتى مات من ضرب السياط، ويقال: إنه لما أسر جئ به إلى أخيه عبد الله، وفى وجهه شجة يقطر منها الدم على قدميه، فتمثل بقول الشاعر <من الطويل>:

ذكر سنة اثنين وستين النيل المبارك فى هذه السنة

ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا … ولكن على أعقابنا تقطر الدما قلت: ووجه نصبه الدم، ظاهر على رواية من رواه بالتاء فيكون الضمير (69) عايدا على الكلوم، وينتصب الدم على أنه مفعول، وأمّا على رواية من رواه بالياء، فإنه أراد به الكلم واحد الكلوم، وهو الجرح، وهو مقدر استغنى عن إظهاره لتقدم ذكره، ومعنى البيت أنه لشجاعتهم لا ينهزمون فيقطر الدم على أعقابهم، لكن على أقدامهم للمواجهة، والله أعلم. ذكر سنة اثنين وستين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وثلثة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة يزيد بن معوية عفا الله عنه، والنواب حسبما تقدم خلا مسلمة فإنه توفى بمصر، وولى يزيد مكانه سعيد بن يزيد الأزدى مصرا حربا (1) ولسنا. . . الدما: ورد البيت فى أنساب الأشراف 4 ب/26؛5/ 365؛ تاريخ الطبرى /2/ 227/أعقابنا تقطر: كذا فى نهاية الأرب 21/ 140؛ فى أنساب الأشراف 4 ب/26؛5/ 365؛ تاريخ الطبرى 2/ 227: «أقدامنا تقطر» (13 - 14) مسلمة. . . توفى: انظر الكامل 4/ 110؛ كتاب الولاة 40 (14) سعيد. . . الأزدى: انظر كتاب الولاة 40

وخراجا، والقاضى عابس بحاله على قضاء مصر، وأكثر تلك الأحوال المذكورة من أمر ابن الزبير مع يزيد كانت فى هذه السنة. وإنّما قدّمنا القول لسياقة الحديث يتلوا بعضه بعضا. قال صاحب كتاب الأغانى: قال الهيثم: ثم إن ابن الزبير مضى إلى صفيّة بنت أبى عبيد الله زوجة عبد الله بن عمر، وهى أخت المختار بن أبى عبيد الآتى ذكره بعد ذاك إنشاء الله تعالى، فذكر لها أن خروجه كان غضبا لله ولرسوله وللمهاجرين والأنصار، ومن أثرة معوية وابنه وأهله بالفئ. وسألها مسلته أن يبايعه عبد الله بن عمر. فلما قدمت له فطوره وقت عشاءه، ذكرت له أمر ابن الزبير واجتهاده وأثنت عليه وقالت: ما يدعوا إلا إلى طاعة الله جل وعز، وأكثرت من القول. فقال لها: ما رأيت بغلات معوية التى كان يحج عليها الشهب. فإن ابن الزبير ما يريد غيرهن. (70) وروى صاحب كتاب الأغانى، قال: قال المداينى وغيره: فأقام ابن الزبير على خلع يزيد، ومالأه على ذلك أكثر الناس. فدخل عبد الله بن مطيع بن حنظلة وأهل المدينة المسجد وأتو المنبر فخلعوا (4 - 12) الهيثم. . . غيرهن: ورد النص فى الأغانى 1/ 22 - 23 (7) بالفئ: انظر الأغانى 1/ 23 حاشية 2 (10) ما: فى الأغانى 1/ 23: «أما» (13 - 1،110) قال المداينى. . . الحرّة: ورد النص فى الأغانى 1/ 23 - 26 (15) عبد الله. . . حنظلة: فى الأغانى 1/ 23:6: «عبد الله بن مطيع وعبد الله بن حنظلة»

يزيد. فقال عبد الله بن أبى عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومىّ: خلعت يزيد كما خلعت عمامتى. ونزعها عن رأسه وقال: إنى لأقول هذا، وقد وصلنى وأحسن جايزتى، ولكن عدو الله سكير. وقال آخر: خلعته كما خلعت ثوبى. وقال آخر: كما خلعت خفّى. حتى كثرت العمايم والخفاف والنعال بالمسجد، وأظهروا البراءة منه وأجمعوا على ذلك، وامتنع منه عبد الله بن عمر ومحمد بن علىّ بن أبى طالب عليه السّلام. وجرى بين محمد بن علىّ وبين أصحاب ابن الزبير خاصة فيه قول كثير حتى أرادوا إكراهه على ذلك. فخرج إلى مكة، وكان هذا أول ما أهاج الشر بينه وبين بن الزبير. قال المداينى: أجمع أهل المدينة لإخراج بنى أمية عنها، وأخذوا عليهم العهود ألاّ يعينوا عليهم الجيش، وأن يردّوهم عنهم، فإن لم يقدروا على ردهم لا يرجعوا إلى المدينة. وأتى عثمان بن محمد بن أبى سفيان ومروان بن الحكم إلى عبد الله بن عمر فقالا: [يا] أبا عبد الرحمن، إن هؤلاء قد ركبونا كما ترى، فما ترى بضم عيالنا؟ فقال: لست من أمركم وأمر هولاء فى شئ. فقام مروان وهو يقول: قبح الله هذا أمرا وهذا دينا. فقال ابن عمر بعد ذلك لما خرجوا وندم على ما كان قاله لمروان: لو وجدت سبيلا إلى نصر هؤلاء لفعلت، فقد ظلموا وبغى عليهم. فقال ابنه سالم: لو كلمت هؤلاء القوم! فقال: يا بنى، لا تنزع هؤلاء القوم عن ما هم عليه، وهم بعين الله، إن أراد أن يغيّر غيّر. (71) ونظر مروان إلى (12 - 13) عثمان. . . الحكم: انظر الأغانى 1/ 24 حاشية 1

ماله بذى خشب. فقال: لا مال إلا ما أحرزته العياب. ثم مضوا ونزلوا حقيلا أو وادى القرى، وفى ذلك من فعلهم يقول الأحوص <من البسيط>: لا ترثينّ لحزمىّ رأيت به … ضرّا ولو سقط الحزمىّ فى النار الباخسين بمروان بذى خشب … والمقحمين على عثمان فى الدار قال المداينى: فدخل حبيب بن بكرة على يزيد، وهو واضع رجله فى طست لوجع كان يجده، بكتاب من بنى أمية، وأخبره الخبر. فقال: أما كان بنو أمية وموالهم ألف رجل؟ قال: بلى! وثلثة آلاف. قال: فعجزوا أن يقاتلوا ساعة من نهار؟ قال: كثرهم الناس، ولم تكن لهم بهم طاقة. فندب الناس وأمّر عليهم صخر بن أبى الجهم العينى. فمات قبل أن يخرج الجيش. فأمّر مسلم بن عقبة الذى يسمى مسرفا. قال: وقال ليزيد: ما كنت مرسلا إلى المدينة أحدا إلاّ قصّر وما صاحبهم غيرى، إنى رأيت فى منامى شجرة غرقد تصيح: على يدى مسلم، فأقبلت نحو الصوت فسمعت قايلا يقول: أدرك ثأرك أهل المدينة قتلة عثمان. فخرج (1) بذى خشب: انظر الأغانى 1/ 25 حاشية /1/حقيلا: انظر الأغانى 1/ 25 حاشية 9 (3 - 4) لا. . . الدار: ورد البيتان فى شعر الأحوص (تحقيق عادل سليمان جمال) ص 132؛ شعر الأحوص (تحقيق إبراهيم السامرائى) ص 105 - 106 (12) غرقد: انظر الأغانى 1/ 26 حاشية 2 (13) ثأرك: انظر الأغانى 1/ 26 حاشية 3

مسلم وكان من قصة الحرّة ما يأتى ذكره ملخصا. هذا ما رواه أبو الفرج الإصبهانى فى كتاب الأغانى. وأمّا ما ذكره صاحب كتاب التذكرة قال: كان أول ما أهاج وقعة الحرّة أن عبد الله بن الزبير خطب يوما بمكة فى أيام يزيد بن معوية فذكر يزيد بأقبح ذكر وقال فى خطبته: يزيد الخمور يزيد الفجور يزيد الفهود يزيد القرود، يزيد الكلاب، يزيد الشراب، ودعا الناس إلى خلع يزيد، فخلعوه وبايعوا ابن الزبير، وكذلك أيضا أهل المدينة، فلما بلغ يزيد ذلك سيّر إلى عامله (72) بالمدينة أن سيّر إلىّ أعيان أهل المدينة من أستميله وأدعوه إلى إلى التمسك ببيعتى. فأنفذ إليه جماعة منهم عبد الله بن أبى عمرو بن حفص المخزومى وعبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصارى، فأكرمهم يزيد ووصلهم ووصل كل رجل منهم خمسين ألف درهم. فلما عادوا إلى المدينة قالوا: قدمنا من عند رجل فاسق يشرب الخمور ويضرب بالطابير وتعزف عنده القيان ويلعب بالكلاب. وكان فيمن شهد على يزيد بشرب الخمر المسور بن مخرمة، فكتب يزيد إلى عامله بالمدينة يأمره أن يضرب المسور الحدّ فقال شاعر <من الطويل>: (1 - 2) أبو. . . الأغانى: الأغانى 1/ 23 - 26 (3) صاحب. . . التذكرة: انظر هنا ص 103، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 13 (4 - 14،111) عبد الله. . . قريش: ورد النص فى أنساب الأشراف 4 ب/30 - 33 (9 - 10) عبد الله. . . المخزومى: فى أنساب الأشراف 4 ب/31: «عبد الله بن أبى عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومى»

ذكر وقعة الحرة ملخصا

أيشربها صهباء كالمسك ريحها … أبو خالد ويضرب الحدّ مسور وكتب يزيد كتابا إلى أهل المدينة يحذرهم الفتنة، قال فيه: أما بعد فإنى قد أنظرتكم حتى لا نظرة، ورفقت بكم حتى عجزت عنكم، وحملتكم على رأسى ثم على عينى ثم على نحرى، وأيم الله لين وضعتكم تحت قدمى لأطأنّكم وطأة وأجعلكم بها أحاديث تؤثر كأحاديث عاد وثمود. ثم تمثل بهذين البيتين <من الوافر>: أظنّ الحلم دلّ علىّ قومى … وقد يستضعف الرجل الحليم ومارست الرجال ومارسونى … فمعوجّ علىّ ومستقيم فوثب أهل المدينة على بنى أمية فأخرجوهم وكانوا زهاء ألف فحوصروا بدار مروان، ومعهم مروان وابنه عبد الملك. وكتب مروان إلى يزيد يخبره بما جرا عليهم. فقرأه يزيد على عمرو الأشدق وندبه أن يسير إلى المدينة. فقال: يا أمير المؤمنين، قد كنت ضبطت لك البلد وأحكمت لك الأمور، وأردت أن ألطف بهذا الرجل فآخذه برفق أو (73) أقتله بحيلة. فأمّا إذ هاجت هذه الفتن فما أحب أن أهريق دماء قريش. ذكر وقعة الحرّة ملخصا قال صاحب كتاب التذكرة: فدعا مسلم بن عقبة، وكان معوية رحمه (1) أيشربها. . . مسور: ورد البيت فى أنساب الأشراف 4 ب/31 (16) صاحب. . . التذكرة: انظر هنا ص 103، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 13 (16 - 9،112) وكان. . . بكر: قارن الكامل 4/ 112؛ مروج الذهب 3/رقم 1924

ذكر سنة ثلث وستين النيل المبارك فى هذه السنة

الله فى حياته قد قال ليزيد ابنه: إنّ لك من أهل المدينة يوما، فإن فعلوها فارمهم بمسلم بن عقبة فإنه رجل قد عرفنا نصحه. فندب يزيد مسلما لقتال أهل المدينة ومحاصرة مكة وقتال ابن الزبير بها. فسار مسلم فى اثنى عشر ألفا من أهل الشام بعد أن أمر لهم بأعطياتهم وأن يعا. . . كل رجل منهم بماية دينار زيادة. فسار مسلم متقلدا سيفه متنكبا قوسه، وكان يتصفح الخيل وهو يقول <من الرجز>: أبلغ أبا بكر إذا الجيش انبرى … وأشرف القوم على وادى القرى أجمع سكران من الخمر ترى … أم جمع يقظان إذا جدّ السرى وكان ابن الزبير يدعا أبا بكر. ذكر سنة ثلث وستين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وسبعة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا. (1) فعلوها: فى الكامل 4/ 112: «فعلوا» (2 - 8) فندب. . . السرى: قارن أنساب الأشراف 4 ب/33 (7 - 8) أبلغ. . . السرى: ورد البيتان فى أنساب الأشراف 4 ب/33؛ تاريخ الطبرى 2/ 408؛ الكامل 4/ 112؛ مروج الذهب 3/رقم 1924 مع بعض الاختلاف (7) الجيش انبرى: فى تاريخ الطبرى 2/ 408؛ الكامل 4/ 112: «الليل سرى»؛ فى مروج الذهب 3/رقم 1924: «الأمر انبرى» (8) الخمر: فى تاريخ الطبرى 2/ 408؛ الكامل 4/ 112؛ مروج الذهب 3/رقم 1924: «القوم» //إذا. . . السرى: فى تاريخ الطبرى 2/ 408؛ الكامل 4/ 112: «نفى عنه الكرى» //جدّ: فى أنساب الأشراف 4 ب/33: «حثّ» (13) أربعة عشر: فى النجوم الزاهرة 1/ 162: «أربعة»

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفة يزيد بن معوية عفا الله عنه، والنواب بالأمصار بحالهم. وكان تجهيز يزيد لمسلم بن عقبة فى الجيش المقدم ذكره فى آخر هذه السنة. ولما بلغ أهل المدينة خبر الجيش حاصروا بنى أمية أشد حصار. ثم تصالحوا على أنهم يطلقوهم، وحلفوا أنهم لا يدلوا على عورة أهل المدينة، وكان فيمن استحلف عمرو بن عثمان بن عفان المقدم ذكره (74) عندما ذكرنا أولاد عثمان فى الجزء الذى قبل هذا الجزء، وكذلك حلفوا مروان وابنه عبد الملك. ولقى مسلم بن عقبة بنو أمية بوادى القرى فسلموا عليه. ثم دعا عمرو بن عثمن فسأله عن أهل المدينة فلم يخبره بشئ لما سبق من يمينه، فقال له: لولا أنك ابن أم كلثوم [و] عثمن لضربت عنقك، فإنك الخبيث ابن الطيب. إذا ظهر أهل المدينة قلت: أنا رجل منكم وإن ظهر أهل الشام قلت: أنا بن أمير المؤمنين عثمن، يا غلام، انتف لحيته. فنتفت لحيته حتى ما تركت منها شعرة. وقال له: نحن نقاتل عن دولتكم وأنتم تكيدونها. ثم أتا مروان وعبد الملك، ومعهما علىّ بن الحسين ليطلبا له (4 - 2،116) لما. . . عنقه: ورد النص فى أنساب الأشراف 4 ب/34 - 39، قارن تاريخ الطبرى 2/ 405 - 433؛ الكامل 4/ 113 - 114 (7) ذكرنا. . . الجزء: انظر كنز الدرر 3/ 309؛6،8،9،14 (10) ابن أم كلثوم: أى عمرو بن عثمان

الأمان، وكان قد استجار بهما. فلما رآه أدناه وقربه وقال: لولا أن أمير المؤمنين أمرنى بقربه ما شفعتكما فيه. ثم أمره بالانصراف على بغله، وكان يزيد قد أوصاه عند خروجه إلى المدينة. فقال له: إذا قدمت المدينة فادعهم ثلثا، فإن أجابوك وإلا فقاتلهم. فإذا ظهرت عليهم فأبحها ثلثا، فما كان فيها من مال وسلاح فهو لك وللجند بسهمهم. فإذا مضت الثلاث فاكفف عن الناس. واعلم أنك ستقدم على قوم أفسدهم حلم أمير المؤمنين معوية، فظنوا أنهم لا تنالهم الأيدى، فلا تردّن أهل الشام عنهم. واستوص بعلىّ بن الحسين بن علىّ خيرا، وأدن مجلسه فإنه لم يدخل فى شئ مما دخلوا فيه. وارتحل مسلم إلى المدينة فخندقوا عليهم، وأجلهم ثلثا، فلما انقضى الأجل، ولم يجيبوه ضرب فسطاطه وزحف بعسكره فقاتله أهل المدينة قتالا شديدا انثنت فيه السيوف وانقصفت فيه الرماح. ثم انهزم أهل المدينة، وأباحها مسلم، وخرج أبو سعيد الخدرى صاحب (75) رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاقتحم مغارة فدخل عليه رجل بالسيف فقال له أبو سعيد: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ}، الآية. فقال الشامى: من أنت؟ فقال: أبو سعيد الخدرى صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال له الشامى: استغفر لى، وتركه. وانتهبت دور المدينة إلا دار أسامة بن زيد بن حارثة، فإن كلبا (7) أنهم. . . الأيدى: فى أنساب الأشراف 4 ب/34: «أن الأيدى لا تنالهم. . .» // عنهم: فى أنساب الأشراف 4 ب/34: «عمّا أرادوه بهم»

حمتها لصلتهم بيزيد وكونهم أخواله. [وانطلق] مسلم لأخذ البيعة ليزيد، فأتاه يزيد بن عبد الله بن زمعة بن الأسود، وأمه زينب بنت أبى سلمى، وجدته أم سلمة زوج النبى صلّى الله عليه وسلّم، فقال: بايع لأمير المؤمنين على أنك عبد قنّ يحكم فى مالك ودمك! فقال له: أبايع على كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وعلى أنّى بن عمه. فقدمه فضرب رقبته وقال: والله لا تشهد على أمير المؤمنين بعدها. وكان يزيد وصله بمال فلما أتى المدينة شهد عليه بشرب الخمر [ثم] أتى بمعقل بن سنان الأشجعى فرحب به وأجلسه معه على طنفسته. ثم دعا معقل بماء فقال مسلم: ايتوه بماء وخوضوه بعسل وثلج. فلما شرب قال: سقى الله الأمير من شراب الجنة. فقال: والله لا شربت بعدها شرابا إلا من صديد جهنم وحميمها. فقال معقل: نشدتك الله والإسلام. فقال: أتذكر إذ مررت بى بطبرية؟ فقلت لك: من أين أقبلت؟ فقلت: سرنا شهرا وأنظينا ظهرا ورجعنا صفرا ووجدناه يشرب خمرا، وإنّا نأتى المدينة فنخلع الفاسق ونولى رجلا من أبناء المهاجرين! وقد آليت تلك الليلة ألاّ أقدر عليك إلا قتلتك، وما أشجع والخلافة؟! وما أشجع وخلع الخلفاء؟ قدّماه فاضربا عنقه. [ثم] دعا بمحمد بن أبى الجهم فقال: نبايعك على كتاب الله وسنّة نبيّه (76) صلّى الله عليه وسلّم. فقال له: قدمت (2) سلمى: فى أنساب الأشراف 4 ب/38: «سلمة»، كذا فى أعلام النساء 2/ 67 - 68 (6) بعدها: فى أنساب الأشراف 4 ب/38: «بشهادة بعدها»

ذكر سنة أربع وستين النيل المبارك فى هذه السنة

على أمير المؤمنين فحباك ووصلك. ثم شهدت عليه بشرب الخمر، والله لا شهدت عليه بشهادة بعدها أبدا، يا غلام، اضرب عنقه! ذكر سنة أربع وستين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلثة أذرع وثمانية عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة يزيد بن معوية عفا الله عنه إلى حين وفاته فى هذه السنة حسبما يأتى من ذكرها إن شاء الله تعالى. فيها توجه مسلم بن عقبة من المدينة لحصار عبد الله بن الزبير بمكة-شرفها الله تعالى-فمرض بالمسلك بالدسلة. فلما حضره الموت قال: اللهم إنك تعلم أنى لم أغشّ خليفة قط فى سر ولا علانية، وأنّ أزكى عمل عملته فى نفسى بعد الإسلام قتلى أهل الحرّة، ولين دخلت النار بعد قتلهم إنى لشقىّ. ثم عهد إلى الحصين بن نمير السكونى، وكان يزيد أوصاه بذلك، ويقال إنه قال لطبيبه بعد قتل أهل الحرّة: إليك عنّى إنما كنت أحبّ البقاء حتى (5) ثلثة: فى النجوم الزاهرة 1/ 164: «أربعة» (6) ستة: فى النجوم الزاهرة 1/ 164: «سبعة» (11 - 14) فلما. . . بذلك: قارن بتاريخ الطبرى 2/ 424؛ الكامل 4/ 123 (11 - 2،117) فلما. . . الأرجاس: ورد النص فى أنساب الأشراف 4 ب/40 - 41

ذكر حصار ابن الزبير الأول

أشتفى من قتلة عثمان وقد أدركت ما أردت، وإن الله سبحانه طهرنى بقتل هؤلاء الأرجاس. وقتل فى وقعة الحرّة سبع ماية من وجوه قريش سوى من قتل من الأنصار وقتل من أخلاط الناس ستة آلاف وخمس ماية رجلا. ذكر حصار ابن الزبير الأول قال الطبرى رحمه الله: لما جهز يزيد بن معوية مسلم بن عقبة وأمره بحصار عبد الله بن الزبير بمكة وأن يأخذه أشد أخذ فلم يزل بعد وقعة الحرّة (77) حتى انتهى إلى صيحان فنزل به الموت فقال: إن أمير المؤمنين عهد إلىّ إن حدث علىّ حدث الموت أن أعهد إلى الحصين ابن نمير، ولو كان الأمر إلىّ لما كنت أستخلف عليكم إلاّ الأحنف ابن قطنة، وأخشى أن أخالف أمير المؤمنين عند الموت. ثم نظر إلى حصين ابن نمير فقال له: يا برذعة الحمار، لولا أن أمير المؤمنين أوصى بك لما قدمتك. ومات من ليلته ودفن فى بطن مرو. ثم سار الحصين بالجيوش إلى مكة. ثم إن امرأة من بنى زمعة خرجت من مكة، ومعها فتية من مواليها حتى أتت قبر مسلم بن عقبة، فاستخرجته وضمت عليه الشجر وأحرقته (1) وإن: فى أنساب الأشراف 4 ب/41: «فإنّ» (5 - 13) لما. . . مكة: قارن تاريخ الطبرى 2/ 424 - 427؛ الكامل 4/ 123 (7) صيحان: نوع من التمر بالمدينة، انظر لين، معجم إنكليزى-عربى، القسم الرابع، ص 1752 (12) بطن مرو: فى تاريخ الطبرى 2/ 424: «المشلّل ويقال إلى قفا المشلّل»

بالنار واستخفيت. ووصل الحصين إلى مكة وخرج إليهم أصحاب ابن الزبير واقتتلوا، وكان فيهم رجل سمى المختار، وكان يوميذ أشد على الناس فى القتال. فانهزم أهل مكة حتى دخلوا المسجد الحرام، وأخذ عليهم الحصين الطريق ونصب المناجنيق على البيت، فرموه بالنيران، فاحترقت الأبواب وتفلقت الحجار وصارت كأنها حبس أو جير. وعن محمد بن خالد قال: رأيت ابن الزبير يصلى عند الحجر فجاءه حجر من ورايه ففحص برجله ولم يتحرك من مكانه حتى قضى صلاته، وكان يوميذ بمكة أربع ماية رجل من الخوارج، فلما رأو ما صنع بالبيت، خرجوا فقاتلوا حتى قتلوا جميعا، وقتل من أهل الشام خلق كثير، وجعل أهل الأردن يرمون البيت بالمنجنيق، وكان اسم المنجنيق أبو فروة، وعادوا أهل الأردن يقولون: حجارة مثل الموج المزبد، نرمى بها عباد أهل المسجد. فأرسل الله سبحانه على المنجنيق صاعقة من السماء فأحرقته، وأحرقت معه اثنى عشر رجلا، وثبت ضوء تلك الصاعقة بمكا [ن] فكان أهل (78) مكة والشام لا يستطيعون أن يفتحوا عيونهم، ولم تزل كذلك حتى أحرقت ذلك المنجنيق ومن حوله من النفر. فلما احترقوا ذهب الضوء. فلمّا رأو أهل الشام هذه الموعظة قال بعضهم لبعض: إن ابن الزبير على الحق فصار كثير منهم زبيريا، وصبر بعضهم على القتال، وصبر لهم أهل مكة، فبينما الناس على

مثل ذلك من القتال إذ أقبل راكب من أهل الشام يخبر بموت يزيد بن معوية. فأمسكوا عن القتال، وتوادع القوم بعضهم بعضا، ومشت السفراء بينهم على أن يكون الكف بينهم عن القتال ويعتمروا أهل الشام بناحية مكة، ودخل الحصين بن نمير على عبد الله بن الزبير فقال له: يابن الزبير، هل لك أن أحملك إلى الشام ونبايع لك بالخلافة؟ فقال بن الزبير مجهرا بصوته: أبعد قتل أهل الحرمين لا والله أو أقتل بكل رجل خمسة من أهل الشام. فقال له ابن الحصين: قبّح الله من يزعم أنك داهية، والله ما أنت كذلك وأراك رجلا معجبا بنفسه، أنا أناجيك سرا وأنت تناجينى جهرا وترفع صوتك، وأدعوك أن أستخلفك فتزعم أنك تقاتل، والله إنها لولا ما تصلح إلا فى رجل من قريش وأردت لها رجلا من قومى لفعلت، ولكن لا حاجة لنا فيك بعدها. فلما خرج من عنده ندم على ما فعل وقالوا له قومه: لبيس ما صنعت، والله لو صبرت على نفسك ساعة لوردت الشام خليفة وما اختلف عليك اثنان. فندب ابن الزبير رجالا يتلقون الحصين ويسألوه الرجوع إلى بن الزبير. فأبا وقال: لا حاجة لنا به، هذا رجل شديد العجب بنفسه، كبير الكبر. وكان احتراق الكعبة يوم السبت لثلاث ليال خلون من ربيع الأول سنة أر [بع وستين] وتوفى يزيد بن معوية يوم الثلثاء لأربعة عشر ليلة خلت (79) من ربيع الأول. ثم إن عبد الله بن الزبير لمّا رأى البيت الحرام وما (15 - 16) يوم. . . ستين: انظر تاريخ الطبرى 2/ 427 (16 - 17) يوم. . . الأول: انظر تاريخ الطبرى 2/ 427 - 428؛ الكامل 4/ 125

صار إليه وانتهك من حرمته قال: والله لو علمت أن هذا يبلغ ما نازعتهم فى شئ. ثم إنه هدم البيت بيده، وهو يتهافت، وحفر الأساس حتى انتهى إلى حجارة ملتحمة. فإذا تلك الحجارة عليها نور كأنه لهب النيران. فأخبروا ابن الزبير بذلك. فقال: اقلعوا منها حجرا! فحركوا حجرا من تلك الأحجار. فتحركت بيوت مكة بأسرها، فتركوا تلك الأحجار على ما هى عليه. ثم قام عبد الله بن الزبير فى الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل مكة إن الله تبارك وتعالى قد ابتلانا وعافانا وأحسن إلينا ودفع عنا البلاء. ثم ولانا عمارة هذا البيت، وقد رأيت أن أخرج وتخرجون، ونعتمر على أقدامنا شكرا لله تعالى. فخرجوا حتى جاوزوا الحرم وأتوا لسعيهم فأحرموا. ثم رجعوا حتى قضوا عمرتهم. ثم بنا عبد الله ابن الزبير البيت حتى إذ أبلغ موضع الباب لم يدر على أى ذلك يعزم، وكان الأسود بن يزيد بمكة فدعاه بن الزبير وقال له: يا أسود إن عايشة رضى الله عنها كانت تفشى إليك بسرّها فى أشياء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فهل تحفظ عنها فى هذا البيت شيا نستدل به ونستضوى بأثره. فقال الأسود: سمعتها تقول: قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا عايشة إن قومك لمّا بنوا البيت قصرت بهم النفقة فأخرجوا الحجر، وهو فيه فجعلوا له بابان، ولولا حداثة قومك بالإسلام لهدمته وأدخلت الحجر فيه وجعلت له بابان. وكان طول البيت تسعة أذرع فزاد عليه ابن الزبير تسعة أخر فعاد (15 - 17) يا عايشة. . . بابان (بابين): انظر الكامل 4/ 207

ذكر وفاة يزيد بن معوية رحمه الله

ثمانية عشر ذراعا. ولمّا شرع عبد الله بن الزبير فى هدمه هرب أهل مكة فى الأودية والجبال مخافة أن [يقع] عليهم (80) العذاب حتى وضع عبد الله أساسة فى الأرض واستقبل البناء على أساسه الأصلى، ليس على الأساس الذى بنته قريش. وإنما لمّا قصرت النفقة على قريش لم يبلغوا أساس إبراهيم صلوات الله عليه تقدير أربعة أذرع. فلما هدمه بن الزبير بناه على الأساس الذى أشار إليه النبى صلّى الله عليه وسلّم وجعل له بابان، باب مع الأرض يدخل منه، وباب آخر يخرج منه. وأدخل الحجر فيه وحلق داير الكعبة وخارجها وكساها القباطىّ. فكان أول من كساها القباطىّ، والله أعلم. ذكر وفاة يزيد بن معوية رحمه الله قال المسعودى رحمه الله: توفى يزيد بن معوية لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين هجرية، وله من العمر تسع وثلثين سنة. ودفن بقرية من قرى حمص يقال لها حوّارين، وكان سبب وفاته أنه شرب شرابا كثيرا حتى الليل وأمعن منه، فلحقه القئ إلى أن ملأ (6 - 8) وجعل. . . من كساها القباطىّ: ورد النص فى وفيات الأعيان 3/ 71 (11) المسعودى: لم أقف على هذا النص فى مروج الذهب (11 - 12) لأربع. . . هجرية: انظر هنا ص 119، الهامش الموضوعى، حاشية سطرين 16 - 17

عشرين طستا دم عبيط ثم مات. وكانت خلافته ثلث سنين كوامل وثمانية أشهر إلا ثمانية أيام، وكان شاعرا مطبقا فصيحا. فمن ذلك <من المتقارب>: أمن رسم دار بوادى غدر … لجارية من جوارى مضر خدلّجة الساق ممكورة … سلوس الوشاح كمثل القمر تزين النساء إذا ما بدت … ويبهت فى وجهها من نظر الشعر ليزيد بن معوية، واللحن فيه لابن سريج، وفيه حديث يأتى إن شاء الله تعالى. [قيل: لمّا احتضر يزيد بن معوية رحمه الله تعالى قال: ليتنى كنت راعى أعنز، وأنشد <من الطويل>: لعمرى لقد عمّرت فى الملك برهة … ودانت لى الدنيا بوقع البواتر فأضحى الذى قد كان قبل يسرّنى … كحلم مضى فى المزمنات الغوابر فيا ليتنى لم أغن فى الناس ساعة … ولم أسع فى لذات عيش مفاخر وكنت كذا طمرين عاش ببلغة … من الدهر حتى صار رهن المقابر] (4 - 6) أمن. . . نظر: وردت الأبيات فى الأغانى 1/ 266 حاشية 3 (5) خدلّجة: انظر الأغانى 1/ 266 حاشية /3/سلوس الوشاح: انظر الأغانى 1/ 266 حاشية 5 (6) تزين: انظر الأغانى 1/ 266 حاشية 6

صفته عفا الله عنه

صفته عفا الله عنه كان جميل المنظر، بهى اللون، أدم بحمرة، مجدور، ضخم الهامة،. . . عفا الله عنه. [كتّابه] (81) سليمان بن سعيد الحسينى، عبيد بن أوس الغسانى، وابن سرجون. حجّابه عفا الله عنه صفوان مولاه ثم أبو درة سعيد مولاه، وقيل خالد مولاه. [حجّابه فى تاريخ القضاعى]. . . عمرو. نقش خاتمه ربّنا الله، وقيل: لا قوة إلا بالله، وقيل: كل عمل ثواب. والله أعلم. (1) صفته: قارن أنساب الأشراف 4 ب/3 (5 - 6) سليمان. . . سرجون: فى تاريخ القضاعى، ص 130: «عبيد بن أوس، ثم زمل بن عمر العذرىّ»؛ فى نهاية الأرب 20/ 498: «عتبة بن أوس ثم زمل بن عمرو العذرىّ»، انظر أيضا نهاية الأرب 20/ 498 حاشية 6، قارن مقالات لبيوركمان 57 (11) ربّنا الله: كذا فى تاريخ القضاعى، ص 129

ذكر خلافة معوية بن يزيد بن معوية رحمة الله عليه ورضوانه

ذكر خلافة معوية بن يزيد بن معوية رحمة الله عليه ورضوانه أما نسبه فيكنى أبو عبد الرحمان وأبو مروان وأبو ليلى معوية بن يزيد بن معوية بن أبى سفيان صخر بن حرب ابن أمية، أمه يقال: أم هاشم ويقال: أم خالد بنت أبى هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، ويقال: اسمها فاختة. كان أبوه يزيد قد ولاه العهد وأخذ له البيعة، وبويع له فى النصف من ربيع الأول سنة أربع وستين، وعمره يوميذ عشرون سنة، وقيل: إحدى وعشرين سنة، أقام فى الخلافة أربعين يوما وقيل: ثلاثة أشهر عليلا لم تره الناس، والضحاك ابن قيس يصلى بالناس. قال القضاعى رحمه الله فى تاريخه: رأيت فى بعض التواريخ أن الوليد بن عتبة بن أبى سفيان صلى على معوية بن يزيد بن معوية، فلما كبر تكبيرتين سقط ميتا قبل أن يقضى صلاته، فصلى عليه مروان بن الحكم ولم يكن له عقبا، ويقال إنه قيل له: اعهد إلى أخيك خالد. فقال: والله ما ذقت حلاوة خلافتكم فلا أتقلد وزرها. (1) معوية. . . معوية: انظر سير أعلام النبلاء 4/ص 139 (7 - 8) أقام. . . أشهر: فى تاريخ القضاعى، ص 130: «فكانت ولايته أربعين يوما، وقال المداينى: ولى ثلثة أشهر، وقال ابن إسحق: ولى عشرين يوما»

قال القضاعى: مات لسبع خلون من رجب سنة أربع وستين وله إحدى وعشرين سنة وشهور، ويقال ثلثة وعشرين سنة، ويقال صلى عليه اخوه خالد، وقيل: مات بالأردن. وفى تاريخ القضاعى قال: ولى الأمر عشرين يوما. . . . (82) قال المسعودى وغيره من أهل التاريخ رحمة الله عليهم وغفر لنا ولهم ولساير أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم: إن معوية بن يزيد كان عبدا صالحا جميل المذهب، وإنه لمّا بويع له صعد المنبر وخطب الناس خطبة بليغة. ثم قال: أيها الناس إن جدّى معوية نازع الأمر أهله ومن كان أحقّ به منه فى القرابة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأحقّ فى الإسلام سابقة، وهو ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وركب منكم ما تعلمون حتى أتته منيته، وصار رهنا بعمله. ثم قلد أبى الأمر فكان غير خليق، وركب هواه، وأخلفه الأمل، وقصر عنه الأجل، وصار فى حفرته رهنا بذنوبه وأسيرا بجرمه. ثم بكى حتى تساقطت دموعه حرة. ثم قال: إن أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه وبيس منقلبه، وقد قتل عترة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأباح الحرمة وخرب الكعبة. وما أنا بالمتقلد أموركم ولا بالمتحمل تبعاتكم فشأنكم أمركم. (1 - 2) القضاعى. . . سنة: فى تاريخ القضاعى، ص 130: «توفى لخمس بقين من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين. . . وسنه يوم مات ثلث وعشرون سنة، ويقال إحدى وعشرون، وقال القتبى سبع عشرة سنة» (1 - 2) مات. . . شهور: انظر تاريخ الطبرى 2/ 432؛ الكامل 4/ 174 (3 - 4) تاريخ. . . يوما: انظر تاريخ القضاعى، ص 130 (5) المسعودى: لم أقف على هذا النص فى مروج الذهب

والله لين كانت الدنيا خيرا فلقد نلنا منها حظا، وإن كانت شرا فكفى ذرية أبا سفيان ما أصابوا منها. فقال له مروان بن الحكم: صيّرها عمرية يعنى شورى. فقال: ما كنت بمتقلدكم حيا وميتا، ومتى صار معوية بن يزيد مثل عمر بن الخطاب؟ ومن برجال عمر أو مثلهم؟ ثم نزل. فكانت خلافته أربعون يوما، وخلع نفسه من الخلافة طلبا للنجاة فى الآخرة، وتوفى بعد ذلك بأربعين يوما والله أعلم. قال صاحب التذكرة إن معوية بن يزيد لمّا خطب قال: أيها الناس إن يكن هذا الأمر خيرا فقد استكثر منه آل أبى سفيان، وإن يكن شرا ما أولاهم بتركه، والله ما أحبّ أن أذهب إلى الآخرة وأدع (83) لهم الدنيا، ألا فليصلّ بالمسلمين حسان بن مالك، وشاوروا فى خلافتكم، غفر الله لكم، وعزم لكم على الرشد فى قضايه. ثم نزل وأغلق بابه ومرض حتى مات رحمة الله عليه. نكثة: وقع فى الأمويين كما وقع فى الهواشم لأن الحسن بن علىّ عليه السّلام سلمها من غير قتال ولا حرب، وكذلك معوية بن يزيد رحمه الله سلمها من غير قتال ولا حرب، ويقال إنه لمّا فعل ذلك قالت له أمه: ليتك يا بنى كنت حيضة. (7) صاحب التذكرة: انظر هنا ص 103، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 13 (7 - 12) معوية. . . عليه: ورد النص فى أنساب الأشراف 4 ب/64 (15 - 16) يقال. . . حيضة: فى درر التيجان 72 آ-72 ب (حوادث 64): «يقال إنه [يعنى معاوية بن يزيد] رقى المنبر خطيبا ثم قال: أيها الناس إن كانت الخلافة لمعاوية ولعقبه وأهله فلقد نالوا منها سعة ودينا فيما تقدم وإن كانت لآل علىّ فقد كفى بآل معوية-

صفته رحمه الله ورضى عنه

صفته رحمه الله ورضى عنه كان أبيض، شديد البياض، كبير العين، كثير الشعر، جعده أقنى، مدوّر الرأس، جميل الوجه، حسن الجسم، لم يكن له كاتبا ولا حاجبا ولا خاتما فيذكروا والله أعلم. ذكر خلافة عبد الله بن الزبير رضى الله عنه ونسبه وما لخص من سيرته أما نسبه فكان يكنى أبو بكر وأبو خبيب، عبد الله بن الزبير بن العوّام ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصىّ، يلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى قصى ابن كلاب بأبيه. أمه أسماء بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنه، ويقال لها ذات النطاقين، يلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأمه فى مرة بن كعب. روى أن النبى صلّى الله عليه وسلّم نظر إلى عبد الله بن الزبير حين ولد فقال: هو هو. فلما سمعت ذلك أمه أسمى تركت رضاعه فقيل: يا رسول الله إنّ أسماء تركت إرضاع عبد الله من أجل كلمتك. فقال لها النبى صلّى الله عليه وسلّم: أرضعيه، ولو بماء عينيك! تبارا، والله لا تقلدت أمر اثنين أبدا. ثم نزل» (3) لم. . . كاتبا: قارن مقالات لبيوركمان 57 (4) لا خاتما: فى تاريخ القضاعى، ص 131: «نقش خاتمه: الدنيا غرور» (5) عبد الله بن الزبير: انظر سير أعلام النبلاء 3/ص 383 (7 - 10) نسبه. . . النطاقين: انظر وفيات الأعيان 3/ 71 (10 - 15،129) روى. . . أبصر: ورد النص فى أنباء نجباء الأبناء 85 - 87 (10 - 2،128) روى. . . دونه: وردت هذه الحادثة فى مرآة الزمان، مخطوطة أحمد الثالث، حوادث 73 (الصفحة الخامسة)

تفسير ما قالته

ثم قال: كبش بين ذياب ذياب عليهم ثياب ليمنعنّ الحرم أو ليقتلنّ دونه، ويروى ليمنعنّ البيت أو ليقتلنّ دونه. وروى أن أمه كانت (84) ترقص عبد الله ولدها فى صغره وتقول <من الرجز>: أبيض كالسيف الصّيقل الإبريق … بين الحوارىّ وبين الصدّيق ظنّى به وربّ ظن تحقيق … والله أهل الفضل أهل التحقيق إن يحكم الخطبة يعيى المسليق … ويفرج الكربة فى ساع الضيق إذا نبت بالمقل الحماليق … والخيل تعدوا زيما برازيق تفسير ما قالته قولها: الصّيقل الإبريق، يقال سيف إبريق إذا كان صافى الحديدة. وقولها: يحكم الخطبة يعيى المسليق، أى يجعل الخطبة ذات حكمة بلسان مسليق، ويقال خطيب مسليق ومسلاق إذا كان فصيحا، وأصله شدة الصوت. وقولها: فى ساع الضيق، الساع جمع ساعة مثل حاج وحاجة. وقولها: إذا نبت بالمقل الحماليق بل ارتفعت من الخوف والدهش. وقولها: زيما برازيق أى جماعات متفرقة متقطعة قطعة ها هنا وقطعة ها هنا. وروى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم احتجم، وعنده عبد الله بن الزبير. فقال له: (5 - 6) أبيض. . . التحقيق: ورد البيتان أيضا فى أعلام النساء 1/ 49 (5) الصّيقل: فى أعلام النساء 1/ 49؛ أنباء نجباء الأبناء 85: «الحسام» (6) التحقيق: فى أعلام النساء 1/ 49؛ أنباء نجباء الأبناء 85: «التوفيق» (16 - 4،129) وروى. . . الله: وردت الحادثة فى حلية الأولياء 1/ 330؛ فوات الوفيات 1/ 446

يا عبد الله، اذهب بهذا الدم فواره بحيث لا يراه أحد. فتوارى عن النبى صلّى الله عليه وسلّم. ثم شربه فلما رجع قال له: يا عبد الله، ما صنعت؟ قال: جعلته يا نبى الله فى أخفى مكان ظننته خاف عن الناس. فقال عليه السلام: لعلك شربته؟ قال: نعم، يا رسول الله. وكان عبد الله إذ ذاك صغير، لم يستكمل بعد تسع سنين. وروى أن عمر رضى الله عنه مرّ بعبد الله بن الزبير وهو يلعب مع الصبيان ففروا حين رأو عمر، وثبت عبد الله، فقال له عمر رضى الله عنه: ما لك لم تفر مع أصحابك؟ فقال: لم أجرم (85) فأخافك، ولم يكن الطريق ضيق فأوسع لك. وقيل: إنه كان يلعب مع صبيان من الأنصار، وهو ابن خمس سنين. فخرج سيد من سادات الأنصار، وهو بن ذاك فانتهرهم ففروا، ولم يفر عبد الله، إلا أنه رجع القهقرى على عقبيه، وقال للضبية: اجعلونى أميركم ونشدّ على هذا الرجل جميعا. وروى أن الشنقاء بنت هاشم، وهى امرأة من المهاجرات، دخلت على أسماء بنت الصديق رضى الله عنها فقالت: يا أسماء، ماذا لقيت من عبد الله؟ إنى رأيته فقلت: يا عبد الله، لقد آثرك الله على صغر سنك. فقال: يا خالة إنّ صغيرنا إلى كبر، وإن يكبر يكون إلى صغر. وبعد فرسول الله أبصر. بويع بولاية الأمر بعد أن أقام الناس بغير خليفة جمادى وجمادى وأياما من رجب. وبايعه أهل العراق، وولى أخاه مصعبا البصرة، وولى (16 - 1،130) بويع. . . الكوفة: انظر وفيات الأعيان 3/ 71

عبد الله بن مطيع الكوفة، ولما بويع لعبد الله بن الزبير بايعه الناس على كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وسيرة الخلفاء الصالحين. فأول من بايعه أخوه المصعب، وقبض ابن مطيع يده فتطير الناس وقالوا: امتنع بن مطيع، وبايع مصعب، أمر فيه صعوبة، وبايع ابن الزبير عبد الله بن جعفر وكذلك محمد بن الحنفية وعبد الله بن عمر أبيا أن يبايعا وقالا: لا نعطى صفقة أيماننا فى فرقة ولا نمنعها فى جماعة. ولمّا استقر أمره، ولى الأمصار النواب، فولى بن أبى ثور حليف بنى عبد مناف، واسمه عبد الله بن عبيد الله بن أبى ثور، المدينة. وكان يسمى مقوّم الناقة، وسبب ذلك أنه لمّا أصاب أهل المدينة مجاعة وعظهم وأمرهم بالتناهى عن المعاصى وقال إن الله تعالى (86) أهلك قوم صالح فى ناقة قيمتها خمس ماية درهم فسمى مقوّم الناقة. وكان على الكوفة قبل أن يولى ابن مطيع عامر بن مسعود تراضى أهل الكوفة به، وهو القايل فى خطبته: ياهل الكوفة، إن لكل قوم أشربة ولذات فاطلبوها فى مضانها وعليكم بما يحلّ ويحمل منها، واكسروا أشربتكم بالماء وتواروا عنى (1 - 6) لما. . . جماعة: ورد النص فى أنساب الأشراف 5/ 188 مع اختلاف فى المعنى (4) عبد الله بن جعفر: لعله عبد الله بن جعفر بن أبى طالب، انظر أنساب الأشراف 5/ 188،403 (12 - 6،131) وهو. . . مصرود (مرصود): ورد النص فى أنساب الأشراف 5/ 190؛ الكامل 4/ 143 - 144

ذكر سنة خمس وستين النيل المبارك فى هذه السنة

بالجدران فقال الشاعر <من البسيط>: من ذا يحرّم ماء المزن خالطه … فى قعر خابية ماء العناقيد إنى لأكره تشديد الرّواة لنا … فيها ويعجبنى قول بن مسعود وقال عبد الله بن همام السّلولى <من البسيط>: اشرب شرابك وانعم غير محسود … واكسره بالماء لا تعص ابن مسعود إنّ الأمير له فى الخمر مأربة … فاشرب هنيا مريا غير مصرود وعامر بن مسعود هذا هو القايل فى خطبته: ياهل الكوفة لأنسينّكم سيرة عمر بن الخطاب. ذكر سنة خمس وستين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة عبد الله بن الزبير أمير المؤمنين رضى الله عنه بمكة، والنواب (3) بن (ابن) مسعود: يعنى عامر بن مسعود، انظر أنساب الأشراف 5/ 422 (7 - 8) وعامر. . . الخطاب: ورد النص فى أنساب الأشراف 5/ 191 (11) خمسة: فى النجوم الزاهرة 1/ 171: «أربعة» //ستة: فى النجوم 1/ 171: «اثنا عشر»

ذكر خلافة مروان بن الحكم عفا الله عنه ونسبه وما لخص من خبره

بالأمصار عبد الله ابن أبى ثور بالمدينة، ومصعب بن الزبير بالبصرة، وابن مطيع بالكوفة، [وعبد الرحمان بن جحدم بمصر، والقاضى عابس بحاله]. وفيها كانت بيعة مروان بن الحكم بالشام. ذكر خلافة مروان بن الحكم عفا الله عنه ونسبه وما لخص من خبره [أما نسبه] فكان يكنى أبو الحكم وأبو عبد الملك وأبو القسم مروان ابن الحكم (87) بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. وكل بنى أمية يلقون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى عبد مناف. كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد طرد أبيه إلى بطن وجّ لأنه كان يفشى سره. وقد تقدم ذكر ذلك فى خلافة (1) عبد الله. . . ثور: فى كتاب الأنساب لزامبور ص 24: «جابر بن الأسود بن عوف، العباس بن سهل، مصعب بن الزبير» (1 - 2) ابن مطيع: وفقا لزامبور، كتاب الأنساب 42، ولى عبد الله بن مطيع من سنة 65 (2) وعبد الرحمان. . . بحاله: انظر كتاب الولاة 41 - 48؛ فى كتاب الولاة 41: «ثم وليها عبد الرحمن بن عتبة بن جحدم. . . دخلها فى شعبان سنة أربع وستين»؛ فى كتاب الولاة 48: «ثم وليها عبد العزيز بن مروان لهلال رجب سنة خمس وستين. . .»، كذا فى كتاب الأنساب لزامبور 25، انظر أيضا حكام مصر لفيستنفلد 34،51 (4) مروان بن الحكم: انظر سير أعلام النبلا 3/ص 476 - 479 (8 - 3،133) كان. . . لأجلها: ورد النص فى تاريخ القضاعى، ص 134، انظر أيضا أنساب الأشراف 5/ 125 (9) تقدم ذكر: انظر كنز الدرر 3/ 277:5 - 11

ذكر سنة ست وستين النيل المبارك فى هذه السنة

عثمان بن عفان رضى الله عنه، فلم يزل طريدا إلى خلافة عثمان. فأدخله عثمان رضى الله عنه المدينة، قيل إنه كان علم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أذن له فى الرجوع. وقيل لزوال العلة التى طرد لأجلها، والله أعلم. بويع بالجابية فى ذى القعدة من سنة خمس وستين. وكانت خلافته عشرة أشهر. أمّه تكنى أم عثمان آمنة بنت علقمة بن خلف بن صفوان بن أمية الكنانى. ولمّا بويع بالشام، سار متوجها إلى مصر فدخلها صلحا على أن يعطى عبد الرحمان بن جحدم عشرة آلاف دينار، ويشيّعه حتى يخرج، ففعل ذلك، وولى ابنه عبد العزيز مصر، وخرج عنها فى جمادى الآخرة وقد بايع لابنه عبد الملك بولاية العهد من بعده ولعبد العزيز بعد عبد الملك. ذكر سنة ست وستين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع واثنا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ست عشر ذراعا وستة أصابع.

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفتى [عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم] فى هذه السنة إلى أول شهر رمضان، توفى مروان بن الحكم بدمشق، وكانت مدة خلافته عشرة أشهر، عمره يوم مات ثلث وستون سنة، مخنوقا، خنقته زوجته أم خالد [بن يزيد بن معوية]. يقال إنه قال لخالد يوما: يابن الرطبة. فبلغها ذلك. فجعلت على وجهه وسادة وجلست عليه حتى فطس، وهو أول خليفة قتلته النساء. وصلى عليه ولده عبد الملك بن مروان. (88) صفة مروان رحمه الله كان قصير، أحمر الوجه، كبير الرأس، كثير اللحية، ناحل الجسم، دقيق الساقين، ويلقب الوزغ وخيط باطل، ذكره الثعالبى رحمه الله. (2 - 3) فى. . . بدمشق: فى تاريخ الطبرى 2/ 576 - 578 (حوادث 65): «فى هذه السنة مات مروان بن الحكم»؛ فى الكامل 4/ 191 (حوادث 65): «فى شهر رمضان من هذه السنة مات مروان بن الحكم»، كذا فى تاريخ القضاعى، ص 135؛ وفقا للامنس، مقالة «مروان بن الحكم» 364، توفى فى 27 رمضان فى سنة 65 (4 - 7) مخنوقا. . . النساء: قارن بالكامل 4/ 191 - 192؛ مروج الذهب 3/رقم 1970؛ فى مروج الذهب 3/رقم 1970: «وهلك مروان. . . فى هذه السنة، وهى سنة خمس وستين» (8 - 10) صفة. . . باطل: انظر الكامل 4/ 193؛ مروج الذهب 3/رقم 1971 (10) الثعالبى: انظر لطائف المعارف 35، انظر أيضا لطائف 35 حاشية 6، والمراجع المذكورة هناك، انظر أيضا الترجمة الإنكليزية لبوسورث 56

كتابه عفا الله عنه

كتّابه عفا الله عنه أبو الزّعيزعة، وسرجون النصرانى، وسفيان الأحول. حجّابه أبو سهيل مولاه، وأبو المنهال الأسود. نقش خاتمه الله ثقتى ورجايى، والله أعلم. ذكر خلافة عبد الملك بن مروان ونسبه وما لخص من أخباره أما نسبه فكان يكنى بأبى الوليد عبد الملك بن مروان بن الحكم، وقد تقدم ذكر بقية نسبه مع أبيه، أمه عايشة بنت معوية بن المغيرة بن أبى العاص ابن أمية ابن عبد شمس. روى أن حبرا من أحبار الروم من أهل الشام-أحسبه راهبا-قدم (2) أبو الزّعيزعة: انظر مروج الذهب 6/ 106، والمراجع المذكورة هناك//أبو. . . الأحول: فى تاريخ القضاعى، ص 135: «سفين [كذا] الأحول وقيل عبيد بن أوس»؛ فى نهاية الأرب 21/ 97: «سفيان الأحول. وقيل: عبيد الله بن أوس»، قارن مقالات لبيوركمان 57 (4) أبو. . . الأسود: فى تاريخ القضاعى، ص 135: «أبو سهيل مولاه»؛ فى نهاية الأرب 21/ 97: «أبو سهل مولاه» (7) عبد الملك بن مروان: انظر سير أعلام النبلاء 4/ص 246 - 249 (10) تقدم ذكر: انظر هنا ص 132:6 - 7 (12 - 17،136) روى. . . منه: ورد النص فى أنباء نجباء الأبناء 107 - 109

المدينة على ساكنها السلام، فبينما هو يمشى فى بعض أزقّتها رأى عبد الملك بن مروان، وهو غلام يسعى وعلى يديه بازى، فاستوقفه الحبر. ثم سأله عن نفسه فأخبره عبد الملك، فقال له الحبر: إنى مبشرك ببشارة فما جزاى عليها؟ فقال عبد الملك: إذا عرفت البشارة عرفت قدر جزايها. فقال له الحبر: إنك تملك الأرض. فقال عبد الملك: {الْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ}. فقال له الحبر: مالى عندك إن كان ما قلته حقّا؟ فقال عبد الملك: أرأيت إن ضمنت لك، أيكون من ذلك ما لم يقدر؟ قال: لا. قال: أفرأيت إن لم أضمن أيمنع من ذلك ما قدر أو يتأخر عن حينه؟ فقال الحبر: لا، فقال عبد الملك: فما أرى للضمان وجها، وإن يكون ما تقول حقّا، وتأتينا يحسن إليك إنشاء الله تعالى. وروى أن عبد الملك دخل على معوية، وعنده عمرو بن العاص فسلّم (89) وجلس جلوسا خفيفا. ثم انصرف فقال معوية لعمرو: ما أكمل مروة هذا الفتى وأخلق به أن يبلغ. فقال عمرو إن هذا الفتى أخذ بخلايق أربع وترك ثلاثا، أخذ بأحسن الحديث إذا حدث، وأحسن الاستماع إذا حدّث، وأحسن المؤنة إذا خولف، وبأحسن البشر إذ لقى، وترك مزاح من لا يوثق بعقله ولا دينه، وترك مخاطبة ليام الناس، وترك من الكلام كلما يعتذر منه. بويع له فى شهر رمضان سنة ست وستين وقيل سنة خمس وستين، (18 - 3،137) بويع. . . أشهر: انظر تاريخ القضاعى، ص 136؛ الكامل 4/ 517

ذكر سنة سبع وستين النيل المبارك فى هذه السنة

وله إحدى وأربعين سنة وأشهر. وكانت خلافته مع سنى عبد الله بن الزبير إحدى وعشرين سنة وستة أشهر، وخلص له الأمر ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر. فى تاريخ القضاعى لقبه رشح الحجر لبخله، ويكنى أبا ذبّان لبخره. نقشت الدنانير والدراهم بالعربية فى أيامه سنة ست وسبعين، وقيل سنة خمس وأربعين، وكان على الدنانير قبل ذلك كتابة بالرومية وعلى الدراهم بالفارسية والله أعلم. ذكر سنة سبع وستين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وسبعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وأربع أصابع. (4 - 7) تاريخ. . . بالفارسية: ورد النص فى تاريخ القضاعى، ص 136 - 137 (4) رشح الحجر: انظر لطائف المعارف 36، انظر أيضا لطائف 36 حاشية 7، والمراجع المذكورة هناك، الترجمة الإنكليزية لبوسورث 57 حاشية 5، والمراجع المذكورة هناك//أبا ذبّان: فى لطائف المعارف 36: «أبو الذّبّان»، انظر أيضا لطائف 36 حاشية 6، والمراجع المذكورة هناك؛ الترجمة الإنكليزية لبوسورث 56 - 57 (5) نقشت. . . سبعين: انظر تاريخ الطبرى 2/ 939 - 940 (حوادث 76)؛ الكامل 4/ 416 - 417 (5 - 6) ست. . . أربعين (الأصح: سبعين): فى تاريخ القضاعى، ص 137: «سنة ست وسبعين وقيل سنة خمس» (10) ذراعان وسبعة عشر: فى النجوم الزاهرة 1/ 181: «خمسة أذرع واثنا عشر» //أربعة: فى النجوم الزاهرة 1/ 181: «ستة» (11) أربع: فى النجوم الزاهرة 1/ 181: «خمسة»

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفتى عبد الله بن الزبير بمكة، وفى ولاية الحجاز واليمن والعراق وبعض الشام، ومصعب أخوه بالعراقين، وعبد الملك بالشام وأمره بالخفيف دون ابن الزبير، وعبد العزيز بن مروان بمصر بوصية من أبيه مروان، والقاضى بمصر عابس بحاله، والناس متفرقين [الآراء بين مؤيد ومنكر] لأمر (90) واتساع الملك لعبد الله بن الزبير دون عبد الملك بن مروان. ذكر مصعب بن الزبير ونبذ من أخباره كان مصعب بن الزبير رحمه الله شريفا كريما نبيلا جميلا متنزها. قيل لعبد الملك بن مروان إن مصعبا ينال الشراب. فقال: والله لو علم مصعب أن شرب الماء البارد يفسد مروته ما شربه فكيف يشرب الشراب؟ ما عرفت له زلة قط. وكان مصعب وعبد الملك بن مروان وعبد الله بن أبى فروة أخلاء قبل السلطان. وكان عبد الملك وابن أبى فروة يتباريان فى الملبس، وكان مصعب لا يقدر على ما يقدران عليه. فاكتسى ابن أبى فروة حلة، وبقى مصعب لا شئ له. فلما ولى مصعب العراق استكتب ابن أبى فروة. (4) عبد العزيز بن مروان: انظر كتاب الولاة 48 - 58، انظر هنا ص 132، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 2 (8) مصعب بن الزبير: انظر سير أعلام النبلاء 4/ص 140 - 145

فكان يوما عند مصعب وقد جاه جوهر أصيب فى بعض بلاد العجم لملك من ملوكهم. فقال مصعب: يا عبد الله، أيسرك أنى أهبك هذا الجوهر؟ قال: نعم. فوهبه له. ثم قال مصعب: والله لسرورى بالحلة لو كسوتنيها أشد من سرورك بهذا العقد. ولم يزل العقد عند عبد الله بن أبى فروة حتى أحدّ أخوه فى الشراب فى ولاية عمر بن عبد العزيز. فدخل عبد الله بن أبى فروة فدس العقد تحت مصلا عمر بن عبد العزيز. ثم خرج ورفع عمر مصلاه فوجد العقد فأمر بردّ [ابن] أبى فروة فقال: ما هذا؟ قال: أهديته لك. فقال: لو كنت تقدمت إليك لأحسنت أدبك. ثم أمر بأخيه فحدّ. ولما ولى مصعب العراق من قبل أخيه عبد الله تزوج سكينة بنت الحسين. فبلغ ذلك أخاه. فقال إن مصعبا غمد سيفه وسل أيره. وكان مصعب قبل سلطانه قد جلس يتحدث يوما مع عبد الله بن عمر وعروة أخى مصعب وعبد الملك بن مروان (91) فتمنى المصعب ولاية العراق وأن يتزوج سكينة بنت الحسين وعايشة بنت طلحة، وتمنى عبد الملك الخلافة وأن يخلف معوية، وتمنى عروة بن الزبير أن يتفقه فى الدين ويحمل عنه العلم، وتمنى ابن عمر الجنة، وكانتا سكينة بنت الحسين وعايشة بنت طلحة من أجمل النساء، وكان مصعب جميلا وكان (12 - 16) وكان. . . الجنة: ورد النص فى وفيات الأعيان 3/ 258 (12) عبد الله بن عمر: فى وفيات الأعيان 3/ 258: «عبد الله بن الزبير» (16) يحمل: فى وفيات الأعيان 3/ 258: «يروى»

يقال: ليس فى الدنيا زوج أحسن من عايشة ومصعب. وغاضبها يوما وهجرها، ثم قدم من حرب وعليه درعه. فاشتكت عايشة لحاضنتها هجرته. فقالت لها حاضنتها: قومى إليه وانزعى سلاحه عنه. فقامت لتنزع السلاح عنه. فقال لها: بأبى أنت وأمى إنى مشفق عليك من ريح الحديد. فقالت: هو والله عندى أطيب من ريح المسك. دخل أبو العباس الكنانى الأعمى على عبد لملك بعد قتلة مصعب فقال له: أخبرنى عن مصعب فأنشده قوله فيه <من الخفيف>: يرحم الله مصعبا إنّه ما … ت كريما ورام أمرا عظيما طلب الملك ثمّ مات حفاظا … لم يعش باخلا ولا مذموما ليت من عاش بعده من قريش … موّتوا قبله وعاش سليما وفيها منع عبد الملك بن مروان أهل الشام من الحج لأجل بن الزبير. وكان أخذ الناس له البيعة أن لا يمنعهم الحج فضج الناس لما منعهم. فبنا عبد الملك الصخرة فى مسجد بيت المقدس، وكان الناس يحضرونها يوم عرفة ويقفون عندها، ويقال إن ذلك كان سبب التعريف فى مسجد بيت المقدس وبمصر فى مسجد الجامع. ذكر ذلك عمرو بن بحر الجاحظ فى كتاب نظم القرآن والله أعلم. (8 - 9) يرحم. . . مذموما: ورد البيتان فى أنساب الأشراف 5/ 349 (8) يرحم. . . عظيما: ورد البيت أيضا فى الأغانى 16/ 303 (9) حفاظا: فى أنساب الأشراف 5/ 349: «فقيدا» (11 - 16) وفيها. . . القرآن: ورد النص فى وفيات الأعيان 3/ 72 (13) مسجد بيت المقدس: فى وفيات الأعيان 3/ 72: «بيت المقدس»

(92) ذكر سنة ثمان وستين النيل المبارك فى هذه السنة

(92) ذكر سنة ثمان وستين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلثة أذرع واثنا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفتى عبد الله بن الزبير بمكة، وسلطانه بالحجاز والعراق وخراسان وأعمال الشرق، وعبد الملك بن مروان بالشام، ومصر فى يد عبد العزيز أخوه بوصية من أبيه مروان، ومصعب ابن الزبير بالعراقين من قبل أخيه عبد الله بن الزبير. وفيها توفى القاضى عابس بمصر، فولى عبد العزيز القاضى بشير بن نصر القضاء بمصر. ذكر خبر الفرزدق والنوار خطب رجل من بنى مجاشع النّوار بنت أعين فقالت للفرزدق: أنت وليى فزوّجنى. وأشهدت له بذلك عليها. فقال الفرزدق: اشهدوا أنى قد تزوجتها على خمسة آلاف درهم. فلم ترض وخاصمته، وقدمت على (3) ثلثة. . . عشر: فى النجوم الزاهرة 1/ 182: «ذراعان وأربعة عشر» (9) وفيها. . . عابس: انظر كتاب الولاة 314 (10) بشير بن نصر (لعل الأصح: النضر): انظر كتاب الولاة 313 - 314 (11 - 11،142) الفرزدق. . . إياها: قارن أعلام النساء 5/ 193 - 195؛ نسخ أجزاء من النص حرفيّا فى الأغانى 9/ 324 - 345

عبد الله بن الزبير مستغيثة، وتطارحت على أم هاشم بنت منظور بن زبان زوجة ابن الزبير. وقدم الفوزدق فنزل على بنى عبد الله بن الزبير، وسألهم أن يشفعوا له، وشفعت أم هاشم إلى زوجها ابن الزبير فشفعها. وكان أمرها يعلوا وأمر الفرزدق يضعف. فقال الفرزدق <من البسيط>: أمّا بنوه فلم يقبل شفاعتهم … وشفّعت بنت منظور ابن زبّانا ليس النجى الذى يأتيك متزرا … مثل الشّفيع الذى يأتيك عريانا فقال ابن الزبير للنوار: إن شيت فرّقت بينكما، وإن شيت سيّرته (93) إلى بلاد العدو. قالت: ما أريد واحدة منهما. وكانت امرأة صالحة، فقال ابن الزبير: فإنه ابن عمك، وهو راغب فيك، أفأزوجكيه؟ قالت: نعم. فزوجه إياها. وكان ابن الزبير يرفع إزاره، ويحمل الدرة، يتشبه بعمر بن الخطاب رضى الله عنه. وكان ابن الزبير لا يتكلم يوم الجمعة إلا بالمواعظ، إلاّ أنه كان يشتم ثقيفا فيقول: قصار القدود، ليام الجدود، سود الجلود، بقية قوم ثمود. وكان بخيلا شحيحا، جاء أعرابى إليه وسأله أن يفرض له. فقال له ابن الزبير: قاتل أولا، فقال الأعرابى: دمى نقد ودراهمك نسية. حدث أحمد بن عبد العزيز الجوهرى عن ثقاة من الرواة أن عبد الله (6 - 7) أما. . . عريانا: ورد البيتان فى أعلام النساء 5/ 194؛ الأغانى 9/ 327 (7) النجى: فى المرجعين المذكورين: «الشّفيع» (17 - 2،147) حدث. . . الله: ورد النص فى الأغانى 1/ 14 - 20، انظر أيضا الأغانى 12/ 71.72

ابن فضالة بن شريك الوالبىّ ثم الأسدى من بنى أسد بن خزيمة، وفد على عبد الله بن الزبير أيام خلافته بمكة، فقال: يا أمير المؤمنين، نفدت نفقتى، ونقبت راحلتى وأهلى بعيد، قال: أحضرها. فأحضرها، فقال: أقبل بها وأدبر ففعل. فقال: يا أخا بنى أسد ارقعها بسبت، واخصفها بهلب، وأنجدها يبرد خفها، وسر عليها البردين تصح. فقال ابن فضالة: إنى أتيتك مستحملا ولم آتك مستوصفا. فلعن الله ناقة حملتنى إليك. فقال ابن الزبير: إنّ وراكبها. فانصرف عنه بن فضالة وقال <من الطويل>: أقول لغلمتى شدّوا ركابى … أجاوز بطن مكّة فى سواد فمالى حين أقطع ذات عرق … إلى ابن الكاهليّة من معاد سيبعد بيننا نص المطايا … وتعليق الأداوى والمزاد بكلّ معبّد قد أعلمته … مناسمهنّ طلاّع النّجاد [. . . رى الحاجات عند أبى خبيب …. . . كدن ولا أميّة بالبلاد . . . الأعياص أو من آل حرب … أغرّ كغرّة الفرس الجواد] (3) نقبت، انظر الأغانى 1/ 15 حاشية 1؛ الأغانى 12/ 71 حاشية 4 (4) بسبت. . . أنجدها: انظر الأغانى 1/ 15 حاشية 2؛ الأغانى 12/ 71 حاشية 4 (5) البردين: انظر الأغانى 1/ 15 حاشية 2 (7) قال: انظر الأغانى 1/ 15 حاشية 3 (8 - 13) أقول. . . الجواد: انظر الأغانى 12/ 71 حاشية 7 (9) ذات عرق: انظر الأغانى 12/ 71 حاشية 9 (10) نص المطايا. . . المراد: انظر الأغانى 1/ 16 حاشية 2؛ الأغانى 12/ 72 حاشية 1 (11) بكل: فى الأغانى 1/ 16: «وكلّ»، انظر هناك حاشية 3؛ الأغانى 12/ 72 (12) أبى خبيب: انظر الأغانى 12/ 72 حاشية 3؛ الأغانى 1/ 16 حاشية 1

(94) وكانت أم خويلد بنت أسد بن عبد العزّى جدة العوام جد عبد الله ابن الزبير من بنى كاهل فنسبه إليها. فقال ابن الزبير لما بلغه ذلك الشعر: علم أن الكاهلية شرّ أمهاتى فعيّرنى بها، وهى خير عمّاته. قلت: فى هذا الخبر شئ يحتاج إلى شرح، وذلك قول بن الزبير. فى جوابه: إنّ وراكبها، قال اليزيدى: «إنّ» هاهنا بمعنى نعم، كأنه إقرار بما قال، ومثله قول بن قيس الرّقيّات <من مجزوء الكامل>: ويقلن شيب قد علا … ك وقد كبرت فقلت إنّه وأما كنيته له بأبى خبيب، فإن خبيب ابن له أكبر ولده، وكان ضعيفا، ولم يكن يكنيه به إلا من ذمّه، يجعله كاللقب. وأما قوله: من الأعياص أو من آل حرب، فإن آمنة بنت أبان بن كليب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ابن معوية بن بكر بن هوازن كانت تحت أمية بن عبد شمس، فولدت له العاص وأبا العاص والعيص وأبا العيص والعويص، ومن الإناث صفيّة وتوبة وأروى، كل هولاء من أمية. فلما مات أمية تزوّجها بعده ابنه عمرو، وهو ذكوان عبده الذى ألحقه بنسبه. وقد تقدم ذكر ذلك. وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك، يتزوج الرجل بامرأة أبيه بعده. فولدت له أبا معيط. (3) علم. . . عمّاته: انظر الأغانى 1/ 16 حاشية 6 (7) ويقلن. . . إنّه: ورد البيت فى ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات 142، وأيضا إنّه: انظر الأغانى 1/ 16 حاشية 7 (9) كاللقب: انظر الأغانى 1/ 16 حاشية 5 (13) عمرو: فى الأغانى 1/ 12،17: «أبو عمرو»

فكان بنو أمية من آمنة إخوة أبى معيط وعمومته، ولا زال هذا النكاح فى الجاهلية إلا أن نسخه الإسلام. وأنزل الله عز وجل تحريمه وسمى نكاح المقت، وأسر عقبة بن أبى معيط يوم بدر فقتله سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صبرا. روى ذلك محمد بن جرير الطبرى والزهرى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أمر بقتله قال: يا محمد، أنا خاصة من قريش؟ (95) قال: نعم. قال: فمن للصبية بعدى؟ قال: النار. فلذلك تسمى صبية أبى معيط صبية النار. واختلف فى من قتله. فقيل أن أمير المؤمنين علىّ ابن أبى طالب كرّم الله وجهه تولى قتله، وقيل غيره. وروى أنّه قتله والنضر بن الحرث بن كلدة أحد بنى عبد الدار. قال عمر بن شبّة فى حديثه بالأثيل: إن النبى صلّى الله عليه وسلّم أمر عليّا بضرب عنق النضر بن الحارث بن كلدة بالأثيل. فقالت أخته قتيلة ترثيه <من الكامل>: يا راكبا إنّ الأثيل مظنّة … عن صبح خامسة وأنت موفّق أبلغ بها ميتا فإنّ تحيّة … ما إن تزال بها النجايب تخفق منّى إليك وعبرة مسفوحة … جادت بدرّتها وأخرى تخنق (3) صبرا: انظر الأغانى 1/ 17 حاشية 2 (4) محمد. . . الزهرى: انظر الأغانى 1/ 17 (4 - 5) رسول. . . قال: فى الأغانى 1/ 17: «قتله رسول. . . صبرا فقال له-وقد أمر بذلك فيه-» (10) بالأثيل: انظر الأغانى 1/ 19 حاشية /1/أخته: انظر الأغانى 1/ 19 حاشية /2/ قتيلة: فى الأغانى 1/ 19: «قتيلة بنت الحارث» (13) بها ميتا فإنّ: فى الأغانى 1/ 19: «به ميتا بأنّ»

هل تسمعنّ النضر إن ناديته … إن كان يسمع ميت أو ينطق ظلّت سيوف بنى أبيه تنوشه … لله أرحام هناك تمزّق صبرا يقاد إلى المنية متعبا … رسف المقيّد وهو عان موثق أمحمد إلا مننت وأنت نس‍ … ل نجيبة فى قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرّك لو مننت وربما … منّ الفتى وهو المغيظ المحنق أو كنت قابل فدية فلنأتين … بأعزّ ما يغلوا لديك وينفق والنضر أقرب من أخذت بزلّة … وأحقّهم إن كان عتق يعتق فقيل إن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال لما بلغه: لو سمعت هذا قبل أن أقتله ما قتلته، ويقال: إن شعرها هذا أكرم شعر موتورة وأعفه وأكفّه وأجمله. وعن الأوزاعى رضى الله عنه قال: حدثنا عروة بن الزبير قال: سألت عبد الله بن عمر رضى الله عنهما وقلت: أخبرنى بأشدّ شئ صنعه المشركين برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: بينما هو صلّى الله عليه وسلم (96) يصلى فى حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبى معيط، فوضع ثوبه فى عنق رسول الله صلّى الله عليه وسلم (1) تسمعنّ النضر. . . ميت: فى الأغانى 1/ 19: «يسمعنّ النضر. . . هالك» (3) رسف: انظر الأغانى 1/ 19 حاشية 6 (4) أمحمد. . . معرق: فى الأغانى 1/ 19: «أمحمد ولأنت نسل نجيبة» … فى قومها والفحل فحل معرق» (6) أو: انظر الأغانى 1/ 19 حاشية 8 (7) والنضر. . . بزلّة: انظر الأغانى 1/ 19 حاشية 9 (9) موتورة: انظر الأغانى 1/ 19 حاشية 10

ذكر سنة تسع وستين النيل المبارك فى هذه السنة

فخنقه به خنقا شديدا. فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه فرفعه عن النبى صلّى الله عليه وسلم وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله. قلت: ولم أستوفى الحديث فى هذا المكان إلا لإكمال الفايدة، ولنعود إلى تسيير التاريخ بمعونة الله عز وجل. ذكر سنة تسع وستين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وثلثة أصابع. مبلغ الزيادة ثلثة عشر ذراعا وستة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفتى عبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان، وعبد العزيز بمصر، والقاضى بها بشير بن نصر. وفيها كان بمصر غلاء عظيم، حتى أخلا أكثر أهلها، ومصعب بن الزبير بالعراقين أميرا من قبل أخيه عبد الله، وفيها كان طاعون الجارف (11) بشير بن نصر (لعل الأصح: النضر): فى كتاب الولاة 314: «ثم توفى بشير بن النضر سنة تسع وستين. . . ثم ولى القضاء عبد الرحمن بن حجيرة. . .»، انظر أيضا كتاب الولاة 314 حاشية 3 (13) وفيها: فى تاريخ الطبرى 2/ 1040 (حوادث 80): «فى هذه السنة كان بالبصرة طاعون الجارف. . .»، كذا فى الكامل 4/ 453 (حوادث 80)

ذكر المختار ونبذ من أخباره

بالبصرة، حتى ثبت أنه مات فى ثلثة أيام عدة مايتى ألف وعشرة آلاف، فى كل يوم سبعين ألف نفر. فسمى طاعون الجارف. وفيها قتل المختار ابن أبى عبيد الثقفى، قتله مصعب بن الزبير فى شهر رمضان من هذه السنة، وبعث برأسه إلى أخيه عبد الله بن الزبير، وسمّر يده على حايط المسجد، ولم تزل مسمرة حتى قدم الحجاج بن يوسف الكوفة فأمر بها فانتزعت ودفنت. ذكر المختار ونبذ من أخباره هو المختار بن أبى عبيد الثقفى، وكان لأبيه آثار جميلة فى الإسلام، وأخت المختار صفية بنت أبى عبيد، زوج عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما. (97) والمختار هو كذاب ثقيف الذى جاء فيه الحديث، وكان يزعم أنه يوحى إليه فى قتلة الحسين عليه السلام. فقتلهم بكل موضع، وكانت له أسجاع يضعها وألفاظ يبتدعها ويزعم أنها تنزل إليه، وقيل للأحنف بن قيس أن المختار يزعم أنه يوحى إليه فقال: صدق، إن الشياطين ليوحى بعضهم إلى بعض. وكانت أم المختار تقول لما حملت بالمختار: رأيت فى النوم قايلا يقول: ابشرى بولد أشد من الأسد إذا الرجال فى كبد. وكان مع أبيه حين

وجهه عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى العراق. وكان يوم قتل أبوه عمره ثلث عشرة سنة، وكان المختار يقول: والله لأعلونّ منبرا بعد منبر، ولألفّنّ عسكرا بعد عسكر، ولأخيفنّ أهل الحرمين، ولأذعرنّ أهل المشرقين والمغربين. وإنّ خبرى لفى زبر الأوّلين حتى لتكونن العالمين لى تالين. وكان المختار عثمانيا أولا. فلما بعث الحسين بن علىّ عليه السّلام مسلم بن عقيل، نزل دار المختار بالكوفة، فبايعه المختار فيمن بايعه. فأخذه ابن زياد فحبسه، ثم شفع فيه عنده فأطلقه، وكان بن زياد قد ضرب المختار عند حبسه إياه بقضيب فشتر عينه،. فلمّا أخرجه من الحبس، لقيه ابن الغرق، فلما رأى عينه استرجع، فقال المختار: شتر عينى ابن الزانية، قتلنى الله إن لم أقطع أنامله وأباجله وأعضاءه إربا إربا، اسمع هذا الكلام منّى. ثم ذكر بن الزبير فقال: إن سمع منّى وقبل عنّى كفيته أمر الناس، وإلاّ فلست بدون رجل من العرب، وإن الفتنة قد برقت ورعدت وكأن قد انبعت فوطبت فى خطامها. ثم قدم على بن الزبير فى أول شأنه فرحب به وأوسع. . . له ابن الزبير (98) عن أهل العراق فقال: هم لسلطانهم فى العلانية أولياء وفى (8) الغرق: انظر تاريخ الطبرى 2/ 996 (حوادث 77)؛ فى الكامل 4/ 169: «العرق» (13 - 14) أوسع. . . العراق: فى أنساب الأشراف 5/ 216: «أوسع له ثم قال له: ما حال العراق»

السر أعداء. ثم سأله المختار أن يقلده أمره، فلم يفعل ثم عابه بن الزبير وانحرف عنه المختار. فعوتب على ذلك فقال: رأيته منحرفا عنّى. فقيل له: إنك كلمته علانية، وهذا أمر يضرب عليه الستور. فأتاه ليلا فقال المختار: إنه لا خير فى الإكثار من المنطق، ولا حظّ فى التقصير عن الحاجة. وقد جيتك لأبايعك على أن لا تقضى أمرا دونى، وأن أكون أوّل من تأذن له. فإذا ظهرت استعنت بى على أفضل عملك. فقال له ابن الزبير: أبايعك على كتاب الله عز وجل وسنّة نبيه. فقال المختار: لو أتاك شر غلمانى لبايعته هذه المبايعة العامّة: والله لا أبايعك إلا على هذا. فبسط ابن الزبير يده فبايعه. وشهد المختار مع بن الزبير الحصار الأول فقاتل أشد قتال، وكان يقول: أنا المختار، أنا الكرّار غير الفرّار، أنا المقدم غير المحجم إلىّ ياهل الحفاظ [و] حماة الأدبار. ثم رأى المختار أن ابن الزبير لا يوليه شيا، فأتى الكوفة، فلما صار نهر الحيرة، اغتسل وأدّهن ولبس ثيابه واعتمّ وتقلّد سيفه وركب راحلته وجعل لا يمر بمسجد إلا سلّم على أهله ودعا لمبايعة محمد بن الحنفية. وكان عند شخوصه إلى الكوفة لقى بن الحنفية فقال: أنا ساير للطلب بدمايكم والانتصار لكم، فلم يجبه بشئ. فقال: إن سكوته إذن، ويقال إن بن الحنفية قال له: لست آمرك بحرب ولا إراقة

دم. فكفى بالله لناصرا ولحقّنا آخذا ولدماينا طالبا. وبايعه أهل الكوفة على النصرة لآل علىّ، فكان يقول: أما ورب البحا [ر والنخل والأشجار] والمهامه والقفار، والملايكة الأبرار، والمصطفين (99) الأخيار، لأقتلنّ كل جبّار، بكل لدن خطّار، ومهنّد بتّار، فى جموع من الأنصار، ليسوا بميل الأغمار، ولا عزل أشرار، حتى إذ أقمت عمود الدين، ورأبت صدع المسلمين، وشفيت غليل صدور المؤمنين، وأدركت ثأر أبناء النبيين، لم يكبر علىّ فراق الدنيا، ولم أحفل بالموت إذا أتى. ثم وجّه الشيعة رسلا إلى محمد بن الحنفية يستأذنونه فى طاعة المختار، فقال لهم: وددت والله أن الله سبحانه وتعالى لينتصر لنا بمن شاء من خلقه. وكان المختار، عند مسيرهم أشفق أن لا يأذن لهم ابن الحنفية فى الوثوب مع المختار فلما عادوا من عند بن الحنفية خبروه بالإذن له ولهم، فجمع عند ذلك الشيعة وقال: إن نفرا منكم أحبوا أن يعلموا مصداق ما جيت به، فرحلوا إلى إمام الهدى، والنجيب المرتضى، وابن خير من جلس ومشى، بعد النبى المصطفى، فسألوه فأخبرهم أنى وزيره، وظهيره، ورسوله وأمينه، ثم قام أوليك النفر فشهدوا بذلك. (1) لناصرا: فى أنساب الأشراف 5/ 218: «لنا ناصرا» (2 - 8) أما. . . أتى: ورد النص فى الكامل 4/ 173

ثم قال المختار: إنى أرى أن يكون معنا إبراهيم بن الأشتر لبأسه وشرفه وعشيرته. ومضى المختار مع الشيعة حتى دخلوا على ابن الأشتر وأقرأوه كتابا من بن الحنفية، وكان فى الكتاب: من محمد المهدى إلى المختار وغيره وإن المختار، المأمور بأخذ الثأر، لنا من الفجرة الأشرار، بأوليانا الأبرار، المصطفين الأخيار، فمن والاه فقد والانا، ومن خذله فقد عصانا. فقال ابن الأشتر: إنى كاتبت محمد بن الحنفية وكاتبنى مرات، فما كاتبنى قط إلا باسمه واسم أبيه، وقد استربت بهذا الكتاب، فشهد جماعة أنه كتاب محمد بن الحنفية، (100) فتنحّى إبراهيم بن الأشتر عن صدر المجلس وأجلس فيه المختار وبايعه، وأجمعوا أنهم يخرجوا منتصف شهر ربيع الأول سنة ست وستين. فوثبوا وحصروا بن مطيع أمير الكوفة فى القصر، وخرج بن مطيع ليلا من القصر بعد أن أمر الناس بالتفرق عنه واستأمن أصحابه. فآمنهم ابن الأشتر، ودخل المختار القصر وقام خطيبا. فقال: الحمد لله الذى وعد وليّه النصر، وعدوه الخسر، وجعله فيه إلى آخر الدهر، وعدا مفعولا، وقضاء مقضيّا، قد خاب من افترى. إنه قد رفعت إلينا راية، ومدّت لنا غاية. فقيل لنا فى الراية: ارفعوها ولا تضعوها، وفى الغاية: اجروا إليها ولا تعتدوها، فسمعنا دعوة الداعى، وإهابة الراعى. فكم من ناع وناعية، لقتيل فى الواغية، بعدا لمن طغى، وكذّب وتولّى، ألا فادخلوا أيها الناس كافة، فبايعوا بيعة هدى، فو الذى جعل السماء سقفا (18) بعدا: فى أنساب الأشراف 5/ 228: «وبعدا»

مكفوفا، والأرض فجاجا سبلا، ما بايعتم بيعة بعد بيعة أمير المؤمنين علىّ وآل علىّ، هى أهدى منها. فوثب الناس وبايعوه على كتاب الله سبحانه وسنّة نبيه صلّى الله عليه وسلّم، وبعث المختار إلى ابن مطيع يقول: إنى قد عرفت مكانك وقد ظننت أن بك عجز عن النهوض وقد بعثت إليك بماية ألف درهم. فأخذها ابن مطيع وشخص إلى البصرة، وقاتل المختار أهل جبّانة السّبيع فهزمهم. وقتل من شهد قتل الحسين عليه السّلام بعد أن أسرهم، وكان فى الأسرى سراقة بن مرداس فجعل يقول <من الرجز>: امنن علىّ اليوم يا خير معدّ … وخير من لبّى وحيّا وسجد فخلاه فقال فيه شعرا يقول فيه إنه رأى الملايكة تقاتل مع المختار (101) على خيل بلق، فأمره المختار أن يصعد المنبر فيعلم الناس بما رأى ففعل، ثم هرب إلى مصعب بن الزبير، وهو بالبصرة، فقال <من الوافر>: ألا أبلغ أبا إسحق أنّى … رأيت البلق دهما مصمتات كفرت بوحيكم وجعلت نذرا … علىّ قتالكم حتى الممات أرى عينىّ ما لم تبصراه … كلانا عالم بالتّرّهات قال رفاعة: دخلت على المختار فرأيت وسادتين ملقاتين. فقلت ما هاتان؟ قال إنه قام عن إحديهما جبريل وعن الأخرى ميكاييل. قال: فو الله ما منعنى أن أقتله بسيفى إلا حديث حدّثنيه عمرو بن الحمق قال: (5) البصرة: فى أنساب الأشراف 5/ 228: «الكوفة» (7 - 14) سراقة. . . بالتّرّهات: ورد النص أيضا فى تاريخ الطبرى 2/ 663 - 665؛ الكامل 4/ 235،237 - 238 (17) عمرو بن الحمق: انظر الأعلام 5/ 244

ذكر مقتل عمر بن سعد بن أبى وقاص

سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من ايتمنه رجل على دمه فقتله فأنا منه برئ، وإن كان المقتول كافرا. وقتل المختار عمر بن سعد بن أبى وقاص. ذكر مقتل عمر بن سعد بن أبى وقاص كان سعد بن أبى وقاص قد دعا على ابنه عمر، وكان مستجاب الدعاء، وذلك إنه كان لعمر بن سعد أسواطا مكتوب على واحد عشرة، وعلى الآخر عشرون إلى سبع ماية سوط، فغضب يوما على غلام له أذنب فضرب بيده إلى الجعبة فخرج سوط الماية فضربه ماية، فأتى الغلام سعدا أباه، وهو يبكى ودمه يسيل على عقبيه. فقال سعد: اللهم، أقتل عمر وأسل دمه. ثم مات الغلام. وكان سبب قتل عمر أن المختار بلغه أن ابن الحنفية قال: عجبا للمختار يزعم أنه يطلب بدماينا وقتلة الحسين جلساؤه، فحرّكه ذلك تحريكا عظيما. فقال: والله، لأقتلنّ رجلا عظيم القدمين، غاير العينين، مشرف الحاجبين، أسرّ بقتله المؤمنين والملايكة المقرّبين، وكانت (102) هذه صفة عمر بن سعد فسمعه الهيثم بن عدى، وقيل الهيثم بن الأسود، فدس ابنه العريان فأخبر عمر بقول المختار، وكان عمر مستخفيا، وكان المختار (3) عمر: كذا فى أنساب الأشراف 5/ 236؛ فى الأصل بياض صغير خلف هذه الكلمة كأنّ الكاتب أراد أن يكتب «عمرو»، قارن هنا ص 88، الهامش اللغوى، حاشية سطر 11؛ فى الكامل 4/ 241 - 244؛ النجوم الزاهرة 1/ 178: «عمرو» (4 - 20،155) مقتل. . . ليلة: ورد النص فى أنساب الأشراف 5/ 236 - 241 (6 - 7) أسواطا. . . سوط: فى أنساب الأشراف 5/ 236: «جعبة فيها سياط قد كتب على سوط منها عشرة وعلى آخر عشرين إلى خمس مائة» (13 - 7،155) فقال. . . الخلاء: انظر تاريخ الطبرى 2/ 671 - 674

أمنه على أن لا يؤخذ بحدث، فبعث إليه المختار صاحب حرسه سرّا فدخل داره وعنده أهله فضرب عنقه وأتاه برأسه، وعنده حفص بن عمر بن سعد. فقال المختار: يا حفص، أتعرف هذه؟ قال: نعم هذه رأس أبى. فلعن الله العيش بعده! فضرب عنقه وبعث برأسيهما إلى ابن الحنفية. وقال: قتلت أحدهما بالحسين والآخر بعلىّ بن الحسين ولا سواء. فقيل للمختار: ألم تؤمنه؟ فكيف يستحل دمه بعد تأمينه. فقال: أمنته على أن لا يحدث حدثا وقد دخل الخلاء. وخرج شمر بن ذى الجوشن قاتل الحسين عليه السّلام هاربا من الكوفة يركض فرسه فلحقه غلام للمختار فعطف عليه شمر فقتله فلحق ببعض القرى. فدل المختار على موضعه، فأحاطت به خيل المختار، فقاتلهم حتى قتله عبد الرحمان بن عبد الله الهمدانى، طعنه فى نحره ثم أوطأه الخيل وبه رمق حتى مات. وأخذ مالك بن النسير الذى ضرب الحسين عليه السّلام على رأسه وعليه برنس فامتلأ دما. فأجج له المختار نارا. ثم قطع يده وألقاها فى فى النار. ثم قطع يده الأخرى وفعل مثل ذلك فى كل عضوء من أعضايه، وهو ينظر حتى مات. وهرب من المختار سنان بن أنس النخعى الذى كان يدعى قاتل الحسين فلحق بالبصرة. فهدم المختار داره وبقى سنان إلى أن قال الحجاج بن يوسف يوما، وهو يخطب ليقم كل ذى بلاء وعناء. فقام سنان فقال: هو قاتل الحسين يعنى عن نفسه. فقال الحجاج: لعمر الله حسن. فاعتقل لسان سنان ومات بعد خمسة عشرة [ليلة].

أمر الكرسى وخبره

(103) وأما عبيد الله بن زياد فإنه أول من ضرب الدراهم زيوفا واحتملها وهرب من البصرة. فكان كلما نزل بماء وخشى أن يثب عليه الأعراب قسمها بينهم، حتى أدركته خيل المختار، فقتل وأحضر رأسه بين يدى المختار على ترس، وهو فى قصر الكوفة. أمر الكرسى وخبره كان المختار قد طلب كرسى علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه من آل جعدة بن هبيرة، وأمّ جعدة أم هانئ بنت أبى طالب، ولم يكن عندهم كرسى. فلما خافوه أتوه بكرسى، فكساه الحرير وجعل له سدنة، وعكف عليه هو وأصحابه وقالوا هو بمنزلة تابوت موسى، وفيه السكينة. وكان المختار يستنصر به ويستسقى فقال الشاعر <من السريع>: أبلغ شباما وأبا هانئ … أنّى بكرسيّكم كافر وقال أعشى همدان <من الطويل>: وأقسم ما كرسيّكم بسكينة … وإن ظل قد لفّت عليه اللّفايف (11) أبلغ. . . كافر: ورد البيت فى أنساب الأشراف /5/ 242/أبلغ. . . أبا هانئ: ورد هذا الصدر فى الكامل 4/ 260 هكذا: «أبلغ أبا إسحاق إن جئته»

وأن ليس كالتّابوت فينا وإن سعت … شبام حواليه ونهد وخارف وإن شاكر طافت به وتمسّحت … بأعواده أو أدبرت لا تساعف وإنّى امرؤ أحببت آل محمّد … وآثرت وحيا ضمّنته الصحايف وكان المختار خايفا من بن الزبير أن يوجه إليه جيشا لما فعل من إخراج بن مطيع من الكوفة، فكتب إلى بن الزبير: أما بعد فقد عرفت منا صحتى، لك واجتهادى فى طاعتك ونصرتك، وما كنت أعطيتنى من نفسك. فلما وفيت لك خست ولم يعترف لى بما عاهدتنى، فكان منى ما كان، فإن تراجعنى أراجعك، وإن لم ترد مناصحتى أنصح لك. (104) فلما قرأ ابن الزبير كتابه، دعا عمر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام [و] ولاّه الكوفة. فقال: كيف والمختار بها؟ قال إنه سامع مطيع. فسار عمر إليها. وبلغ المختار فوجّه زايدة بن قدامة الثقفى فى خمس ماية فارس ما بين دارع ورامح، ومعه مسافر بن سعيد، ووجه معه سبعين ألف درهم، وقال له: قل له إنّك تكلّفت لسفرك هذا سبعون ألفا، فخذها وانصرف. فإن أبى فأره مسافر وأصحابه وحذّره إياهم. فلما لقيه أدى إليه رسالة المختار فأبى أن يقبله وقال: لا بد لى من إنفاذ أمر أمير المؤمنين، فدعا بالخيل (11) المختار: فى أنساب الأشراف 5/ 243: «المختار خبره» (14) تكلّفت. . . ألفا: فى أنساب الأشراف 5/ 243: «تكلّفت لسفرك خمسة وثلاثين ألف درهم وهذه سبعون ألف درهم»

ذكر سنة سبعين النيل المبارك فى هذه السنة

وكانت مكمنة فأراه إياها وقال: إنى محاربك بهؤلاء، ووراءهم مثلهم ومثلهم. فقبل عمر المال واستحيى من الرجوع إلى مكة. فصار إلى البصرة. ذكر سنة سبعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأحد وعشرون إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفتين عبد الله بن الزبير بمكة، سلطانه بالحجاز واليمن، وأخوه المصعب بالبصرة، والمختار متغلبا على الكوفة، وعبد الملك بن مروان بدمشق وقد قوى سلطانه بالشام. وعبد العزيز بمصر بوصية من أبيه مروان. وكان لما شخص مصعب بن الزبير واليا على العراقين من قبل أخيه عبد الله، قدم عليه من هرب من المختار، وقدم عليه محمد بن الأشعث، وطلب المصعب أن يقدم عليه المهلب بن أبى صفرة، فاعتل عليه. فقال (13 - 5،159) وكان. . . المختار: ورد النص فى أنساب الأشراف 5/ 251 - 253، قارن أيضا الكامل 4/ 267 - 268

ذكر قتلة المختار

له محمد بن الأشعث: وجّهنى إليه آتك به! فوجهه إليه. فلما قدم عليه قال له المهلب: يا محمد، ما وجد المصعب بريدا غيرك؟ قال: والله يا با سعيد، ما أنا إلا بريد [نساينا] (105) وأبناينا. فأقبل إليه المهلب فى عدد وعدّة حتى قدم البصرة، فأعظمه المصعب وأمره أن يعسكر عند الجسر. ونفّذ المصعب إلى الكوفة من يخذل الناس عن المختار. ذكر قتلة المختار وكان لمّا بلغ المختار توجه المهلب إليه فى الجيش من قبل المصعب، نفذ أيضا جيشا عليهم ابن شميط فى خيل كثيرة. والتقا الجيشان فانهزم جيش المختار، وقتل بن شميط، وكان المختار قد قال حين بعث ابن شميط: والذى كرم وجه أبى القسم ليدخلن بن شميط البصرة، ولتكونن له النصرة فى عافية صافية، قضاء مقضيّا، وقد خاب من افترى. فقد بعثت معه براية ما غزلتها يد ولا نسجها نساج. وكان المختار قد بعث مع بن شميط راية وقد لفها فى خرقة حرير. وقال (4) الجسر: يعنى الجسر الأكبر بالبصرة، انظر أنساب الأشراف 5/ 253،432 (9 - 3،163) وكان. . . حاجته: ورد النص فى أنساب الأشراف 5/ 255 - 257،262، 263،265،279،282، قارن أيضا الكامل 4/ 273 - 274 (10) أبى القسم: يعنى محمد النبىّ، انظر أنساب الأشراف 5/ 415 (الفهرس)

له: لا تفتحها إلا فى ساعة كذا. فإنهم إذا نظروا إليها انهزموا من غير قتال ولا نصب. فلما انهزم جيش المختار وقتل بن شميط، تقدم المصعب فنزل الكوفة وحصر المختار فى قصره، فخرج ليلا فعرف. فقتل هو ومن معه، وأتى برأسه فوضع بين يدى المصعب على ترس، ونفذ إلى أخيه بالفتح. ثم إن عبد الله بن الزبير وجه ولده حمزة إلى البصرة واليا وكتب إلى المصعب أن يضم من قبله من الرجال إلى حمزة. فغضب المصعب وسار إلى مكة، ومعه مال جليل، واستخلف القباع. وإنما سمى القباع لأنه رأى لأهل البصرة مكيالا أجوفا. فقال: ما هذا إلا قباعا يعنى أجوفا فلقبوه بذلك. قال أبو الأسود يخاطب بن الزبير فى ذلك <من الوافر>: أبا بكر جزاك الله خيرا … أرحنا من قباع بنى المغيره (106) وكان لما أخذ أصحاب المختار أسرى بعد أن نزلوا على حكمه، فأتى منهم برجل مكتوف. فقال: الحمد لله الذى ابتلانا بالأمير وابتلاه، بنا إنّ من عفى عفى الله عنه. ومن عاقب لم يؤمن القصاص، يابن الزبير، نحن أهل قبلتكم وعلى ملتكم، ولسنا بروم ولا ديلم، لم نعد إن خالفنا إخواننا من أهل ديننا ومصرنا. وإمّا أن يكونوا أخطأوا وأصبنا أو أصابوا وأخطأنا، فاقتتلنا كما اقتتل أهل الشام وأهل العراق. فقد افترقوا (10) أبو الأسود: فى أنساب الأشراف 5/ 256: «أبو الأسود الدئلى» (11) أبا. . . المغيرة: ورد البيت فى أنساب الأشراف 5/ 256،277

ثم اجتمعوا، وقد ملكتم فأسجحوا وق‍ [درتم] فاعفوا. فرقّ له المصعب وللأسرى، ثم استشار المصعب الناس. فقال مسافر بن سعيد بن نمران: ما تقول يابن الزبير غدا وقد قتلت أمة من الأمم مسلمين حكّموك فى أنفسهم ودمايهم صبرا. قال الأحنف: أرى أن تعفوا فإن العفو أقرب للتّقوى. فضج أصحاب المصعب وقالوا: لا نرضى أو تقتلهم: فقتلهم. فلما قتلوا قال: ما أدركتم بقتلهم ثأرا. فليته لا يكون فى الآخرة وبالا. وكان مقتل المختار فى شهر رمضان سنة تسع وستين. ولما قدم المصعب بن الزبير على أخيه عبد الله بعد قتل المختار وأصحابه قال له عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما: أنت الذى قتلت ستة آلاف من أهل القبلة فى غزاة واحدة. فقال إنهم كانوا سحرة وكفرة. فقال: والله لو كانوا غنما من ثرات الزبير لكان ما أتيت عظيما. وقدم حمزة بن عبد الله بن الزبير البصرة، وكان جوادا إلا أنه كان أحمق، كان يعطى من لا يستحق ماية ألف ويمنع المستحق شسعا، ومدحه موسى شهوات فقال <من الرمل>: حمزة المبتاع [حمد] ابا اللهى … ويرى فى بيعه أن قد غبن (5) أن. . . للتّقوى: فى القرآن 2/ 237: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى»} //تعفوا: فى أنساب الأشراف 5/ 263؛ الكامل 4/ 274: «تعفو» (8) مقتل. . . ستين: انظر هنا ص 148، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 2 (16 - 2،162) حمزة. . . بالسّفن: قارن الأغانى 3/ 350،357

(107) فإذا أعطى عطاء فاضلا … ذا إخاء لم يكدّره بمنّ وإذا ما سنة مجدبة … برت المال كبريى بالسّفن إنجلت عنه نقيّا ثوبه … وتولّت ومحيّاه حسن نور صدق نيّر فى وجهه … لم تصب أثوابه لون الدّرن فلما قدم مصعب إلى عبد الله أخيه قال: ما رأيت فى ابنك حمزة حتى وليته وعزلتنى؟ قال: ما رأى عثمان فى ابن عامر حين عزل أبا موسى وولاه، ولم أعزلك تفضيلا له عليك. ثم رده على المصرين. [وجد] المصعب على رجال من أهل البصرة فيهم أنس بن مالك وغيره. [ثم أمر] بأنس فقال له: أنشدك الله وخدمتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فخرّ مصعب من المنبر حتى لصق خده بالأرض وقال: سمعا وطاعة لله ولرسوله وحمله وكساه ووصله بعشرين ألفا. كلّم الأحنف مصعبا فى قوم حبسهم. فقال: أصلح الله الأمير، إن كان الحق حبسهم فإن العفو يسعهم، وإن كانوا حبسوا فى باطل فالحق يخرجهم. قال: صدقت، وأخرجهم. دخل أسقف نجران على مصعب فكلمه بكلام أغ‍ [ضبه] فرماه مصعب بقضيب كان فى يده فأدماه. فقال: إن أذن الأمير فى الكلام (4) نور. . . الدّرن: ورد البيت فى الأغانى 3/ 350، /358/صدق نيّرّ: فى الأغانى 3/ 350: «شرق بيّن» (12 - 13) إن. . . حبسهم: فى أنساب الأشراف 5/ 282: «إن كنت حبستهم بحقّ» (13) كانوا حبسوا: فى أنساب الأشراف 5/ 282: «كنت حبستهم»

ذكر سنة إحدى وسبعين النيل المبارك فى هذه السنة

تكلمت. قال: تكلم. قال: قال المسيح: لا ينبغى للإمام أن يكون سفيها، ومنه يتعلم الحلم، ولا جايرا ومنه يتعلم أو قال يلتمس العدل. قال: صدقت. ثم قضى حاجته. ذكر سنة إحدى وسبعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة أصابع. (108) ما لخص من الحوادث الخليفتى عبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان. كل منهما فى م‍ [حل] خلافته، وعبد العزيز بمصر على حاله، وكذلك المصعب على العراق [من] قبل أخيه عبد الله. قال أحمد بن عبيد الله بن عمار عن رواة من الثقاة ما ذكره صاحب كتاب الأغانى أن ابن الزبير كان قد نفى أبا [قطيفة] عمرو بن الوليد بن (6) سته عشر: فى درر التيجان 74 ب:14 (حوادث 71): «سبعة عشر»؛ فى النجوم الزاهرة 1/ 187: «خمسة عشر» (7) ستة: فى درر التيجان 74 ب:14 - 15 (حوادث 71): «ستة عشر»؛ فى النجوم الزاهرة 1/ 187: «تسعة عشر» (13 - 18،165) ابن. . . البعيد: ورد النص فى الأغانى 1/ 8،11،28 - 30

عقبة بن أبى معيط معمن نفاه من بنى أمية عن [المدينة] إلى الشام. فلما طال مقامه بها قال <من الطويل>: ألا ليت شعرى هل تغيّر بعدنا … قباء وهل زال العقيق وحاضره؟ وهل نزحت بطحاء قبر محمد … أراهط غرّ من قريش تباكره؟ لهم منتهى حبّى وصفو مودّتى … ومحض الهوى منى وللناس سايره وقال من قصيدة أخرى <من الخفيف>: أقرينّ السلم إن جيت قومى … وقليل لهم لدىّ السلام ولقد حان أن يكون لهذا الدّ … هر عنّا تباعد وانصرام فلما بلغ بن الزبير شعر أبى قطيفة هذا قال: حنّ والله أبو قطيفة وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، من لقيه فليخبره أنه آمن فليرجع. فبلغه ذلك فانكفأ راجعا فلم يصل إليها حتى مات. قال بن عمار عن المداينى أن امرأة من المدينة تزوجها رجل من أهل الشام. فخرج إلى بلده عن كره منها، فسمعت منشدا ينشد [شعر] أبى قطيفة المقدم ذكره الذى أوله «ألا ليت شعرى هل تغيّر بعدنا». فشهقت شهقة وخرّت على وجهها ميتة. وفى رواية أن الشعر <من الطويل>: ألا ليت شعرى هل تغيّر بعدنا … جنوب المصلّى أم كعهدى القراين؟ (4) نزحت: فى الأغانى 1/ 28: «برحت» (7) أقرينّ (أقرئنّ): فى الأغانى 1/ 28: «إقر منّى» (16) جنوب: انظر الأغانى 1/ 30 حاشية 3

(109) وهل أدر حول البلاط عوامر … من الحىّ أم هل بالمدينة ساكن؟ إذا برقت نحو الحجاز سحابة … دعا الشوق منّى برقها المتيامن فلم أتركنها رغبة عن بلادها … ولكنّه ما قدّر الله كاين قال أيوب: فحدتث بهذا الحديث عبد العزيز بن أبى ثابت عرج قال: أتعرفها؟ قلت: لا، قال: هى والله عمتى حميدة بنت عمرو بن عبد الرحمان. قال أبو الفرج: وأبو قطيفة صاحب هذا الشعر أيضا وهو <من البسيط>: القصر فالنّخل فالجمّاء بينهما … أشهى إلى القلب من أبواب جيرون إلى البلاط فما حازت قراينه … دور نزحن عن الفحشاء والهون قد يكتم الناس أسرارا فأعلمها … ولا ينالون حتى الموت مكنونى القصر الذى عناه ها هنا قصر سعيد بن العاص بالعرصة، والنخل هو نخل كان لسعيد بن العاص هناك بين قصره وبين الجمّاء، وهى أرض كانت له، وصار الجميع لمعوية بن أبى سفيان بعد وفاة سعيد بن العاص، ابتاعه من ابنه عمرو باحتمال دينه عنه كما يأتى بعد تفسير الشعر، وأبواب جيرون بدمشق. ويروى: حاذت قراينه، من المحاذاة. والقراين: دور كانت لبنى سعيد بن العاص متلاصقة، سمّيت بذلك لاقترانها، ونزحن: بعدن، والنازح: البعيد. وقد وجب ها هنا ذكر سعيد بن العاص. (4) فحدتث: فحدّثت//عرج: لعل الأصح: الأعرج، انظر الأغانى 1/ 30 (5) عمرو: عمر، انظر الأغانى 1/ 30

ذكر سعيد بن العاص ونبذ من خبره

ذكر سعيد بن العاص ونبذ من خبره هو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، كان من الأجواد المعدودين فى طبقة الكرماء فى الإسلام. قال مصعب بن عروة بن الزبير أن سعيد بن العاص لما حضرته الوفاة، وهو فى قصره هذا، قال ابنه عمر [و: لو نزلت إلى] المدينة! فقال: يا بنىّ، إن قومى لن يضنّوا علىّ أن يحملونى على ر [قاب‍] هم (110) ساعة من نهار، فإذا أنا متّ فآذنهم، فإذا واريتنى فا [نطلق إلى] معوية فانعنى له وانظر فى دينى، واعلم أنه سيعرض عليك [قضاءه] عنى، فلا تفعل، وأعرض عليه قصرى هذا، فإنى اتخذته [نزهة] وليس بمال. فلما مات أوذن به الناس، فحملوه من قصره حتى [دفن بالبقيع]، ورواحل بن سعيد مناخة، فعزّاه الناس على قبره وودّعوه، وكان هو أول من نعاه لمعوية فتوجّع وترحّم عليه. ثم قال: هل ترك دينا؟ قال: نعم، ثلثماية ألف درهم. قال: هى علىّ. قال: قد ظنّ ذلك وأ [مرنى] أن لا أقبله، وأن أعرض عليك بعض ماله فتبتاعه عنه فيكون (3 - 2،169) قال. . . بالسياط: ورد النص فى الأغانى 1/ 31 - 34 (5) أن: فى الأغانى 1/ 32: «بأن» (6) فآذنهم: انظر الأغانى 1/ 32 حاشية 1

[قضاء دينه] منه، وأعرض عليه قصره بالعرصة. قال: قد أخذته بدينه. قال: هو لك على أن تحمل المال إلى المدينة وتجعلها بالوافية. قال: نعم. فحملها له إلى المدينة ففرّقها فى غرمايه. وكان أكثرها عدات. فأتاه شاب من قريش بصكّ بخط سعيد فيه عشرون ألف درهم بشهادة سعيد على نفسه وشهادة مولى له عليه. فأرسل إلى المولى فأقرأه الصكّ فلما قرأه بكا وقال: نعم، هذا خطّه وهذه شهادتى عليه. فقال له عمرو: من أ [ين يكو] ن لهذا الفتى عليه عشرون ألف درهم، وإنما هو صعلوك من صعاليك قريش؟ قال: أخبرك عنه، مر سعيد بعد عزله فاعترض له [هذا] الفتى فمشى معه حتى صار إلى منزله فوقف له سعيد وقال: ألك [حاجة]؟ قال: لا، إلا أنى رأيتك تمشى وحدك. فأحببت أن أضل جناحك. فقال له: ايتنى بمده قلم. فكتب له على نفسه هذا الدين وقال له: إنك [لم] تصادف عندنا شيا فخذ هذا. فإذا جاءنا شئ فأتنا. فقال: لا جرم والله لا يأخذها إلا بالوافية. أزن له يا غلام. (2) بالوافية: انظر الأغانى 1/ 32 حاشية 5 (3) عدات: انظر الأغانى 1/ 32 حاشية 6 (13) أزن (زن): فى الأغانى 1/ 33: «أعطه إياها»

قال هرون: (111) كان الرجل يأتى سعيد بن العاص [يسأله فلا يكون] عنده فيقول: ما عندى، ولكن اكتب لك علىّ، فيكتب له كتابا ويقول: ترونى أخذت منه عوضا لهذا؟ لا، ولكن يجئ يسألنى فينزوا دم وجهى لما ينزوا دم وجهه فأكره ردّه. وأتاه مولّى لقريش بابن مولاه، وهو غلام. فقال: إن أبا هذا قد هلك وقد أردنا أن نزوّجه فقال: ما عندى، ولكن خذ له فى أمانتى. فلما مات سعيد جاء الرجل إلى عمرو [بن سعيد]. فقال: إنى أتيت أباك بابن فلان. وأخبره بالقصّة. فقال له عمرو: وكم أخذت له؟ قال: عشرة آلاف. فقال عمرو: من رأى أعجز من هذا! يقول له سعيد: خذ فى أمانتى فيأخذ عشرة آلاف درهم! لم لا أخذت ماية ألف؟ وعن المداينى أيضا قال: بلغ أبا قطيفة أن عبد الملك ينتقصه فقال <من الطويل>: نبيت أن بن القلمّس عابنى … ومن ذا من الناس البرئ المسلّم؟ من انتم من انتم خبّرونا من انتم … فقد جعلت أشياء تبدوا وتكتم! (1) هرون: انظر الأغانى 1/ 33 حاشية 1 (3) فينزوا (فينزو): انظر الأغانى 1/ 33 حاشية 3 (13) القلمّس: انظر الأغانى 1/ 34 حاشية 2 (14) انتم فقد: انظر الأغانى 1/ 34 حاشية 3

ذكر سنة اثنين وسبعين النيل المبارك فى هذه السنة

فبلغ عبد الملك ذلك فقال: ما ظننت أنا نجهل، والله لولا رعايتى لحرمته، لألحقته بما يعلم ولقطّعت جلده بالسياط. ذكر سنة اثنين وسبعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفتى عبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان. كل منهما فى محل سلطانه، وعبد العزيز بمصر على حاله، وكذلك المصعب بن الزبير بالعراقين إلى حين قتل فى هذه السنة حسبما نذكر ذلك ملخصا إنشاء الله تعالى. (112) ذكر مقتل مصعب بن الزبير لما فرغ المصعب من قتال المختار، بلغه أن عبد الملك بن مروان قد أقبل إليه، وهو يوميذ بالبصرة، قد جاء من عند أخيه عبد الله، وكانت الحرورية الخوارج قد نزلوا سوق الأهواز، وعليهم يوميذ قطرىّ بن الفجاءة. فقال المصعب للمهلب: اخرج لقتال الحرورية. فقال المهلب: (6) تسعة عشر: فى النجوم الزاهرة 1/ 189؛ «ستة عشر» (13 - 6،174) بلغه. . . البطل: ورد النص فى أنساب الأشراف 5/ 332 - 337،345،347 - 348 باختلاف بسيط

لا تنحّنى عنك فإنى لا آمن عليك. فاجعلنى قريبا منك. فقال المصعب إن أهل البصرة قد أبوا أن يسيروا معى لقتال عبد الملك، إلا أن أبعثك إلى الخوارج خشية من الحرورية لا يطرقوا ديارهم فى غيبتهم معى. فقال: لست آمن غدرهم بك. وكان أهل البصرة قد كاتبوا عبد الملك وكاتبهم، ولم يبق منهم من لم يكاتبه إلى المهلب. وسار عبد الملك إلى المصعب، وسار المصعب إليه. فلما اصطفوا للقتال مالوا إلى عبد الملك، وبقى المصعب فى خفّ من الناس. فقال المصعب لابنه عيسى: يا بنى، انصرف فإنى أخاف عليك. قال: والله يا به، لا أخبرت قريشا عن مصرعك أبدا. فقال: يا بنى، تقدم إذا. فتقدّم وقتل. وأقبل عبيد الله بن ظبيان راكبا إلى مصعب وكان قد عاد راجلا، فطعنه فقتله ونزل فاحتزّ رأسه. ثم أتى عبد الملك فوضعه بين يديه وقال <من الطويل>: نعاطى الملوك الحقّ ما قسطوا لنا … وليس علينا قتلهم بمحرّم فخرّ عبد الملك ساجدا. فكان ابن ظبيان يقول بعد ذلك: ما ندمت على شئ قط ندامتى على أن لا أكون ضربت رأس عبد الملك حين سجد وأرحت الناس منهما جميعا، وأكون قد قتلت أفتك الناس بأشجع الناس وفتكت بملكى العرب. وكان عبد الله بن أبى فروة مع المصعب (113) حين قتل فهرب إلى عبد الله بن الزبير، فجعل فيه عبد الملك لمن يردّه ماية ألف درهم ف‍ [لم يلح‍] ق. فلما وصل ابن أبى فروة إلى عبد الله بن الزبير قال له: أخبرنى عن الناس. قال: يا أمير المؤمنين، خرجنا مع المصعب حتى رأينا عبد الملك (19) يردّه: فى أنساب الأشراف 5/ 334: «رده»

مال الناس براياتهم إليه. فلما رأيت المصعب فى قلة من الناس أتيته بأفراس قد أضمرتها فهى مثل القداح. فقلت: اركب فالحق أمير المؤمنين، فدثّ فى صدرى دثة. وقال: ليس أخوك بالعبد، وأحببت أنا الحياة. فانصرفت. فقال عبد الله بن الزبير: حسبنا الله ونعم الوكيل. وكان عبد الملك حين أتى المصعب فى خمسين ألفا، وحضر معه زفر بن الحرث-ولم يقاتل-وقتل مصعب بمسكن. وكان لما كتب عبد الملك إلى الأشراف من أهل البصرة كتب إلى ابن الأشتر، وهو يعده بولاية العراق. فدفع ابن الأشتر كتابه لمصعب وقال: أصلح الله الأمير، إن عبد الملك لم يكتب إلىّ بهذا إلا وقد كتب إلى هؤلاء الوجوه بمثله. وقد والله أفسدهم عليك، وإنى أرى أن تأخذ وجوه أهل المصرين فتشدّهم بالحديد. فقال له مصعب: يا با النعمان أنأخذ الناس بالظنّة؟ قال: فاجمعهم بموضع لا يشهدوا فيه الحرب معك: قال: إذا أفسد قلوب عشايرهم، قال: فابعث إلى أخيك بمكة. قال: ليس برأى. قال: ولما خرج عبد الملك لقتال المصعب، بكت عاتكة بنت يزيد ابن معوية زوجة عبد الملك وبكت جواريها إشفاقا عليه. فقال عبد الملك: كأنّ كثيّر عزّة رأى ما نحن فيه إذ يقول <من الطويل>: إذا ما أرادوا الغزو لم يثن عزمه … حصان عليها نظم درّ يزينها (3) أنا الحياة: فى أنساب الأشراف 5/ 334: «الحياة» (13) ليس: فى أنساب الأشراف 5/ 337: «ليس هذا» (14) قال: قارن أنساب الأشراف 5/ 337 (17 - 1،172) إذا. . . قطينه: ورد البيتان أيضا فى ديوان كثير عزة 39،242

نهته فلمّا لم ترا النّهى عاقه … بكت فبكى ممّا شجاها قطينها (114) وقال مصعب يوما: يرحم الله أبا بحر يعنى الأحنف. لقد كان يقول لى: لا تلق بأهل العراق عدوا، فإنهم كالمومسة تريد كل يوم بعلا، وهم يريدون كل يوم أميرا. قال عبد الملك يوما لجلسايه: من أشدّ الناس؟ قالوا: أمير المؤمنين. قال: اسلكوا غير هذه الطريق. قالوا: عمير بن الحباب. قال: قبّحه الله، ثوب ينازع عليه أعزّ عليه من نفسه ودينه. قالوا: فشبيب. قال إن للحرورية طريقا. قالوا: فمن، يامير المؤمنين؟ قال: مصعب بن الزبير. كانت عنده عقيلتا العرب سكينة وعايشة. ثم هو أكثر الناس مالا. وجعلت له الأمان ووليته العراق، وعلم أنى أفى له لصداقة كانت بينى وبينه. فأبا وقاتل حتى قتل. فقال رجل: كان مصعب يشرب الخمر. قال: قد كان ذاك قبل أن يطلب المروة. فأما مذ طلبها، فلو ظنّ أن الماء البارد يفسد مروته ما ذاقه. قتل مصعب بن الزبير لثمان بقين من جمادى الأولى سنة اثنين وسبعين، وله من العمر ست وثلثين سنة والله أعلم. ولما بلغ عبد الله بن الزبير مقتل أخيه المصعب، أمسك عن ذكره، (7) ثوب: فى أنساب الأشراف 5/ 345: «لصّ ثوب» (14 - 15) قتل. . . سبعين: فى الكامل 4/ 323 (حوادث 71): «فى هذه السنة قتل مصعب. . . فى جمادى الآخرة»، انظر أيضا تاريخ الطبرى 2/ 813 (حوادث 71)؛ وفقا للامنس، مقالة «مصعب بن الزبير»، توفى حوالى منتصف جمادى الأولى سنة 72

وأضرب عنه حتى تحدّث به إماء مكّة. فصعد المنبر وجلس عليه مليا لا يتكلم، والكاآبه بادية عليه، وجبينه يرشح عرقا. فقال الناس: أترونه يهاب المنطق، والله إنه لخطيب جرئ. فقال بعضهم: لعله يريد ذكر مصعب سيد العرب. ثم إنه قام فقال: الحمد لله الذى له الخلق والأمر، ملك الدنيا والآخرة {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ألا إنه لم يذلّ امرء كان الحق معه، وإن كان فردا، ولم يعزّ أحد (116) من الباطل أولياء وإن كان الناس معه طرّا، أتانا خبر من العراق أحزننا وأفرحنا وأساءنا وسرّنا. أتانا قتل مصعب بن الزبير رحمه الله. فأمّا الذى أحزننا من ذلك فإنّ لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند فراق حميمه. ثم يرعوى ذو الرأى والدين والحجى والنهى إلى جميل الصبر وكريم العزاء. وأما الذى أسرّنا من ذلك فقد علمنا أنّ قتله شهادة وأنّ الله عز وجل فاعل ذلك لنا وله خيرة، إنّ أهل العراق أهل غدر وشقاق، أسلموه وباعوه بأقلّ ثمن وأخسّه. فقتل وإن قتل فمه قد قتل أبوه وعمه، وهما من الخيار الصالحين، إنّا والله ما نموت حبجا، ما نموت إلا قتلا قعصا قعصا بأطراف الرماح وظباة السيوف، ليس كما نموت بنو مروان فى حجالهم، (7 - 8) الباطل أولياء: فى أنساب الأشراف 5/ 347: «أولياء الباطل» (8) إن: فى أنساب الأشراف 5/ 347: «لو»

ذكر الحجاج ونسبه ولمعا من خبره

فو الله ما قتل منهم رجل قط فى جاهلية ولا إسلام، ولين ابتليت بالمصيبة لمصعب، لقد ابتليت قبله بالمصيبة بإمامى عثمان. ألا وإنما الدنيا عاريّة من الملك الجبار الذى لا يبيد ملكه ولا يزول سلطانه. فإن تقبل علىّ لا آخذها أخذ الأشر البطر، وإن تدبر عنّى لا أبكى عليها بكاء الخرف الهتر. ثم نزل، وهو يقول <من البسيط>: لقد عجبت وما بالدهر من عجب … أنّى قتلت وأنت الحازم البطل وفيها نفذ عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف لحصار ابن الزبير كما يأتى ذلك بعد ذكر الحجاج وأخباره فى سياق ما نذكر إنشاء الله تعالى. ذكر الحجاج ونسبه ولمعا من خبره أما نسبه فيكنى بأبى محمد الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبى عقيل الثقفى. أمه الفارغة بنت مسعود الثقفية، وكانت تحت المغيرة بن شعبة (117) من قبل ولم تلد له. فدخل عليها ذات يوم حين أقبل من صلاة الغداء وهى تخلل. فقال: يا فارغة، لين كان هذا التخلل من غداء اليوم إنك لشجعة، وإن كان من عشاء البارحة إنك لبشعة، اعتدّى فأنتى (9 - 15،176) ذكر. . . العراقين: قارن وفيات الأعيان 2/ 29 - 54 (14) لشجعة: فى وفيات الأعيان 2/ 30: «شرهة» //لبشعة: فى وفيات الأعيان 2/ 30: «قذرة»

طالق. فقالت: سخنت عينك من مطلاق، ما هو والله من ذا ولا من ذاك، ولكنى استكت فتخللت من شضية من السواك. قال: فاسترجع وندم. ثم خرج فلقى يوسف بن الحكم أبى الحجاج فقال: إنى نزلت الساعة عن سيدة نساء ثقيف، فتزوّجها فإنها ستنجب لك، فتزوّجها. فولدت له الحجاج. وكان يسمى كليبا، وسبب ذلك أنه لما ولدته أمه امتنع من أخذ الثدى، فاغتم أبوه لذلك. وأقام كذلك ثلثة أيام حتى يأس من حياته، فحضر إليهم شيخ اللحى أعور باليمين فى زى حكيم من حكماء العرب، فشكى أبو الحجاج له أمر ولده فقال: ينظر إلى كلبة سوداء ليس بها بياض ذات جرى فيذبح له من جراها جروا أسودا ويلطخ بدمه فاه وثدى المرضعة. ففعل ذلك فقبل الثدى لوقته. وقيل: إن ذلك الشيخ الأعور كان إبليس لعنه الله، وانتشأ الحجاج ولقب بكليب بهذا السبب. ثم إنه صار فى شرطة روح بن زنباع الجذامى كاتب عبد الملك، وكان شهما مقداما، وكان روح بن زنباع يخصّه بالمعضلات من الأمور، فشكى عبد الملك يوما لروح بن زنباع: تخلّف العسكر، وأنهم لا يركبون لركوبه ويتثاقلون فى المسير. فقال له روح بن زنباع: يا أمير المؤمنين، فى شرطتى رجل، إن وليته هذا الأمر كفاك همه. فأمر بإحضاره وسأله عن نسبه فانتسب له، فولاه أمر الجيش. فقام بذلك أحسن قيام وعاد لا (118) يستقر أحد بعد ركوب أمير المؤمنين. فبينا هو ذات يوم يطوف على ركوب الجيش، وقد نفر الجيش، بكماله لهيبته، إذ وقف بمخيم روح بن زنباع، وهو على حاله،

وحاشيته جلوس يصطبحون، فوقف بهم وقال: ما تخلّفكم بعد ركوب أمير المؤمنين؟ فقالوا له: بدالية لهم عليه: أنزل واصطبح لا أمّ لك. فأمر بهم فسحبوا، وقطع أطناب المخيم وهدمه على رؤوس القوم ودكّهم فى أسرع وقت وأعجله، وهم لا يعقلون بعد تخريق المخيم والإيقاع بهم. فلحقوا بروح بن زنباع صارخين لما نالهم من الحجاج. فعظم ذلك عليه وشكاه لعبد الملك فأحضره وقال: ما حملك على ما فعلت بحاشية أبى زرعة؟ فقال: لست الفاعل أنا، يا أمير المؤمنين. فقال: فمن فعل بهم ذلك وتلك؟ قال: هو أمير المؤمنين، فإن أمرى من أمره وفعلى من فعله، ولو كنت أنا المستبد بذلك لعجزت عن تحريك أثان. فإن رأى أمير المؤمنين أعزه الله أن يعوّض أبا زرعة عن مخيمه من مخيم أمير المؤمنين خاصة نفسه ويطلق لحاشيته إنعاما يظهر لكافة الجيش ويدع أمرى مستقيما فالأمر لأمير المؤمنين. فاستعظم عبد الملك فعله وأعجب بفصاحته وقوة جنانه، وأمر لروح بن زنباع مخيما من خاصه وإنعاما على ساير حاشيته، واستقر بالحجاج على أمره فعظم، فى أعين الناس وهابوه. وأخبأها عبد الملك فى نفسه إلى أن ولاه العراقين. ومن نوادر أخباره أنه لما ولى أسد بن عبد الله عمل ميسان، وكان أسد هذا أحد إخوة لإحدى زوجاته، وهى أسماء بنت عبد الله (119) فانهمك أسد على اللذة، وشرب الخمر، وعسف الناس، فسعوا به إلى

الحجاج فأحضره وأوقفه. وقال له: قبحك الله، لقد أثمت ضراير أختك بها بما فعلت، فقال: وما الذى فعلته أصلح الله الأمير؟ فقال الحجاج: علىّ بالسعاة من أهل إقليمه. فأحضروا جماعة فقال الحجاج: لا يتكلم منكم إلا رجل واحد. فقدموا من بينهم شيخ كوسج اللحية. فقال: ما الذى تشكون من واليكم هذا؟ فقال الشيخ: إنه نعم الأمير. فقال الحجاج: وكيف ويلك، وأنتم السعاة به؟ فقال: أصلح الله [الأمير] إنه أحسن إلينا من جهة أنه أغلا الخمر ببلادنا لكثرة استعماله إياه، ونحن قوم أكثر غلاّتنا الخمر، فتحسنت أسعارها منذ ولى علينا. فقال الحجاج: قبحك الله من شيخ. فما أوجز شكواك وأبلغ سعايتك. فبينا هو فى الكلام، إذ دخل الحاجب مستأذن على بعض أصحاب محمد بن الأشعث، وأنه قد أحضر مستأسرا، فأمر بإحضاره. فلما مثل كلمه ثم أمر بضرب عنقه فضربت، وصارت الرأس بين رجلى أسد بن عبد الله. ثم نظر إليه الحجاج فقال: ما تقول ويلك فيما قال هذا الشيخ عنك؟ فقال: أيها الأمير، إن لى ولك مثلا. فقال: وما هو ويلك؟ فقال: زعموا أن أسدا وذيبا وثعلبا اصطحبوا فحصل لهم ذات يوم من الصيد حمارا وحشيا وضبيا وأرنبا، فوضعهم الأسد بين يديه وقال (15 - 5،178) زعموا. . . يدى: ورد النص فى كتاب الأذكياء 242 - 243 باختلاف بسيط فى اللفظ

للذيب: كيف القسمة يا با جعدة؟ فقال: القسمة بيّنة، الحمار لك والضبى لى والأرنب لأبى الحصين. قال: فلطمه الأسد، أطاح رأس الذيب إلى بين يدى الثعلب ونظر إليه وقال: كيف القسمة يابا الحصين؟ فقال: الحمار لغداك، والضبى لعشاك، والأرنب ما بين ذاك وذاك. فقال: لله درّك، من علّمك هذه القسمة؟ قال: رأس أبا جعدة [التى] بين يدى، وأنا كذلك أيها الأ [مير]. (120) وهل ترك لى هذا الرأس التى بين رجلى من جواب؟ فقال: أغرب إلى لعنة الله. قلت: وقد ذكرنى هذا المثل نظيره، وفيه موعظة حسنة: زعموا أن أسدا وذيبا وثعلبا اصطحبوا برهة من الزمان. فكان الذيب والثعلب يعيشا بفضلات ما يكسّره الأسد ولا يحتاجا إلى سعى فى تحصيل ما يقتاتاه. فحصل للأسد مرضا منعه عن الحركة، وضاق الأمر بالذيب والثعلب، فخرج الثعلب يتسبب له فيما يقتاته. وأفكر الذيب فى حيلة يغير قلب الأسد على الثعلب حتى يكسره ويقتات به. فسأل الأسد وقال: يا با جعدة، ما أرى أبو الحصين. فقال: ترى أن أبا الحصين كان يلوذ بالملك

إلا لما كان يجده عنده من فضلات أبا. . . فلما انقطع لم يكن له صبرا. فخرج يسعى فى مصالح نفسه. فتنمر الأسد غيضا، وظن الذيب أنه أصاب فيه حاجته. فلما عاد الثعلب أخبر بما جرا فدخل على الأسد فوجده متغيرا عليه. فقال: أين كنت، يا خبيث؟ فقبّل الأرض وبكا وقال: إنى أقصد الخلوة بالملك فى مصلحة شأنه. فأخ‍. . . فقال: اعلم أيها الملك أننى لما رأيتك فى هذا المرض الشديد علمت أنك إن هلكت هلكنا لهلكك إذ نحن ما نعيش إلا من فضلك، فدرت على الأطباء والحكماء أستوصف للملك دواء يبريه من علته. فقال الأسد وقد رقّ له وصدقه: فهل علمت لنا بدواء؟ قال: نعم، وهو شيين أحدهما متعذر علينا والآخر حاصلا، وهو أسرعهما نفعا. فقال الأسد: وما هما يا با الحصين جزاك الله عن سعيك خيرا؟ قال: المتعذر منهما قلب فيل يأكله الملك فيبرأ بعد مدة، وهذا متعذر علينا فى هذا الوقت. والآخر خصوتى ذيب تأكلهما فتبرأ فى ساعتك. فقال الأسد: اخرج يا با الحصين واكتم ما معك. (121) وخرج الثعلب وجلس على باب العيصة واستدعى الأسد للذيب فظن أنه يستشيره فيما يصنع بالثعلب. فلما قرب منه وثب الأسد عليه فالتقم

خصوتيه، وقفز الذيب هاربا فجاز على الثعلب، ودمه على ساقيه، فناداه الثعلب: يا صاحب السراويل الأحمر، إذا حضرت مجالس الملوك فلا تذكر إلا خيرا. ولنعود إلى نبذ من ذكر الحجاج، روى أن الحجاج جمع فقهاء العراق الأربعة، منهم الحسن البصرى وعمر بن عبدل والشّعبى، وسألهم عن القضاء والقدر. فقال أحدهم: سمعت أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب صلوات الله عليه يقول: ما حمدت الله عليه فهو منه وما استغفرته منه، فهو منك. وقال الآخر: سمعت أمير المؤمنين علىّ عليه السّلام يقول: إذا كانت الخطية على بن آدم حتما كان القصاص عليها. . . وقال الآخر: سمعت أمير المؤمنين علىّ كرّم الله وجهه يقول: يابن آدم، من وسع عليك الطريق لم يأخذ عليك المضيق. وقال الآخر: سمعت أمير المؤمنين علىّ رضى الله عنه يقول: يابن آدم، انظر أنّ الذى نهاك دهاك إنما دهاك أسفلك وأعلاك، والله برئ من ذاك. فقال الحجاج: أكلّ عن أبى تراب؟ قالوا: نعم. قال: لقد أغرقتموها فى عين طافية. ومما روى أنه قام إلى الحجاج رجل فقال: أيها الأمير، إنّ أبى مات وأنا حمل، وإنّ أمى ماتت وأنا أرضع، وإنّ الرجال كفلتنى حتى بلغ الله بى ما ترى، وإنّ صنيعة لى تقوتنى غلبنى عليها غالب، والأمير أحقّ (13) أبى تراب: يعنى علىّ بن أبى طالب

من ردّ الله به ظلامة المظلوم وردع به ظلم ظالم. فقال الحجاج: أيموت أبوك، وأنت حمل، وتموت أمك، وأنت ترضع، وتكفلك الرجال، وهـ‍ [ذا] (122) بيانك عن نفسك، هو والله أدب الله لا أدب الرجال، يا غلام اصرف المؤدبين عن محمد بن الحجاج. ووقع له بما سأله. وروى أنه قدم أسرى فأمر بقتلهم، فقتل ساعة طويلة. فقام رجل منهم فقال: يا حجاج، لين كنا أسأنا فى الذنب فما أحسنت أنت فى العفو. فقال الحجاج: أفّ لهذه الجيف، أما كان فيهم أحد يحسن يتكلم بمثل هذا؟ ثم أمسك عن القتل، وأما شهادته على نفسه بعيده ما قتل. فقد روى أنه لما حج مع عبد الملك بن مروان بعد قتله ابن الزبير عبر على ناد، وفيه جماعة من قريش فيهم بعض ولد يزيد بن معوية، فنظر إلى الحجاج وهو يتبخطر فى مشيته. فقال: يتبخطر ولا يتخطّر عمرو بن معدى كرب. فسمعه فرجع إليه وقد عرفه فقال: كيف لا أتبخطر وقد قتلت بقا [مة] سيفى ماية ألف، كل منهم يشهد على أبيك يزيد بالزنا وشرب الخمر. فهذه شهادته على نفسه أنه قتل ماية ألف فنعوذ بالله مكر الله. (5 - 8) وروى. . . القتل: انظر البيان 1/ 214؛ وفيات الأعيان 2/ 39 (7) العفو: فى وفيات الأعيان 2/ 39: «العقوبة» (11 - 12) عمرو. . . كرب: انظر وفيات الأعيان 8 (كتاب الفهارس)

وكان آخر من قتل سعيد بن جبير رضى الله عنه، ومن حين قتله اختل فى عقله وعاد يقول: ما لى وما لجبير؟ ما لى وما لجبير؟ حتى مات. ومن مستطرفاته قيل: إن رجلا أهدى للحجاج تينا فى غير أوانه وجلس على الباب ينتظر الجايزة، فأحضرت أناس للقتل، فتسحب منهم شخص واحد فخشى المتستّر على نفسه أن يطالب بتكملة العدة، فأخذ صاحب التين فجعله مكان المتسحب، وأحضروا بين يدى الحجاج فضربت رقابهم، وقدّم صاحب التين لضرب العنق، فصاح وقال: وما جرمتى أنا أيها الأمير؟ فقال: ألست منهم؟ فقال: لا والله، أنا صاحب التين. فضحك الحجاج، وقال: تمنّ علىّ. فقال: لست أسأل غير ثلاث الدراهم. فقال: (123) ويحك وما تصنع بها؟ قال: أشترى بها فاسه وأقطع أصل هذه التينة التى كانت سبب قدومى عليك. قال: فضحك الحجاج حتى فحص برجله وأجازه وأحسن إليه. ويروى أنه قال يوما للشعبى: كم عطاءك فى السنة؟ فقال: ألفين. فقال: ويحك! كم عطاؤك؟ قال: ألفان، قال: كيف لحنت أولا؟ قال: لحن الأمير فلحنت. فلما أعرب الأمير أعربت. وما أمكن أن يلحن الأمير وأعرب أنا. فاستحسن ذلك منه وأجازه. (1 - 2) وكان. . . مات: انظر وفيات الأعيان 2/ 374 (2) ما لى. . . ما لجبير: فى وفيات الأعيان 2/ 374، «ما لى ولسعيد بن جبير» (13 - 8،183) ويروى. . . الله: ورد النص فى وفيات الأعيان 3/ 12 - 13،15

قلت: الشعبى هو أبو عمرو عامر بن شراحيل بن عبد بن ذى كبار، وذو كبار قيل من أقيال اليمن من حمير وعداده فى همدان، وهو كوفى تابعى جليل القدر وافر العلم. روى عن بن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وعن عثمان وعلىّ رضى الله عنهما. ومر به يوما عبد الله بن عمر وهو يحدث بالمغازى. فقال: شهدت القوم وإنه أعلم بها منى. وقال الزهرى رضى الله عنه: العلماء أربعة: بن المسيب بالمدينة والشعبى بالكوفة والحسن البصرى بالبصرة ومكحول بالشام. ويقال إنه أدرك خمس ماية من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد تقدم طرفا من ذكره فى أول جزؤ من هذا التاريخ مما يغنى عن تكراره. [كان مولد الشعبى لأربع سنين من خلافة عمر بن الخطاب. وروى عن خليفة قال: ولد الشعبى والحسن البصرى فى سنة إحدى وعشرين. وقال الأصمعى: فى سنة سبع عشرة بالكوفة، وكان ضييلا نحيفا. فقيل له فى ذلك. فقال: زوحمت فى الرحم، وكان قد ولد هو وأخ له فى بطن. وتوفى بالكوفة سنة خمس وماية وفيه اختلاف. وكان موته فجأة رضى الله عنه. والشعبى بفتح الشين وسكون العين وبعدها باء موحدة، وهذه النسبة (8 - 9) تقدم. . . التاريخ: انظر كنز الدرر 1/ 430؛ فى كنز الدرر 3/ 233 (حوادث 21): «وفيها ولد. . . والشعبى. . .» (10 - 3،184) مولد. . . ذا شعبين: ورد النص فى وفيات الأعيان 3/ 15 - 16 (11) خليفة: يعنى خليفة بن خياط، انظر وفيات الأعيان 3/ 15 - 16

ذكر سنة ثلث وسبعين النيل المبارك فى هذه السنة

إلى شعب وهو بطن من همدان. وقال الجوهرى: هذه النسبة إلى جبل باليمن نزله. . . المغرب قيل لهم: الأشعوب، ومن كان منهم بالشام قيل لهم: شعبانيون، ومن كان باليمن قيل لهم: ذا شعبين والله أعلم]، ولنعود إلى سياقة التاريخ. ذكر سنة ثلث وسبعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وتسعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثلثة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة عبد الملك بن مروان، وعبد الله بن الزبير محصور بمكة، والحجاج محاصره من قبل عبد الملك بن مروان. وكان ابتداء الحصار (124) أول ليلة من شهر ذى الحجة سنة اثنين وسبعين، وكان لما قتل عبد الملك لمصعب بن الزبير ودخل الكوفة دانت له العراق، وخلعوا بيعة ابن الزبير وبايعوا بالخلافة لعبد الملك بن مروان، وكبر سلطانه ودانت الأمصار لطاعته، نفذ هنالك الحجاج بن يوسف فى خمسة ألف فارس، وقيل ثلاثة آلاف. فلما توجه قال الهيثم بن الأسود (2). . .: فى وفيات الأعيان 3/ 15 - 16: «حسان بن عمرو الحميرى هو وولده ودفن به، وهو ذو شعبين، فمن كان بالكوفة منهم قيل لهم: شعبيون، ومن كان منهم بمصر والمغرب قيل لهم: الأشعوب. . .» (7) ستة: فى النجوم الزاهرة 1/ 191: «سبعة» (13 - 17،185) وكان. . . تمرا: ورد النص فى أنساب الأشراف 5/ 357 - 358،360 - 361

لعبد الملك: يا أمير المؤمنين، أوص هذا الغلام الثقفى بالكعبة، ومره لا ينفّر أطيارها، ولا يهتك أستار أحجارها، وأن يأخذ على بن الزبير شعابها وأنقابها، حتى يموت فيها جوعا، أو يخرج منها مخلوعا. فقال عبد الملك للحجاج: كذلك فافعل. وحاصر الحجاج لابن الزبير ونصب المنجنيق على أبى قبيس. وكانت مدة الحصار ستة أشهر، وهو الحصار الثانى. وحج فى هذه السنة عبد الله بن عمر، فأرسل إلى الحجاج أن اتّق الله عز وجل واكفف هذه الحجارة عن الناس فإنك فى شهر حرام وبلد حرام. وقد قدمت وفود الله يضربون آباط الإبل ويمشون على أقدامهم من أقطار الأرض ليؤدّوا فريضة الله عز وجل. فكف الحجاج عن الرمى ولم يعرض ابن الزبير للحاج، ونادى الحجاج فى الناس بعد فراغهم أن انصرفوا إلى بلادكم فإنّا نعود على الملحد بالمنجنيق. وسأل الحجاج ابن الزبير أن يطوف بالبيت فلم يأذن له ولم يأذن الحجاج أيضا لابن الزبير أن يقف بعرفة. وكان عبد الملك قد أنكر رمى البيت فى أيام يزيد. ثم أمر الحجاج بذلك، فتعجب الناس منه وقالوا: خذل فى دينه. وجاع أهل مكة حتى نحر ابن الزبير فرسه وأطعمه الناس، وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم، وبلغ مدّ الذرة عشرين درهما وبيوت (125) بن الزبير مملوة برّا وشعيرا وذرة وتمرا. هذا ما رواه صاحب كتاب التذكرة الحمدونية، وفيه شئ من المناقضة، فإنه قال أولا إن بن الزبير احتاج حتى ذبح فرسه وأطعمه للناس. ثم قال: (18) صاحب. . . الحمدونية: انظر هنا ص 103، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 13

وكانت بيوته مملوة خيرا. والصحيح أنه كان شحيحا جدا. ويدل على ذلك قوله: أكلتم تمرى، وعصيتم أمرى، فما قيمة التمر حتى يمنّ به، وما أحسن قول بعض البلغاء ها هنا: إذا ملك لم يكن ذا هبة، فدولته ذاهبة وكان الحجاج يرمى فتقع الحجارة بين يدى بن الزبير وهو يصلى فلا يبرح، وتقول أصحابه: تنحّ، فيقول <من المتقارب>: وسهّل عليك فإنّ الأمور … بكفّ الإله مقاديرها فليس ياتيك منهيّها … ولا قاصر عنك مأمورها ووقعت صاعقة على المنجنيق فأحرقته وقتلت جماعة ممن كان يرمى به، فذعر أهل الشام فقال لهم الحجاج: أنا بن تهامة، وهى بلاد كثرة الصواعق فلا يروعنّكم ما ترون، فإنّ من كان قبلكم كانوا إذا قرّبوا قربانا أتت النار إليه فأكلته فتكون النار علامة القبول. ثم دعا بمنجنيق غيره فرمى به. وكان أصحاب بن الزبير يشيرون عليه بتبيت الحجاج فيأبى ويقول إنا لا نقبل البيات ولا يصلح لنا. (5 - 14) وكان. . . لنا: ورد النص فى أنساب الأشراف 5/ 362،366

ذكر مقتل بن الزبير رحمه الله

ذكر مقتل بن الزبير رحمه الله وكان يقال لابن الزبير: ادخل الكعبة فيقول: ما باطن الكعبة إلا كظاهرها عند الحجاج ولكنى أصبر وأحتسب. وشرب بن الزبير الصبر أياما، ثم المسك مخافة أن يصلب فيشّم منه ما يكره، ولما قتل وصلب ربط إلى جنبه هرة ميتة. فغلبت رايحة المسك عل (126) ريحها. وقالت له أمه أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنهما قبل قتله بيوم: والله ما أنتظر إلا أن تظفر فأسرّ بك أو تقتل فأحتسبك، فإن كنت على حق وبصيرة فى أمرك فما أولاك بالجدّ ومنازلتهم. فقال: والله لست أخاف الموت ولكنى أخشى المثلة. فقالت: يا بنى، الشاة المذبوحة لا تألم بالسلخ. وخرج بن الزبير فحمل على الناس فكشفهم، وقامت أمه تدعوا الله عز وجل وتقول: اللهم إنه كان معظما لحرمتك وقد جاهد فيك أعداءك، وبذل فيهم نفسه رجاء ثوابك فلا تخيّبه اللهم ارحم طول ذلك السجود، وذلك الظماء فى الهواجر، وإنى لا أقول ذلك تزكية له ولكنه الذى أعلم منه وأنت أعلم بسرّه وعلانيته، اللهم إنه كان برّا بوالديه فاشكر ذلك له. (2 - 7،190) وكان. . . أخيار: ورد النص فى أنساب الأشراف 5/ 195،364 - 369، 371 - 372،377 باختلاف متفارق

وقال ابن أبى مليكة: ما ما رأيت أحدا أحسن مناجاة لربّه من بن الزبير. فلما كان اليوم الذى قتل فيه جاء إلى أمه وعليه درعه ومغفره، فودعها وقبّل يدها وخرج. فقاتل أشد قتال، وقتل صاحب علمه وانكشف الناس عنه، وقاتل بغير علم، وشحنت الأبواب بأهل الشام فأصابته رمية فد [ك]، فصاحت زوجته: وأمير المؤمنيناه. وقيل إن أصحاب الحجاج لما شدوا عليه قال: أين أهل مصر؟ فقيل: هم هؤلاء. فقال لأصحابه: اكسروا أغماد سيوفكم. ثم حمل فكان يضرب بسيفين فهزمهم. ثم حمل أهل حمص من باب بنى شيبة. فسأل عنهم فقيل: أهل حمص. فشد عليهم حتى أخرجهم من المسجد، ويقول <من الرجز>: لو كان قرنى واحدا كفيته … أوردته الموت وقد دكّيته ثم جاءه حجر من ناحية الصفا فضربه بين عينيه فنكس رأسه (127) وهو يقول <من الطويل>: ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا، البيت. ثم حمل موليان له وأحدهما يقول: العبد يحمى ربّه ويحتمى. ثم دخلوا عليه فلم يزالوا يخبطوه بالسيوف حتى قتلوه. ولما فرغوا من قتله كبروا تكبيرة واحدة فقال بن عمر رضى الله عنه: التكبير يوم ولد خير. ثم أخذ وصلب. ودخل الحجاج مكة، وسير بالفتح لعبد الملك، وسير برأس عبد الله إليه. (11) لو. . . دكّيته: هذا البيت ناقص فى أنساب الأشراف ج 5 ولكن ورد الصدر فى تاريخ الطبرى 2/ 849؛ العقد الفريد 4/ 416 (13) ولسنا. . . كلومنا: انظر هنا ص 106:1

فلما رآها عبد الملك سجد ونصبها للناس بعد ما بعثها للنواحى، وطلبت أسماء أمه أن تدفنه، فمنعها الحجاج من ذلك فقالت: قاتل الله المبير علام يحول بينى وبين جثّته. ووكّل الحجاج بجثّته من يحرسها وهى على خشبته، فلامه عبد الملك، فمكن أمه من دفن‍ [هـ] فوارته بمقبرة بالحجون، وصلّى عليه عروة بن الزبير أخيه وماتت أمه بعده بقليل. وقيل: إن الحجاج بعث إلى أمه أسماء لتأتينّه ف‍ [لم] تفعل. فقال: لين لم تأتنى لآمرنّ من يجرّ بقرونها. فقالت للرسول: قل لأبى رغال لا آتيه حتى يفعل ما قال. فلبس الحجاج نعليه وأتى إليها. فكان فيما قالت له: إنّ من أعجب ما قلته تعييرك إيّاى بالنطاقين. فليت شعرى بأى نطاقىّ عيّرثنى، أبا الذى كنت أحمل به الطعام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو فى [الغار] أم بنطاقى الذى تنطق به الحرّة فى بيتها. وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لك نطاقان فى الجنة. أما إنى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: فى ثقيف مبير وكذاب. فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت. فانصرف، وهو يقول (7) لأبى رغال: فى أنساب الأشراف 5/ 369: «لابن أبى رغال» (12 - 13) فى ثقيف. . . فأنت: فى الكامل 4/ 361: «. . . فى ثقيف كذّابا ومبيرا، فأمّا الكذّاب فقد رأيناه، تعنى المختار، وأمّا المبير فأنت هو. وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم فى صحيحه»

مبير المنافقين. فقالت: بل عمودهم. وقيل: إنه قال لها: كيف رأيت نصر الله للحق؟ فقالت: ربما أديل الباطل على الحق (128) ليجعل الله ذلك فتنة للقوم الظالمين. وجاء عبد الله بن عمر إلى خشبة ابن الزبير فجعلت ناقته تحتكّ بها، ورايحة المسك تسطع. فقال: رحمك [الله] أبا خبيب، فو الله لقد كنت صواما قوّاما، ولكنّك رفعت الدنيا فوق قدرها، وإنّ قوما أنت من شرارهم لقوم صدق وأخيار. انتهى كلام صاحب كتاب التذكرة فى أخبار بن الزبير ها هنا، ولنعود إلى اختلاف الرواة من أرباب التواريخ، وما أوردوه من طريق الإحصار. قال بن بطريق فى تاريخه: إن الحجاج لما حصر بن الزبير أقام ستة أشهر محصورا، ثم قتله وصلبه بعد أن رمى الكعبة بالمنجنيق وكسر الحجر الأسود، وكانت فى الحصار الأول قد احترقت، وبناها ابن الزبير. وسبب حريقها ما رواه عن أبى بكر الهذلىّ قال: كان سبب بناء الكعبة أن عبد الله بن الزبير لما حاصروه أهل الشام أيام يزيد بن معوية (2) للحق: فى أنساب الأشراف 5/ 371: «الحقّ» (5) أبا خبيب: يعنى عبد الله بن الزبير، انظر فهرس أنساب الأشراف ج 5 (7) صاحب. . . التذكرة: انظر هنا ص 103، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 13 (10) بن (ابن). . . تاريخه: انظر تاريخ ابن بطريق 2/ 40 مع اختلاف كبير (13 - 10،191) عن. . . الهذلىّ: ورد النص فى الأغانى 3/ 277

سمع أصواتا فى الليل فوق الجبل، فخاف أن يكون قد وصلوا إليه. وكانت ليلة ظلماء ذات ريح صعبة ورعد وبرق، فرفع نارا على رأس رمح لينظر الناس، فأطارها الريح إلى أستار الكعبة فاحترقت، واجتهد الناس على إطفايها فلم يقدروا، وأصبحت الكعبة تتهافت، وماتت امرأة من قريش. فخرج الناس كلهم خلف جنازتها خوفا أن ينزل عليهم العذاب، وأصبح بن الزبير ساجدا يدعوا ويقول: اللهم إنى لم أعتمد ما جرا فلا تهلك عبادك بذنبى، وهذه ناصيتى بين يديك. فلما تعالى النهار أمن وتراجع الناس. فقال لهم بن الزبير: الله الله أن ينهدم فى بيت أحدكم حجرا أو يزل عن موضعه فيبنيه ويصلحه، أو نترك الكعبة خرابا. ثم هدمها (129) مبتديا بيده وتبعه الفعلة حتى بلغوا قواعدها، ودعا ببنّايين من الفرس فبناها، انتهى كلام أبو بكر الهذلىّ. ولنذكر اختلاف الرواة فيما ذكروه عن أم عبد الله بن الزبير، فمنهم من روى أنها لم تعش بعده إلا عشرة أيام وتوفيت رضى الله عنها، ومنهم من روى أن الحجاج لما صلب ولدها عبد الله آلا على نفسه أنه لا ينزله عن خشبته أو تأتى أمه وتشفع فيه. فلبث حولا كاملا حتى عشش الطير فى جمجمته، والناس يلومون أمه فلما صار له حولا أتت إلى الحجاج، وهو فى مجلسه. فقالت: فرح الله الأمير أما آن لهذا الخطيب أن ينزل عن منبره؟ فأمر بنزوله، وقال لمن حوله: ألا انظروا إلى فعلها! صبرت حولا كاملا، وجعلت ولدها (8) أو نترك: فى الأغانى 3/ 277: «وأترك»

خطيبا حيا وميتا، وكلمتنا بكلام لم نر. . . منه فقال الحاضرون: لم نسمع منها إلا خيرا! فقال أما وعبد. . . من قولها فرّح الله الأمير، فإنها أعنت إلى قوله تعالى {حَتّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً}. واختلفوا أيضا فى تاريخ قتله، فمنهم من قال: كانت قتلة بن الزبير يوم الثلثاء لست عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى من هذه السنة، ومنهم من قال لعشر خلون منه، ومنهم من قال لإحدى عشرة ليلة من جمادى الآخرة، وأجمعوا أن قتلته فى سنة ثلث وسبعين بلا خلاف والله أعلم. مدة سلطانه تسع سنين وعشرة. . . [أعرق الأشراف فى القتل عمارة بن حمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوّام بن خويلد، فعمارة وحمزة قتلا، قتلهم الإباضيّة يوم قديد، (5 - 7) لست. . . الآخرة: فى الكامل 4/ 356 (حوادث 73): «فقتلوه يوم الثلاثاء من جمادى الآخرة»؛ فى تاريخ القضاعى، ص 133: «لثلث عشرة ليلة بقيت من جمدى [كذا] الأولى سنة ثلث وسبعين، وقيل فى جمدى [كذا] الآخرة»؛ وفقا لجب، مقالة «عبد الله ابن الزبير» 54، توفى فى 17 جمادى الأولى أو 17 جمادى الآخرة سنة 73 (8) عشرة. . .: فى تاريخ القضاعى، ص 133: «اثنين وعشرين يوما» (9 - 2،193) أعرق. . . خزاعة: قارن التذكرة الحمدونية 2/ 478؛ كنز الدرر 1/ 397؛ لطائف المعارف 66 - 67 (9) عبد الله: فى كنز الدرر 1/ 397؛ لطائف المعارف 66: «مصعب» (10) قتلا. . . قديد: فى كنز الدرر 1/ 397: «قتلا معا يوم قديد فى حرب الإباضيّة»، انظر أيضا لطائف المعارف 67 وأيضا قديد: انظر لطائف المعارف 67 حاشية 1

صفته رضى الله عنه

وعبد الله قتله الحجاج، والزبير قتله بن جرموز السعدى بوادى السّباع، والعوام قتله كنانة، وخويلد قتله بنو كعب بن عمر بن خزاعة]. صفته رضى الله عنه هو أحد السادات الطلس الأربعة وقد تقدم ذكرهم. وكان ربعة، عريض الصدر، غليظ العظم، أدخس العينين، أطلس الوجه ليس به شعر. ذكر كتّابه رحمة الله عليه (130) عبد الله بن أرقم الزهرى، وقال القضاعى: زمل ابن عمرو. حاجبه سالم مولاه. نقش خاتمه لكل أجل كتاب. ذكر سنة أربع وسبعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. (1) بوادى السّباع: انظر لطائف المعارف 67 حاشية 5 (7) عبد الله. . . الزهرى: انظر التفاصيل فى أنساب الأشراف 5/ 58 - /59/القضاعى: انظر تاريخ القضاعى، ص /133/زمل ابن (بن) عمرو: قارن هنا ص 123، الهامش الموضوعى، حاشية سطرين 5 - 6؛ فى نهاية الأرب 21/ 143: «زيد بن عمرو»

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفة عبد الملك بن مروان، وأخوه عبد العزيز بمصر، والقاضى بشير بن نصر بحاله، والحجاج فى هذه السنة بالحجاز. وعبد الملك أول من سمّى بعبد الملك وأول من لقب بالموفّق. وكان مغرا بحب الشعر والشعراء. وروى أن بعض نسايه قالت له ذات يوم: يا أمير المؤمنين، لم لا تستاك؟ فقال: لأتخذن سواك. وفارقها. وكان عروة بن الزبير قد شخص إلى عبد الملك، فلما قدم الشام استأذن عبد الملك فأذن له، فلما دخل سلّم عليه بالخلافة فسر عبد الملك فعانقه وأكرمه وأجلسه على سريره فأنشد <من الطويل>: نمتّ بأرحام إليك قريبة … ولا قرب للأرحام ما لم تقرّب ثم جرى ذكر ابن الزبير فترحم عليه وقال: رحم الله عبد الله. فخرّ عروة ساجدا. ثم كتب الحجاج لعبد الملك يخبره أن عروة أخذ أموالا جمة لعبد الله أخيه فسيّره إلىّ. فوصل الكتاب، وعروة بمجلس عبد الملك. فقال للرسول: خذه. فقام عروة وهو يقول: ليس الذليل والله من قتلتموه، الذليل من ملكتموه. فاستحى عبد الملك وأمر بتخليته، وقيل إن عروة (131) قال: ليس بملوم من صبر حتى مات كريما ولكن من عاف (3) بشير بن نصر (الأصح: النضر): قارن هنا ص 147، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 11 (4) عبد الملك. . . الموفّق: ورد النص فى لطائف المعارف 18، انظر أيضا لطائف 18 حاشية 2، والمراجع المذكورة هناك (5 - 6) قالت. . . سواك: ورد النص فى لطائف المعارف 36 (6) لأتخذن سواك: فى لطائف المعارف 36: «فيك أستاك» (7 - 1،195) وكان. . . الكلام: ورد النص فى أنساب الأشراف 5/ 370 - 371 مع اختلاف بسيط (16 - 1،195) من. . . الكلام: فى أنساب الأشراف 5/ 371: «من خاف من الموت وسمع مثل هذا الكلام»

الموت سمع مثل هذا الكلام. وكتب عبد الملك إلى الحجاج ينهاه عن معارضة عروة. وكان عروة فقيها ناسكا وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة الذى اقتبس منهم أنوار الدين. وسمع خالته عايشة رضى الله عنها، وروى عنه ابن شهاب والزهرى وغيره. وروى أنه وفد على عبد الملك بعد ذلك وعنده الحجاج فدار بينهم كلام. فقال عروة: قال أبو بكر يعنى أخاه عبد الله بن الزبير، فقال له الحجاج: أتكنى منافقا عند أمير المؤمنين؟ فقال عروة: ألى تقول لا أمّ لك، وأنا ابن عجايز الجنّة، أمّى أسماء بنت أبى بكر الصديق، وجدتى صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخالتى عايشة زوج النبى صلّى الله عليه وسلم وعمتى خديجة. ولما بشر عبد الملك بقتل عبد الله بن الزبير دعا بمقصّ فأخذ من ناصيته وناصية صغار بيته ومن ناصية روح بن زنباع وقال: أنت منا. وروى أن عروة لما قدم على عبد الملك قال له يوما: أريد أن تهبنى سيف أخى عبد الله، فقال: هو بين ا [لسيوف] ولا أميزه. فقال عروة: إذا حضرت السيوف ميزته. فأحضرت. فأخذ منها سيفا مفللا فقال: هذا (3 - 5) هو. . . غيره: ورد النص فى وفيات الأعيان 3/ 255 (6 - 13) روى. . . منا: ورد النص فى أنساب الأشراف 5/ 371،377 (8) أتكنى: فى أنساب الأشراف 5/ 371: «لا أمّ لك أتكنى» (14 - 10،196) عروة. . . به: ورد النص فى وفيات الأعيان 3/ 255 - 257

ذكر سنة خمس وسبعين النيل المبارك فى هذه السنة

سيف أخى عبد الله. فقال عبد الملك: أو كنت تعرفه قبل اليوم؟ قال: لا ولكن عرفته بقول النابغة <من الطويل>: ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم … بهنّ فلول من قراع الكتايب وأصابته الأكلة فى رجله فقطعت بمشورة الحكماء فى مجلس الوليد ابن عبد الملك، والوليد مشغول عنه بمن يحدثه، فلم يتحرك لها ولم يشعر به الوليد أنها قطعت حتى كويت فوجد رايحة الكى، هاكذى قال (132) ابن قتيبة فى كتاب المعارف، ولم يترك ورده تلك الليلة. ومات ابنه محمد الذى كان يسمى الديباج لحسنه، وهو فى تلك السفرة. فلما عاد إلى المدينة قال: {لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً}، وعاش بعد قطع رجله ثمان سنين، وهو الذى احتفر بير عروة فعرفت به. ذكر سنة خمس وسبعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وسبعة أصابع. مبلغ الزيادة ثلثة عشر ذراعا وتسعة أصابع. (6) يشعر به: فى وفيات الأعيان 3/ 255: «يشعر» (7) ابن. . . المعارف: انظر المعارف 114 (8) ومات: فى وفيات الأعيان 3/ 255: «ويقال: إنه مات»

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفة عبد الملك بن مروان مقيما بدمشق، وعبد العزيز بمصر بحاله، والقاضى بها بشير، وعلى العراقين بشر بن مروان أخى عبد الملك، والحجاج على الحرمين بالحجاز. فيها ضرب عبد الملك سكة الدنانير و [الدراهم] بالعربية. وفيها قدم نصيب الشاعر الموصوف على عبد العزيز بمصر. ذكر نصيب وخبره ولمعا من شعره هو نصيب بن رباح مولى لعبد العزيز بن مروان، وكان لبعض العرب من بنى كنانة الساكنين بودّان، فاشتراه عبد العزيز بن مروان منهم وقيل: بل كانوا أعتقوه، فاشترى عبد العزيز ولاءه منهم. وقال أبو اليقضان: كان أبوه من كنانة من بنى ضمرة، وكان شاعرا فحلا فصيحا مقدّما فى النّسيب والمديح، ولم يكن له حظّ فى الهجاء. (3) بشير: قارن هنا ص 147، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 11 (5) و [الدراهم] بالعربية: فى درر التيجان 77 آ:1 - 2 (حوادث 75): «والفضة وقيل الدراهم»، قارن أيضا النجوم الزاهرة 1/ 193 (7 - 2،213) ذكر. . . انصرفن: ورد النص فى الأغانى 1/ 324 - 331،333 - 335، 340،342،352،354،356 - 357،359 - 360،376 - 377، انظر أيضا شعر نصيب بن رباح (8) رباح: انظر الأغانى 1/ 324 حاشية 1 (9) بودّان: انظر الأغانى 1/ 324 حاشية 2

وعن أيوب بن عباية قال: حدثنى رجل من خزاعة من أهل كليّة، وهى قرية كان يكون بها النّصيب وكثيّر قال: بلغنى أن النصيب قال: قلت الشعر وأنا شابّ فأعجبنى قولى، فجعلت آتى مشيخة من بنى (133) ضمرة بنى بكر بن عبد مناة، وهم موالى النّصيب، ومشيخة من خزاعة فأنشدهم القصيدة من شعرى ثم أنسبها إلى بعض شعرايهم الماضين. فيقولون: أحسن والله! هكذا الشعر! وهكذا الكلام! فلما سمعت ذلك منهم علمت أنى محسن، فأجمعت على الخروج إلى عبد العزيز بن مروان وهو يوميذ بمصر. فقلت لأختى أمامة، وكانت عاقلة جلدة: أى أخيّة، إنى قد قلت الشعر وأنا أريد به عبد العزيز بن مروان، وأرجوا أن يعتقك الله عز وجل به وأمّك ومن كان مرقوقا من أهل قرابتى. قالت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون! يابن أمّ، أتجمع عليك الخصلتان: السّواد، وأن تكون ضحكة للناس! قلت: فاستمعى، ثم أنشدتها فسمعت. فقالت: بأبى والله أحسنت! فى هذا والله رجاء عظيم، اخرج على بركة الله. فخرجت على قعود لى حتى قدمت المدينة فوجدت بها الفرزدق فى مسجد النبى صلّى الله عليه وسلّم فعرّجت إليه فقلت: أنشده وأستنشده وأعرض عليه شعرى. فأنشدته فقال لى: ويلك! هذا شعرك الذى تطلب به الملوك! (1) الكليّة: انظر الأغانى 1/ 325 حاشية 2 (7) فأجمعت: فى الأغانى 1/ 325: «فأزمعت»، انظر الأغانى 1/ 325 حاشية 3 (11) أتجمع: فى الأغانى 1/ 326: «أتجتمع» (12) ضحكة: انظر الأغانى 1/ 326 حاشية /1/ثم أنشدتها: فى الأغانى 1/ 326: «فأنشدتها» //بأبى: فى الأغانى 1/ 326: «بأبى أنت!»

قلت: نعم. قال: فلست فى شئ، إن استطعت أن تكتم على نفسك فافعل. قال: فانتضحت عرقا فحصبنى رجل من قريش كان قريبا من الفرزدق، وقد سمع إنشادى وسمع ما قال لى الفرزدق، فأومأ إلىّ فقمت إليه، فقال لى: ويحك! هذا شعرك الذى أنشدته الفرزدق؟ قلت: نعم. قال: فقد والله أحسنت، والله لين كان الفرزدق شاعرا-إنا لنعرف محاسن الشعر-وقد والله حسدك فامض لوجهك ولا يكسرنّك ما قال. فسرّنى قوله وعلمت أنه قد صدقنى فيما قال. (134) قال: فاعتزمت على المضىّ، فمضيت فقدمت مصر، وبها عبد العزيز بن مروان. فحضرت بابه مع الناس، فنحّيت عن مجلس الوجوه فكنت ورائهم ورأيت رجلا على بغلة حسن المدخل، يؤذن له إذا جاء. فانصرف إلى منزله. فانصرفت معه أماشى بغلته. فلما رآنى قال: ألك حاجة؟ قلت: نعم، أنا رجل من أهل الحجاز شاعر، وقد مدحت الأمير وخرجت إليه راجيا لمعروفه، وقد رددت من الباب ونحّيت، قال: فأنشدنى. فأنشدته فأعجبه شعرى. فقال: ويحك! هذا شعرك؟ إياك أن تنتحل فإن الأمير راوية عالم بالشعر وعنده رواة. فلا تفضحنى ونفسك، قال: فقلت: والله ما هو إلا شعرى. قال: فقل أبياتا تذكر فيها حوف مصر وفضلها على غيرها، والقنا بها غدا. فغدوت عليه من الغد فأنشده قولى <من الطويل>: (2) فانتضحت عرقا: فى الأغانى 1/ 326: فانفضحت عرفا، فى الأغانى 1/ 326 حاشية 2: «تدفقت عرفا» (5 - 6) إنا. . . حسدك: فى الأغانى 1/ 326: «لقد حسدك، فإنا لنعرف محاسن الشعر» (16) حوف: انظر الأغانى 1/ 327 حاشية 1

سرى الهمّ حتى تثنينى طلايعه … بمصر وبالحوف اعترتنى روايعه وبات وسادى ساعد قلّ لحمه … عن العظم حتى كاد تبدوا أشاجعه وذكر فيها الغيث فقال <من الطويل>: وكم دون ذاك العارض البارق الذى … له اشتقت من وجه أسيل مدامعه تمشّ به أفناء بكر ومذحج … وأفناء عمر وهو خصب مراتعه فكلّ مسيل من تهامة طيّب … دميت الربى تسقى النجاد دوافعه أعنّى على برق أريك وميضه … يضئ دجنّات الظّلاّم لوامعه إذا اكتحلت عينا محبّ بضوءه … تخافت به حتّى الصّباح مضاجعه وكم تحت ذاك العارض اللامح الذى … له اشتقت من زهر يروق ليانعه وما زلت حتّى قلت إنّى لخالع … ولاى من مولّى نمتنى فوارعه (135) ومانح قوم أنت منهم مودّتى … ومتّخذ مولاك مولى فتابعه (1) سرى. . . طلايعه: فى الأغانى 1/ 327؛ شعر نصيب بن رباح ص 103: «سرى الهمّ تثنينى إليك طلائعه» (3) ذكر. . . فقال: فى الأغانى 1/ 327: «ذكرت. . . فقلت» (5) أفناء: انظر الأغانى 1/ 327 حاشية 4 (6) دوافعه: انظر الأغانى 1/ 327 حاشية 7 (9) وكم. . . ليانعه: فى الأغانى 1/ 327؛ شعر نصيب بن رباح ص 103: «وكم دون ذاك العارض البارق الذى … له اشتقت من وجه أسيل مدامعه» (10) فوارعه: انظر الأغانى 1/ 328 حاشية 1

فقال: حسبك، أنت والله شاعر! احضر الباب فإنى أذكرك، قال: فجلست على الباب ودخل، فما ظننت أنه أمكنه أن يذكرنى حتى دعا بى فدخلت فسلّمت على عبد العزيز فصعّد فىّ بصره وصوّب. ثم قال: أشاعر؟ ويلك! قلت: نعم، أصلح الله الأمير. قال: فأنشدنى، فنشدته فأعجبه شعرى. وجاء الحاجب وقال: أيها الأمير، هذا أيمن بن خريم الأسدى بالباب. فقال: ايذن له. فدخل واطمأنّ. فقال له عبد العزيز: يا أيمن كم ترى ثمن هذا العبد؟ فنظر إلىّ وقال: لنعم الغادى فى أثر المخاض، هذا أيها الأمير أرى ثمنه ما [ية] دينار. قال: فإنه له شعرا وفصاحة. قال أيمن: أتقول الشعر ويلك؟ قلت: نعم. قال: قيمته ثلثون دينارا. قال: يا أيمن، أرفعه وتخفضه! قال: نعم، أيها الأمير، خفضته حماقته! ما لهذا وللشّعر! ومثل هذا يقول إنى أقول الشعر! أو يحسنه! فقال: أنشده، يا نصيب. فأنشدته. فقال له عبد العزيز: كيف تسمع، يا أيمن؟ قال: شعر أسود هو أشعر أهل جلدته. فقال عبد العزيز: هو والله أشعر منك. قال: أمنّى، أيها الأمير! قال: إى والله منك. قال: والله أيها الأمير، إنك لملطرف. قال: كذبت! ولو كنت كذلك ما صبرت عليك! تنازعنى، التحيّة وتؤاكلنى الطّعام، وتتّكئ على وسادتى وفرشى، وبك (4) أشاعر؟: فى الأغانى 1/ 328: «أنت شاعر!» (8) المخاض: انظر الأغانى 1/ 328 حاشية 3 (15) لملطرف: فى الأغانى 1/ 328: «لملول طرف»

الذى بك! يعنى وضحا، وكان أيمن كذلك. فقال: أتأذن لى أن أخرج إلى بشر بالعراق واحملنى على البريد. قال: قد أذنت لك. وأمر به فحمل على البريد إلى بشر بالعراق. فقال أيمن فى ذلك <من الوافر>: (136) ركبت من المقطّم فى جمادى … إلى بشر بن مروان البريدا ولو أعطاك بشر ألف ألف … رأى حقّا عليه أن يزيدا أمير المؤمنين أقم ببشر … عمود الدين إنّ له عمودا ودع بشرا يقوّمهم ويحدث … لأهل الزّيغ إسلاما جديدا كأنّ التاج تاج بنى هرقل … جلوه لأعظم الأيام عيدا على ديباج خدّى وجه بشر … إذا الألوان خالفت الخدودا قال أيوب: يعنى بقوله «إذا الألوان خالفت الخدود» أنه عرّض بكلف كان فى وجه عبد العزيز. قال: فأعطاه بشر ماية ألف درهم. ولما جاز أيمن بعبد الملك قال: أين تريد؟ قال: أريد أخاك بشرا، يا أمير المؤمنين. قال: أتجوزنى! قال: إى والله، أجوزك إلى من قدم إلىّ وطلبنى. قال: فلم فارقت صاحبك؟ قال: رأيتكم، يا بنى أمية، تتّخذون للفتى من فتيانكم مؤدبا، وشيخكم والله يحتاج إلى ماية مؤدب. فسرّ بذلك عبد الملك فى عبد العزيز، وكان عازما على أن يخلعه ويعقد لابنه الوليد. وروى أن المديح الذى امتدح به نصيب لعبد العزيز-وهو أول ما دخل عليه-قوله <من المتقارب>:

لعبد العزيز على قومه … وغيرهم نعم غامره فبابك ألين أبوابهم … ودارك مأهولة عامره وكلبك آنس بالمعتفين … من الأم بالابنة الزايره وكفّك حين ترى السايلي‍ … ن أندى من الليلة الماطره فمنك العطاء ومنّى الثناء … بكلّ محبّرة سايره فقال: اعطوه اعطوه. قال: إنى مملوك. فدعا الحاجب وقال: بالغ (137) فى قيمته. فدعا المقوّمين فقال: قوّموا غلاما أسودا ليس به عيب. فقالوا: ماية دينار. قال: إنه راعى الإبل يبصرها ويحسن القيام بها. قالوا: مايتى دينار. قال: إنه يبرى القسىّ ويعقبها ويبرى السهام ويريشها. قالوا: أربع ماية دينار. قال: إنه راوية للشّعر بصير به. قال: ستماية دينار. قال: إنه شاعر لا يلحق. قالوا: ألف دينار. قال عبد العزيز: ادفعوها إليه. قال: أصلح الله الأمير! ثمن بعيرى الذى أضللت، وكان فى حديثه أنه خرج فى طلب بعير ظل فورد على عبد العزيز قال: وكم ثمنه؟ قال: خمسة وعشرون دينارا. قال: ادفعوها له. قال: أصلح الله الأمير! جايزتى لنفسى عن مديحى. قال: اشتر نفسك ثم عد إلينا. فأتى الكوفة وبها بشر بن مروان، فاستأذن فلم يسهل. وخرج بشر يوما متنزّها فعارضه فلما نكبه، أى صار حذاء منكبه، ناداه <من الكامل>: (6) بالغ: فى الأغانى 1/ 333: «فأبلغ» (11) يلحق: فى الأغانى 1/ 334: «يلحق حذقا»

يا بشر يابن الجعفريّة ما قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم، الجعفريّة التى ذكرها هى أم بشر ابن مروان، واسمها قاطبة بنت بشر بن عامر بن ملاعب الأسنّة بن مالك ابن جعفر بن كلاب. روى أن مروان بن الحكم مر ببادية بنى جعفر فرأى قاطبة بنت بشر تنزع بدلو على إبل لها، وتقول <من الرجز>: ليس بنا فقر إلا التّشكّى … جرية مثل الأبك لا ضرع فيها ولا مدرك ثم تقول <من الرجز>: (138) عامان ترقيق وعام تمّما … لم يتّرك لحما ولم يترك دما ولم تدع فى رأس عظم مكدما … إلا رذايا ورجالا رزّما (2) مقابلة: انظر الأغانى 1/ 334 حاشية /3/جرم: انظر الأغانى 1/ 334 حاشية 4 (7) جرية (جربّة) مثل الأبكّ: فى الأغانى 1/ 335: «جربّة كحمر الأبكّ» (8) مدرك: فى الأغانى 1/ 335: «مذكّى»؛ فى الأغانى 1/ 335 حاشية 4: «المسنّ من كل شئ. . .» (10) ترقيق: انظر الأغانى 1/ 335 حاشية /5/تمّما: انظر الأغانى 1/ 335 حاشية /6/ يتّرك: انظر الأغانى 1/ 335 حاشية 7 (11) مكدما: انظر الأغانى 1/ 335 حاشية /8/رذايا: انظر الأغانى 1/ 335 حاشية /9/ رزّما: انظر الأغانى 1/ 335 حاشية 10

خطبها مروان وتزوجها فولدت بشر بن مروان. قال إسحق: ولما قدم النصيب على عبد العزيز آيبا أبطأت جايزته فقال <من الوافر>: إن وراء ظهرى يابن ليلى … أناسا ينظرون متى ااوب أمامة منهم ولمأقتيها … غداة البين فى أثرى غروب تركت بلادها وتأيت عنها … فأشبه ما رأيت بها السّلوب فاتبع بعضنا بعضا فلسنا … نثيبك لكن الله المثيب فعجّل جايزته وسرّحه. وعن الزهرى قال: حدّثنى نصيب قال: دخلت على عبد العزيز فقال: أنشدنى قولك <من الطويل>: إذا لم يكن بين الخليلين ردّة … سوى ذكر شئ قد مضى درس الذّكر فقلت: هذا ليس لى، هذا لأبى صخر الهذلىّ ولكننى الذى أقول <من الطويل>: وقفت بذى ودّان أنشد ناقتى … وما إن بها لى من قلوص ولا بكر (5) لمأقتيها: انظر الأغانى 1/ 340 حاشية /2/غروب: انظر الأغانى 1/ 340 حاشية 4 (6) السّلوب: انظر الأغانى 1/ 340 حاشية 4 (11) ردّة: انظر الأغانى 1/ 342 حاشية 2 (14) بذى وذان: انظر الأغانى 1/ 342 حاشية 3

فقال لى عبد العزيز: جايزة لك على صدق حديثك، وجايزة على شعرك. فرحت بألفى دينار. وعن عثمن بن حفص عن أبيه قال: رأيت نصيبا وكان أسود خفيف العارضين ناتئ الحنجرة. وعن عبد الرحمن بن أخى الأصمعى عن عمه قال: كان النصيب يكنا أبو الحجناء، فهجاه شاعر من أهل الحجاز فقال <من الطويل>: رأيت أبا الحجناء فى الناس حايزا … ولون أبى الحجناء لون البهايم تراه على ما لاحه من سواده … وإن كان مظلوما له وجه ظالم فقيل لنصيب: ألا تجيبه! فقال: لا ولو كنت هاجيا أحدا لأجبته، (139) ولكن الله أوصلنى بهذا الشعر إلى خير، فجعلت على نفسى أن لا أقوله فى شرّ، وما وصفنى إلا بالسواد وقد صدق، أفلا أنشدكم؟ قالوا: بلى ويا حبذا. فأنشدهم قوله <من الكامل>: ليس السواد بناقصى ما دام لى … هذا اللسان إلى فؤادى نابت من كان يرفعه منابت أصله … فبيوت أشعارى جعلن منابت كم بين أسود ناطق ببيانه … ماض الجنان وبين أبيض صامت إنى ليحسدنى الرفيع بنايه … من فضل ذاك وليس بى من شامت (14) منابت: فى الأغانى 1/ 352: «منابتى»

ويروى «بناه فضل البيان». وعن الأصمعى إنه كان إذا أنشد هذه الأبيات يقول: قاتل الله نصيبا ما أشعره! وهى <من الطويل>: إن يكن من لونى السواد فإنّنى … لكالمسك لا يروى من المسك ذايقه إذا المرء لم يبذل من الودّ مثل ما … بذلت له فاعلم بأنّى مفارقه وما ضرّ أثوابى سوادى وتحته … لباس من العلياء بيض بنايقه وعن أسمعيل بن المختار مولى آل طلحة، وكان شيخا كبيرا قال: حدّثنى النصيب أنه خرج هو وكثيّر والأحوص غبّ يوم مطرت فيه السماء. فقال: هل لكم فى أن نركب حميرا فنسير حتى نأتى العقيق فنبقى على أبصارنا؟ قالوا: نعم. فركبوا أفضل ما يقدرون عليه من الدواب، ولبسوا أحسن ما يقدرون عليه من الثياب، وتنكّروا وساروا حتى أتوا العقيق. فجعلوا يتصفحون ويرون بعض ما يشتهون، حتى رفع لهم سواد عظيم فأمّوه حتى أتوه. فإذا وصايف ورجال من الموالى ونساء بارزات. فسألوهم أن ينزلوا فنزلوا، ودخلت امرأة من النساء فاستأذنت لهم. فلم تلبث أن جاءت. فقالت: ادخلوا. فدخلوا على امرأة برزة (1) ويروى. . . البيان: فى الأغانى 1/ 352: «ويروى مكان من فضل ذاك، فضل البيان وهو أجود» (6) بنايقه: انظر الأغانى 1/ 354 حاشية 5 (9) حميرا: فى الأغانى 1/ 356: «جميعا» (14) فسألوهم: فى الأغانى 1/ 356: «فسألنهم»

(140) على فرش لها. فرحّبت وحيّت، فإذا كراسىّ موضوعة فجلسن جميعا فى صفّ واحد كلّ إنسان على كرسىّ. فقالت: إن أحببتم أن ندعوا بصبىّ فنصيّحه ونعرك أذنيه فعلن، وإن شيتم بدأنا بالغداء. فقلن: أبتديى بالصبىّ؟ فلن يفوتنا الغداء. فأومأت بيدها إلى بعض الخدم فلم يكن إلا كلا ولا، حتى جاات جارية جميلة قد سترت بمطرف فأمسكوه عليها حتى ذهب بهرها. ثم كشفوه عنها فقالت لها مولاتها: ويحك! من قول نصيب عافا الله أبا محجن فقالت <من الطويل>: ألا هل من البين المفرّق من بدّ … وهل مثل أيام بمنقطع السعدى تمنّيت أيّامى أوليك والمنى … على عهد عاد ما تعيد ولا تبدى فغنّته فجاات به كأحس ما سمعت بأحلا لفظ وأشجا صوت. ثم (3) نعرك: انظر الأغانى 1/ 357 حاشية 1 (4) ابتديى (ابتدئى): فى الأغانى 1/ 357: «بلى تدعين» (5) كلا: انظر الأغانى 1/ 357 حاشية 3 (6) بهرها: انظر الأغانى 1/ 357 حاشية 5 (8) بمنقطع السعدى (السّعد): انظر الأغانى 1/ 357 حاشية 7 (9) تعيد ولا تبدى: انظر الأغانى 1/ 357 حاشية 8

قالت لها: خذى أيضا من قول أبى محجن عافا الله أبا محجن. فقالت <من الكامل>: أرق المحبّ وعاده سهده … لطوارق الهمّ التى ترده وذكرت من رقّت له كبدى … وأبا وليس ترقّ لى كبده لا قومه قومى ولا بلدى … -فنكون حينا جيرة-بلده ووجدت وجدا لم يكن أحد … قبلى من اجل صبابة يجده قال: فجاات به أحسن من الأوّل، فكدت أطير سرورا. ثم قالت لها: ويحك! خذى من قول أبى محجن عافا الله أبا محجن. فقالت <من الطويل>: فيا لك من ليل تمتّعت طوله … وهل طايف من نايم متمتّع نعم إن ذا شجو متى يلق شجوه … ولو نايم مستعتب أو مودّع له حاجة قد طال ما قد أسرّها … من الناس فى صدر له يتصدّع تحمّلها طول الزمان لعلّها … يكون لها يوم من الدهر منزع (141) وقد قرعت إلى أمّ عمرو ولك العصا … قديما كما كانت لذى الحكم تقرع (12) صدر له: فى الأغانى 1/ 358؛ شعر نصيب بن رباص ص 101: «صدر بها» (14) الحكم: فى الأغانى 1/ 359؛ شعر نصيب بن رباح ص 101: «الحلم»

قال: فجاات به شئ حيرنى وأذهلنى طربا لحسن الغناء وسرورا باختيارها الغناء فى شعرى. ثم قالت: خذى عافاك الله فى قول أبى محجن عافا الله أبا محجن. فقالت <من البسيط>: يأيّها الرّكب إنّى غير تابعكم … حتى تلمّوا وأنتم بى ملمّونا فما أرى مثلكم ركبا كشكلكم … يدعوهم ذو هوا لا يعودونا أو خبّرونى عن دايى بعلمكم … وأعلم الناس بالداء الأطبّونا قال نصيب: فو الله لقد زهوت لما سمعت زهوا خيّل لى أنى من قريش وأن الخلافة لى. ثم قالت: حسبك يا بنيّة، هات الطعام، يا غلام! فوثب الأحوص وكثيّر وقالا: والله لا نطعم لك طعاما ولا نجلس لك فى مجلس فقد أسأت عشرتنا واستخففت بنا، وقدمت شعر هذا على أشعارنا، واستمعت الغناء فيه، وإن فى أشعارنا لما يفضل شعره، وفيه من الغناء ما هو أحسن من هذا. فقالت: على معرفة والله كل ما كان منّى من غير جهل بكم، ولا أذنت لكم إلا بعد معرفتى بكم، وأىّ شعركما أفضل من شعره؟ أقولك يا أحوص <من الطويل>: يقرّ بعينى ما يقرّ بعينها … وأحسن شئ ما به العين قرّت (1) شئ: فى الأغانى 1/ 359: «فجاءت والله بشئ»، انظر أيضا الأغانى 1/ 359 حاشية 3 (5) يعودونا: فى الأغانى 1/ 359؛ شعر نصيب بن رباح ص 138: «يعوجونا» (6) الأطبّونا: انظر الأغانى 1/ 359 حاشية 5

أم قولك يا كثيّر فى عزّة <من الطويل>: وما حسبت ضمريّة عدوية … سوى التّيس ذى القرنين أنّ لها بعلا أم قولك أيضا <من الوافر>: إذا ضمريّة عطست فنكها … فإنّ عطاسها طرف السفات قال: فخرجا مغضبين وحبستنى، ففغدت عندها، وأمرت لى بثلثماية (142) دينار وحلّتين وطيب. ثم دفعت إلىّ مايتى دينار وقالت: ادفعهما لصاحبيك، فإن قبلاها وإلا فهى لك. فأتيتهما إلى منازلهما وأخبرتهما بالقصة. فأما الأحوص فقبلها، وأما كثيّر فلم يقبلها وقال: لعن الله صاحبتك وجايزتها ولعنك معها. فأخذتها وانصرفت. قال الراوى: وسألت النّصيب عن المرأة من بنى أمية فقال: من بنى أمية ولا أذكرها أبدا. وعن أبى عبيدة قال: أتى النّصيب مكة شرفها الله تعالى فقصد المسجد الحرام ليلا، فبينا هو كذلك إذ طلع ثلاث نسوة فجلسن قريبا منه وجعلن يتحادثن ويتذاكرن الشعر والشعراء. وإذا هنّ من أفصح النساء وآدبهن. قالت إحداهن: قاتل الله جميلا حيث يقول <من الطويل>: وبين الصّفا والمروتين ذكرتكم … بمختلف من بين سامح ومرجف وعند طوافى قد ذكرتك ذكرة … هى الموت بل كادت على الموت تضعف (2) ضمريّة: انظر الأغانى 1/ 360 حاشية /1/عدوية: فى الأغانى 1/ 360: «جدويّة» (6) ادفعهما: فى الأغانى 1/ 360: «ادفعها» (10) عن المرأة من بنى أمية: فى الأغانى 1/ 360: «ممن المرأة؟»

فقالت الأخرى: بل قاتل [الله] كثير عزّة حيث يقول <من الطويل>: طلعن علينا بين مروة والصّفا … يمرن على البطحاء مور السحايب وكدن لعمر الله يحدثن فتنة … بمختشع من خشية الله تايب فقالت الثالثة: بل قاتل الله بن الزانية نصيبا حيث يقول <من الطويل>: ألام على ليلى ولو أستطيعها … وحرمة ما بين البنيّة والسّتر لملت على ليلى بنفسى ميلة … ولو كان فى يوم التّحالق والنّحر قال: فقام نصيب إليهن وسلّم عليهم فرددن عليه السلام، وقال لهنّ: إنى رأيتكنّ تتجاذبن شيا عندى منه علم. فقلن: من أنت؟ قال: اسمعن أوّلا. قلن: هات، فأنشدهنّ قصيدته التى أوّلها <من البسيط>: (143) ويوم ذى سلّم شاقت ناحيه … ورقاء فى فنن والريح تضطرب فقلن له: نسألك الله وبحقّ هذا البيت، من أنت؟ فقال: أنا ابن المظلومة المقذوفة من غير جرم، أنا نصيب. فقمن له وسلّمن عليه ورحّبن به، واعتذرت القايلة إليه وقالت: والله ما أردت سوءا، وإنما (3) يمرن: انظر الأغانى 1/ 377 حاشية 2

ذكر سنة ست وسبعين النيل المبارك فى هذه السنة

حملنى الاستحسان لقولك على ما سمعت. فضحك وجلس إليهنّ يحادثهنّ إلى أن انصرفن. قلت: قد خرج بنا محاسن الحديث عن شرط سياقة التاريخ وله‍ [ذا] الكلام شجون، والقصد أن يكون هذا التاريخ محشوا من كل فن لطيف ليسوغ كل ذى شرب مشروبه، ويصل كل ذو طلب إلى مطلوبه. ولنعود إلى سياقة التاريخ بمعونة الله عز وجل. ذكر سنة ست وسبعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وأربعة أصابع. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وسبعة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة عبد الملك بن مروان، وعبد العزيز بمصر، وبشر بن مروان بالعراقين، والحجاج بالحرمين، وكان بمصر فى هذه السنة والتى قبلها غلاء مفرط، واشتد الأمر بالناس فى هذه السنة. كان عبد الملك مغرا بالشعر والشعراء، وكان ذلك نافقا فى أيامه، والناس مشتغلون به ويتغالون فى كل شعر جيد وفى كل شاعر محسن. وكان عبد الملك يقول: يا بنى أمية أحسابكم أعراضكم لا تعرضوها على الجهال، فإن الدم باقى ما بقى الدهر، والله ما يسرنى (144) أنى

هجيت ببيت الأعشى وأن لى طلاع الأرض ذهبا، وهو قوله فى علقمة ابن علاثة <من الطويل>: تبتون فى المشتا ملاء بطونكم … وجاراتكم غرثى يبتن خمايصا وو الله ما يبالى من مدح بهذين البيتين إلا يمدح بغيرهما قول زهير من الطويل>: هنالك إن يستخولوا المال يخولوا … وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا على مكثريهم حقّ من يعتريهم … وعند المقلّين السّماحة والبذل وروى الأصمعى، قال: وفد رجل من بنى ضبة على عبد الملك فأنشده <من الكامل>: والله ما ندرى إذا ما فاتنا … طلب إليك فمن الذى نتطلّب ولقد ضربنا فى البلاد فلم نجد … أحدا سواك إلى المكارم ينسب فاصبر لعادتنا التى عوّدتنا … أو لا فأرشدنا إلى من نذهب فأمر له بصلة. ثم قدم عليه فى العام الثانى فأنشده <من الطويل>: (3) تبيتون. . . خمايصا: ورد البيت فى الأغانى 9/ 121؛ ديوان الأعشى 100 (6 - 7) هنالك. . . البذل: ورد البيتان فى شرح ديوان زهير بن أبى سلمى 43 (7) على. . . البذل: ورد البيت فى الأغانى /10/ 306/حقّ: فى الأغانى 10/ 306: «رزق» (8 - 12) الأصمعى. . . نذهب: ورد النص فى العقد الفريد 1/ 305، انظر أيضا العقد 1/ 305 حاشية 1 (8 - 5،215) وفد. . . بدى (بدء): ورد النص فى الأمالى 2/ 283

ذكر سنة سبع وسبعين النيل المبارك فى هذه السنة

يودّ الذى بنا المكارم أنه … إذا فعل المعروف زاد وتممّا وليس كبان حين تمّ بناؤه … تتبّعه بالنّقص حتى تهدّما فأمر له بصلة مثلها. ثم قدم عليه فى العام الثالث فأنشده <من الطويل>: إذا استعروا كانوا مقادير للنّدى … يكرّون بالمعروف عودا على بدى وإن بذلوا فى اليوم جودا لطالب … كما قد رجاه أضعفوا الجود فى غد فأضعف صلته وسرحه مكرما. ذكر سنة سبع وسبعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلثة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة ثلثة عشر ذرعا وسبعة عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث (145) الخليفة عبد الملك بن مروان بدمشق دار ملكه، وعبد العزيز بمصر. (1 - 2) يودّ. . . تهدّما: ورد البيتان فى الأمالى 2/ 283 (1) يودّ. . . المكارم: فى الأمالى 2/ 283: «يربّ الذى يأتى من الخير» (5) إذا. . . بدى (بدء): ورد البيت فى الأمالى /2/ 283/استعروا (كذا فى الأصل): فى الأمالى 2/ 283: «استمطروا» //يكرّون: فى الأمالى 2/ 283: «يجودون»

وفيها استسقى الناس بمصر، وزاد الغلاء، وأجلوا أهل مصر عنها وتوجهوا بعضهم إلى الشام. فتحركت الأسعار أيضا بمصر والشام، وهلكت الناس جوعا. وفتح عبد العزيز مخازن غلاله ولم يترك عنده إلا ما يمونه وأهله وحاشيته عام واحد. وأمر بذلك لساير مياسير مصر. فكثرت الغلال ووجدت بعد العدم، وتحايت الناس بعد الموت. وفيها مات بشر بن مروان، وولى الحجاج العراقين. وروى أن الحجاج لما ورد عليه كتاب عبد الملك بولايته العراقين خرج من المدينة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وقال: الحمد لله الذى أخرجنى من أمّ نتن، أهلها أخبث أهل، غششة لأمير المؤمنين، حسدة له، ولولا والله كتب كانت تأتينى من أمير المؤمنين فيهم، لجعلتها جوف حمار أعواد يعودون بها ورمّة بليت، يقولون منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقبره. فبلغ ذلك جابر بن عبد الله فقال: قدامه ما يسوءه. (6) وفيها. . . مروان: انظر مقالة «بشر بن مروان» لفيتشا فالييرى 1242: لا تجمع المراجع على تاريخ وفاته (8 - 12) الحمد. . . يسوءه: ورد النص فى الكامل 4/ 359 باختلاف بسيط (9 - 11) أهلها. . . يقولون: فى الكامل 4/ 359: «أهلها أخبث بلد وأغشّه لأمير المؤمنين وأحسدهم له على نعمة الله، والله لو ما. . . لجعلتها مثل جوف الحمار أعوادا. . . يغولون»، انظر الكامل 4/ 359 حاشية 2 (12) قدامه: فى الكامل 4/ 359: «وراءه»

ذكر سنة ثمان وسبعين النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثمان وسبعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. [ما لخص من الحوادث] الخليفة عبد الملك بن مروان، وعبد العزيز بمصر. وولى القضاء بمصر عبد الرحمن الخولانىّ وهو صاحب المسجد المعروف به، وجمع له بين القضاء وبين المال والشرط، وأجرى له فى كل سنة عن كل عمل من هؤلاء مايتى دينار، وكان عبد الرحمن الخولانىّ من الجود (146) والعطا بالمكان الوافر، حتى كان ينفذ جميع عطاه ويستدين على قابل. وفيها انكسر شبيب الخارجى وهرب فغرق فى دجيل. ذكر شبيب ولمعا من أخباره هو شبيب بن يزيد بن نعيم بن قيس بن عمرو الصلت الشيبانىّ، (7) عبد الرحمن الخولانىّ: قارن هنا ص 147، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 11 (11) وفيها. . . دجيل: فى تاريخ الطبرى 2/ 972 (حوادث 77): «وفى هذه السنة هلك شبيب»، كذا فى الكامل 4/ 431 - 433؛ فى وفيات الأعيان 2/ 455: «وغرق بدجيل كما تقدم سنة سبع وسبعين للهجرة»؛ وفقا لزيترستين، مقالة «شبيب» 262، ربما توفى فى أواخر سنة 77 هـ‍ (13) شبيب. . . الشيبانى: انظر نسبه فى وفيات الأعيان 2/ 454

كان خروجه فى أول أيام عبد الملك بالموصل. وجرت له حروب ووقايع مع النواب بالعراق يطول شرحها. وكان سبب ولاية الحجاج العراقين شبيب. وبعث إليه الحجاج فى مدة هذه السنين من ولايته خمس قوّاد فقتلهم واحد بعد واحد. ثم خرج من الم‍ [وصل] يريد الكوفة، وخرج الحجاج من البصرة يريد الكوفة. وبلغ ذلك شبيبا فطمع فى لقايه قبل أن يصل الكوفة، فأقحم الحجاج خيله فدخلها قبله فى سنة سبع وسبعين، وتحصن الحجاج فى قصر الإمارة. ودخل إليها شبيب وأمه جهيزة وزوجته غزالة عند الصباح، وكانت غزالة نذرت أن تدخل مسجد الكوفة وتصلى ركعتين تقرأ فى الواحدة سورة البقرة والأخرى آل عمران. فأتت الجامع فى سبعين رجلا فصلّت فيه الغداة وخرجت من نذرها. وكانت غزالة من الشجاعة بالموضع العظيم، وكانت تقاتل فى الحروب بنفسها. وقد كان الحجاج هرب فى بعض الوقايع منها فعيّره بذلك عمران بن حطّان السدوسى فقال <من الكامل>: أسد علىّ وفى الحروب نعامة … فتخاء تنفر من صفير الصّافر هلاّ برزت إلى غزالة فى الوغى … بل كان قلبك فى جناحى طاير صدعت غزالة قلبه بفوارس … تركت فوارسه كأمس الدابر (3 - 2،222) وبعث. . . الزاى: ورد النص فى وفيات الأعيان 2/ 454 - 457، قارن أيضا مروح الذهب 3/رقم 2079 - 2080 (9) فأتت: فى وفيات الأعيان 2/ 454: «فأتوا» (16) صدعت. . . الدابر: البيت ناقص فى وفيات الأعيان 2/ 454 ولكن ورد فى شعر الخوارج /25/فوارسه: فى شعر الخوارج 25: «منابره»

(147) وكانت أم شبيب جهيزة أيضا شجاعة تشهد الحروب وتتنادرهما الفرسان فى حومة الطعان. وقيل إن شبيبا أقام عشرين سنة يدعى أمير المؤمنين، ولما عجز عنه الحجاج، بعث عبد الملك إليه عساكر كثيفة من الشام عليها سفيان بن الأبرد الكلبى، فوصل إلى الكوفة، وخرج الحجاج أيضا، وتكاثروا على شبيب، فانهزم وقتلت غزالة وجهيزة، ونجا شبيب فى فوارس من أصحابه، واتبعه سفيان فى أهل الشام فلحقه بالأهواز. فولّى شبيب فلما حصل على جسر دجيل قفز به فرسه وعليه الحديد الثقيل من درع ومغفر وغيره فألقاه فى الماء. فقال له بعض أصحابه: أغرقا يا أمير المؤمنين؟ فقال: {ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}. ثم ألقاه دجيل على ساحله ميتا. فحمل على البريد إلى الحجاج فأمر بشق بطنه. فشقّ واستخرج قلبه فإذا هو كالحجر، إذا ضرب به الأرض نبا عنها. فشقّ أيضا فكان فى داخله قلب صغير كالكرة. فشقّ فأصيب علقة الدم فى داخله. وكان شبيب إذا صاح فى جنبات الجيش لا يلوى أحد على أحد من هيبته وفروسيته، وفى ذلك يقول الشاعر <من البسيط>: إذا صاح يوما حسبت الصخر منحدرا … والريح عاصفة والموج يلتطم وقال بعضهم: رأيت شبيبا وقد دخل المسجد، وعليه جبّة طيالسة وعليها نقط من أثر المطر، وهو طويل أشمط جعد آدم. فجعل المسجد يرتج له. وكان مولده يوم عيد النحر سنة ست وعشرين هجرية، وغرق بدجيل سنة سبع وسبعين. (7) قفز: فى وفيات الأعيان 2/ 455 «نفر» (14 - 16) وكان. . . يلتطم: النص ناقص فى وفيات الأعيان 2/ 454 - 458

وكان أبوه من مهاجرة الكوفة، فغزا سليمن بن ربيعة الباهلى فى سنة خمس وعشرين للهجرة (148) فأتوا الشام وأغاروا على بلاد وأصابوا سبيا وغنموا، وأبو شبيب فى ذلك الجيش، فاشترى جارية من السبى حمراء طويلة جميلة. فقال لها: أسلمى. فأبت فضربها فازدادت تنمّرا ولم تسلم، فواقعها فحملت، فتحرك الولد فى بطنها فقالت: فى بطنى شئ ينقز. فقيل: أحمق من جهيزة، وضرب المثل بحمقها وهى التى عنا بها الحريرى فى مقاماته. ثم لاطفها فأسلمت فولدت شبيبا سنة ست وعشرين يوم النحر. فقالت لمولاها: إنى رأيت قبل أن ألد كأنى ولدت غلاما فخرج منى شهاب من نار فسطع بين السماء والأرض ثم سقط فى ماء فخفى، وقد ولدته فى يوم أريق فيه الدماء. وقد زجرت أن ابنى هذا يعلوا أمره ويكون صاحب دماء يريقها. هذا آخر كلام ابن السكين. ولما زال أمر شبيب أحضر إلى عبد الملك بن مروان رجل يرى برأى الخوارج وهو عتبان الحرورى ابن أصيلة، ويقال وصيلة، وهى أمه من بنى محلّم، وهو من بنى شيبان من الشراة بالجزيرة، وكان قد قال أبياتا عديدة ذكرها المرزبانى فى المعجم. فقال له عبد الملك: ألست القايل يا عدوّ الله فى قصيدتك <من الطويل>: (7) الحريرى فى مقاماته: لم يذكر هذا المرجع فى وفيات الأعيان 2/ 457 (15) المرزبانى فى المعجم: انظر معجم الشعراء 108 - 109

فإن يك منكم كان مروان وابنه … وعمرو ومنكم هاشم وحبيب فمنّا حصين والبطين وقعنب … ومنّا أمير المؤمنين شبيب فقال: لم أقل كذا يا أمير المؤمنين، وإنّما قلت: ومنّا أمير المؤمنين شبيب. فاستحسن ذلك من قوله وأمر بتخلية سبيله. وهذا الجواب فى نهاية الحسن فإنه إذا كان قول «أمير» مرفوعا، كان مبتدأ فيكون شبيب أمير المؤمنين، وإذا كان أمير منصوبا فقد (149) حذف منه حرف النداء ومعناه يا أمير المؤمنين منا شبيب. فلا يكون شبيب أمير المؤمنين، بل يكون منهم. قلت وقد رأيت فى مسوداتى أنه أحضر إلى عبد الملك بن مروان أبو المنهال الخارجى شاعرا جيدا مستأمنا بعد ما كان قال لعبد الملك هذه الأبيات <من الطويل>: أبلغ أمير المؤمنين رسالة … وذو النصح لو يدعى إليه قريب فلا صلح ما دامت منابر أرضنا … يقوم عليها من ثقيف خطيب وإنك لا ترض بكر بن وايل … يكن لك يوم بالعراق عصيب وبعد هذه الأبيات الثلثة البيتان المذكوران، وأبو المنهال هو عتبان ابن وصيلة المذكور، وقوله من ثقيف، يريد الحجاج بن يوسف الثقفى. (10) قلت. . . مسوداتى: فى وفيات الأعيان 2/ 456: «وذكر. . . المعروف بابن عساكر الدمشقى فى تاريخ دمشق. . .»

ذكر سنة تسع وسبعين النيل المبارك فى هذه السنة

وجهيزة بفتح الجيم وكسر الهاء وسكون الياء المثناة من تحتها وفتح الزاى. ذكر ذلك يعقوب بن السكيت فى كتاب إصلاح المنطق. ذكر سنة تسع وسبعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وخمسة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة عبد الملك بن مروان، وعبد العزيز بمصر، والحجاج بالعراق، ومسلم بن قتيبة بخراسان. فيها خطب الحجاج أم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر بن أبى طالب رضى الله عنهما. وكان لعبد الله بن جعفر جماعة من الولد لزينب بنت علىّ ولغيرها، فشق ذلك على عبد الله بن جعفر وأعظمه بنو هاشم ولم يستطع عبد الله أن يرد الحجاج وخافه على نفسه (150) فخلا بنفسه للفكرة فى ذلك فلم يتجه له رأى يرضاه، وبينا هو فى مجلس يفكر فى أمره، إذ دخل عليه ابنه معوية، وكان عبد الله لم يزل يتفرس فيه النجابة وهو إذ ذاك صغيرا. فقال: يا به، ما لى أراك مهموما؟ فقال: يا بنى حدث عظيم، هذا الحجاج بن يوسف يخطب أختك أم كلثوم. فقال: يا به أجبه إلى ما (2) يعقوب. . . المنطق: انظر إصلاح المنطق 324 (10 - 8،227) خطب. . . أعلاها: ورد النص فى أنباء نجباء الأبناء 89 - 95 باختلاف بسيط

سأل واستنظره ثم اسأل، فإن كان خطبته عن إذن عبد الملك، أمضيت النكاح واحتسبت المصيبة بها عند الله. فو الله إنّ فعل الحجاج لا يرضى عبد الملك، فلن يتعدا الحجاج طوره. فسر بذلك عبد الله بن جعفر سرورا شديدا. ثم أجاب الحجاج واستنظره إلى أن كان من أمره ما هو مشهور. وها نحن نذكره لأمرين، أحدهما الرغبة فى إكمال الفا [يدة]، والثانى أنّا نجمع ها هنا ما لا يكاد يرى مجموعا من هذا الخبر. روى أن عبد الله بن جعفر لما أنكح الحجاج بن يوسف ابنته أم كلثوم، بعث إليه الحجاج بمال عظيم. فقضى منه عبد الله دينا كان عليه، وتجهز للوفادة على عبد الملك بن مروان بدمشق وأ [عدّ] له طرفا من طرف الحجاز، وقدم بين يديه كتابا إلى أبى هاشم خ‍ [الد] بن يزيد بن معوية بن أبى سفيان يقول فيه <من الطويل>: ما أنس من الأشياء لا أنس نسوة … هتفن بليل يآل عبد مناف متى طمعت فينا قسىّ ابن ثعلب … سقين من الضيم كأس ذعاف فقلت: بناتى حسبكن فخالدا … أبو هاشم جار لكنّ وكاف (13) متى. . . ذعاف: فى أنباء نجباء الأبناء 91: «متى طمعت فينا قسى تعلنا … من الضيم بعد الضيم كاس ذعاف»

تفسير ذلك

تفسير ذلك قوله: متى طمعت فينا قسىّ يعنى ثقيفا، فثقيف هو قسىّ لقب له. (151) وقوله: كأس ذعاف: هو السم القاتل بسرعة. وكتب إليه فى آخر الكتاب ليدركك أبا هاشم حمية قرشية. فلما انتهى الكتاب إلى خالد بن يزيد، أمهل حتى ذهب جنح من الليل، قصد باب عبد الملك واستأذن عليه فقال له حاجبه: ليس هذا وقت استيذان لك فانصرف. ثم أغد على أمير المؤمنين. فقال خالد: إنى جيت فى أمر مهم ولتستأذننّ علىّ وإلا أخبرته أغدا بما كان منك. فاستأذن له فأمره بإدخاله. فلما دخل عليه قال له: يا خالد، أى وقت هذا؟ فقال: يا مير المؤمنين، أمر فكرت فيه فبت به أرقا، ورأيت من حق بيعتك ووجوب النصيحة لك أن لا أوخره. قال: هات ما هو؟ قال خالد: بلغنى أن الحجاج تزوج إلى عبد الله بن جعفر بنته أم كلثوم. فغضب عبد الملك وقال: كان ماذا ولم لا يكون الحجاج كفؤا لها؟ فقال خالد: إنى لم أر هذا، لكنك تعلم أنه لم يكن بين أهل بيتين من بيوت قريش ما كان بيننا وبين آل الزبير. فلما (2) قسىّ. . . له: انظر وفيات الأعيان 2/ 29 (4 - 8،225) فلما. . . أطاع: وردت هذه القصّة فى العقد الفريد 6/ 122

تزوجت إليهم انقلبت البغض حبا حتى ما أهل بيت أحب إلىّ منهم، وحملنى على ذلك على أن قلت ما بلّغت. وإنك أحللت الحجاج من سلطانك المحل الذى لا مزيد. فلا أمن إذا نكح إلى آل أبى طالب أن يميل إليهم فيسعى لهم فى الأمر. فقال عبد الملك: وصلتك رحم، يا با هاشم، فلقد قضيت الحق وأديت الأمانة ومحضت النصيحة. ثم إنّ عبد الملك أحضر كاتبه، وأمره أن يكتب إلى الحجاج بأن يطلق له أم كلثوم قبل أن يضع الكتاب من يده. فلما انتهى الكتاب إلى الحجاج أطاع. وقدم عبد الله بن جعفر دمشق فنزل فى أخبيته بظاهرها، ولا علم له بما صنع (152) خالد، وعلم عبد الملك بمقدمه. فأمر ابنه الوليد بن عبد الملك أن يخرج إلى عبد الله بن جعفر فلا يكلمه كلمة حتى يأمر بإلقاء الخباء عليه. وبينما عبد الله جالس فى الخباء، فأمر الوليد فقلعوا أطناب الخباء فسقط عليه، فخرج من تحته، فإذا الوليد قايم فسلم عليه عبد الله فلم يرد عليه الوليد. ثم قال له: يا شيخ، عمدت إلى عقيلة من عقايل قريش من أهل بيت عبد مناف تنكحها رجلا من ثقيف. فقال له عبد الله: يا با العباس، إن كان الناس لا يعلمون عذر عمك أفما تعلمه أنت؟ فقال له: وما هو عذرك؟ فقال له: إن الخلفاء لم تزل تصل رحمى وتعيننى على أمرى حتى كان أبوك، فجفانى حتى ركبنى من الدّين ما لا أرجوا له (8 - 1،226) وقدم. . . لأنكحته: وردت هذه القصّة فى أعلام النساء 4/ 252 - 253؛ العقد الفريد 2/ 71 - 72

وفاء. وإن الحجاج أعطانى بابنتى ما لو أعطانيه فيها عبد لأنكحته. فعذره الوليد وأحسن السفارة بينه وبين أبيه، فأكرمه وفضله وقضى حوايجه. قلت: ومما يتعلق بهذا الخبر الإبانة عن قول خالد لعبد الملك: وحملنى ذلك أن قلت ما بلغك، إنما عنى قوله فى زوجته رملة حيث قال <من الطويل>: تجول خلاخيل النساء ولا أرى … لرملة خلخالا يجول ولا قلبا أحبّ بنى العوّام طرا لحبّها … ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا وروى أن عبد الملك بن مروان قال لخالد يوما بمحضر من أهل الشام: أنت القايل، وأنشده الأبيات المذكورة ثم زاد فيها <من الطويل>: فإن تسلمى أسلم وإن تتنصّرى … تخطّ رجالا بين أعينهم صلبا فقال خالد: لعن الله قايل هذا البيت يا أمير المؤمنين. فيقال أن عبد الملك هو الذى صنعه على لسان خالد ليغضّ منه وتسئ سمعته (153) لما كان يتخوفه من طلب الخلافة. وروى أن عبد الله بن جعفر رضى الله عنه لما حضرته الوفاة، دعا ابنه (4) رملة: انظر أيضا أعلام النساء 1/ 461 - 463؛ الأغانى 17/ 340 حاشية 1 (6 - 7) تجول. . . كلبا: ورد البيتان أيضا فى أعلام النساء 1/ 462 - 463؛ الأغانى 17/ 340؛ وفيات الأعيان 2/ 224 - 225 (11) فإن. . . صلبا: ورد البيت أيضا فى الأغانى 17/ 340،344

معوية وهو حديث السن غلام فى أذنه شنف، وهو القرط من رواية. فنزع الشنف من أذنه. ثم أسند وصيته إليه دون ساير ولده. وقال له: يا بنى، لم أزل أرجوك لها منذ ولدت. فنهض معوية بوصية أبيه، وقضى دينه، وقسم تركته، ولم ينقم أحد من ورثة أبيه عليه أمرا. قلت: هكذ، رأيت الرواية، أنه نزع من أذنه الشنف. وقال صاحب هذه الرواية وهو ابن ظفر أن الشنف عند العرب ما يجعل فى أعلا الأذن، والقرط ما يجعل فى شحمة الأذن. ومن رواية أخرى أن الشنف ما كان فى شحمة الأذن والقرط ما كان فى أعلاها، وقد قيل <من الطويل>: أغار من القرطين خيفة حبّها … ألم ترهم مثل قلبى يعذّب وأنكر من تلك الغداير أنها … متى أرسلت ضلّت مع الحجل تلعب وما لاح فى الغرب الهلال وإنما … هو البدر إجلالا لها يتنقب والعادة أن الغلمان الذكران لا يكون فى أعلا آذانهم قرطا، وخص بذلك النساء. فالصحيح أن الذى فى شحمة الأذن يسمى شنفا، والذى فى أعلاها قرطا. وإذ قد ساق الكلام ذكر عبد الله بن جعفر رضى الله عنه فلنذكر شئ من مآثره ومبدأه رضى الله عنه. (6) ابن ظفر: انظر أنباء نجباء الأبناء 95 (9 - 11) أغار. . . يتنقب: وردت الأبيات فى درر التيجان 210 ب:8 - 10 (حوادث 628)

ذكر عبد الله بن جعفر ولمعا من خبره

ذكر عبد الله بن جعفر ولمعا من خبره روى أن أبا سفيان بن حرب دخل على أم حبيبة زوج النبى صلّى الله عليه وسلم فوجد عندها عبد الله بن جعفر رضى الله عنه، وهو إذ ذاك طفل، فقال لها: يا بنية، من هذا الغلام الذى يتضوّع (154) كرما، ويتألق شرفا، ويتميّع حيا. فقالت: من تظنه، يا به؟ فقال: أمّا الشمايل فهاشمية. فقالت: نعم هو هاشمى، فمن تظنه من بنى هاشم؟ فتأمله فقال: إن لم يكن ولده جعفر فلست بسداد البطحاء. فقالت أم حبيبة: فهو والله بن جعفر. فقال أبو سفيان: أما إنه لم يمت من خلف هذا. قوله: يتضوع كرما يفوح، يقال تضوّع الطيب إذا انتشرت رايحته. وقوله: يتألق شرقا، أى يستبرق ويضئ والتألق الإضاءة واللمعان، وأصل التضوّع والتألق الحركة. وقوله: يتميّع حيا، أى يذوب، وكل ذايب مايع. وقوله: سداد البطحاء، سداد الشئ ما ملأه فسده، والبطحاء هى بطحاء مكة، وهى أرض ذات رمل وحصبا مستوية، يقول: أنا أملأها فخرا أو كرما أو نحو ذلك. وروى أن أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه قسم مالا فى أبناء (1) عبد الله بن جعفر: انظر سير أعلام النبلاء 3/ص 456 - 462 (2 - 13،229) روى. . . السخاء: ورد النص فى أنباء نجباء الأبناء 82 - 84

المهاجرين والأنصار وبدأ بأهل البيت. فأراد أعرابى أن يدخل معهم إلى أبى بكر فمنع، وجاء عبد الله بن جعفر وهو صبى. فلما رآه الصديق بالباب قال: مرحبا بابن الطيار ادخل. وسمعهما الأعرابى فقبض على يد عبد الله بن جعفر وهو لا يعرفه. فأنشأ يقول <من الطويل>: ألا هل أتى الطيار أنّى مجلأّ … عن الورد والصدّيق يرا ويسمع وما ضرّ أن لم يأته ذاك فابنه … نهوض بعبء الجار ندب سميدع فقال له ابن جعفر رضى الله عنه: كن بمكانك يا أخا العرب، ودخل فأعطاه الصديق رضى الله عنه ألف درهم، فخرج فأعطاها الأعرابى. قول الأعرابى فى شعره: مجلأّ أى مطرود. وقوله: نهوض بعبء الجار، العبء الثقيل الذى لا مزيد عليه لحامله. وقوله: ندب: هو الذى ينتدب (155) فى الأمور ويسارع إليها. وقوله سميدع: هو السيد الشريف. ثم ترقت حال عبد الله رضى الله عنه فى السخاء إلى أن سمى معلّم الكرم. وعوتب فى السخاء. فقال: إن الله عز وجل عوّدنى أن يفضل علىّ وعوّدتّ عباده أن أفضل عليهم، فأخاف أن أقطع العادة عنهم فيقطع العادة عنى. وقال عندما كبر وأنفذ ماله فى المسجد بعقب صلاة الجمعة: رب إنك عوّدتنى عادة وعوّدتّ عبادك عادة فإن قطعتها عنّى فلا تبقنى. فمات قبل عود يوم الجمعة الأخرى. (14 - 18) فقال. . . الأخرى: انظر العقد الفريد 1/ 225؛ مروج الذهب 3/رقم 2139 (16) رب: فى مروج الذهب 3/رقم 2139: «اللهم»

ذكر ثمانين هجرية النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر ثمانين هجرية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة عبد الملك بن مروان بحاله، وعبد العزيز أخوه بمصر بحاله، والحجاج بالعراقين، ومسلم بن قتيبة بخراسان من قبل الحجاج. وصف لعبد الملك بن مروان جارية لرجل من الأنصار ذات جمال باهر وأدب وافر، فسامه ابتياعها فامتنع وامتنعت وقال: لا لى حاجة بمال فيها، وقالت: ولا لى رغبة فى مفارقة مولاى ولا حاجة لى فى الخليفة، والذى أنا فيه أحب إلىّ من الأرض ذهبا وإن تكون لى ملكا، فبلغ ذلك عبد الملك، فأغراه ذلك أن أضعف لسيدها فى الثمن، وأخذها قسرا. فلم يعجب بشئ إعجابه بها، لما رزقت من الجمال والأدب. فأمرها بلزوم مجلسه والقيام على رأسه تذبّ عنه. فبينا هو ذات يوم، ومعه ولداه الوليد وسليمان وقد أخلاهما للمذاكرة، فأقبل (156) عليهما وقال: أىّ بيت قالت العرب أمدح؟ فابتدر الوليد فقال: قول جرير فيك، يا أمير المؤمنين حيث يقول <من الوافر>: (3) خمسة: فى النجوم الزاهرة 1/ 202: «ثمانية»

ألستم خير من ركب المطايا … وأندا العالمين بطون راح فقال سليمان: بل قول الأخطل حيث يقول <من البسيط>: شمّ العداوة حتى تستقاد لهم … وأكثر الناس أحلاما إذا قدروا فقالت الجارية: بل بيت نرويه لحسان حيث يقول <من الكامل>: يغشون حتى ما تهرّ كلابهم … لا يسألون عن السّواد المقبلى فأطرق عبد الملك ثم رفع رأسه فقال: أىّ بيت قالت العرب أغزل؟ فقال الوليد: قول جرير، يا أمير المؤمنين حيث يقول <من البسيط>: إنّ العيون التى فى طرفها حور … قتلننا ثم لم يحيين قتلانا فقال سليمان: بل قول عمر بن أبى ربيعة المخزومى حيث يقول <من الخفيف>: حبّذا رجعها إليها يديها … فى يدى درعها تحلّ الإزارا (1) ألستم. . . راح: ورد البيت فى الأغانى 8/ 6،41،67،305 ديوان جرير 1/ 36 (3) شمّ. . . قدروا: ورد البيت فى الأغانى 8/ 301،305،307؛ شعر الأخطل 104 وأيضا شمّ: فى الأغانى ج 8، شعر الأخطل 104: «شمس» (4) لحسان: يعنى لحسان بن ثابت (6) يغشون. . . المقبلى (المقبل): ورد البيت فى الأغانى 2/ 196؛ ديوان حسان بن ثابت 180، انظر أيضا حاشية 1 (9) إنّ. . . قتلانا: ورد البيت فى الأغانى 8/ 6،39،42؛ ديوان جرير 492 (12) حبّذا. . . الإزارا: ورد البيت فى ديوان عمر بن أبى ربيعة 163

فقالت الجارية: بل بيت نرويه لحسان بن ثابت حيث يقول <من الخفيف>: لو يدبّ الحولىّ من ولد الذّ … رّ عليها، لأندبتها منه الكلوم فأطرق عبد الملك ثم رفع رأسه فقال: أىّ بيت قالت العرب أشجع؟ فقال الوليد: قول عنترة العبسى، يامير المؤمنين حيث يقول <من الكامل>: إذ تتّقون بى الأسنّة لم أحم … عنها ولكنى تضايق مقدم فقال سليمان: بل قول عنترة العبسى أيضا حيث يقول <من الكامل>: وأنا المنيّة فى المواطن كلّها … والطّعن منّى سابق الآجال فقالت الجارية: بل بيت نرويه ب؟؟؟ بن مالك حيث يقول <من الكامل>: نصل السيوف إذا قصرن بخطونا … قدما ونلحقها إذا لم تلحق (3) لو. . . الكلوم: ورد البيت فى ديوان حسان بن ثابت /225/منه الكلوم: فى ديوان حسان بن ثابت 225: «الكلوم» (7) إذ. . . مقدم (مقدمى): ورد البيت فى العقد الثمين ص /48/تتّقون: فى العقد الثمين ص 48: «يتّقون» (10) وأنا. . . الآجال: ورد البيت فى ديوان عنترة بن شداد /77/فى. . . كلّها: فى ديوان عنترة بن شداد 77: «حين تشتجر القنا» (13) نصل. . . تلحق: ورد البيت فى الأغانى 16/ 234

(157) فأطرق عبد الملك ثم رفع رأسه فقال: أى بيت قالت العرب أهجا؟ فقال الوليد: قول الأعشى، يا أمير المؤمنين حيث يقول <من الطويل>: تبيتون فى المشتا ملاء بطونكم … وجاراتكم غرثى يبتن خمايصا فقال سليمان: بل قول الفرزدق حيث يقول <من الوافر>: وكنت إذا نزلت بدار قوم … رحلت بذلّة وتركت عارا فقالت الجارية: بل بيت نرويه لحسان حيث يقول <من البسيط>: قوم إذا نبّح الأضياف كلبهم … قالوا لأمّهم بولى على النار قال: فأراد عبد الملك إفحام الجارية وكسرها فقال: يا جارية أىّ بيت قالت العرب أصدق؟ فقالت: قول لبيد بن ربيعة، يامير المؤمنين حيث يقول <من الطويل>: ألا كلّ شئ ما خلا الله باطل … وكلّ نعيم لا محالة زايل فقال: يا جارية، هل تروين بيتا ليس لطاعن فيه مطعن؟ قالت: نعم يا أمير المؤمنين، أرويه ولا أروى قايله وهو <من الطويل>: (4) تبيتون. . . خمايصا: ورد البيت فى الأغانى 9/ 121؛ ديوان الأعشى 100 (6) وكنت. . . عارا: ورد البيت فى الأغانى 16/ 168 (7) لحسان: يروى للأخطل، انظر شعر الأخطل 225، انظر أيضا الأغانى 8/ 318 (9) نبّح: فى الأغانى 8/ 318؛ شعر الأخطل 225: «استنبح» (13) ألا. . . زايل: ورد البيت فى الأغانى 15/ 375؛ ديوان لبيد ص 132

ذكر سنة إحدى وثمانين

وما حملت من ناقة فوق رحلها … أبرّ وأوفى ذمّة من محمد فقال عبد الملك: أحسنت والله يا جارية، وما أرى شيا أبلغ فى الإحسان إليك من رجوعك إلى أهلك مكرمة. فأجمل صلتها وأنعم على مولاها بثمنها وأعادها مكرمة. ذكر سنة إحدى وثمانين الخليفة عبد الملك بن مروان، وعبد العزيز بمصر، والحجاج بالعراق. والنيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وثلثة عشر ذراعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. الحوادث [وفى هذه السنة توفى القاضى شريح رحمه الله، وعمره ماية وعشرون سنة]. (158) ما لخص من الحوادث الخليفة عبد الملك بن مروان بحاله، وعبد العزيز بمصر، والقاضى (9) ستة: فى درر التيجان 78 آ:11: «ثمانية»؛ فى النجوم الزاهرة 1/ 203: «سبعة» (10) ثمانية عشر: فى النجوم الزاهرة 1/ 203: «ثمانية»

بها عبد الرحمن على حاله، والحجاج بالعراقين، ومسلم بن قتيبة بخراسان. روى صاحب كتاب الأغانى عن إسحق عن أبى عبد الله قال: كان عبد الملك بن مروان أشد الناس حبا لعاتكة بنت يزيد بن معوية زوجته. وأمّها أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وعاتكة هى أم يزيد من عبد الملك، فغضبت مرة على عبد الملك، وكان بينهما باب فحجبته وأغلقته. فشقّ غضبها على عبد الملك، وشكاه إلى رجل من خاصّته يقال له عمر بن بلال الأسدى. فقال له: ما لى عندك إن رضيت؟ قال: حكمك. فأتى عمر بابها، فجعل يتباكا، فأرسل إليها بالسلام. فخرجت إليه حاضّنتها ومواليها وجوا [ريها] فقلن: ما لك، أبا حفص؟ قال: فزعت إلى عاتكة ورجوتها فقد علمت مكانى من أمير المؤمنين معوية وأمير المؤمنين يزيد رحمهما الله. قلن له: وما لك؟ قال: ابناى لم يكن لى غيرهما، عدى أحدهما على الآخر فقتله، فقال أمير المؤمنين: أنا قاتل الآخر به، فقلت: أنا الولىّ وقد عفوت. قال: لا أعوّد الناس هذه العادة. فرجوت أن ينجى الله ابنى هذا على يديها. فدخلن عليها فذكرن ذلك إليها. فقالت: كيف أصنع مع غضبى عليه وما أظهرت له؟ قلن: إذا والله يقتل ولده. فلم يزلن بها حتى دعت بثيابها. فأجمرتها. ثم خرجت نحو الباب، وأقبل خديج الخادم (2 - 8،237) صاحب. . . سنيّة: ورد النص فى الأغانى 2/ 382 - 385 (17 - 1،236) خديج. . . الخصىّ: فى الأغانى 2/ 384: «حديج الخصىّ»

الخصىّ فقال: هذه، يا أمير المؤمنين، عاتكة قد أقبلت. قال ويحك! ما تقول؟ قال: والله ها هى طلعت! فأقبلت وسلّمت فلم يرد عليها السلام، فقالت: أما والله لولا بن بلال ما جيت، الله الله يامير المؤمنين تعدّى ابنيه الواحد (159) قتل الآخر فأردت قتل الآخر، وهو الولىّ. وقد عفا، فاعف عنه عفا الله عنك. قال: إنى أكره أن أعوّد الناس هذه العادة. فقالت: أنشدك الله يامير المؤمنين، فقد عرفت مكانه من أمير المؤمنين معوية ومن أمير المؤمنين يزيد، وهو ببابى. فلم تزل به حتى أخذت رجله فقبّلتها. فقال: هو لك، ولم يبرحا حتى اصطلحا. ثم راح عمر بن بلال إلى عبد الملك فقال: يامير المؤمنين، كيف رأيت؟ قال: رينا أثرك فحمد. . .، فهات حاجتك. قال: مزرعة بعيرتها وما فيها، وألف دينار وفرايض لول‍ [دى] القاتل. قال: فضحك عبد الملك وأمر له بذلك. ثم اندفع يتمثل شعرا <من الطويل>: وإنّى لأرعى قومها من جلالها … وإن أظهروا غثا نصحت لهم جهدى (10) بعيرتها: فى الأغانى 2/ 384: «بعدّتها» (12) شعرا: البيت لكثيّر، انظر الأغانى 2/ 385

ذكر سنة اثنين وثمانين النيل المبارك فى هذه السنة

ولو حاربوا قومى لكنت لقومها … صديقا ولم أحمل على قومها حقدى وغنى بهذين البيتين بحضرة يزيد بن عبد الملك، غنا بهما الغريض، فأشير إلى الغريض أن اسكت، وفطن يزيد. فقال: دعوا با يزيد حتى يغنّينا بما يريد. فأعاد عليه الصوت مرارا. ثم قال: زدنى مما عندك. فغنّاه بشعر عمر بن شأس الأسدى <من الطويل>: فواندمى على الشباب وواندم … ندمت وبأن اليوم منّى بغير ذمّ أرادت عزازا بالهوان ومن يرد … عزازا لعمرى بالهوان فقد ظلم قال: فطرب يزيد وأمر له بجايزة سنيّة. ذكر سنة اثنين وثمانين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث (160) الخليفة عبد الملك بن مروان بحاله، وعبد العزيز أخوه بمصر بحاله، والحجاج بالعراقين. (5) عمر (عمرو). . . الأسدى: انظر الأغانى 2/ 382 حاشية 4 (7) عزازا (عرارا) بالهوان: انظر الأغانى 2/ 382 حاشية 5

ذكر سنة ثلث وثمانين النيل المبارك فى هذه السنة

فيها خلع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندى. ودعا لنفسه فى شعبان من هذه السنة. فقال: أنا القحطانى. وبايع الناس. وكانت له مع الحجاج حروب ووقايع تشيب الأطفال فى المهود. وانحصر لذلك عبد الملك انحصارا شديدا. وبذل الأموال الجمة وجهز الجيوش، واستمر عبد الرحمن يدعى أمير المؤمنين سنة اثنين إلى آخر سنة ثلاث كما يأتى ذكره فى سنة ثلاث وثمانين إنشاء الله تعالى. ذكر سنة ثلث وثمانين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة عبد الملك بن مروان بحاله، وعبد العزيز بمصر. فيها توفى القاضى عبد الرحمن. فولى عبد العزيز مالك بن شراحيل الخولانىّ القضاء بمصر، وهو صاحب المسجد المعروف بمسجد الخولانى بمصر. وكان تولى قبل عبد الله بن الزبير مع الحجاج، وكان الحجاج يرسل إليه كل سنة ثلثة آلاف دينار وحلة. ولم يزل الحجاج طول هذه السنة فى أشد الأمر مع عبد الرحمن بن

الأشعث، إلى أن تكاثرت عليه الجيوش من قبل عبد الملك. فهزموا جموع عبد الرحمن فلما رأى عبد الرحمن انهزام جموعه وأنه موخوذ اتكى على سيفه. فقتل نفسه فإنه لشدة بأسه وشجاعته لم يجسر أحدا على قتله حتى قتل نفسه، وكان ذلك فى شهر ذى القعدة من هذه السنة ووجد فى معمعة الحرب طريحا وسيفه مصلبا فيه. (161) وبعث الحجاج برأس عبد الرحمن بن الأشعث إلى عبد الملك مع عزاز بن عمرو بن شأس. فلما ورد به وأوصل الكتاب، جعل عبد الملك يقرؤه، فكلما شكّ فى شئ سأل عزاز عنه فأخبره به، فعجب عبد الملك من بيانه وفصاحته مع سواده، فقال متمثلا <من الطويل>: وإنّ عزازا إن يكن غير واضح … فإنّى أحبّ الجون ذا المنكب العمم وهذا البيت تتمة البيتان المقدم ذكرهما، فلما تمثل عبد الملك بهذا البيت ضحك عزازا من قوله ضحكا غاظ عبد الملك فقال له: ممّ [ضحكت] ويلك! قال: أتعرف عرارا يا أمير المؤمنين الذى قيل فيه هذا (4) فى. . . السنة: فى تاريخ الطبرى 2/ 1132 (حوادث 85): «ففيها كان هلاك عبد الرحمان بن محمّد بن الأشعث»، قارن فيتشا فالييرى، مقالة «ابن الأشعث» 717 (6 - 2،240) وبعث. . . سرّحه: ورد النص فى الأغانى 2/ 384 - 385 (10) المنكب العمم: انظر الأغانى 2/ 384 حاشية 4 (11) ذكرهما: انظر هنا ص 237 سطرين 6 - 7

ذكر سنة أربع وثمانين النيل المبارك فى هذه السنة

الشعر؟ قال: لا. قال: فأنا والله هو. فضحك عبد الملك حتى بانت سنه سوداء كان يخفيها وقال: حظّ وافق كلمة وأحسن جايزته وسرّحه. ذكر سنة أربع وثمانين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع ونصف إصبع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأحد وعشرون إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة عبد الملك بن مروان، وعبد العزيز بمصر، والحجاج بالعراقين. وفيها جدد البيعة عبد الملك لولده الوليد وخلع عبد العزيز [ولى] العهد، وأشاع ذلك بعد أن كان خفية. وبلغ عبد العزيز، فقطع اسم أخ‍ [يه] عبد الملك من الخطبة بمصر وأعمالها، وكان ذلك فى آخر هذه السنة، ولم يعش عبد العزيز بعد ذلك إلا سنة وأربعة أشهر، وتوفى ليلة الاثنين لستة عشرة ليلة خلت من جمادى الأول سنة ست وثمانين، وعاش (10 - 13) وفيها. . . السنة: انظر كتاب الولاة 54؛ فى تاريخ الطبرى 2/ 1170 (حوادث 85): «وفى هذه السنة بايع عبد الملك لابنيه الوليد ثم من بعده لسليمان. . .»، انظر أيضا الكامل 4/ 513 - 515 (13 - 14) ليلة. . . ثمانين: التاريخ المعطى هنا لا يتوافق مع لوائح فيستنفلد-مالير؛ فى كتاب الولاة 55: «توفى ليلة الاثنين لثلاث عشر ليلة خلت من جمادى الأولى سنة ست وثمانين»، قارن حكام مصر لفيستنفلد 36 حاشية 1

ذكر سنة خمس وثمانين النيل المبارك فى هذه السنة

بعده عبد الملك ستة أشهر، وتوفى يوم الخميس لأربع عشرة ليلة خلت (162) من شوال سنة ست وثمانين كما يأتى ذكر ذلك إن شاء الله تعالى. ذكر سنة خمس وثمانين النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ثلثة أذرع وخمسة عشر اصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأحد وعشرين إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة عبد الملك بن مروان بحاله، وعبد العزيز كذلك، والحجاج بالعراقين، وفيها ولى عبد العزيز يونس بن عطيّة الحضرمى القضاء بمصر. ويقال: فى هذه السنة مات عبد الصمد بن علىّ بن عباس بأسنانه الذى ولد بها ولم يثغر، والصحيح أنه عاش حتى أدرك عهد الرشيد فى خلافته، وهو المتفق عليه من جماعة المؤرخين، كما يأتى ذكر ذلك فى موصعه إنشاء الله تعالى. ذكر سنة ست وثمانين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلثة أذرع وخمسة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثلثة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. (1 - 2) يوم. . . ثمانين: انظر تاريخ الطبرى 2/ 1172 (حوادث 86)؛ الكامل 4/ 517؛ فى مروج الذهب 3/رقم 1973: «توفى. . . يوم السبت لأربع عشرة مضت من شوال سنة ستّ وثمانين» (9) وفيها. . . بمصر: انظر كتاب الولاة 322 - 323، وفهرسه (10 - 13) ويقال. . . موضعه: انظر كنز الدرر 5/ 463؛ فى كنز الدرر 5/ 107: «وذكر الحافظ أبو الفرج بن الجوزى فى كتاب شذور العقود أنه كانت فى عبد الصمد بن علىّ عدة عجايب. . .»

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفة عبد الملك بن مروان إلى حين وفاته النصف من شوال، وله يوميذ من العمر ثلث وستون سنة. وصلى عليه ولده الوليد بن عبد الملك، وكانت خلافته فى أصح الروايات مع سنى بن الزبير إحدى وعشرين سنة وستة أشهر. وخلص له الأمر ثلث عشرة سنة وأربعة أشهر، وكان لما مات أخوه عبد العزيز من قبله فى تاريخ ما تقدم من ذكره ولى مصر عبد الله بن مروان أخوه أيضا، وهو صاحب المسجد بمصر (163) المعروف بمسجد عبد الله. وكان عبد الله حدثا، فإنه كان آخر ولد مروان. وهو أول من نقل الدواوين بمصر وجعلهم طبقات، وأول من نها الناس عن لبس البرانس بمصر. والقاضى يونس بمصر على حاله. روى أن أرطاة دخل على عبد الملك فى هذه السنة فقال له: أنشدنى من شعرك، فأنشده <من الوافر>: (2) وفاته: انظر هنا ص 241 سطرين 1 - 2 (3) ثلث. . . سنة: فى تاريخ القضاعى، ص 136: «ستون سنة. قال الدولابى: إحدى وستون، وقال غيره: سبع وخمسون» (4 - 5) إحدى. . . ستة أشهر: فى مروج الذهب 3/رقم 1973: «إحدى وعشرين سنة وشهرا ونصف شهر» (5) ثلث. . . أشهر: انظر مروج الذهب 3/رقم 1973 (6) تقدم من ذكره: انظر هنا ص 240 سطرين 13 - 14 (6 - 7) ولى. . . مروان: فى الكامل 4/ 513 - 514: «فضمّ عبد الملك عمله إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك وولاّه مصر»، انظر أيضا كتاب الولاة 58، وفهرسه؛ النجوم الزاهرة 1/ 174 (10) يونس. . . حاله: فى كتاب الولاة 323: «فوليها يونس. . . إلى مستهل سنة ست وثمانين فصرف عنها. . .»؛ فى كتاب الولاة 324: «مات يونس. . . فى ربيع الأول سنة ست وثمانين»، انظر أيضا حكام مصر لفيستنفلد 37 (11 - 12) روى. . . فأنشده: قارن الأغانى 13/ 31

رأيت المرء تأكله اللّيالى … كأكل الأرض ساقطة الحديد وما تجد المنيّة حين تأتى … على نفس ابن آدم من مزيد وأعلم أنها ستكرّ حتّى … توفّى نذرها بأبى الوليد فقال عبد الملك: ما لك ولذكرى فى شعرك. فقال: والله ما أردتك، يا أمير المؤمنين. فقال: بلى والله، وتوفّى نذرها بأبى الوليد عبد الملك، ويضرب صدره فكأنه كان ناعيا نعى نفسه إليه، فلم يلبث حتى مات من عامه رحمه الله تعالى. [قيل: لما حضرت عبد الملك الوفاة قال: اشرفوا بى على الغوطة. فرأى غسالا يلوى ثوبا. فقال: ليتنى كنت غسالا أعيش بما كسبت يدى يوما يوما. فبلغت كلمته لأبى حازم فقال: الحمد لله الذى جعلهم عند الموت يتمنون ما نحن فيه، ولم يجعلنا عند الموت نتمنى ما هم فيه]. ذكر صفته رحمه الله كان ربعة إلى الطول أقرب منه إلى القصر، أبيض، ليس بالبادن ولا نحيف، مقرون الحاجبين، كبير العينين، مترف الأنف، كثير الشعر، مفتوح الفم، مشبك الأسنان بالذهب، خضب ثم ترك. ولد يوم جلس عثمان بن عفان للخلافة فى سنة أربع وعشرين، والله أعلم. [فى أيامه حولت الدواوين إلى العربية]. (1 - 3) رأيت. . . الوليد: وردت الأبيات فى الأغانى 13/ 31 (2) تجد: فى الأغانى 13/ 31: «تبغى» (4 - 5) ما أردتك: فى الأغانى 13/ 31: «فإنّما عنيت نفسى-وكان أرطاة يكنى أبا الوليد-» (16) ولد. . . عشرين: وفقا لزامبور، كتاب الأنساب 3، تولى عثمان فى ذى الحجة سنة 23؛ وفقا لجب، مقالة «عبد الملك بن مروان» 76، ولد باتفاق التواريخ فى سنة 26

ذكر كتابه

ذكر كتّابه قبيصة بن ذؤيب، وسرجون بن منصور، وعلىّ بن سالم أبو الزّعيزعة. ذكر حجّابه ابن يوسف مولاه ثم أبو ذروة. نقش خاتمه آمنت بالله مخلصا. تمّت أخباره، والله أعلم. (164) ذكر خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان وبعض أخباره وسيرته هو أبو العباس الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبى العاص بن أمية ويلقب النبطى. أمه ولاّدة بنت العباس بن حزؤ بن (2 - 3) قبيصة. . . الزّعيزعة: فى تاريخ القضاعى، ص 138: «روح بن زنباع، ثم قبيصة بن ذؤيب وغيرهما»، كذا فى نهاية الأرب /21/ 280/علىّ. . . الزّعيزعة: انظر مروج الذهب 6/ص 106؛ مقالات لبيوركمان 57 (5) أبو ذروة: فى تاريخ القضاعى، ص 139: «يوسف مولاه وغيره»؛ فى نهاية الأرب 21/ 280: «يوسف مولاه» (7) آمنت. . . مخلصا: كذا فى تاريخ القضاعى، ص 137؛ نهاية الأرب 21/ 280 (9) الوليد. . . مروان: انظر سير أعلام النبلاء 4/ص 347 - 348

الحارث بن زهير العبسى، وهى أم أخيه سليمان. بويع بالخلافة النصف من شوال سنة ست وثمانين بعهد من كان من قبل. وقيل: بل فى هذا التاريخ كان أول بيعته على عادة اختلاف الرواة، وكان شديد السطوة لا يتوقف إذا غضب، وكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر، وقيل سبعة أشهر ويوما، ومات الحجاج فى خلافته بواسط فى شهر رمضان سنة خمس وتسعين. والوليد أول خليفة تعاظم فى نفسه وقام بذلك خطيبا على منبره فقال: إنكم كنتم تقولون لمن كان قبلى أقوالا كثيرة، وتدعوهم بأسمايهم وتقولون: يا معوية يا يزيد يا عبد الملك، وأنا أعطى الله عهدا يأخذنى. . .، لين قال قايل لى بمثل ذلك أتلفت نفسه. فنهظ إليه يوما رجل من فزارة فقال: اتّق الله يا وليد فإنّ العظمة لله عز وجل. فأمر به فوطئ تحت الأرجل حتى مات، فاتّعظ الناس وهابوه. وكان مغرا بحب البناء والتشييد وعمارة الضياع والمصانع وا [لأسواق] والقصور. وكان الناس فى أيامه ملتهون فى مثل ذلك. وبنا مسجد سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبنا مسجد دمشق المعروف ببنى أميّة الذى (5) تسعة. . . يوما: فى تاريخ القضاعى، ص 139: «ثمانية أشهر»؛ فى مروج الذهب 3/رقم 2113: «ثمانية أشهر وليلتين»

(165) ذكر سنة سبع وثمانين النيل المبارك فى هذه السنة

اتفقت الناس أن لم يبنا مسجد مثله قط منذ أول الزمان وإلى آخر وقت. وسيأتى طرفا من ذكر بنايه ملخصا. . . فى تاريخ بنايه. . . أنفق عليه فى عمارته حسبما اتصل بنا من ذلك. (165) ذكر سنة سبع وثمانين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وستة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان، وعبد الله بن مروان بمصر، والقاضى بها يونس، والحجاج مستمرّ الولاية بالعراقين. قال الهيثم بن عدى: قدم الحجاج بن يوسف على الوليد بعد موت عبد الملك، فوجده راكبا فمشى بين يديه، ودخل الوليد الق‍ [صر] فتفضّل فى غلالة، ثم أذن للحجاج فدخل عليه، وهو فى درع [حاملا] قوسا عربيّة وكنانة متقلدا سيفا. (10) يونس: قارن هنا ص 242، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 10 (11 - 2،249) قدم. . . عبد العزيز: ورد النص فى مروج الذهب 3/رقم 2117 - 2219؛ نسخ أجزاء من النص حرفيّا

فبينا الحجاج يكلمه إذ جاءت جارية فسارّته وانصرفت. فقال الوليد للحجاج: أتدرى ما قالت هذه الجارية، يا با محمد؟ قال: لا يامير المؤمنين. قال: بعتثها أم البنين ابنة عمى عبد العزيز بن مروان، فقالت: وما مجالستك هذا الأعرابى المستليم فى سلاحه. فأرسلت إليها أنه الحجاج بن يوسف، فراعها ذلك وقالت: والله ما أحبك أن تخلوا به، وقد قتل الخلق وسفك الدماء. فقال الحجاج: دع عنك مفاكهة النساء بزخرفة المقال، فإنما المرءة ريحانة وليست بقهرمانة، لا تطلعهن على سرّك ولا تشغلهن بغير أنفسهن. ثم نهظ وخرج ودخل على الوليد أم البنين فأخبرها بمقالة الحجاج. فقالت: يا أمير المؤمنين أريد أن تأمره غدا بالتسليم عليّ، فقال: أفعل. فلما غدا الحجاج على الوليد أمره بالتسليم على أم البنين. فاستعفاه، فلم يعفه، ومضى إليها فحجبته. ثم أذنت له، فدخل فتركته (166) قايما ولم تأذن له فى الجلوس. ثم قالت له: يابن أم حجاج، أنت الممتنّ على أمير المؤمنين بقتلك بن الزبير وبن الأشعث، أما والله لولا أن الله أعلم أن أهون خلقه عليه أنت ما ابتلاك برمى الكعبة (4) المستليم. . . سلاحه: فى مروج الذهب 3/رقم 2118: «المتسلّح فى السلاح وأنت فى غلالة» (8) بغير أنفسهن: فى مروج الذهب 3/رقم 2118: «بأكثر من زينتهن» //دخل على الوليد: فى مروج الذهب 3/رقم 2118: «دخل الوليد إلى» (14) أعلم. . . أنت: فى مروج الذهب 3/رقم 2119: «علم أنك أهون خلقه»

الحرام، وقتل أول مولود ولد فى هجرة الإسلام. وأمّا بن الأشعث فو الله لقد والى عليك الهزايم، فلولا أنّ أمير المؤمنين عبد الملك نادى فى أهل الشام، وأمدّك بفرسان اليمن، وأطلقتك رماحهم، وأمنتك كفاحهم لكنت ضيق الجناز رهين قتل أو إسار. ومع هذا، إن نساء أمير المؤمنين نبضن العطر من غدايرهن، فبعنه وصرفنه فى أعطية أو لباس حتى آتاك الله الظفر بعدوه، فسكن من هلعك وربط من. . . وما كاد لولا إقبال الدولة ونصرة الخلافة، فلله الحمد والمنة لا لك. وأما ما أشرت به على أمير المؤمنين من ترك لذّته والامتناع من بلوغ أوطاره من نسايه، فلو كن يتفرجن عن مثل ما انفرجت عنه أمك منك، لكان حقيقا بالأخذ عنك وقبول قولك! ولكنهنّ عن مثل أمير المؤمنين فما يقبل رأيك ولا يصغى إلى مشورتك، لمكانه من خلافة الله وقرابته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ثم قاتل الله عمران بن حطّان حيث يقول لما نظر إليك، وسنان غزالة بين كت‍ [فيك]، ثم أنشدته الأبيات المقدم ذكرها التى أولها: أسد علىّ وفى الحروب. ثم قالت لجواريها: أخرجنه عنّى. فأخرج. ومضى مسرعا إلى الوليد فقال: ما كنت فيه يا با محمد؟ (9) فلو: فى مروج الذهب 3/رقم 2119: «فإن» (14) أسد. . . الحروب: فى مروج الذهب 3/رقم 2119: <من الكامل>: «أسد علىّ وفى الحروب نعامة … فزعاء تفزع من صفير الصافر» ورد بيتان فى مروج 3/رقم 2119، انظر مروج 3/رقم 2119 حاشية 6

(167) ذكر سنة ثمان وثمانين النيل المبارك فى هذه السنة

فقال: والله ما سكتت أم البنين حتى كان بطن الأرض أحبّ إلىّ من ظهرها! فضحك. ثم قال: إنها ابنة عبد العزيز بن مروان، وكيف لا تكون كذلك. (167) ذكر سنة ثمان وثمانين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وأحد وعشرين إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان، وعبد الله بن مروان بحاله على مصر، والقاضى يونس إلا أن توفى فى هذه السنة، فولى عبد الله عبد الرحمن بن معوية بن حديج، وجمع له مع القضاء الشّرط، وفيها كان ابتداء بنايه الجامع بدمشق. (5) أحد وعشرين (عشرون): فى درر التيجان 79 آ:20 (حوادث 88): «إحدى عشر» (6) ستة عشر: فى النجوم الزاهرة 1/ 215: «عشرون» (9) توفى. . . السنة: فى كتاب الولاة 324: «مات يونس. . . فى ربيع الأول سنة ست وثمانين» //فولى عبد الله: فى كتاب الولاة 324: «ثم ولى القضاء بها عبد الرحمن. . . من قبل عبد العزيز بن مروان» (9 - 10) عبد الرحمن. . . حديج: انظر كتاب الولاة 324؛ حكام مصر لفيستنفلد 37 (10) وفيها: فى مروج الذهب 3/رقم 2115: «وفى سنة سبع وثمانين»

ذكر جامع بنى أمية ولمعا من خبره

ذكر جامع بنى أمية ولمعا من خبره روى عن يحيى بن جابر عن يزيد بن ميسرة قال: أربعة جبال مقدسة، وهم طور تينا، وطور سينا، وطور زيتنا، وطور تيمانا. فأما طور تينا فهو بيت المقدس، وأما طور سينا فهو طور موسى [وبنى إسراييل]، وأما طور زيتنا فهو طور لبنا وهو مسجد دمشق، وأما [طور تيمانا] فهو مكة شرفها الله تعالى. وعن خليد بن دعلج وسعيد بن بشير [عن] قتادة قال: أقسم الله عز وجل بمساجد أربعة فقال: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}، فأما التين فهو مسجد دمشق، والزيتون هو مسجد بيت المقدس. وقال تعالى: {وَطُورِ سِينِينَ} (1 - 8،259) ذكر. . . دينار: ورد النص فى مدينة دمشق 2/ 5 - 9،14 - 16،25،31 - 36؛ وردت أجزاء من هذا النص هناك حرفيّا وبعضها لم يرد، انظر أيضا الترجمة الفرنسية لإليسييف (4) بيت المقدس: فى مدينة دمشق 2/ 5: «مسجد دمشق» (5) طور لبنا: فى مدينة دمشق 2/ 5: «بيت المقدس» (8) {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}: انظر معجم البلدان 4/ 423

{وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}، فطور سينين هو حيث كلّم الله تعالى موسى عليه السّلام، والبلد الأمين مكة شرفها الله تعال. وقال أحمد بن ملاكش: سمعت عبد الرحمن بن يحيى بن إسمعيل ابن عبد الله بن أبى المهاجر يقول: كان باب الساعات صخرة يوضع عليها القربان، فما تقبل منه جاءت نار فأخذته، وما لم يقبل بقى على حاله. (168) وعن عبد الخالق بن زيد عن أبيه عن عطية بن قيس الكلابى قال: قال كعب الأحبار: ليبننا فى دمشق مسجدا يبقى بعد خراب الدنيا أربعين عاما. وعن عثمان ابن أبى عاتكة عن علىّ بن يزيد عن القسم أبى عبد الملك قال: أوحى الله تعالى إلى جبل قاسيون أن هب بركتك وظلك إلى جبل بيت المقدس. ففعل فأوحى الله عز وجل إليه: أما إذ فعلت فإنى سأبنى فى حضنك بيتا أعبد فيه بعد خراب الدنيا أربعين عاما، ولا تذهب الأيام والليالى حتى أردّ عليك ضلك وبركتك. قال: وهو هذا المسجد (3) أحمد بن ملاكش (لعل الأصح: ملاّس): فى مدينة دمشق 2/ 7: «أحمد بن إبراهيم ابن ملاّس» (3 - 4) عبد الرحمن. . . المهاجر: فى مدينة دمشق 2/ 7: «عبد الرحمن بن إسمعيل عن عبد الله بن أبى المهاجر» (4) باب الساعات: فى مدينة دمشق 2/ 7: «خارج باب الساعات» (9 - 10) القسم. . . الملك: فى مدينة دمشق 2/ 8: «القاسم بن عبد الرحمن»

الذى بناه الوليد بدمشق، والجبل فهو [عند] الله عز وجل بمنزلة الضعيف المتضرّع. وقال عمر بن عبد الرحمن [بن] إبراهيم: سمعت أبى يقول: حيطان مسجد دمشق الأربعة من بناء هود النبى عليه السّلام. وما كان من النسنيسا إلى فوق فهو من بناء الوليد بن عبد الملك. وعن أبى تقى عن هشام بن عبد الملك قال: [لما أمر] الوليد بن عبد الملك ببناء مسجد دمشق وجدوا فى حايط المسجد القبلى لوحا من حجر فيه كتابة نقش. فأتوا به الوليد، فبعث به إلى الروم فلم يستخرجوه، ثم إلى العبرانيين فلم يستخرجوه، قال: فدلّ على وهب بن منبّه، فأحضره فاستخرجه وقرأه وإذا فيه مكتوب: بسم الإله القديم الأول، ابن آدم! لو رأيت يسير ما بقى من أجلك لزهدت فى طول ما ترجوا من أملك، وإنما تلقى ندمك، يوم تزلّ قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، وانصرف عنك الحبيب، وودّعك القريب، ثم صرت تدعا فلا تجيب، فلا أنت إلى أهلك (6 - 6،253) قال. . . العمل: ورد النص فى مروج الذهب 3/رقم 2115، وأجزاء من النص حرفيّا (12) يوم تزلّ: فى مدينة دمشق 2/ 9: «لو قد زلّت بك»، قارن مروج الذهب 3/رقم 2115

عايد، ولا فى عملك زايد، فاعمل لنفسك قبل يوم القيمة، وقبل يوم الحسرة والندامة، وقبل أن (169) يحلّ بك أجلك، وتنزع منك روحك، ويبطل عملك، فلا ينفعك مالا جمعته، ولا ولدا ولدته، ولا أخ تركته. ثم تصير إلى برزخ الثرى ومجاورة الموتى، فاغتنم الحياة قبل الموت، والقوة قبل الضعف، والصحة قبل السقم، من قبل أن تؤخذ بالكظم، ويحال بينك وبين العمل. وقال إسحق بن أحمد: سمعت أبا زرعة يقول: مسجد دمشق خطّه أبو عبيدة بن الجراح، وكذلك مسجد حمص، وأما مسجد مصر فإنه خطه عمرو بن العاص فى زمن عمر بن الخطاب رضى الله عنه. وعن أحمد بن إبراهيم بن هشام قال: أخبرنى أبى عن أبيه قال: لما قدم المهدى يريد بيت المقدس، دخل مسجد دمشق ومعه أبو عبد الله الأشعرى، فقال لما نظر المسجد وأعجبه: يا با عبد الله سبقتنا بنو أمية بثلاث، قال: وما هنّ يامير المؤمنين؟ قال: بهذا البيت، يعنى مسجد دمشق لا أعرف بنى على وجه الأرض مثله، وبنيل الموالى، فإن لهم موالى ليس لنا مثلهم، وبعمر بن عبد العزيز لا يكون والله فينا مثله. قال: ثم أتو بيت (7) إسحق بن أحمد: فى مدينة دمشق 2/ 14: «إسحق»

المقدس فدخلوا الصخرة فقال: يا با عبد الله! وهذه رابعة. وقال أحمد بن إبراهيم بن هشام: حدثنى أبى قال: لما دخل المأمون مسجد دمشق ومعه المعتصم ويحيى بن أكثم القاضى فقال المأمون: ما أعجب ما فى هذا المسجد؟ فقال له أبو إسحق المعتصم: ذهبه وبقاؤه فإنا ريناه فى قصور فلا يمضى به العشرون سنة حتى يتغير. فقال: ما ذاك أعجبنى منه. فقال يحيى بن أكثم: تأليف رخامه، فإنى رأيت عقد ما رأيت مثلها. قال: ما ذاك أعجبنى منه. قالا: فما الذى أعجب أمير المؤمنين؟ قال: بنيانه على غير مثال متقدّم. وقال أبو محمد جعفر بن أحمد: سمعت عبد الرحمن بن عبد الله يقول: سمعت الشافعى رضى الله عنه (170) يقول: عجايب الدنيا خمسة أشياء أحدها منارتكم هذه، يعنى منارة إسكندرية، وهى بناية ذو القرنين، وثانيها {أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} الذين هم بالروم، وثالثها مرآة ببلاد الأندلس معلقة على باب المدينة، فإذا غاب الرجل عن بلاده على مسافة ماية فرسخ، وجاء أهله إلى تلك المرآة يروا صاحبهم من تلك المسافة، ورابعها مسجد دمشق وما فى بنايه من الأعاجيب، فإن رخامه لا يعلم له (12) أصحاب. . . الرّقيم: فى مدينة دمشق 2/ 16: «أصحاب الرقيم» (15 - 2،255) ورابعها. . . لذاب: ورد النص فى مدينة دمشق 2/ 16 باختلاف كبير

معدن، ويقال إنه معجون، والدليل على أنه معجون أنه لو وضع على النار لذاب. والخامسة أنى رأيت باليمن امرأة ذات رأسين، وفى كل رأس وجه كامل من أحسن ما يكون، وكل رأس يتكلم بما أحب، ومن صدرها إلى أسفلها جسد واحد فتزوجتها وأقمت معها سنة ثم طلقتها، وسافرت عن اليمن، وكان ذلك فى سنة ثمان وستين و [ماية]. ثم عدت إلى اليمن فوجدتها برأس واحد فسلمت عليها فعرفتنى فسألتها عن ذلك. فقالت: تلاشا فضربناه وقطعناه. فقيل له: فكيف كانا؟ فقال: كانا كعمودين على دعامة، فوقع أحدهما وبقى الآخر. قال: وذكر إبراهيم بن أبى الليث الكاتب، وكان قدم دمشق فى سنة اثنين وثلثين وأربع ماية فى رسالة له منها: وأفضيت إلى الجامع فشاهدت منه ما ليس فى استطا [عة] الواصف أن يصفه، ولا الزاى أن يعرفه، وجملته أنه بكر الدهر، ونادرة الوقت، وأعجوبة الزمان، وغريبة الأوقات، ولقد أثبت بنو أمية ذكرا يدرس، وخلفت أثرا لا يخفا ويدرس. وذكر أبو الحسين محمد بن عبد الله الرازى قال: قرأت فى كتاب فيه (2 - 8) والخامسة. . . الآخر: لم أقف على هذا النص فى مدينة دمشق (14) الحسين: كذا فى مدينة دمشق، الترجمة الفرنسية لإليسييف 37؛ فى مدينة دمشق 2/ 25: «الحسن»

أخبار الأوايل أن هذه الدار المعروفة بالخضراء والدار المعروفة بالمطبق، مع الدار المعروفة بدار الخيل، مع المسجد الجامع، أقاموا وقت بنايهم يأخذوا ل‍. . . (171) الطالع ثمانية عشر سنة حتى واتاهم ذلك، وكان القصد أن تكون أحدهم دار إمارة لا ينقطع منها حكما، والأخرى دار طيبة لا ينقطع منها لذة، والأخرى دار سجن لا ينقطع منها سجنا، والأخرى دار ذكر وعبادة لا ينقطع منها ذلك. وقال ابن البرا: سمعت أبى يقول: سمعت بعض مشايخنا يقول: لما فرغ الوليد من بناء المسجد، قال له بعض ولده: أتعبت الناس فى طينة تخرب فى كل سنة. قال: فأمر أن يسقّف بالرصاص، فطلب الرصاص من كل بلد وناحية، وبقى موضع لم يجدو له رصاصا، فكتب إلى ساير النواحى والعمال، فأجابه بعض عماله: إنا قد وجدنا عند امرأة منه حاجتنا وقد أبت أن تبيعه إلا وزن بوزن من فضة وذهب. فكتب إليه أن خذ منها (1) بالمطبق: فى مدينة دمشق 2/ 25: «بالكبق»؛ فى مدينة دمشق 2/ 25 حاشية 1: «لعلها كانت دارا يتعلم فيها الرماية إلى جانب دار الخيل. ولعبة القبق اشتهرت فيما بعد أيام نور الدين وخلفائه» (3 - 6) وكان. . . ذلك: هذا النص مختلف فى مدينة دمشق 2/ 25 (7) البرا (لعل الأصح: البرامى): فى مدينة دمشق 2/ 31: «انا أبو بكر بن البرامى قال»

بما أحببت وزنا بوزن. فلما وافاها قالت: هو هديه منى للمسجد. فقالوا لها: أنتى طلبتى زنته شحا منكى فتهديه للمسجد بغير ثمن؟ قالت: إنما فعلت ذلك ظنا منى أن صاحبكم يظلم الناس فى بنايه. فلما رأيت الوفاء منه علمت أنه ليس بظلم، فتبرعت. فكتب العامل بذلك إلى الوليد، فأمر أن تطبع على صفايحه «هذا لله»، ولم يدخله فى جملة ما عمله فهو إلى اليوم مكتوب عليه ذلك. وقال بعض السلف رضى الله عنه: وجدت فى كتاب لأهل دمشق أنه أقيمت القبة الرخام التى فيها الفوّارة الماء فى سنة تسع وستين وثلثماية، وأنه وجد بخط إبراهيم ابن الحنايى أن الفوّارة المستجدة فى وسط جيرون أنشيت فى سنة ست عشرة وأربع ماية، وجرت ليلة الجمعة لسبع ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة سبع عشرة وأربع ماية. وقال أبو الطيب أحمد بن إبراهيم بن عباد: سمعت أحمد بن إبراهيم ابن (172) هشام يقول: سمعت أبى يقول: ما فى [مسجد] دمشق من الرخام إلا رخامتى المقام، فإنه يقال إنهما من عرش بلقيس، أو قيل عرش سبأ. وأما الباقى فكله مرمر. (2) فتهديه: فى مدينة دمشق 2/ 31: «فتهدينه» (8) المستجدة: فى مدينة دمشق 2/ 32: «المنحدرة» (13) الرخام: فى مدينة دمشق 2/ 33: «الرخام شئ»

وعن مروان بن الحجاج عن أبيه قال: كان فى مسجد دمشق اثنا عشر ألف مرخّم. وعن سليمان بن عبد الرحمن عن الوليد بن مسلم عن عمر بن مهاجر وكان على بيت المال، أنهم حسبوا ما أنفق على الكرمة التى فى قبلة المسجد الذى لدمشق فكان سبعون ألف دينار. وقال أبو قصىّ: وحسبوا جميع ما أنفقوا على مسجد دمشق فكان أربع ماية صندوق، فى كل صندوق ثمانية وعشرين ألف دينار. فجاء جملة ذلك إحدى عشر ألف ألف دينار ومايتى ألف دينار. وبلغ الوليد أن أهل الشام يقولون أن أمير المؤمنين أنفق جميع أموال المسلمين فى غير وجهها قال: فنادا بالصلاة جامعة. وخطب الناس ثم قال: بلغنى عنكم أنكم تقولون كيت وكيت علىّ بعمر بن مهاجر خازن بيت المال، فمثل بين يديه فقال: أحضر ما عندك من الأموال. قال: فأحضر ذلك على ظهور البغال، وعادوا يصبوه أولا فأولا على أنطاع قد فرشت تحت القبة حتى صار من فى الجامع لا يرى من فى القبلة ولا الذى فى القبلة يرا الذى فى الصحن ثم (1) الحجاج: فى مدينة دمشق 2/ 34: «جناح» (3) سليمان. . . عبد الرحمن: فى مدينة دمشق 2/ 35: «وأخبرنا أبو العشاير محمد بن الخليل بن فارس العنسى، انبا أبو القاسم بن أبى العلى» (4) الكرمة: انظر مدينة دمشق، الترجمة الفرنسية لإليسييف 53 حاشية 3 (13 - 14) صار. . . الصحن: فى مدينة دمشق 2/ 36: «لم يبصر من فى الشام من فى القبلة، ولا من فى القبلة من فى الشام»

استدعا بالقبابين ثم أحصى من يأخذ الأرزاق فى كل سنة فوجدوهم ثلثماية ألف من الجند وماية ألف نفر من أرباب الصدقات والقراء والقضاة. فحسبوا ما يكفيهم فى كل سنة، فوجدوا ذلك المال كفاية أرزاق ثلث سنين ويزيد. فنادوا فى الناس بذلك. فكبروا وفرحوا وحمدوا الله تعالى ودعوا لأمير المؤمنين. وعن محمد بن هرون بن بكار عن خالد بن تبوك قال: حدثنى شيخ من أهل (173) العلم أن الوليد اشترى العامودين الخضر الذين تحت القبة من حرب بن خالد بن يزيد بن معوية بألف وخمس ماية دينار. وقيل أن نصف الجامع من الشرق كان كنيسة للروم، وأن الوليد طلبها منهم وقال: إن الإسلام قد كثر ومسجدنا داق بجمعنا. فقالوا: معنا نسخة فيها خط من مضا من الخلفاء، وخط أبيك عبد الملك أن لا نعارض. فقال: فالكنايس الخارجة عن دمشق معكم بها خطوط؟ قالوا: لا. فقال: أريد أخربها. فلما تحققوا ذلك أعطوه ما طلب للجامع. وقالت الروم: أى من أخربها يصاب من وقته. فهابها الناس. فنزل الوليد عن فرسه وعليه حلة خضراء وعمامة خضراء وأخذ فأسا وجعل يضرب ويخرب، والناس قيام ينظرون إليه. ثم تداعت الناس فهدموها. وروى أن ملك الروم كتب إلى الوليد يقول: أما بعد فإنك أخربت شئ رضى به (1) استدعا (استدعى) بالقبابين: فى مدينة دمشق 2/ 36: «قال: الموازين، فأتت الموازين، يعنى القبابين» (6) محمد. . . بكار: فى مدينة دمشق 2/ 36: «محمد بن أحمد بن هرون، يعنى العاملى» (7) الوليد: فى مدينة دمشق 2/ 36: «عبد الملك» //القبة: فى مدينة دمشق 2/ 36: «النسر»

أبوك من قبلك، فإن يكن أصاب فقد أخطأت أو أصبت فأخطأ. فكتب إليه يقول {وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ}، الآية. قلت: هذا ما اتصل بالقدرة فى وصف جامع بنى أمية مفصلا. وأما وصفه جملة، فقد روى أن رجلا من السلف الصالح كان مجاورا للجامع قال لى: مدة أربعين سنة ما فاتتنى صلاة الخمس فى مسجد بنى أمية، وما دخلته قط إلا ووقعت عينى فيه على ما لا أكن رأيته قبل ذلك من تزاويقه ونقوشه، وفى هذا الكلام كفاية للحاذق. [من الأصل: وفيها كان تجديد مسجد سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. روى أبو داود عن بن عمر أن المسجد كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مبنى باللبن وسقفه بالجريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبى بكر شيا وتخرب فى خلافة عمر فبناه على حاله، وبناه عثمان وزاد فيه، وبناه بالحجارة المقوّسة وجعل أعمدته من حجارة منقوشة وسقفه بالساج. وروى أنه قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هدّه أى أصلحه. فقال: عريش كعريش موسى. ثم إن الوليد هدمه فى هذه السنة وزاد فيه وأدخل حجر أمهات المؤمنين فيه، وكان متولى المدينة يوميذ عمر بن عبد العزيز، واستعمل على هدمه وبنايه (16) عمر بن عبد العزيز: انظر كتاب الأنساب لزامبور 24

(174) ذكر سنة تسع وثمانين النيل المبارك فى هذه السنة

صالح بن كيسان، فبدأ فى عمله فى شهر صفر من هذه السنة حتى كمل على أفخم هيّة وأحسن بنية وأتمّ إتقان. قال عبد الله بن مسلم. ثم وسعه المهدى سنة ستين وماية وزاد فيه المأمون زيادة كهذه ووسعه. وعلى موضع زيادته مكتوب: أمر عبد الله عبد الله بعمارة مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فى سنة اثنين ومايتين طلب ثواب الله وطلب كرامة الله، فإن الله عنده ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا. أمر عبد الله عبد الله بتقوى الله ومراقبته وصلة الرحم والعمل بكتاب الله وسنّة رسوله، وتعظيم ما صغر فيه الجبابرة من حقوق الله، وإحياء ما أماتوه من العدل، وتصغير ما عظّموه من العدوان والجور، وأن تطيعوا الله، ومن أطاع الله وتعصوا من عصى الله، فإنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الله]. والوليد أول من اتخذ البيمارستان، وأول من أجرى على القرّاء وطلبة العلم وقوّام المساجد الأرزاق، وكذلك على العميان وأصحاب العاهات وأخدم كل واحد منهم خادما، ذكر ذلك الثعالبى. (174) ذكر سنة تسع وثمانين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع واثنا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة أصابع. (1) صالح بن كيسان: انظر الأعلام 3/ 280 (12 - 14) الوليد. . . . خادما: انظر لطائف المعارف 18 (18) ستة: فى النجوم الزاهرة 1/ 217: «عشرون»

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان، وعبد الله بمصر، وعبد الرحمن ابن معوية بن حديج القاضى بمصر، والحجاج بن يوسف بالعراقين. روى صاحب كتاب الأغانى عن حمّاد الرواية عن أبيه عن جده قال: كتب الوليد بن عبد الملك إلى عامله بمكة: أن أشخص لى ابن سريج، فأشخصه. فلما قدم مكث أياما لا يدعوا به ولا يلتفت إليه. ثم إنه ذكره وطرب له فقال: ويلكم! ما فعل ابن سريج؟ قالوا: حاضر. قال: علىّ به، فأحضر وقد تهيأ وتلبس وتطيب، فأقبل حتى دخل على الوليد فسلّم. فأشار إليه: أن اجلس. فجلس بعيدا. فاستدناه حتى كان منه قريبا فقال: ويحك يا عبيد! قد بلغنى ما حملنى على الوفادة بك من كثرة أدبك وجودة اختيارك مع ظرف لسانك وحلاوة منطقك ولذاذة مجلسك. قال: جعلت فداك، يا أمير المؤمنين! «تسمع بالمعيدىّ لا أن تراه»، قال الوليد: إنى لأرجوا أن لا تكون أنت ذاك، هات ما عندك. فاندفع ابن سريج يغنى بشعر الأحوص فى الوليد <من الطويل>: (2 - 3) عبد. . . حديج: فى كتاب الولاة 324: «. . . ثم ولى القضاء عبد الرحمن. . . فى ربيع الأول سنة ست وثمانين» (5 - 2،269) حمّاد. . . تشنه: ورد النص فى الأغانى 1/ 297 - 302،309،314 - 315 (6) لى: فى الأغانى 1/ 297: «إلىّ» (13) لا أن: فى الأغانى 1/ 297: «خير من أن»

أمنزلتى سلمى على القدم اسلما … فقد هجتما للشوق قلبا متيّما وذكّرتما عصر الشّباب الذى مضى … وجدّة وصل حبله قد تصرّما وإنى إذا حلّت ببيش مقيمة … وحلّ بوجّ جالسا أو تتهّما يمانية شطّت وأصبح نفعها … رجاء وظنّا بالمغيب مرجّما (175) أحبّ دنوّ الدار منها وقد أبى … بها صدع شعب الدار إلاّ توهّما بكاها وما يدرى سوى الظّنّ ما بكى … أحيّا يبكّى أم ترابا وأعظما فدعها وأخلف للخليفة مدحة … تزل عنك بؤسى أو تفيدك مغنما فإنّ بكفّيه مفاتيح رحمة … وغيث حيا يحيا به الناس مرهما إمام أتاه الملك عفوا ولم يكن يثب … على ملكه مالا حرما ولا دما تخيّره ربّ العباد لخلقه … وليّا وكان الله بالناس أعلما فلما ارتضاه الله لم يدع مسلما … لبيعته إلاّ أجاب وسلّما ينال الغنى والعزّ من نال ودّه … ويرهب موتا عاجلا إن تسنما (1 - 3) أمنزلتى. . . تتهّما: وردت الأبيات فى شعر الأحوص (تحقيق إبراهيم السامرائى) ص 192 (2) تصرّما: فى الأغانى 1/ 297: «تجذّما»، انظر أيضا هناك حاشية 6 (3) ببيش: انظر الأغانى 1/ 298 حاشية /1/بوجّ: انظر الأغانى 1/ 298 حاشية /2/ جالسا: انظر الأغانى 1/ 298 حاشية /3/تتهّما: انظر الأغانى 1/ 298 حاشية 4 (5) شعب: انظر الأغانى 1/ 298 حاشية /5/توهّما: فى الأغانى 1/ 298: «تثلّما» (6) ما بكى: فى الأغانى 1/ 298: «من بكى» (7) تفيدك: انظر الأغانى 1/ 298 حاشية /7/مغنما: فى الأغانى 1/ 298: «أنعما» (8) مرهما: انظر الأغانى 1/ 298 حاشية 8 (9) ولم. . . يثب: فى الأغانى 1/ 298: «ولم يثب» (12) إن تسنما: فى الأغانى 1/ 298: «من تشأما»، انظر الأغانى 1/ 298 حاشية 10

فقال الوليد: أحسنت والله وأحسن الأحوص! ثم قال: هيه يا عبيد. فاندفع فغناه بشعر عدىّ بن الرّقاع العاملىّ يمدح الوليد <من البسيط>: طار الكرى وألمّ الهمّ فاكتنعا … وحيل بينى وبين النّوم فامتنعا كان الشّباب قناعا أستكنّ به … وأستظلّ زمانا ثمّت انقشعا واستبدل الرأس شيبا بعد داجية … فتانة ما ترى فى صدغها نزعا فإن تكن ميعة من باطل ذهبت … وأعقب الرأس بعد الصّبوة الورعا لقد أبيت أناعى الخود دانية … على الوسايد مسرورا بها ولعا برّاقة الثّغر يشفى القلب لذّتها … إذا مقبّلها فى نحرها لمعا كالأقحوان بضاحى الرّوض صبّحه … غيث أرشّ بتنضاح وما نقعا صلّى الذى الصّلوات الطّيّبات له … والمؤمنون إذا ما جمّعوا الجمعا على الذى سبق الأقوام صاحبه … بالأجر والحمد حتى صاحباه معا هو الذى جمع الرحمن المته … على يديه وكانوا قبله شيعا (176) عذنا بذى العرش أن نحيى ونفقده … وأن نكون لراع بعده تبعا (3) ألمّ: انظر الأغانى 1/ 299 حاشية /1/فاكتنعا: انظر الأغانى 1/ 299 حاشية 2 (5) فتانة: فى الأغانى 1/ 299: «فينانة» (6) ميعة: انظر الأغانى 1/ 299 حاشية /5/الرأس: فى الأغانى 1/ 299: «الله» (7) الخود: انظر الأغانى 1/ 299 حاشية /6/دانية: فى الأغانى 1/ 299: «راقدة» (8) لمعا: فى الأغانى 1/ 299: «كرعا»، انظر أيضا حاشية 7 (9) بتنضاح: انظر الأغانى 1/ 299 حاشية 8 (11) صاحبه: فى الأغانى 1/ 299: «ضاحية» (12) المته (لمّته): فى الأغانى 1/ 299: «أمّته» //شيعا: انظر الأغانى 1/ 299 حاشية 10

إنّ الوليد أمير المؤمنين له … ملك عليه أعان الله فارتفعا لا يمنع الناس ما أعطى الذين هم … له عباد ولا يعطون ما منعا قال له الوليد: صدقت يا عبيد، أنّى لك هذا؟ قال: هو من عند الله. قال الوليد: لو غير هذا قلت لأحسنت أدبك. قال ابن سريج: {ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ} من عباده. قال الوليد: يزيد فى الخلق ما يشاء. قال ابن سريج: ذلك فضل ربى ليبلونى أشكر أم أكفر. قال الوليد: علمك والله أكثر وأعجب إلىّ من غنايك! هات فغنّنى! فغنّاه بشعر عدىّ بن الرّقاع يمدح الوليد أيضا <من الكامل>: عرف الدّيار توهّما فاعتادها … من بعد ما شمل البلى أبلادها ولربّ واضحة العوارض حرّة … كالرّيم قد ضربت به أوتادها إنّى إذا لم تصلنى خلّتى … وتباعدت منّى اغتفرت بعادها صلى الإله على امرئ ودّعته … وأتمّ نعمته عليه وزادها وإذا الرّبيع تتابعت أنواره … فسقا حياضرة الأخصّ وجادها نزل الوليد بها فكان لأهلها … غيثا أغاث أنيسها وبلادها أو لا ترى أن البريّة كلّها … ألقت خزايمها إليه فقادها (9) فاعتادها: انظر الأغانى 1/ 300 حاشية /1/أبلادها: انظر الأغانى 1/ 300 حاشية 2 (10) العوارض: انظر الأغانى 1/ 300 حاشية 3 (11) خلّتى: فى الأغانى 1/ 300 حاشية 5: «صديقتى» (13) أنواره: فى الأغانى 1/ 300: «أنواءه»

ولقد أراد الله إذ ولاّكها … من أمّة إصلاحها ورشادها وعمرت أرض المسلمين فأقبلت … وكففت عنها من يريد فسادها وأصبت فى أرض العدوّ مصيبة … عمّت أقاصى غورها ونجادها ظفرا ونصرا ما تناول مثله … أحد من الخلفاء كان أرادها وإذا نشرت له الثناء وجدته … جمع المكارم طرفها وتلادها (177) فأشار الوليد إلى بعض الخدم، فغطّوه بالخلع ووضعوا بين يديه كيسة الدنانير وبدر الدراهم. ثم قال: يا مولى بنى نوفل بن الحرث، لقد أوتيت أمرا جليلا. فقال: وأنت يا أمير المؤمنين! فقد آتاك [الله] عز وجل ملكا عظيما وشرفا عاليا، وعزّا بسط يدك فيه فلم يقبضه عنك ولا يفعل إن شاء الله. وأدام [الله] لك، ما ولاّك، وحفظك فيما استرعاك، فإنك أهل لما أعطاك، ولا ينزعه منك إذا رآك أهلا لما أتاك. قال الوليد: يا نوفلىّ، وخطيب أيضا! قال بن سريج: عنك نطقت، وبلسانك تكلّمت، وبعزّك بيّنت. وقد كان الوليد أمر بإحضار الأحوص بن محمد الأنصارى وعدىّ بن الرّقاع العاملىّ حين غنا ابن سريج بشعرهما فى الوليد. فلما قدما أمر بإنزالهما حيث بن سريج فأنزلا منزلا إلى جنب بن سريج. فقالا: والله (2) عمرت: فى الأغانى 1/ 301: «أعمرت» (11) ينزعه. . . أتاك: فى الأغانى 1/ 301: «نزعه منك إذ رآك له موضعا»

لقرب أمير المؤمنين كان أحبّ إلينا من قربك يا مولى بنى نوفل، فإنّ فى قربك ما يلذّنا ويشغلنا عن كثير مما نريد. فقال لهما ابن سريج: أوقلّة شكر! فقال عدىّ: كأنك يابن اللّخناء تمنّ علينا [علىّ] وعلىّ، إن جمعنا وإياك سقف بيت أو صحن دار إلا عند أمير المؤمنين. وأما الأحوص فقال: أو لا تحتمل لأبى يحيى الزّلّة والهفوة! كفّارة يمين خير من عدم المحبة، وإعطاء النفس سؤلها خير من لجاج فى غير منفعة! فتحوّل عدىّ وبقى الأحوص. وبلغ الوليد ما جرى بينهم، فدعا بابن سريج فأدخله بيتا وأرخى دونه سترا. ثم أمره إذا فرغ الأحوص وعدىّ من كلمتيهما أن يغنّى. فلما دخلا وأنشداه مدايح لهما فيه، رفع صوته ابن سريج من حيث لا يرونه وضرب (178) بعوده. فقال عدىّ: يامير المؤمنين، أتأذن لى فى أن أتكلم؟ قال: قل يا عاملىّ. قال: أيكون مثل هذا عند أمير المؤمنين، ويبعث إلى ابن سريج يتخطّى به رقاب قريش والعرب من تهامة إلى الشام! ترفعه أرض وتخفضه أخرى فيقال: من هذا؟ فيقال: عبيد بن سريج مولى بنى نوفل بعث إليه أمير المؤمنين يسمع غناوه. قال الوليد: ويحك يا عدىّ! أو لا تعرف هذا الصوت؟ قال: لا، والله ما سمعته قط ولا سمعت مثله حسنا. ولولا أنه فى مجلس أمير المؤمنين لقلت: طايفة من الجنّ يتغنّون. قال: اخرج (2) يلذّنا: انظر الأغانى 1/ 301 حاشية 2 (6) لجاج: انظر الأغانى 1/ 302 حاشية 1 (15) يسمع: فى الأغانى 1/ 302: «ليسمع»

عليهم. فخرج فإذا هو ابن سريج. فقال عدىّ: حقّ لهذا أن يحمل! -ثلثا- ثم أمر لهما بمثل ما أمر به لابن سريج وارتحل القوم. وكان الذى غنّاه بن سريج بشعر عمر بن أبى ربيعة المخزومى يقول <من السريع>: بالله يا ظبى بنى الحارث … هل من وفى بالعهد كالنّاكث لا تخدعنّى بالمنى عنوة … وأنت بى تلعب كالعابث حتّى تراايت لنا هكذا … نفسى فداء لك يا حارثى يا منتهى همّى ويا منيتى … ويا هوى نفسى ويا وارثى وعن حماد بن إسحق عن أبيه قال: قال لى الفضل بن يحيى: سألت أباك ليلة، وقد أخذ منه الشراب: من أحسن والناس غناء. فقال: من النساء أم الرجال؟ فقلت: من الرجال. فقال: بن محرز. قلت: فمن النساء؟ قال: بن سريج. قال إسحق: أحسن النساء غناء من تشبّه بالرجال، وأحسن الرجال غناء من تشبّه بالنساء. وعن إسحق الموصلى قال: تغنّى ابن سريج فى شعر لعمر بن أبى ربعية المخزومى وهو <من الرجز>: (179) خانك من تهوى فلا تخنه … وكن وفيّا إن سلوت عنه (3) بشعر: فى الأغانى 1/ 302: «من شعر» (5) عنوة: فى الأغانى 1/ 303: «باطلا» (6) تراايت (تراءيت): فى الأغانى 1/ 302: «متى أنت»، انظر هناك حاشية 4 (15 - 2،129) خانك. . . تشنه: وردت الأبيات فى ديوان عمر بن أبى ربيعة 440

ذكر بن سريج ونسبه ولمعا من خبره

واسلك سبيل وصله وصنه … عسى تباريح يحنّ منه فيرجع الوصل ولم تشنه ذكر بن سريج ونسبه ولمعا من خبره هو عبيد بن سريج، ويكنى أبا يحيى مولى بنى نوفل بن عبد مناف، وقيل: إنه مولى لبنى الحرث بن عبد المطلب، وقيل: إنه مولى لبنى ليث. ومنزله بمكة شرفها الله تعالى، وقيل: هو مولى لبنى عايذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. وفى بنى عايذ يقول الشاعر <من الوافر>: فإن تصلح فإنك عايذىّ … وصلح العايذىّ إلى فساد وذكر إبراهيم بن زياد أن بن سريج كان آدم أحمر ظاهر الدم سناطا فى عينه قبل، وبلغ خمسا وثمانين سنة، وكان أكثر ما يرى مقنّعا، وكان منقطعا إلى عبد الله بن جعفر. وكان أحسن الناس غناء. وغنّى فى زمان (1) عسى. . . منه: فى الأغانى 1/ 315؛ عمر بن أبى ربيعة 440: «إن كان غدّارا فلا تكنه» //يحنّ: فى الأغانى 1/ 315؛ عمر بن أبى ربيعة 440: «تجئ» (2) فيرجع. . . تشنه: فى الأغانى 1/ 315؛ عمر بن أبى ربيعة 440: «عسى تباريح تجئ منه … فيرجع الوصل ولم تشنه» (3 - 16،270) بن (ابن) سريج. . . مناه: ورد النص فى الأغانى 1/ 248 - 249،251 (4) عبيد: انظر الأغانى 1/ 248 حاشية 3 (9) سناطا: انظر الأغانى 1/ 249 حاشية 2 (10) قبل: انظر الأغانى 1/ 249 حاشية 3

عثمان بن عفان رضى الله عنه ومات فى خلافة هشام بن عبد الملك مجذوما. قال إسحق الموصلى: أصل الغناء أربعة نفر: مكّيان ومدنيّان. فالمكيّان: ابن سريج وابن محرز، والمدنيّان: معبد ومالك. وسيأتى ذكر كل واحد من هؤلاء فى موضعه الايق به إنشاء الله تعالى. وقال إسحق: سألت هشام بن المرّيّة، وكان قد عمّر، وكان عالما بالغناء لا يناوى فيه فقلت: من أحذق الناس بالغناء؟ فقال لى: أتحبّ الإطالة أم الاختصار؟ فقلت: بل الاختصار. قال: ما خلق الله عز وجل بعد داود عليه السلام أحسن صوتا من ابن سريج، ولا صاغ الله عز وجل أحدا أحذق منه بالغناء، ويدلّك (180) على ذلك أن معبدا كان إذا أعجبه غناؤه قال: أنا اليوم سريجىّ. وعن يونس ابن محمد الكاتب إنه تحدّث عن الأربعة: ابن سريج وابن محرز ومعبد والغريض. فقيل له: من أحسن الناس غناء؟ فقال: أيو يحيى. فقيل: عبيد بن سريج؟ قال: نعم. قيل: وكيف ذاك؟ قال: إن شيتم فسّرت ذلك، وإن شيتم أجملته. قالوا: بل أجمل. قال: كأنه خلق من كل قلب، يغنى لكل أحد مناه. (7) يناوى: فى الأغانى 1/ 251: «يبارى»

وروى أبو الفرج صاحب كتاب الأغانى أن عمر بن أبى ربيعة وبن سريج أتيا أيام الحج، وهما فى أحسن هية وأبها زى. ونزلا إلى كثيب على خمسة أميال من مكة مشرف على الطريق الآخذة إلى المدينة والشأم والعراق، وصارا إليه وأكلا وشربا. فلما انتشيا أخذ بن سريج الدّفّ فنقره وجعل يتغنى، وهم ينظرون إلى الحاجّ. فلما أمسيا رفع بن سريج صوته فغنى فى شعر عمر بن أبى ربيعة. فسمعه الركبان، فجعلوا يصيحون به: يا صاحب الصوت أما تتّقى الله عز وجل! قد حبست الناس عن مناسكهم! فيسكت قليلا، حتى إذا مضوا رفع صوته وقد أخذ منه الشراب، فيقف آخرون، إلى أن وقف عليه فى الليل رجل على فرس عتيق عربى مسن كأنه ثمل، حتى وقف بأصل الكثيب، وثنى رجله على قربوس سرجه. ثم نادا: يا صاحب الصوت، أيسهل عليك أن تردّ شيا ممّا سمعته منك؟ قال: نعم ونعمة عين، وأيّها تريد؟ قال: تعيد علىّ <من الطويل>: ألا يا غراب البين ما لك كلّما … علوت بفقدان علىّ تحوم أبا البين من عفراء أنت مخبّرى … عدمتك من طير فأنت مشوم (1 - 4،274) عمر. . . معوية: ورد النص فى الأغانى 1/ 258 - 259،261 - 266 (4) الدّف: انظر الأغانى 1/ 262 حاشية 2 (9) عتيق: انظر الأغانى 1/ 262 حاشية /4/مسن: فى الأغانى 1/ 262: «مستنّ»، انظر هناك حاشية 5 (12) نعمة عين: انظر الأغانى 1/ 258 حاشية 2

(181) الشعر لقيس بن ذريح وقيل لعروة، والغناء فيه لابن سريج فغناه. ثم قال ابن سريج: أزدد إن شيت، قال: غنّنى <من الطويل>: أمسلم إنّى يابن كلّ خليفة … ويا فارس الهيجا ويا جبل الأرض شكرتك إنّ الشكر حبل من التّقى … وما كلّ من أقرضته نعمة يقضى وأحييت لى ذكرى وما كان ميتا … ولكنّ بعض الذكر أنبه من بعض الشعر لأبى نخيلة الحمّانى، والغناء لابن سريج فغناه. فقال له: الثالث ولا أستزيدك. فقال: قل ما شيت. قال: غننى <من المنسرح>: يا دار أقوت بالجزع والكثب … بين مسيل العذيب والرّحب لم تتقنّع بفضل ميزرها … دعد ولم تسق دعد بالعلب فغناه، ثم قال له ابن سريج: أبقيت لك حاجة؟ قال: نعم، تنزل إلىّ لأخاطبك شفاها بما أريد. فقال له عمر: انزل إليه. فنزل. فقال له: لولا أنّى أريد وداع الكعبة، وقد تقدّمنى ثقلى وغلمانى، لأطلت مقامى عندكما. ولكنى أخشى أن يفضحنى الصبح، ولو كان ثقلى معى لما رضيت لك (1) وقيل لعروة: فى الأغانى 1/ 264: «وقيل: إنه لغيره» (3) أمسلم: انظر الأغانى 1/ 263 حاشية 1 (5) أحييت. . . ميتا: فى الأغانى 1/ 265: «نوّهت لى باسمى وما كان خاملا» (9) بالجزع: انظر الأغانى 1/ 263 حاشية /4/الكثب: انظر الأغانى 1/ 263 حاشية /5/العذيب: انظر الأغانى 1/ 263 حاشية /6/الرّحب: انظر الأغانى 1/ 263 حاشية 7 (10) بالعلب: انظر الأغانى 1/ 263 حاشية 10

بالهوينا. ولكن خذ حلّتى هذه وخاتمى ولا تخدع فيهما فإن شراءهما ألف وخمس ماية دينار. وفى رواية حمّاد بن إسحق أنه لما نزل إليه قال له: بالله عليك، أنت بن سريج؟ قال: نعم. قال: حيّاك الله أبا يحيى! وهذا عمر بن أبى ربيعة؟ قال: نعم. قال: حيّاك الله يا با الخطاب! فقالا له: وأنت فحيّاك الله! قد عرفتنا فعرّفنا بنفسك. قال: لا يمكننى ذلك. فغضب بن سريج فقال: والله لو كنت يزيد بن عبد الملك ما زاد. فقال له: مهلا أبا يحيى، أنا يزيد بن عبد الملك. فوثب إليه عمر فأعظمه وهوى ابن سريج فقبّل ركابه، فنزع حلّته وخاتمه (182) فدفعهما إليه ومضى يركض حتى لحق ثقله. فجاء بهما ابن سريج إلى عمر فأعطاه إياهما. وقال: إن هذين بك أشبه منى بهما. فأعطاه عمر ثلثماية دينار وغدا فيهما إلى المسجد. فعرفهما الناس وجعلوا يتعجّبون ويقولون: كأنهما والله حلة يزيد بن عبد الملك وخاتمه. ثم يسألون عمر عنهما فيخبرهم أن يزيد كساه ذلك. وعن عمير بن سعد مولى الحرث بن هشام قال: خرج ابن الزبير أيام خلافته ليلة إلى أبى قبيس فسمع غناء. فلما انصرف رآه أصحابه، وقد حال لونه. فقالوا إنّ بك لشرّا. قال: إن ذاك. قالوا: وما هو؟ قال: لقد سمعت صوتا إن كان من الجنّ إنه لعجب فيه، وإن كان من الإنس فما (1) فيهما: فى الأغانى 1/ 264: «عنهما» (3) أنه: يعنى يزيد بن عبد الملك، انظر الأغانى 1/ 258 (16) إن ذاك: فى الأغانى 1/ 266: «إنه ذاك»

ذكر سنة تسعين هجرية النيل المبارك فى هذه السنة

انتهى منتهاه شئ! قال: فنظر فإذا هو بن سريج يتغنّى <من المتقارب>: أمن رسم دار بوادى عذر … لجارية من جوارى مضر الشعر ليزيد بن معوية، وقد تقدمت بقية الأبيات مع ذكر يزيد. وهذا خبرهم، والغناء لابن سريج. ذكر سنة تسعين هجرية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وتسعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان، وعبد الله بمصر إلى أن عزله الوليد عنها، وولى قرّة بن شريك حربا وخراجا، والقاضى عبد الرحمن بمصر على حاله، والحجاج بن يوسف بالعراقين. (3) عذر: انظر الأغانى 1/ 266 حاشية 2 (4) تقدمت. . . يزيد: انظر هنا ص 122:4 - 6 (8) تسعة: فى درر التيجان 79 ب:9 (حوادث 90): «سبعة» //ستة: فى درر التيجان 79 ب:9 (حوادث 90): «سبعة» (11 - 12) عبد الله. . . شريك: انظر كتاب الولاة 61 - 63؛ النجوم الزاهرة 1/ 216 (12 - 13) عبد الرحمن. . . حاله: فى كتاب الولاة 326: «. . . صرف عن قضائها فى شهر رمضان سنة ست وثمانين»

ومن أخبار المغنين بمكة ما رواه صاحب كتاب الأغانى عن عبد الرحمن (183) بن إبراهيم المخزومىّ قال: أرسلتنى أمّى، وأنا غلام أسأل عطاء بن أبى رباح عن مسيلة، فوجدته فى دار يقال لها دار المعلّى. فقال أبو أيّوب فى خبره دار المقلّ، وعليه ملحفة معصفرة، وهو جالس على منبر، وقد ختن ابنه، والطعام يوضع بين يديه، وهو يأمر به أن يفرّق، فلهوت مع الصبيان ألعب الجوز حتى أكل القوم وتفرّقوا وبقى مع عطاء خاصّته، فقالوا: يا أبا محمد، لو أذنت لنا فأرسلنا إلى الغريض وابن سريج! فقال: ما شيتم. فأرسلوا إليهما. فلما أتيا قاموا معهما وثبت عطاء فى مجلسه. فلم يدخل. فدخلوا بهم بيتا فى الدار فتغنّيا، وأنا أسمع. فبدأ بن سريج فغنا ونقر بالدّفّ بشعر كثيّر يقول <من الطويل>: لليلى وجارات لليلى كأنّها … نعاج الملا تحدى بهن الأباعر أمنقطع يا عزّ ما كان بيننا … وشاجرنى يا عزّ فيك الشّواجر إذا قيل هذا بيت عزّة قادنى … إليك الهوى واستعجلتنى البوادر أصدّ وبى مثل الجنون لكى يرى … رواة الخنا أنّى لبيتك هاجر (1 - 10،278) عبد الرحمن. . . سريج: ورد النص فى الأغانى 1/ 278 - 281 (5) يفرّق: فى الأغانى 1/ 278: «يفرّق فى الخلق» (12) الشّواجر: انظر الأغانى 1/ 278 حاشية 5 (13) إليك: فى الأغانى 1/ 278: «إليه» //البوادر: فى الأغانى 1/ 278 حاشية 6: «البوادر الدموع»

فكأنّ القوم نزل عليهم السّبات فما تسمع حسّا. ثم غنّى الغريض بصوت أنسيته، ثم غنى بن سريج ووقّع بالقضيب، وأخذ الغريض الدفّ فغنى بشعر الأخطل يقول <من الطويل>: فقلت اصبحونى لا أبا لأبيكم … وما وضعوا الأثقال إلا ليفعلوا فقلت اقتلوها عنكم بمزاجها … أكرم بها مقتولة حين تقتلوا أناخوا فجرّوا شاصيات كأنها … رجال من السّودان لم يتسربلوا [تنبيه: الشاصيات الشايلات القوايم من امتلايها يعنى الزقاق الخمر]. قال: فو الله ما ريتهم تحرّكوا ولا نطقوا مستمعين لما يقول. ثم (184) تغنّى الغريض بشعر آخر <من البسيط>: هل تعرف الرّسم والأطلال والدّمنا … زدن الفؤاد على ما عنده حزنا دار لعفراء إذ كانت تحلّ بها … وإذ ترى الوصل فيما بيننا حسنا إذ تستبيك بمقصول عوارضه … ومقلتى جؤذر لم يعد أن شدنا (4 - 6) فقلت. . . يتسربلوا: وردت الأبيات فى شعر الأخطل 3 - 4 (4) اصبحونى: فى الأغانى 1/ 279: «اصبحونا» (5) تقتلوا: فى الأغانى 1/ 279؛ شعر الأحطل 4: «تقتل» (6) شاصيات: انظر الأغانى 1/ 279 حاشية 2 (12) لعفراء: فى الأغانى 1/ 279: «لصفراء»، انظر هناك حاشية 4 (13) عوارضه: انظر الأغانى 1/ 279 حاشية 5

ثم غنيا جميعا بلحن واحد، فلقد خيّل إلىّ أن الأرض تميد، وتبيّنت فى عطاء ذلك أيضا. ثم غنّى الغريض فى شعر عمر بن أبى ربيعة يقول <من الطويل>: كفى حزنا أن تجمع الدار بيننا … وأمسى قريبا لا أزورك كلثما دع القلب لا يزدد خبالا مع الذى … به منك أو داوى جواه المكتّما ومن كان لا يعدوا هواه لسانه … فقد حلّ فى قلبى هواك وخيّما وليس بتزويق اللسان وصوغه … ولكنّه قد خالط اللحم والدّما وغنّى ابن سريج أيضا <من الطويل>: خليلىّ عوجا نسل اليوم منزلا … أبى بالبراق العفر أن يتحوّلا ففرع الكثيب فالشرا خفّ أهله … وبدّل أرواحا جنوبا وشمألا أرادت فلم تسطع كلاما فأومأت … إلينا ولم تأمن رسولا فترسلا بأن بت عسى أن يستر الليل مجلسا … لنا أو تنام العين عنّا فتعقلا وغنّى الغريض أيضا <من الكامل>: (4) كفى. . . كلثما: ورد البيت فى ديوان عمر بن أبى ربيعة /390/بيننا: فى الأغانى 1/ 279؛ عمر بن أبى ربيعة 390: «شملنا» (7) بتزويق: انظر الأغانى 1/ 280 حاشية 1 (9) بالبراق: انظر الأغانى 1/ 280 حاشية /2/العفر: انظر الأغانى 1/ 280 حاشية 3 (10) ففرع الكثيب: فى الأغانى 1/ 280: «ففرع النّبيت»، انظر هناك حاشية /4/فالشرا (فالشّرى): انظر الأغانى 1/ 280 حاشية 5

ذكر سنة إحدى وتسعين النيل المبارك فى هذه السنة

يا صاحبىّ قفا نقضّ لبانة … وعلى الظّعاين قبل بينكما اعرضا لا تعجلانى أن أفوه بحاجة … رفقا فقد زودت داء مجرضا ومقالها بالنّعف نعف محسّر … لفتاتها هل تعرفين المعرضا هذا الذى أعطى مواثق عهده … حتى رضيت وقلت إن لن ينقضا قال: وأغانىّ غيرها أنسيتها، وعطاء يسمع على منبره ومكانه، (185) وربما رأيت رأسه قد مال، وشفتيه يتحرّكان حتى بلغته الشمس. فقام يريد منزله. فما سمع السامعون بشئ أحسن منهما وقد رفعا أصواتهما وتغنّيا. وبلغت الشمس عطاء والبيت الذى هو فيه على طريقه، فاطّلع من كوّة البيت. فلما رأوه قالوا له: يا با محمد، أيهما أحسن غناء؟ فقال: الدقيق الصوت، يعنى بن سريج. ذكر سنة إحدى وتسعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلثة أذرع وخمسة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا. (1) الظّعاين: انظر الأغانى 1/ 280 حاشية 7 (2) أفوه: فى الأغانى 1/ 281: «أقول» //زودت داء: فى الأغانى 1/ 281: «زوّدت زادا» (3) محسّر: انظر الأغانى 1/ 281 حاشية 4 (4) إن: فى الأغانى 1/ 281: «لى» (13) خمسة عشر: فى النجوم الزاهرة 1/ 224: «اثنا عشر»

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان بحاله، وقرّة بن شريك على مصر. ومن أخبار المغنين ما رواه صاحب كتاب لأغانى عن مالك بن أبى السّمح قال: سألت ابن سريج عن قول الناس: فلان يصيب وفلان يخطئ، وفلان يحسن وفلان يسئ. فقال: المصيب المحسن من المغنّين هو الذى يشبع الألحان، ويملأ الأنفاس، ويعدّل الأوزان، ويفخّم الألفاظ، ويعرف الصواب ويقيم الإعراب، ويستوفى النّغم الطّوال، ويحسّن مقاطع النّغم القصار، ويصيب أجناس الإيقاع، ويختلس مواضع النهزات، ويستوفى ما يشاكلها فى الضرب من النّقرات. قال: فعرضت ما قاله على معبد. فقال: لو جاء فى الغناء قرآن ما جاء إلا هكذا. وعن عبد الله بن محمد العثمانى قال: ذكر بعض أصحابنا من الحجازيّين قال: التقى ابن سلمة الزّهرىّ الأخضر الجدّى ببير الفصح، فقال ابن سلمة: هل لك فى (186) الاجتماع نستمتع بك؟ فقال الأخضر: لقد كنت إلى ذلك مشتاقا، قال: فقعدا يتحدّثان، فمرّ بهما أبو السايب المخزومى فقال: يا مطربى الحجاز، ألشئ كان اجتماعكما؟ فقالا: لغير موعد كان ذلك. أفتؤنسنا؟ فقال: نعم وكرامة. فقعدوا (4 - 2،281) مالك. . . فرعون: ورد النص فى الأغانى 1/ 290 - 292،315 (9 - 10) مواضع النهزات: فى الأغانى 1/ 315: «مواقع النّبرات» (13) الجدّىّ: انظر الأغانى 1/ 290 حاشية /6/ببير (ببئر) الفصح: انظر الأغانى 1/ 290 حاشية 7

يتحدّثون. فلما مضى بعض الليل، قال الأخضر لابن سلمة: يا با الأزهر، قد ابهارّ الليل وساعد القمر فرفّع بقهقة بن سريج وأصب مغناك. فاندفع يغنّى ويقول <من الطويل>: تجنّت بلا جرم وصدّت تغضّبا … وقالت لتربيها مقالة عاتب سيعلم هذا أنّنى بنت حرّة … سأمنع نفسى من ظنون الكواذب فقولى له عنّا: تنحّ فإننا … أبيّات فحش طاهرات المناسب قال: فجعل أبو السايب يزفن ويقول: أبشر حبيبى فلأنت أفضل من شهداء قزوين. قال: ثم قال ابن سلمة للأخضر: نعم المساعد على بهيم الليل أنت. فرفع بنوح ابن سريج ولا تعد معناك. فرفع وغنّى يقول <من الطويل>: فلما التقينا بالحجون تنفّست … تنفّس محزون الفؤاد سقيم وقالت وما يرقى من الخوف دمعها … أقاطنها أم أنت غير مقيم وإنا غدا تحدى بنا العيس بالضّحى … وأنت بما نلقاه غير عليم فقطّع قلبى قولها ثم أسبلت … محاجر عينى دمعها بسجوم (2) ابهارّ الليل: انظر الأغانى 1/ 291 حاشية /1/فرفّع: فى الأغانى 1/ 291: «فأوقع» (8) قزوين: انظر الأغانى 1/ 291 حاشية 5 (9) فرفع: فى الأغانى 1/ 291: «فوقّع» //فرفع وغنّى: فى الأغانى 1/ 291: «فاندفع يغنّى» (11) بالحجون: انظر الأغانى 1/ 291 حاشية 7 (12) يرقى (يرقا): فى الأغانى 1/ 291 حاشية 8: «وما يرقا: ما يجف وما يسكن» (14) محاجر: انظر الأغانى 1/ 292 حاشية 1

ذكر سنة اثنين وتسعين النيل المبارك فى هذه السنة

قال: فجعل أبو السايب يتكنف ويقول: أعتق ما أملك إن لم تكن فردوسية الطّينة، وإنها لعلمها أفضل من آسية امرأة فرعون. ولنعود إلى سياقة التاريخ. وفيها انكسر عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة (187) بن الحرث بن عبد المطلب. وكان قد خرج بعد بن الأشعث، وكانت له أيضا حروب ووقايع متعددة، وكان بايعه بالخلافة أهل البصرة وبعض أهل الكوفة. وخرج مع أهل البصرة لقتال الحجاج بن يوسف بالزاوية. فهزم ولحق بخراسان. وبويع ثانية وقصد لحرب يزيد بن المهلب، فالتقيا بهراة فانهزم ولحق بالهند، وانقطع خبره وانقضى أمره. ذكر سنة اثنين وتسعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع واثنا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان بحاله، وقرّة بن شريك بمصر، وعبد الرحمن القاضى بمصر على حاله. وفيها حجّ الوليد بن عبد الملك. (1) يتكنف: فى الأغانى 1/ 292: «يتأفّف» (3 - 8) وفيها. . . أمره: قارن فتوح البلدان 442،514؛ الكامل 4/ 467 - 472 (15) عبد الرحمن. . . حاله: انظر هنا ص 274، الهامش الموضوعى، حاشية سطرين 12 - 13

وعن حمّاد عن أبيه قال: ذكر السعيدىّ أن الوليد بن عبد الملك قدم مكة، فأراد أن يأتى الطايف فقال: هل من رجل عالم يخبرنى عنها؟ فقالوا: عمر بن أبى ربيعة. قال: لا حاجة لى به. ثم عاد فسأل، فذكروه. فقال: هاتوه. فركب معه فجعل يحدّثه. ثم حوّل عمر رداءه ليصلحه على نفسه. فرأى الوليد على ظهره أثرا. فقال: ما هذا الأثر؟ قال: كنت عند جارية لى إذ جاءنى جارية برسالة من جارية أخرى، وجعلت تسارّنى، فغارت التى كنت عندها، فعضّت منكبى، فما وجدت ألم عضّها من لذة ما كانت تلك تنفث فى أذنى حتى بلغت ما ترى. فضحك الوليد. فلما رجع عمر قيل له: ما الذى كنت تضحك (188) به أمير المؤمنين؟ قال: ما زلنا فى حديث الزّناء حتى رجع. وكان حمل الغريض معه. فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّ عندى أجمل الناس وجها وأحسنهم حديثا. فهل لك أن تسمعه؟ قال: هاته. فدعا به فقال: أسمع أمير المؤمنين أحسن شئ قلته. فاندفع يغنّى بشعر جميل <من الكامل>: إنّى لأحفظ سرّكم ويسرّنى … لو تعلمين بصالح أن تذكرى ويكون يوم لا أرى لك مرسلا … أو نلتقى فيه علىّ كأشهر يا ليتنى ألقى المنيّة بغتة … إن كان يوم لقاكم لم يقدر ما كنت والوعد الذى تعديننى … إلاّ كبرق سحابة لم تمطر تقضى الدّيون وليس ينجز عاجلا … هذا الغريم لنا وليس بمعسر (1 - 14،283) السعيدىّ. . . قط: ورد النص فى الأغانى 1/ 112،2/ 395 - 396،398 (2) هل. . . عنها: فى الأغانى 1/ 112: «هل لى فى رجل علم بأموال الطائف فيخبرنى عنها؟»، انظر هناك حاشيتين 2 - 3 (15 - 19) إنّى. . . بمعسر: وردت الأبيات فى ديوان جميل بثينة 60 - 61 (15 - 17) إنّى. . . يقدر: وردت الأبيات أيضا فى الأغانى 8/ 102 مع بعض الاختلاف

ذكر سنة ثلث وتسعين النيل المبارك فى هذه السنة

قال: فاشتد سرور الوليد بذلك وقال: يا عمر، هذه رقيتك. ووصله وكساه وقضى حوايجه. وعن عمرو بن عقبة، وكان يعرف بابن الماشطة قال: خرجت أنا وأصحاب لى منهم إبراهيم بن أبى الهيثم إلى العقيق، ومعنا رجل ناسك كنا نحتشم منه، وكان محموما نايما، وأحببنا أن نسمع من معنا من المغنّين، ونحن نهابه ونحتشمه. فقلت له: إنّ فينا رجلا ينشد الشعر ويحسن، ونحن نحب أن نسمعه ولكنّها نهابك. قال: فما علىّ منكم! أنا محموم نايم. فاصنعوا ما بدا لكم. فاندفع ابن أبى الهيثم يغنّى <من الكامل>: يأم بكر حبّك البادى … لا تصرمينى إنّنى غاد جدّ الرحيل وحثّنى صحبى … وأريد إمتاعا من الزاد وأجاده وحسّنه. قال: فوثب الناسك فجعل يرقص ويصيح: أريد إمتاعا من الزاد والله، ويكرر القول. ثم كشف عن إحليله (189) [وقال]: أنا أنيك أمّ الحمّى! قال: يقول ابن الماشطة: أعتقت ما أملك إن ناك أمّ الحمّى أحد قبله قط. ذكر سنة ثلث وتسعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. [ما لخص من الحوادث] الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان، وقرّة بن شريك على مصر

ذكر عمر بن أبى ربيعة المخزومى ولمعا من خبره

حربها وخراجها. وفيها ولى القضاء بمصر عمران بن عبد الرحمن بن شراحيل. قلت: قد تقدم من العبد القول فى ذكر عمر بن أبى ربيعة فى عدة أماكن. وغفلنا عن ذكر نسبه ولطايف أخباره إلى ها هنا فلنبدى الآن بذكره ونسبه وما لخصته من نوادره وأخباره ونكثه وأشعاره. ذكر عمر بن أبى ربيعة المخزومى ولمعا من خبره يكنى أبا الخطاب، عمر بن عبد الله بن أبى ربيعة، واسم أبى ربيعة: حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرّة بن كعب بن لؤىّ بن غالب، وقد تقدم باقى النسب. وكان جدّه أبو ربيعة يسمى ذا الرّمحين، سمى بذلك لطوله فكان يقال: كأنه يمشى على رمحين، وقيل: إنه قاتل يوم عكاظ برمحين فسمى بذلك، وفيه يقول عبد الله بن الزّبعرى <من مكفوف الهزج>: (1) وفيها. . . شراحيل (شرحبيل): فى كتاب الولاة 329: «فوليها عمران. . . إلى أن صرف عن قضائها فى صفر سنة تسع وثمانين»، كذا فى حكام مصر 39 (5 - 7،299) ذكر. . . الناس: ورد النص فى الأغانى 1/ 61 - 62،64 - 66،69،71 - 74،94 - 95،98 - 100،102 - 104،114،118 - 120،134 - 135، انظر أيضا ديوان عمر بن أبى ربيعة (8) وقد. . . النسب: فى الأغانى 1/ 61: «وقد تقدم باقى النسب فى نسب أبى قطيفة»

ألا لله قوم و … لدت أخت بنى سهم هشام وأبو عبد … مناف مدره الخصم وذو الرّمحين أشبال … على القوّة والحزم فهذان يذودان … وذا من كثب يرمى أسود تزدهى الأقرا … ن منّاعون للهضم وهم يوم عكاظ م‍ … نعوا الناس من الهزم وهم من ولدوا أسنّوا … بسرّ الحسب الضّخم فإن أحلف وبيت الل‍ … هـ لا أحلف عن اثم (190) لما من إخوة بين … قصور الشأم والرّدم بأزكى من بنى ريط … ة أو أوزن فى الحلم قوله: أبو عبد مناف: هو الفاكه بن المغيرة، وريطة التى عناها هى أمّ بنى المغيرة وهى ريطة بنت سعد بن سهم، ولدت من المغيرة هشاما وهاشما وربيعة والفاكه، وإياهم عنى أبو ذؤيب بقوله <من الكامل> صخب الشّوارب لا يزال كأنه … عبد لآل أبى ربيعة مسمع (9 - 10) لما. . . الحلم: انظر الأغانى 1/ 62 حاشية 5 (12) سعد بن سهم: فى الأغانى 1/ 62: «سعيد بن سعد بن سهم»؛ فى الأغانى 1/ 64: «سعيد بن سهم بن عمرو. . .» (14) مسمع (مسبع): انظر الأغانى 1/ 64 حاشية 2؛ ديوان الهذليين 1/ 4 حاشية 2

ضرب بعزّهم المثل. وكان اسم عبد الله بن أبى ربيعة بجيرا. فسمّاه سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله. وكانت قريش تلقبه «العدل» لأن قريشا كانت تكسوا الكعبة بأجمعها من أموالها سنة، ويكسوها عبد الله وحده من ماله سنة. فأرادوا بذلك أنه وحده عدل جميعهم، وفيه يقول بن الزّبعرى <من الطويل>: بجير بن ذى الرّمحين قرّب مجلسى … وراح علىّ خيره غير عاتم وقيل: إن العدل هو الوليد بن المغيرة. وكان عبد الله بن أبى ربيعة تاجرا موسرا وكان متجره باليمن، وكان من أكثرهم مالا وسعة، وأمه أسماء بنت مخرمة، وكانت عطّارة يأتيها العطر من اليمن. وقد تزوجها هشام بن المغيرة. فولدت له أبا جهل والحرث ابنى هشام. فهى أمّهما وأم عبد الله وعيّاش ابنى أبى ربيعة. وكان لعبد الله بن أبى ربيعة عبيد من الحبشة يتصرّفون فى جميع المهن، وكان عددهم كثيرا. فروى سفيان بن عيينة أنه قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم حين خرج إلى حنين: هل لك فى حبش بنى المغيرة تستعين بهم؟ فقال: لا خير فى الحبش إن جاعوا سرقوا وإن شبعوا زنوا وإنّ فيهم لخلّتين (1) ربيعة: فى الأغانى 1/ 64: «ربيعة فى الجاهلية» (3) الكعبة بأجمعها: فى الأغانى 1/ 64: «الكعبة فى الجاهلية بأجمعها» (4) جميعهم: فى الأغانى 1/ 64: «لهم جميعا»

حسنتين: إطعام الطعام والبأس يوم البأس. (191) واستعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن أبى ربيعة على الجند ومخالفيها. فلم يزل عاملا عليها حتى قتل عثمان بن عفان رضى الله عنه. هذا من رواية بن الزبير. وكان لعمر بن أبى ربيعة ابن يقال له جوان، وكان ناسكا فقيها، وفيه يقول العرجىّ <من المتقارب>: شهيدى جوان على حبّها … أليس بعدل عليه جوان وعن ابن ثوبان قال: جاء جوان بن عمر بن أبى ربيعة إلى زياد بن عبد الله الحارثىّ وهو إذ ذاك أمير الحجاز فشهد عنده بشهادة فتمثّل <من المتقارب>: شهيدى جوان على حبها … أليس بعدل عليها جوان ثم قال: قد أجزنا شهادتك وقبله. ومن غير رواية بن الزبير إنه جاء إلى العرجىّ فقال: يا هذا، ما لى ولك، كيف تشهّرنى فى شعرك! متى أشهدتنى على صاحبتك هذه! ومتى كنت أنا أشهد فى مثل هذا! وكان امرأ صالحا. (2) مخالفيها (مخاليفها): انظر الأغانى 1/ 65 حاشية 2 (3) بن (ابن) الزبير: فى الأغانى 1/ 66: «الزبير عن عمّه» (7) ابن ثوبان: فى الأغانى 1/ 69: «يحيى بن محمد بن عبد الله بن ثوبان» (12) غير. . . الزبير: فى الأغانى 1/ 69: «وقال غير الزبير»

وعن الحسن قال: ولد عمر بن أبى ربيعة فى الليلة التى قتل فيها عمر بن الخطاب رضى الله عنه. فقيل: أىّ حقّ رفع، وأىّ باطل وضع. قال عوانة: ومات عمر بن أبى ربيعة وقد قارب الثمانين. وعن عمر الركاء قال: بيننا عمر بن عباس فى المسجد الحرام وعنده نافع الأزرق وناس من الخوارج يسايلونه عن أمر الدين، إذ أقبل عمر بن أبى ربيعة فى ثوبين مصبوغين مورّدين أو ممصّرين حتى دخل وجلس، فأقبل عليه ابن عباس فقال: أنشدنا. فأنشده <من الطويل>: أمن آل نعم أنت غاد فمبكر … غداة غد، أم رايح فمهجّر حتى أتى على آخرها. فأقبل عليه نافع الأزرق فقال: الله يابن عباس! إنّا نضرب إليك أكباد المطىّ من أقاصى البلاد نسلك عن الحلال (192) والحرام فتتثاقل علينا، ويأتيك مترف من مترفى قريش فينشدك <من الطويل>: رأت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت … فتخزى وأمّا بالعشىّ فتخسر (3) الثمانين: فى الأغانى 1/ 71: «السّبعين» (4) عمر الركاء: انظر الأغانى 1/ 72 حاشية /1/عمر بن عباس: فى الأغانى 1/ 72: «ابن عباس» (6) ممصّرين: انظر الأغانى 1/ 72 حاشية 2 (8) أمن. . . فمهجّر: ورد البيت فى ديوان عمر بن أبى ربيعة 120 (13) عارضت: انظر الأغانى 1/ 72 حاشية 6

فقال بن عباس: ليس هكذا قال، قال: فكيف قال؟ قال: قال <من الطويل>: رأت رجلا أمّا إذا الشمس عارضت … فتضحى وأمّا بالعشىّ فتخصر فقال: ما أراك إلا كنت حفظت البيت! قال: أجل! وإن شيت أن أنشدك القصيدة أنشدتك إياها. قال: فإنّى أشاء. فأنشده القصيدة حتى أتى على آخرها. وفى رواية عمر بن شبّة أن ابن عباس أنشدها من أولها إلى آخرها مقلوبة وما سمعها إلا تلك المرّة صفحا. فقال بعضهم: ما رأيت أذكى منك قط! قال: لكننى ما رأيت أذكى من أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب صلى الله عليه! قال: فكان ابن عباس يقول: ما سمعت شيا قط إلا وحفظته ورويته. وإنى لأسمع صوت النايحة فأسدّ أذنىّ كراهة لأن أحفظ ما تقول. قال عمر بن شبّة وأبو هفّان والزبير فى حديثهم: ثم أقبل ابن عباس على بن أبى ربيعة فقال: أنشدنا. فأنشده <من المتقارب>: تشطّ غدا دار جيراننا وسكت، فقال ابن عباس <من المتقارب>: (3) فتضحى (فيضحى): انظر الأغانى 1/ 72 حاشية 6 (6) وفى: فى الأغانى 1/ 72: «وفى غير»

وللدّار بعد غد أبعد فقال عمر: كذلك قلت، أصلحك الله، أفسمعته؟ قال: لا، ولكن كذلك ينبغى. وعن يعقوب بن إسحق قال: كانت العرب تفضل قريشا وتقرّ لها بالتقدّم فى كل شئ عليها إلاّ فى الشعر حتى كان عمر بن أبى ربيعة. فأقرّت لها أيضا الشعراء بالشعر ولم تنازعها شيا. قال: وكان ابن جريج يقول: ما دخل على العواتق فى حجالهنّ أضرّ من شعر عمر بن أبى ربيعة. وعن المداينى قال: قال هشام بن عبد الملك: لا تروّوا فتياتكم شعر عمر بن أبى ربيعة (193) ليلا يتورطوا فى الزّناء تورّطا، وأنشد <من مجزوء الوافر>: لقد أرسلت جاريتى … وقلت لها خذى حذرك وقولى فى ملاطفة … لزينب: نوّلى عمرك قال عمران بن عبد العزيز: تشبّب عمر بن أبى ربيعة بزينب بنت موسى وهى أخت قدامة ابن موسى الجمحىّ فى قصيدته التى يقول فيها <من الخفيف>: (7) قال: فى الأغانى 1/ 74: «قال المدائنىّ قال سليمان بن عبد الملك لعمر بن أبى ربيعة: ما يمنعك من مدحنا؟ قال: إنى لا أمدح الرجال إنما أمدح النساء. قال: وكان ابن جريح. . .» //العواتق: انظر الأغانى 1/ 74 حاشية 1 (8) أضرّ: فى الأغانى 1/ 74: «شئ أضرّ عليهن» (9) عبد الملك: فى الأغانى 1/ 74: «عروة»

يا خليلىّ من ملام دعانى … وألمّا الغداة بالأظعان لا تلوما فى آل زينب إنّ ال‍ … قلب رهن بآل زينب عانى ما أرى ما بقيت أن أذكر المو … قف منها بالخيف إلاّ شجانى لم تدع للنساء عندى نصيبا … غير ما قلته مازحا بلسانى هى أهل الصّفاء والودّ منّى … وإليها الهوى فلا تعذلانى حين قالت لأختها ولأخرى … من قطين مولّد: حدّثانى كيف لى اليوم أن أرى عمر المر … سل سرّا فى القول أن يلقانى؟ قالتا: نبتغى رسولا إليه … ونميت الحديث بالكتمانى إنّ قلبى بعد الذى نلت منها … كالمعمّى عن ساير النّسوان قال: وكان سبب ذكره لها أن ابن أبى عتيق ذكرها له فأطراها، فوصف من عقلها وأدبها وجمالها ما شغل قلب عمر وأماله إليها. فقال فيها الشعر وشبّب بها. فبلغ ذلك ابن أبى عتيق فلامه وقال: أتطلق الشعر فى بنت عمى؟ فقال عمر <من الخفيف>: لا تلمنى عتيق حسبى الذى بى … إنّ بى يا عتيق ما قد كفانى (1 - 9) يا. . . النّسوان: وردت الأبيات فى ديوان عمر بن أبى ربيعة 416 (3) بالخيف: انظر الأغانى 1/ 94 حاشية 4 (6) قطين: انظر الأغانى 1/ 94 حاشية 9 (10) له: فى الأغانى 1/ 95: «عنده» (12) أتطلق: فى الأغانى 1/ 95: «أتنطق» (14) لا. . . كفانى: ورد البيت فى عمر بن أبى ربيعة 417

لا تلمنى وأنت زيّنتها لى قال: فبدره بن أبى عتيق فقال <من الخفيف>: أنت مثل الشيطان للإنسان فقال عمر: هاكذا وربّ البيت قلته (194) فقال بن أبى عتيق: إنّ شيطانك وربّ القبر ربما آلم بى فيجد عندى من عصيانه خلاف ما يجد عندك من طاعته، فيصيب منّى وأصيب منه. قال: أنشد بن أبى عتيق قول عمر بن أبى ربيعة حيث قال <من الطويل>: ومن لسقيم يكتم الناس ما به … لزينب نجوى صدره والوساوس أقول لباغى الشّفاء متى تجئ … بزينب تدرك بعض ما أنت لامس فإنك إن لم تشف من سقمى بها … فإنّى من طبّ الأطبّاء آايس ولست بناس ليلة الدار مجلسا … لزينب حتى يعلوا الرأس رامس فلما بدت قمراؤه وتكشّفت … دجنّته وغاب من هو حارس وما نلت منها محرما غير أننا … كلانا من الثوب المطارف لابس (5) القبر: انظر الأغانى 1/ 98 حاشية 1 (9 - 1،293) ومن. . . المعاطس: وردت الأبيات فى ديوان عمر بن أبى ربيعة 217 (10) لباغى: فى الأغانى 1/ 99؛ عمر بن أبى ربيعة 217: «لمن يبغى» (14) المطارف: انظر الأغانى 1/ 99 حاشية 6

نجيّين نقضى اللهو فى مأثم … وإن رغمت من كاشحين المعاطس قال: فقال بن أبى عتيق: أبنا يسخر ابن أبى ربيعة؟ وأىّ محرم بقى! ثم أتى عمر فقال له: ألم تخبرنى أنك ما أتيت محرما قط؟ قال: بلى. قال: فأخبرنى عن قولك <من الطويل>: كلانا من الثوب المطارف لابس ما معناه؟ قال: والله لأخبرنّك! خرجت أريد المسجد، وخرجت زينب تريده. فالتقينا فاتّعدنا لبعض الشّعاب. فلما توسّطنا أخذتنا السماء. وكرهت أن يرى بثيابها بلل المطر فيقال لها: ألا استترت ببعض سقايف المسجد إن كنت كنت فيه! فأمرت غلمانى فستروها بكساء خزّ كان علىّ. فذلك قولى. فقال له: يا عاهر! هذا البيت يحتاج إلى حاضنة! ومن ما غنّى فيه من أشعار عمر بن أبى ربيعة فى زينب، صوت <من المنسرح>: يا من لقلب متيّم كلف … يهذى بخود مريضة النّظر تمشى الهوينا إذا ما مشت قطفا … وهى كمثل العسلوج فى الشّجر (1) من كاشحين: فى الأغانى 1/ 99: «م الكاشحين»، كذا فى عمر بن أبى ربيعة 217 (13 - 10،294) يا. . . خضر (لعل الأصح: خصر): وردت الأبيات فى عمر بن أبى ربيعة 168 - 169

(195) ما زال طرفى يحار إذ برزت … حتى رأيت النقصان فى بصرى أبصرتها ليلة ونسوتها … يمشين بين المقام والحجر ما إن طمعنا بها ولا طمعت … حتى التقينا ليلا على قدر بيضا حسانا خرايدا قطفا … يمشين هونا كمشية البقر قد فزن بالحسن والجمال معا … وفزن رسلا بالدّلّ والخفر ينصتن يوما لها إذا نطقت … كيما يشرّفنها على البشر قالت لترب لها تحدّثها … لنفسدنّ الطّواف فى عمر قالت تصدّى له ليعرفنا … ثم اغمزيه يا أخت فى خفر قالت لها قد غمزته فأبا … ثم استطيرت تسعى على أثرى من يسق بعد الكرى بريقتها … يسق بكأس ذى لذة خضر وعن يعقوب الثقفى أن الوليد بن عبد الملك قال لأصحابه ذات ليلة: أىّ بيت قالت العرب أغزل؟ فقال بعضهم: قول جميل <من الطويل>: (2) المقام: أى مقام إبراهيم فى الكعبة، انظر عمر بن أبى ربيعة 168 حاشية /3/ الحجر: أى الحجر الأسود، انظر عمر بن أبى ربيعة 168 حاشية 3 (3) على قدر: انظر الأغانى 1/ 103 حاشية 5 (5) الخفر: انظر الأغانى 1/ 103 حاشية 7 (8) قالت: فى الأغانى 1/ 103: «قومى» (9) استطيرت: فى الأغانى 1/ 104؛ عمر بن أبى ربيعة 168: «اسبطرّت»، انظر أيضا الأغانى 1/ 104 حاشية 1 (10) من. . . خضر (لعل الأصح: خصر): فى الأغانى 1/ 104: «من يسق بعد المنام ريقتها … يسق بمسك وبارد خصر» (11) عبد الملك: فى الأغانى 1/ 114: «يزيد بن عبد الملك»

يموت الهوى منّى إذا ما ذكرتها … ويحيى إذا فارقتها فيعود فقال آخر: قول عمر بن أبى ربيعة <من البسيط>: كأنّنى حين أمسى لا تكلّمنى … ذو بغية يبتغى ما ليس موجودا فقال الوليد: حسبك والله بهذا! وعن الزبير بن بكّار قال: أدركت مشيخة من قريش لا يزنون بعمر ابن أبى ربيعة شاعرا من أهل دهره فى النّسيب، ويستحسنون منه ما يستقبحونه من غيره من مدح نفسه، والتّحلّى بمودّته، والابتيار فى شعره، والابتيار: أن يفعل الإنسان [الشئ] ويذكره ويفخر به. والابتهار: أن يقول ما لم يفعل. وعن ابن عبد العزيز (196) قال: قال ابن أبى عتيق لعمر فى قوله <من الرمل>: بيننا ينعتننى أبصرننى … دون قيد الميل يعدوا بى الأغرّ قالت الكبرى أتعرفن الفتى … قالت الوسطى نعم هذا عمر قالت الصغرى وقد تيّمتها … قد عرفناه وهل يخفى القمر يابن أبى ربيعة، أنت لم تنسب بهن وإنما نسبت بنفسك، كان ينبغى (1) يموت. . . فيعود: ورد البيت فى ديوان جميل بثينة 40 (3) كأنّنى. . . موجودا: ورد البيت فى عمر بن أبى ربيعة 100 (10) ابن عبد العزيز: فى الأغانى 1/ 118: «عبد العزيز بن عمران» (12 - 14) بيننا (بينما). . . القمر: وردت الأبيات فى عمر بن أبى ربيعة 174 (14) تيّمتها: انظر الأغانى 1/ 119 حاشية 2 (15) يابن. . . أنت: فى الأغانى 1/ 119: «فقال له ابن أبى عتيق، وقد أنشدها، أنت. . .» //بهن: فى الأغانى 1/ 119: «بها»

أن تقول: قلت لها فقالت لى، فوضعت خدّى فوطيت عليه. وعن الزبير بن بكّار عن عمه مصعب أنه قال: راق عمر بن أبى ربيعة الناس وفاق نظراوه، وبرعهم بسهولة الشعر، وشدّة الأسر، وحسن الوصف، ودقّة المعنى وصواب المصدر، والقصد للحاجة، وإنطاق القلب، واستنطاق الربع، وحسن العزاء، ومخاطبة النساء، وعفّة المقال، وقلة الانتقال، وإثبات الحجّة، وترجيح الشكّ فى مواضع اليقين، وطلاوة الاعتذار، وفتح الغزل، ونهج العلل، وعطف المساءة على العذّال، وأحسن التفجّع، وبخّل المنازل، واختصر الخبر، وصدق الصّفاء، وإن قدح أورى، وإن اعتذر أبرا، وإن تشكّى أشجى، وأقدم عن خبرة ولم يعتذر بغرّة، وأسر النوم، وغمّ الطّير، وأغذّ السّير، وحيّر ماء الشباب ماء الشباب وسهّل وقوّل، وقاس الهوى فأربى، وعصى وأجلا، وحالف بسمعه وطرفه، وبعث الرسل وحذّر، وأعلن الحبّ وأسرّ، وبطن به وأظهره، وألحّ وأسفّ، وأنكح النوم، وجنى الحديث وضربه ظهره لبطنه، وأذلّ صعبه، وقنع بالرجاء من الوفاء، وأعلى قاتله، واستبكى عاذله، ونقض النوم، وأغلق رهن منّى وأهدر قتلاه. (12) بعث الرسل: فى الأغانى 1/ 120: «أبرم نعت الرسل»، انظر حاشية 3 (15) نقض: فى الأغانى 1/ 120: «نفض»

قلت: واستشهد عن جميع ما ذكره من شعره بما يصحح عنه (197) ذكره، فأضربت عنه طلبا للاختصار، إذ لذة الاستماع فى الأحاديث القصار. وعن الزبير عن عمه قال: كان عمر بن أبى ربيعة يهوى امرأة يقال لها أسماء. فكان الرسول يختلف بينهما زمانا، وهو لا يقدر عليها. ثم وعدته أن تزوره. فتأهّب لذلك وانتظرها. فأبطأت عليه. ثم غلبته عينه فنام، وكانت عنده جارية له تخدمه، فلم تلبث أن جاءت ومعها جارية لها، فوقفت لها وأمرت الجارية أن تضرب الباب فضربته فلم يستيقظ. فقالت لها: تطلّعى فانظرى ما الخبر. فقالت: هو مضطجع وإلى جنبه امرأة. فحلفت لا تزوره حولا. قال أبو هفّان فى حديثه: ثم بعث إليها امرأة كانت تختلف بينه وبين معارفه، وكانت جزلة من النساء، فصدقتها عن قصّته، وحلفت لها أنه لم يكن عنده إلا جارية له فرضيت. وإياها عنى بقوله <من الرمل>: فأتتها طبّة عالمة … تخلط الجدّ مرارا باللعب تغلظ القول إذا لانت لها … وتراخى عند سورات الغضب لم تزل تصرفها عن رأيها … وتأتّاها برفق وأدب وقال إسحق عن حمّاد الراوية قال: استنشدنى الوليد نحوا من ألف (6) عليه: فى الأغانى 1/ 134: «عنه» (14 - 16) فأتتها. . . أدب: وردت الأبيات فى عمر بن أبى ربيعة 29 (14) طبّة: فى الأغانى 1/ 135 حاشية 1: «طبة: حاذقة رفيقة» //عالمة: فى عمر بن أبى ربيعة 29: «محتالة» (15) تغلظ القول: فى عمر بن أبى ربيعة 29: «ترفع الصوت» (16) تأتّاها: فى الأغانى 1/ 135: «تانّاها»، انظر أيضا الأغانى 1/ 135 حاشية 2

قصيدة. فما استعادنى إلا قصيدة عمر بن أبى ربيعة التى أولها <من الرمل>: طال ليلى وتعنّانى الطرب فلما أنشدته قوله <من الرمل>: فأتتها طبّة عالمة … تخلط الجدّ مرارا باللعب إلى قوله <من الرمل>: إن كفّى لك رهن بالرضى … فاقبلى يا هند قالت: [قد] قد وجب فقال الوليد: ويحك يا حمّاد! اطلب لى مثل هذه أرسلها إلى سلمى، يعنى امرأته سلمى بنت سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان، وكان (198) طلّقها ليتزوّج أختها. ثم تتبعتها نفسه. قال إسحق: إن عمر بن أبى ربيعة لما أنشد ابن أبى عتيق هذه القصيدة فقال له ابن أبى عتيق: الناس يطلبون خليفة فى مثل صفة قوّادتك هذه تدبر أمورهم فما يجدونه! وعن الهيثم بن عدىّ قال: قدم الفرزدق المدينة، وبها رجلان يقال لأحدهما صريم، والآخر بن أسماء، وصفا له فقصدهما، وكان عندهما قيان. فسلّم عليهما وقال لهما: من أنتما؟ فقال أحدهما: أنا هامان، وقال الآخر: أنا فرعون. قال: فأين منزلكما من النار؟ فقالا: نحن جيران (15) صريم: انظر الأغانى 1/ 149 حاشية 1 (17) من النار: فى الأغانى 1/ 149: «فى النار حتى أقصدكما!»

ذكر سنة أربع وتسعين النيل المبارك فى هذه السنة

الفرزدق الشاعر! فضحك ونزل فسلّم عليهما وسلّما عليه وتعاشرا مدة. ثم سألهما أن يجمعا بينه وبين عمر بن أبى ربيعة، ففعلا واجتمعا وتحادثا وتناشدا، إلى أن أنشده عمر قصيدته التى يقول فيها <من الطويل>: فقمن لكى يخليننا فترقرقت … مدامع عينيها وظلّت تدفّق وقالت: أما ترحمننى! لا تدعننى … لدى غزل جمّ الصّبابة أخرق فقلن اسكتى عنّا فلست مطاعة … وذاك منّا-فاعلمى-بك أرفق فصاح الفرزدق: أنت والله يا با الخطاب أغزل الناس! ذكر سنة أربع وتسعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وخمسة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وإصبع واحد. ما لخص من الحوادث الخليفة الوليد بن عبد الملك بن مروان، وقرّة بن شريك بمصر بحاله. (1) تعاشرا: فى الأغانى 1/ 149: «تعاشروا» (4 - 6) فقمن. . . أرفق: وردت الأبيات فى عمر بن أبى ربيعة 265 (5) أخرق: انظر الأغانى 1/ 149 حاشية 5 (6) فلست. . . أرفق: انظر الأغانى 1/ 149 حاشية /6/وذاك منّا: فى الأغانى 1/ 149: «وخلّك منّا»

وفيها كان غلاء بمصر ووباء كثير، وتوفى جماعة من أعيان مصر يطول تعدادهم، وكان مأتاه من المغرب والإسكندرية وتنقل (199) إلى الشام ثم إلى العراق فى سنة خمس وتسعين. وتوفى فيها الحجاج بن يوسف بواسط فى شهر رمضان. قال القضاعى رحمه الله تعالى فى تاريخه: إن عدة من قتله الحجاج صبرا ماية ألف وعشرون ألفا، وإنه توفى فى حبسه خمسون ألف رجل وثلثون ألف امرأة. ولنعود لذكر ابن أبى ربيعة. قال عثمان بن إبراهيم الحاطبىّ: أتيت عمر بن أبى ربيعة بعد أن أسنّ ونسك بسنين، وهو فى مجلس قومه من بنى مخزوم، قال: فانتظرت حتى تفرّق القوم ثم دنوت منه ومعى صاحب لى ظريف، وقد كان قال لى: تعال حتى نهيجه على الغزل وذكره. فننظر هل بقى فى نفسه منه شئ. فسلّمنا عليه فرحب بنا فقال له صاحبى: يا با الخطاب أكرمك الله، لقد أحسن العذرىّ وأجاد فيما قاله، فنظر عمر إليه وقال: حيث ماذا يقول؟ قال: حيث قال <من البسيط>: لو جذّ بالسيف رأسى فى مودّتها … لمرّ يهوى سريعا نحوها راسى قال: فارتاح عمر إلى قوله وقال: هاه! لقد أجاد وأحسن والله. (3) فيها: وفقا لديتريخ، مقالة «الحجاج بن يوسف» 42، توفى فى رمضان سنة 95 (5) القضاعى. . . تاريخه: تاريخ القضاعى، ص 140، قارن هنا ص 312:7 - 8 (8 - 1،312) عثمان. . . أجنّ: ورد النص فى الأغانى 1/ 174 - 177،180 - 182،190 - 197،199 - 201،203،207،211 - 212 (15) لو. . . راسى: انظر الأغانى 1/ 174 حاشية 2

فقلت: ولله درّ جنادة العذرىّ! فقال: حيث يقول ماذا ويحك! فقلت: حيث يقول <من البسيط>: سرت لعينك سلمى بعد مغفاها … فبتّ مستنبها من بعد مسراها وقلت أهلا وسهلا من هداك لنا … إن كنت تمثالها أو كنت إيّاها من حبّها أتمنّى أن يلاقينى … من نحو بلدتها ناع فينعاها كيما أقول فراق لا لقاء له … وتضمر النفس يأسا ثم تسلاها ولو تموت لراعتنى وقلت لها … يا بؤس للموت ليت الموت أبقاها قال: فضحك عمر وقال: وأبيك لقد أحسن وأجاد وما أبقى، (200) ولقد هيّجتما علىّ ساكنا. وذكّرتمانى ما كان عنّى غايبا، ولأحدّثكما حديثا حلوا: بينا أنا منذ أعوام جالس إذ أتانى خالد الخرّيت. فقال لى: يا با الخطاب، مررن بى أربع نسوة قبيل يردن مكان كذا، وكذا ولم أر مثلهن فى بدو ولا حضر، فيهن هند بنت الحارث المرّيّة. فهل لك أن تأتيهن منكرا فتسمع من حديثهن وتتمتع بالنظر إليهن ولا يعلمن من أنت؟ فقلت له: ويحك! وكيف لى أن أخفى نفسى؟ قال: تلبس لبسة أعرابىّ. ثم تجلس على قعود، فلا يشعرن إلا بك وقد هجمت عليهن. ثم وقفت بقربهن ففعلت ذلك ثم أتيتهن فسلّمت عليهم فردوا سلامى، ثم سألننى أن أنشدهن وأحدّثهن لكثيّر وجميل والفرزدق والأحوص ونصيب وغيرهم ففعلت. فقلن لى: يا أعرابىّ! ما أملحك وأضرفك! لو نزلت فتحدّثت معنا يومنا هذا! فإذا أمسيت انصرفت (7) لها: فى الأغانى 1/ 175: «ألا» (13) منكرا: فى الأغانى 1/ 175: «متنكّرا»

فى حفظ الله. قال: فأنخت بعيرى ثم تحدّثت معهن وأنشدتهن فسررن بى وجذلن بقربى وأعجبهن حديثى. قال: ثم إنهنّ تغامزن، وجعل بعضهن يقول لبعض: كأنّا نعرف هذا الأعرابىّ! ما أشبهه بابن أبى ربيعة! فقالت إحداهن: فهو والله عمر! فمدّت هند يدها فانتزعت عمامتى. ثم ألقتها عن رأسى وقالت: هيه بالله يا عمر! أتراك خدعتنا منذ اليوم! بل والله نحن خدعناك واحتلنا عليك بخالد، فأرسلناه إليك لتأتينا فى أسو حال وأقبح هية وأفحش شارة، ونحن كما ترى. قال عمر: ثم أخذنا فى الحديث. فقالت هند: ويحك يا عمر! اسمع منى. لو رأيتنى منذ أيام وأصبحت عند أهلى. وقد غيّرت علىّ أثوابى (201) بعد ما أنقيت جسدى وتعطرت فأمعنت، وأدخلت رأسى فى جيبى، فنظرت إلى حرى يلمع بياضا وحمرة، وإذا هو ملء الكفّين ومنية المتمنّى. فناديت يا عمراه يا عمراه! قال عمر: فصحت بأعلا صوتى يا لبّيك يا لبّيك! ثلثا، ومددت فى الثالث صوتى. فضحكت حتى انقلبت على قفاها، وحادثتهن ساعة. ثم ودّعتهن وانصرفت. فذلك قولى <من الطويل>: عرفت مصيف الحىّ والمتربّعا … ببطن حليّات دوارس بلقعا (7) شارة: انظر الأغانى 1/ 297 حاشية 3 (8 - 9) وقد. . . فأمعنت: هذه الكلمات ناقصة فى الأغانى 1/ 176 (15 - 7،303) عرفت. . . إصبعا: وردت الأبيات فى عمر بن أبى ربيعة 227 - 228 (15) عرفت. . . المتربّعا: فى الأغانى 1/ 176؛ عمر بن أبى ربيعة 227: «ألم تسأل الأطلال والمتربّعا»؛ فى الأغانى 1/ 176 حاشية 3: «كذا فى الديوان. . . وما فى الديوان هو الصواب»

إلى السّفح من وادى المغمّس بدّلت … معالمه وبلا ونكباء زعزعا لهند وأتراب لهند إذ الهوى … جميع وإذ لم نخش أن يتصدّعا وإذ نحن مثل الماء كان مزاجه … إذا صفّق الساقى الرحيق المشعشعا وإذ لا نطيع الكاشحين ولا نرى … لواش لدينا يطلب الصّرم مطمعا فلما تواقفنا وسلّمت أشرقت … وجوه زهاها الحسن أن تتبرقعا تبالهن بالعرفان لمّا عرفننى … وقلن امرء باغ أضل واضيعا وقرّبن أسباب الهوى لمتيّم … يقيس ذراعا كلّما قسن إصبعا وهى قصيدة طويلة اختصرت منها ما هو الغرض فى الحكاية، ومن ما لخص من شعره فى ذكر هند هذه القصيدة التى أولها <من البسيط>: يا صاحبىّ قفا نستخبر الدارا … أقوت وهاجت لنا بالنّعف تذكارا وقد أرى مرّة سربا به حسنا … مثل الجآذر لم يمسسهن أبكارا فيهنّ هند وهند لا شبيه لها … فيمن أقام من الأحياء أو سارا (1) السّفح: فى عمر بن أبى ربيعة 227: «الشّرى»؛ فى عمر بن أبى ربيعة 227 حاشية 1: «الشرى: واد بين كبكب ونعمان على ليلة من عرفة» //المغمّس: فى عمر بن أبى ربيعة 227 حاشية 1: «المغمس: موضع بطريق الطائف» (3) إذا صفّق: انظر الأغانى 1/ 176 حاشيتين 5 - 6 (5) تتبرقعا: فى الأغانى 1/ 177: «تتقنّعا» (6) أضل واضيعا (وأوضعا): فى الأغانى 1/ 177: «أكلّ وأوضعا» (11 - 4،304) يا. . . إنكارا: وردت الأبيات فى عمر بن أبى ربيعة 142 - 143 (11) بالنّعف: انظر الأغانى 1/ 181 حاشية 4 (12) به: فى الأغانى 1/ 181: «بها»

تقول ليت أبا الخطّاب وافقنا … كى نلهو اليوم أو ينشدن أشعارا فلم يرعهنّ إلا العيس طالعة … بالقوم يحملن ركبانا وأكوارا (202) وفارس يحمل البازى فقلن لها … ها من ألآى وما أكبرن إكبارا لما وقفنا وعبّينا ركايبنا … بدّلن بالعرف بعد الرّجع إنكارا ومنها <من البسيط>: لما ألمّت بأصحابى وقد هجعوا … حسبت وسط رحال القوم عطّارا فقلت من ذا المحيّى وانتبهت له … ومن محدّثنا هذا الذى زارا؟ ألا انزلوا نعمت دار بقربكم … أهلا وسهلا بكم من زاير زارا فبدّل الرّبع ممّن كان يسكنه … عفر الظباء يمشين أسطارا وعن أبى بكر القرشىّ قال: كان عمر بن أبى ربيعة جالسا بمنّى فى فناء مضربه أيام الحج، وغلمانه حوله، إذ أقبلت امرأة برزة على أثر (1) تقول ليت: فى عمر بن أبى ربيعة 143: «قالت: لو انّ» //وافقنا: انظر الأغانى 1/ 181 حاشية 6 (4) وعبّينا: فى الأغانى 1/ 182 حاشية 2: «. . . ولعلّ كل ذلك محرّف عن وعنّنا أو وعنّينا من التعنية وهى الحبس. . .» //الرّجع: انظر الأغانى 1/ 182 حاشية 3 (6 - 9) لما. . . أسطارا: وردت الأبيات فى عمر بن أبى ربيعة 142 - 143 (8) ألا. . . زارا: انظر الأغانى 1/ 180 حاشية 1 وأيضا ألا: فى عمر بن أبى ربيعة 143: «قلن» (9) عفر: فى عمر بن أبى ربيعة 142: «أدم» (11) برزة: انظر الأغانى 1/ 190 حاشية 2

النعمة. فسلّمت فردّ عليها عمر فقالت له: أنت عمر بن أبى ربيعة؟ قال لها: أنا هو، فما حاجتك؟ قالت: حيّاك الله وقرّبك! هل لك فى محادثة أحسن الناس وجها، وأتمّهم خلقا، وأكملهم أدبا، وأشرفهم حسبا! قال: ما أحبّ إلىّ ذلك! قالت: على شرط، تمكننى من عينيك حتى أشدّها وأقودك، حتى إذا توسّطت الموضع الذى أريد، حللت الشدّ، ثم أفعل ذلك بك عند إخراجك حتى آتى بك مضربك. قال: شأنك. ففعلت ذلك به. قال عمر: فلما انتهيت إلى المضرب الذى أرادت، كشفت عن وجهى، فإذا بامرأة على كرسىّ لم أر مثلها قط جمالا وكمالا. فسلّمت وجلست. فقالت: أنت عمر بن أبى ربيعة؟ قلت: أنا ذاك. قالت: أنت الفاضح للحراير؟ قلت: وما ذاك؟ جعلت فداك. قالت: ألست القايل <من الكامل>: قالت وعيش أخى ونعمة والدى … لأنبّهنّ الحىّ إن لم تخرج فخرجت خوف يمينها فتبسّمت … فعلمت أنّ يمينها لم تحرج فتناولت رأسى لتعرف مسّه … بمخضّب الأطراف غير مشنّج (203) فلثمت [فاها آ] خذا بقرونها … شرب النّزيف ببرد ماء الحشرج ثم قالت: [قم] فاخرج عنّى. ثم قامت عن مجلسها. وجاءت المرأة (12 - 15) قالت. . . الحشرج: انظر الأغانى 1/ 191 حاشية 2 (13) تحرج: انظر الأغانى 1/ 191 حاشية 4 (15) شرب النّزيف: انظر الأغانى 1/ 191 حاشيتين 7 - /8/الحشرج: انظر الأغانى 1/ 191 حاشية 9 (16) عن: فى الأغانى 1/ 192: «من»

فشدّت [عينىّ]. ثم أخرجتنى حتى انتهيت إلى مضربى، وانصرفت وتركتنى، [فحللت عين‍] ىّ وقد داخلنى من الكاابة والحزن ما الله أعلم به، وبتّ ليل‍ [تى، فلما] أصبحت إذا أنا بالمرأة، فقالت: هل لك فى العود؟ فقلت: شأنك. ففعلت بى كفعلها بالأمس، حتى انتهيت إلى الموضع، فإذا أنا بتلك الفتاة على كرسى. فقالت: إيه يا فضّاح الحراير! قلت: بماذا يا بنتاه؟ جعلنى الله فداءك! قالت: بقولك <من الطويل>: وناهدة الثّديين قلت لها اتّكى … على الرمل فى ديمومة لم توسّد فقالت على اسم الله أمرك طاعة … وإن كنت قد كلّفت ما لم أعوّد فلمّا دنا الإصباح قالت: فضحتنى … فقم غير مطرود وإن شيت فازدد قم فاخرج عنّى. فقمت لأخرج، ثم رددت فقالت: لولا وشك الرّحيل، وخوف الفوت، ومحبّتى لمناجاتك والاستكثار من محادثك لأقصيتك. هات الآن كلّمنى وحدّثنى وأنشدنى. قال عمر: فكلّمت اادب الناس وأعلمهم بكل شئ. ثم نهظت عن مجلسها وأبطأت العجوز وخلا (5) إيه: انظر الأغانى 1/ 192 حاشية 1 (7) فى. . . توسّد: فى الأغانى 1/ 192 حاشية 2: «. . . من ديمومة لم تمهد» (10) قم: فى الأغانى 1/ 192: «ثم قالت: قم. . .»

لى البيت. وأخذت أنظر. فإذا أنا بثور فيه خلوق، فأدخلت يدى فيه. ثم خبأتها فى ردنى حتى إذا صرت على باب المضرب، أخرجت يدى فضربت بها على باب المضرب. ثم صرت إلى مضربى. فدعوت غلمانى فقلت: أيّكم يقفنى على باب مضرب عليه كفّ خلوق فهو حرّ، وله خمس ما [ية درهم]. فما لبثت أن جاء بعضهم فقال: قم. فنهضت معه، فإذا أنا بالكفّ طريّة، وإذا المضرب مضرب فاطمة بنت عبد الملك بن مروان، (204) وقد أزمعت الرحيل. فلما نفرت نفر معها. فبصرت فى طريقها بقباب ومضرب وهية جميلة. فسألت عن ذاك، فقيل لها: هذا عمر بن أبى ربيعة. فساءها ذلك وقالت العجوز التى كانت أرسلتها إليه: قولى له نشدتك الله والرّحم أن تصحبنى، ويحك! ما شأنك وما الذى تريد؟ انصرف ولا تفضحنى وتشيط دمك. فصارت العجوز إليه وأدّت ما قالت. فقال: لست بمنصرف أو توجّه إلىّ بقميصها الذى يلى جلدها. فأخبرتها ففعلت، ووجّهت بقميص من ثيابها. فزاده شغفا، ولم يزل يتبعهم ولا يخالطهم، حتى إذا صاروا على أميال من دمشق، انصرف وقال <من الكامل>: ضاق الغداة بحاجتى صدرى … وأيست بعد تقارب الأمر (1) خلوق: انظر الأغانى 1/ 193 حاشية 2 (7) نفر: فى الأغانى 1/ 193: «نفرت» (11) تشيط دمك: انظر الأغانى 1/ 193 حاشيتين 7 - 8

وذكرت فاطمة التى علّقتها … عرضا فيا لحوادث الدهر ممكورة ردع العبير بها … جمّ العظام لطيفة الخصر وكأنّ فاها بعد ما رقدت … تجرى عليه سلافة الخمر منها <من الكامل>: لما رأيت مطيّها حرقا … خفق الفؤاد وكنت ذا صبر وتبادرت عيناى بعدهم … وانهلّ مدمعها على الصّدر ولقد عصيت ذوى أقاربها … طرّا وأهل الودّ والصّهر حتى لقد قالوا وما كذبوا … أجننت أم بك داخل السّحر وعن أبى معاذ القرشىّ قال: لما قدمت فاطمة بنت عبد الملك بن مروان مكة جعل عمر بن أبى ربيعة يدور حولها ويقول فيها الشعر ولا يذكرها باسمها فرقا من عبد الملك ومن الحجاج، لأنه كان كتب إليه يتوعّده إن ذكرها أو عرّض باسمها. فلما قضت (205) حجّتها وارتحلت، أنشأ يقول من قصيدة <من الخفيف>: كدت يوم الرّحيل أقضى حياتى … ليتنى متّ قبل يوم الرّحيل لا أطيق الكلام من شدّة الخو … ف ودمعى يسيل كلّ مسيل منها <من الخفيف>: (1) فيا لحوادث: انظر الأغانى 1/ 194 حاشية 4 (2) ممكورة. . . العبير: انظر الأغانى 1/ 194 حاشيتين 5 - /6/جمّ العظام: انظر الأغانى 1/ 194 حاشية 7 (6) تبادرت عيناى: انظر الأغانى 1/ 195 حاشية /6/مدمعها: فى الأغانى 1/ 195: «دمعهما» (7) ذوى أقاربها: انظر الأغانى 1/ 195 حاشية 7

لو خلت خلّتى أصبت نوالا … وحديثا يشفى من التّنويل ولقد قالت الحبيبة لولا … كثرة الناس جدت بالتقبيل وعن محمد بن حبيب أن عمر بن أبى ربيعة قال فى فاطمة بنت عبد الملك بن مروان <من المديد> يا خليلى شفّنى الذّكر … وحمول الحىّ إذ صدروا ضربوا حمر القباب لها … وأديرت حولها الحجر سلكوا شعب النّقاب بها … زمرا تحتثّها زمر وطرقت الحىّ مكتتما … ومعى عضب به أثر وأخ لم أخش نبوته … بنواحى أمرهم خبر فإذا ريم على فرش … فى حجال الخزّ تختدر حوله الأحراس ترقبه … نوّم من طول ما سهروا شبه القتلى وما قتلوا … ذاك إلاّ أنهم سمروا فدعت بالويل، ثم دعت … حرّة من شأنها الخفر ثم قالت للتى معها … ويح نفسى قد أتى عمر [ما له قد جاء يطرقنا … ويرى الأعداء قد حضروا لشقايى كان علّقنا … ولحينى ساقه القدر قلت عرضى دون عرضكم … ولمن ناواكم الحجر] (7) النّقاب: انظر الأغانى 1/ 197 حاشية 1 (8) عضب: انظر الأغانى 1/ 197 حاشية /4/أثر: انظر الأغانى 1/ 197 حاشية 5 (10) تختدر: فى الأغانى 1/ 197: «مختدر» (17) عرضكم: انظر الأغانى 1/ 198 حاشية 1

وعن عبد الملك بن عبد العزيز قال: بيننا عمر بن أبى ربيعة يطوف بالبيت، إذ رأى عايشة بنت طلحة بن عبيد الله المقدّم ذكرها. . . مصعب ابن الزبير. . . ترطنا أن نذكر من حديثها لمعا ها هنا. وقد تقدم الكلام أنها كانت من أجمل النساء. فرآها عمر، وهى تريد الرّكن تستلمه. فبهت لما نظرها، ورأته وعلمت أنها وقعت فى نفسه. (206) فبعتث إليه بجارية لها تقول له: اتّق الله ولا تقل هجرا، فإن هذا مقام لا بد فيه مما رأيت. وقال للجارية: أقريها السلام وقولى لها: ابن عمك لا يقول إلا حسنا، وقال <من الوافر>: لعايشة ابنة التّيمىّ عندى … حمّى فى القلب، ما يرعى حماها تذكرنى ابنة التّيمى ظبى … يرود بروضة سهل رباها وهى طويلة جدا، وقال فيها أشعار كثيرة. فبلغ ذلك فتيان بنى تيم، أبلغهم فتى منهم وقال لهم: يا بنى تيم بن مرّة، ها الله ليقذفنّ بنو مخزوم بناتنا بالعظايم وتغفلون! فمشى ولد أبى بكر وولد طلحة بن عبيد الله إلى عمر بن أبى ربيعة. فعنّفوه فى ذلك فقال لهم: والله لا عدت أذكرها فى شعر أبدا. ثم قال بعد ذلك فيها-وكنى عن اسمها-فى قصيدته التى أولها <من البسيط>: يا أمّ طلحة إنّ البين قد أفدا … قلّ الثّواء لين كان الرّحيل غدا (17) أفدا: انظر الأغانى 1/ 200 حاشية 5

أمسى العراقىّ لا يدرى إذا برزت … من ذا تطوّف بالأركان أو سجدا قال: ولم يزل عمر ينسب بها أيام الحج ويطوف حولها ويتعرّض لها، وهى تكره أن يرى وجهها حتى وافقها يوما ترمى بالجمار سافرة، فنظر إليها فقالت: أم والله لقد كنت كارهة منك يا فاسق! فقال <من الكامل>: إنّى وأوّل ما كلفت بذكرها … عجبا وهل فى الدّهر من متعجّب نعت النساء فقلن لست بمبصر … شبها لها أبدا ولا بمقرّب فمكثن حينا ثم قلن: توجّهت … للحجّ، موعدها لقاء الأخشب أقبلت أنظر ما زعمن وقلن لى … والقلب بين مصدّق ومكذّب (207) فلقيتها تمشى تهادى موهنا … ترمى الجمار عشيّة فى موكب غرّاء يعشى الناظرين بياضها … حوراء فى غلواء عيش معجب إنّ التى من أرضها وسمايها … جلبت لحينك ليتها لم تجلب قال: ولم تزل عايشة ترفق به وتداريه خوفا أن يتعرّض لها حتى قضت حجّها وانصرفت إلى المدينة. فقال <من الرمل>: إنّ من تهوى مع الفجر ظعن … للهوى والقلب متباع الوطن منها <من الرمل>: نظرت عينى إليها نظرة … تركت قلبى لديها مرتهن (7) فقلن: فى الأغانى 1/ 201: «فقلت» (8) الأخشب: انظر الأغانى 1/ 201 حاشية 3 (11) غلواء عيش: انظر الأغانى 1/ 201 حاشية 5

ذكر سنة خمس وتسعين النيل المبارك فى هذه السنة

ليس حبّ فوق ما أحببتها … غير أن أقتل نفسى أو أجنّ ذكر سنة خمس وتسعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وسبعة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الوليد بن عبد الملك، وقرّة بن شريك بحاله. وفيها توفى الحجاج فى تاريخ ما تقدم، وفيها ولد مالك بن أنس رضى الله عنه. تتمة أخبار بن أبى ربيعة عن أيّوب بن مسلمة أن عمر كان مسهبا بالثّريّا بنت علىّ بن عبد الله بن الحرث بن أمية الأصغر. وكانت من الجمال الفايق بمكان لا يدرك غايته. وكانت تصيف بالطايف، وكان عمر يغد كلّ غداة إذا كانت بالطايف على فرسه، فيسل الركبان الذين يحملون الفاكهة من الطايف عن الأخبار قبلهم. فلقى يوما بعضهم، فسألهم عن (8) فيها. . . أنس: تعطى تواريخ مختلفة لمولده، انظر مقالة «مالك بن أنس» لشاخت 263 (9 - 14،320) عن. . . أربعين: ورد النص فى الأغانى 1/ 76 - 77،211 - 214 (9) مسهبا: انظر الأغانى 1/ 212 حاشية 1

أخبارهم. فقالوا: ما استطرفنا خبرا. فقال أحدهم: غير أنى سمعت عند رحيلنا صوتا وصياحا (208) عاليا على امرأة من قريش اسمها اسم نجم فى السماء وقد سقط [علىّ] اسمه. فقال عمر: الثريا؟ قال: نعم. وقد كان بلغ عمر قبل ذلك أنها عليلة. فكاد يسقط عن فرسه ووجّه فرسه على وجهه إلى الطايف يركضه ملء فروجه، وسلك طريق من أخشن الطّرق لقربها حتى انتها إلى الثريا، وقد توقّعته، وهى تشرف له و [تتشوّف]. فوجدها سليمة عميمة، ومعها أختاها رضيّا وأمّ عثمان. فأخبرها الخبر فضحكت وقالت: أنا والله أمرتهم لأختبر مالى عندك. فقال عمر فى ذلك <من الطويل>: تشكّى الكميت الجرى لمّا جهدته … وبيّن لو يسطيع أن يتكلّما فقلت له إن ألق للعين قرّة … فهان علينا أن تكلّ وتسأما لذلك أدنى دون خيلى رباطه … وأوصى به ألاّ يهان ويكرما عدمت إذا وفرى وفارقت مهجتى … لين لم أقل قرنا إن الله سلّما قال مسلمة: قلت لأيوب بن مسلمة: أكانت الثريا كما يصف عمر؟ (5) يركضه. . . فروجه: انظر الأغانى 1/ 212 حاشية 7 (7) عميمة: انظر الأغانى 1/ 212 حاشية /10/رضيّا: انظر الأغانى 1/ 212 حاشية 11 (10 - 13) تشكّى. . . سلّما: وردت الأبيات فى ديوان عمر بن أبى ربيعة 341 (13) قرنا: انظر الأغانى 1/ 213 حاشية 2 (14) قال مسلمة: فى الأغانى 1/ 213: «قال مسلمة بن إبراهيم»

قال: وفوق الصفة، كانت والله كما قال عبد الله بن قيس فيها <من الخفيف>: حبّذا الحجّ والثّريّا ومن بال‍ … خيف من أجلها وملقى الرّحال يا سليمن إن تلاق الثريّا … تلق عيش الخلود قبل الهلال درّة من عقايل البحر بكر … لم يشنها مثاقب اللّأل تعقد الميزر السّواد من الخ … زّ على حقو بادن مكسال وعن بلال مولى ابن أبى عتيق بن الحارث بن عبد الله بن عيّاش، قدم من الحج. فأتاه ابن أبى عتيق فسلّم عليه وقال: كيف تركت أبا الخطّاب عمر بن أبى ربيعة؟ فقال: تركته فى بلهنة من العيش، قال: و[أنّى ذلك؟]. (209) قال: حجّت رملة بنت عبد الله بن خلف الخزاعيّة. فقال فيها <من الخفيف>: (3 - 6) حبّذا. . . مكسال: وردت الأبيات فى ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات ص 206 - 207 (4) يا. . . الهلال: انظر الأغانى 1/ 213 حاشية 3 (5) اللّأل: انظر الأغانى 1/ 213 حاشية 6 (6) السّواد: فى الأغانى 1/ 214: «السّخام»، انظر هناك حاشية 1 (9) بلهنة (بلهنية): انظر الأغانى 1/ 214 حاشية 6

أصبح القلب فى الحبال رهينا … مقصدا حين فارق الظّاعنينا قلت من أنتم فصدّت وقالت … أمبدّ سؤالك العالمينا نحن من سكان العراق وكنّا … قبله قاطنين مكة حينا قد صدقناك إذ سألت فمن أن‍ … ت عسى أن يجرّ شأن شؤونا وترى أننا عرفناك بالنّع‍ … ت بظنّ وما قتلنا يقينا بسواد الثّنيّتين ونعت … قد نراه لناظر مستبينا قال: فبلغ ذلك الثريا، بلّغتها إياه أم نوفل، وكانت غضبا عليه، وقد كان انستر خبره عن الثريا حتى بلغها من جهة أم نوفل، وأنشدتها قوله <من الخفيف>: أصبح القلب فى الحبال رهينا … مقصدا يوم فارق الظاعنينا فقالت الثريا: إنه لوقاح صنع بلسانه. ولين سلمت [له] لأردّنّ من شأوه ولأثنينّ من عنانه ولأعرّفنّه نفسه. فلما بلغت إلى قوله <من الخفيف>: قلت من أنتم فصدّت وقالت … أمبدّ سؤالك العالمينا قالت إنه لسأل متيح ولقد أجابته إن وفت. فلما بلغت إلى قوله <من الخفيف>: (1 - 6) أصبح. . . مستبينا: وردت الأبيات فى عمر بن أبى ربيعة 425 - 426 (2) أمبدّ: انظر الأغانى 1/ 215 حاشية 1 (5) ترى: فى الأغانى 1/ 215: «نرى» (8) انستر: فى الأغانى 1/ 215: «انتشر» (11) صنع: انظر الأغانى 1/ 216 حاشية 2 (12) شأوه: انظر الأغانى 1/ 216 حاشية 3 (15) متيح: انظر الأغانى 1/ 216 حاشية 4

نحن من ساكنى العراق وكنّا … قبله قاطنين مكة حينا قالت: غمزته الجهمة ورب الكعبة. فلما بلغت إلى قوله <من الخفيف>: قد صدقناك إذ سألت فمن أن‍ … ت عسى أن يجرّ شأن شؤونا قالت: رمته الورهاء بآخر ما عندها فى مقام واحد. وهجرته الثريا. فلما هجرته قال فى ذلك <من الخفيف>: من رسولى إلى الثّريّا بأنّى … ضقت ذرعا بهجرها والكتاب (210) فبلغ ابن أبى عتيق قوله، فمضى حتى أصلح بينهما فى خبر طويل، هذا ملخصه. قال مصعب بن عبد الله فى خبره: وكانت رملة هذه جهمة الوجه، عظيمة الأنف، حسنة الجسم والأطراف، وتزوّجها عمر بن عبيد الله بن معمر، وتزوج عايشة بنت طلحة وجمع بينهما. فقال يوما لعايشة: فعلت فى محاربتى الخوارج مع أبى فديك كذا، وصنعت كذا ويذكر شجاعته وإقدامه وأكثر من ذلك. فقالت له عايشة: أنا أعلم لك يوما هو أعظم من جميع ما ذكرت، وعرفت فيه أنك أشجع الناس. قال: وما هو؟ قالت: يوم اجتليت رملة فأقدمت على وجهها وأنفها.

وعن إسحق قال: لما بلغ الثريا قول عمر فى رملة <من الخفيف>: وجلا بردها وقد حسرته … نور بدر يضئ للناظرينا قالت: أفّ له ما أكذبه! لن ترتفع حسناء بصفته بعد رملة! وعن سعيد مولى قايد قال: تزوج سهيل بن عبد العزيز بن مروان الثريا. فقال عمر بن أبى ربيعة فى ذلك <من الخفيف>: أيّها المنكح الثريّا سهيلا … عمرك الله كيف يلتقيان هى شاميّة إذا ما استقلّت … وسهيل إذا استقلّ يمانى وعن أبى صالح السّعدىّ قال: لما تزوج ابن عبد العزيز الثريا ونقلها وأزمع الرحيل، بلغ عمر الخبر فأتى المنزل الذى كانت به الثريا، فوجدها قد رحلت يوميذ. فخرج من أثرها فلحقها على مرحلتين. وكانت قبل ذلك مهاجرته لأمر أنكرته عليه. فلما أدركهم نزل على فرسه ودفعه إلى غلامه ومشى متنكّرا حتى مرّ بالخيمة فعرفته الثريا وأثبتت حركته ومشيته فقالت لحاضنتها: (211) كلّميه. فسلّمت عليه وسألته عن حاله وعاتبته على ما بلغ الثريا عنه. فاعتذر وبكى، وبكت الثريا وقالت: ليس هذا وقت العتاب مع وشك الرحيل. فحادثها إلى وقت طلوع الفجر. ثم ودّعها وبكيا بكاء طويلا. وقام فركب فرسه ووقف ينظر إليهم، وهم يرحلون. ثم أتبعهم بصره حتى غابوا، وأنشأ يقول <من البسيط>:

يا صاحبىّ قفا نستخبر الطللا … عن حال من حلّه بالأمس ما فعلا فقال لى الرّبع لما أن وقفت به … إنّ الخليط أجدّ البين فاحتملا صدّت بعادا وقالت للتى معها … بالله لوميه فى بعض الذى فعلا وحدّثيه بما حدّثت واستمعى … ماذا يقول ولا تعيى به خللا فإنّ عهدى به والله يحفظه … وإن أتى الذنب ممن يكره العذلا قلت اسمعى فلقد أبلغت فى لطف … وليس يخفى على ذى اللبّ من هزلا ما سمّى القلب إلاّ من تقلّبه … ولا الفؤاد فؤادا غير أن عقلا ما إن أطعت بها بالغيب قد علمت … مقالة الكاشح الواشى إذ محلا وهذه من قصايده الطنّانات، وهى طويلة وهذا حدا الاختصار. وعن عكرمة بن خالد المخزومى قال: كان عمر بن أبى ربيعة قد ألحّ على الثريا بالهوى، فشقّ ذلك على أهلها. ثم [إنّ] مسعدة بن عمرو أخرج عمر إلى اليمن فى أمر علق به عليه، وزوّجت الثريا، وهو غايب. فبلغه تزويجها وخروجها إلى مصر. فقال تلك القصيدة التى أولها أو منها <من الخفيف>: (2) فاحتملا: انظر الأغانى 1/ 244 حاشية 7 (4) خللا: فى الأغانى 1/ 245: «جدلا» (6) لطف: انظر الأغانى 1/ 245 حاشية 6 (7) ولا. . . عقلا: انظر الأغانى 1/ 245 حاشية 6 (8) محلا: انظر الأغانى 1/ 246 حاشية 4 (10) عكرمة: فى الأغانى 1/ 235: «هشام بن سليمان بن عكرمة. . .»

أيها المنكح الثريّا سهيلا ثم حمله الشوق على أن صار إلى المدينة وكتب إليها <من مجزوء الوافر>: كتبت إليك من بلدى … كتاب مولّه كمد (212) كييب واكف العيني‍ … ن بالحسرات منفرد يؤرّقه لهيب الشو … ق بين السّحر والكبد فيمسك قلبه بيد … ويمسح عينه بيد وكتبه فى قوهيّة وشنفه وحسّنه وطيبه وبعث به إليها إلى مصر. فلما قرأته بكت بكاء شديدا وتمثّلت <من الطويل>: بنفسى من لا يستقلّ بنفسه … ومن هو إن لم يحفظ الله ضايع وكتبت جوابه <من الطويل>: أتانى كتاب لم ير الناس مثله … أمدّ بكافور ومسك وعنبر وقرطاسه قوهيّة ورباطه … بعقد من الياقوت صاف وجوهر وفى صدره منّى إليك تحيّة … لقد طال تهيامى بكم وتذكر وعنوانه من مستهام فؤاده … إلى هايم صبّ من الحزن مسعر وعن ثعلبة بن عبد الله بن صغير أن عمر بن أبى ربيعة نظر فى (8) قوهيّة: انظر الأغانى 1/ 236 حاشية /1/شنفه: انظر الأغانى 1/ 236 حاشية 2 (12) أمدّ: انظر الأغانى 1/ 236 حاشية 4 (16) صغير (صعير): انظر الأغانى 1/ 247 حاشية 1

الطواف إلى امرأة شريفة فرأى أحسن خلق الله صورة. فذهب عقله عليها، وكلّمها فلم تجيبه فقال فيها قصيدة هذا أوّلها <من البسيط>: الرّيح تسحب أذيالا وتنشرها … يا ليتنى كنت مما تسحب الريحا فبلغها شعره فجزعت منه فقيل لها: اذكريه لأهلك فإنه يرتدع. فقالت: كلاّ والله لا أشكوه إلا إلى الله. ثم قالت: اللهم إن كان نوّه باسمى ظالما فاجعله طعاما للريح. فضرب الدهر من ضربه. ثم غدا على فرس يوما، فهبّت ريح فنزل واستذرى بقفلة فعصفت الريح وقويت فخدشه عنصر منها فدمى وورم فكان سبب موته عفا الله عنه. [و] عن ابن عيّاش قال: أشرف عمر بن أبى ربيعة على أبى قبيس، وبنو أخيه (213) معه وهم محرمون. فقال لبعضهم: خذ بيدى فأخذ بيده. فقال: وربّ هذه الكعبة ما قلت لامرأة قط ما لم تقله لى، ولا كشفت ثوبى على حرام قط! وعن محمد بن الضحاك قال: عاش عمر بن أبى ربيعة ثمانين سنة. فتك أربعين ونسك أربعين والله أعلم. (3) مما: فى الأغانى 1/ 247: «ممّن» (7) بقفلة: انظر الأغانى 1/ 248 حاشية 2 (8) عنصر: فى الأغانى 1/ 248: «غصن» (9) ابن عيّاش: فى الأغانى 1/ 76: «عبد العزيز بن عبد الله بن عياش بن أبى ربيعة»

ذكر سنة ست وتسعين النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ست وتسعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلثة أذرع واثنا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثلثة وعشرون إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الوليد بن عبد الملك إلى أن توفى فى هذه السنة فى تاريخ ما يأتى. وقرّة بن شريك إلى أن توفى. فولى الوليد قبل وفاته عبد الملك ابن رفاعة الفهمىّ على حرب مصر، وولى أسامة بن زيد على خراجها. وتوفى الوليد فى شهر جمادى الآخرة من هذه السنة، وله من العمر تسع وأربعين سنة مع خلاف فيه. وكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر، وقيل سبعة أشهر وعشرين يوما. وصلى عليه سليمان أخوه، وقيل بل صلى عليه عمر بن عبد العزيز بدير مرّان من أرض دمشق والله أعلم. (6 - 7) توفى. . . يأتى: انظر هنا سطر 9 (7) قرّة. . . توفى: فى كتاب الولاة 65: «ثم توفى قرّة بن شريك بها وهو وال عليها ليلة الخميس لستّ بقين من شهر ربيع الأوّل سنة ستّ وتسعين» (7 - 8) فولى. . . مصر: فى كتاب الولاة 65 - 66: «واستخلف على الجند والخراج عبد الملك بن رفاعة بن خالد الفهمىّ»، انظر أيضا النجوم الزاهرة 1/ 231 (8) وولى. . . خراجها: انظر النجوم الزاهرة 1/ 231؛ حكام مصر لفيستنفلد 41 (10) تسع. . . فيه: فى تاريخ القضاعى، ص 139: «ثمان وأربعون سنة وأشهر» (10 - 11) تسعة. . . يوما: فى تاريخ القضاعى، ص 139: «ثمانية أشهر»

صفته رحمه الله تعالى

صفته رحمه الله تعالى كان أبيض، أفطس، به أثر جدرى، ربعة، عريض المناكب، كث اللحية. وقال إسحق: كان طويلا جميلا بأنفه خنس. ذكر كتّابه القعقاع بن خليد العبسىّ، ويقال هو ابن جبلة. ويقال إن الدواوين نقلت من الفارسية إلى العربية فى أيامه، نقلها سليمان بن سعيد (214) الخشينى وصالح بن عبد الرحمن مولا بنى مرة ابن عبد. وفى تاريخ القضاعى: كتابه قرة بن شريك حتى ولاه مصر، ثم قبيصة بن ذؤيب، ثم الضحاك بن زمل، ثم يزيد بن أبى كبشة، ثم عبد الله ابن بلال. ذكر حجّابه (2) كان أبيض: فى تاريخ القضاعى، ص 139: «كان أسمر»، كذا فى نهاية الأرب 21/ 336 (7) سليمان. . . الخشينى (لعل الأصح: الخشنىّ): انظر الأعلام 3/ 188؛ تاريخ الطبرى 2/ 837 (7 - 8) صالح. . . عبد (لعل الأصح: عبيد): انظر الأعلام 3/ 277 (9) تاريخ القضاعى: انظر تاريخ القضاعى، ص 141، كذا فى نهاية الأرب 21/ 336، قارن مقالات لبيوركمان 57

نقش خاتمه

خالد وسعد مولياه نقش خاتمه يا وليد أنت ميت، والله أعلم. ذكر خلافة سليمان بن عبد الملك بن مروان ولمعا من خبره هو أبو أيوب سليمن بن عبد الملك بن مروان وباقى نسبه قد تقدم مع أبيه وأخيه، ويلقب مفتاح الخير. كان فصيحا لسنا أديبا معجبا بنفسه متوقفا عن سفك الدماء، وكان أكولا شرها نكّاحا، يأكل كل يوم نحو من ماية رطل وأكثر. وأغزى أخاه مسلمة الصايفة حتى بلغ القسطنطينية، وبدأ ببناء الرملة سنة ثمان وتسعين. بويع له بدمشق وهو بالرملة فى النصف من جمادى الأخرى سنة ست وتسعين، وله أربعون سنة وأربعة أشهر، وكانت أيامه سنتين وسبعة أشهر وستة وعشرين يوما. (1) خالد. . . مولياه: فى تاريخ القضاعى، ص 141: «خلد [كذا] مولاه، وسعيد مولاه»، كذا فى نهاية الأرب 21/ 336 (3) يا. . . ميت: كذا فى نهاية الأرب 21/ 336 (4) سليمن. . . مروان: انظر سير أعلام النبلاء 5/ص 111 - 113 (9) ببناء الرملة: فى المنجد (فى الأعلام) ص 310 مادة «الرّملة»: «اتخذها سليمان. . . مقرا له 716» (11) أربعون. . . أشهر: قارن هنا ص 339:15؛340:1؛ وفقا لزيترستين، مقالة «سليمان ابن عبد الملك»،560، ولد سنة 60 وكان عمره عندما تولى الخلافة 36 سنة (11 - 12) سبعة. . . يوما: فى تاريخ القضاعى، ص 142: «ثمانية أشهر إلا خمسة أيام»

أمه ولاّدة بنت العباس، وهى أم أخيه الوليد، وهى إحدى ثلث ولدت كل واحدة منهن خليفتين، وهن فاطمة بنت سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهذه والخيزران الجرشيّة يأتى خبرها فى موضعه إنشاء الله تعالى. وكانت الناس فى أيامه منهمكون على المآكل من ساير الأنواع، يتغالون فى شراء الطباخات الماهرات، ويلقى الرجل صديقه. . . يكون له معه خطاب إلا ما أكلت اليوم وما تعشيت البارحة. . . م تطيق بأكل وما أشبه ذلك. فمن نكث التاريخ فى ذلك (215) ما رواه المسعودى رحمه الله أن سليمان بن عبد الملك قصد التنزه فى بستان لعمر بن عبد العزيز بالغوطة حين انتهت فوكهه. فأمر عمر أن توفر فاكهة البستان ولا تجنى عشرة أيام، ونزل سليمان وصحبته ندماء حضرته. فمشى فى البستان بين حفدته فى أول النهار، وعاد يتناول كل فاكهة على شجرها بيده معما يتخيرون له رفقاؤه من كل ثمرة قد انتهت وبلغت، وهو يلقم جميع ذلك إلى أن تعالى النهار وسخنت الفاكهة. فقال لوكيل عمر بن عبد العزيز: إننى جايع يا شمردل فما عندك على سبيل التعجيل قبل الغداء؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، عندى جدى حنيذ كان يغدوا على بقرة ويروح على أخرى. فقال: (1 - 3) أمه. . . الجرشيّة: قارن بلطائف المعارف 80 - 81 (3) يأتى. . . موضعه: انظر كنز الدرر 5/ 104،458 (7) المسعودى: لم أقف على هذا النص فى مروج الذهب

عجّل به. فأحضره كأنما حشى حشوا، فأكله عن آخره ولم يشارك فيه. ثم قال: ما عندك أيضا؟ فقال: أربع دجاجات من أولاد الهنود قد سمنوا حتى عادوا كفراخ النعم. فأتا بهن فأكلهن ولم يرم منهن سوى العظم ممشمشا. ثم قال: هيه شمردل ما عندك أيضا؟ فقال: عكّة من سويق السمد قد لتت بسمن طرى وسكر طبرزد. وأحضرها فاستوفاها. ثم حضر الطباخ يستأذن على حضور الطعام. فقال: أحضره بقدوره. فأحضرت ثمانين قدرا من أنواع الأطعمة. فشرع يأكل من كل قدر اللقمة واللقمتين، وغرفت القدور، وجلس على السماط وأكل فلم تنكر من أكله العادة شيا. ثم استدعى بكيزان الفقّاع، فشرب ما شاء الله أن يشرب. ثم تجشأ فكان كفيل زعق فى جب. وروى الأصمعى قال: كنت بحضرة الرشيد فذكر سليمان وشرهه (216) فأرويت هذه الواقعة، فهمس بشى لبعض الخدم الوقوف فأحضر قمطر يحمله خادمان فوضعوه بين يديه. وأمر بفتحه وأخرج منه ثيابا ملونة من الديباج الملكى المذهب الذى لا يصلح إلا للخلفاء والملوك وأكمام جميعها من جهة اليمين غارقة بالدهن. فقال: أتدرون ما هؤلاء؟ فقلنا: لا والله. فقال: هؤلاء ملابس سليمان بن عبد الملك، كان إذا حضرت الحملان المشوا بين يديه تعجبه الكلا ولا يمهل عليها، فيلف يده بكم ملبوسه ويتناول الكلا من جوف الحمل ليدفع عن يده حرارتها. فتعجبنا من قوة شرهه.

ذكر سنة سبع وتسعين النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة سبع وتسعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وثلثة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة سليمان بن عبد الملك بن مروان، وعبد الملك بن رفاعة الفهمىّ على حرب مصر، وأسامة بن زيد على الخراج بها، والقاضى يوميذ بمصر عبد الأعلا بن خالد الفهمى. فيها ورد كتابا من ابن هبيرة يذكر أن ببخارا وقت السحر سمعوا الناس قعقعة عظيمة من السماء ودوى كأعظم ما يكون من الرعد القاصف، فنظروا فوجدوا، وقد انفرج من السماء فرجة عظيمة، ونزل منها أشخاصا عظاما رؤوسهم فى السماء وأرجلهم فى الأرض وقايلا [ي‍] قول: يا أهل الأرض اعتبروا بأهل السماء. هذا صفواييل [م‍] لك عصى فعذب. فلما تضاحى النهار أتت الناس إلى ذلك (217) المكان الذى تحت (3) ستة: فى النجوم الزاهرة 1/ 235: «سبعة» (8) عبد الأعلا (الأعلى). . . الفهمى: لم أقف على هذا الاسم فى كتاب الولاة (9) ابن هبيرة: انظر تاريخ الطبرى (كتاب الفهارس)

ذكر سنة ثمان وتسعين النيل المبارك فى هذه السنة

تلك الفرجة فوجدوا خسفة عظيمة دورها يوما كاملا لا يدرك لها قرارا، يطلع منها دخان أسود أحرّ من النار. من تقرب منه هوى فيه كلمح البصر فهوى فيه جماعة من الناس، ووضعت عدة حوامل من أهل بخارا أو ضواحيها لهول ما سمعوا من تلك القعقعة فى ذلك الوقت، ورجعت الناس عن ما كانوا عليه من لهوهم وأكثروا من الصلاة والصيام وذكر الله تعالى لما عاينوا من هذه الآية العظيمة. وحضر طىّ كتاب بن هبيرة محضرا مثبوتا على قاضى بخارا بصحة ذلك يشتمل على خطوط أربعين عدل ممن سعوا ذلك وعاينوه. وقرئ الكتاب والمحضر بجامع دمشق يوم الجمعة فى شهر رمضان من هذه السنة. قلت: ذكر ذلك جبريل بن بختيشوع المتطبب فى كتابه الآتى ذكره آخر هذا التاريخ عند ذكر التتار وخروجهم أولا. وذكر فيه عدة غرايب تأتى فى أماكنها إنشاء الله تعالى. ذكر سنة ثمان وتسعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلثة أذرع وتسعة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة سليمان بن عبد الملك بن مروان، وعبد الملك بن رفاعة مستقرا على ولايته، وكذلك أسامة بن زيد والقاضى كذلك.

روى أن سليمان بن عبد الملك لما صار الأمر إليه، أحضر يزيد بن أبى مسلم كاتب الحجاج بن يوسف وأخيه من الرضاع، وذلك كان (218) فى نفس سليمان من الحجاج فى أيام أبيه عبد الملك وأخيه الوليد. فلما مثل بين يديه اقتحمته عينه فقال: تسمع بالمعيدى لا أن تراه، لعن الله امرءا أجرّك رسنه. فقال يزيد: مه يامير المؤمنين، إنما نظرت إلىّ والأمر عنى مدبر وعليك مقبل. فلو نظرت إلىّ والأمر علىّ مقبل وعنك مدبر لاستسمنت ما استهزلت، واستعظمت ما استصغرت، واستهولت ما استحقرت. فقال سليمان: عزمت عليك يابن أبى مسلم، أاستقر الحجاج فى قاع جهنم أم بعد هاويا على أم رأسه؟ فقال: لا تقل ذلك يامير المؤمنين فى الحجاج، فإنه مهد لكم الأرض، ووطد لكم الأمر، وبذل لكم النصيحة، وإنه ليأتى عن يمين أبيك ويسار أخيك، فضعه حيث شيت. فقال سليمن: وقد ازورّ حنقا، اغرب إلى لعنة الله. وأطرق ساعة. ثم قال: اخلوا عنه وأطلقوا سبيله لا أم له، فلقد أثمرت فيه الصنيعة. وأحسن المكافأة عليها حيا وميتا. وكان يزيد هذا كاتبا للحجاج بن يوسف وكان أخاه من الرضاعة. وكان الحجاج يجرى له فى كل شهر ثلثماية درهم. فكان يعطى منها (8 - 9) أاستقر. . . رأسه: فى وفيات الأعيان 6/ 310: «أترى صاحبك الحجاج يهوى بعد فى نار جهنم أم قد استقر فى قعرها؟» (11) فضعه: فى وفيات الأعيان 6/ 310: «فضعهما»

ذكر من أفرط به القصر

زوجته خمسين درهما وينفق فى ثمن اللحم خمسة وأربعين، وينفق باقيها فى ثمن الدقيق وباقى نفقاته. فإن فضل منها شئ ابتاع به ماء وسقاه المساكين، وربما فرقها قطعا. وكان مع ذلك يقتل الخلق مع الحجاج. ويروى أن الحجاج عاده فى علة اعتلها. فوجد بين يديه كانونا من طين ومنارة من خزف. فقال له: أيا با العلاء، ما أرى أرزاقك تكفيك. فقال: أيها الأمير. . . كانت ثلثماية لا تكفينى، فثلثون ألفا لا تكفينى. وأبا أن يقبل زيادة. (219) وكان يزيد بن أبى مسلم قصيرا ضييلا حقيرا فى العين. قلت: ولنذكر ها هنا من أفرط به القصر من السلف، وكذلك من أفرط به الطول. ذكر من أفرط به القصر كان عبد الله بن مسعود رضى الله عنه شديد القصر، تكاد الجلوس يوازونه من قصره. وكان إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنهما قصيرا دحداحا، تزوج سكينة بنت الحسين بن علىّ عليهم السلام فلم ترضه لقصره فخلعت منه. وعن الحسن البصرى رضى الله عنه أنه قال: ما كان طول فرعون (12 - 9،230) كان. . . التقليد: ورد النص فى لطائف المعارف 29،112 - 114؛ الترجمة الإنكليزية لبوسورث 95 - 96

إلا ذراعا. وذكر ثابت بن سنان فى تاريخه أنه احتيج بسبب قصر الوزير أبى جعفر محمد بن القسم إلى أن يقصر من ارتفاع سرير الخلافة. فنقص أربع أصابع مفتوحة. وكان العباس بن الحسن الوزير قصيرا جدا معما كان عليه من حسن السياسة، وفيه قيل <من البسيط>: لا تنظرنّ إلى العباس عن قصر … وانظر إلى الفضل والمجد الذى شادا إنّ النجوم نجوم الليل أصغرها … فى العين أبعدها فى الجوّ إصعادا وأما من الشعراء المعروفين فكان ذى الرمّة قصيرا دحداحا واسمه غيلان بن عقبة، لقب بذى الرمة لقوله <من الرجز>: أشعث باقى رمّة التقليد وكذلك الحطية وكثيّر عزّة كانا قصيرين غاية، وذلك قول كثيّر <من الطويل>: فإن أك معروق العظام فإننى … إذا ما وزنت القوم بالقوم وارن ودخل كثير على عبد الملك بن مروان فى أول خلافته فقال له: أنت كثيّر؟ قال: نعم. فاقتحمته عينه وقال: تسمع بالمعيدى لا أن تراه. (220) فقال: يامير المؤمنين كل عبد محله رحب الفناء، شامخ البناء، (1) ثابت. . . تاريخه: انظر لطائف المعارف 113 حاشية 5 (8 - 9) لقب. . . التقليد: ورد النص فى وفيات الأعيان 4/ 16 (12) فإن. . . وازن: ورد البيت فى كثير عزة للربيعى 146 (14) لا أن: فى كثير عزة للربيعى 52: «خير من أن»

ذكر من أفرط به الطول

عالى السناء، وأنشأ يقول <من الوافر>: ترى الرجل النحيف فتزدريه … وفى أثوابه أسد هصور ويعجبك الطرير إذا تراه … فيخلف ظنك الرجل الطرير بغاث الطير أطولها رقابا … ولم تطل البزاة ولا الصقور خشاش الطير أكثرها فراخا … وأمّ الصّقر مقلاة نزور ضعاف الأسد أكثرها زييرا … وأصرمها اللواتى لا تزير وقد عظم البعير بغير لبّ … فلم يستغن بالعظم البعير ينوّخ ثم يضرب بالهراوى … فلا عرف لديه ولا نكير وقال عبد الملك: إنى لأظنه كما قال. قلت: وإذ قد جرّ الحديث ذكر كثيّر، فلا بد ما نذكر لمعا من خبره من عزّة بعد ذكر الطوال من الناس. ذكر من أفرط به الطول كان الإمام عمر بن الخطاب رضى الله عنه كأنه راكب والناس يمشون لطوله. وكان عدىّ بن حاتم الطايى إذا ركب كادت رجلاه تخطّ (2 - 8) ترى. . . نكير: وردت الأبيات فى ديوان كثير عزة ص 529 - 530، انظر أيضا كثير عزة للربيعى 52 (3) إذا تراه: فى ديوان كثير عزة ص 529: «فتبتليه» (13 - 7،332) كان. . . شبرا: ورد النص فى لطائف المعارف 111 - 112؛ الترجمة الإنكليزية لبوسورث 95 - 96

(221) ذكر طرفا من خبر كثير وعزة

الأرض. وكان جرير بن عبد الله البجلى كذلك. وكان قيس بن سعيد بن عبادة فى نهاية الطول والجسامة. وكان عبيد الله بن زياد لا يرى ماشيا إلا ظنّ أنه راكبا لطوله. وكان علىّ بن عبد الله بن عباس طويلا جميلا، وعجب قوما من طوله. فقال شيخ كبير: سبحان الله! كيف نقص الناس! لقد رأيت العباس يطوف بالبيت كأنه فسطاط أبيض. فحدّث بذلك علىّ فقال: كنت إلى منكب جدّى. وكان جبلة بن الأيهم الغسّانى طوله اثنى عشر شبرا. روى هذا جميعه الثعالبى. (221) ذكر طرفا من خبر كثيّر وعزّة قيل لكثيّر عزّة: ما أعجب ما مرّ بك فى حب عزة؟ قال: حججت فى ركب، وهى فيه، وأنا لا أعلم أنها فيه. فأرسلها زوجها تبتاع أدما تصلح به طعاما لهما. فوقفت علىّ، وأنا أبرى سهاما. فلما نظرتها بهتّ وجعلت أبرى ساعدى، وأنا لا أدرى ما أصنع. فلما رأت الدم دخلت (6) كنت. . . جدّى: فى لطائف المعارف 112: «كنت إلى منكب أبى، وكان أبى إلى منكب جدّى»

علىّ وجعلت تمسح الدم بردنها، فسألتها عن شأنها، فقالت لى خبرها، فقمت إلى أداة من سمن فجعلت أحدثها وأصبّ فى الإناء الذى معها حتى امتلأ وفاض بين أرجلنا ولا ندرى، فانصرفت عنى وقد استبطأها زوجها ورأى الدم فى ردنها فأنكره، فعزم عليها إلا أخبرته فأخبرته، فحلف لتقفنّ علىّ وتشتمنّى فى وجهى. فأخذها ووقف بها علىّ وهى تبكى فقالت: يابن الزانية، فذلك قولى <من الطويل>: يكلّفها الخزير شتمى وما بها … هوانى ولكن للمليك استذلّت هنيا مريا غير ذاء مخامر … لعزّة من أعراضنا ما استحلّت وهذه القصيدة فمن أجلّ شعره وأحسنه وهى <من الطويل>: خليلىّ هذا ربع عزّة فاعقلا … قلوصيكما ثم انزلا حيث حلّت وما كنت أدرى قبل عزّة ما البكا … ولا موجعات القلب حتّى تولّت وكانت لقطع الحبل بينى وبينها … كناذرة نذرا وفت وأحلّت فقلت لها يا عزّ كلّ مصيبة … إذا وطّنت يوما لها النفس ذلّت فإن سأل الواشون فيما صرمتها … فقل نفس حرّ سلّيت فتسلّت (7 - 8) يكلّفها. . . استحلّت: ورد البيتان أيضا فى ديوان كثير عزة ص 100؛ كتاب الشعر 328 (10 - 3،335) خليلىّ. . . استهلّت: وردت الأبيات فى كثير عزة ص 95،97 - 103؛ بعض الأبيات موجودة أيضا فى الأغانى 9/ 29 - 30؛ كتاب الشعر 327 - 328؛ كثير عزة للربيعى 68،142،152 (10) انزلا: فى كثير عزة ص 95: «ابكيا»، انظر أيضا الأغانى 9/ 29؛ كتاب الشعر 327

سفوحا فما تلقاك إلا بخيلة … فمومل منها ذلك الوصل ملّت أباحت حما لم يرعه النّاس قبلها … وحلّت تلاعا لم يكن قبل حلّت (222) وكنت كذى رجلين رجل صحيحة … ورجل رمى فيها الزمان فشلّت وبى زفرات لو تدمن قتلننى … توالى التى تأتى التى قد تولّت فإن تكن العتبا فأهلا ومرحبا … وحفت لها الغبنا لدينا وقلّت وإن تكن الأخرى فإنّ وراءنا … بلادا إذا كلفتها العيس كلّت أسيى بنا أو أحسنى لا ملومة … لدينا ولا مقلولة إن تقلّت فما أنا كالداعى لعزّة بالردى … ولا شامتا إن نعل عزّة زلّت فلا تحسب الواشون أن صبابتى … بعزّة كانت غمرة فتجلّت فو الله ثمّ الله لا حلّ قبلها … ولا بعدها من خلّة حيث حلّت وما مرّ من يوم علىّ كيومها … وإن عظمت أيّام أخرى وجلّت (4) بى: فى كثير عزة ص 100: «لى» //التى: فى كثير عزة ص 100: «المنى» (7) تقلّت: انظر الأغانى 9/ 30 حاشية 2 (8) كالداعى: فى كثير عزة ص 102: «بالداعى» (10) قبلها ولا بعدها: فى كثير عزة ص 102: «بعدها ولا قبلها»

وإنّى وتهيامى بعزّة بعدما … تخلّيت من أسبابها وتخلّت لكالمرتجى ظلّ الغمامة بعد ما … تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت كأنى وإياها سحابة ممطر … رجاها فلما جاوزته استهلّت [قرأت فى كتاب الأغانى فى أخبار إسحق الموصلى لأعرابىّ هو <من الطويل>: ألا قاتل الله الحمامة غدوة … على الغصن ماذا هيّجت حين غنّت تغنّت بصوت أعجمىّ فهيّجت … من الوجد ما كانت ضلوعى أجنّت فلو قطرت عين امرئ من صبابة … دما لبكت عينى دما أو أبلّت فما سكتت حتى لويت لصوتها … وقلت أرى هذى الحمامة جنّت ولى زفرات لو يدمن قتلننى … تشوق التى تأتى التى قد تولّت إذا قلت هذى زفرة اليوم قد مضت … فمن لى بأخرى من غد قد أظلّت فيا محيى الموتى أعنّى على التى … بها نهلت نفسى سقاما وعلّت فقلت ارحلا يا صاحبىّ فليتنى … أرى كل نفسى أعطيت ما تمنّت وما وجد أعرابيّة قذفت بها … صروف النّوى من حيث لم تك ظنّت (1) من أسبابها: فى كتاب الشعر 328؛ كثير عزة ص 103: «ممّا بيننا» (2) بعدما: فى كتاب الشعر 328؛ كثير عزة ص 103: «كلّما» (3) ممطر: فى كثير عزة ص 103: «ممحل» (4 - 6،336) لأعرابىّ. . . منّت: وردت الأبيات فى الأغانى 5/ 357 - 360 (8) لبكت: فى الأغانى 5/ 359: «قطرت» //أو أبلّت: فى الأغانى 5/ 359: «فألمّت» (9) لويت: فى الأغانى 5/ 359: «أويت» //أرى: فى الأغانى 5/ 359: «ترى» (10) تشوق. . . تأتى: فى الأغانى 5/ 359: «بشوق إلى نأى» (12) أعنّى على: فى الأغانى 5/ 359: «أقدنى من»

بأكثر منّى لوعة غير أننى … أجمجم أحشايى على ما أجنّت لقد بخلت حتى لو أنّى سألتها … قذى العين من سافى التراب لضنّت حلفت لها بالله ما أمّ واحد … إذا ذكرته آخر الليل أنّت إذا ذكرت ماء العضاه وطيبه … وبرد الحصى من بطن خبت أرنّت ومنه يقول <من الطويل>: فإن بخلت فالبخل منها سجيّة … وإن بذلت أعطت قليلا ومنّت] وحكى أن عزّة دخلت على عبد الملك بن مروان فقال لها: يا عزة أتروين قول كثيّر حيث قال <من الطويل>: قضى كلّ ذى دين فوفّى غريمه … وعزّة ممطول معنّى غريمها فقالت: لا أعرف هذا يامير المؤمنين، وإنما أروى قوله <من الطويل>: كأنّى أنادى صخرة حين أعرضت … من الصّمّ لو تمشى بها العصم زلّت صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة … فمومل منها ذلك الوصل ملّت (1) أجمجم: انظر الأغانى 5/ 360 حاشية 4 (4) الحصى: فى الأغانى 5/ 360: «الحمى» //خبت: انظر الأغانى 5/ 360 حاشية 3 (6) منّت: فى الأغانى 5/ 360: «أكدت»، انظر أيضا الأغانى 5/ 360 حاشية 5 (7 - 8) حكى. . . قال: قارن الأغانى 9/ 27 - 28 (9) قضى. . . غريمها: ورد البيت فى الأغانى 9/ 26،28؛ كثير عزة ص 143 (12 - 13) كأنّى. . . ملّت: ورد البيتان فى الأغانى 9/ 27 - 28؛ كثير عزة ص 97 (13) صفوحا: انظر الأغانى 9/ 27 حاشية 3

قال: فضحك عبد الملك من حسن جوابها وفصاحتها وإدراكها وأجزل صلتها. ويحكى أنها دخلت على أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان فقالت: يا عزّة، عزمت عليك لتخبرينى ما قول كثيّر فيك <من الطويل>: (223) قضى كلّ ذى دين فوفّى غريمه … وعزّة ممطول معنّى غريمها فاستعفتها فأبت إلا إخبارها. فقالت: كنت وعدته قبلة. ثم تحرّجت من ذلك. فقالت لها: أنجزيها له وعلىّ إثمها. ويقال: إن أم البنين أعتقت لأجل هذه الكلمة أربعين رقبة. وقيل: مر كثيّر ببثينة جميل، وعزة جالسة معها، وهو لا يعلم. فقالت بثينة: يا كثيّر، ما تركت فيك عزّة مستمتعا لأحد. قال: لو أن عزّة إليّ لوهبتها لك. قالت: فكيف بما قلت فيها من الشعر. قال: أحوله جميعه إليك. فقالت له: فقل شيا فىّ على البديه فقال <من الطويل>: رمتنى على عمد بثينة بعد ما … تولّى شبابى وارجحنّ شبابها بعينين نجلاوين لو رقرقتهما … لنوء الثريّا لاستهلّ سحابها (3 - 9) ويحكى. . . رقبة: وردت هذه القصة فى وفيات الأعيان 4/ 108 (3 - 6) ويحكى. . . غريمها: قارن الأغانى 9/ 27 - 28، انظر هنا ص 336، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 9 (14) رمتنى. . . شبابها: ورد البيت فى الأغانى 9/ 36؛ كثير عزة ص /447/ارجحنّ: انظر الأغانى 9/ 36 حاشية 2 (15) بعينين. . . سحابها: هذا البيت ناقص فى الأغانى 9/ 36 لكنه ورد فى شرح ديوان كثير عزة 1/ص 101؛ كثير عزة ص 447

قال: فخرجت عزّة، فلما رآها قال على حاله <من الطويل>: ولكنّما ترمى نفسا مريضة … لعزّة منها صفوها ولبابها فقالت: أولى لك تخلّصت. ولهذه الحكاية أخّر كثيّر عن رتبة غيره من المتيّمين وطعن فى صحة عشقه. قال بعض الحكماء-وقيل إنه أفلاطون-فى العشق والمحبة وسببهما: العين رايدة القلب، فإن أهدت إليه صورة حسنة قبلها قبول الراغب، وكفلتها المشاركة بترداد النظرة، واستخدما ساير الأعضاء فى مشقة المحبة، وهى عدوة الجسد ومورثة الكمد. وفى المعنى قيل <من المجتث>: لا أظلم القلب عينى … تهدى الغرام إليه دلت حتّى إذا ما … أطاع دلّت عليه وللعبد مؤلف هذا التاريخ مقامة من جملة مقاماته فى هذا المعنى وسمتها بنوار البستان فى مشاجرة القلب والعين واللسان، (224) وهى المقامة من غريب ما اتفق عليه معانيها وأسست قواعدها ومبانيها. وما أحسن قول ابن وكيع فى هذا المعنى <من مخلع البسيط>: (2 - 3) ولكنّما. . . تخلّصت: ورد النص فى الأغانى 9/ 36

ذكر سنة تسع وتسعين النيل المبارك فى هذه السنة

عدت إلى الغىّ بعد نسكى … ولذّ لى فيك طعم محك أضحك للشامتين زورا … ولى ضمير عليك يبكى يمنعنى أن أبوح نفس … تأنف من ذلة التشكى عينى التى أوقعت فؤادى … يا عين ماذا لقيت منك خرج بنا الحديث ولذة شجونه مع تنقية نبذه وعيونه عن ما نحن بصدده من ذكر التاريخ وفنونه فلنعود إلى ذلك. ذكر سنة تسع وتسعين النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة سليمان بن عبد الملك بن مروان إلى أن توفى فى هذه السنة فى تاريخ ما يذكر. وعبد الملك بن رفاعة بمصر، وأسامة بن زيد كذلك. توفى سليمان رحمه الله فى شهر صفر من هذه السنة بدابق من أرض قنّسرين. وله من العمر ثلث وأربعين سنة، وقيل خمس وأربعين، (1 - 4) عدت. . . منك: وردت الأبيات فى يتيمة الدهر 1/ 398 (2) للشامتين زورا: فى يتيمة الدهر 1/ 398: «للكاشحين جهرا» (13) عبد الملك بن رفاعة: فى كتاب الولاة 67: «وتوفى أمير المؤمنين سليمان فى صفر سنة تسع وتسعين وبويع. . . فعزل عبد الملك بن رفاعة عنها»؛ فى كتاب الولاة 68: «ثم وليها أيوب بن شرحبيل من قبل. . . على صلاتها فى ربيع الأول سنة تسع وتسعين»، انظر أيضا كتاب الأنساب لزامبور 25؛ حكام مصر لفيستنفلد 41،51 (14) شهر. . . السنة: انظر الكامل 5/ 37؛ مروج الذهب 4/رقم 2151؛ وفيات الأعيان 2/ 420 (15 - 1،340) وله. . . سنة: فى مروج الذهب 4/رقم 2151: «وهو ابن تسع وثلاثين سنة»؛ -

صفة سليمان رحمه الله

وقيل لم يبلغ أربعين سنة. وصلى عليه عمر بن عبد العزيز. وقيل إنه أحضر إليه تينا وبيضا، وأكل من ذلك العظايم، فلحقه هيظة قاتلة فمات بالبطنة. قلت: ولنورد هنا حكاية طريفة تناسب الوقت. حكى أنه كان بالمدينة فتى من بنى مخزوم وكان أكولا، وكان يتعشق لجارية ذات أدب وجمال، كتب إليها ذات يوم: جعلت فداك، ابعثى لى بشئ من الخبيص (225) والسكباج، فإن عندى قوما من القرى. فبعتث إليه، ثم كتب إليها بعد ذلك: جعلت فداك، ابعثى لى بشئ من النبيذ وما يصلح أن يشرب عليه من المقالى والمشاوى وما أشبه ذلك، فإن عندى جماعة من الفتيان. فكتبت إليه: أبقاك الله وحفضك. رينا الحب يكون فى القلب فإذا فشا دبّ فى المفاصل، وحبك أنت ما يزول من المعدة. صفة سليمان رحمه الله كان طويل أبيض نحيف، مدور الوجه، كث اللحية، وقيل: كان ربعة و. . . أعلم. فى وفيات الأعيان 2/ 420: «وله خمس وأربعين سنة»، كذا فى تاريخ القضاعى، ص 142، قارن هنا ص 323، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 11

ذكر كتابه

ذكر كتّابه ليث بن أبى رقيّة، وسليمن بن نعيم بن سلامة الحميرى، وابن بطريق النصرانى، وهو الذى أشار عليه ببناء الرملة. وكان على خاتمه: رجاء بن حيوة الكندى. وفى تاريخ القضاعى كتّابه: يزيد بن المهلب، ثم الفضل أخوه، ثم عبد العزيز بن الحرث بن الحكم، والله أعلم. ذكر حجّابه أبو عبيدة حازم مولاه، ويقال ابن بطريق. نقش خاتمه قنى السيات يا عزيز، وقيل: آمنت بالله مخلصا، والله عز وجل أعلم. (4) تاريخ القضاعى: انظر تاريخ القضاعى، ص 143، قارن مقالات لبيوركمان 58 (5 - 6) يزيد. . . الحكم: فى نهاية الأرب 21/ 354: «يزيد بن المهلب، ثم المفضل بن المهلب عم عبد العزيز بن الحارث بن الحكم»، انظر تاريخ الطبرى (كتاب الفهارس) (8) أبو. . . بطريق: فى تاريخ القضاعى، ص 143: «أبو عبيدة مولاه»، كذا فى تاريخ اليعقوبى 2/ 359؛ نهاية الأرب 21/ 354؛ فى تهذيب التهذيب 3/ 67: «أبو عبيد» (10) قنى. . . مخلصا: فى تاريخ القضاعى، ص 143: «آمنت بالله مخلصا»، كذا فى نهاية الارب 21/ 354

ذكر خلافة عمر بن عبد العزيز بن مروان رضى الله عنه ولمعا من خبره

ذكر خلافة عمر بن عبد العزيز بن مروان رضى الله عنه ولمعا من خبره هو أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان وباقى نسبه قد علم فيما تقدم وهو أشجّ بنى أمية. وفى تاريخ القضاعى عن الإمام عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه كان يقول: إن من ولدى رجلا شيف يملأ الأرض عدلا. أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضى الله عنه. (226) بويع له بدابق فى شهر صفر سنة تسع وتسعين وله ست وثلثون سنة. وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة عشر يوما. ولى الأمر بعهد من سليمان بن عبد الملك له، وذلك [أنّه] لما توفى سليمان وصاح النساء عليه، تحير الناس. فخرج إليهم رجاء بن حيوة ومعه ابن معبد. فقال رجاء: إن سليمان قد مات، وقد أعلمتكم فى حياته أنه قد عهد عندى عهدا وها هو، ففضّ فإذا فيه: (1) عمر. . . مروان: انظر سير أعلام النبلاء 5/ص 114 - 148 (5) تاريخ القضاعى: انظر تاريخ القضاعى، ص 144؛ فى الكامل 5/ 59: «وقيل: كان ابن عمر يقول: يا ليت شعرى من هذا الذى من ولد عمر فى وجهه علامة يملأ الأرض عدلا؟» (6) شيف: فى تاريخ القضاعى، ص 144: «بوجهه شئف»

بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله سليمان أمير المؤمنين إلى أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، سلام عليكم، فإنى أحمد الله الذى لا إله إلا هو، وأصلى على محمد صلّى الله عليه وسلّم. وقد استخلفت عليكم عمر بن عبد العزيز ويزيد بن عبد الملك من بعده. فاسمعوا لهما وأطيعوا وأحسنوا مؤازرتهما. فإننى لم آلكم ونفسى نصحا، والسلام عليكم. قال: فأقر عمر بن عبد العزيز عبد الملك بن رفاعة على حرب مصر، وأسامة بن زيد على خراجها، على ما كانا عليه، وولى القضاء بمصر عبد الله بن عبد الرحمن ثم عزله وولى عياض. وكان عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه على ما شهر وذكر من الخير والصلاح والزهد والقيام وتلاوة القرآن حتى نسب إلى عمر بن الخطاب فى حسن السيرة. فقيل العمرين، وكان الناس فى أيامه ليس لهم اشتغال إلا مثل ما هو عليه من الصلاح، ويلقى الرجل صاحبه فيقول له: أنت صايم وإلا مفطر. وكم تصوم فى الجمعة: يوم. وكم وردك فى كل ليلة: ركعة. وماد تحفظ من القرآن، وأشباه ذلك من أفعال الخير. وما أحسن كلام بن العميد! ها هنا قوله: المرء أشبه شئ بزمانه، وصيغة كل زمان منتخبة من شجايا سلطانه، وكان (227) يسمى راهب بنى أمية. (1 - 5) بسم. . . عليكم: قارن الكامل 5/ 39 (7 - 8) وولى. . . عبد الرحمن: انظر كتاب الولاة 332 (8) عياض: انظر كتاب الولاة 332 (9 - 14) وكان. . . الخير: انظر لطائف المعارف 117

ذكر سنة ماية هجرية النيل المبارك فى هذه السنة

وقيل لما تولى عمر، سمع الصراخ فى بيته، فجاء الناس يسألون ما الخبر. فقيل إنه خيّر نسايه وأهله وقال: من شاءت أن تقيم. ومن شاءت أن تنطلق. فقد جاء أمر شغلنى عن محادثة النساء، لا ينتفع أهل عمر بعدها بمحادثة النساء. وكان يرى أثر المنى فى ثيابه ويقول: شغلنا أمر الناس وصلاحهم عن إصلاح أجسامنا. وروى أن السدّى دخل عليه فى أول خلافته. فقال له عمر: أسرك ما رأيت أم أساءك؟ فقال: سرنى للناس وساءنى لك. فقال عمر: إنى أخاف أن أكون أوثقت نفسى. فقال له: ما أحسن حالك إن كنت تخاف، ولكنى أخاف عليك أن لا تخاف. فقال: عظنى. فقال: إن أبانا آدم خرج من الجنة بخطية واحدة. ذكر سنة ماية هجرية النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ثمانية أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه، وابن رفاعة بحاله حتى عزله وولى مكانه حيّان بن شريح على حرب مصر، وعزل أسامة وولى (9) ولكنى. . . تخاف: ورد النص فى البيان 3/ 85 (14) خمسة عشر: فى النجوم الزاهرة 1/ 243: «عشرون» (17) حيّان بن شريح: انظر حكام مصر لفيستنفلد 42

مكانه أيوب بن شرحبيل، وأمر أن يوقف خراج مصر لأهلها سنة، وولى القضاء عبد الله بن حذام الحضرمى. روى الشيخ الإمام ناصح الإسلام أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذانى رحمه الله عليه عن رواة ثقاة آخرهم الهيثم بن عدى عن عوانة ابن الحكم قال: لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد الشعراء إليه كعادة من تقدمة من الخلفاء فأق‍ [اموا] (228) ببابه أياما لا يؤذن، فبينا هم كذلك يوما وقد أزمعوا على الرحيل إذ مرّ بهم رجاء بن حيوة، وكان من خطباء الشام وفصحايهم، فلما رآه جرير داخلا أنشأه يقول <من البسيط>: يأيها الرجل المرخى عمامته … هذا زمانك إنّى مضى زمن قال: فدخل ولم يذكر من أمرهم شئ. ثم مرّ بهم عدىّ بن أرطاة، وكان من الخصيصين بعمر بن عبد العزيز وله به قديم صحبة فقام إليه جرير وقال <من البسيط>: (1) أيوب بن شرحبيل: انظر كتاب الولاة 67 - 69؛ النجوم الزاهرة 1/ 237، قارن هنا ص 339، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 13 (2) عبد الله. . . الحضرمى: فى كتاب الولاة 337 - 338: «عبد الله بن يزيد بن خذام»، انظر أيضا هناك ص 337 حاشية 1 (4 - 11،350) الهيثم. . . راقيا: ورد النص فى وفيات الأعيان 1/ 430 - 434 (10) يأيها (يا أيّها). . . زمن (زمنى): ورد هذا البيت فى الأغانى 8/ 47؛ وفيات الأعيان /1/ 431/عمامته: فى وفيات الأعيان 1/ 431: «مطيّته»

يا أيّها الرجل المرخى مطيّته … هذا زمانك إنّى مضى زمن أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه … أنّى لدى الباب كالمصفود فى قرن لا تنس حاجتنا لقّيت مغفرة … قد طال مكثى عن أهلى وعن وطنى فقال: حبا وكرامة. ودخل على عمر فقال: يامير المؤمنين الشعراء ببابك منذ أيام، وسهامهم مسمومة وأقوالهم مصرعة. فقال: ويحك يا عدىّ، ما لى وللشعراء؟ قال: أعزّ الله أمير المؤمنين، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد امتدح فأعطى، ولك أسوة فى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال: كيف كان ذلك يابن أرطاة؟ قال: امتدحه العباس بن مرداس السلمى فأعطاه جبة قطع بها لسانه، وهى التى شراها معوية منه بأربعين ألف درهم. وها هى البردة التى تلبسونها فى وقت خطبكم، فقال: أتروى ما امتدحه به؟ قال: نعم. وأنشده القصيدة التى أولها يقول: <من الطويل>: رأيتك يا خير البرية كلها … نشرت كتابا جاء بالحق معلما وقد تقدمت. فقال: يا عدىّ، من بالباب منهم؟ قال: عمر بن عبد الله ابن أبى ربيعة المخزومى (229) فقال: أليس هو القايل <من الخفيف>: ثمّ نبّهتها فقامت كعابا … طفلة، ما تبين رجع الكلام ساعة ثم إنها بعد قالت … ويلتا عجلت يابن الكرام (1 - 2) يا أيّها. . . قرن: ورد البيتان أيضا فى الأغانى 8/ 47 (15 - 16) ثمّ. . . الكرام: ورد البيتان أيضا فى عمر بن أبى ربيعة 394 (15) فقامت: فى عمر بن أبى ربيعة 394: «فمدّت»؛ فى وفيات الأعيان 1/ 432: «فهبّت» (16) إنها بعد: فى عمر بن أبى ربيعة 394: «إنّه لى»؛ فى وفيات الأعيان 1/ 432: «هوّمت ثم»

أعلى غير موعد جيت تسرى … تتخطى إلى رؤوس النيام ما تشجمت ما ترين من الأم‍ … ر ولا جيت طارقا بخصام لو كان عدو الله إذ فجر كتم على نفسه كان أخف، لا يدخل والله علىّ. فمن بالباب سواه؟ قال: همام بن غالب الفرزدق. قال: أو ليس القايل <من الطويل>: هما دلّتانى من ثمانين قامة … كما انقضّ باز أقثم الرأس كاسره فلمّا استوت فى الأرض رجلاى قالتا … أحىّ يرجّا أم قتيل نحاذره لا يطى والله بساطى أبدا، فمن بالباب غيره؟ قال: الأخطل. فقال: لا حياه الله، أليس هو الذى يقول <من الوافر>: ولست بصايم رمضان طوعا … ولست بآكل لحم الأضاحى ولست بزاجر عيسا بكور … إلى بطحاء مكّة للنجاحى ولست بقايم كالعير أدعوا … قبيل الصّبح حىّ على الفلاح ولكنّى سأشربها شمولا … وأسجد عند منبلج الصّباح (1) تسرى: فى وفيات الأعيان 1/ 432: «تسعى» (3) لو. . . أخف: فى وفيات الأعيان 1/ 432: «فلولا. . . نفسه» (6 - 7) هما. . . نحاذره: ورد البيتان أيضا فى كتاب الشعر 308 (6) الرأس: فى كتاب الشعر 308؛ وفيات الأعيان 1/ 432: «الريش»

لا يدخل والله علىّ ولا يطأ لى بساطا وهو كافر أبدا، فهل بالباب سوى من ذكرت؟ قال: نعم، الأحوص بن محمد، قال: أليس هو القايل <من المنسرح>: الله بيتى وبين سيّدها … يفرّ منّى بها وأتبعها بل الله بين سيدها وبينه، أغرب به، فما هو بدون من ذكرت. فمن ها هنا أيضا؟ قال: جميل بن معمر العذرى. قال: أليس هو القايل <من الطويل>: ألا ليتنا نحيى جميعا وإن نمت … يوافق فى الموتى ضريحى ضريحها (230) فما أنا فى طول الحياة يراغب … إذا قيل قد سوّى عليها صفيحها فلو كان عدو الله تمنى لقاوها فى الدنيا ثم يعمل صالحا بعد ذاك، لكان، لا يدخل إلىّ ولا أنظره. فهل سوى من ذكرت؟ قال: نعم، جرير ابن عطية. فقال: يا عدىّ أما إنه القايل <من الكامل>: طرقتك صايدة القلوب وليس ذا … وقت الزيارة فارجعى بسلام فإن كان ولا بد، فأذن له، فدخل جرير وهو يقول <من الكامل>: (1) علىّ. . . أبدا: فى وفيات الأعيان 1/ 432: «علىّ أبدا وهو كافر» (4) أتبعها: فى وفيات الأعيان 1/ 432: «اتبعه» (5) بل. . . ذكرت: فى وفيات الأعيان 1/ 433: «اضرب عليه، فما هو بدون من ذكرت» (8) نمت: فى وفيات الأعيان 1/ 433: «أمت» (13) طرقتك. . . بسلام: ورد هذا البيت فى النقائض 1/ 257 (14) بد: فى وفيات الأعيان 1/ 433: «بد فهو»

إن الذى بعث النبى محمدا … جعل الخلافة فى الإمام العادل وسع الخلايق عدله ووقاره … حتى ارعوى وأقام ميل المايل إنى لأرجوا منك برّا عاجلا … والنفس مولعة بحبّ العاجل فلما مثل بين يديه قال: ويحك يا جرير، اتق الله ولا تقل إلا حقّا! فقال <من البسيط>: أأذكر الجهد والبلوى التى نزلت … أم قد كفاك الذى بلّغت من خبرى كم باليمامة من شعثاء أرملة … ومن يتيم ضعيف الصوت والبصر يدعوك دعوة ملهوف كأنّ به … خبلا من الجنّ أو مسّا من البشر خليفة الله ماذا تأمرون بنا … لنا إليكم ولا فى دار منتظر ما زلت بعدك فى همّ يؤرقنى … قد طال فى الحىّ إصعادى ومنحدر لا ينفع الحاضر المجهود بادينا … ولا يعود لنا باد على خبر إنا لنرجوا إذا ما الغيث أخلفنا … من الخليفة ما نرجوا من المطر نال الخلافة أو كانت على قدر … كما أتى ربّه موسى على قدر (6 - 13) أأذكر. . . قدر: وردت الأبيات أيضا فى شرح ديوان جرير 274 - 275 (6) كفاك الذى: فى شرح ديوان جرير 274: «كفانى»؛ فى وفيات الأعيان 1/ 433: «كفانى بما» (9) لنا (لسنا). . . منتظر: انظر شرح ديوان جرير 275 حاشية 2 (10) الحىّ. . . منحدر (لعل الأصح: منحدرى): انظر شرح ديوان جرير 274 حاشية 2 (11) خبر: فى شرح ديوان جرير 274؛ وفيات الأعيان 1/ 433: «حضر» (13) نال. . . قدر: انظر شرح ديوان جرير 275 حاشية /3/أو. . . قدر: فى شرح ديوان جرير 275؛ وفيات الأعيان 1/ 433: «إذا كانت له قدرا»

هذى الأرامل قد قضّيت حاجتهم … فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر الخير ما دمت حيّا لا يفارقنا … بوركت يا عمر الخيرات من عمر قال: يا جرير، ما أرى لك فيما ها هنا حقّا. قال: بلى يامير المؤمنين، (231) أنا بن سبيل ومنقطع بى. فأعطاه من صلب ماله ماية درهم. وروى أنه قال له: ويحك يا جرير، لقد ولينا هذا الأمر وما نملك إلا ثلثماية درهم، ماية أخذتها أم عبد الله، وماية عبد الله وماية موجودة، يا غلام أعطه الماية الموجودة. فأخذها وقال: لهى والله أحبّ إلىّ من جميع ما أملك. ثم خرج فلقيه الشعراء فقالوا: ما وراءك يا جرير؟ فقال: ما يسوءكم، خرجت من عند رجل يعطى الفقراء، ويمنع الشعراء، وإنى عنه لراض، وقال <من الطويل>: رأيت رقى الشيطان لا يستفزه … وقد كان شيطانى من الإنس راقيا وروى أن عبد الحميد كتب إليه يستأذنه فى قوم من الديوان اختانوا. فكتب إليه يقول: قد ورد علىّ كتاب منك تذكر فيه أن قبلك قوما قد اختانوا، وتستأذنى فى الانبساط عليهم. فالعجب منك فى استيثارك إياى فى عذاب بشر مثلى كأنى جنة لك. وكأنّ رضاى عنك ينجيك من من سخط الله عز وجل. فإذا جاءك كتابى هذا، فانظر من أقر منهم بشئ فخذه بما أقر به على نفسه، ومن أنكر استحلفه وخل سبيله. فلعمرى لأن يلقوا الله (11) رأيت. . . راقيا: هذا البيت ناقص فى ديوان جرير//الإنس: فى وفيات الأعيان 1/ 434: «الجن»

تعالى بجناياتهم أحب إلىّ أن ألقاه بدمايهم والسلام. وكان من دعايه يقول: اللهم إنى أطعتك فى أحب الأشياء إليك وهو توحيدك، ولم أعصك فى أبغض الأشياء إليك وهو الكفر بك، فاغفر لى ما بينهما. وهذا ممن أوجز دعاى يكون وأبلغه. وروى أن لما كان فى خلافة المعتصم بالله بن الرشيد، بلغه أن فى بعض الأديرة بالروم قميص لعمر بن عبد العزيز ما وضعه عليه ذى علة إلا وأبرأه الله عز وجل من علته. فسير المعتصم إلى ملك الروم رسولا (232) يقول: إن هذا القميص لنا، ونحن أحق به منكم إذ هو من آثار سلفنا. وكان قد بلى الروم من المعتصم بما لم يبلوا بمثله من غيره. فسير ملك الروم إلى ذلك الدير يطلب القميص وإنفاذه، فحضر كبير ذلك الدير وقال: أنفذنى رسولا فإنى سأسد باب هذا الطلب. فأنفذه، فلما مثل بين يدى المعتصم سأله عن القميص: وهل الذى بلغه عنه له صحّة. فقال: نعم، يامير المؤمنين. فقال: ولم لا أحضرته، انقضتم المهادنة بيننا إذ الشرط: لا يطلب منهم شئ كاين ما كان فيمنعوه. فقال كبير الدير: يامير المؤمنين، فهذا القميص لمن كان؟ قال: لأحد خلفانا المسلمين. فقال: وثبت ذاك عند أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: وكذلك هو عندنا تابثا. فيا أمير المؤمنين لتكن أنت مثل ذلك الخليفة، واعمل بعمله يكن لباسك

ذكر سنة إحدى وماية النيل المبارك فى هذه السنة

أجمعه كهذا القميص الذى طلبت. قال: فأصرفه المعتصم، [وهو الذى بنا الجحفة واشترى ملطية من الروم بماية ألف أسير وبناها]، وأعاده إلى بلاده مكرما من غير جواب. ذكر سنة إحدى وماية النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وخمسة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى حين وفاته رحمه الله تعالى فى هذه السنة فى تاريخ ما يأتى، وأيوب بن شرحبيل بمصر، وكذلك حيان بن شريح، والقاضى عبد الله بن حذام مستمرا بمصر. وتوفى رضى الله عنه بدير سمعان من أرض حمص لست بقين من (1 - 2) وهو. . . بناها: ورد النص فى تاريخ القضاعى، ص 144 (2) الجحفة: فى مراصد الاطلاع 1/ 241 - 242: «كانت قرية كبيرة ذات منبر على طريق المدينة من مكّة على أربعة مراحل. . .» (10) أيوب بن شرحبيل: فى كتاب الولاة 69: «إلى أن توفى [يعنى أيوب] لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة إحدى ومائة. وقال. . .: نزع أيوب. . . لسبع عشرة من شهر رمضان سنة إحدى ومائة»، انظر أيضا كتاب الأنساب 25 (12 - 1،353) توفى. . . أشهر: فى تاريخ القضاعى، ص 144: «توفى بخناصرة لست بقين من رجب سنة إحدى وماية، وله تسع وثلثون سنة»؛ فى الكامل 5/ 58: «وكان موته بدير سمعان، وقيل بخناصرة»؛ فى مروج الذهب 4/رقم 2169: «وتوفى بدير سمعان. . . يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومائة»؛ فى وفيات الأعيان 6/ 301: «ثم-

(233) صفته رضى الله عنه

رجب سنة إحدى وماية، وله تسع وثلثون سنة وستة أشهر، وصلى عليه يزيد بن عبد الملك. (233) صفته رضى الله عنه كان اسمر نحيف، حسن الوجه، غاير العينين، حسن اللحية، بجبهته أثر شجة من دابة. فلذلك قيل أشجّ بنى أمية، قد وخطه الشيب، والله أعلم. كتّابه ليث بن قرة وكتب له مزاحم. حجّابه حبيش ومزاحم مولياه. نقش خاتمه عمر بن عبد العزيز مؤمن بالله، والله أعلم. توفى عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة، وقيل الأربعاء، لخمس ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة. . . بدير سمعان، وقيل إنّه مات لعشر بقين من رجب من السنة، وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر. . .»، انظر أيضا تاريخ الطبرى 2/ 1361 (4) أسمر: فى نهاية الأرب 21/ 365: «أبيض» (8) ليث. . . مزاحم: فى تاريخ القضاعى، ص 145: «رجاء بن حيوة الكندى، وابن رقية»، فى نهاية الأرب 21/ 372: «رجاء بن حيوة الكندى، وابن أبى رقبة»، قارن مقالات لبيوركمان 58 (10 - 12) حبيش. . . بالله: كذا فى تاريخ القضاعى، ص 144 - 145؛ فى نهاية الأرب 21/ 372: «جيش، ومزاحم، مولياه. . . نقش خاتمه. . .: عمر بن عبد العزيز يؤمن بالله»

ذكر خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان ولمعا من أخباره

ذكر خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان ولمعا من أخباره يكنى أبو خالد يزيد بن عبد الملك بن مروان وباقى نسبه قد علم فيما تقدم. أمه عاتكة بنت يزيد بن معوية بن أبى سفيان، تضع خمارها بين يدى اثنى عشر أميرا كلهم لها محرما. بويع له فى رجب سنة إحدى وماية هجرية، وله سبع وثلثون سنة وأربعون يوما. وكانت خلافته أربع سنين وشهرا واحدا. كان شديد الكبر، عاجزا، صاحب لهو ولذات، وهو صاحب حبابة وسلاّمة، وهما جاريتان كان مشغوفا بهما. وماتت حبابة فمات بعدها بيسير أسفا عليها. وكان قد (1) يزيد. . . مروان: انظر سير أعلام النبلاء 5/ص 150 - 152 (4 - 5) عاتكة. . . محرما: انظر أعلام النساء 3/ 216 - 220 (7) أربع. . . واحدا: فى الكامل 5/ 120: «أربع سنين وشهرا وأياما»؛ فى مروج الذهب 4/رقم 2196: «أربع سنين وشهرا ويومين» (7 - 2،355) كان. . . الدفن: ورد النص فى تاريخ القضاعى، ص 146 (8) حبابة: انظر أعلام النساء 1/ 232 - 236؛ الكامل 5/ 120؛ مروج الذهب 4/رقم 2197 - 2200،2203 - 2204؛ مروج الذهب ج 6 (كتاب الفهارس) //سلاّمة: فى أعلام النساء 2/ 229: «سلاّمة القسّ»، انظر أعلام النساء 2/ 229 - 234؛ الكامل 5/ 121 - 123؛ مروج الذهب 4/رقم 2197؛ مروج الذهب ج 6 (كتاب الفهارس) (9) فمات. . . عليها: انظر الكامل 5/ 120

تركها أياما لم يدفنها حتى عوتب فى ذلك. فدفنها، ويقال إنه نبشها بعد الدفن، يلقب صريع القنانى، والصرعا ثلث: صريع القنانى هذا، وصريع الغوانى الشاعر المشهور، وصريع الدلاء هو أبو الحسن علىّ بن عبد الواحد الفقيه البغدادى المعروف بذى الرقاعتين الغواشى، وكان شاعرا يسلك فى شعره مسلك أبى الرقعمق فى المجون، وله قصيدة ختمها ببيت لو لم يكن له فى الجد سواه لبلغ به درجة الفضل (234) وأحرز معه قصب السبق، وهو قوله <من الرجز>: من فاته العلم وأخطاه الغنى … فذاك والكلب على حال سوى وهذه القصيدة عارض بها الدريدية، ورأيت فى نسخة من ديوان شعره أنه أبو الحسين محمد بن عبد الواحد القصّار البصرى، والله اعلم أيهما كان اسمه. (2 - 3) صريع الغوانى: انظر الأعلام 3/ 292 (3 - 3،356) صريع الدلاء. . . بمصر: ورد النص فى وفيات الأعيان 3/ 383 - 384 وأيضا صريع الدلاء: فى درر التيجان 85 ب:18 (حوادث 126): «صريع الدلاء ذكره الرشيد أبو الحسين أحمد بن الزبير فى كتاب الجنان»، كذا فى وفيات الأعيان 3/ 383 (4) بذى. . . الغواشى: فى وفيات الأعيان 3/ 383: «قتيل الغواشى ذى الرقاعتين» (5) أبى الرقعمق: انظر ترجمته فى وفيات الأعيان /1/ 131/فى. . . قصيدة: فى وفيات الأعيان 3/ 384: «وله قصيدة فى المجون» (9) وهذه. . . الدريدية: انظر فوات الوفيات 2/ 469، هذا النص ناقص فى وفيات الأعيان 3/ 383 - 384

ذكر سنة اثنين وماية النيل المبارك فى هذه السنة

ونظرت أيضا فى تاريخ عتيق من تواريخ مصر أنه مات فجأة من شرقة لحقته عند الشريف البطحايى، وأنه توفى فى سنة اثنتى عشرة وأربع ماية بمصر، والله أعلم. وإنما جرّ هذا الكلام هنا ذكر الصرعا، ولنعود إلى أخبار يزيد بن عبد الملك. فيها عزل أيوب عن مصر وولى بشر بن صفوان الكلبى على حرب مصر، وأقر حيان بن شريح على الخراج بها، وكذلك عبد الله بن حذام على القضاء. ذكر سنة اثنين وماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلثة أذرع واثنان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة يزيد بن عبد الملك بن مروان. وعزل بشر بن صفوان عن مصر (1 - 3) نظرت. . . بمصر: فى وفيات الأعيان 3/ 384: «وغالب ظنى أنه توفى بمصر. . . لأنى نقلت تاريخ وفاته من التاريخ الذى ذكرته فى ترجمة التهامى»؛ فى وفيات الأعيان 3/ 381 (ترجمة التهامى): «هكذا نقلته من بعض تواريخ المصريين، وهو مرتب على الأيام، قد كتب مؤلفه كل يوم وما جرى فيه من الحوادث، رأيت منه مجلدا واحدا، ولا أعلام كم عدد مجلداته» (5) أيوب: قارن كتاب الولاة /69/بشر. . . الكلبى: انظر كتاب الولاة 69 - 71؛ النجوم الزاهرة 1/ 244 - 245 (13) عزل. . . مصر: انظر كتاب الولاة 71

وولى حنظلة أخوه. وعزل أيضا حيّان بن شريح عن الخراج ووالى أسامة بن زيد، وعزل القاضى عبد الله بن حذام وولى عبد الله بن ميمون الحضرمى. وفيها خرج بن أبى صفرة بن المهلب يزيد. وكان أيضا قد خرج قبل ذلك وحاربه مسلمة بن عبد الملك بن مروان. وقيل لم يسلم عليه بالخلافة إلا جارية واحدة له قالت: السلم عليك يامير المؤمنين. (235) فقال <من الطويل>: رويدك حتى تنظرى عمّ تنجلى … غمامة هذا البارق المتألق (1) حنظلة: انظر كتاب الولاة 71 - 72 (2) عزل. . . حذام: فى كتاب الولاة 339 - 340: «. . . ابن خذام ولى سنة مائة وصرف سنة خمس ومائة»، وفقا لفيستنفلد، حكام مصر 43، كان يحيى بن ميمون الحضرمى قاضيا من سنة 102 - 114، انظر أيضا هنا ص 345، الهامش الموضوعى، حاشية سطر /2/عبد الله. . . الحضرمى: فى كتاب الولاة 340: «يحيى ابن ميمون الحضرمى»، كذا فى حكام مصر لفيستنفلد 43 (3) بن (ابن). . . يزيد: يعنى يزيد بن المهلب بن أبى صفرة، انظر سير أعلام النبلاء 4/ ص 503 - 506؛ مروج الذهب 4/رقم 2206 - 2208؛ مروج ج 6 (كتاب الفهارس)؛ وفيات الأعيان 6/ 278 - 309 (7) رويدك. . . المتألق: ورد البيت فى وفيات الأعيان 6/ 303؛ فى وفيات الأعيان 6/ 303: «قلت: وهذا البيت من جملة أبيات لبشر بن قطيّة الأسدى» //غمامة: فى وفيات الأعيان 6/ 303: «عماية» //البارق: فى وفيات الأعيان 6/ 303: «العارض»

ذكر يزيد بن المهلب بن أبى صفرة ولمعا من خبره

ذكر يزيد بن المهلب بن أبى صفرة ولمعا من خبره روى أن المهلب بن أبى صفرة أراد يمتحن فطنة ولده يزيد بن المهلب فى حال صباه فقال له: يا بنى ما أشدّ البلاء؟ فقال: يا أبه، معاداة العقلاء. ثم قال: أقلنى. قال: قد أقلتك فقل. فقال: أشدّ البلاء مسيلة البخلاء. ثم قال: أقلنى. قال: قد أقلتك فقل. فقال: أشد البلاء تأمر اللؤماء على الكرماء. ثم قال: أقلنى. قال: قد أقلتك فقل. فقال: أشد البلاء معاداة العقلاء ومسيلة البخلاء وتأمر اللؤماء على الكرماء. فقال المهلب: والله يا بنى ما يسرنى بقولك مقول لقمان، ولا يعدل عندى بقاءك ملك سليمان. ثم قال: يا بنى أتروى من الشعر شيا؟ قال: نعم. قال: فأى الشعر أحب إليك؟ قال: ما أشبه قول عمرو ذى الكلب <من الوافر>: ومقعد كربة قد كنت منه … مكان الإصبعين من القتال (3 - 8،364) روى. . . أعلم: ورد النص فى أنباء نجباء الأبناء 124 - 133 مع بعض الاختلاف (12) ومقعد. . . القتال (لعل الأصح: القبال): ورد البيت فى شرح أشعار الهذليين 2/ /571/منه: فى شرح أشعار الهذليين 2/ 571: «منها»؛ فى أنباء نجباء الأبناء 125: «فيه»

صبرت لها وكنت أخا حفاظ … إذا حام الليام عن النزال فهذا والمنيّة من وراى … ستطرقنى بها أحد الليالى فقال المهلب: أما والله يا بنى لين بقيت لترمين الغرض. وكان من أمره أنه برز إلى الحروب، وهو ابن ثمان عشرة سنة، واتخذ درعا من حديد مجوفة. فكان يدخل فيها يده اليسرى. فإذا اختلفت الرماح أمامه وأضلته السيوف. وضع يده اليسرى على رأسه. ثم حمل فلا يقوم له شئ. وولى خراسان ثم تغلّب (236) على البصرة. ثم دعى لنفسه. فكان عاقبة أمره ما هو مشهور فى التواريخ من حروب مشهورة ووقايع مذكورة إلى أن قتل فى سنة اثنين وماية، وقيل فى سنة ثلاث وماية. وروى أن عمر بن عبد العزيز حبسه. فهرب من الحبس، ومر فى مسيره بحى من أحياء العرب. فقرته امرأة من الحى وذبحت له شاة. فقال لابنه محلد حين أصبح عندها: كم معك يا بنى من المال؟ قال: ثمان ماية دينار: قال: ادفعها إلى العجوز. فقال: يابه إنك محتاج إلى الرجال (1) لها: فى أنباء نجباء الأبناء 125: «له» //الليام: فى أنباء نجباء الأبناء 125: «الرجال» (2) ستطرقنى بها أحد: فى أنباء نجباء الأبناء 125: «ستطرق مهجتى أحدى» (9 - 10) سنة. . . ماية: وفقا لزيترستين، مقالة «يزيد بن المهلب» 1260، توفى فى سنة 102 (11 - 3،360) وروى. . . ففعل: ورد النص فى التذكرة الحمدونية 2/ص 271 (13) مخلد: فى التذكرة الحمدونية 2/ص 271: «معاوية»

ولا رجال إلا بمال، وهذه العجوز يرضيها اليسير. ثم هى لا تعرفك. فقال: يا بنى إن كان يرضيها اليسير فأنا لا أرضى لها إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفنى فأنا أعرف نفسى، ادفع إليها المال ودع اللجاج. ففعل. وأما ولده مخلد بن يزيد بن المهلب فإن الأزد سودته وسنه ثنتا عشر سنة، وفى ذلك قال حمزة بن بيض يمدحه <من المتقارب>: بلغت لعشر مضت من سني‍ … ك ما يبلغ السيد الأشيب فهمّك فيها جسام الأمور … وهمّ لداتك أن يلعبوا قوله: لداتك، أى أقرانك الذين ولدوا معك فى وقت واحد. ومما ينحو إلى ذلك قول الشريف الرضى <من مجزوء الكامل>: لله جيد ما تم‍ … هّد غير أحشاء المكارم فتطوّق العلياء وهـ‍ … وقريب عهد بالتّمايم [نيطت بعطفيه حما … لات المغانم والمغارم] فمن موجبات سيادة مخلد بن يزيد بن المهلب ما حكى أن أباه يزيد ابن المهلب اشترى عجوز من إماء الأعراب، فأخذتها أم مخلد فكانت تلزمها. وإذا جاء الليل ولم يحضر يزيد، سمرت عندها. فأطرفتها يوما بأحاديث ممتعة من أحاديث الأعراب (237) فلطفت منزلتها عندها. وإن (6 - 7) بلغت. . . يلعبوا: ورد البيتان أيضا فى الأغانى 16/ 203،212؛ وفيات الأعيان 6/ 285 (10 - 12) لله. . . المغارم: وردت الأبيات أيضا فى ديوان الشريف الرضى 2/ 392

مخلدا قال لأمه: إنى أظن بهذه العجوز أنها سلوب نعمة أو حديثة عهد بثكل. فقالت له أمه: ما الذى دلّك على ما ظننت؟ فقال لها: ألم ترى إلى انكسار طرفها وتنفسها الصعداء؟ فلم تلق أمه بكلامه بالا حتى إذا عذر أى ختن، جاءت العجوز تلك فاحتملته من بين يدى الخاتن وأخذت غرلته فانطلقت به إلى أمه. فلما وضعته عندها قال مخلد للعجوز: يا هذه، إنى أحسبك ذات شكية، وهذا أوان بثها. فقالت العجوز: أجل والله ما صاف سهمك وإنى لامرأة من عقايل زغل، كنت ذات خلايا حوافل، وبغايا روافل. فأزمتنا أزام، ثم حطمتنا حطام. فإذا أنا على مثل الملقة الحلقة، لا أنضوى إلى جارحة، ولا أرنوا إلى سارحة ولا رايحة. فنسفنى الإرمال إلى أبيّات خرّاب من بلعنبر، فاحتبلنى منها بيت كثير شغبه، قليل شخبه لييم ربه، فما كدت أن تيّمنى سنيهات. ثم شرانى بشويهات، وكان أخف أمريه علىّ آخرهما لى، هذه شكيتى، فهل من مشكّ؟ فقال مخلد: ليفرخ روعك يا خالة، فدونك غرلتى رهنا بثلث. أما الأولى فعتقك، وأما الثانية فعشرون حلوبة حلوبة فصالها وسقابها، وأما الثالثة فأمة تربّ بيتك وعبد يؤول إبلك. فأخذت العجوز الغرلة، وبلغ مخلد بن يزيد فأمر للعجوز بذلك كله وأحسن جهازها وارتجع الرهن منها وألحقها بقومها. (7) زغل: فى أنباء نجباء الأبناء 127: «رعل» (14) سقابها: فى أنباء نجباء الأبناء 128: «سقاؤها»

تفسير ألفاظ من هذا الخبر

تفسير ألفاظ من هذا الخبر قوله: سمرت عندها، السمر المحادثة ليلا والحديث ليلا سمر، والمتحادثون (238) ليلا سموا سمّرا باسم الفعل، وأصل السمر أنه ظل القمر، وكانوا يجلسون فيه للحديث فاستعير الاسم لحديثهم. وقوله: تنفسها الصعداء هو إرسال التنفس بقوة وبعد استيعابه مع رفع الرأس. وقولها: ما صاف سهمك أى ما حاد عن القصد. وقولها: من عقايل زغل أى من كرامهم، وزغل قبيلة من قبايل سليم. وقولها: خلايا حوافل، الخلايا ها هنا النوق التى يرأم غيرها من النوق أولادها، فيتخلاها أهلها يحلبون درّها كله لأن سقاتها تتبع سواها، والحوافل ذوات الدر الكثير المجتمع، وقد احتفل الضرع إذا انحشد لبنه فامتلأ، ومنه احتفال القوم فى مجلسهم وغيره. وقولها: بغايا روافل، البغايا الإماء، والبغاء هو الزناء. وكن لا يمنعن من الزناء، وربما جبرهن سادتهن فى الجاهلية على الكسب بالزناء ومنه قوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ}، الآية. والروافل اللاتى يرفلن فيما طال من الثياب ويسحبن الذيول. وقولها: أزمتنا أى اشتدت علينا السنة المجدبة، وأزام اسم للسنة الممحلة، والأزمة والحطمة بمعنى الدق والإهلاك. ومنه للكثير الأكل حطمة، قيل: ومن أسماء جهنم الحطمة، وحطام أشد من أزام. فكأنها تقول اشتدت علينا السنة مع السنة الأخرى، فكانت أشد. وقولها: مثل الملقة الحلقة، هو مثل يقال: أخذ فلان مال فلان فتركه مثل الملقة، والإملاق صغر اليد. ومنه قوله تعالى:

{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ}، الآية. والأصل فى الملقة هى الصخرة الصّمّاء الملساء التى لا يتعلق بها شئ، والحلقة الملساء أيضا وكل شئ ملسته. فقد حلقته. وقولها: لا أنضوى إلى جارحة أى لا أنظم إلى كاسب، يقال فلان جارحة أهله أى (239) كاسبهم، الهاء للمبالغة. وقولها: لا أرنوا إلى سارحة ولا رايحة أى لا أنظر إلى ما يسرح للمراح ولا إلى ما يروح، والسرح ما كان فى أول النهار، والرواح ما كان فى آخره. وقولها: نسفنى الإرمال، النسف قلع الشئ من أصله وإلقاؤه. قال الله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً}، والإرمال نفاد الزاد، وإرمال المرأة ذهاب القيم عليها. والمعنى أن الإرمال أخرجها من بين قومها. فطرح بها. وقولها: أبيّات خرّاب، الأبيّات تصغير أبيات، تريد التقليل بهم والتحقير، والخرّاب مشددة سراق الإبل، الواحد منهم خارب. وقولها: من بلعنبر، تريد بنى العنبر، وهم حى من بنى تميم. وقولها: احتبلنى أى اصطادنى واقتنصنى، والحبالة هى الحبل التى يصاد به. وقولها: كثير شغبه أى كثير الخصومة بين أهله وتوثب بعضهم على بعض. وقولها: قليل شخبه، الشخب صوت اللبن فى المحلب، ضربته مثلا لقلة الخير عندهم. وقولها: تيمنى سنيهات أى عبدنى. والتتيم التعبد، ومنه قولهم: تيّمه الحب أى عبده وذلّله، ومنه تسميتهم تيم (12) بنى تميم: انظر معجم قبائل العرب 2/ 845

ذكر سنة ثلث وماية النيل المبارك فى هذه السنة

الات، والسنيهة تصغير السنة والجمع سنيهات. وقولها: سرانى بشويهات أى باعنى بأرؤس من الغنم، يقال شريت وبعت بمعنى واحد. وقولها: كان أخف أمريه علىّ أخذاهما لى. قالت: صنع بن أمرين، استخدمنى ثم باعنى، وكان البيع أخف علىّ من خدمتى له. وأما قوله: ليفرخ روعك، هذه كلمة تقال للخايف، ومعناها التسكين والتأمين. وقوله: الحلوبة هى المحلوبة. وقوله: فصالها وسقابها، الفصيل ما فصل عن أمه، والسقب ولد الناقة ما دام صغيرا، والله أعلم. قلت: أوردنا هذا الكلام ها هنا (240) لثلث: الأولة لما فيه من الدلالة على نجابة قايله تأييدا لما ذكرنا عنه. والثانية لما فى هذا الكلام من العذوبة وإن كان من الغريب. والثالثة للإفادة بعلم اللغة حتى إذا عثر القارئ بكلمة لغوية فى هذا التاريخ علم معناها ولا تبهم عليه، إذ قولى هذا للمبتدئ دون الفاضل الكامل. ولنعود إلى سياقة التاريخ بحول الله تعالى وقوته. ذكر سنة ثلث وماية النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ثلثة أذرع وثمانية عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وستة أصابع.

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفة يزيد بن عبد الملك بن مروان، وحنظلة على مصر. وعزل أسامة بن زيد عن الخراج وولى يزيد بن أبى يزيد، والقاضى عبد الله بن ميمون مستمرا على حاله. وعن الزبير بن بكّار أن يزيد بن عبد الملك قال لحبابة ذات يوم: أتعرفين أحدا هو أطرب منّى؟ قالت: نعم، مولاى الذى باعنى. فأمر بإشخاصه، فأشخص إليه مقيّدا وأدخل عليه، وسلاّمة وحبابة يغنيان. فغنّته سلاّمة لحن الغريض بشعر بن أبى ربيعة <من المتقارب>: تشطّ غدا دار جيراننا فطرب وتحرك فى قيوده. ثم غنّته حبابة لحن ابن سريج المجرّد فى هذا الشعر. فوثب وجعل يحجل فى قيوده ويقول: هذا وأبيكما الغناء لا ما تعللانى به، حتى دنا من الشمعة فوضع لحيته عليها، واحترقت. وجعل يصيح: الحريق يا أولاد الزنا. فضحك يزيد وقال: هذا والله أطرب الناس. ووصله وسرحه إلى بلده. قلت: وإذ قد ذكرنا الغريض ولحنه ها هنا فلنذكر طرفا من أخباره. (3 - 4) عبد الله بن ميمون: انظر هنا ص 357، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 2 (5 - 14) الزبير. . . بلده: ورد النص فى الأغانى 1/ 73،315 - 316 (11) يحجل فى قيوده: انظر الأغانى 1/ 316 حاشية 1 (11 - 12) الغناء. . . تعللانى: فى الأغانى 1/ 316: «ما لا تعذلانى»

(241) ذكر الغريض ونسبه ولمعا من خبره

(241) ذكر الغريض ونسبه ولمعا من خبره الغريض لقبا له لأنه كان طرىّ الوجه نضرا غضّ الشباب حسن المنظر فلقب بذلك. والغريض: الطرىّ من كل شئ. وقال ابن الكلبى: شبّه بالإغريض وهو الجمّار قلب النخلة. فثقل على الألسنة فحذفت الألف منه. فقيل الغريض، واسمه عبد الملك وكنيته أبو يزيد. وعن جماعة من المكّيين أنه كان يكنى أبا مروان، وهو مولى العبلات، وكان مولّدا من مولّدى البربر. وعن المداينى ومحمد بن سلام أن الغريض كان يضرب بالعود وينقر بالدفّ ويوقع بالقضيب. وكان جميلا وضيّا، وكان قبل أن يغنى خيّاطا. وأخذ الغناء فى أول أمره عن ابن سريج لأنه كان يخدمه. فلما رأى ابن سريج طبعه وظرفه وحلاوة منطقه، خشى أن يأخذ غناءه فيلغيه عليه عند الناس، ويفوقه بحسن وجهه وجسده، فاعتلّ عليه وشكاه إلى مولياته، وهن كن دفعنه إليه ليعلّمه، وجعل يتجنى عليه، ثم طرده. فشكا ذلك إلى مولياته وعرّفهن غرض ابن سريج فى تنحيته إياه عن نفسه. فقلن (1 - 14،369) ذكر. . . انصرف: ورد النص فى الأغانى 2/ 359 - 361،363 - 367 (11) فيلغيه: فى الأغانى 2/ 360: «فيغلبه»

له: هل لك أن تسمع نوحنا على قتلانا فتأخذه وتغنى عليه؟ قال: فافعلن، فأسمعنه المراثى فاحتذاها. وخرج غناوه عليها كالمراثى، وكان ينوح مع ذلك فى كل المااثم وتضرب دونه الحجب، ثم ينوح فيفتن كل من يسمعه. ولما كثر غناؤه واشتهاه الناس وعدلوا إليه لما كان فيه من الشّجا. فكان ابن سريج لا يغنى صوتا إلا عارضه فيه، فيغنى فيه لحنا آخر. فلما رأى ابن سريج موقع الغريض اشتد عليه وحسده. فغنى الأرمال والأهزاج، فاشتهاها الناس. فقال له الغريض: يا با يحيى، قصّرت الغناء وحذقته. (242) قال: نعم يا مخنّث، حين دخلت تنوح على أبيك وأمك. روى يونس الكاتب أن أميرا من أمراء مكة أمر بإخراج المغنين من الحرم. فلما كان فى الليلة التى عزم بهم على النّفى فى غدها، اجتمعوا على قبيس. وكان معبد قد زارهم، فابتدأ معبد فغنى، صوت <من الطويل>: أتربىّ من أعلا معدّ هديتما … أجدّا البكا إنّ التفرّق باكر (1 - 2) قال فافعلن: فى الأغانى 2/ 360: «قال: نعم فافعلن» (2) غناوه (لعل الأصح: غناءه): فى الأغانى 2/ 360: «غناء» (4) يسمعه. . . اشتهاه: فى الأغانى 2/ 360: «سمعه. ولما كثر غناؤه اشتهاه» (5) عارضه: انظر الأغانى 2/ 360 حاشية 5

فما مكثنا دام الجميل عليكما … بثهلان إلا أن تزمّ الأباعر قال: فتأوّه أهل مكة وأنّوا وتمخّطوا. واندفع الغريض فغنا صوت <من الخفيف>: جددى الوصل يا قريب وجودى … لمحبّ فراقه قد ألمّا ليس بين الحياة والموت إلا … أن يردّوا جمالهم فتزمّا قال: فارتفع الصراخ من الدور بالويل والحرب. قال يونس فى خبره: فاجتمع الناس إلى الأمير فاستعفوه من نفيهم فأعفاهم. وعن محمد بن السعدىّ قال: حضرت شطناء المغنّية جارية علىّ بن جعفر ذات يوم بين يدى علىّ مولاها تغنى <من الخفيف>: ليس بين الحياة والموت إلا … أن يردّوا جمالهم فتزمّا قال: فطرب علىّ ابن جعفر وصاح: سبحان الله! ألا توكون قربة! ألا تشدّون محملا! ألا تعلّقون سفرة! ألا تسلّمون على جار! هذه والله العجلة. (1) بثهلان: انظر الأغانى 2/ 363 حاشية 2 (2) تمخّطوا: انظر الأغانى 2/ 363 حاشية 3 (6) بالويل والحرب: انظر الأغانى 2/ 364 حاشية 1 (8) محمد بن السعدىّ: فى الأغانى 2/ 364: «عبد الرحمن بن محمد السعدىّ» (10) الحياة والموت: فى الأغانى 2/ 364: «الرّحيل والبين»، انظر أيضا الأغانى 2/ 364 حاشية 2 (11) توكون: فى الأغانى 2/ 364: يوكون//توكون قربة: انظر الأغانى 2/ 364 حاشية 4 (12) تشدّون: فى الأغانى 2/ 364: «يشدّون» //تعلّقون: فى الأغانى 2/ 364: يعلّقون» //سفرة: انظر الأغانى 2/ 364 حاشية /5/تسلّمون: فى الأغانى 2/ 364: «يسلّمون»

ثم بكا حتى غمى عليه. وعن عبد الوهاب بن مجاهد قال: كنت مع عطاء بن أبى رباح فجاءه رجل فأنشده قول العرجى <من السريع>: إنّى أتيحت لى يمانيّة … إحدى بنى الحرث من مذحج نلبث حولا كاملا كلّه … لا نلتقى إلا على منهج فى الحجّ إن حجّت وماذا منّى … وأهله إن هى لم تحجج (243) فقال عطاء: بمنّى وأهله والله خير كثير إذ غيّبها الله وإياه عن مشاعره. قال إسحق: ولى قضاء مكة الأوقص المخزومىّ، فما رأى الناس مثله فى عفافه ونبله. فإنه لنايم ليلة فى جناح له، إذ مرّ به سكران يتغنى <من السريع>: عوجى علينا ربّة الهودج فأشرف عليه فقال: ما هذا؟ شربت حراما! وأيقظت نياما! وغنّيت خطاء! خذه عنّى! فأصلحه له وانصرف. تذكرت بهذه الحكاية من لطف عباد الحجاز ما رواه الأصمعى (4) يمانيّة: انظر الأغانى 2/ 366 حاشية 1 (10) جناح: انظر الأغانى 2/ 367 حاشية 1 (13) ما: فى الأغانى 2/ 367: «يا» (15) الأصمعى: فى الأغانى 1/ 403: «أخبرنى محمد بن خلف وكيع قال حدّثنا إسماعيل ابن مجمّع عن المدائنى عن عبد الله بن سلّم قال. . .»

رحمه الله قال: حج عبد الله بن عمر العمرىّ وهو أحد زهاد الحجاز. فبينما هو يسير إذ سمع امرأة تكلمت بكلام أرفثت فيه، قال: فأدنيت ناقتى منها وقلت: يا أمة الله، أما تخافين الله! تتكلمين بهذا فى مثل هذا المقام! قال: فرفعت سجاف الهودج وبرزت بوجه يبهر الشمس حسنا وقالت: تأمّل يا عمّ، إننى ممن عنانى العرجىّ بقوله <من الطويل>: أماطت كساء الخزّ عن حرّ وجهها … وأرخت على الخدّين بردا مهلهلا من اللاتى لم يحججن [يبغين] حسبة … ولكن ليقتلن البرئ المغفّلا فقلت: لا عذّب الله هذا الوجه بالنار. فبلغ ذلك ابن المسيّب فقال: إنه لمن ظرف عبّاد الحجاز. فلو كان بعض بغضاء العراق لقال لها: اعزبى فعل الله بك وترك. ومما روى من لطف معانى سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه أنشد بحضرته صلّى الله عليه وسلّم هذا الشعر <من البسيط>: ودّع هريرة إنّ الركب مرتحل … فهل تطيق وداعا أيّها الرجل؟ غرّاء فرعاء مصقول عوارضها … تمشى الهوينا كما يمشى الوجا الوحل (1 - 10) حج. . . ترك: ورد النص فى الأغانى 1/ 403 - 404 (9) بغضاء: انظر الأغانى 1/ 404 حاشية 2 (13 - 1،371) ودّع. . . عجل: وردت الأبيات فى ديوان الأعشى 144 (13 - 14) ودّع. . . الوحل: ورد البيتان فى الأغانى 9/ 152 (14) الوجا (الوجى) الوحل: انظر الأغانى 9/ 112 حاشية 1

ذكر العرجى ولمعا من خبره

كأنّ مشيتها من بيت جارتها … مرّ السحابة، لا ريث ولا عجل (244) فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن كانت بهذه الصفة فما يطيق وداعها. ذكر العرجى ولمعا من خبره هو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان رضى الله عنه، وعن محرز بن جعفر عن جده قال: قدم علينا جندب بن عمرو بن حممة الدّوسىّ المدينة مهاجرا فى خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه. ثم مضى إلى الشام، وخلّف بنته أم أبان عند عمر وقال: يا أمير المؤمنين، إن وجدت لها كفؤا، زوّجه إياها ولو بشراك نعله وإلا فأمسكها حتى تلحقها بدار قومها بالسّراة. فكانت عند عمر بن الخطاب رضى الله عنه فاستشهد أبوها. فكانت تدعوا عمرا أباها ويدعوها ابنته. قال: فإن عمر يوما على المنبر يكلّم الناس فى بعض الأمر، إذ خطر على قلبه ذكرها. فقال: من له فى الجميلة الحسيبة بنت جندب بن عمرو بن حممة، وليعلم امرء من هو! فقام عثمان بن عفان رضى الله عنه فقال: أنا يا أمير المؤمنين. فقال: أنت لعمرى والله! كم سقت إليها؟ قال: كذا وكذا. قال: قد زوّجتكها فإنها (3 - 3،374) العرجى. . . حرمه: ورد النص فى الأغانى 1/ 383 - 387، انظر أيضا الأغانى 1/ 383 حاشية 1 (8) بشراك نعله: انظر الأغانى 1/ 384 حاشية 1 (9) بالسّراة: انظر الأغانى 1/ 384 حاشية 2

معدّة، قال: ونزل عمر رضى الله عنه وأخذ مهرها فدخل به عليها. فقال: يا بنيّة، مدى حجرك! ففتحت حجرها فألقى فيه المال وقال: قولى اللهمّ بارك لى فيه. فقالت: اللهم بارك لى فيه، ما هذا يا أبتاه؟ قال: مهرك. فنضحت به وقالت: وا سوءتاه! فقال: احبسى منه لنفسك وابعثى منه لأهلك. وقال لحفصة رضى الله عنها: أصلحى من شأنها وغيّرى يديها واصبغى ثوبها. ففعلت. ثم أرسلت بها مع نسوة إلى عثمان رضى الله عنه. فقال عمر لما فارقته: إنها أمانة فى عنقى وأخشى أن تضيع بينى وبين عثمان. فلحق بهن وضرب على عثمان بابه، ثم قال: خذ أهلك (245) بارك الله لك فيهم. فدخلت على عثمان، فأقام عندها أياما مقاما طويلا لا يخرج إلى حاجته. فدخل عليه سعيد بن العاص فقال له: يا با عبد الله، لقد أقمت عند هذه الدّوسيّة مقاما ما كنت تقيمه عند غيرها. فقال: أما إنه ما بقيت خصلة كنت أحبّ أن تكون فى امرأة إلا صادفتها فيها، ما خلا خصلة واحدة. فقال: وما هى؟ قال: إنى رجل قد دخلت فى السن وحاجتى فى النساء الولد وأحسبها حديثة لا ولد فيها. قال: فتبسمت. فلما خرج سعيد بن العاص من عنده قال لها عثمان: ما أضحكك؟ قالت: سمعت قولك فى الولد، وإنى لمن نسوة ما دخلت امرأة منهن على سيّد قط فرأت حمراء حتى تلد سيّد ممن هو منه. قال: (4) فنضحت به: فى الأغانى 1/ 384: «فنفحت به»، انظر أيضا الأغانى 1/ 384 حاشية 5 (6) يديها: فى الأغانى 1/ 384: «بدنها»، انظر أيضا الأغانى 1/ 384 حاشية 6 (17 - 18) وإنى. . . منه: انظر الأغانى 1/ 385 حاشية 1

فما رأت حمراء حتى ولدت عمرو بن عثمان. وأمّ عمر بن عمرو أم ولد. وأمّ العرجىّ آمنة بنت عمرو بن عثمان. وقال إسحق: بنت سعيد بن عثمان، وهى لأمّ ولد. وإنما لقّب بالعرجىّ لأنه كان يسكن عرج الطايف، وقيل: سمى بذلك لما كان عليه من العرج. وكان من شعراء قريش ومن شهر بالغزل منها، ونحى نحو عمر بن أبى ربيعة فى ذلك، وتشبّه به وأجاد. وكان من الفرسان المعدودين مع مسلمة بن عبد الملك بأرض الروم. وكان أشقر أزرق جميل الوجه. وجيداء التى شبّب بها هى أم محمد بن هشام بن إسمعيل المخزومى. وكان ينسب بها ليفضح ابنها، لا لمحبّة كانت منه، فكان ذلك سبب حبسه وضربه حتى مات فى السجن. قال إسحق أن العرجىّ فيما بلغه باع أموالا عظيمة وأطعم ثمنها فى سبيل الله تعالى حتى كشف ذاك كله. وكان قد اتخذ غلامين فإذا كان الليل نصب قدره وقام الغلامان يوقدان (246) فإذا نام واحد قام الآخر كذلك حتى يصبح، يقول: لعل طارقا يطرق. وعن مصعب قال: كانت حبشيّة من مولّدات مكة طريفة صارت إلى المدينة. فلما أتاهم موت عمر بن أبى ربيعة اشتد جزعها وجعلت تبكى وتقول: من لمكة وشعابها وأباطحها ونزهها ووصف نسايها وحسنهن (2) عمرو: فى الأغانى 1/ 385: «عمر» (4) عرج الطايف: انظر الأغانى 1/ 385 حاشية 2 (5) كان عليه من العرج: فى الأغانى 1/ 385: «له ومال عليه بالعرج» (13 - 14) الآخر. . . يصبح: فى الأغانى 1/ 386: «الآخر فلا يزالان كذلك حتى يصبحا»

ذكر بن محرز وطرف من خبره

وجمالهن، ومن للنسيب والغزل فيهن. فقيل لها: حفظى قليلا فقد نشى فتى من ولد عثمان يأخذ مأخذه ويسلك مسلكه. فقالت: أنشدونى من شعره. فأنشدوها فمسحت عينها وقالت: الحمد لله الذى لم يضيّع حرمه. وكان ابن محرز أكثر غناوه من شعر العرجىّ. ذكر بن محرز وطرف من خبره هو مسلم بن محرز فيما روى المكيون، ويكنا أبا الخطاب مولى بنى عبد الله بن قصىّ، وقال بن الكلبى: اسمه سالم، ويقال: اسمه عبد الله. وكان أبوه من سدنة الكعبة وكان أصفر أجنّا طويلا. وعن عبد الملك الماجشون قال: تعلم الضرب من عزّة الميلاء ثم يرجع إلى مكة فيقيم بها أشهر. ثم شخص إلى فارس فتعلّم اللحان (5 - 8،375) بن (ابن) محرز. . . منه: ورد النص فى الأغانى 1/ 378،382 (8) أجنّا: انظر الأغانى 1/ 378 حاشية 3 (9 - 10) تعلم. . . فيقيم: راجع رواية الأغانى 1/ 378 مع اختلاف الصياغة

(247) ذكر سنة أربع وماية النيل المبارك فى هذه السنة

الفرس وأخذ غناوهم. ثم رجع إلى الشام فتعلم اللحان أهل الشام وأخذ غناوهم. فأسقط من ذلك ما لا يستحسن من نغم الفريقين، وأخذ محاسنها فمزج بعضه ببعض. وألّف منها الأغانى التى، صنعها فى أشعار العرب، فأتا بما لا يصنع مثله، وكان يقال له صنّاج العرب. فمن جيد ما غناه صوت <من الطويل>: لقد راعنى للبين صوت حمامة … على غصن بان جاوبتها حمايم هواتف أمّا من بكين بعهده … قديم وأما شجوهنّ فدايم الغنى فيه له مما عارض به ابن سريج فانتصف منه، والشعر للعرجىّ والله أعلم. (247) ذكر سنة أربع وماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وإحدى عشر إصبعا. (4) صنّاج: انظر الأغانى 1/ 378 حاشية 5 (8) الغنى (الغناء). . . سريج: فى الأغانى 1/ 382: «الغناء لابن سريج. . .، وهو مما عارض ابن محرز»

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفة يزيد بن عبد الملك بن مروان إلى حين وفاته فى هذه السنة فى تاريخ ما يأتى، وعزل حنظلة وولى مكانه محمد بن عبد الملك، ويزيد بن أبى يزيد بحاله، وكذلك بن ميمون القاضى. توفى يزيد رحمه الله بأرض البلقاء من أرض دمشق-وعمره إحدى وأربعين سنة-لأربع ليال بقين من شعبان، ويقال: مات بأرض عمان لخمس ليال بقين من شعبان سنة خمس وماية. وفى تاريخ القضاعى أنه مات بحوران وله تسع وعشرون سنة. وصلى عليه مسلمة بن عبد الملك، وقيل هشام بن عبد الملك، ويقال مسلمة بن هشام، ومن أولاد يزيد بن عبد الملك عبد الله ولده، يعدّ سبعة خلفاء: أبوه يزيد وجده عبد الملك وجد أبيه مروان وجدته لأبيه عاتكة بنت يزيد بن معوية، وأمه سعدة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وأم عبد الله بن عمرو زينب بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب. (3) عزل حنظلة: فى كتاب الولاة 72: «ثم صرف حنظلة بن صفوان عنها فى شوّال سنة خمس ومائة»، انظر النجوم الزاهرة 1/ 257؛ كتاب الأنساب لزامبور 25؛ حكام مصر لفيستنفلد 43، /52/محمد بن عبد الملك: انظر كتاب الولاة 72 - 73 (5 - 6) إحدى وأربعين (أربعون): فى الكامل 5/ 120: «أربعون»؛ فى مروج الذهب 4/رقم 2196: «سبع وثلاثين»، قارن تاريخ الطبرى 2/ 1463 (6 - 7) لأربع. . . ماية: وفقا لليفي دلافيدا، مقالة «يزيد بن عبد الملك» 1258، توفى فى 24 شعبان سنة 105 (7) لخمس. . . ماية: انظر تاريخ الطبرى 2/ 1463؛ مروج الذهب 4/رقم 2196 (8) تاريخ القضاعى: انظر تاريخ القضاعى، ص 146 (10 - 13) عبد الله. . . الخطاب: ورد النص فى تاريخ القضاعى، ص 147

صفته رحمه الله

صفته رحمه الله كان طويل جسيم أبيض، مدوّر الوجه، حسنه لم يشب. كتّابه رحمه الله أسامة بن زيد وهو الذى ينسب إليه نهر أسامة، ورجل من أهل الشام يقال له عثمان، وزيد بن عبد الله. [ذكر القضاعى]: حجّابه خالد وسعيد مولياه. نقش خاتمه قنى السيات يا عزيز، والله أعلم. (248) ذكر خلافة هشام بن عبد الملك بن مروان وما لخص من سيرته كنيته أبو الوليد هشام بن عبد الملك بن مروان، وباقى نسبه قد علم فيما قد تقدم، ويلقب السرّاق والمتقلّب لأنه قطع عطاء أهل المدينة (4 - 5) أسامة. . . عبد الله: فى تاريخ القضاعى، ص 147: «عمر بن هبيرة ثم إبراهيم بن جبلة ثم أسامة بن زيد السليحى»، كذا فى نهاية الأرب 21/ 402، قارن مقالات لبيوركمان 58 (6) القضاعى: انظر تاريخ القضاعى، ص 148، كذا فى نهاية الأرب 21/ 402 (8) قنى. . . عزيز: كذا فى تاريخ القضاعى، ص 147؛ نهاية الأرب 21/ 402 (9) هشام. . . مروان: انظر سير أعلام النبلاء 5/ص 351 - 353

ذكر سنة خمس وماية النيل المبارك فى هذه السنة

سنين. ثم أعطاهم قبل موته عطاء واحدا. فلقب بذلك. أمه فاطمة بنت هشام بن إسمعيل بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب. بويع له بالخلافة لخمس بقين من شعبان سنة خمس وماية وهو الصحيح-وفيها كانت وفاة يزيد على أصح الروايات-بعهد من أخيه يزيد له، فى مستهل رمضان كانت بيعته وهو الصحيح أيضا. وهو يوميذ ابن ثلث وأربعين سنة. وكانت أيامه تسع عشرة سنة وسبعة أشهر، وفى أيامه قتل زيد بن علىّ عليه السّلام بالكوفة سنة إحدى وعشرين وماية. وكانت له سياسة حسنة وتيقظ فى أمره، يباشر الأمور بنفسه. فكان له طراز لم يكن لمن قبله. ذكر سنة خمس وماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلثة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان فى تاريخ ما تقدم. وعزل محمد بن عبد الملك وولى الحسن بن يوسف، وترك يزيد بن أبى يزيد على حاله فى الخراج، والقاضى بن ميمون بحاله. وعن عبيد بن حنين قال: كان المغنيون فى عصر جدى أربعة نفر، ثلثة بالحجاز وواحد بالعراق، فالذين بالحجاز: ابن سريج، والغريض، ومعبد. وكان بلغهم أن جدى (249) حنينا قد غنى فى هذا الشعر <من الكامل>: هلاّ بكيت على الشباب الذاهب … وكففت عن ذمّ المشيب الآيب هذا وربّ مسوّمين سقيتهم … من خمر بابل لذّة للشارب بكروا علىّ بسحرة فصبحتهم … من ذات كوب مثل قعب الحالب بزجاجة مثل اليدين كأنها … قنديل فصح فى كنيسة راهب قال: فاجتمعوا فتذاكروا أمر جدى وقالوا: ما فى الدنيا أهل صناعة شرّ منّا، لنا أخ بالعراق، ونحن بالحجاز لا نزوره ولا نستزيره. فكتبوا إليه (3) الحسن: فى كتاب الولاة 73: «الحرّ»، انظر أيضا النجوم الزاهرة 1/ 258؛ كتاب الأنساب لزامبور 25؛ حكام مصر لفيستنفلد 43،52 (5 - 13،380) وعن. . . منيّته: ورد النص فى الأغانى 2/ 355 - 356، انظر أيضا الأعلام 2/ 325 - 326 (10) مسوّمين: فى الأغانى 2/ 355: «مسوّفين»، انظر أيضا الأغانى 2/ 355 حاشية 2 (12) مثل: فى الأغانى 2/ 355: «ملء» (13 - 13،380) قال. . . منيّته: قارن الأعلام 2/ 326

(250) ذكر سنة ست وماية النيل المبارك فى هذه السنة

ووجّهوا له نفقة وكتبوا يقولون: نحن ثلثة وأنت وحدك وأنت أولى بزيارتنا. فشخص إليهم. فلما كان على مرحلة من المدينة بلغهم خبره. فخرجوا يتلقونه فلم ير يوم كان أكثر حشدا ولا جمعا من يوم ذاك. فلما صاروا فى بعض الطريق قال لهم معبد: صيروا إلىّ. فقال ابن سريج: إن كان لك من الشرف والمروءة مثل ما لمولاتى سكينة بنت الحسين عليه السّلام عطفنا إليك. فقال: ما لى شئ من ذلك، وعدلوا إلى منزل سكينة فأذنت لهم إذنا عاما فغصّت الدار بهم وصعدوا فوق السطح، وأمرت لهم بالأطعمة فأكلوا ثم سألوا جدى أن يغنيهم صوته الذى ذكرناه فغناهم إياه بعد أن قال لهم: ابدءوا أنتم. فقالوا: ما كنا لنتقدم قبلك حتى نسمع هذا الصوت. فغناهم، وكان أحسن الناس صوتا، فازدحم الناس على السطح وكثروا حتى يسمعوا، فسقط الرواق على من تحته وسلموا جميعا وخرجوا أصحّاء، ومات حنين تحت الردم. فقالت سكينة: لقد كدّر علينا حنين سرورنا، انتظرناه مدة طويلة كأنّا كنا نسوقه إلى منيّته! (250) ذكر سنة ست وماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأربعة أصابع.

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان، والحسن بن يوسف بمصر على حربها. وعزل يزيد عن الخراج وولى عبيد الله بن الحبحاب على الخراج، والقاضى بن ميمون بحاله. قلت: قد تقدم القول من العبد فيما اشترط من ذكر المغنين الثلاث وهم: ابن سريج، والغريض وابن محرز. وأخّرنا أكبرهم ذكرا وأحسنهم خبرا وأعلاهم فخرا، معبد الذى قيل فيه <من الطويل>: أجاد طويس والسريجىّ بعده … وما قصبات السّبق إلاّ لمعبد ذكر معبد وما لخص من خبره هو معبد بن وهب، وقيل بن قطنىّ مولى أبىّ، وقيل بن قطن مولى العاصى بن وابصة المخزومىّ، وقيل بل مولى معوية بن أبى سفيان. وكان أبوه أسود خلاسيّا مديد القامة أحول. وذكر ابن خرداذبه أنه غنّى أول دولة بنى أمية وأدرك دولة ولد (2) الحسن: انظر هنا ص 379، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 3 (8) أجاد. . . لمعبد: ورد البيت فى الأغانى 1/ 38 (9 - 14،383) ذكر. . . غناءك: ورد النص فى الأغانى 1/ 36 - 40 (10) مولى أبىّ: فى الأغانى 1/ 36: «مولى ابن قطر»؛ فى الأعلام 8/ 178: «مولى لبنى مخزوم (أو لابن قطن، مولى معاوية)» (11) العاصى: فى الأغانى 1/ 36: «العاص» (13) ابن خرداذبه: انظر الأغانى 1/ 36 حاشية 4

العباس. وقد أصابه الفالج وارتعش وبطل، فكان إذا غنا يضحك منه ويهزأ به. والصحيح أن معبدا مات آخر دولة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بدمشق وهو عنده. وعن كردم بن معبد قال: مات أبى فى عسكر الوليد بن يزيد، وأنا معه، فنظرت حين أخرج نعشه إلى سلاّمة القسّ جارية يزيد بن عبد الملك، وقد أضرب الناس عنه ينظرون إليها (251) وهى آخذة بعمود السرير تندب وتقول <من الرمل>: قد لعمرى بتّ ليلى … كأخى الدّاء الوجيع ونجىّ الهمّ منّى … بات أدنى من ضجيعى كلّما أبصرت ربعا … خاليا فاضت دموعى قد خلا من سيّد كا … ن لنا غير مضيع لا تلمنا إن خشعنا … أو هممنا بخشوع قال كردم: كان يزيد قد أمر أبى أن يعلّمها هذا الصوت فعلّمها إياه فندبته به يوميذ، قال: فلقد رأيت الوليد بن يزيد والغمر أخاه متجرّدين فى قميصين وردايين يمشيان بين يدى السرير حتى أخرج من دار الوليد، لأنه تولّى أمره وأخرجه من داره إلى موضع قبره. قال إسحق: كان معبد من أحسن الناس غناء، وأجودهم صنعة، وأحسنهم خلقا وخلقا، وهو فحل المغنين وإمام أهل الصنعة فى الغناء، (2) آخر: فى الأغانى 1/ 36: «فى أيام» (9) نجىّ: انظر الأغانى 1/ 37 حاشية 2

ذكر سنة سبع وماية النيل المبارك فى هذه السنة

وأخذ عن سايب خاثر، ونشيط مولى عبد الله بن جعفر، [و] عن جميلة مولاة بهز-بطن من سليم-وكان زوجها مولى لبنى الحرث بن الخزرج. ولمعبد صنعة لم يسبقه إليها من تقدّم ولا زاد عليه فيها من تأخّر. وكانت صناعته التجارة فى أكثر أيام رقّه، وربما رعى الغنم لمواليه، وهو مع ذلك يختلف إلى نشيط الفارسىّ وسايب خاثر حتى اشتهر بالحذق وحسن الغناء وطيب الصوت. وصنع الألحان فأجاد واعترف له بالتقدم على أهل عصره. وعن الجمحىّ قال: بلغنى أن معبدا قال: والله لقد صنعت اللحانا لا يقدر المتّكئ أن يترنّم بها حتى يقعد مستوفزا، ولا القايم حتى يقعد ولا القاعد حتى يقوم، ولا يطيقه شبعان ممتلئ ولا سقّاية تحمل قربة أن تترنم بها. قال إسحق: قيل لمعبد: كيف تصنع إذا أردت (252) أن تصوغ الغناء؟ قال: أرتحل قعودى فأوقّع بالقضيب على رحلى، وأترنّم الشعر حتى يستوى لى الصوت. فقيل له: ما أبين ذلك فى غناءك! ذكر سنة سبع وماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإصبعان. (10) سقّاية تحمل: فى الأغانى 1/ 39: «سقّاء يحمل» (17) سبعة: فى درر التيجان 83 ب (حوادث 107): «خمسة» (18) إصبعان: فى درر التيجان 83 ب (حوادث 107): «أربعة أصابع»

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان، ونواب مصر بحالهم، وكذلك قاضيها. ومن أخبار معبد قال ابن الكلبى: قدم ابن سريج والغريض المدينة يتعرضان لمعروف أهلها ويزوران من بها من قريش. فلما شارفاها تقدّما ثقلهما ليرتادا منزلا حتى إذا كانا بالمغسلة-وهى جبّانة على طرف المدينة يغسل فيها ثياب الناس-إذا هما بغلام ملتحف بإزار، وطرفه على رأسه، بيده حبالة يتصيد بها الطير، وهو يتغنى <من البسيط>: القصر فالنخل فالجمّاء بينهما … أشهى إلى القلب من أبواب جيرون فإذا الغلام معبد، قال: فلما سمع ابن سريج والغريض معبدا، مالا إليه واستعاداه منه فأعاده، فسمعا شيا لم يسمعا مثله قط، فأقبل أحدهما على صاحبه فقال: هل سمعت كاليوم قط؟ قال: لا والله! قال: فما رأيك؟ قال بن سريج: هذا غناء غلام يصيد الطير فكيف بمن فى الجوبة! يعنى المدينة، أما أنا فثكلته والديه إن لم أرجع فكرّا راجعين. (4 - 14) قال. . . راجعين: ورد النص فى الأغانى 1/ 44 - 45 (11) منه: فى الأغانى 1/ 44: «الصوت» (13) الجوبة: انظر الأغانى 1/ 44 حاشية 4 (14) يعنى. . . أما: فى الأغانى 1/ 44: «-يعنى المدينة-قال: أمّا»

ذكر سنة ثمان وماية النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثمان وماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وأربعة أصابع. [ما لخص من الحوادث] (253) الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان، وعزل الحسن عن حرب مصر وولا مكانه عبد الملك بن رفاعة الفهمىّ، وابن الحبحاب على الخراج، والقاضى عبد الله بن ميمون بحاله. ومن أخبار معبد. قال إسحق: قال معبد: بعث إلىّ بعض أمراء الحجاز أن اشخص إلى مكة. قال: فتقدمت غلمانى فى بعض الطريق فى بعض الأيام واشتد بى الحرّ والعطش، فانتهيت إلى خباء وفيه أسود فإذا حباب ماء قد برّدت، فملت إليه فقلت له: يا هذا، اسقنى من هذا. قال: (3) أربعة أذرع فقط: فى درر التيجان 83 ب:8 (حوادث 108): «أربعة أذرع وخمسة وعشرون إصبعا» //خمسة: فى درر التيجان 83 ب:8 (حوادث 108): «سبعة» // أربعة: فى درر التيجان 84 ب:8 (حوادث 108): «خمسة» (6) الحسن: انظر هنا ص 379، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 3 (7) عبد الملك. . . الفهمىّ: انظر كتاب الولاة 75؛ النجوم الزاهرة 1/ 264 (8) عبد الله بن ميمون: انظر هنا ص 357، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 2 (9 - 2،387) قال. . . المنزل: ورد النص فى الأغانى 1/ 11،45 - 46 (12) حباب: انظر الأغانى 1/ 45 حاشية 1

لا ولا قطرة. قلت: فأذن لى فى الكنّ ساعة. قال: لا ولا كرامة. قال: فأنخت ناقتى ولجأت إلى ظلّها فاستترت به. وقلت: لو أحدث لهذا الأمير شيا من الغناء أقدم به عليه، ولعلّى أيضا إن حرّكت لسانى أن يبلّ ريقى حلقى فيخفّف عنّى بعض ما أنا فيه من العطش. فترنمت صوتى <من البسيط>: القصر فالنخل فالجمّاء بينهما … أشهى إلى القلب من أبواب جيرون إلى البلاط فما حازت قراينه … دور نزحن عن الفحشاء والهون فلما سمعه الأسود ما شعرت إلا به وقد احتملنى حتى أدخلنى خباءه. ثم قال لى: بأبى وأمى أنت! هل لك فى سويق السّلت بهذا الماء البارد؟ فقلت: قد منعتنى أقل من ذلك. فقبل قدمى وقال: معذرة إليك يا مولاء. ثم سقانى حتى رويت، ولحقنى الغلمان. فأقمت عنده إلى وقت الرّواح. فلما أردت الرحلة قال الأسود: بأبى وأمى أنت! الحرّ شديد ولا آمن عليك مثل ما لحقك، فأذن فى أن أحمل لك قربة من هذا البارد على عنقى وأسعى بها بين يديك. فكلما عطشت سقيتك صحنا وغننى صوتا! (1) الكنّ: انظر الأغانى 1/ 45 حاشية 2 (4) ريقى حلقى: فى الأغانى 1/ 45: «حلقى ريقى» (6) أشهى. . . جيرون: انظر هنا ص 384:9 (7) إلى. . . الهون: ورد البيت فى الأغانى 1/ 11 (14) غننى: فى الأغانى 1/ 46: «غنّيتنى»

(254) ذكر سنة تسع وماية النيل المبارك فى هذه السنة

قال: قلت ذلك إليك، فو الله ما فارقنى يسقينى، وأنا أغنيه حتى بلغت المنزل. (254) ذكر سنة تسع وماية النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وخمسة وعشرين إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان، وعزل عبد الملك وولى مكانه حفص بن الوليد. وقيل: بل كان المعزول حفص. والمتولى فى هذه السنة على حرب مصر عبد الملك بن رفاعة الفهمىّ وهو الصحيح، وعبيد الله بن الحبحاب بحاله، وكذلك القاضى ابن ميمون بحاله. ومن أخبار معبد عن يونس الكاتب قال: كان معبد قد علّم جارية من جوارى الحجاز الغنى-تدعا ظبية-عنا بتخريجها مع قبول طباعها. فمهرت، فاشتراها رجل من أهل الأهواز. فأعجب بها، وذهبت به كل (5) عشرين (عشرون): فى النجوم الزاهرة 1/ 267: «عشر» (6) خمسة: فى درر التيجان 83 ب:12 (حوادث 109): «ست» (8 - 10) عزل. . . الفهمىّ: انظر كتاب الولاة 72 - 75؛ النجوم الزاهرة 1/ 263 - 264؛ حكام مصر لفيستنفلد 52؛ كتاب الأنساب لزامبور 26 (12 - 11،391) يونس. . . الحجاز: ورد النص فى الأغانى 1/ 48 - 52 (13) عنا (عنى): فى الأغانى 1/ 48: «وعنى»

مذهب وغلبت عليه. ثم ماتت بعد أن أقامت عنده برهة من الزمان، وأخذ بقية جواريه عنها أكثر غنايها. فكان الرجل لمحبته إياها وأسفه عليها لا يزال يسأل عن أخبار معبد وأين مستقرّه، ويظهر التعصب له، والميل إليه، والتقديم لغنايه على ساير أغانى أهل عصره، إلى أن عرف ذلك منه. وبلغ معبدا خبره، فخرج من مكة حتى أتى البصرة. فلما وردها صادف الرجل قد خرج عنها فى ذلك اليوم إلى الأهواز واكثرى سفينة، وجاء معبد يلتمس سفينة ينحدر فيها إلى الأهواز. فلم يجد غير سفينة الرجل، وليس أحد منهما يعرف صاحبه، وأمر الرجل الملاّح أن يجلسه معه فى مؤخّر السفينة. ففعل وانحدر. فلما صاروا فى فم النهر الأبلّة تغدّوا وشربوا، وأمر جواريه فغنين، ومعبد ساكت وهو فى ثياب السفر (255) [و] عليه فروة وخفّان غليظان وزىّ جاف من زىّ أهل الحجاز، إلى أن غنت الجارية الواحدة. صوت <من البسيط>: بانت سعاد وأمسى حبلها انصرما … واحتلّت الغور والأجراع من إضما إحدى بلىّ وما هام الفؤاد بها … إلاّ السفاة وإلاّ ذكرها حلما قال حمّاد: الشعر للنابغة، والغنى فيه لمعبد. فلم تجد فيه فصاح معبد: يا جارية، إن غناءك هذا ليس بمستقيم. فقال له مولاها، وقد (9) انحدر: فى الأغانى 1/ 48: «انحدروا» (13) الغور. . . إضما: انظر الأغانى 1/ 49 حاشية 1 (14) بلىّ. . . ذكرها: انظر الأغانى 1/ 49 حاشية 2 (15) تجد فيه: فى الأغانى 1/ 49: «تجد أداءه»

غضب منه: وأنت ما يدريك الغناء ما هو؟ ألا تمسك وتلزم شأنك فأمسك. ثم غنت أصواتا من غناء غيره، وهو ساكت لا يتكلم حتى غنت. صوت <من المديد>: بابنة الأزدى قلبى كييب … مستهام عندها ما ينيب ولقد قالوا فقلت دعونى … إنّ من تنهون عنه حبيب إنّما أبلى عظامى وجسمى … حبّها والحبّ شئ عجيب أيّها العايب عنى هواها … أنت تفدى من أراك تعيب الشعر لعبد الرحمن بن أبى بكر: والغناء لمعبد. قال: فأخلّت فيه فقال لها معبد: يا جارية: قد أخللت بهذا الصوت إخلالا شديدا. فغضب الرجل فقال: ويلك! ما أنت والغناء! ألا تكفّ عن هذا الفضول! فأمسك، وغنى الجوارى مليّا. ثم غنت إحداهن. صوت <من الطويل>: خليلىّ عوجا ساعة منكما معى … على الرّبع نقضى حاجة لمودّع ولا تعجلانى أن آلم بدمنة … لعزّة لاحت لى ببيداء بلقع وقولا لقلب قد سلا: راجع الهوى … وللعين: أذرى من دموعك أو دعى ولا عيش إلا مثل عيش مضى لنا … مصيفا أقمنا فيه من بعد مربع الشعر لكثيّر عزّة، والغناء لمعبد. قال: فلم تصنع فيه شيا. فقال لها (5) قالوا: فى الأغانى 1/ 50: «لاموا» (7) عنى: فى الأغانى 1/ 50: «عندى» (8) فيه: فى الأغانى 1/ 50: «ببعضه» (13) لمودّع: فى الأغانى 1/ 50: «ونودّع»

معبد: (256) يا هذه ما تقومين على أداء صوت واحد؟ فغضب الرجل منه غضبا شديدا وقال: ما أراك تدع الفضول بوجه ولا حيلة! وأقسم بالله لين عاودت لأخرجنّك من السفينة. فأمسك معبد حتى إذا سكت الجوارى سكتة اندفع بغناء الصوت الأول حتى فرغ. فقال الجوارى: أحسنت والله يا رجل! فأعده. فقال: لا ولا كرامة. ثم اندفع فغنى الثانى فقلن لسيدهن: ويحك! هو والله أحسن الناس غناء، اسله يعيده علينا ولو مرّة واحدة لعلّنا نأخذه عنه، فإنه إن فاتنا لم نجد مثله أبدا. فقال: قد سمعتنّ سوء ردّه عليكن، وأنا خايف مثله منه [و] قد أسلفناه الإساءة. فاصبرن حتى نداريه. قال: ثم غنا الثالث فزلزل عليهن الأرض، فوثب الرجل فخرج إليه وقبّل رأسه وقال: يا سيدى أخطأنا عليك ولم نعرف موضعك. فقال له: فهبك لم تعرف موضعى، قد كان ينبغى أن تستثبت ولا تسرع إلىّ سوء العشرة وجفاء القول. فقال: قد أخطأت وقد أسأت وأنا أعتذر إليك مما جرى وأسلك أن تصير إلىّ وتختلط بى. فقال له: الآن فلا. فلم يزل به حتى صار إليه فقال له الرجل: ممّن أخذت هذا الغنى؟ قال: من بعض أهل الحجاز، فمن أين أخذنه جواريك؟ فقال: أخذنه من جارية كانت لى ابتاعها رجل من أهل البصرة من مكة. فكانت قد أخذت عن أبى عبادة معبد، وعنا بتخريجها، فكانت تحلّ منى محل الروح فى الجسد. ثم إن الله استأثرها، (6) اسله: فى الأغانى 1/ 51: «فسله أن» (13) يزل: فى الأغانى 1/ 51: «يزل يرفق»

ذكر سنة ماية وعشرة النيل المبارك فى هذه السنة

وهؤلاء الجوارى من تعليمها. فأنا إلى الآن أتعصب لمعبد وأفضّله على المغنين جميعا، وأفضّل صنعته على كل صنعة. فقال معبد: وإنك لأنت هو! فتعرفنى؟ قال: لا. قال: فصكّ معبد صلعته بيده وقال: أنا والله معبد والله معبد، (257) وإليك قدمت من الحجاز ووافيت البصرة ساعة نزلت السفينة لأقصدك بالأهواز، وو الله لا قصّرت فى جواريك هولاى، ولأجعلنّ لك كل واحدة منهن خلفا من الماضية. فأكبّ الرجل والجوارى على يديه ورجليه يقبلونها ويقولون: كتمتنا نفسك طول هذا النهار حتى جفوناك فى المخاطبة وأسأنا عشرتك، وأنت سيدنا ومن نتمنّى على الله أن نلقاه. ثم غيّر الرجل زيه وحاله وخلع عليه وأعطاه فى وقته ثلثماية دينار وطيبا وهدايا بمثلها. وانحدر معه إلى الأهواز فأقام عنده سنة حتى رضى حذق جواريه وما أخذنه عنه. ثم ودّعه وعاد إلى الحجاز. ذكر سنة ماية وعشرة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وخمسة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان، وعبد الملك بن رفاعة الفهمىّ على حرب مصر، وعبيد الله بن الحبحاب على الخراج، والقاضى (14) أربعة. . . خمسة عشر: فى درر التيجان 83 ب:16 (حوادث 110): «خمسة أذرع فقط» (17 - 18) عبد الملك. . . الفهمىّ: فى كتاب الولاة 75 - 76: «ثم قدم. . . ليلة الجمعة لثنتى عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة تسع ومائة و [مات]. . . ثم وليها الوليد بن رفاعة. . . فاستقبل الوليد [بن رفاعة] بولايته سنة تسع. . .»، انظر أيضا كتاب الأنساب لزامبور 26؛ حكام مصر لفيستنفلد 44

عبد الله بن ميمون بحاله. ومن كتاب الأغانى عن الجمحىّ قال: كنت وأبو السايب المخزومىّ عند مغنية بالمدينة يقال لها الذّلفاء. فغنتنا بشعر جميل بن معمر، واللحن لابن سريج <من الطويل>: لهنّ الوجا لم كنّ عونا على النّوى … ولا زال منها ظالع وحسير كأنّى سقيت السّمّ يوم تحمّلوا … وجدّ بهم حاد وحان مسير فقال أبو السايب: يا با دهبل، نحن والله على خطر من هذا الغناء، فنسل الله السلامة، وأن يكفينا كل محذور، فما آمن أن يهجم بى على أمر يهتكنى، وجعل يبكى حتى بلّ رداءه. وعن عبد الرحمن بن عنبسة قال: بينما نحن بمنى (258) نريد الغد الغدوّ إلى عرفات، إذا نحن بالأحوص بن محمد الشاعر فقال: أبيت بكم الليلة؟ فقلنا: فى الرّحب والسّعة. قال: فلما جنّه الليل لم يلبث أن غاب عنّا. ثم عاد ورأسه تقطر ماء. قلت: ما لك؟ فقال <من المتقارب>: تعرّض سلماك لمّا حرم‍ … ت، ضلّ ضلالك من محرم! (1) عبد الله بن ميمون: انظر هنا ص 357، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 2 (2 - 4،393) الجمحىّ. . . الصوت: ورد النص فى الأغانى 1/ 292،294 - 295 (5) الوجا (الوجى): انظر الأغانى 1/ 292 حاشية 3 (14) حرمت: انظر الأغانى 1/ 294 حاشية 3

ذكر سنة ماية وإحدى عشرة النيل المبارك فى هذه السنة

تريد به البرّ يا ليته … كفافا من البرّ والمأثم قال: فقلت: زنيت وربّ الكعبة! قال: قل ما بدا لك. ثم لقى بن سريج فقال: إنى قلت بيتين حسنين أحبّ أن تغنينى بهما. قال: فأنشده إياهما فغنى بهما من ساعته، ففتن من حضر ممن سمع ذلك الصوت. ذكر سنة ماية وإحدى عشرة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان، وعبد الملك بن رفاعة بحاله، وكذلك عبيد الله بن الحبحاب، والقاضى بن ميمون بحالهما. ومن كتاب الأغانى عن إسحق بن يحيى بن طلحة قال: قدم جرير (7) خمسة: فى درر التيجان 83 ب:20 (حوادث 111): «أربعة» //سبعة: فى درر التيجان 83 ب:20 (حوادث 111): «ست» //ستة: فى درر التيجان 83 ب:20 (حوادث 111): «أربعة» (10) عبد الملك بن رفاعة: انظر هنا ص 391، الهامش الموضوعى، حاشية سطرين 17 - 18 (12 - 6،296) إسحق. . . فوايدكم: ورد النص فى الأغانى 1/ 295 - 297

ابن الخطفى المدينة، ونحن يوميذ شباب نطلب الشعر فاحتشدنا له له، ومعنا أشعب. فبينا نحن عنده إذ قام لحاجة وأقمنا لم نبرح، وجاء الأحوص بن محمد من قباء على حمار فقال: أين هذا؟ قلنا: قام إلى حاجته، فما حاجتك إليه؟ قال: أريد والله أعلمه أن الفرزدق أشرف منه وأشعر. قلنا: ويحك! لا تعرض به وانصرف. وخرج جرير فلم يكن أسرع من أن قال: السلام عليك. فقال جرير: وعليك السلام. فقال: يابن الخطفى، الفرزدق أشرف (259) منك وأشعر. قال جرير: من هذا أخزاه الله؟ قلنا: الأحوص بن محمد بن عبد الله بن عاصم بن ثابت بن الأقلح. فقال: نعم، الخبيث من الطيب، أأنت القايل <من الطويل>: يقرّ بعينى ما يقرّ بعينها … وأحسن شئ ما به العين قرّت قال: نعم. قال: فإنه يقرّ بعينها أن يدخل فيها مثل ذراع البكر، أفيقرّ ذاك بعينك! قال: وكان الأحوص يرمى بالحلاق، فانصرف. فبعث إليهم بتمر وفاكهة. وأقبلنا على جرير نسايله، وأشعب عند الباب، وجرير فى مؤخّر البيت، فألحّ عليه أشعب يسأله. فقال جرير: والله إنى لأراك أقبحهم وجها وإنك لاآآلمهم حسبا، وقد أبرمتنى منذ اليوم. فقال أشعب: (6) أسرع. . . قال السلام: فى الأغانى 1/ 295: «بأسرع من أن أقبل الأحوص الشاعر فأقبل عليه، فقال: السلام» (13) بالحلاق: انظر الأغانى 1/ 295 حاشية 1 (16) أبرمتنى: انظر الأغانى 1/ 296 حاشية 2

والله إنى أنفعهم لك وخيرهم. فانتبه جرير فقال: ويحك! وكيف ذلك! قال: إنى أملّح الشعر وأجيد مقاطعه ومباديه، فقال: قل ويحك! فاندفع أشعب فنادى بلحن بن سريج <من الكامل>: يا أخت ناجية السلام عليكم … قبل الرّحيل وقبل لوم العذّل لو كنت أعلم أن آخر عهدكم … يوم الرّحيل فعلت ما لم أفعل فطرب جرير وجعل يزحف نحوه حتى مست ركبته ركبته وقال: لعمرى لقد صدقت، إنك لأنفعهم لى، ولقد حسّنته وأجدته وزيّنته، أحسنت والله، ووصله وكساه. فلما رينا إعجاب جرير بذلك الصوت قال له بعض أهل المجلس: فكيف لو سمعت واضع هذا الغناء! قال: وإنّ له لواضعا غير هذا؟ قلنا: نعم. قال: فأين هو؟ قلنا: بمكة، قال: فلست بمفارق حجازكم حتى أبلغه. فمضى ومضى معه جماعة ممن يرغب فى طلب الشعر فى صحابته، وكنت منهم. فقدمنا مكة فأتينا بن سريج جميعا، فإذا هو فى فتية من قريش كأنهم المها مع ظرف كثير، فرحّبوا (260) وأدنوا، وأعظم عبيد بن سريج موضع جرير وقال: سال ما تريد جعلت فداك. قال: أريد أن تغنينى لحنا سمعته بالمدينة أزعجنى إليك. قال: وما هو؟ قال <من الكامل>: (4 - 5) يا. . . أفعل: ورد البيتان فى النقائض 199 - 200

ذكر سنة ماية واثنتى عشرة النيل المبارك فى هذه السنة

يا أخت ناجية السلم عليكم … قبل الرّحيل وقبل لوم العذّل قال: فغناه بن سريج وبيده قضيب يوقّع به وينكث فو الله ما سمعت الناس شيا قط أحسن من ذلك. فقال جرير: لله درّكم يا أهل مكة، ماذا أعطيتم! والله لو أن نازعا نزع إليكم ليقيم بين أظهركم يسمع هذا صباحا ومساء كان أعظم الناس حظا ونصيبا. فكيف ومع هذا بيت الله الحرام ووجوهكم الحسان ورقّة ألسنتكم، وحسن شارتكم وكثرة فوايدكم. ذكر سنة ماية واثنتى عشرة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان، وعبد الملك بن رفاعة (6) شارتكم: انظر الأغانى 1/ 297 حاشية 3 (9) أربعة أذرع: فى درر التيجان 84 آ:3 (حوادث 112): «خمسة أذرع» (9 - 10) ستة. . . إصبعا: فى درر التيجان 84 آ:3: «ثمانية عشر ذراعا فقط» (12 - 1،397) عبد الملك بن رفاعة. . . الفهمىّ: انظر هنا ص 391، الهامش الموضوعى، حاشية سطرين 17 - 18

الفهمىّ بحاله، وكذلك بن الحبحاب، والقاضى عبد الله بن ميمون. قلت: إننى لم أحفظ فى هذا التاريخ ولاة مصر دون ساير ولاة الأقاليم إلا سياقة على ما قد أسسته من أول هذا التاريخ فى ذكر جميع من يملك مصر من أول ما خلق الله عز وجل آدم صلوات الله عليه وإلى آخر ما يقف بنا الكلام من ذكر ملوك مصر، ولو حفظت فى هذا التاريخ ساير النواب والمتولين فى ساير أقطار الأرض لطال الشرح وخرجنا عن شرط الاختصار فى ذلك. (261) ومن ما يلحق بذكر جرير من جيد شعره قصيدة منها أبيات فى وصف فرس تجمع عشرين اسما من أسماء الطير يقول <من الكامل>: وأقبّ كالسّرحان ثم له … ما بين هامته إلى النّسر (1) عبد الله. . . ميمون: انظر هنا ص 357، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 2 (11 - 3،400) وأقبّ. . . الأزر: وردت هذه الأبيات فى حلية الفرسان ص 62 - 67؛ العقد الفريد 1/ 167 - 172، وفى المخطوط تعليقات على الكلمات المفردة ترد تحت البيت المناسب ووردت هذه الملاحظات أيضا فى المصدرين المذكورين باختلاف بسيط. ما بين الحاصرتين أضيف من المصدرين المذكورين أو من المحققتين (11) وأقبّ. . . النّسر: مذكور تحت هذا البيت: [الأقبّ]: اللاحق المخطف البطن. [والسّرحان]: الذئب، شبّه فى ضموره وعدوه [له]. [والهامة]: أعلى الرأس، هى أمّ الدماغ، وهى من أسماء الطير. [والنّسر]: ما ارتفع من بطن الحافر من أعلاه، كأنه النّوى والحصى، وهو من أسماء الطير.

رحبت نعامته ووفّر فرخه … وتمكّن الصّردان فى النّحر وأناف بالعصفور فى سعف … هام أشمّ موثّق الجذر وازدان بالديكين صلصله … ونبت دجاجته عن الصدر والناهضان أمرّ جلزهما … فكأنما عثما على كسر مسحنفر الجنبين ملتيم … ما بين شيمته إلى الغرّ (1) رحبت. . . النّحر: مذكور تحت هذا البيت: [رحبت]: اتسعت. [ونعامته]: جلدة رأسه التى تغطّى الدماغ، وهى من أسماء الطير. الفرخ: الدماغ، وهو من أسماء الطير. [والصّردان]: عرقان فى أصل اللسان، وهو [لعل الأصح: هما] من أسماء الطير. [والنّحر]: موضع القلادة من العنق [فى العقد الفريد 1/ 168: «موضع القلادة من الصدر، وهو البرك]». (2) وأناف. . . الجذر: مذكور تحت هذا البيت: العصفور: أصل منبت الشعر فى الناصية والعصفور أيضا: عظم ناتئ فى كل جبين والعصفور أيضا: من الغرر، وهى التى سالت ورقت ولم تجاوز [إلى] العينين ولم تستدر كالقرحة، وهى [الأصح: هو] من أسماء الطير. [و] السعف، أى فرس سعف أى سالت ناصيته [فى العقد الفريد 1/ 168: «يقال: فرس بين السعف، وهو الذى سالت ناصيته»]. [و] هام، أى سايل. [وأشمّ]: مرتفع الأنف. [موثّق]: قوى شديد. الجذر: الأصل من كل شئ. (3) وازدان. . . الصدر: مذكور تحت هذا البيت: [ازدان]: افتعل. والديكين [الأصح: الديكان]: العظمين الناتئين [الأصح: العظمان الناتئان] خلف الأذن. صلصله: بياض بطرف الناصية، ويقال: هو أصل الناصية. دجاجته: اللحم الذى على زوره بين يديه. [والديك والصلصل والدجاجة] من أسماء الطير. (4) والناهضان. . . كسر: مذكور تحت هذا البيت: [الناهضان]: أحدهما ناهض، وهو اللحم الذى يلى العضدين من أعلاهما. والناهض: فرخ العقاب، [وهو من أسماء الطير]. [أمرّ جلزهما]، أى أحكم الشد. قوله: فكأنما عثما على كسر أى كأنما كسر ثم جبر [فى العقد الفريد 1/ 169: «كأنهما كسرا ثم جبرا»]، والعرب تزعم أن العظم إذا كسر ثم جبر عاد صاحبه أشدّ بطشا به. (5) مسحنفر. . . الغرّ: مذكور تحت هذا البيت: [مسحنفر الجنبين]، أى منتفخهما [فى العقد الفريد 1/ 169: «منتفخهما»]. وهو مما يشكر من الفرس إذا كان ذو [والأصح: ذا] جنب منتفخ. [ملتئم]، أى معتدل. [و] شيمته: منخره، ويقال: فرس أشيم، بين-

وصفت سماناه وحافره … وأديمه ومنابت الشّعر وسما الغراب لموقفيه معا … فأبين بينهما على قدر واكتنّ دون قبيحه خطّافه … ونأت سمامته على الصّقر وتقدّمت عنه القطاة له … فنأت بموقعها عن الحرّ الشّيمة [فى العقد الفريد 1/ 169: «. . . الشّيمة، وهى بياض فيه»]. [و] الغرّ بياض فيه، والغرّ فى الأغلب على الذى يسمى الرّخمة من الفرس، وهى عضلة الساق، وهما من أسماء الطير. (1) وصفت. . . الشّعر: مذكور تحت هذا البيت: سماناه [فى حلية الفرسان ص 66؛ العقد الفريد 1/ 169: السّمانى]: موضع فى الفرس-قال الأصمعى: لا أحفظه-وهما [الأصح: وهو] من أسماء الطير، إلا أن يكون أراد السّمامة، وهى دائرة تكون فى سالفة الفرس، والسمامة من أسماء الطير [فى العقد الفريد 1/ 169: «السّمانى: طائر، وهو موضع من الفرس لا أحفظه، إلا أن يكون. . .، والسّمامة، من الطير أيضا]. [وحافره]:. . . من الفرس الحافر. . .، [فى العقد الفريد 1/ 169: «حافره»، كذا فى حلية الفرسان ص 65]. [والأديم]: جلده فكلما صفا ثوب الفرس كان أحسن. (2) وسما. . . قدر: مذكور تحت هذا البيت: [سما]، أى ارتفع. [و] الغراب: رأس الورك، ويقال للصّلوين: الغرابان، وهما ملتقا [الأصح: ملتقى] أعالى الوركين. موقفيه [الأصح: موقفاه]: ما فى أعالى الخاصرتين. فأبين، أى فرّق بينهما. على قدر، أى [على] استواء واعتدال. لموقفيه: فى حلية الفرسان ص 65؛ العقد الفريد 1/ 170: «لموقعيه» (3) واكتنّ. . . الصّقر: مذكور تحت هذا البيت: واكتنّ، أى استتر. قبيحه ملتقى الساقين، ويقال: مركّب الذراعين فى العضدين. [و] الخطّاف: من أسماء الطير، وهو حيث تدرك [فى العقد الفريد 1/ 170: «أدركت»] عقب الفارس إذا ما حرّك رجليه، ويقال لهذين الموضعين من الفرس: المركلان. سمامته: دايرة تكون فى عنق الفرس، وهى من أسماء الطير. (4) وتقدّمت. . . الحرّ: مذكور تحت هذا البيت: القطاة: مقعد الرّدف من الفرس، وهى من أسماء الطير. [و] الحرّ: سواد يكون بظاهر أذنى الفرس، وهو من الطير، ذكر. . . [النص غير واضح فى الأصل، فى حلية الفرسان ص 67؛ العقد الفريد 1/ 170: «والحر: من الطير، يقال إنه ذكر الحمام، وهو من الفرس، سواد يكون فى ظاهر أذنيه»]. قلت: ولعله من أسماء الصقر فإنه يقال له الحر.

ذكر سنة ماية وثلث عشرة النيل المبارك فى هذه السنة

(262) وسما على نقويه دون حداته … خربان بينهما مدى الشّبر يدع الرضيم إذا جرى فلقا … بتوايم كمواسم سمر ركّبن فى محض الشّوى سبط … كفت الوثوب مشدّد الأزر ذكر سنة ماية وثلث عشرة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا فقط. ما لخص من الحوادث الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان، وعبد الملك بن رفاعة (1) وسما. . . الشّبر: مذكور تحت هذا البيت [الأصل غير واضح، ورد النص فى العقد الفريد 1/ 170 - 171، انظر أيضا حلية الفرسان ص 17]: نقويه [الأصح: النّقوان]: أحدهما نقو، وهو عظم ذو مخ، وإنما عنى ها هنا عظام الوركين لأن الخرب هو الذى تراه مثل المدهن فى ورك الفرس. وهو من الطير: ذكر الحبارى. [و] الحدأة: من فرس سالفته، وهى من أسماء الطير. . . [فى العقد الفريد 1/ 171: «من الطير، وأصله الهمز، ولكنه خفّف، وهى سالفة الفرس»]. (2) يدع. . . سمر: مذكور تحت هذا البيت [الأصل غير واضح، ورد النص فى العقد الفريد 1/ 171]: الرضيم:. . . حجارة. [وفلقا] > الأصح: والفلق <]: المكسورة [فى العقد الفريد 1/ 171: «المكسورة فلقا»]. [بتوايم]: حوافر. [والمواسم]: جمع موسم، وهو ميسم حديد [فى العقد الفريد 1/ 171: «جمع ميسم الحديد]. سمر: أى لون الحافر، وهو أصلب الحوافر. . . [كلمة غير واضحة فى الأصل]. (3) ركّبن. . . الأزر: مذكور تحت هذا البيت [الأصل غير واضح، ورد النص فى العقد الفريد 1/ 172]: الشّوى: القوايم [القوائم]. [سبط]: سهل. كفت [الوثوب]: مجتمع، من قولك: كفتّ الشئ، وجمعته وصححته [فى العقد الفريد 1/ 172: «إذا جمعته وتمّمته]، والله أعلم. الأزر: فى العقد الفريد 1/ 171: «الأسر»؛ فى العقد 1/ 172: «مشدّد الأسر، أى الخلق» (6) خمسة. . . فقط: فى درر التيجان 84 آ:7 (حوادث 113): «خمسة أذرع وخمسة عشر إصبعا» //ثمانية. . . فقط: فى درر التيجان 84 آ:7 (حوادث 113): «سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا» (8) عبد الملك بن رفاعة: انظر هنا ص 391، الهامش الموضوعى، حاشية سطرين 17 - 18

بحاله، وكذلك ابن الحبحاب، والقاضى بن ميمون بحالهما. نكثة. عن عبد الملك بن عمير الليثى قال: كنت بحضرة هشام بن عبد الملك وقد نزل قصر الكوفة. فقلت: يا أمير المؤمنين، نظرت فى هذا القصر أعجوبة فيها معتبر، وحكيتها لأمير المؤمنين عبد الملك، وهو جالس كجلستك هذه. فقال: وما هى يا با يزيد؟ قلت: رأيت [رأس] الحسين بن علىّ عليه السّلام بين يدى عبيد الله بن زياد على ترس. ثم رأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يدى المختار على ترس. ثم رأيت رأس المختار بين يدى مصعب بن الزبير على ترس. ثم رأيت رأس مصعب بن الزبير بين يدى أمير المؤمنين عبد الملك على ترس. فحدّثته بذلك فنزل من يومه وخرج عن الكوفة. فقال هشام: لم لا آمر بهدم هذا القصر فإنه مشوم؟ ثم خرج عنه وأمر بهدمه من يومه. (263) وكان عبد الملك بن عمير أدرك من العمر ماية وعشرين سنة. (1) بن (ابن). . . بحالهما: فى درر التيجان 84 آ:8 (حوادث 113): «وعزل ميمون عن الحكم»، انظر هنا ص 357، حاشية سطر 2 (2 - 11) عن. . . يومه: انظر لطائف المعارف 142 باختلاف بسيط، قارن أيضا مروج الذهب 3/رقم 2015؛ وفيات الأعيان 3/ 165 (2) الليثى (لعل الأصح: اللخمى): فى المحبر 235: «الليثى»

ذكر سنة ماية وأربع عشرة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ماية وأربع عشرة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وخمسة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان، وعبد الملك بن رفاعة بحاله، وكذلك ابن الحبحاب. وعزل عبد الله بن ميمون عن القضاء، وكان قاضيا محمودا، وولى مكانه يزيد بن عبد الرحمن بن خداش. قلت: قد ذكرنا عند ذكر معبد طويس فى البيت الذى قال فيه الشاعر <من الطويل>: أجاد طويس والسّريجىّ بعده … وما قصبات السّبق إلاّ لمعبد (3) خمسة أذرع. . . إصبعا: فى درر التيجان 84 آ:12 (حوادث 114): «أربعة أذرع فقط» //سبعة: فى درر التيجان 84 آ:12 (حوادث 114): «أربعة» (6) عبد الملك بن رفاعة: انظر هنا ص 391، الهامش الموضوعى، حاشية سطرين 17 - 18 (7) عزل. . . القضاء: انظر كتاب الولاة /341/عبد الله بن ميمون: انظر هنا ص 357، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 2 (8) يزيد. . . خداش: حسب كتاب الولاة 342 تولى قضاء مصر القاضى توبة بن نمر الحضرمى بعد ابن ميمون سنة 115، قارن أيضا حكام مصر لفيستنفلد 44 (9) ذكرنا: انظر هنا ص 381:8 (11) أجاد. . . لمعبد: ورد البيت فى الأغانى 1/ 38

فوجب أن نذكر طويسا أيضا لإكمال الفايدة، ولما فى حديثه من الرقة. طويس لقب له غلب على اسمه. وإنما اسمه عيسى بن عبد الله، وكنيته أبو عبد المنعم. وغيّرها المخنّثون فجلوها أبا عبد النّعيم، وهو مولى بنى مخزوم. وعن أبى مسكين الدارمى قال: أول من غنى بالعربى بالمدينة طويس، وهو أول من ألقى الخنث بها، وكان طويلا أحول لا يضرب بالعود وإنما ينقر بالدّف. وكان ظريفا عالما بأمر المدينة وأنساب أهلها، وكان يتّقى للسانه. وسيل عن مولده فذكر أنه ولد يوم قبض سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وفطم يوم مات أبو بكر رضى الله عنه، وختن يوم قتل عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وزوّج يوم قتل عثمان رضى الله عنه، وولد له يوم قتل علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه، حتى ضرب بشؤمه المثل فقيل: أشأم من طويس، وهو الذى عناه الحريرى فى مقاماته، وأول (264) غناء غناه وهزج هزجه قوله <مجزوء الرمل>: كيف يأتى من بعيد … وهو يخفيه القريب نازح بالشأم عنّا … وهو مكسال هيوب قد برانى الحبّ حتى … كدت من وجدى أذوب (2 - 16) طويس. . . أذوب: ورد النص فى الأغانى 3/ 27 - 28، انظر أيضا الأغانى 4/ 219 - 223؛ نهاية الأرب 4/ 246 - 247، انظر ترجمته فى وفيات الأعيان 3/ 506 - 507 (12) أشأم من طويس: انظر مجمع الأمثال /1/ 542/الحريرى فى مقاماته: النص ناقص فى الأغانى 3/ 28

ذكر سنة ماية وخمس عشرة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ماية وخمس عشرة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان، وفيها توفى عبد الملك بن رفاعة متولى مصر. فولى مكانه الوليد بن رفاعة، وعزل بن الحبحاب وولاه إفريقية، وولى مكانه ابنه القسم بن عبيد الله بن الحبحاب، وولى القضاء الحيان بن خالد المدلجى، فتوفى فى هذه السنة. فولى مكانه توبة ابن نصر الحضرمى. (3) أربعة أذرع: فى درر التيجان 84 آ:18 (حوادث 115): «ثلاثة أذرع» //أربعة: فى درر التيجان 84 آ:18 (حوادث 115): «ستة» (4) عشرون إصبعا: فى درر التيجان 84 آ:18 (حوادث 115): «نصف إصبع» (6 - 7) وفيها. . . رفاعة: انظر هنا ص 391، الهامش الموضوعى، حاشية سطرين 17 - 18 (9) الحيان (لعل الأصح: الخيار). . . المدلجى: انظر هنا ص 402، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 8؛ حسب حكام مصر لفيستنفلد 44 تولى قضاء مصر القاضى خيار بن خالد المدلجى سنة 114، ثم تولى القضاء توبة بن نمر سنة 115 (9 - 10) توبة. . . الحضرمى: انظر كتاب الولاة 342

ومن كتاب الأغانى عن ابن مسكين قال: كان بالمدينة مخنّث يقال له النّغاشىّ، فقيل لمروان بن الحكم، وهو يوم ذاك أمير المدينة، إنه لا يقرأ القرآن ولا يحفظ شيا منه. فبعث إليه فأحضره وقال: اقرأ أمّ الكتاب. فقال: فو الله ما معى بناتها فكيف بالأم. أو قال: ما أقرأ البنات فكيف أقرأ الأمّ. فقال: أتهزأ لا أمّ لك! وأمر به فقتل فى موضع يقال له كبا فى بطحان. ثم قال: من جاءنى بمخنّث فله عشرة دراهم، فأتى من الجملة بطويس وهو فى بنى الحرث بن الخزرج من المدينة، وهو يغنى بشعر حسان بن ثابت <من المتقارب>: لقد هاج قلبى أشجانها … وعاودها اليوم أديانها فنفاه من المدينة فنزل السّويداء، وهى على ليلتين من المدينة (265) فى طريق الشام، فلم يزل بها عمره، وعمّر حتى مات فى ولاية الوليد بن عبد الملك، وقيل: إنه نزل أيضا بالعقيق كما يأتى شأنه. (1 - 12) عن. . . عبد الملك: ورد النص فى الأغانى 3/ 29 - 30، انظر أيضا نهاية الأرب 4/ 248 (5 - 6) كبا فى بطحان: فى الأغانى 3/ 29: «بطحان»، انظر أيضا الأغانى 3/ 29 حاشية 2؛ فى مراصد الاطّلاع 3/ 475: «كبا موضع ببطحان» (9) لقد. . . أديانها: لم أقف على هذا البيت فى ديوان حسان بن ثابت (10) فنفاه من المدينة: فى الأغانى 3/ 30: «فأخبر بمقالة مروان فيهم؛ فقال: أما فضّلنى الأمير عليهم بفضل حتى جعل فىّ وفيهم أمرا واحدا! ثم خرج حتى نزل. . .» (12) بالعقيق: انظر الأغانى 3/ 29 حاشية 2

ذكر سنة ماية وست عشرة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ماية وست عشرة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلثة أذرع فقط. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا ونصف إصبع محررا. ما لخص من الحوادث الخليفة هشام بن عبد الملك، والوليد بن رفاعة على حرب مصر، والقاسم بن عبيد الله بن الحبحاب على الخراج، والقاضى توبة بن نصر إلى أن استعفى فقيل له: أشر علينا من نولى! فقال: خير بن نعيم، فولى خير ابن نعيم القضاء. ومن كتاب الأغانى عن عوانة قال: قال هيث المخنّث لعبد الله بن أبى أمية: إن فتح الله عليكم بالطايف فسل النبى صلّى الله عليه وسلّم بادية بنت غيلان بن (3) ثلثة. . . فقط: فى درر التيجان 84 ب:2 (حوادث 116): «ذراعان وأربعة عشر إصبعا»؛ فى النجوم الزاهرة 1/ 276: «أربعة أذرع سواء» //ستة: فى درر التيجان 84 ب:2؛ النجوم الزاهرة 1/ 276: «أربعة» (3 - 4) نصف إصبع: فى درر التيجان 84 ب:2: «عشرون ونصف إصبع» (7 - 8) توبة. . . استعفى: فى كتاب الولاة 347: «فوليها توبة. . . إلى أن مات بها. . . مات توبة. . . سنة عشرين ومائة»، انظر أيضا حكام مصر لفيستنفلد 44،46 (8) خير بن نعيم: فى كتاب الولاة 348: «ثم ولى القضاء بها خير بن نعيم. . . فى شهر ربيع الآخر سنة عشرين ومائة» (10 - 7،407) عن. . . الجماء: ورد النص فى الأغانى 3/ 30 - 31 (10) هيث (هيت): انظر مثلا الإصابة 3/ص 614؛ الموطّأ لمالك بن أنس 2/ص 767

ذكر سنة ماية وسبع عشرة النيل المبارك فى هذه السنة

سلمة بن معنث، فإنها هيفاء شموع نجلاء، إن تكلّمت تغنّت، وإن قامت تثنّت، تقبل بأربع وتدبر بثمان مع ثغر كأنه الأقحوان، وبين رجليها كالإناء المكفوء كما قال قيس بن الخطيم <من المنسرح>: تغترق الطرف وهى لاهية … كأنما شفّ وجهها نزف بين شكول النّساء خلقتها … قصد ولا جبلة ولا قضف فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: لقد غلغلت النظر يا عدو الله، ثم جلاه عن المدينة إلى الجماء. ذكر سنة ماية وسبع عشرة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وعشرون ونصف إصبع. (266) ما لخص من الحوادث الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان، والوليد بن رفاعة على (1) شموع: انظر الأغانى 3/ 30 حاشية 2 (2) تقبل. . . بثمان: انظر الأغانى 3/ 30 حاشية 3 (4 - 5) تغترق. . . قضف: ورد البيتان فى ديوان قيس بن الخطيم ص 103 - 104 (7) الجماء: انظر الأغانى 3/ 31 حاشية 1 (10) أربعة عشر إصبعا: فى درر التيجان 84 ب:6 (حوادث 117): «ست أصابع» // أربعة: فى درر التيجان 84 ب:6 (حوادث 117): «سبعة» (13) الوليد بن رفاعة: فى كتاب الولاة 79: «وتوفى الوليد بن رفاعة. . . يوم الثلثاء مستهل جمادى الآخرة سنة سبع عشرة ومائة فاستخلف عليها عبد الرحمن بن خالد بن مسافر. . .»، كذا فى حكام مصر لفيستنفلد 45،52؛ كتاب الأنساب لزامبور 26

حرب مصر، والقاسم بن عبيد الله بن الحبحاب على خراجها، والقاضى بها خير بن نعيم. ومن كتاب الأغانى عن المداينى قال: كان عبد الله بن جعفر معه حداث له فى عشيّة من عشايا الربيع. فراحت عليهم السماء بمطر جود فأسال كل شئ. فقال عبد الله: هل لكم فى العقيق؟ وهو متنزّه أهل المدينة فى أيام الربيع والمطر؟ فركبوا دوابهم ثم انتهوا إليه ووقفوا على شاطه وهو يرمى بالزّبد مثل مدّ الفراة فإنهم لينظرون إذا هاجت السماء. فقال عبد الله لأصحابه: ليس معنا جنّة نستجنّ بها. وهذه سماء خليقة أن تبلّ ثيابنا. فهل لكم فى منزل طويس فإنه قريب منا فنسكن فيه ويحدّثنا ويضحكنا؟ قال: وطويس فى النّظّارة فسمع كلام عبد الله بن جعفر. فقال له عبد الرحمن بن حسان بن ثابت: جعلت فداك! وما تريد من طويس عليه غضب الله: مخنّث شاين لمن عرفه. فقال له عبد الله: لا تقل ذلك فإنه مليح خفيف لنا فيه أنس. فلما استوفى طويس كلامهم تعجّل إلى منزله. فقال لامرأته: ويحك! قد جاء سيد الناس، عندنا اليوم عبد الله بن جعفر، فما عندك؟ قالت: نذبح هذه العناق، وكانت عندها عنيّقة قد ربّتها للبن، فاختبزت رقاقا، وبادر فذبحها، وعجنت هى. ثم خرج فلقى عبد الله مقبلا إليه فقال له طويس: بأبى وأمى أنت، هذا المطر. فهل لك فى المنزل فتسكن فيه إلى أن تكفّ السماء؟ قال: إياك أردنا. وجاء يمشى (2) خير بن نعيم: انظر هنا ص 406، الهامش الموضوعى، حاشية سطرين 7 - 8 وحاشية سطر 8 (3 - 15،409) عن. . . فيها: ورد النص فى الأغانى 3/ 31 - 33 (4) حداث (أخدان): فى الأغانى 3/ 32: «إخوان»

بين يديه حتى نزلوا، فتحدّثوا حتى أدرك الطعام. فقال طويس: بأبى وأمى أنت، تكرمنى بأن تعشى عندى. قال: هات ما عندك. فجاءه بالعناق ورقاق (267) فأكل وأكل القوم حتى ما لهم بشئ من حاجة، وأعجبه طيب طعامه. فلما غسلوا أيديهم قال: بأبى وأمى أتمشّى لك وأغنيك؟ قال: بلى يا طويس. فتلحف ثم أخذ المربّع فتمشى وأنشأ يقول <من المديد>: يا خليلى نابنى سهدى … لم تنم عينى ولم تكد كيف يلحونى على رجل … اآنس تلتذّه كبدى مثل ضوء البدر طلعته … ليس بالزّمّيلة النّكد فطرب القوم، وقال عبد الله: أحسنت والله يا طويس. فقال: يا سيدى، أتدرى لمن الشعر؟ قال: لا والله، لا أدرى هو لمن، غير أنى سمعت شعرا حسنا. قال: هو لفارعة بنت ثابت بن حسان، وهى تتعشق عبد الرحمن بن الحرث بن هشام المخزومى وتقول فيه. فنكّس القوم رؤوسهم، وضرب عبد الرحمن بن حسان برأسه، فلو شقّت الأرض لدخل فيها. (5) المربّع: انظر الأغانى 3/ 33 حاشية 1 (14) برأسه: فى الأغانى 3/ 33: «برأسه على صدره»، انظر أيضا الأغانى 3/ 33 حاشية 5

[ذكر سنة ماية وثمان عشرة النيل المبارك فى هذه السنة

[ذكر سنة ماية وثمان عشرة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وستة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. > ما لخص من الحوادث < الخليفة هشام بن عبد الملك، والوليد بن رفاعة إلى أن توفى فولى مكانه عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهرى، والقسم وخير بحالهما، والله أعلم]. ذكر سنة ماية وتسع عشرة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع ونصف إصبع. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وستة أصابع. (3) ذراعان. . . أصابع: فى درر التيجان 84 ب:10 (حوادث 118): «خمسة أذرع ونصف إصبع» //سبعة: فى درر التيجان 84 ب:10 (حوادث 118): «خمسة»؛ فى النجوم الزاهرة 1/ 280: «ستة» (4) عشرون إصبعا: فى درر التيجان 84 ب:10 (حوادث 118): «ستة أصابع» (6) الوليد. . . توفى: انظر هنا ص 407، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 13 (7) عبد الرحمن. . . الفهرى: انظر كتاب الولاة 79 - /82/خير: انظر هنا ص 406، الهامش الموضوعى، حاشية سطرين 7 - 8 وحاشية سطر 8 (11) خمسة. . . إصبع: فى درر التيجان 84 ب:14 (حوادث 119): «أربعة أذرع فقط» //خمسة: فى درر التيجان 84 ب:14 (حوادث 119): «ستة» (12) ستة أصابع: فى درر التيجان 84 ب:14 (حوادث 119): «إصبعان ونصف إصبع»

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان، وعبد الرحمن بن خالد بحاله إلى أن توفى. فولى مكانه حنظلة بن صفوان الكلبى. والقسم بن عبيد الله على الخراج وخير بن نعيم على القضاء. ومن رواية بن الكلبى فى حديث طويس أن عمر بن عبد العزيز وهو على المدينة خرج يوما إلى السّويداء، وكان بصحبته يزيد بن بكر ابن دأب الليثى وسعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصارى فلقيهما طويس، فلقيهما وقد انفردا عن عمر بن عبد العزيز. (268) فقال لهما: بأبى وأمى أنتما! عرّجا إلى المنزل. فقال يزيد لسعيد: مل بنا مع أبى نعيم. فقال سعيد: أين نذهب مع هذا المخنث! فقال يزيد: إنما هو منزله ساعة حتى تكشف السماء. فمالا، واحتمل طويس الكلام من سعيد. فأتيا منزله فإذا هو قد نضحه، فأتاهما بفاكهة من فاكهة الماء. ثم قال يزيد: لو أسمعتنا يا با النعيم! فتناول دفّه ونقره وقال (3) توفى: فى النجوم الزاهرة 1/ 380: «. . . لما ضعف أمر عبد الرحمن بن خالد أمير مصر. . . فعزله الخليفة هشام. . . وولّى حنظلة. . .»، انظر أيضا حكام مصر لفيستنفلد 45 - /46/حنظلة. . . الكلبى: انظر كتاب الولاة 80 - 82 (4) خير بن نعيم: انظر هنا ص 406، الهامش الموضوعى، حاشية سطرين 7 - 8 وحاشية سطر 8 (5 - 14،413) بن (ابن) الكلبى. . . أهلى: ورد النص فى الأغانى 3/ 33 - 36 (10) أبى نعيم: فى الأغانى 3/ 33: «أبى عبد النّعيم» (11 - 12) احتمل. . . سعيد: انظر الأغانى 3/ 34 حاشية 1 (13) با (أبا) النعيم: قارن هنا حاشية سطر 10

الشعر الذى تقدم غير أنه زاد فيه ثلاثة أخر <من المديد>: فشرابى ما أصيغ وما … أشتكى ما بى إلى أحد من بنى المغيرة لا … خامل نكس ولا جحد نظرت يوما فلا نظرت … بعده عينى إلى أحد ثم ضرب بالدف الأرض. فقال سعيد: ما رأيت كاليوم قط شعرا أجود ولا غناء أحسن. فقال له طويس: يابن الحسام أو تدرى من يقوله؟ قال: لا والله. قال: قالته عمّتك خولة بنت ثابت تشبّب بعمارة بن الوليد ابن المغيرة المخزومى. فخرج سعيد وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط بمثل ما استقبلنى به هذا المخنّث! والله لا يفلتنى! فقال يزيد: دع هذا وأمته ولا ترفع به رأسا. وعن ابن مسكين قال: قدم بن سريج المدينة فغناهم، واستظرف الناس غناوه وآثروه على كل أحد من أهل صناعته، وطلع عليهم طويس فسمعهم يقولون ذلك، فاستخرج دفّه من حضنه، ثم نقر به وغناهم بشعر عمارة بن الوليد المخزومى فى خولة بنت ثابت، عارضها بقصيدتها فيه <من مجزوء الوافر>: يا خليلى نابنى سهدى … وصدّع حبّكم كبدى (1) تقدم: انظر هنا ص 409:7 - 9 (3) نكس ولا جحد: انظر الأغانى 3/ 34 حاشية 5 (14) عمارة بن الوليد: انظر ترجمته فى تاريخ التراث العربى لفؤاد سيزكين (بالألمانية) 2/ 273

فقلبى مشعر حزنا … بذات الخال فى الخدّ [فما لاقى ذوو عشق … عشير العشر من جهد فأقبل عليهم ابن سريج وقال: هذا والله أحسن الناس غناء]. (269) وعن المداينى أن طويسا تبع جارية فراوغته، فلم ينقطع عنها. فلما جازت بمجلس فيه قوم وقفت ثم قالت: يا هؤلاء، لى زوج ولى صديق ولى مولّى كلن ينكحنى. فسلوا هذا ما يريد منى! فقال: أضيّق ما وسّعوه منك. ثم أخرج دفه ونقر وجعل يتغنى <من مجزوء الوافر>: أفق يا قلب عن جمل … فجمل قطّعت حبلى أفق عنها فقد عنّي‍ … ت حولا فى هوى جمل وكيف يطيق محزون … بجمل هايم العقلى براه الحبّ فى جمل … وحسب الحبّ من ثقل [وحسبى قبل ما ألقى … من التّفنيد والعذل وقدما لامنى فيها … فلم أحفل بهم أهلى] (1) مشعر: فى الأغانى 3/ 35: «مسعر» (2) ذوو: فى الأغانى 3/ 35: «أخو» //عشير: انظر الأغانى 3/ 35 حاشية 3 (11) يطيق: فى الأغانى 3/ 36: «يفيق» (13) قبل: فى الأغانى 3/ 36: «فيك»

ذكر سنة عشرون وماية النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة عشرون وماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وإصبعان ونصف محررا. ما لخص من الحوادث الخليفة هشام بن عبد الملك، وحنظلة بن صفوان الكلبى على حرب مصر، والقسم بن عبيد الله بن الحبحاب على الخراج، وخير بن نعيم على القضاء. فيها كان ظهور أبو الحسين زيد بن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب عليهم السّلام. وأمه أم ولد يقال لها جيدا سندية. قال عوانة بن الحكم: لم تنجب سندية إلا أم زيد بن علىّ المشار إليه، وأم المفضل بن (3) أربعة. . . فقط: فى درر التيجان 84 ب:18 (حوادث 120): «ذراعان وعشرون إصبع» (3 - 4) إصبعان ونصف: فى درر التيجان 84 ب:18 (حوادث 120): «ثلثة عشر إصبعا» (7 - 8) خير بن نعيم: انظر هنا ص 406، الهامش الموضوعى، حاشية سطرين 7 - 8 وحاشية سطر 8 (9 - 10) ظهور. . . طالب: انظر الأعلام 3/ 98 - 99، والمراجع المذكورة هناك؛ مروج الذهب 6/ 362، والمراجع المذكورة هناك (10) جيدا: فى تاريخ الطبرى (كتاب الفهارس 111): «جيدا (حيدان) أم ولد للحسين» (11 - 1،415) المفضل بن المهلب: انظر الأعلام 8/ 205

ذكر سنة إحدى وعشرين وماية النيل المبارك فى هذه السنة

المهلب، وأم عبد الله بن خازم. طلب أبو الحسين زيد رضى الله عنه، وبايعه خلق كثير بالكوفة فى هذه السنة، وكانت له عدة وقعات مذكورة، وأقام كذلك إلى سنة أربع وعشرين وماية. فقتل رحمة الله عليه، وقيل قتل سنة ثلثين وماية وليس بصحيح. وقال الزبير بن بكار: قتل يوم الاثنين لليلتين خلتا (270) من صفر سنة عشرين وماية، وله يوم قتل اثنان وأربعون سنة. وصلب بالكوفة ولم يزل مصلوبا إلى سنة ست وعشرين وماية. ثم نزّل، [باشر قتلته يوسف ابن عمر وصلبه]. ذكر سنة إحدى وعشرين وماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلثة عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان، وحنظلة بن صفوان بحاله، وكذلك القسم بن عبيد الله، والقاضى خير بن نعيم بحالهما. فيها سقط نجم من السماء إلى الأرض حتى أضاءت له الدنيا. وكان (1) طلب: يبدو لى أن مفعول الجملة قد سقط: طلب [الخلافة] أو ما شابه (3 - 4) أربع. . . ماية: وفقا لفؤاد سزكين، تاريخ التراث العربى (بالألمانية) 1/ 556، قتل سنة 122 (11) عشرون إصبعا: فى درر التيجان 85 آ:1 (حوادث 121): «ست أصابع» //ستة: فى درر التيجان 85 آ:1 (حوادث 121): «خمسة» (12) ثلثة: فى درر التيجان 85 آ:1 (حوادث 121): «ثمنية»

ذكر سنة اثنين وعشرين وماية النيل المبارك فى هذه السنة

سقوطه بأرض الرقة. فأضاءت من نوره دمشق وأرضها. وأقام الضوء تقدير ما يقرأ الإنسان سورة يس ولم يحصل منه أذا فى الأرض. وتعجبت الناس لذلك عجبا شديدا، وورّخت الناس أعمار أولادهم بسقوط هذا النجم. ذكر ذلك بن الجوزى فى كتابه المعروف بمرآاة الزمان، وكان ذلك فى شهر رمضان من هذه السنة حتى قيل إنها كانت ليلة القدر منه والله أعلم. ذكر سنة اثنين وعشرين وماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وستة أصابع. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان، وحنظلة بن صفوان بحاله، وكذلك القسم بن عبيد الله والقاضى خير بن نعيم بحالهما. (4) بن (ابن) الجوزى. . . الزمان: للأسف لم أحصل على نسخة من المؤلّف للمقارنة (9) ذراعان. . . أصابع: فى درر التيجان 85 آ:5 (حوادث 122): «ذراعان فقط» // خمسة: فى درر التيجان 85 آ:5 (حوادث 122): «ثمانية» (10) ثمانية: فى درر التيجان 85 آ:5 (حوادث 122): «ثلاثة»

ذكر سنة ثلث وعشرين وماية النيل المبارك فى هذه السنة

فيها كان بمصر غلاء كثير، وسببه أن النيل أسرع فى هبوطه، وظهر تلك السنة فار عظيم (271) حتى إنه دخل إلى الدور بالمدينة وكثر وتزايد. وكثر القتل فيه وأروحت الدور والأزقة من كثرة قتله وموته. وحصل للناس من رايحته وباء كثير وضعف حتى لا كان يقدر الإنسان أن يفكر فى مأكول، وعاد كلما يأكله يقذفه. وكانت سنة شديدة على الناس بسبب الفار. ولم يزال الحال كذلك إلى سنة ثلث وعشرين. ذكر ذاك صاحب تاريخ القيروان وقال: إن هذا الفار أول ما ظهر بأرض القيروان وتوصل إلى مصر، وقال فى صفة خلقه إنه كان كبيره فى قدر القط، وصغيره فى قدر الخنفس. وكان أكثره بثلاثة أرجل يدين ورجل واحدة، وكان فيه شئ له زلومة كزلومة الفيل، وشئ له آذان كآذان المعز الزرابى وعدة أصناف أخر. ذكر سنة ثلث وعشرين وماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان فقط. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثلثة عشر إصبعا. (7) تاريخ القيروان: انظر هنا المقدمة الألمانية 9، انظر أيضا كنز الدرر 6/ 8 (المقدمة الفرنسية) (14) ذراعان فقط: فى درر التيجان 85 آ:9 (حوادث 123): «ثلاثة أذرع واثنان وعشرون إصبعا»

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان، وحنظلة بن صفوان بحاله، وكذلك القسم بن عبيد الله والقاضى خير بن نعيم. ولم تزال الناس من أهل مصر فى أشد ما يكون من ذلك الفار المقدم ذكره إلى أن طلع النيل المبارك وغرقه جميعه وغسل الأرض منه. وحصبت مصر تلك السنة خصبا حسنا، ورخصت الأسعار فيها، وكانت سنة كثيرة الخير والعافية وفصلت الناس من ذلك الضعف، لكن بعد أن أقاموا أربعة عشر شهر، وتوفى فيه خلق كثير من أعيان الناس، وكانت العاقبة فى هذه السنة إلى خير فلله الحمد والمنة. وفيها ظهر بالغرب رجل يعرف بالطيّار. ذكر صاحب تاريخ (272) الأندلس وقال إنه كان يوجد يوما بغرناطة وثانى يوم بطليطلة، وشاعت أخباره وتبعته الناس، وعاد له حشد عظيم ولا رآه أحد يأكل طعاما ولا يشرب ولا يتغوط. وأفسد عقول أهل جزيرة الأندلس، وتكلموا فيه بكلام كثير لا يسع إيراده. وآخر أمره أنه عدم ولا علم له خبر، وكانت مدة ظهوره إلى حين عدمه سنتين وأربعة أشهر ولا علم أحدا نسبه ولا أصله ولا من أين كان مأتاه ولا أين ذهب. وكان من حليته أنه رجل تام الخلق، حسن الصورة، أشقر اللون واللحية، غير (5) المقدم ذكره: انظر هنا ص 417:2 - 11 (11) تاريخ الأندلس: لم أعثر على هذا المؤلّف ومؤلفه؛ عن الطيّار انظر مقالة «جعفر بن أبى طالب» لفيتشا فالييرى 372

ذكر سنة أربع وعشرين وماية النيل المبارك فى هذه السنة

شايب، يتحدث بكل لسان ويعلم ساير العلوم، ويدرى جميع المذاهب والأديان، ولا ينكر على أحد دينه من ساير الأديان، ولا روى أنه صلا ولا فعل تكليفا. فحارت عقول الناس منه ولا علم له اسم غير أن الناس كانوا يقولون السيد السيد. وربما إن بالأندلس جمع كثير يعتقدونه إلى الآن يتوارثون الأبناء من الآباء، وهؤلاء الطايفة يعرفون بالسيدية، والله أعلم بحاله. ذكر سنة أربع وعشرين وماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلثة أذرع واثنان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثلثة عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان، وحنظلة إلى أن عزل، وولى مكانه حفص بن الوليد بن رفاعة، وضم إليه الخراج مع الصلاة، والقاضى خير بن نعيم بحاله. (9) ثلثة. . . إصبعا: فى درر التيجان 85 آ:13 (حوادث 124): «أربعة أذرع وثمانية أصابع» //اثنان وعشرون: فى النجوم الزاهرة 1/ 295: «اثنا عشر» //ثمانية: فى درر التيجان 85 آ:13 (حوادث 124): «ستة» (12) حنظلة إلى أن عزل: انظر كتاب الولاة 82 (13) حفص. . . رفاعة: فى كتاب الولاة 74: «حفص بن الوليد بن يوسف بن عبد الله بن الحارث بن جبل بن كليب بن عوف بن معاهر بن عمرو بن زيد بن مالك بن زيد بن الحارث بن عمرو بن حجر بن قيس بن كعب بن سهل بن زيد بن حضرموت»

ذكر سنة خمس وعشرين وماية النيل المبارك فى هذه السنة

قال صاحب تاريخ الأندلس: فى هذه السنة ضخم أمر الرجل المعروف بالسيد الطيار. واختلفت فيه الأقوايل. فمنهم من ادعى أنه جعفر ابن أبى طالب رضى الله عنه، وأن الله عز وجل أعاده حيا يطير (273) فى الدنيا حيث شاء. وهذه الطايفة يدعون أنهم شاعدوا له جناحان إذا أراد الطّيران نشرهما من تحت إبطيه. ومنهم من ادعى أنه صاحب خطوة وأنه قطع بحر الأندلس إلى الزاب فى خطوة. وأنهم كانوا رفقاؤه. ومنهم طايفة من النصارى قالوا: هذا عيسى بن مريم، وهذه صفته التى فى الإنجيل فعبدوه. ومنهم طايفة من المسلمين قالوا: فيه أقوال صعبة لا يسعنا ذكرها. وكان عدمه رحمة للناس لاختلاف الآراء فى أمره، والله أعلم بحقيقته. ذكر سنة خمس وعشرين وماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلثة عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة هشام بن عبد الملك إلى حين وفاته فى هذه السنة فى تاريخ (1) تاريخ الأندلس: انظر هنا ص 418، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 11 (13 - 14) الماء. . . إصبعا: حوادث سنة 125 ناقصة فى درر التيجان. (16) هشام. . . السنة: فى درر التيجان 85 آ:15 - 16 (حوادث 114): «فى هذه السنة توفى هشام. . . لست خلون من ربيع الآخرة من السنة المذكورة»

صفته رحمه الله

ما يأتى. وحفص بن الوليد على مصر حربها وخرابها، والقاضى خير بن نعيم بحاله. توفى بالرصافة من قنسرين لست بقين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وماية. وقد بلغ من العمر إحدى وستين سنة، وقيل ثلثة وخمسين سنة. والأول أصح. وصلى عليه ابنه مسلمة بن هشام. صفته رحمه الله كان أبيض أحول جسيم طويل جميل، يخضب بالسواد. مولده عام قتل فيه مصعب بن الزبير سنة اثنين وسبعين. فى تاريخ القضاعى منقلب العين، ربعة. كتّابه سالم مولاه، وسعيد بن عبد الملك. (4 - 5) العمر. . . سنة: فى تاريخ القضاعى، ص 148: «وسنه يوميذ ثلث وخمسون سنة وقيل أربع وخمسون وشهور وقيل ست وخمسون»؛ فى الكامل 5/ 261: «وعمره خمس وخمسون سنة، وقيل ست وخمسون سنة» (5) الأول أصح: وفقا لغابريالىّ، مقالة «هشام» 493، التاريخ الثانى هو الصواب// مسلمة: فى تاريخ القضاعى، ص 148: «مسلم» (8) تاريخ القضاعى: انظر تاريخ القضاعى، ص 148، انظر أيضا نهاية الأرب 21/ 460 (11 - 2،422) سالم. . . حارثة: فى نهاية الأرب 21/ 462: «سعيد بن الوليد، والأبرش الكلبى، ومحمد بن عبد الله بن حارثة»، قارن مقالات لبيوركمان 58

حجابه

[فى تاريخ القضاعى: سعيد بن الوليد الأبرش، ثم محمد بن عبد الله ابن حارثة والله أعلم]. حجّابه غالب مولاه وهو بن مسعود. نقش خاتمه الحكم للحكم الحكيم، والله أعلم. (274) ذكر خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك ابن مروان وبعض خبره كنيته أبو العباس الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم وباقى نسبه قد علم فيما تقدم، يلقب خليع بنى مروان والفاتك والزنديق. ذكر ذلك عنه أرباب التواريخ وأمرهم وأمره إلى الله. وإنما نحن ناقلوا أخبار ومتبعو آثار والعهدة فيما نذكره عنه على الأصل فى ذلك. (1) تاريخ القضاعى: انظر تاريخ القضاعى، ص 149 (4) غالب. . . مسعود: فى تاريخ القضاعى، ص 149: «غالب مولاه»، كذا فى نهاية الأرب 21/ 461 (6) الحكم. . . الحكيم: كذا فى تاريخ القضاعى، ص 149؛ نهاية الأرب 21/ 462 (7 - 8) الوليد. . . مروان: انظر سير أعلام النبلاء 5/ص 370 - 373

أمه تكنى أم الحجاج بنت محمد بن يوسف أخى الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبى عقيل الثقفى. بويع له وهو بالرصافة لسبع خلون من شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وماية، وله يوميذ ثمان وثلثون سنة. وكانت أيامه سنة وشهرين وأحد وعشرين يوما. وكان أبوه يزيد قد عهد له بعد هشام، وكان شاعرا فصيحا مصروف الهمة إلى الأكل والشرب واللهو والطرب. تحكى عنه أمور قباح من الاستهتار بأمر الدين والاشتهار بالمحارم. ونحن نذكر من ذلك طرفا والعهدة فيه على ناقله فى الأصل. فأما اشتهاره بالمحارم وتعمقه فى اللذات فقد ذكر صاحب كتاب الأغانى ما رواه عن عمرو بن القارى بن عدىّ قال: قال الوليد بن يزيد ابن عبد الملك يوما: لقد اشتقت إلى معبد، فوجّه البريد إلى المدينة فأتى به، وأمر الوليد ببركة قد هييت فمليت بالخمر والماء، وأتى بمعبد فأمر به فجلس، والبركة بينهما، وبينه وبينه ستر قد أرخى. فقال له: يا معبد غننى. صوت <من البسيط>: لهفى على فتية ذلّ الزمان لهم … فما يصيبهم إلا بما شاءوا (1 - 2) أمه. . . الثقفى: انظر الأغانى 7/ 1 (3) لسبع: فى مروج الذهب 4/رقم 2236: «لست»، انظر أيضا كتاب الأنساب لزامبور 3 (5) أحد: فى تاريخ القضاعى، ص 151: «اثنين» (10 - 10،424) عمرو. . . رأيت: ورد النص فى الأغانى 1/ 52 - 53، انظر أيضا نهاية الأرب 4/ 262 - 267 (15) يصيبهم: فى الأغانى 1/ 52: «أصابهم»

ما زال يعدوا عليهم صرف دهرهم … حتى تفانوا وريب الدهر عدّاء (275) أبكى فراقهم عينى وأرّقها … إن التفرّق للأحباب بكّاء قال: فغناه إياه والغنى فيه لمعبد. فرفع الوليد الستر ونزع ملاه مطيّبة كانت عليه، وقذف نفسه فى تلك البركة. فنهل فيها حتى بان ظهره. ثم أتوه بأثواب غيرها وتلقّوه بالمجامر والطيب ولفف فى تلك الأثواب المطيبة وجلس ثم قال: صوت <من الكامل>: يا ربع ما لك لا تجيب متيّما … قد عاج نحوك زايرا ومسلّما جادتك كلّ سحابة هطّالة … حتى ترى عن زهرة متبسّما قال: فغناه إياه، والغنى فيه لمعبد. فدعا له بآلاف من دنانير وبدر من دراهم فصبّها بين يديه ثم قال له: انصرف إلى أهلك واكتم ما رأيت. وأما استهتاره بأمر الدين فقد ذكر الطبرى والمسعودى وغيرهما من أرباب التاريخ ممن عنوا بجمع أخبار العالم أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك نظر يوما فى المصحف لينظر فأله فطلع له: {وَاِسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبّارٍ عَنِيدٍ، مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ!}، الآية. فمزق المصحف وأنشد يقول <من الوافر>: (1) صرف: فى الأغانى 1/ 52: «ريب» (11) الطبرى: انظر تاريخ الطبرى 2/ 1775 (12 - 2،425) الوليد. . . الوليد: ورد النص فى مروج الذهب 4/رقم 2244 باختلاف بسيط؛ الأغانى 7/ 49؛ النجوم الزاهرة 1/ 299

ذكر سنة ست وعشرين وماية النيل المبارك فى هذه السنة

تهدّدنى بجبّار عنيد … فها أنا جبّار عنيد إذا ما جيت ربّك يوم حشر … فقل يا ربّ مزّقنى الوليد فلم يعش بعدها إلا أيام قلايل ومات. ذكر سنة ست وعشرين وماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وستة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وإصبع ونصف محررا. (276) ما لخص من الحوادث الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك إلى حين وفاته فى هذه السنة فى تاريخ ما يأتى. وكان قد عزل حفص وولى مكانه عيسى بن أبى عطاء، والقاضى خير بن نعيم بحاله. (1) تهدّدنى. . . عنيد: فى الأغانى 7/ 49؛ مروج الذهب 4/رقم 2244: «أتوعد كلّ جبّار عنيد» (2) ما جيت: فى الأغانى 7/ 49: «لا قيت» (6) عشرون: فى النجوم الزاهرة 1/ 300: «ستة عشر» //ستة: فى النجوم الزاهرة 1/ 300: «سبعة» (7) إصبع ونصف: فى النجوم الزاهرة 1/ 300: «اثنى عشر إصبعا» (10 - 11) ولى. . . عطاء: فى النجوم الزاهرة 1/ 291 (حوادث 124): «ثم صرفه [يعنى حفص] الخليفة الوليد بن يزيد. . . عن الخراج وولاّه عيسى بن أبى عطاء يوم الثلاثاء لسبع بقين من شوال سنة خمس وعشرين ومائة، وانفرد بالصلاة. . .»، انظر أيضا حكام مصر لفيستنفلد 46

وتوفى لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين وماية، وعمره يوميذ أربعين سنة وقيل: إحدى وأربعين، واختلف فى سبب موته. فذكر جماعة من المؤرخين أنه كان متصيدا على أميال من تدمر وأنه شرب حتى ثمل، وركب حصانه فأتا به إلى فجوة بين جبلين، فأعنته أن يقفز به تلك الفجوة، فألقاه فيها فمات. ومنهم من ذكر أن الحصان رما به ورمحه على قلبه فلم يختلج. وعن الدولابى والواقدى رحمهما الله تعالى، وهما من علماء التاريخ أن يزيد ابن عمه الوليد نفّذ خلفه عبد العزيز بن الحجاج بن يوسف، فتتبعه حتى قتله على أميال من تدمر فى التاريخ المذكور، وكان قبل ذلك (1) لليلتين بقيتا: فى درر التيجان 85 ب:13 (حوادث 116) «نهار يوم الخميس لثلث بقين»؛ وفقا للامنس، مقالة «الوليد بن يزيد» 1204، قتل فى 17 أبريل سنة 744 (2) وعمره. . . إحدى وأربعين: فى تاريخ القضاعى، ص 151: «وله اثنتان وأربعون سنة»؛ فى مروج الذهب 4/رقم 2236: «وهو ابن أربعين سنة» (3 - 3،427) أنه. . . مولاهم: فى درر التيجان 85 ب:2 - 4 (حوادث 124): «أنه ركب ذلك اليوم وقد اشتد به السكر فأتا [الأصح: فأتى] إلى فجوة بين جبلى [الأصح: جبلين]. فضرب حصانه ليوتب به تلك الفجوة فنزل به على أم مخّه فهلك هو والجود جميعا، ومنهم من ذكر أنه تقطر عن حصانه فضربه الحصان بحافره فمات من يومه. وعن الدولابى والواقدى وهما من علماء التاريخ أن الوليد قتل على أميال من تدمر لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين وماية، وعمره يوميذ أربعون سنة. قتله بن [الأصح: ابن] عمه يزيد بن الوليد بأمر منه لعبد العزيز بن الحجاج بن يوسف فباشر قتله» (8 - 1،427) يزيد. . . عثمان: انظر تاريخ القضاعى، ص 150 - 151

صفته

قد أخذ البيعة لابنيه الحكم وعثمان. فأغرا ذلك الحال ابن عمه يزيد فعمل على قتله فقتل وهو الصحيح. [وقيل الذى باشر قتله وجه الفاس مولاهم والله أعلم. صفته جميل جسيم، أبيض مشرب حمرة، ربعة، قد وخطه الشيب وقيل: كان طويلا. كتّابه سالم مولاه ومن بعده يوسف بن مهرويه وعاص بن مسلم. حجّابه عيسى بن مقسم ثم مولاه قطرىّ. نقش خاتمه يا وليد احذر الموت، و. . . الوليد والله أعلم]. (2 - 3) وقيل. . . مولاهم: انظر تاريخ القضاعى، ص 151 (8) سالم. . . مسلم: فى تاريخ القضاعى، ص 152: «العباس بن مسلم»، كذا فى نهاية الأرب 21/ 487، قارن مقالات لبيوركمان 58 (10) عيسى. . . قطرىّ: فى تاريخ القضاعى، ص 152: «قطرى مولاه»، كذا فى نهاية الأرب 21/ 487 (12) يا وليد. . . الموت: كذا فى تاريخ القضاعى، ص 151؛ نهاية الأرب 21/ 487

ذكر خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك ابن مروان وبعض خبره

ذكر خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك ابن مروان وبعض خبره كنيته أبو خالد يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان وباقى نسبه قد علم فيما تقدم، ويلقب يزيد الناقص لأنه نقص الناس أعطياتهم وقيل لقصر يديه. كان ناقص الوركين فسمى لذلك، ويقال إن جده يزدجرد كان مخدجا ناقص الوركين. فضرب إليه فى الشبه. ولد فى الكعبة فى حياة أبيه الوليد. أمه شاهفرند بنت فيروز بن كسرى يزدجرد بن شهريار. بويع له لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة (277) سنة ست وعشرين وماية: وله خمس وثلثون سنة وقيل: ست وأربعون سنة. وكانت أيامه خمسة أشهر ويومين. (1 - 2) يزيد. . . مروان: انظر سير أعلام النبلاء 5/ص 374 - 376 (4 - 5) يلقب. . . لذلك (كذلك): قارن الكامل 5/ 291؛ مروج الذهب 4/رقم 2254 (4) لأنه. . . أعطياتهم: فى درر التيجان 85 ب:15 - 16 (حوادث 116): «فإن أباه الوليد. . . كان قد زاد فى أعطيات الناس، [لما] ولى يزيد قطع ذلك ونقصهم فسمى بالناقص» (7) شاهفرند: فى لطائف المعارف 80: «شاه فرند»، انظر لطائف حاشية 5؛ الترجمة الإنكليزية لبوسورث /81/شهريار: انظر لطائف المعارف 80 حاشية 6 (9 - 10) كانت. . . يومين: فى مروج الذهب 4/رقم 2169: «فكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيّام» وأيضا يومين: فى تاريخ القضاعى، ص 152: «أياما»

صفته

كان فصيحا معجبا بنفسه وأظهر حسن السيرة. وكان لما أفضى إليه الأمر قبض على الحكم وعثمان ولدى الوليد واعتقلهما، ولم يزالا فى الحبس إلى أن ولى مروان الحمار فقتلا حسبما يأتى من خبرهما فى موضعه إنشاء الله تعالى. ويقال إن الوليد بن يزيد حمل وصلى عليه إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، ودفن بباب الفراديس. وقال الدولابى: حمل رأسه إلى دمشق ونصب فى مسجدها، ولم يزل أثر دمه على الجدران إلى أن قدم المأمون دمشق سنة خمس عشرة ومايتين فأمر بحكه. توفى يزيد رحمه الله فى ذى الحجة من هذه السنة، وصلى عليه أخوه إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك. ثم نبشه مروان الجعدى فى أيام خلافته وصلبه ميتا. [فى تاريخ القضاعى أنه توفى بعد الأضحى بالطاعون، وله أربعون سنة]. صفته أسمر، حسن الوجه، معتدل القد، أعرج، خفيف العارضين. (8) سنة. . . مايتين: انظر الكامل 6/ 418 (8 - 9) توفى. . . السنة: فى درر التيجان 86 آ:2 (حوادث 126): «ومات مسموما وقيل بل حتف أنفه فى ذى الحجة سنة ست وعشرين وماية» (11) تاريخ القضاعى: انظر تاريخ القضاعى، ص 152

كتابه

كتّابه الربيع بن عرعرة الحرشى، وليث بن سليمن، وبكر بن شمّاخ أيضا. حجّابه قطن، وقطرىّ وسلام مولياه. نقش خاتمه يا يزيد، قم بالحق تصيبه، والله أعلم. ذكر خلافة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك ابن مروان وبعض خبره كنيته أبو إسحق إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان وباقى (2) الربيع. . . شمّاخ: فى تاريخ القضاعى، ص 153: «ثابت بن سليمان»، كذا فى نهاية الأرب 21/ 504، قارن مقالات لبيوركمان /58/الربيع بن عرعرة: انظر تاريخ الطبرى /2/ 839/بكر (بكير) بن شمّاخ: فى تاريخ الطبرى 2/ 838 (حوادث 72): «. . . وكان يكتب للوليد بن يزيد بكير بن الشمّاخ» (5) قطن. . . مولياه: فى تاريخ القضاعى، ص 153: «قطن مولاه وقيل سلام»، فى نهاية الأرب 21/ 505: «قطرىّ مولاه. وقيل سلام» (7) يا. . . تصيبه (تصبه): فى تاريخ القضاعى، ص 153: «يا يزيد قم بالحق»؛ فى نهاية الأرب 21/ 504: «يا يزيد، قم بالحق. وقيل: كان نقش خاتمه: العظمة لله» (8 - 9) إبراهيم. . . مروان: انظر سير أعلام النبلاء 5/ص 376 - 377 (8) إبراهيم. . . الملك: فى درر التيجان 86 آ:4 (حوادث 126): «وهنا خلاف فى نسبه هل هو الوليد بن يزيد أو الوليد بن عبد الملك»

نسبه فقد علم، يلقب المخلوع. أمه أم ولد خرسانية، كانت أمة لمصعب ابن الزبير. وقال المداينى: هى أمة بربرية. وفى تاريخ القضاعى أن أمه أم ولد اسمها نعمة، وقيل اسمها خشف، وكان عاجزا ضعيف الرأى، وكان أتباعه يسلّمون عليه تارة بالخلافة وثارة بالإمرة. بويع (278) له فى ذى الحجة سنة ست وعشرين وماية وله ثمان وثلثون سنة. وقيل غير ذلك، وكانت أيامه سبعين يوما وقيل: شهرين وأحد وعشرين يوما. وقيل: شهرين وعشرة أيام. وتوفى فى سنة اثنين وثلثين وماية لأن مروان بن محمّد بن مروان خلعه، وبقى بعد ذلك إلى هذا التاريخ. فقتله أبو عون يوم الزاب معمن قتل من بنى أمية. وقيل غرق، وقيل بل قتله مروان فى هذا التاريخ وصلبه، والله أعلم. (1) أمه. . . خرسانية (خراسانية): قارن مقالة «إبراهيم بن الوليد» لكريمونيسى 3/ 990 (2 - 4) تاريخ. . . بالإمرة: ورد النص فى تاريخ القضاعى، ص 153 (4 - 8) أتباعه. . . ماية: قارن الكامل 5/ 311 (7) شهرين. . . أيام: كذا فى تاريخ القضاعى، ص 154 (8 - 11) مروان. . . صلبه: انظر مقالة «إبراهيم بن الوليد» لكريمونيسى 3/ 990؛ حكام مصر لفيستنفلد 47 (9) أبو: فى تاريخ القضاعى، ص 154: «ابن»

ذكر سنة سبع وعشرين وماية النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة سبع وعشرين وماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وثلثة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك إلى حين خلع فى هذه السنة فى تاريخ ما يأتى ذكره. سبب خلع إبراهيم بن الوليد أن مروان بن محمد بن مروان كان واليا على أرمينية من قبل الوليد بن يزيد بن عبد الملك. فلما بلغه قتله الوليد، سار إلى يزيد يطلب بدمه، فمات يزيد قبل وصوله، وولى أخوه إبراهيم. ووصل مروان إلى حمص وعسكر بها. فأنفذ إليه إبراهيم جيشا عليه سليمان بن هشام فالتقيا. فدعاهم مروان إلى الكف عن قتاله والتخلية عن الغلامين الحكم وعثمان ابنى الوليد المقتول، وكانا فى السجن كما تقدم من ذكرهما بحبس دمشق. وضمن عنهما أنهما لا يؤخذ لهما بقتل أبيهما، فأبو عليه واقتتلوا فانهزم سليمان ابن هشام ومن معه. وقتل من (3) ثلثة. . . إصبعا: فى النجوم الزاهرة 1/ 304: «ثلاثة أصابع» (8) سبب. . . الوليد: انظر مقالة «إبراهيم بن الوليد» لكريمونيسى 3/ 990 - 991؛ مقالة «مروان الثانى بن محمد» لزيترستين 3/ 365 - 366 (8 - 10،433) مروان. . . المؤمنينا: ورد النص فى تاريخ القضاعى، ص 155 - 156 (14) ضمن. . . لهما: فى تاريخ القضاعى، ص 156: «ضمن لهم عنهما أن لا يؤاخذاهم»

صفة إبراهيم المخلوع

عسكره خلق كثير. وأخرج مروان الأسراء من جيش سليمان، فأخذ (279) عليهم البيعة للغلامين ابنى الوليد المحبوسين، وخلا عنهم. فانضموا إليه، ورجع سليمان إلى دمشق مهزوما. واجتمع رأيه ورأى إبراهيم على قتل الغلامين، فأنفذ إليهما من خنقهما وشدا فى العهد مقتولين. ونهب سليمان ما كان فى بيت المال وقسمه وهرب. ودخل مروان دمشق وأتى بالغلامين مقتولين فأمر بدفنهما وأتى بأبى محمد السفيانى فى قيوده وكان معهما فى السجن. فسلم على مروان بالخلافة فقال له مروان: مه؟ فقال: إنهما جعلاها لك. وأنشده بيتا ادعى أن الحكم قاله فى السجن بموافقة أخيه له فى ذلك وهو <من الوافر>: فإن أقتل أنا وولىّ عهدى … فمروان أمير المؤمنينا ثم خلع إبراهيم، وبويع لمروان بهذا السبب، والله أعلم. صفة إبراهيم المخلوع جميل، جسيم، أبيض مشرب حمرة، خفيف العارضين، صغير العينين، طويل، له ضفيرتان. كتّابه إبرهيم بن أبى جمعة. حجّابه قطرىّ مولى الوليد، ثم وردان مولاه. (10) فإن. . . المؤمنينا: ورد البيت فى تاريخ الطبرى فى 2/ 1891؛ الكامل 5/ 323 (16) إبرهيم. . . جمعة: فى تاريخ القضاعى، ص 154: «ركين بن السراج اللخمى»؛ فى نهاية الأرب 21/ 507: «بكير بن السراج اللخمى»، قارن مقالات لبيوركمان 58 (18) قطرىّ. . . مولاه: كذا فى نهاية الأرب 21/ 507؛ فى تاريخ القضاعى، ص 154: «قطن مولى الوليد ثم وردان مولاه»

نقش خاتمه

نقش خاتمه توكلت على الله الحق، وقيل: إبراهيم يثق بالله. ذكر خلافة مروان بن محمد بن مروان آخر ملوك بنى أمية كنيته أبو عبد الملك مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبى العاص، وباقى نسبه معروف، يلقب الحمار والجعدىّ وأحمر ثمود والكردى. فأما سبب تلقيبه بالحمار فلعلتين. أحدهما أن العرب قديما كانوا يسمون رأس كل ماية سنة حمارا. فلما كانت خلافته على رأس ماية سنة من ملك بنى أمية لقبوه بذلك. ذكر ذلك الثعالبى، رحمه الله. وأما العلة الثانية، فإنه كان لا يملّ الحرب ويقف ويحرن ويصبر، فقيل: (280) أصبر من حمار. وأما تلقيبه بالجعدىّ فإن الجعد بن درهم كان معلمه. ويقال إنه خاله، وكان فيما قيل عنه زنديقا. فنسب إليه، ولقب به. (2) توكلت. . . بالله: فى تاريخ القضاعى، ص 154: «توكلت على الحى القيوم»، كذا فى نهاية الأرب 21/ 507 (3) مروان. . . مروان: انظر سير أعلام النبلاء 6/ص 74 - 77 (6) أحمر ثمود: قارن لسان العرب 5/ 294 (10) الثعالبى: انظر لطائف المعارف 43، انظر أيضا الترجمة الإنكليزية لبوسورث 61 حاشية 34 (11 - 14) وأما. . . به: انظر لطائف المعارف 43، انظر أيضا الترجمة الإنكليزية 61 حاشية 37 (13 - 14) يقال إنه خاله: كذا فى تاريخ القضاعى، ص 155

وأما تلقيبه بأحمر ثمود فإنه كان أشقر أحمر أزرق ولقبه بذلك بنو العباس والعلويين. ولقبوه أيضا بالمرتد وزعموا أنه توهد، ذكر ذلك الجاحظ فى كتاب حجة قحطان على عدنان. وأما الكردى فإن أمه كردية، وجدها أبوه محمد حين قتل إبراهيم ابن الأشتر مع مصعب بن الزبير. وكانت حاملا على ما ذكر من زربى طباخ إبراهيم، فوطيها محمد بن مروان. فأتت بمروان على فراشه، وقد نسب مروان إلى زربى غلام إبراهيم بن الأشتر. ذكر ذلك الثعالبى فى كتاب لطايف المعارف. بويع له فى صفر سنة سبع وعشرين وماية، فكانت أيامه منذ سلم إليه الأمر إبراهيم بن الوليد إلى أن ظهر السفاح بالكوفة وبويع بالخلافة خمس سنين وشهرا، وبعد بيعة أبى العباس السفاح سبعة أشهر محاربا هاربا، والجيوش فى طلبه، إلى أن أدرك ببوصير قرية من قرى مصر فى غربى النيل، كما يأتى بيانه فى تاريخه إنشاء الله تعالى. (1) بأحمر ثمود: انظر هنا ص 434، الهامش الموضوعى، حاشية سطر /6/أشقر. . . أزرق: فى لطائف المعارف 105: «ومروان الحمار: أشقر أزرق»، انظر الترجمة الإنكليزية لبوسورث 93 حاشية 27 (3) الجاحظ. . . عدنان: هذا الكتاب مفقود (8) كتاب. . . المعارف: لم أقف على هذا النص فى لطائف المعارف (9 - 11) فكانت. . . أشهر: فى تاريخ القضاعى، ص 158: «فكانت ولايته إلى أن بويع للسفاح خمس سنين وشهرا وإلى أن قتل خمس سنين وعشرة أشهر»

ذكر سنة ثمان وعشرين ماية النيل المبارك فى هذه السنة

فيها عزل مروان حفصا عن مصر وولى مكانه حسان بن عتاهية. فوثب أهل مصر بحسان، فعزله وأعاد إليهم حفصا، القاضى خير بن نعيم بحاله والله أعلم. ذكر سنة ثمان وعشرين ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان واثنان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وإصبع واحد. ما لخص من الحوادث (281) الخليفة مروان بن محمد بن مروان. وفيها حوثرة بن سهل ولى مصر، ودخلها فى المحرم وقتل حفصا واستقر أمره، وعيسى بن أبى العطاء على الخراج، والقاضى خير بن نعيم بحاله. وفيها بويع لعبد الله بن معوية بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب عليهم السلم بإصبهان. وقيل إن بيعته كانت فى سنة سبع وعشرين وماية، (1) حسان. . . عتاهية: انظر كتاب الولاة 85 (7) إصبع واحد: فى درر التيجان 86 آ:21: «إصبع ونصف» (9 - 10) فيها. . . حفصا: انظر كتاب الولاة 88 - 91 (10 - 11) عيسى. . . الخراج: انظر النجوم الزاهرة 1/ 301 (11) خير بن نعيم: فى كتاب الولاة 352: «عزل خير عن القضاء، عزله الحوثرة لمستهل سنة ثمان وعشرين ومائة»؛ فى كتاب الولاة 353: «ثم ولى القضاء بها عبد الرحمن ابن سالم. . . فى المحرم سنة ثمان وعشرين ومائة» (12) لعبد الله. . . طالب: انظر الأعلام 4/ 282 - 283؛ تاريخ الطبرى 2/ 1879 - 1887؛ الكامل 5/ 324 - 326، انظر أيضا زيترستين، مقالة «عبد الله بن معاوية» 48 - 49

ذكر سنة تسع وعشرين وماية النيل المبارك فى هذه السنة

وضخم أمره وملك فارس وكرمان، وكان بينه وبين عمال مروان حروب ووقايع متعددة، ولم يزل إلى أن جاءت الدولة العباسية، فحاربه مالك بن الهيتم صاحب أبى مسلم فأسره وأتى به إلى أبى مسلم فحبسه. ثم قتله ويقال: مات فى حبسه والله أعلم. ذكر سنة تسع وعشرين وماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلثة أذرع وتسعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثلثة عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة مروان بن محمد بن مروان، وحوثرة بن سهل على حرب مصر، وعيسى بن أبى العطاء على الخراج، وفيها ولى عبد الرحمن بن سالم الجيشانى القضاء بمصر. وفيها كان ظهور أبى مسلم الخراسانى بمرو يوم الجمعة لسبع بقين من شهر رمضان المعظم. والوالى بها وبخراسان نصر بن سيّار الليثى من قبل مروان بن محمد. فكتب نصر بن سيّار إلى مروان كتابا يعرفه ذلك وفى آخره يقول <من الطويل>: (11 - 12) عبد الرحمن. . الجيشانى: انظر هنا ص 436، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 11 (15 - 11،439) فكتب. . . العباس: ورد النص فى وفيات الأعيان 3/ 149 - 151، قارن أيضا تاريخ الطبرى 2/ 1949 - 1976،1984 - 2006؛ الكامل 5/ 254 - 258،356 - 370

أرى جذعا إن يثن لم يقو ريّض … عليه، فبادروا قبل أن يثنى الجذع وكان مروان مشغولا عنه بغيره من الخوارج بالجزيرة وغيرها (282) فلم يجبه عن كتابه. وأبو مسلم إذ ذاك فى خمسين رجل فكتب إليه ثانية قول أبى مريم عبد الله بن إسمعيل البجلى الكوفى. وكان أبو مريم منقطعا إلى نصر بن سيار، وكان له مكتب بخراسان. فكتب إليه هذه من جملة أبيات <من الوافر>: أرى خلل الرماد وميض نار … ويوشك أن يكون لها ضرام فإن النار بالزندين تورى … وإنّ الحرب أولها كلام لأن لم يطفها عقلاء قوم … يكون وقودها جثث وهام أقول من التعجّب ليت شعرى … آأيقاض أميّة أم نيام فإن كانوا لحينهم نياما … فقل هبوا فقد حان القيام قلت: وهذا أخذه بعض العباسيين، لما خرج محمد بن عبد الله بن الحسين بن الحسن بن علىّ بن أبى طالب رضوان الله عليهم على أبى جعفر المنصور، وكان مع محمد أخيه إبراهيم بن عبد الله فقال <من الوافر>: (7 - 8) أرى. . . كلام: ورد البيتان فى الأغانى 7/ 56؛ تاريخ الطبرى 2/ 1973؛ الكامل 5/ 365، 366 (7) لها: فى المصادر المذكورة: «له» (10) أقول. . . نيام: ورد البيت فى الأغانى 7/ 56؛ تاريخ الطبرى 2/ 1973؛ الكامل 5/ 365 (12) قلت. . . العباسيين: فى وفيات الأعيان 3/ 150: «وهذا مثل ما يحكى عن بعض علوية الكوفة أنه قال»

ذكر سنة ثلثين وماية النيل المبارك فى هذه السنة

أرى نار تشبّ على يفاع … لها فى كل ناحية شعاع وقد رقدت بنو العباس عنها … وباتت وهى آمنة رتاع كما رقدت أميّة ثم هبّت … تدافع حين لا يغنى الدفاع ثم إن [ابن] سيار انتظر ما يكون من أمر مروان، وأبطى عنه الجواب، واشتدت شوكة أبى مسلم، فهرب نصر بن سيار من خراسان وقصد العراق فمات فى الطريق بناحية ساوة. ولما كان يوم الثلثاء لليلتين بقيتا من المحرم سنة اثنى وثلثين وماية، [وقيل فى سنة إحدى وثلثين وماية] وثب أبو مسلم على ابن الكرمانى بنيسابور فقتله، وقعد فى الدست وسلّم عليه بالإمرة، وصلى وخطب ودعا للسفاح أبى العباس عبد الله (283) بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن عباس أول خلفاء بنى العباس فيما يأتى ذكره فى تاريخه إنشاء الله تعالى. ذكر سنة ثلثين وماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وثلثة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأربعة أصابع ونصف. (11) يأتى. . . تاريخه: انظر كنز الدرر 5/ 459

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفة مروان بن محمد بن مروان، وحوثرة بحاله إلى أن عزل وولى مكانه عبد الملك النصيرى، وضم إليه الحرب والخراج بمصر، والقاضى عبد الرحمن بن سالم الجيشانى بحاله. قد ذكرنا أبو مسلم وظهوره، فلنذكر الآن نسبه وأصله وكيفية مبتدأ أمره. ولعمرى إنّ ذلك قليلا أن يوجد فى تاريخ غير تاريخ القاضى بن خلكان رحمه الله تعالى. ذكر أبو مسلم ونسبه ولمعا من خبره هو أبو مسلم عبد الرحمن بن مسلم. وقيل اسمه عثمان، وقيل إبراهيم بن عثمان بن يسار بن شذوس بن حودر من ولد بزرجمهر بن البختكان الفارسى. هكذا وجدت نسبه فى كتاب الجمهرة. (2 - 3) عزل. . . النصيرى: فى كتاب الولاة 92 - 93: «ثم صرف الحوثرة عنها فى جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين ومائة. . . ثم وليها المغيرة بن عبيد الله الفزارىّ. . . قدمها يوم الأربعاء لست بقين من رجب سنة إحدى وثلاثين ومائة. . . كانت وفاته يوم السبت لثنتى عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين ومائة. . . واستخلف ابنه الوليد. . . ثم صرف الوليد. ثم وليها عبد الملك بن مروان النصيرىّ. . . وليها فى جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومائة»، انظر أيضا حكام مصر لفيستنفلد 48،52؛ كتاب الأنساب لزامبور 26 (8 - 18،443) أبو (أبى). . . الأسد: ورد النص فى وفيات الأعيان 3/ 145 - 149،152 (11) هكذا. . . الجمهرة: هذه الإشارة ليست فى وفيات الأعيان 3/ 145؛ لم أقف على نسبه فى جمهرة النسب لابن الكلبى

وكان أبوه من رستاق فريذين من قرية تسمى سنجرد. وقيل إنه من قرية يقال لها حوان على ثلثة فراسخ من مرو. وكانت هذه القرية له مع عدة قرى، وكان بعض الأحيان يجلب إلى الكوفة المواشى. ثم إنه قاطع على رستاق فريذون فلحقه فيه عجز. وأنفذ عامل البلد إليه يشخصه إلى الديوان. وكان له عند أذين بنداذ بن وستجان جارية اسمها وشيكة جلبها من الكوفة. فأخذ الجارية معه وهى حامل، وتنحّى عن (284) مؤدّى خراجه آخذا إلى أذربيجان. فاجتاز إلى رستاق فاتق بعيسى بن معقل ابن عمير أخى إدريس بن معقل جد أبى دلف العجلى. فأقام عنده أياما فرأى فى منامه كأنه جلس للبول فخرج من إحليله نار فارتفعت فى السماء وسدّت الآفاق وأضاءت الأرض ووقعت بناحية المشرق. فقصّ رؤياه على عيسى بن معقل فقال: ما أشك أن فى بطنها غلاما، وسيكون له شأن من الشأن. ثم فارقه ومضى إلى أذربيجان ومات بها. ووضعت الجارية أبا مسلم ونشأ عند عيسى. فلما ترعرع، اختلف مع ولده إلى المكتب. فخرج أديبا لبيبا يشار إليه من صغره. ثم اجتمع على عيسى بن معقل وأخيه إدريس جد أبى دلف القسم العجلى بقايا من خراج تقاعدا من أجلها عن حضور مؤدّى الخراج بأصبهان. فأنهى عامل أصبهان خبرهما إلى خالد بن عبد الله القسرى والى العراقين يوميذ، فأنفذ خالد من الكوفة من حملها إليه بعد قبضهما، فتركهما خالد فى السجن فصادفا عاصم (15) أبى. . . العجلى: فى وفيات الأعيان 3/ 146: «أبى دلف العجلى»؛ فى الأعلام 6/ 13: «أبو دلف العجلى القاسم بن عيسى بن إدريس. . .»

ابن يونس العجلى محبوسا بسبب من أسباب الفساد. وقد كان عيسى بن معقل قبل ذلك أنفذ أبا مسلم إلى قرية من رستاق فاتق لاحتمال غلّتها. فلما اتصل به خبر عيسى بن معقل أباع ما كان احتمله من الغلة وأخذ ما اجتمع عنده من ثمنها ولحق بعيسى بن معقل، فأنزله عيسى بداره فى بنى عجل. وكان يختلف إلى السجن ويتعهد عيسى وإدريس ابنى معقل. وكان قد قدم الكوفة جماعة من نقباء الإمام إبراهيم بن علىّ بن عبد الله بن عباس مع عدة من الشيعة الخراسانية. فدخلوا على العجليين السجن مسلّمين، فصادفوا أبا مسلم عندهم (285) فأعجبهم عقله ومعرفته وكلامه وأدبه، ومال هو إليهم. ثم عرف أنهم دعاة، وفهم أمرهم. واتفق مع ذلك هروب عيسى بن معقل وإدريس أخوه من السجن. فعدل أبو مسلم من دور بنى عجل إلى هؤلاء النقباء. ثم خرج معهم إلى مكة، فأورد النقباء على إبراهيم بن محمد الإمام عشرين ألف دينار ومايتى ألف درهم، وأهدوا إليه أبا مسلم، فأعجب به وبمنطقه وبعقله وأدبه، وقال لهم: هذا عضلة من العضل. وأقام أبو مسلم عند إبراهيم بن محمد الإمام يخدمه سفرا وحضرا. ثم إن النقباء عادوا إلى الإمام إبراهيم وسألوه رجلا يقوم بأمر خراسان. فقال: إنى قد جرّبت هذا الخراسانى وعرفت ظاهره وباطنه. فوجدته حجر الأرض. ثم دعا أبو مسلم وقلده الأمر. فكان من أمره ما كان. (6) إبراهيم: فى وفيات الأعيان 3/ 146: «محمد»، انظر أيضا تاريخ الطبرى (كتاب الفهارس)

ووصف المداينى أبا مسلم فقال: كان قصيرا أسمرا جميلا حلوا، نقى البشرة، أحور العين، عريض الجبهة، حسن اللحية وافرها، طويل الشعر طويل الظهر، قصير الساق والفخذ، خافض الصوت، فصيحا بالعربية والفارسية، حلو المنطق، راوية للشعر، عالما بالأمور، لم ير ضاحكا ولا مازحا إلا فى وقته، ولا يكاد يقطّب فى شئ من أحواله. وكانت تأتيه الفتوحات العظام، فلا يظهر عليه أثر السرور، وتنزل به الحوادث الفادحة فلا يرى مكتيبا. وإذا غضب لا يستفزّه الغضب، ولا يأتى النساء فى السنة إلا مرّة واحدة، ويقول: الجماع جنون ويكفى الإنسان أن يجنّ فى السنة مرة، وكان أشد الناس غيرة. وكان له إخوة من جملتهم يسار جد علىّ بن حمزة بن عمارة بن يسار (286) الأصبهانى. وكانت ولادته سنة ماية للهجرة، والخليفة يوميذ عمر بن عبد العزيز، فى رستاق فاتق. وكان أبو مسلم ينشد فى كل وقت <من البسيط>: أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت … عنه ملوك بنى مروان إذ حشدوا ما زلت أسعى بجهدى فى دمارهم … والقوم فى غفلة بالشام قد رقدوا حتى ضربتهم بالسيف فانتبهوا … من نومة لم ينمها قبلهم أحد ومن رعى غنما فى أرض مسبعة … ونام عنها تولّى رعيها الأسد (15 - 18) أدركت. . . الأسد: هذه الأبيات للعباس بن الأحنف، انظر وفيات الأعيان 8/ 363

ذكر سنة إحدى وثلثين وماية النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة إحدى وثلثين وماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلثة أذرع وتسعة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة مروان بن محمد بن مروان، وعبد الملك النصيرى بحاله، وكذلك القاضى عبد الرحمن الجيشانى. ذكر أبو منصور الثعالبى رحمه الله تعالى فى كتابه لطايف المعارف أن مروان بن محمد كان يقول: نجد فى كتابنا المدخر فى علومنا أن عين ابن عين بن عين يقتل ميم بن ميم بن ميم، وأظن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز قاتلى. فأنا مروان بن محمد بن مروان. فبلغ ذلك عبد الله بن علىّ فقال: غلط أبو عبد الملك، أنا أكثر عينات منه لأنى عبد الله بن علىّ بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن عمرو بن عبد مناف. وكان هو الذى قتله حسبما يأتى من ذكره إنشاء الله تعالى. ذكر سنة اثنين وثلثين وماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلثة أذرع وإحدى عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وإصبع واحد.

(287) ما لخص من الحوادث

(287) ما لخص من الحوادث الخليفة مروان بن محمد بن مروان إلى حين قتل فى هذه السنة فى تاريخ ما يذكر، وعبد الملك النصيرى على مصر إلى أن قتل مروان، وعبد الرحمن على القضاء بمصر. فيها قتل مروان بن محمد بن مروان. وذلك أن العساكر تجهزت من خراسان وغيرها من قبل السفاح لقصد مروان، ومقدمها عبد الله بن علىّ عم السفاح. فتقدم مروان إلى الزاب، وكانت الوقعة على كساف فانكسر مروان وهرب إلى الشام. فتبعه عبد الله بالجيوش إلى فلسطين، فهرب مروان إلى مصر، فتبعه عبد الله بن علىّ، وجرد خلفه عامر بن إسمعيل. فلحقه بقرية من قرى مصر تسمى بوصير غربى النيل بصعيد مصر. فقتله هناك، وكانت قتلته ليلة الأربعاء، وقيل ليلة الأحد لثلث بقين من ذى الحجة سنة اثنين وثلثين وماية وهو الصحيح. (8 - 10) فهرب. . . مصر: فى تاريخ القضاعى، ص 57: «وهرب مروان إلى مصر فلحقه صالح ابن علىّ أخو عبد الله ببوصير [على هامش تاريخ القضاعى، ص 57 بخط مغاير: من أرض الفيوم قريبا من مدينة فرعون و. . .] قرية من صعيد مصر فقتله فى. . .»؛ فى مروج الذهب 4/رقم 2273: «وكان مقتله ببوصير قرية من قرى الفيّوم من صعيد مصر»؛ فى نهاية الأرب 21/ 538 حاشية 1: «بوصير: قرية بمصر من كورة أشمونين. . .» (9 - 10) عامر. . . فقتله: قارن هنا ص 447، حاشية سطرين 8 - 9 (11 - 12) قتلته. . . ماية: فى تاريخ الطبرى 3/ 51: «وقتل يوم الأحد لثلاث بقين من ذى الحجة»؛ فى الكامل 5/ 427: «وكان قتله لليلتين بقيتا من ذى الحجّة»؛ فى كتاب الولاة 96 - 97: «وقتل مروان ببوصير يوم الجمعة لسبع بقين من ذى الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة»، انظر أيضا الأغانى 4/ 343 حاشية 3؛ فى مروج الذهب 4/رقم 2273: «وكان مقتله فى أوّل سنة اثنتين وثلاثين ومائة، ومنهم من رأى أنّ ذلك كان فى المحرّم ومنهم من رأى أنّه كان فى صفر، وقيل غير ذلك. . .»؛ وفقا لحكام مصر لفيستنفلد 50 قتل يوم الجمعة فى 21 ذى الحجة سنة 132، انظر أيضا هاتينك، مقالة «مروان الثانى بن محمد» 624 (11) ليلة الأحد لثلث: كذا فى تاريخ القضاعى، ص 157

جامع أخبار بنى أمية

ثم تفرق بنو أمية فى البلاد وقتل أكثرهم. ولحق بعضهم بالمغرب كما يأتى ذكر أسماء من تولى منهم بالأندلس آخر هذا الجزء إنشاء الله تعالى. جامع أخبار بنى أميّة جميع خلفاء بنى أمية أربعة عشر رجلا بالمشرق. أولهم معوية رضى الله عنه، وآخرهم مروان بن محمد بن مروان، ومدة خلافتهم منذ خلص لهم الأمر وإلى حين قتل مروان بن محمد إحدى وتسعين سنة وتسعة أشهر وخمسة أيام. منها فتنة بن الزبير وأيامه تسع سنين واثنان وعشرون يوما. فخلص الأمر لهم اثنين وثمانين سنة وشهورا. فكان مدة ملكهم ألف شهر. وقد تأولوا إلى قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ (288) أَلْفِ شَهْرٍ} أنها أيام بنى أمية. وروى صاحب كتاب الدول المنقطعة قال: لما خرج السفاح لم (4 - 11) جامع. . . أمية: انظر البيان المغرب 2/ 38 فالنص متشابه، انظر أيضا تاريخ القضاعى، ص 159؛ مروج الذهب 4/رقم 2275 - 2276؛ نهاية الأرب 21/ 539 - 540 (12) صاحب. . . المنقطعة: للأسف لم أحصل على نسخة من المؤلّف للمقارنة

يظهر أمره حتى قوا عسكره بأهل خراسان. فأنفذ عسكرا عظيما مع عامر ابن سليمان. فقطع الفرات مروان وتبعه إلى بوصير، وكان مروان صايما وقدم له إفطاره. فسمع الصايح فخرج وعليه سراويل وغلالة قد عقدها فى سراويله، وسيفه يصلت بيده. فوجد الناس فى المعركة فجعل يضرب بسيفه ويتمثل <من الكامل>: متقلّدين صفايحا هنديّة … يتركن من ضربوا كأن لم يولد وإذا دعوتهم ليوم كريهة … وافوك بين مكبّر ومعرّد فعرفوا صوته فقصدته الخيل فغشيته من كل جانب وحمل عليه نافع ابن عبد الرحمن، وهو لا يعرفه وشد عليه فقتله. وكان أهله وبناته فى كنيسة هناك. فإذا بخادم يحاول الكنيسة وسيفه مشهور بيده فأخذه الخدم الموكلون بالكنيسة وسألوه عن قصده. فقال: إن مروان عهد إلىّ، إذ أيقنت موته أن أضرب رقاب بناته ونسايه فأراد الموكلون قتله. فقال: إن (6) متقلّدين. . . يولد: ورد البيت فى الأغانى 12/ 197؛ البيت للجحّاف السّلمى، انظر الأغانى 12/ 197 (8 - 9) نافع. . . فقتله: فى الأغانى 4/ 343: «لمّا استمرّت الهزيمة بمروان، أقام عبد الله بن علىّ. . . وأنفذ أخاه عبد الصمد فى طلبه. . . فقتله»، انظر أيضا الأغانى 4/ 494؛ فى تاريخ الطبرى 3/ 50: «طعن مروان رجل من أهل البصرة-يقال له المغود وهو لا يعرفه. . . فسبق إليه رجل من أهل الكوفة كان يبيع الرمان، فاحتزّ رأسه»، انظر أيضا تاريخ الطبرى 3/ 46 - 49؛ الكامل 5/ 424 - 428، قارن هنا ص 445:9 - 10 (9 - 1،449) وكان. . . العيال: قارن الكامل 5/ 427 - 428

قتلتمونى لتفقدنّ ميراث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قالوا: انظر ما تقول. قال: إن كنت كاذبا فاقتلونى. قالوا: فدلّنا، فأخذهم فأخرجهم من القرية إلى موضع فيه رمل. فقال: اكشفوا ها هنا، فكشفوا. فإذا القضيب والبرد، وقعب ومصحف قد دفنه كى لا يصير إلى بنى هاشم، فأداه الله إلى أهله. قال: ولما قتل عامر ابن إسمعيل مروان بن محمد دخل منزله وجلس على فراشه، ودعا بعشاء مروان الذى تركه، ودعا ابنته التى كانت أسرّ بنات مروان وجعل رأس (289) أبيها مروان فى حجرها. وقال: هاك يوم بيوم الحسين قتيل يزيد، ويوم بيوم زيد قتيل هشام، ويوم بيوم يحيى قتيل الوليد بن يزيد، ويوم بيوم هشام بن عقيل قتيل عبيد الله بن زياد. وأقرب من هذا كله يوم إبراهيم بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن عباس الذى قتله أبوك هذا. فلما فرغ من كلامه قالت: يا عامر إن دهرا أنزل مروان عن فرشه وأقعدك عليه حتى تعشيت عشاءه واستصبحت بمصباحه، لقد أبلغ موعظتك وعمل فى إيقاظك وتنبيهك إن عقلت وتفكرت. ثم صاحت: وأبتاه وأمير المؤمنيناه. فاستحيا عامر وأخذه الرعب من كلامها (5) قتل. . . إسمعيل: قارن هنا ص 447، الهامش الموضوعى، حاشية سطرين 8 - 9 (8) زيد: يعنى زيد بن علىّ بن الحسين، انظر الكامل /5/ 428/هشام: يعنى هشام بن عبد الملك، انظر الكامل /5/ 428/يحيى: يعنى يحيى بن زيد

وردها إلى رحلها وخرج عن كنيسة العيال، واتصل خبرهم بأبى العباس. فكتب إلى عامر. أما كان فى أدب الله لك ما يزجرك عن العشاء بطعام مروان والقعود على مهاده والتمكن على وساده! أما والله لولا أمير المؤمنين تأول ما كان منك على خاطر لا عزم معه وسهو، لا روية فيه، لمسّك من غضبه وأليم أدبه ما كان يكون لقلبك ناكيا ولغيرك ناهيا. فإذا قرأت كتاب أمير المؤمنين فتقرّب إلى الله تعالى بصدقة تطفئ بها غضبه وبصلوة تطهر بها الاستكانة والإنابة من ذلك وتنجوا بها من وزرك والسلام. ورثا بنى أمية مولاهم فقال <من الكامل>: أمست نساء بنى أميّة منهم … وبناتهم بمضيعة أيتام نامت جدودهم وأخمد نجمهم … والنجم يخمد والجدود تنام خلت الأسرّة والمنابر منهم … فعليهم حتى الممات سلام (290) وقال صاحب كتاب الدول: إن مروان قتل عشية الجمعة لسبع بقين من ذى الحجة سنة اثنين وثلثين وماية. فكانت مدة ولايته إلى (10) فقال: الأبيات التالية لأبى العباس الأعمى، انظر الأغانى 16/ 300 (11 - 13) أمست. . . سلام: وردت الأبيات فى الأغانى 16/ 300 وأيضا أمست: فى الأغانى 16/ 300: «آمت» (12) أخمد: فى الأغانى 16/ 300: «أسقط» //يخمد: فى الأغانى 16/ 300: «يسقط» (14) صاحب. . . الدول: انظر هنا ص 446، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 12 (14 - 15) عشية. . . ماية: قارن هنا ص 445، الهامش الموضوعى، حاشية سطرين 11 - 12 وحاشية سطر 11

صفته

أن بويع الإمام السفاح خمس سنين وشهرا، وإلى أن قتل خمس سنين وعشرة أشهر، وكان عمره يوم قتل تسعا وخمسين سنة وقيل ستا وخمسين. صفته أبيض شديد الشهلة إلى الزرقة أقرب، ضخم الهامة، أبيض الرأس واللحية، صابرا على التعب، بليغا، له رسايل مديونة، ولم يزل أمره مضطربا مذ ولى. وكان له ولدان: عبيد الله وعبد الله، فهربا عند مقتله. فأما عبيد الله فقتلته الحبش. وأما عبد الله فمسك وأعيد إلى السفاح واعتقل، وله خبر يأتى فى ذكر خلافة المنصور إنشاء الله، وأخرج بعد ذلك وله عقب. كاتبه عبد الحميد ابن يحيى مولى بنى عامر صاحب البلاغة، إمام أهلها، والقدوة فى ضرب المثل. ومما يليق يليق أن يثبت من نثره ها هنا من رسالة كتبها عن مروان ابن محمد لفرق العرب حين فاض العجم من خراسان بشعار السواد (1 - 2) خمس. . . أشهر: قارن هنا ص 435، حاشية سطور 9 - 11 (7 - 10) وكان. . . عقب: قارن الكامل 5/ 427 (8 - 10) فمسك. . . عقب: فى تاريخ القضاعى، ص 158: «فله عقب، ويقال إنه أخذ وحبس فلم يزل محبوسا إلى أيام الرشيد فأخرج ضريرا ومات ببغداد» (9) ذكر. . . المنصور: انظر كنز الدرر ج 5 (12) عبد الحميد. . . عامر: كذا فى تاريخ القضاعى، ص 158؛ نهاية الأرب 21/ 538

(291) قاضيه

قايمين بالدولة العباسية، منها: فلا تمكنوا ناصية الدولة العربية من يد الفية العجمية، واثبتوا ريثما تنجلى هذه الغمرة، وتصحوا هذه السكرة، فينضب السيل، وتمّحى آية الليل، {وَاللهُ مَعَ الصّابِرِينَ} {وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}. (291) قاضيه عثمان التيمى. حاجبه صقلات مولاه. نقش خاتمه اذكر الموت يا غافل. قلت: قد انتهى القول فى ذكر ملوك بنى أميّة وما كان من أمرهم بالمملكة الإسلامية بعون الله تعالى وحسن توفيقه وبركة إلهامه. وقد بقى منهم جماعة ملكوا جزيرة الأندلس بعد مروان بن محمد المذكور. ونحن نبتدئ الآن بذكر الأندلس وحدودها وتقدير جزيرتها وملوكها (1 - 3) فلا. . . الليل: انظر رسائل عبد الحميد ص 289 (5) عثمان التيمى: كذا فى نهاية الأرب 21/ 538 (7) صقلات مولاه: فى نهاية الأرب 21/ 538: «مقلار مولاه» (9) اذكر. . . غافل: كذا فى نهاية الأرب 21/ 538

ذكر جزيرة الأندلس وحدودها وملوكها القديمة وفتحها إلى حين بنى أمية

القديمة وعباداتهم وأديانهم إلى حين ما افتتحها المسلمون. ثم نتلوا ذلك بذكر من ملكها من بنى أمية تلوا بعضهم البعض إلى آخر وقت، ليكون هذا الجزو جامعا لساير عدة ملوكهم إلى حين انقراضهم بحول الله تعالى وقوته وهدايته ونصرته. ذكر جزيرة الأندلس وحدودها وملوكها القديمة وفتحها إلى حين بنى أمية أما الأندلس فكانت تعزوا إلى أربعة وعشرين قبيلة على ما كانوا عليها قديما. وكان يملكها ملك واحد إلا أن أديانهم كان على دين الروم أولا والصابية، وفى هياكلهم أصنام الكواكب. وكان فى شريعتهم إذا ولى منهم ملك قفل على مكان عندهم فى بعض الهياكل قفلا، ولا يفتح ذلك المكان، واستمر بهم الزمان إلى أن ولى عليهم الملك لذريق، وهو آخر ملوكهم، وفى أيامه فتحت المسلمون الأندلس حسبما يذكر. قال القاضى صاعد: فأراد ذلك الملك فتح ذلك المكان، فاجتمعوا (7 - 4،454) أما. . . عبد الملك: ورد النص أيضا فى كنز الدرر 2/ 95 - 97 (8) دين الروم: فى طبقات الأمم 62: «وأما دين أهل الأندلس فدين الروم من الصابئة أولا ثم النصرانية إلى أن افتتحها المسلمون. . .» (11) لذريق: كذا فى البيان المغرب 2/ 2 وفى تاريخ افتتاح الأندلس 3؛ فى تاريخ افتتاح الأندلس 227 (الفهرس): «لوذريق»؛ فى البيان المغرب 2/ 3: «رذريق» (13) القاضى صاعد: لم أقف على هذا النص فى طبقات الأمم، انظر مقالة «وصف الأندلس. . .» لأحمد مختار العبادى 103 - 104؛ مقالة «الأساطير. . .» لمحمود علىّ مكى 31 - 34؛ السفر الأول من مرآة الزمان 124

إليه كبارهم. وكان على ذلك المكان إلى حين ذلك الوقت بولاية لذريق عدة أربعة وعشرون قفلا. فسألوه أن لا يفتح ذلك، وأن يعتمد ما اعتمدوه الملوك من قبله من تجديد قفل عليه كعادتهم، فأبى ذلك (292)، فبذلوا له أموالا جمّة من أموالهم على تركه. فلم يقبل وصمم على فتحه. فتشاءموا به وغلب على أمرهم. ففتح تلك الأقفال بأسرها. فوجد فى ذلك البيت صفة تابوت من حديد الصينى، فيه صور العرب الذين يفتحون الأندلس، عليهم العمايم الحمر على خيل شهب، ووجد لوح فيه مكتوب: إذا فتح هذا المكان فتحت هذه الصور هذه الأرض. ففتحت الأندلس تلك السنة. تولى فتحها طارق بن زياد مولى موسى بن نصير عامل الوليد بن عبد الملك بن مروان. وكان فتح الأندلس فى سنة اثنين وتسعين هجرية. وقتل لذريق الملك وسبا ونهب وغنم شئ لا يحصره القلم. ووجد فى ذلك البيت مايدة سليمان بن داود عليه السلم، وهى من الذهب الأحمر، عليها أطواق من الجوهر مفصلة والمرااة العجيبة التى تنظر فيها السبعة أقاليم، وهى مدبّرة من عدة أخلاط. ووجد آنية سليمان صلوات الله عليه من ذهب مفصلة بأنواع الجواهر. ووجد الزبور منسوخا بخط يونانى جليل بين ورقات من ذهب. ووجد فيه اثنين وعشرين مصحفا مجلّدات كلها، منها التورية ومصحف آخر محلا بفضة، فيه منافع (1) لذريق: انظر هنا ص 452، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 11 (11) لذريق: انظر هنا ص 452، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 11

الأحجار والأشجار والحيوانات وطلّسمات عجيبة. ووجد فيهم مصحفا يتضمن عمل الصنعة مع أصباغ اليواقيت. ووجد فقّاعة كبيرة مملوءة بإكسير الصنعة الكيمياء. ولما فتحت وحمل ذلك جميعه إلى الوليد بن عبد الملك، فقيل إنه المال الذى استعان به الوليد على عمارة المسجد المقدم ذكره، (293) وهو الجامع بدمشق المعروف ببنى أمية الآن هو ما أحضر من كسب جزيرة الأندلس. وكان عمال الروم قديما ينزلون مدينة طالقة العتيقة المجاورة لإشبيلية. واتصل ملكهم بها زمنا طويلا إلى أن غلبهم عليها القوطا، فانتسخ الملك الرومى منها. واتخذ القوط مدينة طليطلة من مداينها العتيقة قاعدة لملكهم، وملكوا الأندلس قريبا من ثلثماية سنة إلى أن غلبهم المسلمون عليها، فاقتعد ملوكهم مدينة قرطبة وطنا، ولم يزل مركز ملك المسلمين بها إلى زمان الفتنة وزوال الملك عن بنى أمية، فافترق عند ذلك شمل الملوك بالأندلس، وصار إلى عدة من الرؤساء، حالهم كحال ملوك الطوايف حسبما قدمنا من القول. وأما حدود الأندلس فإن حدها الجنوبى منها الخليج الرومى الخارج فما يقابل مدينة طنجة فى موضع يعرف بالزقاق سعته اثنى عشر ميلا. ثم (7 - 3،456) وكان. . . الأندلس: ورد النص فى طبقات الأمم 62 - 63 باختلاف فى اللفظ، قارن أيضا المعجب 27 - 31 (7) طالقة العتيقة: فى طبقات الأمم 63: «طائف العتيقة»؛ فى الترجمة الفرانسية لبلاشر 121: «طالقة»، انظر أيضا الروض المعطار 122 - 123

ينتهى إلى مدينة صور من مداين الشام. وحدّها الشمالى والغربى البحر الأعظم المسمى أقيانس المعروف عندنا ببحر الظلمة. وحدّها المشرقى الجبل الذى فيه هيكل الزهرة الواصل ما بين البحرين بحر الروم والبحر الأعظم، ومسافة ما بين البحرين فى هذا الجبل ثلاث مراحل، وهو الحد الأصغر من حدود الأندلس، وحداها الأكبران الجنوبى والشمالى، ومسافة كل واحد منهما نحو من ثلثين مرحلة، ومسافة حدها المغربى نحو من عشرين مرحلة، ووسط الأندلس مدينة طليطلة العتيقة التى كانت مدينة قاعدة القوط الأول من ملوكها. (294) وعرضها تسع وثلثون درجة وخمسون دقيقة، وطولها ثمان وعشرون درجة بالتقريب. فصارت بذلك فى قريب من وسط الإقليم الخامس، وهى فى وقتنا هذا على ما ذكر القاضى أبى القاسم صاعد بن أحمد بن صاعد صاحب قضاء الأندلس فى زمن المأمون بعد انقراض بنى أمية من الأندلس. وهو فى سنة ستين وأربع ماية قاعدة ملك الأمير أبى الحسن يحيى بن إسمعيل بن عبد الرحمن بن إسمعيل بن عامر ابن مطرّف من موسى بن ذى النون عظيم ملوك الأندلس فى ذلك الوقت، الذى ذكره القاضى صاعد المذكور. ولهذا الرجل من الكتب: كتاب مقالات الرسل (11 - 12) القاضى. . . بن صاعد: انظر طبقات الأمم 63 (13 - 15) أبى. . . النون: فى طبقات الأمم 63: «أبى الحسين بن إسمعيل بن عامر بن مطرّف ابن موسى بن ذى النون» (16) القاضى صاعد: انظر طبقات الأمم 63

فى النحل والملل، وكتاب إصلاح حركات النجوم، وكتاب جوامع أخبار الأمم من العرب والعجم، وكتاب التعريف بطبقات الأمم الذى استنسخت منه هذا الكلام فى ذكر الأندلس. قال القاضى صاعد: وأقل بلاد الأندلس عرضا المدينة المعروفة بالجزيرة الخضراء على البحر الجنوبى منها، وعرضها ست وثلثون درجة، وأكثر مدنها عرضا بعض المداين التى على ساحل البحر الشمالى، وعرض ذلك الموضع ثلثة وأربعون درجة. فمعظم الأندلس فى الإقليم الخامس، وطايفة منها فى الإقليم الرابع كإشبيلية ومالقة وقرطبة وغرناطة والمريّة ومرسية. وهذا الجبل الذى ذكرنا فيه هيكل الزهرة الذى هو الحد الشمالى الشرقى من الأندلس هو الحاجز ما بين الأندلس وبين بلاد إفرنسة من الأرض الكبيرة التى هى بلاد إفرنجة العظمى. (295) والأندلس آخر المعمور فى المغرب لأنها كما ذكرنا منتهية إلى بحر أقيانس الأعظم الذى لا عمارة وراءه، ومسافة ما بين مدينة طليطلة وسط الأندلس وبين مدينة رومية قاعدة الأرض الكبيرة نحو من أربعين مرحلة. فهذه جملة من خبر الأندلس بحكم التلخيص. (4 - 15) وأقل. . . الأندلس: ورد النص فى طبقات الأمم 63 - 64، قارن أيضا نزهة المشتاق 173 (4) وأقل. . . عرضا: فى طبقات الأمم 63: «وأهل بلاد الأندلس عرض» (8 - 15) فمعظم. . . التلخيص: قارن الروض المعطار ص 1 - 2 (10) الشمالى الشرقى: فى طبقات الأمم 63: «الشرقى»

ذكر ابتداء مملكة بنى أمية بالأندلس

ذكر ابتداء مملكة بنى أميّة بالأندلس قال صاحب كتاب الدول المنقطعة: لما ملك عبد الله بن علىّ بن عبد الله بن عباس رضى الله عنه الشام ومصر والعراق، وقتل مروان بن محمد، وقع الطلب على بنى أمية بكل مكان. وكان عبد الرحمن بن معوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان يسكن بذات الزيتون، وكان أبوه معوية ولى عهد هشام جده، وتوفى على أيامه فى سنة ثمان عشرة وماية. وقد قاد إلى الروم خمسة عشر صايفة. وترك من الأولاد عبد الرحمن ويحيى شقيقه، وأبان وعبيد الله وهشام والمنذر وابنتين عبدة وأم الأصبغ. فقتل يحيى يوم الزابيين وهرب عبد (1) مملكة بنى أمية: انظر مثلا نهاية الأرب 23/ 334 - 469، والمصادر المذكورة هناك؛ تاريخ إسبانيا لليفي-بروفنسال (المقدمة) (2) صاحب. . . المنقطعة: انظر هنا ص 446، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 12 (2 - 3) عبد الله. . . عباس: فى جمهرة أنساب العرب (الفهرس)؛ نهاية الأرب 21/ 538: «عبد الله بن علىّ بن عبد الله. . .» (6) بذات الزيتون: انظر نهاية الأرب 23/ 335 حاشية /1/معوية: انظر جمهرة أنساب العرب 93 - 94؛ الكامل (كتاب الفهارس 349) (7) سنة. . . ماية: فى النجوم الزاهرة 1/ 283 (حوادث 119): «وأما الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة فهم جماعة كثيرة. . . ومعاوية بن هشام. . .» (8 - 9) عبد الرحمن. . . المنذر: انظر جمهرة أنساب العرب 93 - 94 (9) يوم الزابيين: انظر جمهرة أنساب العرب 93 - 94؛ فى الكامل 5/ 421: «وكانت هزيمة مروان بالزّاب يوم السبت. . .، وكان فيمن قتل معه يحيى بن معاوية بن هشام ابن عبد الملك، وهو أخو عبد الرحمن صاحب الأندلس»

الرحمن من ذات الزيتون، ومعه أبو الغصن بدر غلامه، فوصل فلسطين فى آخر سنة ست وثلثين. ثم هرب وحده إلى إفريقية، ولحقه بدر غلامه بمال وجوهر. وكان والى القيروان عبد الله بن حبيب الفهرىّ، فبلغه خبر عبد الرحمن فطلبه فهرب إلى بلاد البربر، وظفر بغلامه بدر، فقرره عليه فأنكره فأطلقه، فلحق مولاه، ولما استقر أمره عند البربر كانت جماعة من موالى بنى أمية بالأندلس، وقد استقرت ولايتها على يوسف بن عبد الرحمن الفهرى فوصل ما سير على ساحل البحر بين مالقة والخضراء. فلما حصل (296) بها، وجد فرقة من أهل اليمن يسكنونها، فبايعوه، وسمع الناس برجل من أولاد الخلفاء فبادروا إلى بيعته، وسار بخلق ممن اجتمع إليه إلى يوسف بن عبد الرحمن فلقيه بالمصارة من نواحى قرطبة فهزمه، وقتل يوم الأضحى من سنة ثمان وثلثين وماية هجرية. ودخل قصر قرطبة يوم السبت، وشبهت هذه الوقعة بيوم مرج راهط، وكانتا (8 - 10) فوصل. . . فبايعوه: فى البيان المغرب 2/ 44: «وكان خروجه من المركب بموضع يعرف بالمنكّب، ثم نزل بقرية طرّش من كورة إلبيرة. فأقبل إليه جماعة من الأمويين»؛ فى نفح الطيب 1/ 328: «ونزل بساحل المنكّب، وأتاه قوم من أهل إشبيلية فبايعوه» (8) الخضراء: يعنى الجزيرة الخضراء، انظر الروض المعطار ص 73 - 75 (12) قتل. . . هجرية: فى البيان المغرب 2/ 49: «وفى سنة 142، كان هلاك يوسف الفهرىّ ومقتله بناحية طليطلة»؛ فى الكامل 5/ 495 (حوادث 139): «ونشب القتال ليلة الأضحى» (13 - 1،459) شبهت. . . الأضحى: انظر البيان المغرب 2/ 47؛ يذكر روتر فى كتابه «بنى أمية» أن مرج راهط كانت بين بداية يوليو وأواسط أغسطس سنة 684

عبد الرحمن بن معوية الداخل

بين أمويين وفهريين فى يوم الأضحى. وكان مقدم خيل مروان حسان بن بحدل الكلبى وصاحب خيل عبد الرحمن حسان بن مالك الكلبى. وقيل إنه لما سار يريد قرطبة وكيف جيشه قيل له: كيف تسير بلا لواء؟ فأمرهم بعمله، فأتى بعمامة وقناة وأرادوا تمييل القناة للعقد عليها، فتطير من ذلك، فأتوا إلى شجرتين من الزيتون متجاورتين وركزوا القناة بينهما. ثم طلع أبو عثمان فعقده، ولم تزل عقدة هذا اللواء على قناتها عند بنى أمية يتباركون بها. وإذا أرادوا تجديد لواء، عقدوه عليها إلى آخر أيام عبد الرحمن بن الحكم بن هشام. فإن الوزراء أرادوا عقد لواء فأحضرت القناة فراو عليها عقدة خلقة ولم يعلموا ما هى. فألقوها وبلغ خبرها إلى الوزير جهور بن يوسف، وهو يوميذ شيخ الوزراء فأنكر أمرها وأخبر أنها تركت للتبرك بها ثم أمر بطلبها فلم توجد، فيقال إن الوهن حصل فى مملكة بنى أمية من ذلك الوقت. عبد الرحمن بن معوية الداخل كنيته أبو يزيد وقيل أبو المطرّف، ملك قرطبة كما ذكرناه فى يوم النحر من ذى الحجة سنة ثمان وثلثين وماية، واستخلف عليها (297) أبا عثمان صاحب الأرض. (3 - 10) قيل. . . يوسف: قارن أخبار مجموعة 84 - 85 (14) أبو المطرّف: كذا فى البيان المغرب 2/ 47

ثم سار تابعا ليوسف بن عبد الرحمن والصّميل بن حاتم الكلابى، وانتهى إلى يوسف خبره، فخالفه إلى قرطبة فدخلها وأسر أبا عثمان، وكثر عبد الرحمن الجيوش وكرّ عليه فانهزم يوسف، وسار عبد الرحمن فى أثره. فلما توجه العسكران انعقد بينهما الصلح على أن يسلم يوسف للأمير عبد الرحمن الأمر ويسكن بشرقى قرطبة. ورجع عبد الرحمن إلى قرطبة ومعه يوسف والصّميل بن حاتم، وارتهن من يوسف ولديه واستقام الأمر لعبد الرحمن إلى أن دخلت سنة إحدى وأربعين وماية. فهرب يوسف فى شوال منها إلى مدينة ماردة وجمع عشرين ألفا وسار إلى لقاء عبد الرحمن، فخرج عبد الرحمن إلى المدور، وكان عبد الملك بن عمر بن مروان بن الحكم عاملا لعبد الرحمن على إشبيلية، وابنه عمر عاملا على مورور، فاجتمعا بجموع كبيرة، وقصدهما يوسف فهزماه، ورجع عبد الرحمن حين بلغه خبر الوقعة إلى قرطبة، وسار يوسف مهزوما يطوى الأرض والبلاد حتى دخل طليطلة، فأقام بها شهورا، فاغتاله بعض أصحابه، فقتله وأتى عبد الرحمن برأسه، فأمر بنصبها وقتل ابنه أبا زيد، وهرب ولداه أبو الأسود محمد وخضر، وقبض عبد الرحمن على (1 - 1،461) ثم. . . ميتا: قارن أخبار مجموعة 98 - 101؛ البيان المغرب 2/ 48 - 50؛ الكامل 5/ 498 - 499 (8) ماردة: انظر نهاية الأرب 23/ 338 حاشية 1 (9) المدور: انظر معجم البلدان 7/ 417؛ نهاية الأرب 23/ 339 حاشية 2 (11) مورور: كذا فى أخبار مجموعة 97، انظر أيضا الكامل 6/ 318 بمناسبة أخرى، قارن أيضا نهاية الأرب 23/ 373 حاشية 2 (14 - 15) أبا زيد: كذا فى أخبار مجموعة 100؛ فى نهاية الأرب 23/ 339: «عبد الرحمن بن يوسف. . .» (15) أبو الأسود: كذا فى أخبار مجموعة 100؛ البيان المغرب 2/ 50؛ الكامل 5/ 499؛ فى نهاية الأرب 23/ 339: «الأسود»

الصميل، ولم يكن مع يوسف فحبسه. ثم أخرجه ميتا. وفى هذه السنين التى كان عبد الرحمن فيها مشغولا بحرب يوسف، استرجع الفرنج أهل جلّيقيّة من المسلمين نحو خمسين مدينة وبنى البلاد المعروفة قشتالة. وخرج على عبد الرحمن عبد الغفّار اليحصبى وحيوة بن الملامس، واجتمع معهما جميع اليمانية، وقصدا قرطبة فسار إليها عبد الرحمن وقدم بين يديه عبد الملك بن عمر وأردفه (298) بولده أمية، وكان على مقدمة الجيش. فلما لقيهم أمية انهزم وعاد إلى أبيه فقال له أبوه: أو ما كان معك من الثبات مقدار ما ترسل إلىّ فأنجدك مع قربى منك. وما أظنك هربت إلا من الموت وو الله لا فاتك. ثم قدمه فضرب رقبته بين يديه، واستدعى رجال قومه وعسكره ومواليه ومن انضم إليه من بنى أمية وقال لهم: ألم تعلموا أنكم كنتم أصحاب الدنيا وملوك الأرض؟ فلم تزالوا بتخاذلكم وعدم التفاتكم إلى ما يظهر من فضايح الانهزام منكم، حتى خرجت مملكتكم عن أيديكم. ثم لم يبق معكم إلاّ هذا الطرف من الأرض، أفتتركونه لهذه السفلة الأوباش يغلبونكم عليه؟ فشلّ كلامهم، وتكلموا بينهم بأن قالوا: إذا كان هذا فعل بابنه ما فعل فما تراه يفعل بأحدنا إذا انهزم. (1) الصميل: انظر أخبار مجموعة 101 (3) جلّيقيّة: انظر الروض المعطار ص 66 - 67؛ نهاية الأرب 23/ 337 حاشية 3 (4) قشتالة: انظر الروض المعطار ص 161؛ نفح الطيب 1/ 330 (4 - 3،462) وخرج. . . اليمانية: قارن البيان المغرب 2/ 50 - 51؛ الكامل 6/ 9 - 10؛ كتاب العبر 4/ 267 - 268؛ نهاية الأرب 23/ 341 - 343 (4) عبد الغفّار اليحصبى: فى البيان المغرب 2/ 50: «عبد الغافر اليمانىّ»؛ فى الكامل 6/ 9؛ كتاب العبر 4/ 266: «عبد الغفّار» (5) الملامس: كذا فى أخبار مجموعة 107؛ البيان المغرب 2/ 51؛ فى الكامل 6/ 9: «ملابس»، انظر أيضا الكامل 6/ 9 حاشية 3؛ فى كتاب العبر 4/ 268: «قلاقس»

ولما التقا الجمعان كان بينهما القتال بالرماح حتى تقصفت، ثم بالسيوف حتى تكسرت. ثم تجاذبوا باللحا والشعور وتلاكموا بالأيدى إلى أن انهزمت اليمانية. وقتل فى هذه الوقعة فيما ذكر صاحب كتاب الدول عن مؤرخى الأندلس ثلثون ألفا. وكان عبد الرحمن هذا ملكا عالما فاضلا شاعرا ورعا كثير الغزوات. وولد بدير حنّا من عمل دمشق فى سنة ثلث عشرة وماية. أمه أم ولد بربرية، وتوفى يوم الثلثاء لستّ بقين من ربيع الآخر سنة إحدى وسبعين وماية، وولى الأندلس وهو ابن سبع وخمسين سنة وأربعة أشهر، (3) صاحب. . . الدول: انظر هنا ص 446، الهامش الموضوعى حاشية سطر 12 (6) بدير حنّا: فى أخبار مجموعة 50: «. . . بدير حنّا من كورة قنسرين»؛ فى البيان المغرب 2/ 47: «بموضع يعرف بدير حسينة من دمشق»، وفى الهامش: «حسنة»؛ فى معجم البلدان 4/ 135: «دير حنّة: هو دير قديم بالحيرة. . .، ودير حنة بالأكيراح. . . هذا أيضا بظاهر الكوفة والحيرة لا أدرى أهو هذا المذكور هنا أم غيره، وقد ذكر شاهده فى الأكيراح»؛ فى المنجد (فى الأعلام)، مادّة «دير حنّا الجليل»، ص 294: «قرية فى الجليل على رابية فيها أربعة أبراج. . .»، قارن تاريخ إسبانيا الإسلامية لليفي-بروفنسال 1/ 95؛ فى نهاية الأرب 23/ 351: «بدير حنا من عمل دمشق، وقيل بالعلياء من ناحية تدمر» (7 - 8) وتوفى. . . ماية: فى البيان المغرب 2/ 47: «وتوفى يوم الثلاثاء لست بقين من ربيع الآخر؛ وقيل: لعشر خلون من جمادى الأولى سنة 172»؛ فى الكامل 6/ 110 (حوادث 171): «وفيها مات عبد الرحمن بن معاوية. . . فى ربيع الآخر وقيل سنة اثنتين وسبعين ومائة وهو أصح»، كذا فى نفح الطيب 3/ 48؛ فى نفح الطيب 1/ 333: «ومات سنة اثنتين وسبعين، وقيل: إحدى وسبعين ومائة»؛ وفقا لليفي- بروفنسال، مقالة «عبد الرحمن» 82، توفى فى 25 ربيع الآخر سنة،172؛ وفقا لزامبور، كتاب الأنساب 3، توفى فى 10 جمادى الآخرة سنة 172 (8) ابن. . . أشهر: فى البيان المغرب 2/ 48: «وقد بلغ تسعا وخمسين سنة؛ وقيل: ستين سنة»؛ فى نهاية الأرب 23/ 350: «فكان عمره تسعا وخمسين سنة»

وكانت ولايته ثلثا وثلثين سنة وأربعة أشهر وأربعة عشر يوم. وكان أصهب خفيف العارضين سنّاط، بوجهه خال. وذكره أبو محمد بن حزم فى العور (299) من الخلفاء وذكر الجاحظ أنه كان أخشم لا يشم شيا. نقش خاتمه: بالله يثق عبد الرحمن وبه يعتصم. نكتة: ومن العجب أنه والمنصور متعاصران فى وقت واحد حازمان، وكل منهما أمه بربرية، هذا قتل ابن أخيه السفاح، وهذا قتل ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معوية، وكلاهما فى تاريخ يوم الاثنين نصف رمضان سنة سبع وستين وماية. وكان له أحد عشر ذكرا من الأولاد وهم أيوب الشامى ولد بالشام، هشام القايم يعده بالأمر، عبد الله البلنسىّ ولد ببلنسية، مسلمة المعروف بكليب، أمية الذى قتله، يحيى، المنذر، سعيد الخير، محمد، المغيرة، معوية، وتسع بنات. (1 - 2) أصهب. . . خال: انظر البيان المغرب 2/ 48؛ نفح الطيب 1/ 332؛ نهاية الأرب 23/ 350 (2) أبو. . . حزم: انظر رسائل ابن حزم 2/ 77 (4) بالله. . . يعتصم: فى البيان المغرب 48: «عبد الرحمن بقضاء الله راض» (5 - 8) نكتة. . . ماية: انظر نفح الطيب 3/ 53 - 54 (9 - 12) وهم. . . معوية: فى نهاية الأرب 23/ 352: «وهم أيوب الشامى. . . وسليمان وهشام. . . وعبد الله. . . ومسلمة. . . وأمية، ويحيى، والمنذر، وسعيد الخير، ومحمد، والمغيرة، ومعاوية»، قارن جمهرة أنساب العرب 94، لا يعرف لعبد الرحمن أولاد اسمهم محمد ومغيرة ومعاوية (9) أيوب: قارن هنا ص 465:3 - 4 (10 - 11) عبد الله. . . أمية: انظر تاريخ إسبانيا الإسلامية لليفي-بروفنسال 1/ 153،163 (10) ببلنسية: انظر نهاية الأرب 23/ 347 حاشية 2 (11) الذى قتله: انظر الكامل 6/ 9

هشام بن عبد الرحمن الداخل

وأما حجّابه فهو أول من رتب رتبة الحجابة وجعلها أعظم من الوزارة والقيادة. وكان حاجبه تمام بن علقمة وغيره. وأما وزرايه فلم يكن له وزيرا، وإنما كانوا أهل مشورة، منهم أبو عثمان عبيد الله شيخ نقباء دولته وغيرهم. وكتّابه: أبو عثمان وعبيد الله بن خالد وغيرهما. وقضاته: يحيى بن يزيد التّجيبىّ قاضى يوسف من قبله. ثم معوية ابن صالح الحضرمى، وعمر بن شراحيل، وعبد الرحمن بن بخت اليحصبى. هشام بن عبد الرحمن الداخل كان فى أيام أبيه متولى ماردة. فلما توفى استدعى لتولية الأمر. فأما (2) تمام بن علقمة: انظر نفح الطيب 3/ 45 (3 - 8) وأما. . . . اليحصبى: فى البيان المغرب 2/ 48: «وزراؤه أربعة: عبد الله بن عثمان، وعبد الله بن خالد، ويوسف بن بخت، وحسّان بن مالك. حجّابه خمسة: تمّام بن علقمة، ويوسف بن بخت، وعبد الكريم بن مهران، وعبد الحميد بن مغيث، ومنصور فتاه. قضاته خمسة: يحيى بن يزيد التّجيبىّ، ومعاوية بن صالح، وعبد الرحمن بن طريف، وعمر بن شراحيل، والمصعب بن عمران» (6) يحيى. . . التّجيبى: فى نفح الطيب 3/ 46: «يحيى بن يزيد اليحصبى» (7) صالح: فى نهاية الأرب 23/ 352: «يوسف» //الحضرمى: فى نفح الطيب 3/ 46: «الحمصى» (10 - 1،465) فأما. . . الناس: فى البيان المغرب 2/ 61: «بويع يوم الأحد مستهل جمادى-

بعد وفاته بستة أيام فبايعه الناس، وكنيته أبو الوليد، أمه أم ولد اسمها جلل. وكان أخوه الأكبر المسمى بالشامى ويقال اسمه سليمان وكنيته أبو أيوب واليا طليطلة. وكان المستخلف بالقصر عند وفاة عبد الرحمن أخوهما التالى لهشام فى العمر عبد الله البلنسىّ، فكتب عبد الله إلى أخيه (300) هشام، وهو كان المرشح من الأولاد للمملكة فحضر، وبايعوه الناس وإخوته، ولم يختلف عليه اثنان. وحين انتهى الخبر إلى سليمان، أنف من طاعة أخيه ودعى إلى نفسه، وحشد حشدا عظيما وخرج من طليطلة. فنزل جيّان ومعه الفرج بن مسرة صاحب وادى الحجارة. وخرج إليه هشام غرة رجب من سنة اثنين وسبعين وماية، واستخلف على قرطبة أخاه عبد الله، فالتقوا بمحلة بلج فى النصف من رجب، فانهزم سليمان وأسلم عسكره ولحق بطليطلة. ولما عاد هشام إلى قرطبة نكث أخوه عبد الله بيعته ولحق بأخيه سليمان، الأولى من السنة» (يعنى 172)، كذا فى مقالة «هشام الأول» لدنلوب 495؛ فى العقد الفريد 4/ 490: «ولى هشام. . . لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة اثنتين وسبعين ومائة»، وفقا لزامبور، كتاب الأنساب 3، حكم من جمادى الآخرة سنة 172 (8 - 11،466) وحين. . . البلاد: انظر البيان المغرب 2/ 61 - 63؛ الكامل 6/ 116 - 117،123 (9) جيّان: انظر البيان المغرب 2/ 61؛ معجم البلدان 3/ 185 - 186؛ المنجد (فى الأعلام)، مادة «جيّان»، ص 223؛ نهاية الأرب 23/ 342 حاشية 1 (10) وادى الحجارة: انظر معجم البلدان 8/ 372؛ المنجد (فيه الأعلام)، مادة «وادى الحجارة»، ص 739

واجتمعا على حرب هشام، وكان هربه فى المحرم سنة ثلث وسبعون. ثم خرج هشام فى رمضان من هذه السنة ونزل على طليطلة فحاصرها. وجرت بينهما حروب يطول شرحها، وآخر الأمر أن عبد الله أتا أخوه هشاما مستأمنا. ثم اتفق الحال بينهم أن يخرج سليمان وأخوه عبد الله عن أرض الأندلس بأهليهما وأولادهما وأموالهما. واشترط سليمان على أخيه هشام أن يشترى منه ضياعه بستين ألف دينار، فأجاب هشام إلى ذلك، وركب سليمان البحر إلى بر العدوة ولحقه أخاه عبد الله. واستقامت البلاد لهشام إلا ما كان سرقسطة وساير تلك الثغور. فإن مطروح بن سليمان الأعرابى تغلب عليهم فى مدة اشتغال هشام يحرب أخويه. فلما فرغ منهما وجه بأبى عثمان لحربه فحاصره فقتل فى مدة الحصار. فتسلم أبو عثمان البلاد. وعلى أيام هشام كانت غزاة أربونة، وهى التى أذلت الفرنج زمانا (8) العدوة: انظر البيان المغرب 2/ 70،77 (9) سليمان الأعرابى: فى تاريخ إسبانيا الإسلامية لليفى-بروفنسال 1/ 141: «سليمان بن يقظان الأعرابى» (10) بأبى عثمان: فى تاريخ إسبانيا الإسلامية لليفي-بروفنسال 1/ 142: «عبيد الله بن عثمان»، قارن أيضا نهاية الأرب 23/ 344 (12 - 3،467) وعلى. . . ماية: انظر الكامل 6/ 135 (حوادث 177)؛ نفح الطيب 1/ 337؛ نهاية الأرب 23/ 356 (12) أربونة: انظر معجم البلدان 1/ 176؛ المنجد (فى الأعلام)، مادة «أربونة»، ص 31، 704؛ نهاية الأرب 23/ 356 حاشية 1

طويلا حتى قل السبى ببلاد المسلمين. وكان الخمس من المال فقط (301) خمسا وأربعين ألف دينار. وكانت هذه الوقعة فى آخر سنة ست وسبعين وماية على يد القايد عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث، وبهذه الغزاة والفئ يضرب المثل بالأندلس فيقال: ولا فئ أربونة. و[لد] هشام لأربع خلون من شوال سنة تسع وثلثين وماية، وتوفى بقصر قرطبة ليلة الخميس لثلث عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثمانين وما [ية] فى أيام هرون الرشيد، وكان عمره تسعا وثلثين سنة وأربعة أشهر. وكانت مملكته سبع سنين وسبعة أشهر وثمانية أيام. وكان أبيض، مشربا حمرة، بعينيه حول، ومن الغريب أن هذان أمويان ملكان اسم كل منهما هشام أحولان هشام بن عبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الرحمن هذا. وكان ديّنا زاهدا ورعا يسمى بالرضى عند أهل الأندلس. نقش خاتمه: بالله يثق هشام وعليه يعتمد. (2 - 3) آخر. . . ماية: فى نهاية الأرب 23/ 356: «سنة سبع وسبعين ومائة» (6) لثلث عشرة: وفقا لليفي-بروفنسال، مقالة «الأندلس» 493، ولزامبور، كتاب الأنساب 3، توفى فى 3 صفر (7) عمره. . . أشهر: فى نفح الطيب 1/ 338: «وعمره أربعون سنة وأربعة أشهر» (8) سبعة. . . أيام: فى نفح الطيب 1/ 338: «تسعة أشهر»؛ فى نهاية الأرب 23/ 358: «تسعة أشهر وثلاثة عشر يوما» (12 - 9،468) نقش. . . الهمذانى: ورد النص فى نهاية الأرب 23/ 358 - 359 (12) عليه يعتمد: فى نهاية الأرب 23/ 358: «يعتصم»، انظر أيضا البيان المغرب 2/ 61

أولاده: عبد الملك الأكبر، والحكم المتولى بعده، ومعوية، والوليد، وعبد العزيز، وخمس بنات. حجّابه: عبد الواحد بن مغيث. ثم ولده عبد الملك وهو رجل الأندلس، جمع الحجابة والوزارة والكتابة والتقدم على الجيوش مع حسن الأدب والعفاف والدين والتواضع والكرم وكثرة المروة. وزرايه: هو أول من رتّب الوزارة، أبو عثمان صاحب الأرض. ثم يوسف بن بخت [و] شهيد بن عيسى. كتّابه: فطيس بن سليمان [و] خطاب بن يزيد. قاضيه: المصعب بن عمران الهمذانى. (1 - 2) عبد الملك. . . عبد العزيز: لا يعرف لهشام بن عبد الرحمن ولد اسمه عبد العزيز، قارن جمهرة أنساب العرب 95 - 96 (3) عبد الملك: انظر الكامل (كتاب الفهارس) فى سياق آخر، قارن هنا ص 469:4 وص 470، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 9 (6 - 7) وزرايه (وزراؤه). . . عيسى: فى البيان المغرب 2/ 61: «وزراؤه ثمانية» (7) يوسف. . . عيسى: انظر الكامل 6/ 58،124؛ نفح الطيب 3/ 45؛ وردت هذان الأسمان فى سياق آخر (8) سليمان: فى البيان المغرب 2/ 61: «عيسى»؛ فى نهاية الأرب 23/ 359: «سلمة»

الحكم بن هشام المعروف بالربضى

الحكم بن هشام المعروف بالربضى كنيته أبو العاصى، أمه أم ولد يقال لها زخرف. بويع له بعد وفاة والده يوم الخميس لثلث عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثمانين وماية، (302) وتولى أخذ البيعة له حاجب أبيه عبد الكريم بن عبد الواحد، وهو إذ ذاك ابن سبع وعشرين سنة. وكان كثير الغزو وعنده جور. وعليه خرج أهل الربض بربض شقندة، وكان قد اجتمع فيه أربعة آلاف فقيه وطالب. فأرادوا خلع الحكم وتولية أخيه المنذر، وزحفوا إلى قصره. فدخل عليه غلاماه وقايداه، فاستأذناه فى الحرب فأذن لهما. فخرجا فقاتلا، فانهزم أهل الربض وقتل المنذر. ومن مغازى الحكم وقعة سمّورة وهى الوقعة العظيمة. قال صاحب كتاب الدول: قال الرازى فى كتابه: إن الذى أحصى ممن قتل فى سمّورة ثلثماية ألف رومى. ولما وصل أمرها إلى ملك رومة، كتب إلى الحكم

أبو المطرف عبد الرحمن بن الحكم بن هشام

يرغب فى أمانه، فأعاد عليهم ما كان جده عبد الرحمن وضعه، وزاد عليهم أن يحملوا من تراب بلد رومية ما يصنع به أكواما عنده على قرطبة فأجابوا، وبعث الحكم أمناء من عنده. وحملت الروم ذلك على دوابهم. وولد الحكم فى سنة أربع وخمسين وماية، وتوفى يوم الخميس بين الظهر والعصر لأربع بقين من ذى الحجة سنة ست وثمانين وماية، فكان عمره ثلثا وخمسين سنة، وكانت مدة مملكته ستا وعشرين سنة وعشرة أشهر وعشرة أيام. أولاده: أبو مطرف عبد الرحمن المتولى بعده. وزيره: أبو البسام. أبو المطرف عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بويع عبد الرحمن يوم وفاة أبيه. أمه أم ولد بربرية يقال لها جنوب. (6) ثلثا: فى البيان المغرب 2/ 68: «اثنان»، انظر أيضا نهاية الأرب 23/ 374 (6 - 7) ستا. . . أيام: فى نفح الطيب 1/ 341: «لسبع وعشرين سنة» (8) عبد الرحمن: انظر جمهرة أنساب العرب 97 (9) وزيره أبو البسام: فى البيان المغرب 2/ 68: «وزراؤه وقوّاده: خمسة: إسحق بن المنذر، والعباس بن عبد الله، وعبد الكريم بن عبد الواحد المذكور، وفطيس بن سليمان، وسعيد بن حسان» (11) جنوب: فى البيان المغرب 2/ 80؛ المعجب 48؛ نهاية الأرب 23/ 375: «حلاوة»

وكان كثير الإكرام لأهل الأدب. وفى أيامه دخل زرياب المغنى الأندلس، فحضر يوما عنده وغنى، وعبيد الله بن قزمان الشاعر حاضرا <من الكامل>: (303) قالت ظلوم سميّة الظّلم: … ما لى رأيتك ناحل الجسم يا من رمى قلبى فأقصده … أنت العليم بموضع السّهم فقال عبد الرحمن: إن البيت الثانى منقطع من الأول غير متصل به، ووجب أن يكون بينهما بيت يتصل بهما فى هذا المعنى. فقال ابن قزمان بديهة بعد البيت الأول <من الكامل>: فأجبتها والدمع منحدر … مثل الجمان زهى على النظم فسر عبد الرحمن بذلك وكساه وحباه. (1) زرياب: انظر الأعلام 5/ 180؛ نفح الطيب 8/ 59 (2 - 10) فحضر. . . حباه: وردت الحادثة فى تاريخ افتتاح الأندلس 59 - 60؛ نفح الطيب 3/ 615؛ نهاية الأرب 23/ 386 (4 - 5) قالت. . . السّهم: ورد البيتان فى الأغانى 8/ 369؛ تاريخ افتتاح الأندلس 59، وهما للعباس بن الأحنف؛ ديوان العباس بن الأحنف 269؛ نفح الطيب 3/ 615؛ فى نفح الطيب 3/ 615: «وهما لأبى العتاهية»؛ نهاية الأرب 23/ 386 (7) ابن قزمان: فى نفح الطيب 3/ 615: «عبيد الله بن فرناس» (9) فأجبتها. . . النظم: ورد البيت فى تاريخ افتتاح الأندلس 60؛ نفح الطيب 3/ 615؛ نهاية الأرب /23/ 386/زهى (لعل الأصح: زها) على: فى تاريخ افتتاح الأندلس 60: «جرى من»؛ فى نفح الطيب 3/ 615: «وهى من»

محمد بن عبد الرحمن المنعوت بالأمين

وهو أول من رتب اختلاف الفقهاء إلى قصره، وأمرهم بالكلام بين يديه. وولد فى شعبان سنة ست وسبعين وماية وتوفى فى ليلة الخميس لثلث خلون من ربيع الأول سنة ثمان وثلاثين ومايتين. فكانت مدة مملكته إحدى وثلثين سنة وثلثة أشهر وستة أيام، وكان له من صلبه بين ذكر وأنثى سبعة وثمانين ولدا منهم محمد بن عبد الرحمن ولى عهده. محمد بن عبد الرحمن المنعوت بالأمين كنيته أبو عبد الله، أمه من مولدات الأندلس يقال لها شغوف. بويع ليلة وفاة والده وهى ليلة الخميس لثلث خلون من ربيع الأول سنة ثمان وثلثين ومايتين. وكان عالما بالشعر وله تواليف فى نقده، يصنع الخطب. وعلى أيامه ضعفت دولة بنى أمية بالأندلس، وذلك أن رجلا يقال له بن حفصون كان نصرانى الأصل وأسلم، خرج عليه بمدينة ببشتر، وطالت فتنته، وهزم العساكر، وترك الأندلس شعلة نار تضطرم. (4) ربيع الأول: فى البيان المغرب 2/ 81؛ العقد الفريد 4/ 493؛ الكامل 7/ 69؛ نفح الطيب 3/ 125: «ربيع الآخر»، انظر أيضا مقالة «الأندلس» لليفي-بروفنسال 493؛ مقالة «عبد الرحمن» لليفي-بروفنسال 83؛ كتاب الأنساب لزامبور 3؛ فى نهاية الأرب 23/ 386: «شهر ربيع الأول. . . وقيل فى شهر ربيع الآخر» (5 - 6) صلبه. . . ولدا: فى نفح الطيب 1/ 347: «وعدد ولده مائة وخمسون من الذكور، وخمسون من الإناث»، كذا فى جمهرة أنساب العرب 98 (8) شغوف: فى المعجب 49: «تهتر»؛ فى المعجب 49 حاشية 1: «فى بعض المراجع: تهتز»، كذا فى نهاية الأرب 23/ 387 (9) ربيع الأول: انظر هنا حاشية سطر 4 (12) ببشتر: انظر معجم البلدان 2/ 54

أبو الحكم المنذر بن محمد الأمين

وكان الأمين محمد استخلف فى بعض مغازيه على قرطبة الوليد بن غانم. وكان فى قصره بعض أولاده، وكان لذلك الوليد وكيل متدلّل كثير الفساد. فرفعه بعض من ظلمه إلى الوليد فاستحضره ليزجره، فبعث ولد الأمين (304) خادما من خدمه يرسم له بإطلاقه والكف عنه، وإلا خرج بنفسه، فضحك الوليد، وكان لم ير ضاحكا قط. وقال للخادم: بالله الذى لا إله إلا هو لأن خرج رجله من باب القصر لأطرحنه بسجن الدويرة حتى يحضر أباه، أو يأتينى أمره بإطلاقه. ثم قال: علىّ بالبوابين. فقاموا إليه، فأمرهم بمثل ذلك وضرب الوكيل بالسياط. وولد محمد الأمين فى ذى القعدة سنة سبع ومايتين، وتوفى ليلة الخميس لليلة بقيت من صفر سنة ثلث وسبعين ومايتين. فكان عمره خمسا وستين سنة وثلثة أشهر، وكانت مدة مملكته أربعا وثلثين سنة وشهرين. أبو الحكم المنذر بن محمد الأمين بويع له فى صبيحة مات فيها أبيه، وقيل فى اليوم الرابع من وفاته (1 - 8) كان. . . بالسياط: ورد النص فى تاريخ افتتاح الأندلس 86 - 87 باختلاف فى اللفظ (9 - 10) ليلة. . . صفر: فى العقد الفريد 4/ 493: «يوم الجمعة مستهلّ ربيع الأول»؛ فى نهاية الأرب 23/ 392: «فى سلخ صفر. . . وقيل فى يوم الأحد غرّة شهر ربيع الأول» (11 - 12) أربعا. . . شهرين: فى نفح الطيب 1/ 352: «لخمس وثلاثين سنة» (14 - 1،474) بويع. . . ربيع الأول: فى البيان المغرب 2/ 113: «بويع يوم الأحد لثمان خلون من ربيع الأول سنة 273»؛ فى الكامل 7/ 424: «ولما مات ولى بعده ابنه المنذر بن محمد، بويع له بعد موت أبيه بثلاث ليال. . .»؛ وفقا لزامبور، كتاب الأنساب 3، حكم من 6 صفر

عبد الله بن محمد الأمين

وهو يوم الأحد لثلث خلون من ربيع الأول، وكملت له البيعة يوم الاثنين، وولد فى سنة ثمان وعشرين ومايتين، وتوفى يوم السبت النصف من صفر سنة خمس وسبعين ومايتين، وعمره ست وأربعين سنة، وكانت مدة مملكته سنة واحدة وأحد عشر شهرا وأياما، وكان محاصرا لمدينة ببشتر، واليوم الذى توفى فيه يسمى يوم العنصرة. عبد الله بن محمد الأمين بويع عبد الله بن محمد أخو المنذر فى اليوم الذى توفى فيه أخوه بالعسكر، فعاد بالجيوش ودخل قصر قرطبة لثلث عشرة ليلة بقيت من صفر المؤرخ. وكان مستبدا برأيه، مخالفا لنصحائه، وكان قد لاذ به القوم الذين أخرجتهم العرب من ماردة فكان يعدهم بصرفهم وعودهم إليها. فلما أفضت المملكة إليه، شاور أصحابه فلم يروا ذلك. فقال لهم: إنى قد وعدتهم ولا يمكننى أخلفهم. ثم جهز معهم عسكرا (305) قدم عليه ابن عياش القرشى، وأمره أن يستدعى صاحب بطليوس. ولما اتصل الخبر بأهل ماردة استجاشوا من ضامّهم من الحلفاء والمجاورين، ولقوا الجيش فهزموه وأخرجوا واليهم الذى كان عندهم من قبل عبد الله، وكتب إليه (2) ثمان: فى المعجب 52: «تسع»، كذا فى مقالة «الأندلس» لليفي-يروفنسال 493 (4) سنة. . . أياما: فى نفح الطيب 1/ 352: «سنتين إلا نصف شهر» (5) ببشتر: انظر الكامل 8/ 74 (7) بويع. . . أخوه: وفقا لزامبور، كتاب الأنساب 3، حكم من 7 ربيع الأول (8) لثلث. . . بقيت: فى نهاية الأرب 23/ 394: «لثلاث بقين» (14) بطليوس: انظر معجم البلدان 2/ 217 - 218؛ المنجد (فى الأعلام)، مادة «بطليوس»، ص 120،135؛ نهاية الأرب 23/ 457 حاشية 2

القرشى بما لقى، فأمره بالقفول، وخرجت ماردة عن يده، وزالت هيبته. وهكذا كانت ساير تصرفاته حتى خرج جميع مدن الأندلس عن يده. ولم يبق له إلا قرطبة، والغارات تشن عليها حتى أن بن حفصون بلغ فى مغارة إلى باب القنطرة من أبوابها ورمى برمحه للصورة التى على الباب فهشمها. ومن عجيب لينه أن ولده مطرّفا كان قد قتل أخاه محمد بن عبد الله والد الناصر. فلم ينكر عليه قتله بل قال له: قد سوّغتك قتل أخيك فالله الله فى ابن أمية-يعنى وزيره-فإنك إن قتلته قتلتك به. ثم حذر ابن أمية من مطرّف وأمره ألاّ يراه إلا على ظهر دابته، وكان مطرّف قد عزم على خلعه، ولم يمكنه ذلك لمكان ابن أمية، فعمل عليه حتى قتله فقتله والده به. ولد عبد الله المذكور فى سنة ثمانين ومايتين، وتوفى مستهل ربيع الأول سنة. . . وثلثماية وبلغ من السن اثنين وسبعين سنة فكانت مدة مملكته خمسا وعشرين سنة. (4) باب القنطرة: انظر الروض المعطار ص 153،156 (6 - 11) من. . . به: ورد النص فى نهاية الأرب 23/ 396، انظر أيضا تاريخ افتتاح الأندلس 104 (6) مطرّفا: فى المعجب 54: «المطرّف» (8) ابن أمية: فى تاريخ إسبانيا الإسلامية لليفي-بروفنسال 1/ 335 - 336: «عبد الملك ابن عبد الله بن أمية» (13) سبعين: فى الكامل 8/ 73: «أربعين»

الناصر لدين الله عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله

الناصر لدين الله عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله لما توفى عبد الله، نظر أهل قرطبة فيمن يولوه عليهم من شباب بنى أمية وفتيانها، فوقع رأيهم على عبد الرحمن بن محمد المقتول الذى قتله أخوه المقدم ذكره. فولى فى وقت لحظه السعد بطرفه. ومال إليه الإقبال بعطفه وأسعفه التوفيق بعطفه. فبويع فى يوم الخميس (306) مستهل ربيع الأول سنة ثلثماية صبيحة ليلة وفاة جده، وطلب منهم مالا يستعين به على مصالح جيشه فلم يجد. واتفق من أسباب سعادته أن صاحب المدور وهو حصن بقرب قرطبة أغار عليه فى نحو من ثلثماية فارس فخرج إليه عبد الرحمن فى نحو المايتين فهزمه وأسره فسلم إليه الحصن بكل ما فيه فوجد به أموالا أكفته فى ذلك الوقت. ثم لم يزل الدهر يخدمه والأيام تمثل أمره حتى أباد جميع التواير فى بلاد الأندلس من خمسة وعشرين سنة، والتقى مع بن حفصون فى وادى التفاح بجيّان، وكان ابن حفصون فى عشرين ألف فارس، وكان عبد الرحمن فى سبعة آلاف فهزمه عبد الرحمن وأفنى أكثر من معه قتلا وأسرا، وحصره فى حصن ببشتر حتى توفى، وانقرض بنوه. (5 - 6) الخميس. . . ثلثماية: كذا فى البنيان المغرب 2/ 156،158؛ وفقا لزامبور، كتاب الأنساب 3، حكم من صفر سنة 300 (7 - 9،478) واتفق. . . بالأثقال: ورد النص فى نهاية الأرب 23/ 397 - 399 (7) صاحب المدور: فى نهاية الأرب 23/ 397: «صاحب الدّوجر»

وبعث إلى المغرب الأوسط فملك سبتة وفاس وسجلماسة وغيرها من المدن الفجج. وغزا الروم بعد ذلك اثنى عشرة غزوة، حتى دوّخ بلادها ووضع عليهم جالية يؤدونها، وكان فيما اشترط عليهم اثنى عشر ألف صانع يصنعون له مدينة بناها وسماها الزهراء، وهذه المدينة على ثلثة أميال من قرطبة، أسندها إلى سفح الجبل، وساق المياه إليها، وجعل شكلها مستديرا يزيد على ثلثماية برج سوى أبدانها من الحجارة، وقسمها أثلاثا. فالثلث الذى يلى الجبل لقصوره ومنازله، والثلث الآخر دور الخدم، وكانوا اثنى عشر ألف خادم بمناطق الذهب وسيوف الحلى، يركبون لركوبه، والثلث الآخر بساتين تحت مناظر القصور. جلب إليها أنواع الفواكه والكروم. (307) ومن غريب ما بناه فيها مجلس مشرف على البساتين، مرفوع على العمد، مبنى على الرخام المجزّع، مصفّح بالذهب، مرصّع باليواقيت وأنواع الجواهر. وصنع أمام المجلس بحرا ملأه بالزيبق. فكان النور ينعكس منه إلى المجلس وعاد مدهشه. وكان قاضيه بقرطبة الفقيه منذر بن سعيد البلّوطىّ وكان مزاحا يطمع (3) جالية: فى نهاية الأرب 23/ 398: «جزية»؛ فى نهاية الأرب 23/ 398 حاشية 1: «فى سائر النسخ جاليه بتحريف فيما يبدو ولعلها جباية أو جايبة بمعنى مجبية وما هنا يدل على السياق فأثبتناه» (4) الزهراء: انظر مثلا البيان المغرب 2/ 231 - 232؛ الروض المعطار ص 95؛ المنجد (فى الأعلام)، مادة «مدينة الزّهراء»، ص 648؛ نفح الطيب 8/ 205 (كتاب الفهارس) (8) سيوف الحلى: فى نهاية الأرب 23/ 398: «السيوف المحلاة» (14) منذر. . . البلّوطىّ: فى البيان المغرب 2/ 233: «قضاته: منذر بن سعيد البلّوطىّ قاضى أبيه، ثم أبو بكر محمد بن السّليم»، انظر الكامل 8/ 674 - 675، قارن نفح الطيب 1/ 372 - 376 (14 - 3،478) وكان. . . فاستفتح: هذا النص ناقص فى نهاية الأرب 23/ 397 - 399

فيه من يراه. فإذا عرض أمر دينى لم يأخذه فى الله لومة لايم، فاستأذن فى بعض الأيام على الناصر، فأذن له فدخل فوقف فقال له الناصر: اجلس أيها القاضى! فاستفتح وقرأ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً ااحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ} إلى قوله: {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}. فقال عبد الرحمن: وعظت فأحسنت. ثم أمر بنزع ما على المجلس من صفايح الذهب والفضة. وكمل بناء الزهراء فى اثنى عشرة سنة، بألف بنّاء فى كل يوم، مع كل بنّاء اثنا عشر رقاصا لكونها مبنية بالأثقال. ذكر أبو الحسن بن الصفار أن يوسف ابن تاشفين لما دخل الزهراء وقد خربت من تسعين عاما ونقل أكثر ما فيها إلى قرطبة وإشبيلية قال لما رأى خرابها وآثار بنايها: هذا بناء رجل سفيه. فقال له الفقيه أبو مروان بن سراح: كيف تسمى بانيها سفيها، وإحدى حظاياه أخرجت مالا تشترى به أسرى. فلم يوجد ببلاد الروم أسير يفدى. وإنما صنع ما صنع ليضاهى مبانى الروم كحصن مرياطة وطركونة وقرطاجنّة وغيرهم. وسكن هذه (10) يوسف ابن (بن) تاشفين: انظر الأعلام 9/ 294 - 295 (15) طركونة: انظر الروض المعطار ص 125 - 127؛ معجم البلدان /6/ 44/قرطاجنّة: انظر أخبار مجموعة (الفهرست الجغرافى 11)؛ الروض المعطار ص 74، وغير واضح أىّ بلد هو المقصود بهذا الاسم

المدينة لما كملت خمسا وعشرين سنة وقد كان (308) عمّر مركبا عظيما وسفره إلى الإسكندرية فى سنة ثلث وأربعين وثلثماية، فصادف فى طريقه إليها مركبا لأبى تميم معدّ المنعوت بالمعزّ ملك إفريقية والقيروان قبل مملكته مصر، وفيه ذخاير وكتب. فاستعلى عليه مركب الناصر لكبره فأخذه ومضى إلى الإسكندرية وعاد إلى المريّة. وجهز المنعوت بالمعزّ أسطولا عظيما وولى عليه ابن أبى الحسين واليه على صقلية. فأتى إلى مرسى المرية فى سنة أربع وأربعين وثلثماية، فأحرق ما فيه من المراكب، وفى جملتها المركب المقدم ذكره. ولما بلغ الناصر ذلك بعث غالبا القايد فى سبعين مركبا إلى إفريقية فأحرق مرسى باب الجزيرة وبونة. ثم عاد إليه. ولم يكن أحد من قبل عبد الرحمن ينعث بأمير المؤمنين، وإنما كانوا يسمون بأبناء الخلفاء وأبناء الخلايف. فلما ولى عبد الرحمن تسمى بأمير المؤمنين ونعث بالإمام الناصر لدين الله. وولد الناصر يوم الخميس لتسع بقين من رمضان سنة سبع وسبعين ومايتين. وتوفى بالزهراء ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة خمسين وثلثماية. وكان عمره ثلثا وسبعين سنة وسبعة أشهر. وكانت مدة مملكته خمسين سنة. وحمل (8) غالبا: انظر هنا ص 484:15 (9) بونة: انظر المنجد (فى الأعلام)، مادة «عنّابة» 479 (11 - 3،480) ولم. . . البلّوطىّ: ورد النص فى نهاية الأرب 23/ 397 - 399 باختلاف بسيط (16) خمسين سنة: فى البيان المغرب 2/ 156: «خمسين سنة وستة أشهر وثلاثة أيام»، قارن أيضا نهاية الأرب 23/ 399

المستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن

من الزهراء إلى قرطبة ودفن بها. وكان له من الأولاد: سليمان، المغيرة، الحكم، عبد الملك، عبيد الله، عبد الجبار. قاضيه المنذر بن سعيد البلّوطىّ. المستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن كنيته أبو العاص. ولما توفى الناصر بويع ولده المذكور صبيحة يومه، وكان قد بايع له بولايته العهد فى حياته، ونعت المستنصر بالله، (309) وذلك يوم الخميس لثلث خلون من شهر رمضان. وكان ورعا زاهدا عالما عاملا عادلا جماعا للكتب. جمع منها ما لم يجتمع لأحد قبله. وكان قد رام قطع الخمر من الأندلس وتشدد فى استيصال كروم العنب من ساير بلاده. فقيل له إنهم يعملونها من التين وغيره. فتوقف عن ذلك إلا أنه أمر بإراقتها من ساير البلاد. وإليه رحل أبو علىّ القالى البغدادى صاحب الأمالى. وكذلك أبو (4) الحكم: فى الكامل 8/ 677: «الحاكم» (5) أبو العاص: فى البيان المغرب 2/ 233: «أبو المطرّف» (7 - 12) وكان. . . البلاد: انظر نفح الطيب 1/ 394 - 396 (8 - 6،482) جمع. . . غرس: ورد النص فى نهاية الأرب 23/ 400 - 402 (13) إليه. . . الأمالى: فى المعجب 59: «ولما وفد على أبيه أبو علىّ القالى. . .» (13 - 1،481) كذلك أبو. . . العين: انظر وفيات الأعيان 4/ 372

بكر الزبيدى صاحب كتاب مختصر العين. وكان منذر بن سعيد قاضيه مستمرا من حياة أبيه الناصر حتى توفى. فولى القضاء ابن بشير الفقيه، فاشترط على المستنصر نفوذ الحكم فيه فمن دونه. فمن غريب أمره أن امرأة منقطعة كانت لها أريضة تجاور بعض قصوره، فاحتاج إليها لتبنى فيها شيا مما يراد بناه، وسام الوكيل فى ذلك البيع من المرأة فابت. فأخذه الوكيل قهرا وبنى فيه منظرة بديعة أنفق فيها جملة وافرة. فوقفت المرأة لابن بشير القاضى، وقصّت عليه قصتها. فقال لها: انتظرينى عند القصر يوم كذا. فلما كان ذلك اليوم، ركب حماره وقصد الزهراء، وكان المستنصر فى ذلك اليوم بالاتفاق جالس فى تلك المنظرة. فلما رآه الحجاب بادروا بالاستيذان، فخرج الإذن له فدخل القصر، ومعه حماره. وعلى خرج كبير لا يطيق حمله إلا كثير من الرجال. فقال له المستنصر: ما جاء بالقاضى فى هذا الوقت؟ فقال: أريد ملء هذا الخرج من تراب هذا الموضع. فتعجب منه الحكم وأمر فملئ الخرج. ثم خلا القاضى به وقال: أدل عليك إدلال العلماء (310) على الملوك الحلماء، (2) منذر بن سعيد: انظر هنا ص 477، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 14

أن هذا الخرج لا يقله على الحمار إلاّ أنا وأنت. فضحك الحكم وقال: كيف نطيق ذلك أيها القاضى؟ فبكى القاضى وقال: فكيف نطيق أن نطوق هذا المكان أجمعه من سبعة أرضين فى حلقى وحلقك يوم القيمة، وأنا شريكك فى الإثم إن رضيت هذا الحكم؟ فبكا الحكم وقال: وعظت، فأبلغت أيها القاضى. ثم خرج عن المكان وسلمه إلى المرأة بكل ما بنى فيه وغرس. وغزا الحكم الروم حتى دوّخ بلادهم وزلزل حصونهم حتى زاد فى القطيعة عليهم، وبنا مصانع فى طرقات المسلمين لا حاجة له بها إلا قصد إذلالهم، وافتتح رحمه الله مملكته بحط المغارم، وقبض أيدى العمال، وقطع الخمور. وكتب المستنصر إلى العزيز صاحب مصر كتابا يشتمه فيه، فأجابه العزيز: أما بعد فإنك عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك لهجوناك والسلام. ومن قصيدة المستنصر يفتخر فيها وكتب بها إليه يقول <من الطويل>: ألسنا بنى مروان كيف تبدّلت … بنا الحال أو دارت علينا الدواير إذا ولد المولود منّا تهلّلت … له الأرض واهتزّت إليه المنابر (1) أن. . . الحمار: فى نهاية الأرب 23/ 401: «أن لا ينقل هذا الخرج على الحمار» (11 - 16) وكتب. . . المنابر: ورد النص فى نهاية الأرب 23/ 402 باختلاف بسيط (15 - 16) ألسنا. . . المنابر: ورد البيتان فى رايات المبرّزين 38

(311) هشام بن الحكم المنعوث بالمؤيد بالله

وولد المستنصر يوم الجمعة مستهل رجب سنة اثنين وثلثماية، وملك وسنه ثمان وأربعون سنة وشهران، وتوفى ليلة الأحد لأربع خلون من صفر سنة ست وستين وثلثماية فى أيام الطايع، فبلغ من العمر ثلثا وستين سنة وتسعة أشهر وثلثة أيام. وكانت مدة مملكته خمس عشرة سنة وخمسة أشهر وثلثة أيام. أولاده: هشام، سليمن، عبد الله. حاجبه: جعفر الصّقلبىّ المعروف بالفتى، والله أعلم. (311) هشام بن الحكم المنعوث بالمؤيّد بالله بويع له بولاية العهد فى حياة والده فى غرة جمادى الأول سنة خمس وستين وثلثماية. وجددت له البيعة يوم الاثنين لخمس خلون من (2) ثمان: فى المعجب 59: «سبع»؛ وفقا لهويثي ميرانده، مقالة «الحكم الثانى» 74، كانت سنة 46 سنة عند تولّيه (2 - 3) ليلة. . . صفر: فى نفح الطيب 1/ 396: «ثانى صفر»؛ فى نهاية الأرب 23/ 400: «فى يوم السبت لعشر خلون من المحرم» (3 - 4) فبلغ. . . أيام: فى نهاية الأرب 23/ 400: «فمات وله من العمر ثلاث وسبعون سنة وستة أشهر وعشرة أيام» (4 - 5) خمس. . . أيام: فى نفح الطيب 1/ 396: «. . . لست عشرة سنة من خلافته» (5) خمسة: فى البيان المغرب 2/ 233: «سبعة» (6 - 7) أولاده. . . بالفتى: ورد النص فى نهاية الأرب 23/ 2 وأيضا أولاده: فى جمهرة أنساب العرب 100: «فلم يعقب إلاّ هشاما. . .» (7) الصّقلبى: فى نهاية الأرب 23/ 402: «الصقلى» (9 - 18،484) بويع. . . تراه: ورد النص فى نهاية الأرب 23/ 402 - 403،406 باختلاف بسيط فى اللفظ والمعنى

صفر عند وفاة أبيه. وقد كان عمه المغيرة بن الناصر طلب المملكة. فقتل فى هذا اليوم، وتمت المملكة للمؤيد بالله. وكان سنه يوميذ عشرة أعوام وثمانية أشهر وأياما. ولما ولى هشام فى هذه السنة فى هذا السن، احتيج إلى مدبر لأمر المملكة، فوقع الاختيار على جعفر بن عثمن المصحفىّ، فقلده هشام حجابته وتدبير أمره يوم السبت لعشر خلون من صفر، وهو اليوم السادس من بيعته. وفى هذا اليوم قلد المنصور بن أبى عامر الوزارة، وكان قبل ذلك على الشرطة والسكة، وأشرك مع المصحفى فى الحجبة. فلم يزل المصحفى ينحطّ، والمنصور بن أبى عامر يرتفع حتى عزل المصحفى عن الحجابة فى يوم الاثنين لثلث عشرة ليلة خلت من شعبان سنة سبع وستين وثلثماية، وصودر المصحفى وطولب بماية ألف دينار، وتوفى فى المطبق بعد خمسة أعوام، فكانت مدة حجابته ستة أشهر وثلثة أيام. واتفق رأى المؤيد وابن أبى الرجال وابن الأصبحى على تقديم محمد بن أبى عامر المعافرىّ إلى رتبة الحجابة يوم الاثنين لثلث عشرة ليلة خلت من شعبان، ونعت بالمنصور، وبقى غالب بن عبد الرحمن مولى الناصر شريكه إلى أن قتل، وانفرد المنصور بالحجبة، وكان كما كتب على قبره <من الكامل>: آثاره تنبيك عن أفعاله … حتى كأنّك بالضمير تراه (1) الناصر: فى نهاية الأرب 23/ 402: «عبد الرحمن» (2 - 3) عشرة. . . أياما: فى البيان المغرب 2/ 253: «إحدى عشرة سنة وثمانية أشهر»؛ فى نفح الطيب 1/ 396: «تسع سنين»، قارن نفح الطيب 1/ 399؛ فى نهاية الأرب 23/ 402: «اثنتى عشرة سنة» (7) المنصور. . . عامر: قارن الكامل 9/ 176 (18) آثاره. . . تراه: ورد البيت فى نفح الطيب /1/ 398/أفعاله: فى نفح الطيب 1/ 398؛ نهاية الأرب 23/ 406: «أخباره» //بالضمير: فى نفح الطيب 1/ 398؛ نهاية الأرب 23/ 406: «بالعيان»

وغزا رحمه الله الروم اثنين وخمسين غزاة فى ستة وعشرين سنة (312) صايفة وشاتية فى كل سنة. منها غزوة باقه من مفاخر الإسلام فيها أن بعض الأجناد نسى راية مركوزة على بعض الجبال بقرب مدينة من مداين الروم، فأقامت حتى عادت المسلمين فى الغزاة الثانية ولم يتعرض لها متعرض من الروم. وعاد صاحبها فى الغزوة الثانية وأخذها بيده مكان أركزها بعد ستة أشهر. ومن مفاخره جوازه بالدرب الغربى، وهو مدخل من جبلين عظيمين، طول مسافته قدر بريد وعر فى وسط بلاد الإفرنج. فلما تجاوزه أخذ فى التحريق والإخراب والسبى وشنّ الغارات ذات اليمين وذات الشمال، فلم يستطع أحد يلقاه، وأقفرت البلاد مسافة أيام. فلما عاد وجد جميع ملوك الفرنج قد استجاشوا وضبطوا باب الدرب. وكان الشتاء قد حفزه فرجع واختار مكانا من بلادهم فاستوطنه وأمر ببناء الدور وجمع آلات الحرث وجمع الأتبان، حتى صح عندهم أنه يريد البناء. وكانت السرايا تخرج من العسكر وتأتى بالسبى والأبقار والأغنام والأقوات، فتختار الصغار والنساء وتقتل الباقين، حتى استد باب الدرب من جهته بجيف الروم ورؤوسهم. وكانت السرايا تخرج فلا تجد إلا بلادا خرابا. ولما طال بلاء العدو، بعثوا رسلهم إليه يسلونه أن يخرج ويترك الغنايم (7) جوازه. . . جبلين: انظر الكامل 8/ 678 (13) الأتبان: فى الكامل 8/ 678: «التبن»

والأسرى. فلم يجيبهم ولا جاوبهم، فسألوه أن يخرج بغنايمه. فقال: إن أصحابى قد أبوا الخروج. وقالوا: إنا لا نصل إلى بلادنا إلا وقد آن وقت الغزوة الأخرى فنقيم ها هنا إلى وقتها ثم نغزوها (313) ونعود. فلم يزالوا يسألونه حتى تقرر على أن يعطونه من دوابهم وبغالهم وعجلهم ما يحمل عليه السبى والغنايم، ويمدونه بالأقوات إلى أن يعود إلى بلاده، فأجابهم إلى ذلك كالممتن عليهم، وشرط عليهم أن ينظفوا الجيف من طريقه بأنفسهم ففعلوا، وانصرف. وروى أنه ختن بعض أولاده، فختن معه من أولاد أهل دولته خمس ماية صبى، وأما من الأيتام والضعفى فما يحصر عددهم، وأنفق على هذا الأعداد خمس ماية ألف دينار. وله أخبار عظيمة وآثار جليلة وغزوات مشهورة. وذلت له الروم حتى سيم الناس الأمن وضجروا من العدل. وكان ربما ركب إلى صلاة العيد فيحضر له نية الغزو فلا يرجع إلى منزله حتى يغزوا. وكان كلما عاد من الغزو أمر أن ينفض تراب ثيابه التى شهد فيها الغزاة فيجتمع ذلك. فلما حضرته الوفاة أمر أن ينثر ذلك الغبار على كفنه (8 - 10) وروى. . . دينار: انظر نهاية الأرب 23/ 405 (14 - 14،487) وكان. . . ذلك: ورد النص فى نهاية الأرب 23/ 404 - 406 باختلاف بسيط فى اللفظ والمعنى

إذا وضع فى لحده، وأن يحنط ببعضه. وكان أكثر مماليكه وجنده من سبيه. وتوفى فى مدينة سالم وهى مدينة بقرب قرطبة وسمّاها الزاهرة وانتقل إليها بأهله وولده وحاشيته إبقاء على المؤيّد بالله، وكان قد تخوف من بنى أمية أن يثوروا عليه لأنه ليس من بيوت المملكة. فأخذ فى تقتيلهم صغارا وكبارا، عملا فى الباطن لنفسه وفى الظاهر إشفاقا على المؤيد منهم، حتى أفنى من يصلح منهم للأمر، وفرّق الباقين فى البلاد والبوادى. فممن هرب منهم الوليد بن هشام الخارج على الحاكم بمصر الملقب بأبى ركوة الآتى خبره فى تاريخه إنشاء الله تعالى. واحتجر على المؤيد حتى لم يره أحد قط (314) منذ ولى المنصور الحجبة. وربما ركبه بعد سنين فيجعل عليه برنسا وعلى جواريه برانس فلا يعرف منهن ويأمر من يزيل الناس من طرقه حتى ينتهى إلى حيث يتنزه ثم يعود. ليس له من الملك إلاّ الطراز والسكة والاسم والدعاء فى الخطبة. وكان إذا سافر وكل من يفعل ذلك. فكان هذا داعيه لانقطاع ملك بنى أميّة. (3) سالم: انظر معجم البلدان 5/ 11؛ المنجد (فى الأعلام)، مادة «مدينة سالم»، ص 648؛ نهاية الأرب 23/ 405 حاشية 1؛ فى نهاية الأرب 13/ 405: «وكانت وفاته فى أقصى الثغور بمدينة سالم» //الزاهرة: انظر الروض المعطار ص 80 - 82؛ المنجد (فى الأعلام)، مادة «المدينة الزاهرة»، ص 645 - 648؛ فى نهاية الأرب 23/ 406: «وبنى مدينة الزاهرة بقرب قرطبة» (8) الوليد بن هشام: انظر نفح الطيب 2/ 658 - 659 (9) ركوة: فى نهاية الأرب 23/ 406: «زكوة» //الآتى. . . تاريخه: انظر كنز الدرر 6/ 275 - 276

ولما مات بايع العسكر ولده عبد الملك بن المنصور، فتركه بمدينة سالم وسار فى خاصة من غلمانه إلى الزهراء ودخل على المؤيد ملقيا بيده، وكان الغلمان وأهل البلد قد تجمعوا وقصدوا الزهراء وقالوا: لا بد من ظهور المؤيد وولايته الأمر بنفسه! وبلغه ذلك فآثر الراحة والدعة. وأحضر عبد الملك فأخلع عليه وقلده مكان أبيه، ونعثه بالحاجب المظفر سيف الدولة. وأمر فايق الخادم أن يخرج إلى المجتمعين فيصرفهم ويخبرهم أنه راض بحجبة المظفر، فخرج وأخبرهم فأبوا. وخرج المظفر بعد ذلك وفايق معه، وقدم له فرس وأمسك ركابه. فقابلته الفية المتجمعة فهزمهم. وأقام فى الحجبة إلى أن توفى يوم الجمعة لاثنتى عشرة ليلة بقيت من صفر سنة تسع وتسعين وثلثماية. وكان مخيما للغزو، فرجع به فى تابوت ودفن بالزاهرة، وكان عمره شيا وثلثين سنة، ومدة حجبته ستة أعوام وأربعة أشهر. وكان قد غزا الروم نحو ثمانى غزوات، وبأيامه (1) عبد الملك بن المنصور: انظر المعجب 85؛ نفح الطيب 1/ 423؛3/ 94 (3 - 6،489) وكان. . . الرعية: ورد النص فى نهاية الأرب 23/ 406 - 407 باختلاف بسيط فى اللفظ. (6) فايق: فى نهاية الأرب 23/ 407: «فاتن»، انظر أيضا نهاية الأرب 23/ 407 حاشية 1، قارن نفح الطيب 1/ 396؛3/ 82 (11) من صفر: فى نفح الطيب 1/ 423: «فى المحرم» (12) شيا (لعل الأصح: ستا). . . سنة: فى البيان المغرب 2/ 60: «أربعين سنة وأربعة أشهر وأربعة أيام»

يضرب المثل فى الأندلس عدلا وأمنا. ولما مات ولى المؤيد حجبته لأخيه عبد الرحمن بن المنصور ونعته بالحاجب المأمون ناصر الدولة، فأجرى (315) الأمور على غير طريقتى أبيه وأخيه، وأظهر الفجور والخمور والزناء والفسق، وكان تهدد المؤيد وأوعده القتل، فولاه المؤيد كرها وخوفا، فاشمأزات نفوس بنى أمية منه مع ساير الأجناد والرعية. واتفق أنه تحرك بعد مدة إلى الغزاة المسماة بغزوة الطين، ونزل طليطلة، وبلغه الخبر بخروج المهدى محمد بن هشام على المؤيد بالله وتسليمه إياه وخلعه له وإخرابه الزاهرة على ما يأتى شرحه، فاضطربت أحواله وقصد بالعسكر قرطبة فنزل قلعة رباح وأخذ تحليف الناس له فتفرقوا عنه والتحقوا بمحمد بن هشام وتركوه فتحصّن فى حصن هناك، فخرج إليه محمد بن هشام فحصره فمات لست خلون من رجب سنة تسع وتسعين وثلثماية، فكانت مدة حجبته خمسة أشهر وأياما. ولد المؤيد لثمان بقين من جمادى الأول سنة خمس وخمسين وثلثماية، وخلع يوم الثلثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلثماية، فى أيام القادر بالله. فكانت مملكته ثلثا وثلثين سنة وأربعة أشهر وأحد عشر يوم. حجابه المذكورون فيما تقدم، والله أعلم. (7 - 11) واتفق. . . هشام: انظر نهاية الأرب 23/ 410،414 - 417 (10) قلعة رباح: انظر نهاية الأرب 23/ 414 حاشية 2 (13) خمسة: فى نهاية الأرب 23/ 417: «أربعة»

المهدى بالله محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر

المهدى بالله محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر كان ممن هرب من المنصور بن أبى عامر، ونشأ بالبادية، وكان عنده شجاعة وإقدام شديد. فلما خلت قرطبة من الحاجب المأمون ناصر الدولة، ثار بها فى اليوم الذى خلع فيه المؤيد وكان فى ثلثة عشر رجلا، وثار معه عوام قرطبة، وسار إلى القصر فقبض على المؤيد، وبايعه أهل البلد فأحالهم على الزاهرة بلد بنى المنصور فنهبت وهدمت، ونقل هو ما أمكنه إلى القصر. قال صاحب كتاب الدول: ذكر (316) ابن الرقيق الكاتب فى تاريخه، أنه أنهب بيوت أموالها ستة أيام، فلم يبق أحد من هل قرطبة إلاّ ونال منها، ثم منع النهب وحفظ ما بقى. فكان منه ستة آلاف كيس ليس فيها درهم إلا من جوالى الروم. ولما قبض على المؤيد أخفاه عند وزيره الحسين بن حىّ مدة، ثم أخذ نصرانيا يشبهه ففصده ونزف دمه حتى مات، وأظهره وذكر أنه المؤيد ودفنه بالروضة فى يوم الاثنين لثلث بقين من شعبان سنة تسع وتسعين (8) صاحب. . . الدول: انظر هنا ص 446، الهامش الموضوعى، حاشية سطر /12/ ابن الرقيق: انظر مقالة «ابن الرقيق» لمحمد طلبى ص 902 - 903 (12 - 1،491) ولما. . . ثلثماية: انظر البيان المغرب 3/ 77؛ نهاية الأرب 23/ 418 (14) بالروضة: فى نفح الطيب 8/ 204 (الفهرس): «الروضة (قصر بقرطبة)»

وثلثماية. وبعد ذلك قام الجند القدماء وجماعة من أهل قرطبة عليه مع هشام بن سليمان بن الناصر، وهو ابن عم أبى المهدى، فى يوم الخميس لخمس بقين من شوال من العام المذكور، فنعتوه بالرشيد وحاربوا المهدى نهارهم. فلما كان صبيحة يوم الجمعة، وهو يوم المهرجان، هزم المهدى هاشما وأسره وابنه وثلثة من بنى عمه فقتلهم فى نفس اليوم، وتفرقت الأجناد الثايرين معه وخرجوا من قرطبة هرابا، فتجمعوا بسرقسطة وفارقهم العبيد فعادوا إلى المهدى. وكان فى جملة من فرّ مع الجند سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر، وأحمد بن سعيد المنعوت بالبربر. وكان خير من جسيم فاتفق رأيهم أن ينصبوا سليمان خليفة ويأكلوا به بلاد الأندلس، فبايعوه واستوزره سليمان ونعت نفسه بالمستعين بالله. ثم قام جماعة إلى البربر وقصدوا مبايعة مروان بن هشام المنعوت بالرشيد الذى قتله المهدى ففطن لهم سليمان فقبض عليه وعليهم، فقتلهم ونهض إلى وادى الحجارة فدخلها بالسيف عنوة. وأعرض نفسه على واضح العامرى غلام المنصور بمدينة سالم فلم يقبله، وبعث إليه المهدى قيصر الفتى فى جيش لينصره على (2) الناصر: فى الكامل 9/ 680؛ نهاية الأرب 23/ 419: «عبد الرحمن» (4) صبيحة. . . المهرجان: فى نهاية الأرب 23/ 419: «لأربع بقين من شوال» (7) الحكم: فى الكامل 8/ 680: «الحاكم» (12 - 3،492) نهض. . . فأنجده: ورد النص فى نهاية الأرب 23/ 419 - 420 (13) واضح العامرى: فى الكامل 8/ 681: «واضح الفتى العامرىّ»

المستعين بالله سليمان بن الحكم

سليمان (317) فضامه واضح، وخرجا إلى سليمن والتقيا به فانهزم واضح وقتل قيصر الفتى. ولحق واضح بمدينة سالم فتحصن بها، وكان سليمان قد استنجد قردلند الرومى فأنجده، وبعث إليه ألف عجلة بوادى سرينه، فيها أنواع الملبوس والمأكول. وسار وهو معه إلى قرطبة فوصل إليها يوم السبت النصف من ربيع الأول سنة أربع ماية. فحاربه أهل قرطبة ومن كان فيها مع واضح العامرى فهزمهم سليمان وقتل فيهم ما يزيد عن عشرين ألفا. وحين رأى المهدى الأمر أخرج المؤيد هشاما للناس وشغلهم به وفرّ بنفسه واختفى. ثم ظهر بعد ذلك بطليطلة. ودخل سليمان المنعوت بالمستعين إلى قرطبة وقبض على المؤيد وسجنه، وكانت مدة مملكته الثانية تسعة أشهر غير يومين. المستعين بالله سليمان بن الحكم ولما دخل سليمان وملك قرطبة خلع على بن قردلند الرومى فصرفه عنه، وأنزل البربر معه فى الزهراء فأخربوها. (3) قردلند (فردلند): فى نهاية الأرب 23/ 420: «ابن مادويه الرومى»؛ فى نهاية الأرب 23/ 420 حاشية 1: «فى نفح الطيب 1/ 403: ابن أدفونش»

دولة المهدى الثانية

ومضى محمد بن هشام المنعوت بالمهدى من طليطلة، واتفق هو وواضح العامرى ومجاهد على إخراج الفرنج، فأخرجوهم وساروا بهم إلى قرطبة. فخرج إليهم سليمان إلى عقبة البقر فانهزم وذلك فى شوال سنة أربع ماية، وقتل فى هذه الوقعة أخورلمند صاحب عسكر الفرنج وفرّ سليمان فى نحو ستماية فارس من العبيد والبربر إلى شاطبة ولحقه البربر من الزهراء وصاروا بوادى آره. فكانت مدة مملكة سليمان سبع أشهر، وعاد المهدى. دولة المهدى الثانية دخل المهدى مدينة قرطبة فى دولته الثانية عند انهزام المستعين بالله (318) فى شوال سنة أربعماية، واجتمع الناس مع المستعين بشاطبة، وسار بهم على بلاد الأندلس ينهبها ويعبث ويخرب فيها. ولما عاد المهدى إلى قرطبة، صرف الفرنج مكرمين، وعقد مجلسا حضر فيه جميع رؤساء قرطبة فى القصر المسمى بالمبارك، وأحضر هشاما المؤيد وأجلسه إلى جانبه وأشهد له بخلع نفسه، وكتب عهدا بذلك، واتفق بعد ذلك (1 - 5) ومضى. . . شاطبة: انظر البيان المغرب 3/ 91 - 95؛ الكامل 8/ 681 - 682 (3) عقبة البقر: انظر المعجب 89؛ نفح الطيب 1/ 428 حاشية 2؛ فى نهاية الأرب 23/ 423: «عقبة الثغر» (4) أخورلمند. . . الفرنج: فى البيان المغرب 3/ 95: «ملكهم ارمقند»؛ فى نهاية الأرب 23/ 423: «ملكهم أرمغند» (5) شاطبة: انظر معجم البلدان 5/ 214 - 215؛ المنجد (فى الأعلام)، مادة «شاطبة»، ص 381؛ نهاية الأرب 23/ 423 حاشية 3 (5 - 6) لحقه. . . آره: انظر المعجب 89؛ فى نهاية الأرب 23/ 424: «. . . بوادى لدة»

اضطراب من واضح والعبيد على المهدى. فلما رأى ذلك جمع كل مال نفيس كان فى القصر وسلمه إلى بن رافع من أهل طليطلة، وأمره بالخروج إليها وأخذ فى التحيل فى الخروج على أثره. فلما كان يوم الأحد يوم منى من سنة أربع ماية ركب واضح والعبيد وأهل الثغر واجتمعوا فى الربض وصاحوا: لا طاعة إلا طاعة المؤيد! ثم قصدوا القصر وأخرجوا المؤيد وأجلسوه على منبر الخلافة وألبسوه لباسها. وكان المهدى فى الحمام فدخل عليه بن وداعة وأخبره الخبر. فقال: أنا أخرج وأدع هاشما يصدهم عما أرادوا ويصرفهم. وخرج وصعد السطح وأراد أن يجلس إلى جانب هشام المؤيد فأخذ عنبر الخادم بيده ورمى به من على المنبر إلى أن أجلسه بين يدى المؤيد. فلما رأى المهدى ذلك ولم ير المؤيد أنكر ذلك عليه [و] تيقن الشر فأكب على رجل هشام يقبلها ويتضرع. فسقطت قلنسوته عن رأسه. فأخذها المؤيد وضرب بها وجهه وقال: يا كلب، هتكت سترى، وانتهكت حرمتى، وأنهبت أموالى وأموال المسلمين، وأقمت الفتن. فأخذ عنبر بيده وأقامه وطلع به السطح الذى كان يلى المؤيد، وأراد ضرب رقبته فتعلق به فتعاورته السيوف (319) من العبيد والخدم والصقالبة، ورموا بجسده من السطح وحزّوا رأسه ونصبوها. (1 - 3،495) فلما. . . يومين: رود النص فى نهاية الأرب 23/ 425 - 426 باختلاف بسيط فى اللفظ والمعنى (4) يوم منى: فى البيان المغرب 3/ 100 بمناسبة أخرى: «يوم منّى من ذى حجة»

دولة المؤيد الثانية

فكانت مدته هذه فى المملكة شهرا واحدا. ولد فى برنسه فى سنة ست وستين وثلثماية، فكان عمره خمسا وثلثين سنة، ومدة مملكته الأولة والثانية عشرة أشهر إلا يومين. دولة المؤيّد الثانية وبايع الناس هشاما يوم الأحد، وهو يوم منى سنة أربعماية، وأمر بإحضار رأس المهدى فأحضرت، فأمر بها أن توجه إلى البربر، وهم حينيذ بوادى شوش فى خدمة المستعين، طمعا منه فى أن البربر يفعلون بالمستعين كما فعل بالمهدى ويعودون إلى طاعته فيستقيم الأمر له، فوجهت مع جماعة من رؤساء أهل قرطبة، فلما أن وصلوا إليهم، فطن البربر لقصدهم فكادوا يقتلونهم لولا المستعين منعهم من ذلك فعادوا إلى قرطبة. وكان عبد الملك بن المهدى بطليطلة واليا لأبيه، فمال إليه أهلها، وبعث إليه المستعين برأس أبيه وألف دينار وولاه عهده، وتولى واضح العامرى حجابة المؤيد واستدعى المؤيد محمد بن المظفر عبد الملك بن المنصور وهو ابن ثمان سنين فركبه بين يديه، وأمر واضح بحفر الخندق (5 - 11) وبايع. . . قرطبة: ورد النص فى نهاية الأرب 23/ 426 - 428 باختلاف بسيط فى اللفظ (5) يوم منى: فى نهاية الأرب 23/ 426: «فى يوم الأحد الحادى عشر من ذى الحجة»

على قرطبة فحفر، وسليمان المستعين مع البربر وقد جاسوا خلال الديار. ولم يبقوا من البلاد غير الآثار فى مدة ثلث سنين، والأحوال بقرطبة تضيق بعد انشراحها. والأرض قد فسدت بالفتن فحصل اليأس من صلاحها. ثم إن المستعين قصد قرطبة بمجموعة من البربر فلم يتمكن منها. فقصدوا الزهراء، وبها مغاور العامرى من قبل المؤيد، (320) ومعه طارق الخليفة فاستولى عليهما وقتلهما وسكنها، ومعه البربر، وأخذ يقاتل قرطبة كل يوم، وواضح ينوب حربه فيها، إلى أن ثار عليه الأجناد مع ابن وداعة فقتلوه فى السطح فى المكان الذى قتل فيه المهدى يوم الثلثاء النصف من ربيع الأول سنة اثنين وأربعماية. وكان عبد الرحمن بن سنوه مع سليمان، فهرب منه وصار إلى قرطبة. واتفق هو وابن وداعة على التدبير، ثم عمل ابن سنوه على بن وداعة فقتله وتولى حرب المستعين. ثم اضطرب الجيش عليه وزادت أحوال الناس اضطرابا، وبلغت الخبزة ثلثة دراهم ونصف بالنقد الهاشمى. وكان خروج سليمان بالبربر فتنة دهم أهل الأرض ظلامها، وأمطر عليهم غمامها. ولقد قيل: إن البربرى كان يلقى النار ليحرق الزرع والنبات فيحرق مع ذلك ما شاء الله من جنات وزروع ومقام كريم. وكانوا قال الأسعد بن بلّيطة فيهم <من السريع>: (7) ابن وداعة: فى نهاية الأرب 23/ 428: «ابن أبى وداعة» (17) عن الأسعد بن بليطة قارن المغرب 2/ 17؛ وفيات الأعيان 5/ 42 حاشية 3

دولة المستعين بالله سليمان بن الحكم

ثلثة من طبعها الفساد … النار والبربر والجراد ولما اشتدت الأسعار بقرطبة، نازلها المستعين بنفسه فدخلها يوم الأحد لثلث خلون من شوال سنة ثلث وأربع ماية. فكانت مدة المؤيد الثانية سنتين وتسعة أشهر وعشرين يوما. وفقد المؤيد لخمس بقين من شوال من هذه السنة المذكورة، ولم يعرف له خبر إلا ما سيأتى ذكره إنشاء الله تعالى. دولة المستعين بالله سليمان بن الحكم ودخل المستعين القصر يوم الثلثاء لخمس خلون من شعبان ولقّب بالظافر بحول الله، وكان أديبا شاعرا فمن شعره يقول [يعارض قول الرشيد العباسى <من الكامل>: ملك الثلث الأنسيات عنانى] (2 - 3) يوم. . . ماية: التاريخ المعطى هنا لا يتوافق مع لوائح فيستنفلد-مالير//يوم. . . شوال: فى البيان المغرب 3/ 113: «يوم الاثنين لثلاث بقين من شوال»؛ فى الكامل 9/ 218: «منتصف شوال» (5) بقين: فى نهاية الأرب 23/ 428: «خلون» (7) الحكم: فى الكامل 9/ 241: «الحاكم» (8) يوم. . . شعبان: فى البيان المغرب 3/ 113: «يوم الاثنين لثلاث بقين من شوال من سنة ثلاث وأربعمائة» (9 - 11) فمن. . . عنانى: انظر البيان المغرب 3/ 118؛ ديوان العباس بن الأحنف 312؛ رسائل ابن حزم 2/ 199؛ فى المعجب 93: «وإنما قصد المستعين بهذه الأبيات معارضة الأبيات التى عملها العباس بن الأحنف على لسان هرون الرشيد فنسبت إليه، وهى. . .»؛ نفح الطيب 1/ 430؛ نهاية الأرب 23/ 430، انظر أيضا التاريخ الإسلامى فى الأندلس لهوينرباخ 252

<من الكامل>: (321) عجبا يهاب الليث حدّ سنانى … وأهاب لحظ قوارع الأجفانى وأقارع الأهوال لا متهيّبا … منها سوى الإعراض والهجران وتملّكت نفسى ثلث كالدما … زهر الوجوه نواعم الأبدان لكواكب الظّلماء لحن لناظر … من فوق أغصان على كثبان هذى الهلال وتلك بنت المشترى … حسنا وهذى أخت غصن البان حكّمت فيهن السّلوّ إلى الضّنى … فقضى بسلطان على سلطانى فأبحن من قلبى الحمى وثنيننى … فى عزّ ما لى كالأسير العانى لا تعذلوا ملكا تذلّل للهوى … ذلّ الهوى عزّ وملك ثانى إن لم أطع فيهن سلطان الهوى … كلفا بهن فلست من مروان وإذا الكريم أحبّ أمّن إلفه … خطب القلى وحوادث السّلوان وإذا تجارى فى الهوى أهل الهوى … عاش الهوى فى غبطة وأمان (2 - 10) عجبا. . . مروان: ترجم هذه الأبيات هوينرباخ إلى الألمانية، انظرها فى كتابه التاريخ الإسلامى فى الأندلس 252، والمصادر المذكورة هناك، مثلا البيان المغرب 3/ 118 - 119؛ المعجب 92 - 93؛ نفح الطيب 1/ 430 - 431 (2) قوارع: فى البيان المغرب 3/ 118؛ المعجب 92؛ نفح الطيب 1/ 430: «فواتر» (7) حكّمت: فى المعجب 92؛ نفح الطيب 1/ 431: «حاكمت» //الضّنى: فى البيان المغرب 3/ 119: «الصبى»؛ فى نفح الطيب 1/ 431: «الرضى» (11 - 12) وإذا. . . أمان: ورد البيتان فى المعجب 92

وقبض المستعين عند دخوله قرطبة على أخيه المؤيد، وأخذ مقدمى العبيد فسجنهم فى المطبق. وفرّ خيران العامرى وصار بشرق الأندلس. ثم ملك البرية بعد ذلك. ووضع البربر أيديهم فى الناس، واستباحوا الأموال والحريم، وسليمان لا يمكنه دفعهم، وليس فى يده من البلاد مضافا إلى قرطبة غير إشبيلية ولبلة وأكشنبة وباجة، ولم تزل حاله كذلك إلى أن قام القايد علىّ ابن حمود بن ميمون بن أحمد بن علىّ بن عبد الله بن عمر بن إدريس بن عبد الله ابن الحسن بن الحسن بن علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه وسلّم على الصالحين من ذريته. قام بالعدوة فى سبتة سنة خمس وأربع ماية طالبا بدم المؤيد، وكان قد ولاه المستعين بلاد العدوة فى ذى القعدة سنة أربع ماية. (322) فلما وصل قرطبة وزحف عليها، فوجه إليه المستعين ولده وولى عهده محمد بن سليمان فى جماعة من زناتة. فكسرهم علىّ بن حمود وسار طالبا للقصر فقالوا للمستعين: لا بد من خروجك إليه. فركب وخرج فلما قربوا من (5) لبلة: انظر الروض المعطار ص 168 - 169؛ معجم البلدان 7/ 319؛ نهاية الأرب 23/ 384 حاشية /1/أكشنبة (أكشونبة): انظر الروض المعطار ص 106،114؛ فى البيان المغرب 3/ 355: «أكسونبة»؛ فى نهاية الأرب 23/ 429: «الشنبة» //باجة: انظر الروض المعطار ص 36 - 37؛ نهاية الأرب 23/ 379 حاشية 1 (5 - 11،500) علىّ. . . قتل: قارن البيان المغرب 3/ 117 - 122؛ الكامل 9/ 269 - 271؛ نهاية الأرب 23/ 429 - 432 (6) أحمد: فى التاريخ الإسلامى فى الأندلس لهوينرباخ 261: «حمود» //بن عمر بن إدريس: فى التاريخ الإسلامى فى الأندلس لهوينرباخ 261: «بن إدريس» (9) وكان. . . العدوة: فى نهاية الأرب 23/ 429: «ثم ولّى عليا. . . سبتة وطنجة» (11) محمد بن سليمان: انظر جمهرة أنساب العرب 102 (12 - 6،500) فلما. . . عبد الله: ورد النص فى نهاية الأرب 23/ 430 - 431

المرتضى بالله عبد الرحمن بن محمد ابن عبد الملك بن الناصر

عسكر علىّ بن حمود قادوا المستعين بلجام بغلته وسلموه لعلىّ بن حمود، ودخل على القصر يوم الأحد لسبع بقين من المحرم سنة سبع وأربعماية. وأحضر الفقهاء والوزراء وسأله بحضرتهم عن المؤيد. فقال: مات. فألزمه أن يريه قبره. فأخرج دفينا لا أثر به فأمر علىّ بتكفينه ودفنه. ثم استفتى الفقهاء فى قتل سليمان، وضرب عنقه يوم الأحد لسبع بقين من المحرم فى اليوم الذى دخل فيه القصر. وضرب عنق ولده الحكم وأخيه عبد الله. ولد المستعين والمؤيد فى يوم واحد. مدة مملكته الثانية ثلثة أعوام وثلثة أشهر بقصر قرطبة وجميع دولته بقرطبة وغيرها ست سنين وعشرة أشهر، وكان عمره يوم قتل إحدى وخمسين سنة وثمانية أشهر. أولاده: ولى عهده محمد، والوليد ومسلمة. وأقام علىّ بن حمود بقصر قرطبة إلى أن قتل حسبما يأتى ذكره. المرتضى بالله عبد الرحمن بن محمد ابن عبد الملك بن الناصر كنيته أبو المطرف ونعتوه بالمرتضى. ولد فى سنة ثلثة وستين وثلثماية. وكانت بيعته فى العشر الأول من ذى القعدة سنة ثمان وأربع ماية. (2) لسبع: فى البيان المغرب 3/ 120: «لثمان» (9) أولاده: فى جمهرة أنساب العرب 102: «. . . لسليمان المستعين ابن. . . اسمه محمد. . . وبقى لابنه سليمان المستعين ثلاثة ذكور: معاوية، ومسلمة، والوليد» (15 - 16) العشر. . . ماية: وفقا لزامبور، كتاب الأنساب 4، حكم من 13 رمضان سنة 408

المستظهر بالله عبد الرحمن بن هشام

ثم اجتمع مع منذر بن يحيى صاحب سرقسطة وخيران صاحب بلنسية وشاطبة وجماعة من العبيد. فبايعوه ورجعوا، وسعى من أراد الفساد بينه وبين منذر وخيران. فنكبوا عن قرطبة وطلبوا (323) غرناطة، وفيها زاوى بن زيرى بن مناد الصنهاجى. فخرج إليهم باتفاق كان بينهم فقاتلهم فانهزموا لما كان بينهم، وقتل المرتضى فى المعمعة يوم السبت لثلث خلون من جمادى الأولى سنة تسع وأربع ماية. هذا والقاسم بن حمود أخو علىّ بن حمود بقرطبة بعد قتلة أخيه علىّ. ثم أخرجه منها ابن أخيه يحيى بن علىّ بن حمود. ثم عاد القسم وأخرجه منها، وأقام بها إلى أن أخرجه أهلها وبايعوا أخا لمحمد المهدى ونعتوه المستظهر بالله عبد الرحمن بن هشام بويع له بقرطبة منتصف شهر رمضان سنة أربع عشرة وأربعماية، وقتل بدار الملك يوم السبت لثلث خلون من ذى القعدة من العام المذكور. فكانت مملكته شهرا وخمسة عشرة يوما. ولد فى ذى القعدة سنة إحدى وتسعين وثلثماية.

المستكفى بالله محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله

وزيره: الفقيه أبو محمد علىّ بن أحمد بن حزم. المستكفى بالله محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله ابن الناصر، أمه تسمى حوراء. بويع له بعد مقتل المستظهر يوم السبت بعينه، وخلع لخمس بقين من ربيع الأول سنة ستة عشرة وأربع ماية، وعمره ثمان وأربعون سنة وأشهر. وخرج من قرطبة يريد الثغر فمات فى قرية من قرى شنت مريّة فى أول ربيع الأول منها بسم أطعم. فكانت مدة مملكته بقرطبة سنة وأربعة أشهر، وملك قرطبة بعده يحيى بن علىّ بن حمود إلى أن خلع. فولى أخ للمرتضى ونعت المعتدّ بالله هشام بن محمد بن عبد الملك ابن الناصر وهو أخو المرتضى، مولده سنة أربع وستين وثلثماية، بويع له بقرطبة يوم الجمعة سلخ ربيع الآخر سنة ثمان عشرة وأربع ماية (1) بن حزم: فى الكامل 9/ 277: «. . . بن سعيد بن حزم» (5) ثمان. . . أشهر: فى البيان المغرب 3/ 140: «اثنان وخمسون سنة» (6) فمات. . . شنت مريّة: فى الأعلام 7/ 63: «وتوفى مقتولا أو مسموما فى قرية شمنت (قرب مدينة سالم) وقيل بأقليش»؛ فى المعجب 107: «وانتهى المستكفى المذكور من الثغر إلى قرية تعرف بشمّنت بالقرب من مدينة سالم»؛ فى نهاية الأرب 23/ 436: «فمات بقرية من قرى شنت مرية. . . وقيل فى وفاته. . . حتى انتهى إلى قرية يقال لها سمّونت من أعمال مدينة سالم» وأيضا شنت مريّة: انظر الروض المعطار ص 114 - 115؛ نهاية الأرب 23/ 343 حاشية 2 (7) ربيع الأول: فى نهاية الأرب 23/ 436: «ربيع الآخر» (12) سلخ: وفقا لزامبور، كتاب الأنساب 4، تولى فى السادس عشرة من ربيع الأول

وهو بالثغر فى (324) حصن البونت، فأقام سنتين وسبعة أشهر وثمانية أيام. ثم سار إلى قرطبة ودخل القصر يوم منى لثمان خلون من ذى الحجة سنة اثنين وعشرين وأربعماية. وكان مدبر أمره ووزيره أبو العاصى الحكم بن سعيد. فأما الطريقة فقتل ولم يكن له سابقة رياسة. وخلع المعتد وخرج إلى الثغر لينزعه من يد المنذر بن يحيى فمات بلاردة-وهى فى مملكة سليمان بن هود-يوم الجمعة لأربع بقين من صفر سنة ثمان وعشرين وأربعماية. فكانت مدة مملكته أربعة أعوام وثمانية أشهر وأياما. وكان خلع المعتد فى أول أيام القايم بأمر الله العباسى. ثم تولى قرطبة بعده عميد الدولة زهير العامرى قريبا من سنة. ثم

(325) فصل يتضمن ذكر شعراء الإسلام إلى حين انقضاء دولة بنى أمية بالمشرق

دعى للمؤيد هشام-وذكر أنه حى-فى يوم الخميس لليلتين خلتا من المحرم سنة سبع وعشرين وأربع ماية. فلمّا لم يصح ذلك تغلب على قرطبة أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور. وانقطعت دولة بنى أمية من ساير الأرض بكمالها، ولم يبق لهم منبر يخطب بأسمايهم. وتفرق أهل الأندلس بعدهم فرقا، وصار به دول وملوك وتشعبوا شعبا، وعاد فى كل جزيرة أمر المؤمنين ومنبر يخطب باسمه والله أعلم. قلت: قد انتهى الكلام فى ذكر ساير بنى أمية شرقا وغربا إلى حيث انقرضوا ولم يبق منهم باقية، ونحن نتلوا ذلك بذكر الشعراء الكاينين فى أول الدولة الأموية بالمشرق وما حضرنا من أشعارهم فى طبقتى المرقص والمطرب حسبما اشترطنا فى جميع أجزاء هذا الكتاب ليكون ذلك نزهة لأولى العقول والألباب وبالله التوسل وعليه التوكل. (325) فصل يتضمن ذكر شعراء الإسلام إلى حين انقضاء دولة بنى أمية بالمشرق قد تقدم القول من العبد فى الجزوين المتقدمين لهذا الجزء فى (3) أبو. . . جهور: انظر نفح الطيب 1/ 301 - 303،438 - /439/جهور: فى كتاب الأنساب لزامبور 55: «جوهر» (15) الجزوين (الجزأين) المتقدمين: يعنى الجزء الثانى والجزء الثالث، انظر كنز الدرر 1، المقدمة الألمانية لراتكه ص 5

تميم بن مقبل

الأول بذكر الشعراء الفحول من الجاهلية الأولين، وفى الجزء الثانى بذكر الشعراء الفحول من المخضرمين. وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام من شعراء النبى عليه أفضل الصلاة والسلام. والعبد يذكر فى هذا الجزء من تلاهم من المولدين الناقلين عن المخضرمين، ليكون كل جزء من هذا التاريخ قايم بزمانه، مفترد بأوانه إنشاء الله ولا قوة إلى بالله. تميم بن مقبل له فى المرقص <من البسيط>: يا هند أمسى سواد الرّأس خالطه … شيب القذال اختلاط الصّفو بالكدر النجاشىّ له فى المرقص <من الطويل>: قبيّلة لا يغدرون بذمّة … ولا يظلمون الناس حبّة خردل ولا يردون الماء إلاّ عشيّة … إذا صدر الورّاد عن كلّ منهل عبد الله بن الزّبير رضى الله عنه فى المطرب <من الوافر>: رمى الحدثان نسوة آل حرب … بمقدار سمدن له سمودا (1) الأول: يعنى الجزء الثانى//الجزء الثانى: يعنى الجزء الثالث، انظر كنز الدرر 3/ 414:6 (8) يا. . . بالكدر: ورد البيت فى ديوان تميم بن مقبل 73؛ كتاب الشعر /277/هند: فى تميم بن مقبل 73؛ كتاب الشعر 277: «حرّ» (11 - 12) قبيّلة. . . منهل: ورد البيتان فى كتاب الشعر 188 - 189

حميد بن ثور الهلالى

فردّ شعورهنّ السود بيضا … وردّ وجوههنّ البيض سودا حميد بن ثور الهلالى له فى المرقص فى فرخ القطاة <من الطويل>: كأنّ على أشداقه نور حنوة … إذا هو مدّ الجيد منه ليطعما ذو الرّمة من تشابيهه البديعة <من الطويل>: كأنّ أنوف الطّير فى عرصاتها … خراطيم أقلام تخطّ وتعجم [وقوله فى الناقة] <من البسيط>: كأنّما عينها ميم وقد ضمرت … وضمها الليل فى بعض الأضا ميم وقوله <من الطويل>: (326) قف العيس فى أطلال ميّة واسلا … رسوما كإخلاق الرّداء المسلسل أظنّ الّذى يجنى عليك سؤالها … دموعا كتبديد الجمان المفصّل (1) فردّ. . . سودا: ورد البيت فى معاهد التنصيص 277 (4) كأنّ. . . ليطعما: ورد البيت فى ديوان حيمد بن ثور ص 25؛ كتاب الشعر 230 (7) كأنّ. . . تعجم: ورد البيت فى ديوان شعر ذى الرمة 563 (9) كأنّما. . . ميم: ورد البيت فى ديوان ذى الرمة /580/ضمها الليل: فى ذى الرمة 580: «احتثّها السير» //ميم: فى ذى الرمة 580: «منها» (11 - 12) قف. . . المفصّل: ورد البيتان فى ذى الرمة 501 (12) يجنى: فى ذى الرمة 501: «يجدى»

أرطاة بن سهية

وقوله <من الطويل>: وما شنّتا خرقاء واهيتا الكلى … سقى بهما ساق ولم يتبلّلا بأضيع من عينيك للماء كلما … توهّمت رسما أو تأوّلت منزلا وقوله فى المطرب <من الطويل>: ولما تواقفنا جرت من عيوننا … دموع كففنا غربها بالأصابع وقلنا سقيطا من حديث كأنّه … جنا النّحل ممزوجا بماء الوقايع أرطاة بن سهية له فى المطرب، وكان ابن الأعرابى يعجب منه، [وهو من أرفع الأبيات طبقة] <من الطويل>: فقلت لها يا أمّ بيضاء إنه … هريق شبابى واستشنّ أديمى مضرّس بن ربعى فى التشبيهات العقم فى نعامة <من الكامل>: صفراء عارية الأشاجع رأسها … مثل المدقّ وأنفها كالمبرد (2 - 3) وما. . . منزلا: ورد البيتان فى وفيات الأعيان 4/ 13 (3) رسما: فى وفيات الأعيان 4/ 13: «ربعا» //تأوّلت: فى وفيات الأعيان 4/ 13: «توهمت» (5 - 6) ولما. . . الوقايع: ورد البيتان فى ذى الرمة 358 (5) تواقفنا: فى ذى الرمة 358: «تلاقينا» //غربها: فى ذى الرمة 358: «ماءها» (6) قلنا سقيطا: فى ذى الرمة 358: «نلنا سقاطا»

مطير بن الأشيم

مطير بن الأشيم من التشبيهات العقم <من البسيط>: تظلّ فيه بنات الماء طافية … كأنّ أعينها أشباه خيلان جميل بن عبد الله بن معمر له فى المرقص <من الطويل>: يضمّ علىّ الليل أطراف حبّها … كما ضمّ أطراف القميص البنايق وقوله فى المطرب <من الطويل>: ذكرتك بالديرين يوما فأشرفت … بنات الهوى حتى بلغن التراقيا وما زلت بى يا بثن حتى لو انّنى … من الوجد استبكى الحمام بكى ليا وقوله <من الطويل>: إذا ما زارتى طالعا من ثنيّة … يقولون: ما هذا؟ وقد عرفونى (9) وما. . . ليا: ورد البيت فى ديوان جميل بثينة 139؛ وفيات الأعيان /1/ 367/ زلت. . . بثن: فى وفيات الأعيان 1/ 367: «زلتم يا بثن» (11) إذا. . . عرفونى: ورد البيت فى جميل بثينة /124/ثنيّة: انظر جميل بثينة 124 حاشية /2/ما هذا: فى جميل بثينة 124: «من هذا»

عمر بن أبى ربيعة

عمر بن أبى ربيعة وقد تقدم، وله فى النحول <من الطويل>: قليل على ظهر المطيّة ظلّه … سوى ما نفى عنه الرّداء المحبّر وقوله <من الخفيف>: وهى مكنونة تحيّر منها … فى أديم الخدّين ماء الشباب مجنون ليلى له فى الغزل أعلا طبقة. (327) وله فى المرقص قوله <من الطويل>: متى يشتفى منك الفؤاد المعذّب … وسهم المنايا من وصالك أقرب بعاد وهجر واشتياق ووحشة … فلا أنت تدنينى ولا أنا أقرب كعصفورة فى كفّ طفل يزمّها … تذوق حياض الموت والطفل يلعب فلا الطفل ذو عقل يرقّ لما بها … ولا هى ذو ريش تطير فتذهب (3) قليل. . . المحبّر: ورد البيت فى ديوان عمر بن أبى ربيعة 122، انظر حاشية 1؛ كتاب الشعر 351 وأيضا قليل: فى كتاب الشعر 351: «قليلا» //ظلّه: فى كتاب الشعر 351: «شخصه» (5) وهى. . . الشباب: ورد البيت فى عمر بن أبى ربيعة 59 (9 - 12) متى. . . فتذهب: وردت الأبيات فى ديوان مجنون ليلى ص 44 - 45 (10) بعاد. . . وحشة: فى مجنون ليلى ص 44: «فبعد ووجد واشتياق ورجفة» (12) ولا. . . فتذهب: فى ديوان مجنون ليلى ص 45: «ولا الطير ذو ريش يطير فيذهب»

وقوله <من الطويل>: ولى ألف وجه قد عرفت مكانه … ولكن بلا قلب إلا أين أذهب وقوله <من الطويل>: وداع دعى إذ نحن بالخيف من منّى … فهيّج أشجان الفؤاد وما يدرى دعا باسم ليلى غيرها فكأنّما … أطار بليلى طايرا كان فى صدرى وقوله <من الوافر>: كأنّ القلب ليلة قيل يغدى … بليلى العامريّة أو يراح قطاة غرّها شرك فباتت … تجاذبه وقد علق الجناح فلا بالليل نالت ما تمنّت … ولا بالصّبح كان لها براح وله فى طبقة المطرب معظم قصيدته التى منها <من الطويل>: (2) ولى. . . أذهب: ورد البيت فى مجنون ليلى ص 45 (4 - 5) وداع. . . صدرى: ورد البيتان فى الأغانى 2/ 22،55؛ مجنون ليلى ص 162 - 163 (4) أشجان: فى أغانى 2/ 22: «أطراب»؛ فى الأغانى 2/ 55؛ مجنون ليلى ص 162: «أحزان» (7 - 8) كأنّ. . . الجناح: ورد البيتان فى الأغانى 2/ 48،62،89؛ قيس بن الملوّح المجنون لإنالجق 74؛ مجنون ليل ص 90 (8) غرّها: فى الأغانى 2/ 48،62،89؛ مجنون ليلى ص 90: «عزّها»، انظر أيضا الأغانى 2/ 48 حاشية 1 (9) فلا. . . براح: ورد البيت فى قيس بن الملوّح المجنون 74؛ مجنون ليلى ص /91/ تمنّت: فى قيس بن الملوّح المجنون لإنالجق 73: «ترجّى»؛ فى مجنون ليلى ص 91: «ترجّى»

وخبّرتمانى أنّ تيماء منزل … لليلى إذا ما الصّيف ألقى المراسيا فهاذى شهور الصّيف عنّا قد انقضت … فما للنّوى ترمى بليلى المراميا أعدّ اللّيالى ليلة بعد ليلة … وقد عشت دهرا لا أعدّ اللّياليا وأخرج من بين البيوت لعلّنى … أحدّث عنك النفس باليل خاليا ألا أيها الرّكب اليمانون عرّجوا … علينا فقد أضحى هوانا يمانيا يمينا إذا كانت يمينا وإن تكن … شمالا ينازعنى الهوى عن شماليا أصلّى فما أدرى إذا ما ذكرتها … أثنتين صلّيت الضّحى أم ثمانيا؟ وما بى إشراك ولكنّ حبّها … كعود الشّجى أعيا الطيب المداويا خليلىّ لا والله لا أملك الذى … قضى الله فى ليلى ولا ما قضا ليا (328) قضاها لغيرى وابتلانى بحبّها … فهلاّ بشئ غير ليلى ابتلانيا ولو كان واش باليمامة داره … ودارى بأعلا الرقمتين اهتدى ليا (1 - 2) وخبّرتمانى. . . المراميا: ورد البيتان فى الأغانى 2/ 10،69؛ قيس بن الملوّح المجنون 9083؛ مجنون ليلى ص 293 (1) تيماء: انظر الأغانى 2/ 10 حاشية 1؛ معجم البلدان 2/ 442 (3 - 5) أعدّ. . . يمانيا: وردت الأبيات فى قيس بن الملوّح المجنون 82،84،94؛ مجنون ليلى ص 294،296 (6) يمينا. . . شماليا: ورد البيت فى مجنون ليلى ص 295 (7 - 9) أصلّى. . . ليا: وردت الأبيات فى قيس بن الملوّح المجنون 82،84،90؛ مجنون ليلى ص 293،299 (10) قضاها. . . ابتلانيا: ورد البيت فى مجنون ليلى ص 293 (11 - 1،512) ولو. . . حباليا: ورد البيتان فى الأغانى 2/ 69؛ قيس بن الملوّح المجنون 83؛ مجنون ليلى ص 294 (11) الرقمتين: فى قيس بن الملوّح المجنون 83: «حضرموت»

وماذا لهم لا أحسن الله حالهم … من الحظّ فى تصريم ليلى حباليا وددت على حبّى الحياة لو آنّه … يزاد لها فى عمرها من حياتيا على أننى راض بأن أحمل الهوى … وأخلص منه لا علىّ ولا ليا ويا أهل ليلى كثّر [الله] فيكم … من امثالها حتى تجودوا بها ليا إذا ما شكوت الحبّ قالت كذبتنى … فما لى أرى منك العظام كواسيا فلا حبّ حتى يلصق الجلد بالحشى … وتخرس حتى لا تجيب المناديا وقوله <من الطويل>: لقد هتفت فى جنح ليلى حمامة … على إلفها تبكى وإنّى لنايم كذبت وبيت الله لو كنت صادقا … لما سبقتنى بالبكاء الحمايم وقوله <من الطويل>: مضى زمن والناس يستشفعون بى … فهل لى إلى ليلى الغداة شفيع (2) وددت. . . حياتيا: ورد البيت فى مجنون ليلى ص /305/حبّى: فى مجنون ليلى ص 305: «طيب» //لها فى عمرها: فى مجنون ليلى ص 305: «لليلى عمرها» (4) ويا. . . ليا: ورد البيت فى مجنون ليلى ص 305 (5 - 6) إذا. . . المناديا: ورد البيتان فى قيس بن الملوّح المجنون 78 (5) منك العظام: فى قيس بن الملوّح المجنون 78: «الأعضاء منك» (6) فلا حبّ: فى قيس بن الملوّح المجنون 78: «فما الحبّ» //تخرس: فى قيس بن الملوّح المجنون 78: «تخرب» (8 - 9) لقد. . . الحمايم: ورد البيتان فى الأغانى 2/ 76؛ مجنون ليلى ص 238 (8) ليلى: فى الأغانى 2/ 76؛ مجنون ليلى ص 238: «ليل» (9) صادقا: فى الأغانى 2/ 76؛ مجنون ليلى ص 238: «عاشقا» (11) مضى. . . شفيع: ورد البيت فى مجنون ليلى ص 192

عبد الله بن نمير الثقفى

وقوله <من الطويل>: أقضّى نهارى بالحديث وبالمنى … ويجمعنى بالليل والهمّ جامع لقد ثبتت فى القلب منك محبّة … كما ثبتت فى الراحتين الأصابع وقوله <من الوافر>: بعيشك هل ضممت إليك ليلى … وهل قبّلت قبل الصبح فاها وهل رفّت عليك فروع ليلى … رفيف الأقحوانة فى نداها عبد الله بن نمير الثقفى له فى المرقص ويروى للمجنون <من الطويل>: ولم أر ليلى غير موقف ساعة … ببطن منّى ترمى جمار المحصّب ويبدى الحصا منها إذا قذفت به … من البرد أطراف البنان المخضّب ألا إنما غادرت يا أمّ مالك … صدى أينما تذهب به الريح يذهب (2 - 3) أقضّى. . . الأصابع: ورد البيتان فى الأغانى 2/ 45، انظر الأغانى 2/ 45 حاشية 1؛ مجنون ليلى ص 185 (2) بالليل والهمّ: فى الأغانى 2/ 45؛ مجنون ليلى ص 185: «والهمّ بالليل» (5) بعيشك. . . فاها: ورد البيت فى الأغانى 2/ 24؛ قيس بن الملوّح المجنون 89؛ مجنون ليلى ص 286 وأيضا بعيشك: فى الأغانى 2/ 24؛ مجنون ليلى ص 286: «بربّك» //وهل. . . فاها: فى الأغانى 2/ 24؛ مجنون ليلى ص 286: «قبيل الصبح أو قبّلت فاها» (6) وهل. . . نداها: ورد البيت فى الأغانى 2/ 24؛ مجنون ليلى ص /286/فروع: فى الأغانى 2/ 24؛ مجنون ليلى ص 286: «قرون»، انظر أيضا الأغانى 2/ 24 حاشية 9 (9 - 1،514) ولم. . . مغرّب: وردت الأبيات فى الأغانى 2/ 20،33؛ مجنون ليلى ص 79،80 (9) ببطن: فى الأغانى 2/ 20،33: «بخيف»

قيس بن ذريح

وأصبحت من ليلى الغداة كناظر … مع الصبح فى أعقاب نجم مغرّب وقوله <من الطويل>: تظوّع مسكا بطن نعمان أن مشت … به زينب فى نسوة خفرات (329) يخبّين أطراف البنان من التّقى … ويخرجن شطر الليلى معتجرات ولمّا رأت ركب النّميرىّ أعرضت … وكنّ من ان يلقينه حذرات قيس بن ذريح له فى المطرب <من الطويل>: فإن تكن الدنيا بلبنى تقلّبت … فما زالت الدنيا بطون وأظهر لقد كان فيها للأمانة موضع … وللقلب مرتاد وللحظ منظر وللحايم الصديان رىّ بريقها … وللمرح المختال طيب ومسكر (1) وأصبحت. . . مغرّب: ورد البيت فى مجنون ليلى ص 79 (3 - 5) تظوّع (تضوّع). . . حذرات: وردت الأبيات فى الأغانى 6/ 192 - 193؛ كتاب الكامل 1/ 289،290 (3) خفرات: فى الأغانى 6/ 192؛ كتاب الكامل 1/ 289: «عطرات» (8 - 10) فإن. . . مسكر: وردت الأبيات فى الأغانى 9/ 205 (8) فما. . . الدنيا: فى الأغانى 9/ 205: «علىّ فللدنيا» (9 - 10) لقد. . . مسكر: ورد البيتان فى الأغانى 9/ 205 (9) وللقلب. . . للحظ: فى الأغانى 9/ 205: «وللكفّ مرتاد وللعين» (10) الصديان: فى الأغانى 9/ 305: «العطشان» //طيب: فى الأغانى 9/ 205: «خمر»

الأحوص

وقوله <من الطويل>: وإنّك من لبنى العشية رايح … مريض الذى تطوى عليه الجوانح وقوله <من الطويل>: تكاد بلاد الله يا أمّ معمر … إذا لم نكن فيها علىّ تضيق أردّ سوام الطرف عنك وهل لها … إلى أحد إلا إليك طريق وحدّثتنى يا قلب أنّك صابر … على البين من لبنى فسوف تذوق فمت كمدا أو عش سقيما فإنّما … تكلّفنى ما لا أراك تطيق الأحوص وقد تقدم، وله فى المرقص <من الكامل>: إنى إذا خفى الرجال وجدتنى … كالشّمس لا تخفى بكلّ مكان وقوله <من الطويل>: إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى … فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا

وإنى لأهواها وأهوى لقايها … كما يشتهى الظامى الشراب المبرّدا علاقة حبّ لجّ فى زمن الصّبى … فأبلى وما يزداد إلاّ تجدّدا وقوله <من الطويل>: أدور ولولا أن أرى أمّ جعفر … بأبياتكم ما درت حيث أدور وما كنت زوّارا ولكنّ ذا الهوى … إذا لم يزر لا بدّ أن سيزور وقوله <من البسيط>: كم من دنىّ قد صرت أتبعه … ولو صحا القلب عنها صار لى تبعا لا أستطيع نزوعا عن محبّتها … أو يصنع الحبّ بى فوق الذى صنعا أدعوا إلى هجرها قلبى فيتبعنى … حتى إذا قلت: هذا صادقا، نزعا (330) وزاده رغبة فى الحبّ إذ منعت … أشهى إلى المرء من دنياه ما منعا (1) الظامى: فى شعر الأحوص الأنصارى (تحقيق عادل جمال) رقم 62: «الصّادى» (4 - 5) أدور. . . سيزور: ورد البيتان فى الأغانى 6/ 255،12/ 115؛ شعر الأحوص الأنصارى (تحقيق عادل جمال) رقم 62 (7 - 10) كم. . . منعا: وردت الأبيات فى الأغانى 4/ 299؛ شعر الأحوص الأنصارى (تحقيق عادل جمال) رقم 101 (7) كم. . . تبعا: ورد البيت فى الحماسة الشجرية 1/رقم /449/صحا: فى الأغانى 4/ 299: «سلا» (9) أدعوا (أدعو). . . نزعا: ورد البيت فى الحماسة الشجرية 1/رقم 449 (10) وزاده. . . منعت: فى الأغانى 4/ 299؛ شعر الأحوص الأنصارى (تحقيق عادل جمال) رقم 101: «وزادنى كلفا فى الحبّ أن منعت» //أشهى. . . منعا: فى الأغانى 4/ 299؛ شعر الأحوص الأنصارى (تحقيق عادل جمال) رقم 101: «وحبّ شئ إلى الإنسان ما منعا»

كثير عزة

كثيّر عزّة وقد تقدم، وله فى المرقص <من الطويل>: ولمّا قضينا من منّى كلّ حاجة … ومسّح بالأركان من هو ماسح أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا … وسالت بأعناق المطىّ الأباطح وقوله فى المطرب <من الطويل>: أريد لأنسى ذكرها فكأنما … تمثّل لى ليلى بكلّ طريق وقوله <من الكامل>: الله يعلم لو أردت زيادة … فى حبّ عزّة ما وجدت مزيدا رهبان مدين والذين رأيتهم … يبكون من خوف العذاب هجودا لو يسمعون كما سمعت كلامها … خرّوا لعزّة ركّعا وسجودا وقوله <من الطويل>: سيهلك فى الدّنيا شفيق عليكم … إذا غاله من حادث الموت غايله

ويخفى لكم حبّا شديدا ورهبة … وللنّاس أشغال وحبّك شاغله كريم يميت السّرّ حتى كأنّه … إذا استخبروه عن حديثك جاهله يودّ بأن يمسى سقيما لعلّها … إذا سمعت عنه بشكوى تراسله ويهتزّ للمعروف فى طلب العلى … لتحمد يوما عند ليلى شمايله وقوله <من الطويل>: ألا إنما ليلى عصا خيزرانة … إذا غمزوها بالأكّف تلين تمتّع بها ما ساعفتك ولا يكن … عليك شجى فى الصدر حين تبين وإن حلفت لا ينقض النّأى عهدها … فليس لمخضوب البنان يمين وقوله <من الطويل>: وأدنيتنى حتى إذا ما سبيتنى … بقول يحلّ العصم سهل الأباطح تجافيت عنّى حين لا لى حيلة … وغادرت ما غادرت بين الجوانح

ابن صخر الهذلى

ابن صخر الهذلى له فى المرقص <من الطويل>: وإنى لتعرونى لذكراك نفضة … كما انتفض العصفور بلّله القطر تكاد يدى تندى إذا ما لمستها … وينبت فى أعضايها الورق الحظر (331) لقد تركتنى أحسد الوحش أن أرى … أليفين منها لا يروعهما الذعر وقد كنت آتيها وفى النّفس هجرها … بتاتا لأخرى الدهر ما طلع الفجر فما هو إلاّ أن أراها فجاءة … فأبهت لا عرف لدىّ ولا نكر وأنسى الذى قد كنت فيه هجرتها … كما قد تنسّى لبّ شاربها الخمر الصّمّة بن عبد الله له فى المطرب <من الطويل>: قفا ودّعا نجدا ومن حلّ بالحمى … وقلّ لنجد عندنا أن يودّعا (3 - 5) وإنى. . . الذعر: وردت الأبيات فى الأغانى 24/ 123 - 124 (3) نفضة: فى الأغانى 24/ 123: «فترة» (4 - 5) تكاد. . . الذعر: ورد البيتان فى شرح أشعار الهذليين 2/ 957 وأيضا الذعر: فى الأغانى 24/ 123؛ شرح أشعار الهذليين 2/ 957: «الزّجر» (4) أعضايها: فى الأغانى 24/ 124: «أطرافها» (6 - 8) وقد. . . الخمر: وردت الأبيات فى نقد الشعر 127 (7 - 8) فما. . . الخمر: ورد البيتان فى شرح أشعار الهذليين 2/ 958 (8) كنت فيه هجرتها: فى شرح أشعار الهذليين 2/ 958: «جئت كيما أقوله» //تنسّى: فى شرح أشعار الهذليين 2/ 958: «تتناسى»

ابن أبى فروة

ولمّا رأيت البين قد حال دوننا … وجالت بنات الشوق يحننّ نزّعا تلفّتّ نحو الحىّ حتى وجدتنى … وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا ابن أبى فروة له فى المرقص <من الطويل>: ولما نزلنا منزلا طله الندا … أنيفا وبستانا من النور حاليا أجدّ لنا طيب المكان وحسنه … منّى فتمنينا فكنت الأمانيا مالك بن أسماء بن خارجة فى المطرب <من الخفيف>: إنّ لى عند كلّ لفحة بستا … ن من الورد أو من الياسمين نظرا أو التفاتة أترجّى … أن تكونى حللت فيما يلينى وقوله <من الخفيف>: (1 - 2) ولمّا. . . أخدعا: ورد البيتان فى الأغانى 6/ 5 (1) البين. . . دوننا: فى الأغانى 6/ 5: «البشر قد حال بيننا» //يحننّ: فى الأغانى 6/ 5: «فى الصدر» (3) ابن أبى فروة: لم أتحقق من شخصية ابن أبى فروة (9 - 10) إنّ. . . يلينى: ورد البيتان فى الأغانى 17/ 234 (9) لفحة: فى الأغانى 17/ 234: «نفحة» //الياسمين: فى الأغانى 17/ 234: «الياسمينا» (10) يلينى: فى الأغانى 17/ 234: «يلينا»

نصيب

حبّذا ليلنا بدير بونّا … إذ نسقّى شرابنا ونغنّى من كميت كأنها دم ظبى … تدع الشّيخ كالفتى مرجحنّا حيثما دارت الزّجاجة درنا … يحسب الجاهلون أنّا جننّا نصيب وقد تقدم، وله فى المرقص قوله فى سليمان بن عبد الملك <من الطويل>: فعاجوا فأثنوا بالذى أنت أهله … ولو سكتوا أثنت عليك الحقايب وقوله <من الطويل>: أتصبر عن سعدى وأنت صبور … وأنت بسفر الصبر منك جدير فكدت ولم أخلق من الطير إن بدا … سنا بارق نحو الحجاز أطير (332) الفرزدق وقد تقدم، وله فى المرقص فى علىّ بن الحسين عليه السّلام لما سأله

جرير

عنه عبد الملك بن مروان <من البسيط>: هذا ابن فاطمة إن كنت تنكره … بجده أنبياء الله قد ختموا يكاد يمسكه عرفان راحته … ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم وقوله فى المطرب <من الطويل>: قوارص تأتينى فتحتقرونها … وقد يملأ القطر النداء فيفعم وقوله فى المرقص <من الطويل>: ونحن إذا عدّت معدّ قديمها … مكان النّواصى من وجوه السّوابق وقوله <من الكامل>: والشّيب ينهض فى السّواد كأنّه … ليل يصيح بجانبيه نهار جرير وقد تقدم، وله فى المطرب <من الوافر>: متى كان الخيام بذى طلوح … سقيت الغيث أيّتها الخيام (2 - 3) هذا. . . يستلم: ورد البيتان فى وفيات الأعيان 6/ 95 - 96 (2) تنكره: فى وفيات الأعيان 6/ 96: «جاهله» (5) قوارص. . . فيفعم: ورد البيت فى شرح ديوان الفرزدق /2/ 756/فتحتقرونها: فى شرح ديوان الفرزدق 2/ 756: «فيحتقرونها» //النداء (الأصح: الإناء): فى شرح ديوان الفرزدق 2/ 756: «الأتىّ» (7) ونحن. . . السّوابق: ورد البيت فى شرح ديوان الفرزدق 2/ 588 وأيضا نحن: فى شرح ديوان الفرزدق 2/ 588: «تجدنى» (9) والشّيب. . . نهار: ورد البيت فى شرح ديوان الفرزدق 2/ 467 (12) متى. . . الخيام: ورد البيت فى شرح ديوان جرير 512

الأخطل

وقوله <من البسيط>: وابن اللبون إذا ما كنّ فى قرن … لم يستطع صولة البزل القناعيس الأخطل وقد تقدم، وله فى المرقص وهو أهجى شعر قيل <من البسيط>: قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم … واستوثقوا من رتاج الباب والدار قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم … قالوا لأمّهم: بولى على النار قامت بأحمرها تندى مشافره … كأنّه رية فى عود جزّار شمعلة له فى المطرب <من الطويل>: وإنّ أمير المؤمنين وفعله … لكالدّهر لا عار بما فعل الدهر الراعى له فى المرقص قوله فى أسود <من الكامل>: وكأن فروة فعله فى رأسه … زرعت فأنبت جانباها فلفلا

الطرماح

الطّرمّاح له فى المرقص فى البرق <من الكامل>: يبدوا، وتضمره البلاد، كأنّه … سيف على شرف يسلّ ويغمد وقوله فى السحاب <من البسيط>: دان مسفّ فويق الأرض هيدبه … يكاد يدفعه من قام بالرّاح الكميت له فى المرقص قوله <من الطويل>: (333) فيا موقدا نارا لغيرك ضوءها … ويا حاطبا فى حبل غيرك تحطب عدىّ بن الرّقاع له فى المرقص قوله الذى حسده جرير عليه <من الكامل>: تزجى أغنّ كأنّ إبرة روقه … قلم أصاب من الدّواة مدادها وقوله <من البسيط>: يخرجن من فرجات النقع دامية … كأنّ آذانها أطراف أقلام وقوله <من الكامل>: (3) يبدوا (يبدو). . . يغمد: ورد البيت فى الأغانى 12/ 42؛ ديوان الطرماح 146 (8) فيا. . . تحطب: ورد البيت فى هاشميّات الكميت /54/حبل غيرك: فى هاشميّات الكميت 54: «غير حبلك» (11) تزجى. . . مدادها: ورد البيت فى الأغانى 9/ 313 - /314/روقه: انظر الأغانى 9/ 313 حاشية 1 (13) يخرجن. . . أقلام: ورد البيت فى ديوان عدى بن الرقاع ص 267

ليلى الأخيلية

وكأنّها وسط النساء أعارها … عينيه أحور من جآاذر جاسم وسنان أقصده النّعاس فرنّقت … فى عينه سنة وليس بنايم ليلى الأخيلية لها فى المرقص <من الطويل>: كريم يغضّ الطرف فرط حيايه … ويدنوا، وأطراف الرماح دوانى وكالسّيف إن لا ينته لان متنه … وحدّاه، إن خاشنته، خشنان الوليد بن يزيد بن عبد الملك فى المطرب <من البسيط>: واللّيل أطول شئ حين أفقدها … واللّيل أقصر شئ حين ألقاها انتهى القول فى ذكر الشعراء المذكورين، وبتمامهم تمّ الجزء الثالث من التاريخ المسمى بكنز الدرر وجامع الغرر بخط يد واضعه ومالفه وجامعه ومصنفه أضعف عباد الله وأفقرهم إلى الله أبو بكر بن عبد الله بن أيبك صاحب صرخد، كان عرف والده بالدواهدارى، غفر الله له ولوالديه (1 - 2) وكأنّها. . . بنايم: ورد البيتان فى الأغانى 9/ 311 (5 - 6) كريم. . . خشنان: ورد البيتان فى ديوان ليلى الأخيلية ص 119 (رقم 44) (5) فرط: فى ليلى الأخيلية ص 119 (رقم 44): «فضل» (9) واللّيل. . . ألقاها: ورد البيت فى ديوان الوليد بن يزيد ص 20 (10) الثالث: يعنى الرابع، انظر هنا ص 504، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 15

ولكافة المسلمين أجمعين، ولمن قرأه وتجاوز عن كل خطأ يراه. نجز ولله الحمد والمنّة بتاريخ آخر النهار المبارك من يوم الثلثاء سابع عشر شهر الله المحرم سنة أربع وثلثين وسبع ماية، أحسن الله نقضها بخير، على عوايده الجميلة. (334) يتلوا ذلك فى أول الجزء الرابع منه إنشاء الله تعالى ما مثاله: ذكر أول ابتداء الدولة العباسية بخلافة السفّاح عبد الله ابن محمد بن عبد الله ابن عباس رضى الله عنه موفقا لذلك بحول الله وقوته. والحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلامه، وحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل. (7) الرابع: مذكور بالهامش: الخامس، والأصح: الخامس، انظر هنا ص 504، الهامش الموضوعى، حاشية سطر 15

5 - الدرة السنية في أخبار الدولة العباسية

الجزء الخامس [تمهيد] ابن الدواداري والجزء الخامس من تاريخه يشكّل هذا القسم الجزء الخامس من العمل التاريخي العام ذي الأجزاء التسعة المسمّى «كنز الدرر وجامع الغرر» لسيف الدين أبي بكر بن عبد الله بن أيبك الدواداري (حوالي 685 حتى حوالي 737 هـ‍).وقد خصّص المؤلّف هذا الجزء ضمن تاريخه لمعالجة تاريخ الدولة العباسية. وعلى الرغم من ضخامة «كنز الدرر» وتفرّده؛ فإنّ المؤلف ابن الدواداري ظلّ غير معروف في الأدب التاريخي العربي. أمّا ما عرفه البحث التاريخي عنه في السنوات الثلاثين الأخيرة؛ فندين به للأجزاء التي نشرت من كتابه «كنز الدرر» والتي تبلغ-مع هذا الجزء-الثمانية. ذلك أنّ ابن الدواداري ينثر في مؤلّفه هذا معلومات وأخبارا عن نفسه وأسرته. فهو يتحدّث عن تحدّره النسبي ذاكرا جده، ومركّزا على والده، ومارا ببعض أفراد أسرته. كما أنه يتحدّث عن سيرته العلمية، وأعماله السياسية والاجتماعية والكتابية والثقافية، وآرائه وقناعاته الدينية. وهذه الأمور في مجموعها ترسم صورة حية ومؤثّرة لمثقّف مسلم في العهد الأول للدولة المملوكية. بيد أنّ أجزاء هذه الصورة لم يجر لأمها وضمّها حتى الآن. فكلما نشر جزء من أجزاء «كنز الدرر» تبيّنت تفاصيل جديدة عن حياة ابن الدواداري وأعماله العلمية. ثم إنّ ناشري أجزاء التاريخ يحرص كلّ منهم على الكتابة عن المؤلّف والكتاب في التقديم أو في كتابات منفصلة. وقد ظهرت مادّة عن ابن الدواداري في النشرة الجديدة لدائرة المعارف

الإسلامية. ويجري تصويره في الكتابات الأخيرة باعتباره ممثّلا مبكّرا لشكل جديد من أشكال الكتابة التاريخية، وباعتباره أحد مثقّفي وكتّاب العربية من الفئة التركية الحاكمة بمصر. وهذا ما ذكره أولريك هارمان U.Haarmann في كتاباته المتعددة عنه، مضيفا لذلك تميّزه بالاهتمام بثقافة مصر قبل الإسلام. كما أنّ هارمان U.Haarmann ودونالد ليتل D.Little عنيا بابن الدواداري في سياق دراساتهما المقارنة للمصادر التاريخية في العصر المملوكي. أمّا هذا الجزء من «كنز الدرر»؛فإنه باستثناء بعض الفقرات التي تورد تفاصيل أكثر عن مضامين مؤلّفاته الأدبية، لا يقدّم جديدا فيما يتّصل بالمؤلّف. ولم أجد من المناسب أن أعمد من جديد لتكرار ما كتبه الزملاء الذين حقّقوا أجزاء من الكتاب عن المؤلّف والمؤلّف. على أنني رأيت أنه من المهم ضمّ شتات المعلومات عن ابن الدواداري في صعيد واحد إعدادا لدراسة عنه. وقد قمت بذلك فعلا لكنّ الدراسة أتت واسعة بحيث لا يستحسن إثقال المقدّمة لهذا الجزء بها. لذا أكتفي هنا بالنسبة لشخصه بذكر تحدره النسبي. تبدأ شجرة نسبه بجده وأبيه الذي كان مملوكا مجلوبا من جانب بعض أمراء الأيوبيين، وانتهى به الأمر بأن أعطي إقطاعا قلعة صرخد: -عز الدين أيبك (المعظمي) (-645 هـ‍) وزوجته كمش خاتون. -عبد الله ابن أيبك الدواداري. -أبو بكر بن الدواداري (من حوالي 675 حتى حوالي 737 هـ‍). إنني أودّ في هذه العجالة أن أشكر للأستاذ الدكتور هـ‍.ر. رومر H.R.Roemer مؤسّس هذه السلسلة أن عهد إليّ بتحقيق هذا الجزء من «كنز الدرر».فلقد كان العمل في هذا المشروع مبعث غبطة وتحدّ لي. ولا أنسى

I الجزء الخامس من «كنز الدرر وجامع الغرر» الذي يتضمن تاريخ الدولة العباسية

للأستاذ الدكتور رومر مساعدته المستمرة لي في كل ما طرأ من مصاعب وعقبات، بحيث أمكن لي أن أنجز هذا العمل على خير وجه ممكن. I الجزء الخامس من «كنز الدرر وجامع الغرر» الذي يتضمّن تاريخ الدولة العبّاسيّة 1 - مضامين الجزء الخامس: عندما خطرت لابن الدواداري فكرة تأليف كتاب في التاريخ؛ كان قد بلغ مرحلة الكهولة لأنه يقول إنّ البياض انتشر في رأسه. وكان منذ سن الفتوة محبا للشعر، والأخبار الأدبية، ومسائل السمر؛ ولذا لم يتردد منذ فتوته في الاتجاه لدراسة الأدب. لقد أراد أن يبلغ المجد-ليس في ساحة المعركة كأقرانه من المماليك-بل عن طريق العلم، وإحياء الآداب والكتب المندثرة. وهكذا بدأ بالكتابة بتشجيع من حلقة من الأصدقاء والرفاق كانوا يجتمعون للحديث والمطارحات الشعرية والأسمار. كتب ابن الدواداري في «الهزليات» -وهو أمر ندم عليه في شيخوخته -كما جمع مختارات شعرية، وكتبا في الأسمار والأخبار والآداب والمواعظ. وهو يذكر أعماله في أجزاء مختلفة من «كنز الدرر» ملخّصا مضامينها أحيانا، أو مكتفيا بالإشارة إليها أحيانا أخرى. والكتب الكثيرة التي يذكرها لنفسه ضاعت ولا أثر لها حتى اليوم. وحده السيوطي ينقل عن مؤلّف له أشعارا في فصول السنة، وأخرى في الأزهار والورود. وكان غرامه بالأدب باعثا له طوال عمره على زيارة المكتبات والورّاقين واقتناء الكتاب النادرة أو استنساخها. وقد اجتمعت عنده في النهاية مكتبة خاصة ضخمة استحسن من أجلها إيراد النادرة المنسوبة لوزير البويهيين المشهور

الصاحب بن عبّاد (-385 هـ‍) حول اعتزازه بكتاب الأغاني. فعنه أنه قال: إنه كان يحمل معه في رحلاته من الكتب ما بلغ حمل ثلاثين جملا أو 117 ألف كتاب؛ حتى إذا وصل إليه كتاب الأغاني أغناه عن ذلك كله. تعرّف ابن الدواداري على الأدبيات التاريخية العربية، التي لم تكن ضمن دراسات فتوّته، أثناء عمله في جمع موادّ لأعماله الأدبية، وقد اهتمّ بشكل. خاصّ بالتاريخ المصري. بل إنّ بعض الأعمال التاريخية عن مصر هي التي دفعته للتفكير بكتابة عمل تاريخيّ شامل يخلّد ذكره بين المؤرخين المسلمين. وتحتلّ مصر وتاريخها مكانا بارزا في عمل ابن الدواداري التاريخي الكبير: «كنز الدرر وجامع الغرر».بدأ ابن الدواداري كتابه فيما يعرف بالجزء الثاني منه اليوم، بتاريخ الشعوب قبل الإسلام-مع اهتمام خاصّ بتاريخ مصر القديم-ليؤرّخ بعد ذلك لظهور الإسلام والخلافة الراشدة فالأمويين والعباسيين وصولا إلى المملكة التي عاصرها، نعني السلطنة المملوكية. ويبدو أنه بعد أن أنهى «الجزء الثامن» الخاص بالعصر المملوكي فكرّ بإضافة جزء تقديميّ في شكل الأرض والأفلاك، مما يعطي تاريخه طابعا عالميا كما كان متعارفا عليه آنذاك لدى المؤرخين. هكذا أضاف جزءا تقديميا استمد أكثر موادّه من «مرآة الزمان» لسبط ابن الجوزي (-654 هـ‍).وكان قد استخدم «مرآة الزمان» في تاريخه قبل كتابة الجزء التمهيدي في الأخبار المتعلقة بغرائب البلدان والزمان، والأنباء عن الزلازل والانقلابات والنوائب الطبيعية. وربط ابن الدواداري التركيب الجديد لتاريخه ذي الأجزاء التسعة، بالأفلاك التسعة

المعروفة كلاسيكيا، وغيّر ترقيمها، ووضع لكلّ منها عنوانا فرعيا ينظم ذلك الجزء تحت الفلك المناسب. فكان الفلك الأخير الذي يسود الكون (الأطلس) من نصيب الدولة المملوكية، والناصر محمد بن قلاون (693 - 741 هـ‍) السلطان المعاصر له. وبسبب من اهتمام المؤلّف الخاصّ بمصر، فإنّ التأريخ لها على السنين في أجزاء التاريخ كلّه ظلّ بمثابة الخيط الناظم لتلك الأجزاء. وقد عنى ذلك بالنسبة للجزء الخامس الذي نقدّم له هنا أنه ينتهي بدخول الفاطميين إلى مصر؛ بحيث يصبح ما قبل ذلك تأريخا مستقلا للدولة العباسية، وينفرد الجزء السادس، بالتأريخ للفاطميين. لكنّ الاهتمام بمصر لا يقتصر على هذا. ففي كلّ عام من تاريخه المبني على مبدأ التأريخ على السنين يطلعنا ابن الدواداري على منسوب ارتفاع المياه في النيل بمصر، ووالي مصر وقاضيها وصاحب خراجها لذلك العام. بينما لا يلقى الوزراء وأصحاب الخراج الاهتمام نفسه خارج مصر حتّى في الجزء المخصّص للدولة العباسية؛ بل يكتفي ابن الدواداري بوضع قائمة بالوزراء والكتاب والحجّاب العاملين لدى الخليفة ببغداد في آخر سني خلافته، فيظل القارئ على وعي بأنّ المؤلّف مصري، وأنّ الأوضاع بمصر تظلّ نصب عينيه على مدى الزمان من ظهور الإسلام وحتى عصره. بيد أنّ هذه النزعة عند ابن الدواداري لا تعني «محلية» ضيقة أو عصبية متشدّدة لمصر. بل على العكس من ذلك؛ فإنّ ابن الدواداري بتاريخه العام يعرض لمصر باعتبارها في العصر المملوكي على الخصوص مركز دار الإسلام من الناحيتين السياسية والثقافية مثلما كانت بغداد في العصور العباسية الأولى. وقد ثبتت هذه الأيديولوجيا وسادت، من خلال ما قام به سلاطين المماليك من أعمال جليلة على المستوى الإسلامي؛ من مثل نقل الخلافة العباسية إلى مصر، وردّهم لعادية المغول عن مصر والشام، وإخراجهم للصليبيين من المدن الساحلية الشامية-وأخيرا وليس آخرا من خلال حمايتهم للحرمين الشريفين،

ومدّ سيطرتهم عليهما. هذا الطابع العالمي للسلطنة المملوكية، كان الدافع وراء تلك الأعمال العلمية الشاملة انطلاقا من مصر وموقعها من مثل «كنز الدرر» لابن الدواداري، و «مسالك الأبصار» لمعاصره ابن فضل الله العمري (-749 هـ‍).وقد اختار ابن الدواداري للسلطان الناصر محمد بن قلاوون رمز فلك الأفلاك (الأطلس) الذي يسود العالم. إنّ هذا الدور الذي قامت عليه مصر من قيام على الإسلام، ورعاية للأمة؛ قوّى لدى المصريين إحساسهم بأهمية بلادهم، ووعيهم بالمسار التاريخي الذي أدّى إلى هذا الموقع العالمي لتلك البلاد، «كنانة الله في أرضه».بحيث صار التاريخ السابق كلّه بمثابة تمهيد يجدر ذكره وتتبّعه باتّجاه الموقع المستجدّ الذي تسنّمته مصر في العصر الذي شهد ابن الدواداري أزهى فتراته. وما اكتفى ابن الدواداري في الجزء الخامس من تاريخه، بل وفي تاريخه كله بإيراد التاريخ السياسي للدولة والخلافة الإسلامية. فقد رأى أنّ الاقتصار على إيراد الأحداث السياسية متعب للقارئ ومثير للملل. وأراد أن يكون كتابه مقروءا ومفيدا في الأخبار والأسمار والآداب. ولذا لم يضع كتابه هذا للمختصين فقط. صحيح أنه استخدم الهيكلية التي استخدمها الطبري (-310 هـ‍) بالتأريخ على السنين لكنه بعد ايجاز الأحداث السياسية في كل عام، كان يعمد لإيراد أخبار وأشعار وأسمار ليست ذات طابع سياسي، بل تنتمي إلى مجالات علمية وأدبية أخرى غير السياسة والتاريخ. وما ظهر في النهاية هو أدنى إلى أن يكون تاريخا ثقافيا يتضمّن قطبين رئيسيين: التاريخ السياسي، والتاريخ الثقافي. لقد رأى أنه يتمتع بالكفاية العلمية لذلك بعد أن كان قد نشر عدة أعمال تتضمن مختارات أدبية في مجال الشعر والنثر. وهكذا كان في طليعة أولئك الذين كتبوا التاريخ بهذا الأسلوب. وقد اعتبر ابن الدواداري، الذي كان يكتب في العصر المملوكي،

II مصادر الجزء الخامس

تاريخه تاريخا للأمة الإسلامية. وهذا ما يبدو في جزئه هذا عن الخلافة العباسية. إذ يتضمن التاريخ السياسي للخلافة، وتوزّع الدويلات التي ظهرت في قلب الخلافة، مثل دويلة بني دلف، والصفّاريين، والسامانيين، وأوائل الزيدية بطبرستان، والطولونيين والإخشيديين، والحمدانيين. كما أورد تقارير عن بدايات الغارات الفاطمية على مصر انطلاقا من المغرب الإسلامي وحتى الاستيلاء عليها عام 359 هـ‍.كما يورد ابن الدواداري في جزئه هذا عن بني العباس تراجم للوزراء، وأسر الكتّاب المشاهير، والعلماء؛ وبخاصة علماء الفلك، والشعراء مع نماذج من أشعارهم ومختارات من أخبارهم. وله اهتمام خاص بالغرائب، وأخبار الكوارث الطبيعية. وهو يقيم ارتباطا بين التراجم وخلافة خليفة معيّن وسياساته-مما يدل على منهج معين في الاختيار والتنظيم يمتّ بسبب وثيق إلى الأصول الأيديولوجية التي كان يعتنقها. كما يدل على نوعية الأفكار والرؤى التي كانت معروفة في الطبقة التي كان ينتمي إليها عن خلافة بغداد، والطابع الذي تميّزت به خلافة كلّ من خلفائها الأوائل. فابن الدواداري ليس جمّاعا عشوائيا للأخبار والأسمار، بل يملك رؤية شاملة بدت في طرائقه للإثبات والإسقاط والتصوير. ويطرب ابن الدواداري للطرائف والنوادر التاريخية التي يكثر من إيرادها. ويجعل ذلك من عمله مشوقا وذا أثر باق. أمّا بالنسبة للمصادر، فإنه يعتمد منها ما يوافق غرضه في الإفادة والقصّ. II مصادر الجزء الخامس المصادر التاريخية: يرجع ابن الدواداري في الغالب إلى ثلاثة أنواع من المصادر: المصادر التاريخية، والمصادر الأدبية، تلك التي تتضمن مجموعات شعرية أو نثرية أو طرائف ونوادر-وأخيرا كتب الطبقات، ومجموعات التراجم. أما المصادر التاريخية فيستخدمها المؤلّف للتأريخ للدولة العباسية، والدويلات المحلية والإقليمية التي ظهرت في قلبها، وتعاقبت إحداها تلو

الأخرى؛ في مشرق العالم الإسلامي ومغربه. يتحدث ابن الدواداري من بين هذه الدويلات عن آل دلف، والصفاريين، والسامانيين، والسلطات الزيدية الأولى بطبرستان، والإخشيديين، والطولونيين، والحمدانيين، والبويهيين، وبخاصة ما اتّصل من تاريخ الدويلات الأخيرة بتاريخ العباسيين، وعلاقاتها معهم. ويسمّي ابن الدواداري مصدرين رئيسيين، كانا النموذج له في أسلوب التأريخ للعباسيين، والدويلات الإقليمية: كتاب القضاعي (-454 هـ‍) الذي يسميه ابن الدواداري: تاريخ القضاعي، والذي يتضمن عرضا موجزا تاريخيا منذ بدء الخليقة وحتى العام 417 هـ‍.والمصدر الثاني كتاب ابن ظافر الأزدي (-613 هـ‍) الذي يقتبس منه تحت عنوان: «الدول المنقطعة». أمّا تاريخ القضاعي فليس تاريخا على السنين مثل تاريخ الطبري، بل هو عبارة عن تراجم قصيرة متعاقبة للأنبياء والخلفاء وفعاليتهم السياسية في التاريخ. ومن القضاعي يستمد ابن الدواداري طريقته في الترجمة للخلفاء. وهي طريقة ثابتة في الكتاب كله. إذ تبدأ الترجمة بذكر لقب الخليفة ثم تحدّره النسبي، ثم اسم أمّه وأصولها. ويتبع ذلك ذكر تواريخ حياة الخليفة نفسه: متّى تولّى الخلافة، وكم كانت سنّه، وتاريخ وفاته أو عزله أو مقتله، فسنّي وشهور وأيام خلافته. ويتلو ذلك ذكر صفته، أي كيف كانت هيئته، وما كان نقش خاتمه. وبعدها ترد معلومات موجزة عن الأحداث السياسية في خلافته. وفي

النهاية يذكر أعقابه من الذكور، ووزراءه، وقضاته، وحجابه. يتبع ابن الدواداري خطة القضاعي هذه في الترجمة للخلفاء، لكن لأنّ تاريخه حوليّ؛ فإنه يقسم الترجمة إلى قسمين. في القسم الأول يذكر التواريخ كلها حتى وفاته أو عزله. وفي القسم الثاني يذكر بقية أجزاء الترجمة كما فعل القضاعي؛ بما في ذلك قوائم العاملين مع الخليفة وموظّفي الإدارة. لكنه يكتفي من تلك القوائم بقائمتي الوزراء والحجاب. أما قوائم القضاة وأعقاب الخليفة فيتجاهلهما إلاّ نادرا. وبين هذه القسمين المتباعدين يورد ابن الدواداري كل مضامين تاريخه: الأخبار السياسية، وأخبار الشعراء ومختارات من شعرهم، وأخبار الدويلات، وأخبار من عوالم العلم والمعمار، وطرائف، وغرائب، والأنباء عن النوائب الطبيعية. وكان بين يدي ابن الدواداري مصدران آخران يوردان قوائم للموظفين، وتراجم للخلفاء، قارن بهما ما لديه، وأفاد منهما في مواطن عدة: العقد الفريد لابن عبد ربه (-328 هـ‍)،ومروج الذهب للمسعودي (-345 هـ‍).وليس من السهل التعرف على المصادر التاريخية الأخرى التي عرفها ابن الدواداري وأفاد منها. ففي الدول المنقطعة لابن ظافر الأزدي-وفي القسم الخاص بالدولة العباسية بالذات-أخبار سياسية، لكنها ضئيلة إذا قورنت بالأخبار في المصادر التي ذكرناها سابقا. ويقطع ابن الدواداري حديثه عن الدولة العباسية وخلفائها مع بدء سيطرة المعزّ الفاطمي على مصر (-359 هـ‍).وهو يقلّد في ذلك القضاعي، ويضع نفسه ضمن التقليد المصري في التأريخ. ومن حسن الطالع أن تاريخ القضاعي وصل إلينا، وإن يكن ما يزال مخطوطا. ويتميز القضاعي بالإيراد الدائم لكل التواريخ المتعلقة بخليفة معين. ورغم قصر المعلومات السياسية التي يوردها القضاعي فقد أخذ عنه ابن الدواداري منها أيضا. أمّا التراجم القصيرة للخلفاء فقد نقلها عنه أحيانا بكاملها. وكانت كتاب «أخبار الدول المنقطعة» أو

«الدول المنقطعة» لابن ظافر الأزدي (-613 هـ‍) المصدر الثاني لابن الدواداري. وهو مصدر لم يصل إلينا كاملا بل ضاعت أقسام معتبرة منه. وهو يؤرخ للدويلات التي ظهرت في قلب الخلافة العباسية، وانقضت أو سقطت. ومن الطريف أنّ الأزدي عقد بابا في كتابه للدولة العباسية، رغم أنها لم تكن قد انقضت أو انقطعت من بغداد في عصره. وقد طبعت من الأجزاء الباقية من الكتاب حتى الآن ثلاثة أقسام تعالج مصائر ثلاث دول: القسم الخاص بالدولة العباسية، والقسم المتعلق بالدولة الفاطمية، والقسم المتعلق بالدولة الحمدانية. وقد استخدم ماديلونغ Madelung القسم المتعلق بالإمامة الزيدية في أقاليم بحر الخرز، في النصوص التي نشرها عن الإمامة الزيدية بطبرستان، والديلم، وجيلان، أمّا النص الذي رجع من أجله ماديلونغ إلى هذا القسم من كتاب الأزدي، فمصدره كتاب ضائع لهلال الصابي (-448 هـ‍).ولأنّ ابن الدواداري ينقل عن ابن ظافر؛ فإنّ كتاب التاجي للصابي يعتبر مصدرا غير مباشر لابن الدواداري. وقد دلّت المقارنة بين نصّي الصابي وابن الدواداري على تشابه كبير يبلغ حدّ التطابق فيما عدا أنّ ابن الدواداري يختصر في نقوله أحيانا. ويعني هذا من ضمن ما يعينه أنّ ابن الدواداري كان أمينا ودقيقا في نقوله الأخرى عن الأجزاء الضائعة من «أخبار الدول المنقطعة» للأزدي، وهي تمثّل أخباره عن آل دلف والصفّاريين والسامانيين، كما يعني ذلك أننا نملك لدى ابن الدواداري جزءا من النصوص الضائعة من تاريخ الصابي؛ التي تمثّل مصدرا من المصادر غير المباشرة لصاحب «كنز الدرر».

على أننا لا نعرف يقينا مصادر ابن الدواداري الأخرى لأحداث التاريخ السياسي وبخاصة ما تعلّق منها بمصر. وترد لدى ابن الدواداري عناوين كتب في نصّه تدلّ أسماؤها على أنها كتب في التاريخ أو في التراجم وهي: 1 - «تاريخ إصبهان» لحمزة بن الحسن الإصفهاني (بعد 350 هـ‍). 2 - «أخبار خراسان» لأبي القاسم علي بن الحسين الوزير المغربي (-418 هـ‍). 3 - «عيون التواريخ» لغرس النعمة (-480 هـ‍). 4 - «تاريخ حلب» لابن العديم (-660 هـ‍). وتذكر هذه الكتب في نصّ ابن الدواداري في سياق الحديث عن الزلازل وغرائب النوائب الطبيعية، وفي الحديث عن زيدية بحر الخزر والسامانيين. ويمكن إدراج هذه الكتب ضمن المصادر الثانوية أو غير المباشرة لكنز الدرر؛ إذ إنّ الراجح أنّ ما ذكر منها في سياق أخبار تاريخية مأخوذ من «الدول المنقطعة» لابن ظافر، وما ذكر في الحديث عن أحداث الطبيعة مأخوذ عن «مرآة الزمان» لسبط ابن الجوزي. ويرد عند ابن الدواداري في تقاريره عن مصر عنوان كتاب ومؤلفين. أما الكتاب فعنوانه: «البرق الشامي» مثل عنوان كتاب عماد الدين الكاتب الأصفهاني مؤلّف السيرة الصلاحية لكن لا علاقة له به. ذلك أنّ ابن الدواداري يأخذ عن الكتاب المذكور في تقريره عن زلزال العام 430 هـ‍ بمصر. أمّا المؤلفان فهما القضاعي الذي عرضنا له سابقا، وآخر يسميه ابن عسكر، لم نستطع التعرف عليه بين المؤرخين المصريين. ومما يعجب له أنّ ابن الدواداري لا يذكر-باستثناء القضاعي-أحدا من المؤرّخين المصريين المشهورين. لكنّ هناك عملا تاريخيا عنوانه: «تاريخ القيروان» ما رجع إليه ابن الدواداري في أجزاء تاريخه الأخرى، لكنه رجع إليه في الجزء الخامس مرتين

في أخبار عن كافور الإخشيدي والمعزّ الفاطمي. ويذكر ابن الدواداري الطبريّ دون أن يقتبس منه بشكل مباشر. كما يذكر الفرغاني الذي كتب تكملة للطبري مرتين. ومع أنّ الطبري يشكل المصدر الرئيسي للأخبار عن العباسيين في العادة؛ فإنّ ما يذكره مؤلّف الكنز يختلف كثيرا عن تقارير الطبري باستثناءات قليلة. أمّا «مرآة الزمان» لسبط ابن الجوزي (-654 هـ‍) فإنّ المؤلّف لا يأخذ عنه في الجزء الخامس إلاّ ما اتّصل بالغرائب ونوائب الطبيعة. أمّا الأنباء التي يوردها ابن الدواداري عن مقياس النيل كلّ عام، فلم نستطع معرفة مصدرها. وترد الأنباء نفسها عند ابن تغري بردي (-874 هـ‍) في «النجوم الزاهرة»؛لكنّ ابن تغري بردي لا يذكر مصدره أيضا. ومع أنّ أنباء المؤرّخين تتفق أحيانا لعدّة سنوات متتالية؛ لكنها تختلف أحيانا اختلافا كبيرا بحيث لا يمكن القول إنّ لهما مصدرا مشتركا. وهناك صعوبة أخرى لم يمكن الوصول إلى تعليل مقنع لها. فابن الدواداري يورد أسماء ولاة مصر وقضاتها وعمّال خراجها كلّ عام؛ وهو ما لم يفعله المؤرّخون الآخرون بهذا الثبات. ويكتفي ابن الدواداري أحيانا بذكر الاسم الأول، أو اللقب لصاحب الخراج بحيث لا يمكن في كثير من الأحيان التعرّف عليه من مصادر أخرى. أمّا بالنسبة للولاة والقضاة فقد كان المتوقّع أن يعتمد ابن الدواداري على الكندي (-350 هـ‍) في مؤلّفه المعروف «الولاة والقضاة».بيد أنّ المقارنة تشير إلى أنّ الكندي لم يكن المصدر المباشر لهذه

الأنباء. ذلك أنّ التوافق بين الكتابين يبلغ أحيانا حدّ التطابق اللفظي؛ لكنّ الكتابين يختلفان أحيانا أيضا اختلافا كبيرا فيما يتعلّق بمدّة ولاية الوالي أو القاضي. وترد عند ابن الدواداري في الجزء الخامس أخبار عن أقباط مصر لا نجدها في غير كتاب سعيد بن البطريق (-328 هـ‍) وصلته ليحيى بن سعيد (-458 هـ‍).فربّما رجع ابن الدواداري في ذلك إلى هذين المؤلّفين. المصادر الأدبية: يستعمل ابن الدواداري كتب الأدب والسمر استعمالا واسعا. وهو يقصد من وراء ذلك التقليل من جفاف المادة التاريخية ذات المرمى السياسي، كما أنّ القصص والأشعار عنده تلقي أضواء على الشخصيات التي يتعرض لها في الجزء السياسي من التاريخ، وتكشف جوانب من الحياة الثقافية في عصر الخلفاء العباسيين. ولابن الدواداري اهتمام خاصّ بالطرائف الأدبية والتاريخية، التي لا تغيب لدى المؤرخين المسلمين في العادة. فالطبري (-310 هـ‍) مثلا يقدّم في عمله التاريخي المشهور أخبارا واستطرادات كثيرة من هذا النوع. بيد أنّ «الطرفة» تحتل لدى ابن الدواداري مكانة خاصة تفوق المتعارف عليه لدى المؤرخين. ومرجع ذلك إلى شخصية ابن الدواداري نفسه. فهو في الأصل أديب، سبق له قبل كتابته لكنز الدرر، أن جمع عدة كتب في أدب السمر والطرائف. وهو يحيل في جزء تاريخه الخامس هذا على ثلاثة من تلك المؤلفات أولها: «أمثال الأعيان، وأعيان الأمثال».وقد اقتبس فكرة الكتاب من «كليلة ودمنة» وقسمه إلى عشر محاضرات، بطلاها تنّين يلقّبه «ناطق الظنين»،وثعلب يلقّبه «حاذق الأمين».ويبدأ الكتاب المجموع هذا بأشعار عن الفصول الأربعة، ثم يتلو ذلك فصل في «الأوائل» رجع إليه ابن الدواداري مرارا في جزئه الخامس هذا. وقد رجع ابن الدواداري أيضا في هذا الجزء إلى أقسام أخرى من كتابه «أمثال الأعيان»؛من مثل تقريره الطويل عن البرامكة. أمّا الكتاب الثاني الذي يذكره في الجزء الخامس من كتب

الطرائف والنوادر التي جمعها فاسمه: «حدائق الأحداق ودقائق الحذّاق». وقد أهدى هذا الكتاب إلى صديقه القاضي علاء الدين ابن الأثير (-730 هـ‍).ورجع إليه في الجزء الخامس في خبر «الوليمة» التي أقامها المأمون بمناسبة زواجه من بوران بنت وزيره الحسن بن سهل. كما رجع في الجزء الخامس إلى كتاب ثالث له من كتب الطرائف والنوادر سمّاه: «ذخائر الأخائر»،ويتّصل نقله عنه بخبر محنة المأمون لأحمد بن حنبل (-241 هـ‍) وزملائه. وكان قد أهدى الكتاب للقاضي فخر الدين (-732 هـ‍) الذي تولى منصب «ناظر الجيش» أيّام السلطان الناصر محمّد بن قلاوون. وكان ابن الدواداري قد ذكر في الجزء الأول من كنز الدرر كتابا آخر له سمّاه: «تبر المطالب وكفاية الطالب» جمع مادّته من اثني عشر كتابا. ومن المصادر الأدبية التي يرجع إليها ابن الدواداري كثيرا كتاب «أنباء نجباء الأبناء» لابن ظفر الصقلّي (-565 هـ‍) الذي يحتوي في قسمه الأول على طرائف ونوادر عن أبناء خلفاء الدولتين الأموية والعبّاسيّة. ويحتوي في

قسمه الثاني على طرائف من أخبار الزهّاد والصوفية. ويرجع ابن الدواداري أيضا إلى كتاب الكامل للمبرّد (-285 هـ‍)،وإلى مروج الذهب للمسعودي (-345 هـ‍)،ولطائف المعارف للثعالبي (-429 هـ‍)،والعقد الفريد لابن عبد ربّه (-328 هـ‍)،ووفيات الأعيان لابن خلّكان (-681 هـ‍).وهو يستخدم مروج الذهب، ووفيات الأعيان في إيراد الطرائف والنوادر، كما يستخدمهما في أخبار التاريخ السياسي، والتراجم. أمّا أهمّ مصادره الأدبية فكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (-356 هـ‍) الذي يرجع إليه دائما في تراجم الشعراء وأخبارهم وأشعارهم. ولابن الدواداري غرام خاصّ بإيراد الأشعار وبخاصة لكبار الشعراء، الذين لا يورد أخبارهم ومقتبسات من شعرهم تحت سنة واحدة؛ بل يقسم ما ورد في الأغاني أو ما اختاره منه على عدة سنوات أحيانا فيورد تحت كلّ سنة أشعارا وأخبارا عن الشاعر نفسه مثلما فعل بالنسبة لبشار بن برد (-168 هـ‍) الذي وزّع أخباره وأشعاره المنقولة عن الأغاني على عشر سنوات (159 - 168 هـ‍).ولا يرجع ابن الدواداري إلى دواوين الشعراء لأنه يرمي إلى ربط الشعر بالخبر؛ ولذا رجع إلى مجموعات أدبية وشعرية من مثل أشعار أولاد الخلفاء للصولي (-335 هـ‍)،ويتيمة الدهر للثعالبي (-429 هـ‍)،وربما أيضا إلى كتاب الورقة لابن الجرّاح (-296 هـ‍).وقد يقتبس أشعارا من كتاب آخر له مثلما فعل في الجزء الخامس عندما اقتبس شيئا من تشبيهات ابن المعتزّ (-296 هـ‍) من كتاب له اسمه: «المذاكرة والمفاخرة وآداب المعاشرة». مصادره من كتب التراجم: رجع ابن الدواداري إلى كتب التراجم في تراجمه لرجالات الأدب والثقافة والسياسة في ثنايا تاريخه السياسي على السنين. وكتب التراجم التي رجع إليها نوعان: كتب التراجم العامة، وكتب التراجم التي تهتم بشخصيات فرع ثقافيّ أو سياسيّ معيّن. وتأتي تحت النوع الأول كتب تواريخ المدن من مثل تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (-463 هـ‍)،

وتاريخ دمشق الكبير لابن عساكر (-571 هـ‍)؛اللذين قلّ ما رجع إليهما ابن الدواداري مباشرة في الجزء الخامس باستثناء مرة واحدة ربما اقتبس فيها عن «تاريخ بغداد» بشكل مباشر. وربما عاد ذلك إلى أنّ طرائق الخطيب وابن عساكر في التراجم هي طرائق المحدّثين التي لا يستسيغها ابن الدواداري ذو المزاج الأدبي الباحث عن النادرة والطرفة، وعن الترجمة المسبوكة المصوغة. ومن هنا كان لجوؤه إلى ذلك النوع من كتب التراجم الذي يرضي ميوله الأدبية من مثل «وفيات الأعيان» لابن خلكان (-671 هـ‍)،والتاريخ المظفّري للقاضي ابن أبي الدم (-642 هـ‍).ومع أنه لا يذكر «وفيات الأعيان» غير مرتين في الجزء الخامس؛ فقد اتضح لي بالمقارنة أنه كثيرا ما يقتبس منه دونما ذكر له. وهو يذكر ابن أبي الدم في مناسبتين: الترجمة لصاحب الزنج، وذكر التحدّر النسبي لأحمد بن طولون والي مصر (254 - 270 هـ‍).ولم نستطع معرفة ما إذا كان قد استعمل تاريخ ابن أبي الدم في مواطن أخرى لأنّ عمله لم يصل إلينا، وأخبار المصادر عنه أنه عمل ضخم كان يقع في ستة مجلّدات. أمّا في أخباره عن الوزراء فيرجع ابن الدواداري إلى «كتاب الوزراء» للصولي (-335 هـ‍)؛وهو كتاب ضائع. ويرجع في أخباره عن الفلكيين إلى كتاب القاضي صاعد بن أحمد بن صاعد (-462 هـ‍): «طبقات الأمم».لكنه يذكر لصاعد كتابا آخر، لا تذكره المصادر، باسم «الملل والنحل» ينقل عنه أخبارا عن ابن عبد ربّه (-328 هـ‍).وكثيرا ما يلجأ في المعلومات عن الأشخاص إلى كتب الأدب والشعر كما فعل بالنسبة لكتابي الأغاني ويتيمة الدهر؛ مما سبق ذكره. وابن الدواداري أمين تجاه مصادره. لكنّه يختصر النصّ أحيانا، ويزيد فيه بضع كلمات أحيانا أخرى. وتأتي استطراداته متكلّفة أحيانا في استهلالاتها

III المخطوطة ومنهج التحقيق

التسويغية. كما أنه ينقل أحيانا عن غيره بضمير المتكلم. كتب الخطط: يذكر ابن الدواداري أنه أثناء إعداده المادة لكتابه كنز الدرر، وقع على كتاب في الخطط لابن عبد الظاهر (620 - 692 هـ‍) الأديب وكاتب الديوان الشهير في عهد بيبرس (658 - 676 هـ‍)،وقلاوون (678 - 689 هـ‍)،والأشرف خليل (689 - 693 هـ‍).واسم الكتاب: «الروضة البهية في خطط القاهرة المعزّيّة»،وكان ابن عبد الظاهر قد وضع كتابه في الخطط عام 647 هـ‍،واستند فيه إلى خطط القضاعي (-454 هـ‍) الذي شكل تاريخه بالنسبة لابن الدواداري المصدر الأساسي لهيكل تراجم الخلفاء في الجزء الخامس. ويبدو أنّ كلّ من كتبوا بعد القضاعي في الخطط المصرية استندوا إليه؛ فقد رجع إليه المقريزي (-845 هـ‍) في خططه، كما اقتبس منه ابن خلكان (-681 هـ‍) في «وفيات الأعيان»،ولم يكتف ابن الدواداري بالإفادة من خطط القضاعي وابن عبد الظاهر في كنز الدرر، بل خطر له أن يؤلّف هو نفسه في ذلك أيضا. وكان وقتها يكتب الجزء السادس من كنز الدرر، وعنّ له أن يكون عنوان خططه: «الروضة الزاهرة في خطط القاهرة».ثم عاد في الجزء السابع من الكنز فأخبرنا أنه كتب في خطط القاهرة فعلا لكنّه سمّى الكتاب: «اللقط الباهرة في خطط القاهرة». III المخطوطة ومنهج التحقيق اعتمدنا في نشر الجزء الخامس من كنز الدرر لابن الدواداري على مخطوطة فريدة، ورد في خاتمتها أنها بخطّ المؤلّف. وقد ذكر تاريخا لانتهائه

من الكتابة هو الخامس من ربيع الآخر سنة 734 هـ‍.وهناك عبارة في الهامش من على يمين الخاتمة أنّ المؤلف أعاد النظر في الجزء وحرّره. ويبدو أنه إلى هذه القراءة الثانية تعود الهوامش الكثيرة على أوراق الجزء، والشروح، والتصحيحات. لكن على الرغم من ذلك فإنّ النص يبقى كثير الأخطاء والأوهام. كان ابن الدواداري قد بدأ جمع المادّة لعمله التاريخي عام 709 هـ‍.وقد رجع في تكوين بطاقات الجمع والإعداد إلى المصادر التاريخية المهمة، والكتب النادرة، كما يقول. ويبدو أنه عند كتابة كل جزء كان يعمد إلى استكشاف مجموعة بطاقاته وتنظيمها، وترتيبها على السنين، وحشو المادة المتنوّعة الواردة تحت كل سنة. وإلى هذه الطريقة ترجع أخطاء السهو والنقل التي نلحظها في الجزء الذي بين أيدينا. فابن الدواداري ما كان يرجع إلى المصدر المقتبس منه بل إلى مجموعة بطاقاته واقتباساتها. وهذا يعلّل لماذا يرد اسم بعض الأشخاص صحيحا في موطن، وخطأ في موطن آخر، وربما سقطت بطاقة في غير موضعها فأخّرت وفاة شخص ما سنين أو قدّمتها. وربما نقل الخطأ من مصدره إلى مجموعة بطاقاته فإلى كتابه. وليس من المؤكد أنه كان دائما يضع اسم المصدر المقتبس في ذيل البطاقة بحيث يملك أن يراجع النصّ في مصدره إذا اقتضى الأمر. يدلّ على ذلك ما يقوله أحيانا من أنه وجد هذا أو ذاك «في بعض المجاميع».وهناك حالة وجدت فيها الاقتباس الغفل عند ابن خلكان في «وفيات الأعيان». ولأنّ ابن الدواداري يستمدّ مادّته للجزء الخامس من مصادر قديمة، فإنّ لغة هذا الجزء ذات طابع كلاسيكي يعكس لغة المصادر. بيد أنّ بعض الخصوصيّات العامية والدارجة تسلّلت إلى ريشة المؤلف رغم الأصل القديم.

وقد عمدت لتصحيح ذلك في النص، وذكر ما ورد في المخطوطة في الحواشي. ولأننا لا نملك من الجزء الخامس من «كنز الدرر» غير مخطوطة وحيدة؛ فإنّ تقسيم الحواشي إلى قسمين أحدهما لفروق النسخ، والآخر لمصادر النصّ وشواهده ما عاد ضروريا. ولأنّ الأخطاء الموضوعية والكتابية والإملائية كثيرة في النص، فلم أجد من المناسب أن أدع التصحيح للحواشي، بل عمدت إلى ذكر الصحيح في النص وأشرت في الحاشية إلى ما ورد في الأصل، تسهيلا لقراءة النص من جهة، ولأنني لو ذكرت الصحيح في الحاشية لاضطررت للعودة للحواشي كثيرا في فهارس العمل. أمّا الهوامش الكثيرة على جانب ورقات المخطوطات فقد عمدت إلى وضعها في النصّ بين حاصرتين إذا كانت إكمالا لما ورد على الصفحة أو إضافة جديدة على النصّ. أمّا عندما كانت الهوامش مجرّد ملاحظات فقد اكتفيت بوضعها في حواشي النصّ. لقد اضطررت لتحقيق العمل ونشره في مدة قياسية؛ ومن هنا فقد كان لمساعدات زوجي الأستاذ الدكتور رضوان السيد المتنوّعة أثر كبير في إنجاز العمل وطبعه. كما أنه قام بترجمة هذا التمهيد إلى العربية. فله جزيل الشكر.

فهرست لما في هذا الجزء من حدائق الأحداث ودقائق الحذاق

فهرست لما في هذا الجزء من حدائق الأحداث ودقائق الحذّاق الصفحة <مقدّمة المؤلّف> 2 - 4 ذكر ابتداء الدولة العبّاسيّة 4 - 6 ذكر خلافة السفّاح وما لخّص من سيرته 6 - 15 ذكر خلافة المنصور وما لخّص من سيرته 16 - 59 ذكر خلافة المهدي وما لخّص من سيرته 59 - 103 ذكر بشّار بن برد ونبذ من أخباره وأشعاره 63 - 101 ذكر خلافة الهادي وما لخّص من سيرته 103 - 106 ذكر خلافة الرشيد وما لخّص من سيرته 106 - 153 ذكر أبو العتاهية وعتبة وطرف من أخبارهما 110 - 118 ذكر الأصمعي ونسبه ولمعا من أخباره 120 - 129 ذكر نكبة آل برمك ولمعا من أخبارهم 129 - 152 ذكر خلافة الأمين وما لخّص من سيرته 154 - 170 ذكر أبو نواس ونبذ من أخباره وأشعاره 157 - 164 ذكر خلافة المأمون وما لخّص من سيرته 170 - 206 ذكر بيعة إبراهيم بن المهدي وقصّته 178 - 181

ذكر جحظة وشيء من خبره وشعره 182 - 183 ذكر نبذ من أخبار إبراهيم بن المهدي 190 - 202 ذكر خلافة المعتصم وما لخّص من سيرته 206 - 222 ذكر محمّد بن عبد الملك الزيّات وبدء شأنه 211 - 212 ذكر ابن الرومي الشاعر وشيء من خبره وشعره 216 - 217 ذكر خلافة الواثق وما لخّص من سيرته 222 - 229 ذكر أحمد بن أبي دؤاد وبدء اتّصاله بالخلفاء 225 - 228 ذكر خلافة المتوكّل وما لخّص من سيرته 230 - 245 ذكر بنو وهب وبدء شأنهم 240 - 241 ذكر خلافة المنتصر وما لخّص من خبره 246 - 248 ذكر خلافة المستعين وما لخّص من سيرته 248 - 255 ذكر ابتداء الدولة العلويّة بطبرستان 250 - 253 ذكر خلافة المعتزّ وما لخّص من سيرته 255 - 261 ذكر ابتداء دولة آل أبي دلف العجلي 256 - 258 ذكر ابتداء الدولة الصفّاريّة 259 ذكر خلافة المهتدي 261 - 265 ذكر خلافة المعتمد 265 - 293 ذكر ابتداء خروج صاحب الزنج 265 - 267 ذكر أحمد بن طولون 269 - 272 ذكر خلافة المعتضد وما لخّص من سيرته 294 - 313 ذكر الدولة السامانيّة ومبتدأ أمرها 306 - 307 ذكر إسماعيل بن أحمد أول ملوك السامانيّة 307 - 308 ذكر خلافة المكتفي وما لخّص من سيرته 313 - 324

ذكر سبب انتقاض ملك الطولونيّة 318 - 321 ذكر خلافة المقتدر وما لخّص من سيرته 324 - 363 ذكر قصّة عبد الله بن المعتزّ ونبذ من نثره وشعره 325 - 330 ذكر بنو حمدان وما لخّص من أخبارهم 356 - 359 ذكر خلافة القاهر وما لخّص من سيرته 363 - 367 ذكر خلافة الراضي وما لخّص من سيرته 368 - 377 ذكر دولة الإخشيديّة وخبرهم 370 ذكر خلافة المتّقي وما لخّص من سيرته 377 - 386 ذكر سيف الدولة بن حمدان ونبذ من أخباره 381 - 385 ذكر خلافة المستكفي وما لخّص من سيرته 386 - 391 ذكر خلافة المطيع وما لخّص من سيرته 391 - 416 ذكر كافور الإخشيدي وما لخّص من سيرته 394 - 398 فصل يتضمّن ذكر الشعراء المختصّين بهذا الجزء وما ذكر من أشعارهم في طبقتي المرقص والمطرب. المخضرمون من صدر الدولتين الأمويّة والعبّاسيّة 416 - 421 ذكر شعراء المائة الثالثة 421 - 432 ذكر شعراء المائة الرابعة 432 - 441 وهذا آخر ما تضمّنه هذا الجزء ولله الحمد والمنّة

الجزء الخامس من تاريخ كنز الدرر وجامع الغرر تأليف أضعف عباد الله وأفقرهم إلى الله أبو بكر بن عبد الله بن أيبك صاحب صرخد، كان عرف والده رحمه الله بالدواداري انتسابا لخدمة الأمير المرحوم سيف الدين بلبان الرومي الدوادار الظاهري، تغمّده الله برحمته وأسكنهم فسيح جنّته بمحمّد وآله. وهو الدرّة السّنية في أخبار الدّولة العباسيّة

[مقدمة المؤلف]

بسم الله الرحمن الرحيم [مقدمة المؤلف] ربّ اختم بخير الحمد لله مسبغ النعمة، وراحم الأمّة؛ بالخلفاء الأئمّة، الذين كشف الله بولائهم الغمّة، وأزال بإرشادهم ظلم الشبه المدلهمّة. والصلاة على سيّدنا محمّد نبيّه المصطفى، الذي اشتمل على بعض معجزاته كتاب الشفا، وعلى آله الشرفا، إخوان الصفاء وأبناء الصفا، وعلى أصحابه أهل الجود والإحسان والوفا، الذين منحهم فضلا باهرا وشرفا، وسلّم تسليما كثيرا. وبعد؛ فإنّ أولى ما تيقّنه المرء أشرف مطلب ومراد، وسرح بفكره منه في أخصب مرتع وواد، وساوى في اعتقاده بين مقاله وسريرته، ودلّ باجتهاده على علانيته ونيّته؛ ما أوضحته الشريعة الهادية علما لذوي الاستبصار، وقادت العقول الوافية إليه بخزائم القهر والاضطرار؛ لاتّباع السنّة، وترك النزاع في الخلاف، والتنحّي عن الدخول فيما شجر بين السادة الأشراف؛ لأنّه قاض باستنقاذ النفوس من المخاوف وبقائها، وكافل بسموّها إلى عالمها العلويّ وارتقائها. والإخلاص في محبّة خلفائه في أرضه اتّباعا لما أتى به الصادق المصدّق من سنّته وفرضه؛ أوّلهم وآخرهم، بدوهم وحاضرهم، لا نفرّق بين أحد منهم رضوان الله

عليهم وعفا عنهم، لا غلّ بذاك نجاتنا، ولنعلي منازلنا بصحبتهم في الآخرة ودرجاتنا. ونبرأ إلى الله من أقاويل مزخرفة، وآراء منحرفة، صادرة عن عقول خرفة. ونؤمن بما أنزل في أوّل سورة البقرة، ونحبّ آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم البررة، ونترضّى عن أصحابه العشرة. اللهم هذا ضميري واعتمادي، وخالص نيّتي واعتقادي؛ عليها أحيا وعليها أموت وعليها أبعث إن شاء الله تعالى. ثم إنّ هذا هو الجزء الخامس، المشنّف بما حوى من درره الآذان بألفاظه النفائس. وهو واسطة هذا العقد الجامع إذ يتلوه سادس وسابع وثامن وتاسع؛ فعادت منزلته <كمنزلة> الشمس بين الأفلاك السبع، ومحلّه كمحلّ أبي الحارث بين الوحوش السبع. ولمّا تقدّم من العبد القول في الأربعة أجزاء الذين من قبله، وما اشتمل كلّ جزء عليه من نبله وفضله؛ ممّا فاقت بما احتوت على زهر الآداب، وراقت للناظر ولا رقّة تباشير الشراب، وجمعت من المعاني ما يغني متأمّلهم عن الأغاني. وإذا أنصف الفاضل الحرّ قال هذا نثر الدرّ. وإذا تأمّل كتاب خراج أو حيوان ولمح هذا الكتاب على أنّ لكلّ حيّ أوان. ولعلّ السيّد الفاضل إذا تمعناه تحقّق أنّه الكتاب الكامل. على أنّني لمشايخ أرباب هذه الكتب

(4) ذكر ابتداء الدولة العباسية أدام الله أيام سلطانها

تلميذ، وللسادة الكتّاب من أهل الأدب من جملة العبيد؛ إذ ليس نقتبس إلاّ من أنوارهم، ولا نغترف إلاّ من بحارهم رضوان الله عليهم، وزاد من برّه وإحسانه في جنانه إليهم. ثم إنّي أعوذ بربّ الناس، من شرّ الوسواس الخنّاس؛ وأبتدئ بذكر أوّل دولة الخلفاء من بني العبّاس. والمرجوّ من الله التوفيق والإرشاد إلى سلوك هذه الطريق الجادّ. (4) ذكر ابتداء الدولة العباسيّة أدام الله أيام سلطانها قال القاضي ابن خلّكان رحمه الله تعالى في تاريخه إنّ الإمام عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه افتقد عبد الله بن عبّاس رضي الله عنه في وقت صلاة الظهر فلم يجده؛ فقال لأصحابه: ما بال أبي العبّاس لم يحضر؟ فقالوا: ولد له مولود. فلمّا صلّى <عليّ> عليه السلام قال: امضوا بنا إليه. فأتاه فهنّأه فقال: شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب، ما سمّيته؟ قال: أيجوز أن أسمّيه حتى تسمّيه أنت؟! فأمر به فأخرج إليه فأخذه وحنّكه ودعا له وردّه إليه وقال: خذ إليك أبا الأملاك، سمّيته عليّا وكنّيته أبا الحسن. فلمّا قام معاوية رضي الله عنه خليفة قال لابن عبّاس: ليس لكم اسمه وكنيته، وقد كنّيته أبا محمد، فجرت عليه. هذا ما ذكره القاضي ابن خلّكان عن المبرّد في كتابه المسمى بالكامل. وقال الحافظ أبو نعيم في كتاب حلية الأولياء إنّ عليّا لّما قدم على عبد الملك بن مروان قال له: غيّر اسمك أو كنيتك! قال: أمّا الاسم فلا وأمّا

الكنية فكنيتي بأبي محمّد فغيّر كنيته. انتهى كلام أبي نعيم. قلت: وقد ذكر الطبريّ رحمه الله في تاريخه أنّ عليّ بن عبد الله بن عبّاس دخل على عبد الملك بن مروان فأكرمه وأجلسه على سريره وسأله عن كنيته فأخبره فقال: لا يجتمع في عسكري هذا الاسم وهذه الكنية لأحد، وسأله هل له من ولد-وكان قد ولد له يومئذ محمد بن عليّ بن عبّاس-فأخبره فكنّاه أبا محمد. انتهى كلام الطبريّ هاهنا. ورأيت في مسوّداتي عن الواقديّ أنّ عليّ بن عبد الله بن عبّاس ولد في الليلة التي قتل فيها الإمام عليّ بن أبي طالب، كرّم الله وجهه، والله أعلم بالصواب في ذلك. وإنّ عليّا هذا ضرب بالسياط مرّتين كلتا هما ضربه الوليد بن عبد الملك أحدهما في تزويجه لبابة ابنة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب؛ وكانت تحت عبد الملك بن مروان أولا فعضّ ذات يوم تفّاحة ثم رمى بها إليها فتناولت سكّينا فقال: وما تصنعين بها؟ قالت: أميط عنها الأذى! فطلّقها. وكان عبد الملك شديد البخر كما تقدّم من الكلام. وقيل إنّ الذباب كان إذا وصل إلى فيه تساقط ميتا لشدّة بخره، فتزوّجها عليّ بن عبد الله بن عبّاس في خلافة الوليد فقبض عليه الوليد وضربه وقال: إنما تتزّوج بأمّهات الخلفاء لتضع منهم! لأنّ مروان بن الحكم إنّما تزوّج بأمّ خالد بن <يزيد> بن معاوية ليضع منه. فقال عليّ بن عبد الله: إنما تزوجتها لما أرادت الخروج من هذا البلد وأنا ابن عمّها لأكون لها محرما! وأمّا ضربه إياه ثاني مرّة ما روي عن أبي عبد الله محمد بن شجاع بإسناد

متّصل قال: رأيت عليّا بن عبد الله بن عبّاس مضروبا بالسياط يدار به على بعير ووجهه ممّا يلي ذنب البعير، وصائح يصح عليه: هذا عليّ بن عبد الله بن عبّاس الكذّاب! فأتيته وقلت: ما هذا الذي نسبوك فيه إلى الكذب؟! قال: بلغهم عني أنّ هذا الأمر سيكون في ولدي والله ليكوننّ فيهم حتى تملكه عبيدهم الصغار العيون، العراض الوجوه؛ الذين كأنّ في وجوههم المجانّ أي الدرق. ورأيت في مسوّداتي أنّ عليا هذا دخل على هشام بن عبد الملك-وهو الصحيح؛ فمن قال إنّه دخل على سليمان بن عبد الملك فقد غلط-ومعه ابناه الخليفتان السفّاح والمنصور ولدي محمد ابنه. فأوسع هشام له عن سريره وبرّه وسأله عن حاجته فقال له: علىّ ثلاثون ألف درهم! فأمر بقضائها. ثم قال: استوص بابنيّ خيرا! فقال: أفعل! فشكره وقال: وصلتك رحم! فلمّا نهض وولّى قال هشام لأصحابه: إنّ هذا الشيخ قد أسنّ واختلّ وخلط فصار يقول إنّ هذا الأمر سينتقل في ولده فسمعه عليّ فالتفت إليه وقال: والله ليكوننّ، وليملكنّ هذان! وأشار إلى ولديه-وخرج وهشام يضحك من قوله. وذكر المبرّد في كتابه الكامل أنّ عليا هذا كان مفرطا في الطول والجسامة إذا طاف كان كأنما الناس حوله يمشون وهو راكب. وكان يكون إلى منكب أبيه عبد الله، وكان عبد الله إلى منكب أبيه العبّاس، وكذلك العبّاس إلى منكب أبيه عبد المطّلب وقد تقدّم هذا الكلام عند ذكر من أفرط به الطول في الجزء الذي قبله. وقال المبرّد أيضا إنّ العباس كان عظيم الصوت جهوريّة؛ وجاءتهم مرة غارة وقت الصباح فصاح بأعلى صوته: واصباحاه! فلم تسمعه حامل إلاّ وضعت!

ذكر خلافة السفاح أول خلفاء بني العباس ومبتدؤه وما لخص من سيرته

وذكر أبو بكر الحازمي في كتاب ما اتّفق لفظه وافترق مسمّاه في أول حرف العين في باب عانة وغانة؛ قال: كان العبّاس بن عبد المطّلب يقف على سلع- وهو جبل عند المدينة-فينادي غلمانه وهم بالغابة فيسمعونه؛ وذلك آخر الليل؛ وبين الغابة وبين سلع ثمانية أميال! وقد تقدّم الكلام في بعض مناقب العباس وولده عبد الله في الجزء الثاني من هذا التاريخ حدّ الطاقة وجهد الاستطاعة. ذكر خلافة السفّاح أوّل خلفاء بني العبّاس ومبتدؤه وما لخّص من سيرته هو أبو العبّاس عبد الله بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف يلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وجميع بني العبّاس في عبد المطّلب، يلقّب بالسفّاح والقائم والثائر والمبيح. ولد مستهلّ رجب سنة أربع

ومائة. وفي تاريخ القضاعي رحمه الله (7) قال: كان مولده وأخوه المنصور بالشراة. وقيل ولد بالحميمة من الشام سنة ثلاث ومائة. أمّه ريطة بنت عبيد الله بن عبد المدان بن الريّان بن الحارث بن كعب. بويع له بالكوفة في المسجد الجامع يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وله ثمان وعشرون سنة، وقتل مروان في ذي الحجة منها. وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر. روى أنّ أبا سلمة حفص بن سليمان وسليمان بن كثير وهذان سيّدا دعاة الدولة العبّاسيّة كانا يفدان في كلّ عام على إبراهيم المدعوّ بالإمام ابن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس فيأتيانه بهدايا أهل الدعوة وبكتبهم ويستأمرانه ولم يكن أحد من أهل بيت إبراهيم يعرفهما ولا يعرف الأمر الذي يأتيان فيه، فقدما سنة من السنين فرأيا أبا العبّاس وأبا جعفر أخوي إبراهيم الإمام وهما إذا ذاك غلامان فأعجباهما فقال سليمان بن كثير لأبي سلمة: إنّي مسرّ إليك أمرا مهمّا من أمور الدين فاحلف لي على كتمانه! فحلف له أبو سلمة فقال: هما والله أولى بالأمر من صاحبنا-يعني إبراهيم الإمام! فقال له سليمان: ما منعني من ذكر هذا لك إلاّ التقيّة والستر! وبيناهما يتفاوضان في هذا إذ مرّ أبو العبّاس وأبو جعفر وهما يضربان كرة، فدعاهما أبو سلمة فأتياه فقال لهما: إنّي أنشدت صاحبي هذا شعرا بأنّه معجب به فلم يرضه وقد رضينا بحكمكما فيه، فقالا: أنشده! فأنشدهما (من الطويل):

تفسير كلمات من هذا الخبر

أمسلم يا من ساد كلّ خليفة … ويا فارس الهيجا ويا جبل الأرض (8) شكرتك إنّ الشكر حبل من التقى … وما كلّ من أوليته نعمة يقضي ونوّهت من ذكري وما كان خاملا … ولكنّ بعض الذكر أنبه من بعض فقال له أبو جعفر: من يقول هذا؟ قال: يقوله أبو نخيلة. فعضّ أبو جعفر على إصبعه وقال: أأمن هذا العبد أن تدول لبني هاشم دولة فيولغوا الكلاب دمه؟! فقال له أبو العبّاس: مه يا أخي! فإنّه كان يقال: من ظهر غضبه ضعف كيده. ثمّ أقبل أبو العبّاس على أبي سلمة فقال: هذا شعر أحمق في أحمق كيف يقول لرجل في سلطان غيره وتابع له: يا جبل الأرض وجبل الأرض هو مرسيها وممسكها فلا يصلح أن يقال هذا لمن هو في سلطان غيره وتابع له وأين يقع تعظيمه وتفخيمه من نقص اسمه؟ وانطلق أبو العبّاس فقال له أبو جعفر: هلمّ يا أخي نلعب! فقال له أبو العبّاس: هل أولغت الكلاب دم أبي نخيلة؟ قال: لا! ولكنّك أدّبتني فتأدّبت! وذهبا. فقال أبو سلمة لسليمان: بمثل هذين يطلب الملك ويدرك الثأر. وما زالا بإبراهيم الإمام حتّى عهد إلى أبي العبّاس، ويقال إنّه وعدهما أن يعهد إليه ولم يفعل حتّى قبض عليه مروان فأفضى العهد إلى أبي العبّاس. تفسير كلمات من هذا الخبر قوله في الشعر: «أمسلم» يريد «أمسلمة» فرخّم الاسم فحذف الهاء منه ولهذا قول أبو العبّاس إنّه نقص اسمه وهو بمعنى مسلمة بن عبد الملك، وقوله: «حبل من التقى» أي عهد منه وسبب، فالحبل العهد؛ قال الله عزّ وجلّ: {إِلاّ}

{بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النّاسِ.} وأما قول أبي العبّاس هل أولغت الكلاب دم أبي نخيلة؟ فإنّه تعجّب من سرعة زوال غضبه على أبي نخيلة فكأنّه يقول: هل شفيت غيظك من أبي نخيلة حتّى تعود للعب؟ (9) وقول أبي جعفر: «لا ولكنّك أدّبتني» أراد: أنت أمرتني أن لا أظهر غضبي فأمسكت. وإنّما قصد أبو سلمة بإنشادهما الأبيات المذكورة ليرى همّتهما وما عندهما إذا سمعا مدح بني أميّة. وكان بنو أميّة إذ ذاك ملوكا ودعاة بني العبّاس يدعون الناس إلى خلع بني أميّة والخروج عليهم وأبو سلمة وسليمان بن كثير سيّدا دعاة بني العبّاس. وروي أنّ أبا نخيلة الشاعر المقدّم ذكره وفد على أبي العبّاس السفّاح عندما أفضت إليه الخلافة فلمّا مثل بين يديه استأذنه في الإنشاد فقال له: من أنت؟ فقال: عبدك وشاعرك أبو نخيلة يا أمير المؤمنين! فقال أبو العبّاس: لا قرّب الله الأبعد! ألست القائل: «أمسلم يا من ساد كلّ خليفة؟!» وأنشده الأبيات المذكورة، فقال أبو نخيلة: نعم يا أمير المؤمنين وأنا الذي أقول (من الرجز): لّما رأينا استمسكت يداكا … كنّا أناسا نرهب الأملاكا ونركب الأعجاز والأوراكا … من كلّ شئ ما خلا الإشراكا وكلّ ما قد قلت في سواكا … زور فقد كفّر هذا ذاكا إنّا انتظرنا زمنا أباكا … ثم انتظرنا بعده أخاكا ثم انتظرناك لها إيّاكا … فكنت أنت للرجاء ذاكا قال: فعفى عنه أبو العبّاس ووصله.

ذكر سنة ثلاث وثلاثين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة ثلاث وثلاثين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وتسعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة السفّاح عبد الله بن محمّد المنعوت بالكامل ابن عليّ المنعوت (10) بالسجّاد بن عبد الله بن عبّاس. وفيها وزر له أبو سلمة حفص بن سليمان الخلاّل وهو أحد الدعاة المذكورين، وكان يقال له وزير آل محمّد. وفيها ولي مصر خليفة بن عون والقاضي خير بن نعيم بحاله. روي أنّ سديف بن ميمون الشاعر دخل على أبي العبّاس السفّاح وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك بن مروان فأنشده (من الخفيف): لا يغرّنك ما ترى من أناس … إنّ بين الضلوع داء دويّا فضع السيف وارفع السوط حتّى … لا ترى فوق ظهرها أمويّا وهي قصيدة طويلة هذا زبدة مخضها، فقال له سليمان: قتلتني أيّها الشيخ قتلك الله! ونهض أبو العبّاس فوضع المنديل في عنق سليمان وقتل من ساعته.

ذكر سنة أربع وثلاثين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة أربع وثلاثين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وستة وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وعشرة أصابع. الخليفة السفّاح عبد الله وقيل إنّما سمّي السفّاح لكثرة إهراقه الدماء < ... >.وفيها ولي مصر صالح بن عون حربا وخراجا وخير بن نعيم قاضيها بحاله. روي أنّ شبل بن سليمان بن عبد الله الشاعر دخل على أبي العبّاس السفّاح وعنده ثمانون رجلا من بني أميّة جلوسا مكرّمين فأنشده (من الخفيف): أصبح الملك ثابت الأساس … بالبهاليل من بني العبّاس لا تقيلنّ عبد شمس عثارا … واقطعن كلّ رقلة وغراس ذلّها أظهر التودّد منها … وبها منكم كحزّ المواسي ولقد غاظني وغاظ سواي … قربها من نمارق وكراسي أنزلوها بحيث أنزلها اللّ‍ … هـ بدار الهوان والإتعاس (11) واذكروا مصرع الحسين وزيدا … وقتيلا بجانب المهراس والقتيل الذي بحرّان أضحى … ثاويا بين غربة وتناسي

ذكر سنة خمس وثلاثين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

نعم شبل الهراش مولاك شبل … لو نجا من حبائل الإفلاس فلمّا سمع تنكّر وأمر بهم فقتلوا، وألقى البسط عليهم وجلس للغداء وإنّ أحدهم يسمع أنينه لم يمت بعد! وقال: لم أتغدّ قطّ أطيب من هذه. ثم قال لشبل: لولا أنك خلطت كلامك بالمسألة لأغنمتك جميع أموالهم، ولعقدت لك على سائر موالي بني هاشم. ذكر سنة خمس وثلاثين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع واثنا عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة السفّاح عبد الله بن محمّد بن علي العبّاسي. وصالح بن عون على مصر حربها وخراجها. وخير بن نعيم إلى حين استعفى فقيل له: أشر علينا برجل نولّيه القضاء! فقال: كاتبي غوث بن سليمان؛ فولي غوث القضاء. قال العبدي الشاعر: دخلت على عبد الله بن علي بن عبد الله وعنده من بني أمية اثنان وثمانون رجلا والغمر بن يزيد بن عبد الملك جالس معه على مصلاّه؛ فاستنشدني فأنشدته قصيدتي الرائيّة التي أوّلها (من الكامل):

ذكر سنة ست وثلاثين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

وقف المتيّم في رسوم ديار وهو مطرق كالأفعوان حتى انتهيت إلى قولي (من الكامل): أما الدعاة إلى الجنان فهاشم … وبنو أميّة من دعاة النار أأميّ مالك من قرار فالحقي … بالجنّ صاغرة بأرض وبار (12) ولئن رحلت لترحلنّ ذميمة … وكذا المقام بذلّة وصغار قال: فرفع رأسه الغمر إليّ وقال: يا ابن الفاعلة! ما حملك ودعاك إلى هذا؟ فضرب عبد الله بقلنسوته الأرض؛ وكانت العلامة بينه وبين أهل خراسان؛ فوضعوا على بني أميّة العمد حتّى ماتوا، وأمر بالغمر فقتل صبرا. ذكر سنة ستّ وثلاثين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثمانية أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة السفّاح عبد الله بن محمد بن علي العبّاسي إلى أن توفّي رحمه الله تعالى في هذه السنة في تاريخ ما يأتي. وصالح بن عون على مصر. وقيل: ولي في هذه السنة المثنّى بن زياد الخراج بمصر. والقاضي غوث بن سليمان بحاله. توفّي <أبو العبّاس السفّاح> بالجدري يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت .

صفته رحمه الله

من ذي الحجّة سنة ست وثلاثين ومائة، وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة. وصلّى عليه عيسى بن علي. ودفن بالأنبار بمدينته التي بناها وسمّاها الهاشمية. وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر. روي أنه وصل عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام بألفي ألف درهم؛ فيقال إنه أول خليفة وصل بهذه الجملة، والله أعلم. صفته رحمه الله كان طويلا، حسن الوجه، أقنى، حسن اللحية، جعد الشعر، معتدل الجسم. ورزق من الولد محمدا من أمّ ولد، وابنة سمّاها ريطة من أمّ ولد؛ وهذه ريطة تزوّجها المهدي وأولدها عليا وعبد الله. الوزراء والكتّاب كان وزر له أولا أبو سلمة المقدّم ذكره. ثم أبو الجهم ابن عطيّة، وخالد بن برمك. الحجّاب صالح بن الهيثم، وقيل: محمد بن صول؛ وكان وقع في يزيد وكان مولاه فأنكر ذلك عليه فادّعى أنه مولى المنصور؛ والله أعلم. نقص خاتمه الله ثقة عبد الله وبه يؤمن.

ذكر خلافة المنصور ثاني خلفاء بني العباس وبعض أخباره وما لخص من سيرته

ذكر خلافة المنصور ثاني خلفاء بني العبّاس وبعض أخباره وما لخّص من سيرته هو أبو جعفر عبد الله بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس. وبقية نسبه قد علم. يلقّب المنصور والمؤيّد والكاظم. أمّه أمّ ولد بربرية يقال إنّ اسمها كوثر. بويع يوم مات أخوه نهار الأحد، وتلقّته البيعة وهو قادم من الحجّ بمكان يقال له صفت؛ فقال: ما اسم هذا المكان؟ قالوا: صفت! فقال: صفا لنا الأمر! قلت: ومن نكت التاريخ في حكم التفاؤل ما حكي عن عبد العزيز بن مروان أخي عبد الملك بن مروان أنّه لمّا وقع الفناء بمصر وهو يومئذ أميرها خرج هاربا نحو صعيد مصر فلمّا كان ببعض قرى الصعيد أتاه بريد في مهمّ فقال له: ما اسمك؟ فقال: لا حق! قال: ابن من؟ قال: ابن مدرك! فقال: أوّاه! لحقني فأدرك! ما أظنّني راجعا إلى الفسطاط! فمات بتلك القرية. ونظير من تطيّر بالاسم حكاية مستطرفة؛ قيل إنّ بعض العرب

ذكر سنة سبع وثلاثين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

استدان من رجل فقيه دينا إلى أجل وأتى به للشهود ليكتبوا له مسطورا على الأعرابي فقالوا له: ما اسمك؟ فقال: مازن. قال: ابن من؟ قال: ابن مانع. قال: ابن من؟ قال: ابن مدافع. قال: من أهل أين؟ قال: من النكّاريّة-وهي قرية من قرى حوف مصر. فقال الفقيه: العتق يلزمني لا بماملتك يا أخا العرب! اسمك ونسبك وبلدك يدلّ على وفائك! نظيرها قيل: أتى أعرابيّ إلى حانوت الشهود يكتب عليه مسطورا بدين فقيل له: ما الاسم؟ قال: شاهين بن عقاب بن سنقر من الطيرية! فقال كبير الشهود لصاحب الدين: إن كنت من العفاريت الطيّارة كتبت لك عليه حتّى تلحق دينك! ولنعد إلى سياقة التاريخ. فيها ولّى المنصور خالد بن برمك فارس حربها وخراجها؛ ولم تكن قبله اجتمعت لغيره. وكانت الدفاتر في الدواوين صحفا مدرجة فأول من جعلها دفاتر من جلود وقراطيس خالد بن برمك. وأول من اتّخذ الأتراك من الخلفاء المنصور؛ اتّخذ حمّادا ثم اتّخذ المهدي مباركا ثم اقتدى بهما الخلفاء وسائر الناس. والله أعلم. ذكر سنة سبع وثلاثين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وستة أصابع: ما لخّص من الحوادث الخليفة المنصور عبد الله بن محمد بن عليّ. وصالح بن عون على حرب مصر. والمثنّى بن زياد على الخراج. والقاضي غوث بن سليمان بحاله.

فيها تغيّر المنصور على أبي مسلم الخراساني لأسباب صدرت منه بعد موت السفّاح فعزم على قتله، وبقي حائرا بين الاستبداد برأيه في أمره والاستشارة فقال يوما لسلم بن قتيبة: ما ترى في أمر أبي مسلم؟ قال: {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا} فقال: حسبك يا ابن قتيبة! لقد أودعتها أذنا واعية. ولم يزل المنصور يخدعه، وينصب له الحبائل حتّى أحضره إليه. وكان أبو مسلم ينظر في كتب الملاحم ويجد خبره فيها، وأنه مميت دولة ومحيي دولة، وأنه يقتل ببلاد الروم. وكان المنصور يومئذ برومية المدائن التي بناها كسرى ولم يخطر بقلب أبي مسلم أنها موضع قتله بل راح وهمه إلى بلاد الروم؛ فلمّا دخل على المنصور رحّب به وأمره بالانصراف إلى مخيّمه، وانتظر المنصور فيه الفرص والغوائل. ثم إنّ أبا مسلم ركب إليه مرارا فأظهر له أنه متمرّض فلازمه ثم جاءه فقيل إنه يصلّي وإنه يتوضّأ للصلاة؛ فجلس تحت الرواق وقد رتّب له المنصور جماعة بقفون وراء الستر الذي خلف أبي مسلم فإذا عاتبه لا يظهرون حتّى يضرب يدا على يد فحينئذ يظهرون فيضربون عنقه. ثم جلس المنصور وقد تدرّع من تحت ثيابه خشية من أبي مسلم. ودخل عليه أبو مسلم فسلّم وسأل فردّ عليه بخير ثم آذنه في الجلوس وحادثه ساعة، ثم عاتبه وقال: فعلت وفعلت! فقال أبو مسلم: ما يقال هذا لمثلي وقد بلغ من سعيي واجتهادي ومناصحتي وما كان مني! فقال له المنصور: يا ابن الخبيثة! إنما فعلت ذلك بجدّنا وحظّنا، ولو أنّ مكانك أمة سوداء لعملت ما عملت أنت! ألست الكاتب إليّ تبدأ بنفسك قبلي؟ ألست الكاتب تخطب عمّتي آسية، وتزعم أنك من ولد سليط بن عبد الله بن عبّاس؟! لقد ارتقيت لا أمّ لك مرتقى

صعبا. فأخذ أبو مسلم بيده يعركها ويقبّلها ويعتذر ويتنصّل؛ فقال له المنصور وهو آخر كلامه له: قتلني الله إن لم أقتلك! ثم صفّق بإحدى يديه على الأخرى فخرج إليه القوم وخبطوه بسيوفهم، والمنصور يصيح: إضربوا! قطع الله أيديكم! وكان أبو مسلم قد قال عند أول ضربة: استبقني يا أمير المؤمنين لعدوّك! قال: لا أبقاني الله إذا أبدا إن أبقيتك، وأيّ عدوّ هو أعدى منك؟! وكانت قتلته يوم الخميس لخمس بقين من شعبان. وقيل: لليلتين بقيتا منه. وقيل: قتل يوم الأربعاء لسبع ليال خلون من شعبان سنة سبع وثلاثين ومائة. وقيل: سنة أربعين ومائة برومية المدائن وهي بليدة بالقرب من الأنبار على دجلة بالجانب الشرقي معدودة من مدائن كسرى. قلت: نظرت في مسوّداتي: ملكان إسلاميان أول اسم كلّ منهما عين قتل كلّ واحد منهما ثلاثة ملوك أول اسم كلّ واحد عين؛ فأحدهما عبد الملك بن مروان قتل عبد الله بن الزبير، وعمرو بن سعيد بن العاص الأشدق، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. والآخر عبد الله المنصور هذا قتل عمّه عبد الله بن عليّ، وعبد الجبّار بن عبد الرحمن والي خراسان، وعبد الرحمن أبا مسلم هذا. وروي أنه قال له حين أراد قتله: هل كنت قبل قيامك بدولتنا جائز الأمر على عبدين؟ قال: لا يا أمير المؤمنين! قال: فلم لا تعرض حالتي عسرتك ومهابتك على أيّامنا، وتعرف لنا ما يعرف غيرك من إجلالنا وإعظامنا حتّى لا ينازعك الحين عنان الطمأنينة؟ قال: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين؛ ولكنّ الزمان وإساآته قلبا ما كان من حسن صنيعي. قال: فلا مرغوب فيك، ولا مأسوف عليك، وقى الله تعالى خلقه منك! وأمر بقتله فقتل. ثم أدرجه في بساط. ودخل عليه جعفر بن حنظلة فقال له المنصور: ما تقول في أبي مسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت أخذت من رأسه شعرة فاقتل ثم اقتل! فقال المنصور: وفّقك الله! ها هو ذاك في البساط! فلمّا نظر إليه مقتولا،

قال: يا أمير المؤمنين! عدّ هذا اليوم من أول خلافتك جديدا لا أبقى الله لك عدوا! فأنشد المنصور (من الطويل): وألقت عصاها واستقرّ بها النوى … كما قرّ عينا بالإياب المسافر ثم أقبل على من حضر وأنشد (من السريع): زعمت أنّ الدين لا يقتضى … فاستوف بالكيل أبا مجرم إشرب بكأس كنت تسقي بها … أمرّ في الحلق من العلقم ثم نظر إلى أبي مسلم طويلا وهو طريح بين يديه وأنشد (من الطويل): طوى كشحه عن أهل كلّ مشورة … وبات يناجي عزمه ثمّ صمّما وأقدم لمّا لم يجد عنه مذهبا … ومن لم يجد بدّا من الأمر أقدما ومن هاهنا أخذ أبو عبادة البحتري قوله في مدح ابن خاقان لمّا قتل الأسد من قصيدة يقول (من الطويل): فأحجم لمّا لم يجد فيك مطمعا … وأقدم لمّا لم يجد عنك مهربا وكنت في وقت بحضرة القاضي علاء الدين ابن عبد الظاهر رحمه الله

ذكر سنة ثمان وثلاثين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

تعالى، وعنده الأمير المرحوم بهاء الدين أرسلان الدوادار الناصري برّد الله ضريحه؛ وهو يحكي له في حال الأمير المرحوم سيف الدين سلار مخدومه لمّا كان نائب السلطنة المعظّمة الناصريّة خلّد الله ملك مولانا مالكها، وأدام اقتداره؛ لمّا كان بالشوبك، وسبب عودته؛ فتمثّل القاضي علاء الدين ابن عبد الظاهر رحمه الله بهذا البيت الذي للبحتري فقلت: يا سيّدي! يرى مولانا أنّ البحتريّ أخذ هذا البيت من قول المنصور لمّا قتل أبا مسلم ثم أنشدته البيتين فقال: فو الله من هاهنا أخذ وما تعدّى! وأعجب بي في ذلك الوقت، وكذلك الأمير بهاء الدين رحمهما الله جميعا. ذكر سنة ثمان وثلاثين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المنصور عبد الله بن محمد بن عليّ. وصالح بن عون بحاله، والمثنّى كذلك، والقاضي غوث.

اختلف في نسب أبي مسلم اختلافا كبيرا. وقد تقدّم من ذكره ونسبه ومبتدأ أمره وسبب وصوله إلى إبراهيم الإمام في الجزء الثالث من هذا التاريخ، مما يغني <عن> إعادته هاهنا. وإنما نذكر هنا اختلاف الناس في نسبه ملخّصا. زعم قوم أنه من العرب. وقيل هو من العجم. وقيل من الأكراد. فأمّا من جعله من العرب فيوصله بسليط بن عبد الله بن عبّاس. وأمّا من جعله من العجم فيوصله إلى بزرجمهر بن البختكان الفارسي؛ وهو الصحيح؛ وقد تقدّم ذلك. وأمّا من جعله من الأكراد فيستدلّ بقول أبي دلامة فيه (من الطويل): أبا مجرم ما غيّر الله نعمة … على عبده حتّى يغيّرها العبد أفي دولة المنصور حاولت غدره … ألا إنّ أهل الغدر آباؤك الكرد أبا مجرم خوّفتني القتل فانتحى … عليك بما خوّفتني الأسد الورد لمّا توفّيت آسية عمّة المنصور مشى المنصور في جنازتها فلمّا وقف على حفيرتها وأبو دلامة واقف أيضا على الحفيرة فنظر إليه المنصور وقال: أبا دلامة! ما أعددت لهذه الحفيرة؟ فقال: عمة أمير المؤمنين يأتون بها في هذه الساعة! فضحك المنصور من وسط البكاء. وروي أنّ المنصور أمر سائر الخصيصين به أن يلبسوا أقباعا طوالا، ويقيموا عليها، ولا يفارقوا لبس السواد، مكتوب بالبياض في ظهورهم:

ذكر سنة تسع وثلاثين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}،ويشدّوا سيوفهم في أوساطهم؛ فدخل عليه يوما أبو دلامة في هذه الصورة فقال له المنصور: ما حالك يا أبا دلامة؟ فقال: بأسوأ حال يا مولانا! فقال: وكيف ويحك؟ فقال: ما حال من وجهه في نصفه، وسيفه في استه، وقد نبذ كتاب الله وراء ظهره؟! فضحك المنصور حتّى كاد يسقط ثم أمر أن يغيّروا ذلك. ذكر سنة تسع وثلاثين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المنصور عبد الله بن محمّد بن عليّ. وصالح بن عون بمصر، والمثنّى على الخراج، والقاضي غوث بن سليمان بحاله. فيها بنى المنصور مدينته، واتّخذ فيها قصره، وفيه بيوت للإذن. وهو أول من رتّب المراتب من الخلفاء. وكان بنو أمية لهم بيوت بلا منعة ولا إذن؛ وإنما كان الناس يقفون على أبوابهم حتى يؤذن لهم أو ينصرفون؛ فلمّا ولي بنو العبّاس، وبنى المنصور مدينته اتّخذ في قصره بيوتا للإذن فجرى الأمر على ذلك.

ذكر سنة أربعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة أربعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة (20) الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المنصور عبد الله بن محمد بن عليّ. وفيها عزل صالح بن عون عن مصر وولّى أبا عون عبد الملك بن يزيد على الحرب، وعلى الخراج موسى بن كعب، وعزل المثنّى؛ والقاضي غوث بن سليمان قاضيا بحاله. وفيها بنيت المصّيصة بناها صالح بن علي عمّ المنصور بأمره. روي عن أبي الحسن أحمد بن علي بن الحسين النوري البزّاز بإسناد متّصل قال: بينا المنصور ذات يوم جالس وعنده عمومته إسماعيل بن علي وعبد الصمد بن علي وعبد الله بن علي وصالح بن علي فتذاكروا أيّام بني أميّة وما كانوا فيه فقال إسماعيل: يا أمير المؤمنين! إنّ في حبسك عبد الله بن مروان بن محمد-وكان عبد الله وليّ عهد أبيه مروان-فلو أحضرته لسمعت عجبا! فقال المنصور: يا مسيّب! عليّ به! فلمّا مثل بين يديه قال: السلام

عليك يا أمير المؤمنين! قال المنصور: يا عبد الله! إنّ ردّ السلام أمان، وليست تسخو نفسي بذلك! هات فحدّثني! قال: والله يا أمير المؤمنين ما أقدر على النفس من ثقل ما عليّ من الحديد وصدئه، وذلك أني أبول فيرشّش عليه فيصدأ. قال: يا مسيّب! أطلق عنه الحديد فأطلق عنه؛ وكانت بنو أميّة تقعد على الأسرة وتثني الوسائد لبني هاشم فأمر فثنيت له وسادة وقال: هات الآن! قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنّه لمّا جاء عبد الله ففعل بنا ما فعل فكنت المطلوب من بين الناس فدخلت إلى خزانة لي فأخرجت عشرة آلاف دينار فدفعتها إلى عشرة غلمان لي ممن أثق بهم، وأمرتهم أن يشدّوها في أوساطهم، ثم دخلت عودا على بدء فأخرجت أسرى جوهر عندي وألف دينار فشددتها في وسطي، ثم أمرت بأسرى فرش لي فحمل على خمسة أبغل، وركبت مع غلماني أفره دوابّي، وخرجت هاربا فدفعت إلى قفر لا أنيس به فإذا قصر خراب فأمرت فكسح لي ناحية منه، وفرش لي، وأمرت أوثق غلماني فقلت: إمض إلى ملك النوبة فخذ لي منه أمانا وامتر لنا ميرة فمضى فأبطأ أياما فسؤت ظنا ثم عاد ومعه آخر وإذا هو ترجمان الملك فدخلا عليّ فقال الترجمان: أين صاحبك؟ فأومأ إليّ فأقبل فكفّر ثم قبّل يدي ووضعها على صدره وقال: الملك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: ما الذي جاء بك إلى بلدي، أراغب في ديني أم محارب لي أم مستجير بي؟ فقلت: تقرأ على الملك السلام وتقول له: أمّا الرغبة في دينه فإني لست أبغي بديني بدلا، وأمّا محارب له فمعاذ الله، وأمّا مستجير به فلعمري ذاك! قال: إنّ الملك يقول لك لا تحدث شيئا في ابتياع ميرة فإنه يوجّه إليك جميع ما تحتاجه، وصائر إليك بنفسه بعد ثلاث. فلمّا كان في اليوم الثالث أمرت ففرش لي، ونصب لي منبر وله آخر ثم صعدت فقعدت بين شرفتين من شرف القصر أرقب مجيئه فلمّا تعالى النهار إذا أنا برجل قد أقبل حافيا حاسرا عن رأسه بين يديه سبعة نفر بأيديهم الحراب، وخلفه ثلاثة؛

فقلت: من هذا؟ فقالوا: الملك! فسوّلت لي نفسي إذا هو دخل وثبت عليه فقتلته واستوليت على الأمر، ثم نظرت فإذا زهاء عن عشرة آلاف رجل في السلاح الذي لم ير مثله فكانت موافاتهم وقت دخوله القصر فأقبل يطأ البساط بظهر قدمه ثم إنه سأل عنّي (22) فأومي إليّ فكفّر لي وقبّل يدي وجلس على الأرض! فقلت له: لم لا ترتفع إلى ما مهّد لك؟ فقال، قل له يحقّ للملك أن يتواضع لعظمة الله عزّ وجلّ إذا رفعه الله. ثمّ قال: قل له ما الذي أخرجك من بلدك وأنت من أهل بيت النبوّة؟ فقلت: جاء قوم أقرب إلى نبيّنا منّا فاستولوا على الأمر فقتلونا وشرّدونا حتّى أقبلت إليك. فقال: سله ما بالكم تشربون الخمور وقد حرّمت عليكم في كتابكم؟ فقلت: عبيد وأتباع لنا دخلوا في ملكنا من غير إرادتنا! فحرّك رأسه تحريك منكر ثمّ قال: ما بالكم إذا ركبتم إلى صيدكم ولهوكم تنزلون القرى ثمّ لا يقنعكم ذلك إلاّ بالعسف والضرب، وتهوشون زروعهم في طلب درّاج يساوي نصف درهم، وعصفور لا قيمة له من غير حاجة منكم إليه؟! كلاّ والله! ولكنكم قوم استحللتم ما حرّم الله عزّ وجلّ عليكم، وأتيتم ما عنه نهاكم، وإنّ لله تعالى فيكم غاية لم تبلغ النهاية فإن كنت من القوم فلا تقيمنّ في بلادي فوق ثلاث فإنّي أتخوّف أن تنزل بك نقمة فتشملني معك! فرجعت فأخذت وها أنا بين يدي أمير المؤمنين! فو الله للموت أيسر لي مما أنا فيه. فهمّ بإطلاقه فقال له عمّه إسماعيل بن علي: إنّ له في عنقي بيعة! قال: فما ترى يا عمّ؟ قال: يسكن في دار من دورنا، يجرى عليه كما يجرى على أحدنا! فقال: خذه إليك! فلم يزل عنده حتّى مات. والله أعلم.

ذكر سنة إحدى وأربعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة إحدى وأربعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وخمسة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية أصابع (23). الخليفة المنصور عبد الله بن محمد بن علي. وفيها عزل أبا عون عن الحرب بمصر، وولّى محمد بن الأشعث، وموسى بن كعب والقاضي غوث بحالهما. ومن كتاب الآغاني عن الزبير بن بكّار عن عمّه قال: مدح الدارميّ عبد الصمد بن علي عمّ السفّاح بقصيدة واستأذنه في الإنشاد فأذن له فلمّا فرغ أدخل على عبد الصمد رجل من الشراة فقال لحاجبه: أعط هذا مائة دينار، واضرب عنق هذا! فوثب الدارمي فقال: بأبي وأمّي أنت! برّك وعقوبتك جميعا نقد! فإن رأيت أن يبدأ بقتل هذا فإذا فرغ منه أمرته فأعطاني فإني ليس بي من عجلة، ولا أريم من عندك حتّى تفعل ذلك! قال: ولم ويلك؟ قال: أخشى أن يغلط فيما بيننا والغلط في هذا لا يستقال! فضحك وأجابه إلى ما سأل.

ذكر سنة اثنتين وأربعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

أمّا الدارميّ فهو سعيد من ولد سويد بن زيد الذي كان أبوه أو جدّه قتل أسعد بن عمرو بن هند ثم هربوا إلى مكّة فحالفوا بني نوفل بن عبد مناف. وكان الدارمي في أيام عمر بن عبد العزيز، وكانت له أشعار ونوادر. وكان من ظرفاء أهل مكّة؛ وهو الذي يقول (من المتقارب): ولمّا رأيتك أوليتني ال‍ … قبيح وأبعدت عنّي الجميلا تركت وصالك في جانب … وصادفت في الناس خلاّ بديلا ذكر سنة اثنتين وأربعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وإصبع واحد، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وثلاثة عشر إصبعا. ما لخّص من الحواث الخليفة المنصور عبد الله بن محمّد بن علي. ومحمد بن الأشعث على حرب مصر، (24) وعزل موسى بن كعب عن الخراج وولّي مكانه نوفل بن فرات، والقاضي غوث بحاله. ومن أخبار الدارميّ عن الأصمعيّ عن ابن أبي الزناد قال؛ قدم تاجر من الكوفة المدينة بخمر فباعها كلّها وبقيت السود فلم تنفق، وكان التاجر صديقا للدارمي فشكا إليه ذلك؛ وقد كان الدارمي نسك وترك الغناء وقول الشعر فقال

ذكر سنة ثلاث وأربعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

له: لا تهتمّ بذلك فإنّي سأنفقها لك حتّى تبيعها بأغلى ثمن تريده! ثم قال (صوت)، (من الرجز): قل للمليحة في الخمار الأسود … ماذا صنعت براهب متعبّد قد كان شمّر للصلاة ثيابه … حتّى وقفت له بباب المسجد وغنّى فيه وكذلك غنّى فيه سنان الكاتب وشاع في الناس وقالوا: قد فتك الدارمي ورجع عن نسكه! فلم تبق في المدينة ظريفة إلاّ ابتاعت خمارا أسود بما أحبّ واختار حتّى نفد ما كان مع العراقي منها؛ فلمّا علم ذلك الدارميّ رجع إلى نسكه ولزم المسجد حتّى مات. وعن أبي هفّان قال: حضرت يوما مجلس بعض قّواد الأتراك وكانت له ستارة فنصبت فقال لبعض جواريه بها: غنّي الخمار الأسود المليح! فلم يعلم ما قال حتّى غنّت: قل للمليحة في الخمار الأسود ثمّ أمسك ساعة ثم قال لها: غنّي إني خريت وجيت أنتقله! فضحكت الجارية وقالت: هكذا يشبهك! ولم يدر أيضا ما قال حتّى غنّت: إنّ الخليط أجدّ منتقله ذكر سنة ثلاث وأربعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع. (25)

الخليفة المنصور عبد الله بن محمّد بن علي. وعزل محمد بن الأشعث ونوفل عن حرب مصر وخراجها وولي مكانهما حميد بن قحطبة حربا وخراجا؛ والقاضي غوث بحاله. وعن الزبير بن بكّار عن عمّه قال: كان الدارميّ عند عبد الصمد بن علي يحدّث فأغفى عبد الصمد فعطس الدارمي عطسة هائلة راعت عبد الصمد وغضب غضبا شديدا ثمّ استوى جالسا فقال له: يا عاضّ بظر أمّه أتفزعني؟ قال: لا والله أيّها الأمير ولكن هكذا عطاسي ما برح! قال: والله لأنقعنّك في دمك أو تأتيني ببيّنة على ذلك! قال: فخرج لا يدري أين يذهب فلقيه الريّان المكّي فأخبره الخبر فقال له: افتح فاك! ونظر فيه ثم قال: إمض أنا أشهد لك! فمضيا حتّى دخلا على عبد الصمد، فقال له: بماذا تشهد؟ قال: إنّي حضرته مرّة عطس عطسة سقط من هولها ضرسه من فيه وها هو! فضحك عبد الصمد وأجازهما. وفيها اتّخذ المنصور الخيش في الصيف؛ وهو أول من اتّخذ ذلك. وكانت الأكاسرة في صيفها يطيّن لها سقف بيت في كلّ يوم صائف فتكون قيلولة الملك فيه. وكان يؤتى بأطباق الخلاف الكبار طوالا فتوضع حول البيت، ويؤتى بقطع الثلج الكبار فتوضع بين أضعافها؛ وكان بنو أميّة يفعلون مثل ذلك؛

ذكر سنة أربع وأربعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

فلمّا كان المنصور اتّخذ له أبو أيّوب المورياني ثيابا كثيفة تبلّ وتوضع على الآلة التي يقال لها بالفارسية «سبايه» فاستطابها. ثمّ اقترح بعد ذلك الخيش فكان ينصب على قبّة فجرت العادة عليه. وأبو أيّوب هذا الذي جرى المثل بدهنه فقيل: أتاك بدهن أبي أيّوب! وذاك أنه كان له دهن طيّب يستعمله لمّا يريد أن يركب إلى المنصور؛ وكان قد غلب على أمر المنصور فقيل إنّ ذلك الدهن (26) كان له نبأ فضرب به المثل. ذكر سنة أربع وأربعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وواحد وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المنصور عبد الله بن محمّد بن علي. وعزل حميد وولي يزيد بن حاتم المهلّبي، وعزل غوث القاضي، وولي خزيمة بن إبراهيم بن يزيد القضاء.

قال أبو الفرج الأصفهاني رحمه الله في كتاب الأغاني، نسخت من كتاب أحمد بن القاسم بن يوسف قال، حدّثني خرّ بن قطن أنّ ثمامة بن الوليد دخل على أبي جعفر المنصور فقال: يا ثمامة! أتحفظ حديث ابن عمّك عروة بن الورد العبسي؟ قال: أيّ حديثه يا أمير المؤمنين فقد كان كثير الحديث؟ قال: حديثه مع الهذلي الذي أخذ فرسه! قال: ما يحضرني ذلك يا أمير المؤمنين! قال؛ فابتدأ المنصور وحدّثه حديثه الذي أثبتّه في الجزء الأول من هذا التاريخ عند ذكري لعروة بن الورد ونسبه وبعض أخباره مما يغني <عن> إعادته هاهنا. وأخّرت هذه الحكاية الأخرى عن عروة لأوردها في هذا المكان في جملة أخبار المنصور وطول سنيّه؛ قال؛ فلمّا أتمّ المنصور حكاية عروة مع الهذلي قال ثمامة: إنّ له عندنا أحاديث كثيرة ما سمعنا بأظرف من هذا يا أمير المؤمنين! فقال المنصور: أفلا أحدّثك بحديث عنه هو أظرف من هذا؟ فقال ثمامة: بلى يا أمير المؤمنين فإنّ الحديث إذا جاء منك كان له فضل على غيره! قال: خرج عروة بن الورد وأصحابه حتّى نزل ماوان فنزّل أصحابه، وكنف لهم (27) من الشجر وهم الذين قال فيهم (من الطويل): ألا إنّ أصحاب الكنيف وجدتهم … كما الناس لمّا أمرعوا وتموّلوا وهذه القصيدة أثبتّها بجملتها في الجزء الأول. وفي هذه الغزاة يقول (من الطويل):

أقول لأصحاب الكنيف تروّحوا … عشية قلنا حول ماوان رزّح ليبلغ عذرا أو يصيب غنيمة … ومبلغ نفس عذرها مثل منجح ومضى يبتغي لهم شيئا وقد جهدوا فإذا هو بأبيات شعر وبامرأة وشيخ كبير كالخباء الملقى فكمن عروة في كسر البيت وقد أجدب الناس، وإذا في البيت سحور ثلاثة شعرية-والسحور الحلقوم بما فيه-والبيت خال فأكلها عروة وكان له يومان قبلها لم يأكل شيئا فأشبعته وقوي فقال: لا أبالي من لقيت بعد هذا! ونظرت المرأة فظنّت أنّ الكلب أكلها فقالت للكلب: أفعلتها يا خبيث؟! وطردته. فإنه لكذلك إذا هو عند المساء بإبل قد ملأت المكان وإذا هي تتلفّت فرقا فعلمت أنّ راعيها جلد شديد الساعد، فلمّا أتت المناخ بركت ومكث الراعي قليلا ثم أتى ناقة منها فمرى أخلافها ثمّ وضع العلبة على ركبتيه وحلب حتّى ملأها ثم أتى الشيخ فسقاه. ثم أتى ناقة أخرى ففعل بها ذلك وسقى العجوز. ثم أتى أخرى ففعل بها ذلك فشرب ثم التفع بكساء واضطجع ناحية فقال الشيخ للمرأة وقد أعجبه ذلك منه: كيف ترين ابني؟ فقالت: ليس والله بابنك! قال: فابن من ويلك؟! قالت: ابن عروة بن الورد العبسي! قال: ومن أين لك؟ قالت: أتذكر يوما مرّ بنا ونحن نريد سوق ذي المجاز فقلت لي هذا عروة بن الورد، ووصفته لي شجاعة وجلدا فإنّي استظرفته واشتهيت منه الولد! فسكت الشيخ وسكن عروة (28) حتّى نوّم الراعي وثب عروة وصاح بالإبل فاقتطع منها نحوا من النصف ومضى ورجا ألاّ يتبعه الغلام-والغلام حين بدا شاربه، فاتّبعه. قال: فاتخذا وعالجه فضرب به الأرض فيقع قائما! فتخوّفه عروة على نفسه. فقال عروة-وهو يريد <أن> يعجزه عن نفسه-:أنا

ذكر سنة خمس وأربعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

عروة بن الورد! قال: فارتدع. ثم قال: ما لك ويلك! لست أشكّ أنّك سمعت ما كان من أمّي! قال: نعم! فاذهب أنت وأمّك وهذه الإبل ودع الرجل لحاله فإنه ليس لك بشيء! قال: الذي بقي من عمر الشيخ قليل وأنا مقيم معه ما بقي فإنّ له حقا وذماما فإذا هلك فما أسرعني إليك. وخذ من هذه الإبل بعيرا! قال: لا يكفيني إنّ معي أصحابا قد خلّفتهم ذا جهد. قال: فاثنان. قال: لا! قال: فثالث-والله لازدتك على ذلك! فأخذها ومضى إلى أصحابه. ثم إنّ الغلام لحق بعروة بعد هلاك الشيخ. فقال ثمامة: والله يا أمير المؤمنين لقد زيّنته عندنا وعظّمته في قلوبنا. قال: فهل أعقب عندكم؟ قال ثمامة فقلت: لا والله! ولقد كنا نتشاءم بأبيه لأنّه هو الذي أوقع الحرب بين عبس وفزارة بمراهنته حذيفة بن بدر. ولقد كان له ابن أسنّ من عروة فكان يؤثره على عروة فيما يعطيه، ويقوّيه دونه. فقيل له: أتؤثره على عروة فيما تعطيه مع غنائه عنك وهو الأكبر على الأصغر مع ضعفه؟! قال: أترون هذا الأصغر مع ضعفه! لئن بقي مع ما أرى من شدّة نفسه ليصيرن الأكبر عيالا عليه. ذكر سنة خمس وأربعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وأربعة أصابع (29). الخليفة المنصور عبد الله بن محمّد بن علي. ويزيد بن حاتم المهلّبي على مصر حربها وخراجها. والقاضي خزيمة بحاله؛ وكان محمودا لا يأخذ ليوم الجمعة رزقا، ولا يوم يتشاغل فيه عن أمور الناس. روي أنّه دخل على المنصور خالد بن كلثوم فقال له المنصور: يا خالد!

حدّثني عن هلال بن الأسعر، ومن هو، وما كان منه. فقال: نعم وكرامة يا أمير المؤمنين! هو هلال بن الأسعر بن خالد بن أرقم بن قسيم بن ناشرة بن سيّار بن رزام بن مازن بن مالك بن غمر بن تميم. شاعر فحل من شعراء الدولة الأموية مولّدا. كان رجلا شديدا عظيم الخلق أكولا معدودا من الأكلة. عمّر زمانا طويلا، ومات بعد بلايا عظام مرّت على رأسه. وكان يرد مع الإبل فيأكل ما وجد عند أهله ثم يرجع إلى الإبل ولا يتزوّد طعاما ولا شرابا حتّى يرجع يوم وردها لا يذوق فيما بين ذلك شيئا! وكان عاديّ الخلق لا توصف صفته. قال خالد بن كلثوم؛ فحدّثنا عنه من أدركه أنّه كان يوما في إبل له وذلك عند الظهيرة في يوم شديد وقع الشمس، محتدم الهاجرة. فعمد إلى عصاه فطرح عليها كساءه ثم أدخل رأسه تحته من حرّ الشمس. فبينا هو كذك إذ مرّ به رجلان أحدهما من بني نهشل والآخر من تميم-وكانا أشدّ تميميّين في ذلك الوقت بطشا يقال لأحدهما الهيّاج؛ وقد أقبلا من البحرين ومعهما أنواط من تمر هجر، وهلال بناحية الصعاب. فلمّا انتهيا إلى الإبل ولا يعرفان هلالا بوجهه ولا الإبل فناديا: يا راعي الإبل! أعندك شراب تسقينا؟ وهما يظنّان أنّه عبد لبعضهم! فناداهما هلال ورأسه تحت كسائه: عليكما بالناقة التي صفتها كذا في موضع كذا فانتحياها فإنّ عليها وطبين من لبن فاشربا منهما ما بدا لكما فقال أحدهما: ويحك يا غلام انهض فأتنا بذلك اللبن! فقال: إن يك لكما حاجة فستأتيانها. قال؛ فقال أحدهما: إنّك يا ابن اللخناء لغليظ الكلام قم فاسقنا! ثم

دنا منه وهو على تلك الحال فأهوى له ضربا بالسوط على عجزه وهو مضطجع فتناول هلال يده فاجتذبه ورماه تحته ثم ضغطه ونادى صاحبه: ويحك أغثني قد قتلني! فدنا منه صاحبه فتناول هلال أيضا الآخر فاجتذبه فرمى به تحت فخذه الآخر ثم أخذ برقابهما فجعل يصكّ رؤوسهما بعضا ببعض لا يستطيعان أن يمتنعا منه، قال أحدهما: كن هلالا ولا نبالي ما صنعت! فقال لهما: أنا والله هلال، ولا والله تفلتان من يدي حتّى تعطياني عهدا وميثاقا لا تخيسان به لتأتيانّ المربد إذا قدمتما البصرة لتناديانّ بأعلى أصواتكما بما كان مني ومنكما فعاهداه وأعطياه نوطا من التمر وقدما البصرة فناديا بذلك. قال خالد بن كلثوم عن خالد بن كنيف بن عبد الله المازني، قال، كنت يوما مع هلال ونحن نبغي إبلا لنا فدفعنا إلى قوم من بكر بن وائل وقد لغبنا وعطشنا وإذا نحن بفتية شباب عند ركيّة لهم وقد وردت إبلهم فلمّا رأوا هلالا استهولوا خلقه وقامته فقام رجلان منهم إليه فقال له أحدهما: يا عبد الله! هل لك في الصراع؟ فقال له هلال: أنا إلى غير ذلك أحوج! قال: وما هو؟ قال: إلى لبن وماء فإنّي لغب ظمآن. قالا: ما أنت بذائق من ذاك شيئا حتّى تعطينا عهد الله لتجيبنّنا إلى الصراع إذا رويت وأراحت! قال هلال: إني لكما ضيف والضيف (31) لا يصارع ربّ منزله، وأنتم مكتفون من ذلك بما أقول لكم: إعمدوا إلى أشدّ فحل في إبلكم وأهيبه صولة، وإلى أشدّ رجل منكم ذراعا فإن لم أقبض على هامة البعير وعلى يد صاحبكم فلا يمتنع الرجل ولا البعير حتّى أدخل يد الرجل في في البعير كرها منهما؛ فإن لم أفعل ذلك فقد صرعتموني، وإن فعلته علمتم أنّ صراع أحدكم أيسر من ذلك! قال؛ فعجبوا من مقالته تلك، وأومي إلى فحل في إبلهم هائج صائل قطم فأتاه هلال ومعه

أولئك النفر وشيخ لهم فأخذ بهامة الفحل مما فوق مشفره فضغطها ضغطة جرجر <منها> الفحل فاستخذى ورغا! وقال: ليعطني من أحبّ يده حتّى أولجها فم هذا الفحل! قال؛ يقول الشيخ: يا قوم! تنكبّوا عن هذا الشيطان فو الله ما سمعت هذا الفحل جرجر منذ بزل قبل اليوم فلا تعرضوا له. وجعلوا يتبعونه وينظرون إلى خطوه، ويعجبون منه. ولهلال أحاديث عجيبة في قوّته وشجاعته ذكرها صاحب الأغاني مما يطول شرحها فأضربت عنها. وله أشعار كثيرة جيّدة تدلّ على فحولة قائلها؛ فمن ذلك (من البسيط): دعاني قمير دعوة فأجبته … فأيّ امرئ في الحرب حين دعاني معي مخذم قد أخلص القين حدّه … يخفّض عند الروع روع جناني وما زلت مذ شدّت عيني حجزتي … أحارب أو في ظلّ حرب تراني وعن زفر بن هبيرة قال، تقاوم هلال بن الأسعر المازني وهو أحد بني رزام بن مازن، ونهيس الجلاّني من عنزة وهما يسقيان إبلهما فحذف هلال نهيسا بمحور في يده فأصابه فمات فاستعدى ولده بلال بن أبي بردة، وهو يوم ذاك أمير العراق، على هلال (32) فحبسه وأسلمه قومه، وعمل في أمره ديسم أحد بني كنانة بن حرقوس فافتكّه بثلاث ديات فقال هلال يمدحه من قصيدة (من الوافر): تدارك ديسم حسبا ومجدا … رزاما بعدما اشتقّت عصاها

ذكر سنة ست وأربعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

هم حملوا المئين فألحقوها … بأهليها فكان لهم سناها وما كانت لتحملها رزام … بأستاه معقّصة لحاها بكابية بن حرقوص وجدّ … كريم لا فتى إلاّ فتاها وعن المعتمر بن سليمان قال، قلت لهلال بن الأسعر: ما أكلة أكلتها بلغتني عنك؟ قال: جعت مرّة ومعي بعيري فنحرته وأكلته إلاّ ما حملت منه على ظهري، ثم أردت امرأتي فلم أقدر <على> جماعها فقالت: كيف تصل وبيننا بعير؟! ذكر سنة ستّ وأربعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراع واحد وستة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المنصور عبد الله بن محمد بن علي. ويزيد بن حاتم بحاله، والقاضي خزيمة كذلك. فيها خلع عيسى بن موسى عن العهد وبايع لابنه المهدي وجعل عيسى بعد المهدي، وأعطى في يوم واحد عشرة آلاف ألف درهم. قال محمد بن سلاّم إنه لم يعط خليفة قطّ قبل المنصور عشرة آلاف ألف درهم في يوم

ذكر سنة سبع وأربعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

واحد، ودارت بها الصكاك، وثبتت في الدواوين. وذلك أنه <أعطى> لكلّ من عمومته ألفي ألف درهم فبلغت ثمانية آلاف ألف، ثم أمر لعيسى بن موسى بألفي ألف درهم فصارت عشرة آلاف ألف درهم. (33) وهذا على شهرته بالبخل، وتلقيبه بأبي الدوانيق فإنه كان يحاسب الفعلة على الدانق والدانقين فلقّب بذلك. وأول من وهب ألف ألف درهم فما فوقها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه؛ وذلك أنه كان يجيز في كلّ عام الحسن والحسين وعبد الله بن عبّاس وعبد الله بن جعفر رضوان الله عليهم لكلّ واحد منهم بألف ألف درهم، فلمّا مات معاوية رحمه الله وقام يزيد عفى الله عنه قدم عليه عبد الله بن جعفر وقال: يا أمير المؤمنين! إنّ أمير المؤمنين معاوية رحمه الله كان يصل رحمي في كلّ سنة بألف ألف درهم! فقال يزيد: فلك ألف ألف كعادتك، وألف ألف لترحّمك عليه، وألف ألف صلة مني إليك! فقال عبد الله بن جعفر: بأبي وأمّي أنت! وبالله إني ما قلتها لابن أنثى قبلك! قال: فلك بها ألف ألف أخرى! فأعطى أربعة آلاف ألف درهم. ولم يهب بعد معاوية ويزيد آلاف الألوف إلاّ المنصور حسبما تقدّم. ثم وهب بعده البرامكة ألوف الألوف. ثم أعطى المأمون مثل ذلك. ثم الحسن بن سهل. ثم انقطعت أمثال هذه الصلات. ذكر هذا جميعه الثعالبي في كتابه لطائف المعارف. ذكر سنة سبع وأربعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراع واحد وستة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة المنصور عبد الله بن محمد بن علي. ويزيد بن حاتم على مصر، وكذلك القاضي خزيمة. وقيل في هذه السنة كان خلع عيسى بن موسى من ولاية العهد، وأخذ البيعة للمهدي. وفيها تناثرت الكواكب بما لم يعهد بمثله. (34) ذكر سنة ثمان وأربعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراع واحد وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة عشر أصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المنصور عبد الله بن محمد بن علي. ويزيد بن حاتم على حاله، وكذلك القاضي خزيمة. روي أنّ المنصور أنشد بحضرته هذان البيتان (من الكامل): إرفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه … يوما فتدركه العواقب قد نمى يجزيك أو يثني عليك وإنّ من … أثنى عليك بما فعلت فقد جزى فقال لمن بحضرته: أتدرون قائلهما؟ فقيل: هما لزيد بن عمرو بن نفيل! وقال آخرون إنهما لورقة بن نوفل. وقال آخرون بل هما لزهير بن جناب أو عامر

المجنون الذي يقال له مدرج الريح! فقال المنصور: جميع ما قلتموه ذكر، والصحيح أنهما للغريض اليهودي أبو السموأل بن غريض بن عادياء أو لابنه سعية بن الغريض من اليهود ولد الكاهن بن هارون بن عمران صلّى الله عليه. وكان موسى عليه السلام وجّه جيشا إلى العماليق؛ وكانوا قد طغوا وبلغت غاراتهم إلى الشام بعد وفاة موسى عليه السلام؛ فأخبروا بني إسرائيل بما فعلوه من إبقائهم على الغلام، فقالوا لهم: أنتم عصاة! والله لا تدخلون الشام علينا أبدا! وأخرجوهم عنها. فقال بعضهم لبعض: ما لنا بلد غير البلد الذي ظفرنا به وقتلنا أهله فعرّجوا إلى يثرب فأقاموا بها وذلك قبل (35) ورود الأوس والخزرج إيّاها عند وقوع السيل العرم باليمن؛ فمن هؤلاء اليهود قريظة والنضير وبنو قينقاع وغيرهم. ومما يدلّ على أنّ هذين البيتين قول اليهودي ما ورد عن عائشة رضي الله عنها، قالت، دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا أتمثّل بهذين البيتين: إرفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه فقال صلّى الله عليه وسلم: ردّي عليّ قول اليهودي قاتله الله! لقد أتاني جبريل برسالة من ربي: أيّما رجل صنع إلى أخيه صنيعة فلم يجد له جزاء إلاّ الثناء والدعاء فقد كافأه. وهذان البيتان من قصيدة أولها (من الكامل): رحلت قتيلة عيسها قبل الضحى … وأخال أن شحطت بجارتك النوى

ذكر سنة تسع وأربعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

ولقد طرقت البيت يخشى أهله … بعد الهدوّ وبعد ما سقط الندى فوجدت فيه طفلة قد زيّنت … بالحلي تحسبه بها جمر الغضا فنعمت بالا إذ أتيت فراشها … وسقطت منها حيث جئت على هوى فبتلك لذّات الشباب قضيتها … عني وسائل بعضهم ماذا قضى ذكر سنة تسع وأربعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وإصبعان ونصف، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية أصابع ونصف. ما لخّص من الحوادث الخليفة المنصور عبد الله بن محمد بن علي. ويزيد بن حاتم على مصر، وكذلك القاضي خزيمة. روي أنه أنشد بحضرة المنصور قول متمّم بن نويرة حين رثى أخاه مالكا؛ منها (من الطويل): وكنّا كندماني جذيمة حقبة … من الدهر حتّى قيل لن يتصدّعا (36) فلمّا تفرّقنا كأني ومالكا … لطول اجتماع لم نبت ليلة معا فقال المنصور: من يروي منكم معنى قوله: وكنّا كندماني جذيمة حقبة

والسبب فيه؟ قالوا: السماع من أمير المؤمنين أفضل، والنقل عنه أكمل! قال: نعم! حدّث أنّ أول من جلس من ملوك العرب على السرير، واستصبح بالشموع، وعمل المنجنيق، وترفّع عن منادمة البشر فكان ينادم الفرقدين يشرب كأسا ويصبّ لهما كأسين-إلى أن وجد مالكا وعقيلا فاتّخذهما نديمين هو جذيمة الأبرش الغسّاني. وكان موجب ذلك لمّا أتياه بابن أخته عمرو؛ وكان قد استهوته الجنّ قبل ذلك؛ والسبب في ذلك أنّ عمرا كان من أصبح الناس وجها وأسمحهم كفّا، وكان مولعا بحبّ الصيد؛ فبينا هو ذات يوم في صيده إذ نظر إلى ظبية لم ير أحسن منها ولا ألطف من شكلها ولا أزين من زيّها وقرناها ذهب يلمع فتعجّب من زيّها وشدّ عليها وهي تطمعه في نفسها إلى أن غاب عن جيشه وجموعه فلم يشعر بنفسه إلاّ وهو بإزاء جبل عظيم لا يعهده في بلاده وبه فجوة فمرّرت الظبية نفسها في تلك الفجوة فتبعها عمرو بحصانه حتّى خرق الجبل والتفت ليجد الجبل عليه سدّا، ووجد تلك الظبية قد عادت كأحسن ما تكون العذارى، وقالت له: يا عمرو! أتدري من أنا؟ فقال: لا والله! قالت: أنا الشمشاطة بنت دلهام السحابي الذي عصى على سليمان بن داود وحاربه افتردنا بهذه الأرض وإنّ لي مدّة في هواك وقد احتلت عليك حتّى صرت في بلادي وقد صار بينك وبين بلادك مسيرة سبع سنين للسائر المجدّ، فإنني وكّلت بحصانك عفريتين من الطيّارة حتّى قطعا بك هذه المسافة في هذه الساعة. (37) ثم إنه أقام عندها سبع سنين وهي تحضر بين يديه ما تعجز عن بعضه ملوك الإنس وهو لا يزداد إلاّ غمّا، فقالت له يوما: يا عمرو! إلى كم هذا الإكباب والغمّ الذي أراك فيه؟ لعلّ في نفسك حاجة فتقضى! فقال: نعم! كنت أودّ أن أركب حصاني وتعودي ظبية كهيئتك هاتيك وأطردك إلى طرف بلادي لأشتمّ رائحة أرضي ومرباي ثم أعود! ففعلت ذلك. وكان مالك وعقيل أخوين

ذكر سنة خمسين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

صيّادين فقد نصبا حبائلهما فلم تشعر تلك الظبية إلاّ وقد وقعت في حبائلهما! فهبطا إليها وأرادا ذبحها فصاحت: واعمراه! فبهتا لزيّها وصياحها، وإذا بعمرو وقد ظهر يرمح بجواده فلمّا وصل قال لها: يا شمشاطة! أتطلقينني إلى بلادي وأهلي أو أمرتهما بذبحك؟ فقالت: لا تفعل يا عمرو فإنني حاملة منك، وأنا أطلقك إلى أهلك! فأخذ عليها العهود والمواثيق وأطلقها. ثم عرّف الصيّادين أنه ابن أخت الملك جذيمة فأتياه به فمنّاهما فتمنّيا منادمته وهما اللذان عناهما متمّم بن نويرة في هذين البيتين. ثم إنّ الشمشاطة حملت سبع سنين ووضعت غلاما إنسيا طوله سبعة أذرع فحين صار على وجه الأرض نهض وكرد على قدميه فسمّي كردا كونه كرد من ساعته التي ولد فيها، ووضعوه في طرف بلاد الإنس بجبل جكار. وقيل إنّما سمّي جبل جكار كونه أول مكان جكر على وجه الأرض. فكرد هذا ابن الشمشاطة بنت دلهم السحابي العفريت الطيّار؛ فهو جدّ الأكراد بأسرهم، ومنه تشعّبوا وتفرّقوا. وكذلك إنّ أبا مسلم الخراساني كان له حظّ منهم وهم أصوله قال؛ فقالوا: والله يا أمير المؤمنين لم نسمع بحكاية هي اطرف من هذه. والله أعلم. (38) ذكر سنة خمسين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع فقط، مبلغ الزيادة خمسة ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المنصور عبد الله بن محمّد بن علي. ويزيد بن حاتم بحاله، وكذلك القاضي خزيمة.

روي أنه أجري بحضرة المنصور ذكر الحلم والإغضاء على المكروه؛ فقالوا: قد كان معاوية بن أبي سفيان له حظّ من ذلك، فقال المنصور: أتدرون ممن أخذ معاوية ما ذكرتم؟ قالوا: لا والله يا أمير المؤمنين! قال: إنّ أبا عمرو ابن أحيحة بن الجلاح الأوسي نكح سلمى بنت عمرو بن زيد العدويّة، وكانت قبله عند هاشم بن عبد مناف فولدت لهاشم عبد المطّلب بن هاشم، وولدت لأحيحة عمرو بن أحيحة فنشأ عمرو أريبا مهيبا حليما جوادا فكان أترابه من قومه-وهم الذين ولدوا معه في وقت واحد-يحسدونه لعجزهم عن شأوه فيغضّون منه ويقصّرون به ويؤذونه ويسمعونه المكروه فلا يزيده ذلك إلاّ إغضاء وعلى غلوائه إلاّ مضيّا. فقال له قائل منهم: علام تقرّ ما تسمع منه الأذى وأبوك أعزّ من بين لا بتي يثرب؟! فقال له: لو أني أهشّ لكلّ شرارة إذ تبلغني لحسرت على ذلك ولم أبلغ منه ما أريد، ولشغلني ذلك عن أكثر أمري، ونال من يبلغني ذلك عنه ما طلب، والصبر على ما أكره أخفّ عليّ من التسميع به. وإذا تكلّم المتكلّم في الأمر ثم نزع عنه قبل أن يبلغ أقصى بالذي تكلّم به عجزه ذو البصيرة والفضل. ومن عارض الناس في كلّ ما يكون منهم اشتدّ ذلك من فعله عليهم، ونقّبوا عليه، وانكشف لهم من أمره ما لا يحبّ كشفه. ومن (39) خاصم من الناس من ليس له خطر صغر قدره، وهان على من كان يكرمه، واجترأ عليه من كان يهابه، وصغر <على> من كان يجلّه. وإذا استشرى الشرّ

شرى. وصون المرء نفسه بالعلم خير من ابتذالها بالجهل. والفراغ من أذاة أمر لا يعنيك ولا ينفعك خير من الوقوف عليه. ولا خير فيما شغلك عن إكرام عرض أو صون حسب. ومن ماظّ الناس ماظّوه. ومن قال لهم ما فيهم قالوا له ما ليس فيه، واستمع بأذنه ما كان الناس يقولونه في أنفسهم. فلا تجعل للناس عليك مقالا فيما بينهم، واحرس نفسك من غيرك، ووقّرها بالحلم يوقّرك من سواك، فإنّ الحلم رأس الحكمة، ومن كان حليما كان حكيما؛ وقد قال الهذلي (من الوافر): أذاة لو أشاء لقلت فيها … وإنّي بمثلها طبّ عروف تركت لها الفضاء فأمكنتها … سهول الأرض والحزن الجروف ولم تنطق رواة السوء فيها … وحنت على مكارههم أزيف ولو عارضتها اشتعلت وشاعت … ولا ستعلت كما استعلى الغريف هذا كلام يتألّق منه شعاع الشرف، ويترقرق عليه صفاء العقل، وينبت فيه فرند الحكمة. ومن تدبّر فيه صفت له العيشة ناعمة، وانقادت له السعادة راغمة. وفي مطاويه كلمات من الغريب لعلّها تعجم على غير الأديب الأريب ها نحن نشرحها. قوله: لحسرت دون ذلك، أي لا نقطعت؛ والحسر القطع. وقوله: إذا استشرى شرى يقال شرى الغضب والشرّ والبرق، أي لجّ وتتابع، واستشرى استفعل. وقوله: من ماظّ الناس ماظّوه؛ المماظّة المشارّة، واستماع المكروه في الخصام وهي المماظّة والمشارّة-هذا الفصيح. وقوله: نقّبوا عنه، أي بحثوا وفتّشوا واستخرجوا. (40) وقول الشاعر أذاة: الأذاة والأذى سواء، وكأنّ الأذاة أنثى للأذى أو واحدته. وقوله: طبّ؛ الطبّ بالشيء الحاذق البصير به النافذ فيه المتأنّي له. وقوله: تركت له الفضاء، هذا مثل ضربه للتغافل

ذكر سنة إحدى وخمسين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

عمّا كره. وقوله: الحزن هو جمع حزن. وقوله: الجروف، جمع جرف الشيء. وقوله: الغريف، هو الشجر المعروف. ذكر سنة إحدى وخمسين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع فقط، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المنصور عبد الله بن محمد بن علي. ويزيد بن حاتم على مصر، والقاضي خزيمة بحاله. روي أنه جرى في مجلس المنصور ذكر دغفل بن حنظلة السدوسي النسّابة وعلمه وفضله ونبله ومعرفته بأنساب العرب ومثالبها، فقال المنصور، حدّثني جدّي عليّ رحمه الله عن أبيه عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهم قال، قال أمير المؤمنين عليّ رضوان الله عليه: لمّا أمر الله سبحانه نبيّه صلّى الله عليه وسلم بالدعوة، وأن يعرض نفسه على القبائل خرج وأنا وأبو بكر الصدّيق رضي الله عنه معه حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب فتقدّم أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه-وكان رجلا لا يشابه-فقال: من القوم؟ قالوا: القوم من ربيعة! قال: وأيّ ربيعة أنتم؟ أمن هامتها أم من لهازمها؟ قالوا: بل من هامتها العظمى! قال: وأيّ هامتها العظمى أنتم؟ قالوا: ذهل الأكبر! قال أبو بكر: منكم عوف الذي

يقال له «لا حرّ بوادي عوف»؟ قالوا: لا! قال: أفمنكم جسّاس بن مرّة حامي الديار ومانع الجار؟ قالوا: لا! قال: أفمنكم البسطام بن قيس أبو اللواء ومنتهى (41) الأحياء؟ قالوا: لا! قال: أفمنكم الحوفزان قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا! قال: أفمنكم المزدلف صاحب العمامة المفردة؟ قالوا: لا! قال: أفمنكم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا! قال: أفمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا! قال: فلستم ذهل الأكبر، أنتم ذهل الأصغر! قال؛ فقام إليه غلام من بني شيبان حين بقل وجهه فقال (من الرجز): إنّ على سائلنا أن نسأله … والعجب أن لا تعرفه أو تجهله قد سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئا، فمن الرجل؟ فقال أبو بكر رضي الله <عنه>:من قريش! قال الغلام: بخ بخ! أهل الشرف والرياسة والسؤدد والسياسة؛ فمن أي قريش أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرّة. فقال الغلام: أمكنت والله الرامي من سواء الثغرة! أفمنكم قصيّ الذي كان يدعى مجمّعا حيث جمع القبائل من فهر؟ قال: لا! قال: أفمنكم عمرو العلى الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكّة مسنتون عجاف؟ قال: لا! قال: أفمنكم شيبة الحمد عبد المطّلب مطعم وحش البيداء وطير السماء؟ قال: لا! قال؛ فتركه أبو بكر في شقشقته وهديره واجتذب زمام راحلته ورجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال الغلام (من الرجز):

ذكر سنة اثنتين وخمسين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

وافق درّ السيل درّ يدفعه … يهيضه حينا وحينا يصرعه قال؛ فتبسّم النبيّ صلّى الله عليه وسلم وقال: يا أبا بكر! لقد وقعت من الغلام على باقعة! فقال: أجل يا رسول الله! ما من طامّة إلاّ وفوقها طامّة، والبلاء موكّل بالمنطق. وكان الغلام دغفل بن حنظلة السدوسي، أعرابيّ أسلم وعاش إلى خلافة معاوية رحمه الله، فوفد عليه، وعجب (42) من علمه واستكبره، وقال له: بم أدركت هذا العلم؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول! غير أنّ للعلم آفة وإضاعة واستجاعة. فآفته النسيان، وإضاعته أن تحدّث به من ليس من أهله، واستجاعته أنّ صاحبه منهوم لا يشبع، ونكده للكذب فيه. وقول الصّدّيق: أمنكم صاحب العمامة المفردة-ذاك المزدلف كان إذا اعتمّ لم يعتمّ أحد من قومه إجلالا له. ذكر سنة اثنتين وخمسين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراع واحد وأحد وعشرين إصبعا، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وإصبع ونصف. ما لخّص من الحوادث الخليفة المنصور عبد الله بن محمد بن علي. وعزل يزيد بن حاتم عن

مصر، وولّى مكانه عبد الله بن عبد الرحمن، وولّى الخراج محمد بن سعيد، وخزيمة قاضيا. قلت: قد ذكرت في جميع هذا التاريخ عدّة من نجباء الأبناء من السادة المتقدّمين: وأحبّ أن أذكر هاهنا نتفا من أخبار السادة الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين. روي أنّ أبا عبد الله بن الجلاّء قال، اشتهت أمّي على أبي سمكا فمضى إلى السوق وأنا معه فاشترى سمكا ووقف ينظر إلى من يحمله فإذا صبيّ قد أتاه فقال: يا عمّ! تريد من يحمله؟ قال: نعم! فحمله ومشى معنا فسمعنا الأذان، فقال الصبيّ لأبي: قد أذّن المؤذّن وأحتاج الوضوء فاحفظ سمكك إن أحببت حتّى أعود فأحمله إنّ شاء الله! ووضع الصبيّ السمك ومرّ فقال أبي: نحن أولى بذلك منه فلنتوكّل على الله في السمك! وتركناه ودخلنا المسجد فصلّينا وخرجنا والصبيّ معنا (43) فأتينا السمك فإذا هو موضوع بحاله فحمله الصبيّ إلى دارنا فحدّث أبي أمّي بحديث الصبيّ فقالت: لعلّه الليلة يقيم عندما ليأكل من هذا السمك! فقلنا له ذلك فقال: إني صائم! فقلنا: تعود عند الإفطار! فقال: إني إذا حملت مرة في اليوم لم أعد أحمل في ذلك اليوم، ولكني أدخل هذا المسجد إلى المساء! قال؛ فدخله ودعوناه عند الإفطار فأكل وقلنا: بت عندنا! قال: نعم! فدللناه على الخلاء، ورأيناه يحبّ أن يؤثر الخلوة فأدخلناه بيتا

ذكر سنة ثلاث وخمسين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

خاليا؛ وكانت لقريب منا بنت زمنة فلمّا كان في بعض الليل جاءتنا تمشي فقلنا لها: ما أمرك؟ فقالت: إني سألت الله بحرمة ضيفكم هذا الصبيّ أن يعافيني ففعل! قال؛ فأتينا البيت فوجدناه مغلقا ولم نجد الصبيّ فيه! قال؛ فكان أبي يقول بعد ذلك: فمنهم كبير ومنهم صغير-يعني من الأولياء المصطفين. ذكر سنة ثلاث وخمسين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراع واحد وستة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وإصبعان. ما لخّص من الحوادث الخليفة المنصور عبد الله بن محمد بن علي. وعبد الله بن عبد الرحمن على حرب مصر، ومحمد بن سعيد على الخراج، والقاضي خزيمة بحاله. ومن مناقب الأولياء أنّ أبا الحسين أحمد بن محمد المدعوّ النوري لمّا قرأ القرآن ألزمه أبوه أن يكون معه في حانوته فكان إذا أصبح أخذ لوحا له ودواة وذهب يسأل عمّا جهل من كتاب الله عزّ وجلّ، وكان يكتب ما قيل له ثم يأتي أباه فيزجره عن الغيبة ويتهدّده ثم إذا بعثه من الحانوت في حاجة (44) أخذ لوحه ودواته معه فيسأل من مرّ به من أهل العلم، وربما ضربه أبوه لغيبته؛ فقال له

يوما: يا ليت شعري يا بني ما تريد بعلمك؟ قال: أريد أن أعرف الله وأتعرّف إليه! قال: وكيف تعرفه؟ قال: أعرفه بفهم كلامه، وفقه أمره ونهيه! قال: وكيف تتعرف إليه؟ قال: أتعرّف إليه بالعمل بما علّمني! فقال له أبوه: لا أعرض لك بعد في أمرك هذا ما بقيت. ثم إنّ أباه سلّم له حاله حتّى صار منه ما شهر. ومن عجيب أخباره أنّ ساعيا سعى به وبجماعة من الصوفية عند بعض الخلفاء وزعم أنهم زنادقة فقبض عليهم وأحضروا دار الخلافة، وأمر الخليفة بضرب أعناقهم، وبسط النطع وحضر السيّاف، فتقدّم النوريّ إيه، فقال السيّاف للنوري: أتدري إلى ماذا تتقدّم؟ قال: نعم! أتقدّم للموت! فقال له السيّاف: ولم تتعجّل الموت؟ فقال له النوري: لأوثر أصحابي على نفسي بحياة ساعة! فنخر السيّاف كما تنخر السفلة وأغمد سيفه، وقال: أنا أقتل سيّد الفتيان؟ لا كان هذا أبدا! ونمي الخبر إلى الخليفة فعجب وأحضر القاضي، وردّ أمر النوري وأصحابه إلى القاضي ليختبر حالهم فألقى عليهم مسائل في الفقه فأجابه النوري بأحسن جواب، وأتبع كلامه بأن قال: إنّ لله عبادا إذا قاموا قاموا لله، وإذا نطقوا بالله، يعلمون بالعلم، ويعبرون عن الحقائق، قد أرضوا أنفسهم بالله عن التفويض إلى الله، وأخرجوا منها السخط لمكروه القضاء ما لم يثلم لهم دينا أتوه بهم يقينا. قال؛ فبكى القاضي، وقال: يا أمير المؤمنين! إن كان هؤلاء زنادقة فما على الأرض مسلم! فأطلقوا وعرض عليهم مال فأبوا قبوله.

ذكر سنة أربع وخمسين ومائة (45) النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة أربع وخمسين ومائة (45) النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراع واحد وستة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المنصور عبد الله بن محمد بن علي. وعبد الله بن عبد الرحمن على حرب مصر، ومحمد بن سعيد على الخراج. وفيها توفّي القاضي أبو خزيمة رحمه الله، وولّى الخليفة من قبله عبد الله بن لهيعة؛ وهو أول قاض ولاّه الخليفة من قبله؛ فإنّ الولاة كانوا يولّون القضاة، وأجرى عليه في كلّ شهر ثلاثين دينارا. ومن مناقب الأولياء أنّ سهل بن عبد الله التستري رضي الله عنه لمّا بلغ عمره ثلاث سنين كان يسهر الليل ينظر إلى صلاة خاله محمد بن سوّار رضي الله عنه، فربما قال له خاله: قم يا بني وارقد قد شغلت قلبي! ولمّا رأى ذلك خاله قال له: يا سهل! ألا تذكر الله الذي خلقك؟ قال: كيف أذكره؟ قال: قل في

نفسك من غير أن تحرّك به لسانك إذا جنّك الليل: الله معي، الله شاهدي، الله ناظر إليّ-ثلاث مرّات. ففعل ذلك ليالي ثم قال له خاله: يا سهل! قل ذلك الكلام في نفسك في كل ليلة سبع مرّات. فلبث على ذلك مدّة ثم قال له خاله: قل ذلك الكلام في كلّ ليلة إحدى عشرة مرّة. فلبث كذلك زمانا. قال سهل: فوقع لذلك بقلبي حلاوة فأخبرت خالي، فقال لي: يا سهل! من كان الله معه وشاهده وناظر إليه، كيف يعصيه؟ وروي أنّ سهلا حفظ القرآن تلاوة وهو ابن ستّ سنين، وكان يقوم نصف الليل وهو ابن سبع سنين، وكان يفتي في مسائل الورع والزهد ومقامات الإرادة والفقه والعبادة وهو ابن اثنتي عشرة سنة. فلمّا بلغ ثلاث عشرة سنة عرضت له مسألة فلم يجد بتستر (46) من يحسن الجواب عنها فقال لأهله: جهّزوني إلى البصرة ففعلوا، فلم يجد في البصرة ما أراد. وذكر له حمزة بن عبد الله بعبّادان فقصد عبّادان، ولقي حمزة فوجد عنده ما أراد وصحبه. ومن عجيب أجوبته أنّ رجلا من ذوي اليسار كان مجاورا لخال سهل فحجّ ثم قفل إلى أهله فذهب خال سهل ليهنّئه بمقدمة وبلوغه أمله؛ وانطلق سهل مع خاله؛ فلمّا جلسا إلى الحاجّ أقبل يحدّث خال سهل عمّن بقي من القضاة بمكّة وعن حاله في حجّه إلى أن قال: وشغلني عن طواف الوداع كذا وكذا. ثم التفت إلى سهل كالمازح وسهل إذ ذاك لم يبلغ اثنتي عشرة سنة إلاّ أنّه كان مقصودا بالمسائل معروفا بحسن الإجابة-فقال له: ما تقول أنت يا أستاذ فيمن ترك طواف الوداع؟ فأنشد سهل قول الشاعر (من الطويل): ولمّا تذكّرت المنازل بالحمى … ولم تقض لي تسليمة المتزوّد زفرت إليها زفرة لوحشوتها … سرابيل أدراع الحديد المسرّد

ذكر سنة خمس وخمسين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

لذابت حواشيها وظلّت بحرّها … تلين كما لانت لداود في اليد قال؛ فوثب ذلك الرجل وثبة ملسوع فنزع ثيابه ولبس ثوبي إحرامه وقال: لبّيك اللهم لبّيك بحجّة! وتجهّز عائدا إلى مكّة المكرّمة. وروي أنّه لم يزل يتنقّل في الرياضة الغذائية إلى أن كان يفطر في كلّ ليلة على أوقيّة من الخبز الشعير بلا أدم فكان يكفيه لقوته درهم واحد في كلّ سنة وهو مع هذا يقوم الليل كلّه. ثم ترقّى هذا إلى ما هو فوقه، أضربت عنه صيانة لسماعه عن الدفع له، والله أعلم. ذكر سنة خمس وخمسين ومائة النيل المبارك في هذه السنة (47) الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المنصور عبد الله بن محمد بن علي. وتوفّي عبد الله بن عبد الرحمن بمصر فولّى مكانه أخاه محمد بن عبد الرحمن، ومحمد بن سعيد على الخراج، والقاضي ابن لهيعة على القضاء بحاله. ومن مناقب الأولياء رضي الله عنهم أنّ السريّ بن المغلّس رضي الله عنه

ذكر سنة ست وخمسين ومائة (48) النيل المبارك في هذه السنة

قرأ على مؤدّبه: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً} فقال له: يا أستاذ! ما الورد؟ فقال المؤدّب: لا أدري! ثم قرأ: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً} فقال: يا أستاذ! ما العهد؟ فقال المؤدب: لا أدري! فقطع، السريّ القراءة وقال للمؤدّب: إذا كنت لا تدري فلم عزّرت الناس؟! فضربه! فقال له السريّ: ألم يكفك الجهل والغرور حتّى أضفت لهما الظلم والأذى؟ فاستحلّه المؤدّب، وتاب إلى الله من التأديب، وأقبل على طلب العلم فكان يقول بعدها: إنما أعتقني من رقّ الجهل السري! وروي أنه لمّا بلغ في الحفظ إلى قول الله سبحانه: {تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ} عاد لا يضع جنبه بالأرض لنوم. وكانت أمّه تنصب وسائد عن يمينه وشماله ومن وراء ظهره فلمّا اشتدّ أزال الوسائد ولم ير مضطجعا على الأرض لنوم حتّى لقي الله تعالى؛ وبلغ من العمر ثمان وتسعين سنة. وكان يقول: لي ثلاثون سنة أستغفر الله من قولي الحمد لله مرة! فقيل له: كيف؟ قال: وقع في السوق حريق فخرجت مبادرا إليه فاستقبلني رجل فقال لي: قد سلم حانوتك! فقلت: الحمد لله! فأنا أستغفر الله منذ ثلاثين سنة من هذا القول. ذكر سنة ستّ وخمسين ومائة (48) النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وخمسة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة المنصور عبد الله بن محمد بن عليّ. ومحمد بن عبد الرحمن على حرب مصر، ومحمد بن سعيد على خراجها، والقاضي ابن لهيعة بحاله. حكى الأستاذ الإمام أبو القاسم الجنيد بن محمد رضي الله عنه-وهو ابن أخت السري رضي الله عنه وتلميذه-قال؛ دخلت يوما على السريّ خالي فإذا هو يبكي فقلت له: ما أبكاك؟ فقال: جاءتني البارحة الصبيّة-يعني ابنته- فقالت: يا أبه! هذه ليلة حائرة وقد علّقت لي هذا الكوز حتّى برد، وأنت أحقّ به! قال؛ فغلبتني عيني فرأيت فيما يرى النائم كأنّ جارية حسناء نزلت من السماء فقلت: لمن أنت؟ فقالت: لمن لا يشرب الماء المبرّد في الكيزان المعلّقة! قال الجنيد: فنظرت وإذا الكوز مكسور ما رفعت شقاقه من الدار حتّى غطّاها التراب. ذكر سنة سبع وخمسين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وثمانية عشر إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة المنصور عبد الله بن محمد بن علي. ومحمد بن عبد الرحمن على حرب مصر إلى أن توفّي في هذه السنة فولّى مكانه موسى بن عليّ بن رباح اللخمي، ومحمد بن سعيد على الخراج، والقاضي ابن لهيعة بحاله. روي أنّ الإمام الحارث بن أسد المحاسبي رضي الله عنه مرّ وهو صبيّ بصبيان يلعبون على باب رجل (49) تمّار فخرج صاحب الدار وبيده تميرات فقال للحارث: كل هذه التميرات يا صبي! فقال له الحارث: ما خبروك فيهنّ؟ قال التّمار: بعت الساعة تمرا من رجل فسقطن من تمره. فقال له الحارث: أتعرفه؟ قال: نعم. فأقبل الحارث على الصبيان الذين يلعبون على باب دار التمّار فقال لهم: هذا الشيخ مسلم؟ قالوا: نعم! فذهب واتّبعه الشيخ فأمسكه وقال: والله لا أدعك حتّى تقول لي ما وقع في نفسك مني! فقال: يا شيخ! تطعم أولاد المسلمين السّحت وأنت مسلم؟! أطلب صاحب التمر كما تطلب الماء إذا عطشت حتى تبرأ من التباعة! فقال الشيخ: والله لا تخرب ألفها أبدا. ذكر سنة ثمان وخمسين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان فقط، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وإصبعان ونصف محرّرا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة المنصور عبد الله بن محمد بن علي إلى أن توفّي في هذه السنة في تاريخ ما يأتي إن شاء الله تعالى. وموسى بن عليّ على حرب مصر، ومحمد بن سعيد بحاله على الخراج، وكذلك القاضي ابن لهيعة. توفّي المنصور رحمه الله محرما في سادس ذي الحجّة من هذه السنة وله ثمان وخمسون سنة. وقيل: ثلاث وستون سنة وهو الصحيح المتفق عليه؛ منها خليفة إثنان وعشرون سنة. صفته رحمه الله كان طويلا أسمر حسن الوجه، خفيف العارضين، شجاعا مقداما، طويل الروح، سديد الرأي. قاضيه: محمد بن صفوان. كاتبه: العبّاس بن مسلم. حاجبه: قطن والربيع بن زياد. نقش خاتمه: الله ثقّة عبد الله. (50) ذكر خلافة المهدي محمد بن عبد الله المنصور ونكث من أخباره وسيرته هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عبّاس

رضي الله عنه. وباقي نسبه قد علم. يلقّب الجموح، وذا النكتة، والأعور الصالح. أمّه أمّ موسى بنت منصور بن عبد الله بن سهم بن يزيد الحميري. بويع له بمكّة في المسجد الحرام عند وفاة أبيه المنصور رحمه الله سابع ذي الحجّة سنة ثمان وخمسين ومائة. ومولده سنة ست وعشرين ومائة في جمادى الآخرة، وقيل في رجب، بالحميمة. وكانت خلافته-على أصحّ الأقوال-عشر سنين وشهرا ويوما واحدا. وقيل: بويع له ببغداد يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي الحجّة من السنة المذكورة. وكان جوادا حازما وصولا يباشر الأمور بنفسه، وكان كثير الولاية والعزل بغير سبب. تزوّج ريطة بنت عمّه السفّاح وأولدها عليا وعبيد الله. والخيزران ولدت له موسى الهادي وهارون الرشيد. وتزوّج سنة تسع وخمسين ومائة أمّ عبد الله بنت صالح بن علي أخت الفضل وعبد الله. وأعتق الخيزران في السنة وتزوّجها. ووزر له أبو عبيد الله معاوية بن عبد الله الأشعري ثم يعقوب بن داود السلمي ثم الفيض بن أبي صالح.

روي أنه رأى في منامه كأنّ في يده غصنين أحدهما أقصر من الآخر وأدقّ فأورق الكبير من أعلاه ثم ذبل، وأورق الصغير من أوله إلى آخره واستمرّ فقصّ ذلك على يحيى بن خالد بن برمك، وكان يحيى أعقل أهل زمانه وأسودهم وأوقرهم؛ فقال: سيلي ولداك الخلافة، ويكون لهما من بعدك الأمر، وقطع الكلام! ثم إنّ يحيى احتفل بأمر هارون الرشيد دون موسى الهادي، وعاد لا يفارفه ليلا ولا نهارا حتّى مات المهدي، وولي الهادي. وكان (51) المهدي قد عقد الأمر لموسى الهادي ثم لهارون الرشيد. فلمّا مات المهدي، واستقرّ أمر الهادي أراد أن يخلع الرشيد، ويعهد لبعض ولده واتّفق مع جماعة من القوّاد وكبار الدولة واستشارهم في ذلك فقالوا: لا يقوم بهذا الأمر غير يحيى بن خالد لرجوع الرشيد إليه وهو قادر على أن يدع الرشيد ينزل عن هذا الأمر من غير عسف ولا عنف. فاستدعى الهادي يحيى بن خالد وقرّبه وأدنى مجلسه ولاطفه وأطلعه على المقصود منه، وكان ولد الهادي دون الحلم، فقال يحيى: يا أمير المؤمنين! الأمر أمرك، وما يكون إلاّ ما تحبّ! فابتهج سرورا. ثم قال: عن إذن أمير المؤمنين أعرض كلاما فإن وافق وإلاّ أمير المؤمنين المخيّر فيه! فقال: قل! فما أراك إلاّ ناصحا شفوقا! فقال: يرى أمير المؤمنين-أبقاه الله-أنّ الناس يدخلون تحت طاعة ولدك وهو دون الحلم في سنّ الطفولية. فإذا نزل الرشيد عن هذا الأمر وعقدته لولدك وهو في هذا السنّ وحصل-والعياذ بالله تعالى- لأمير المؤمنين مفارقة الدنيا إذا الموت سبيل كلّ حيّ، والرشيد مخلوع من ولاية العهد، أفيأمن أمير المؤمنين أنّ الأمر ينتقل عن أهل هذا البيت الطاهر، ويثب

ذكر سنة تسع وخمسين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

الغير لذلك. لكن يمهل أمير المؤمنين-أعزّه الله-إلى حيث يبلغ الطفل ويأخذ حدّه ويستحقّ الأمر وأنا الضامن لأمير المؤمنين نزول أخيك عن الأمر بسؤاله رضى من غير إكراه ولا إجبار! فقال الهادي: لله درّك! فما أفحل رأيك! فلم تمض على الهادي بعد ذلك إلاّ شهيرات حتّى قضى نحبه حسبما يأتي في تاريخه، واستقرّ الأمر للرشيد. وكانت هذه الواقعة أساس تحكيم البرامكة على الرشيد وغلبتهم في وقتهم عليه (52) حتّى كان لا ينادي ليحيى بن خالد إلاّ: يا أبه!.وقيل ليحيى بن خالد؛ فلو عاش الهادي إلى حين بلوغ ولده أكنت تفي بما وعدت من أمر الرشيد ونزوله؟ فقال: كنت واثقا أنّ مدّة الهادي يسيرة لرؤيا المهدي. ذكر سنة تسع وخمسين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وإصبع واحد. ما لخّص من الحوادث الخليفة المهدي محمد بن عبد الله المنصور، وموسى بن عليّ على حرب مصر. وكان قد عزل محمد بن سعيد عن الخراج، وولّى مطرا ثم عزل مطرا وولّى مكانه أبا حمزة محمد بن سليمان، والقاضي ابن لهيعة بحاله. والمهديّ هو قاتل بشّار بن برد الشاعر المشهور. ولنورد هاهنا نتفا من أخباره، ولمعا من أشعاره.

ذكر بشار بن برد وطرف من خبره ونسبه

ذكر بشّار بن برد وطرف من خبره ونسبه هو-فيما ذكر صاحب كتاب الأغاني عن الحسن بن علي عن محمد بن القاسم بن مهرويه عن غيلان الشعوبيّ-:بشّار بن برد بن يرجوخ بن أزدكرد بن شروستان بن بهمن بن دارا بن فيروز بن كرديه بن ماهفيدان بن دادان بن بهمن بن أزدكرد بن حسيس بن مهران بن خسروان بن أخشين بن شهراداد بن نبوذ بن ماخرشيدا نماذ بن شهريار بن بنداد سيحان بن مكرر بن ادريوش بن يستاسب بن لهراسف. قال: وكان يرجوخ جدّ بشّار من طخارستان من سبي المهلّب بن أبي صفرة. ويكنى بشّار أبا معاذ. ومحلّه في الشعر وتقدّمه طبقات المحدّثين بإجماع الرواة ورياسته عليهم من غير اختلاف في ذلك يغني عن وصفه. وهو من شعراء الدولتين الأمويّة والعبّاسية. وقد شهر فيهما، ومدح (53) وهجا وأخذ سنيّ الجوائز. وعن جرير بن حازم عن أبيه قال: كان بشار بن برد بن يرجوخ وأبوه برد من قنّ خيرة القشيريّة امرأة المهلّب بن أبي صفرة؛ وكان مقيما لها في ضيعتها بالبصرة المعروفة بخيرتان مع عبيد لها وإماء، فوهبت بردا بعد أن زوّجته لامرأة من بني عقيل متّصلة بها، فولدت امرأة برد وهو في ملك العقيلية بشّارا. ثم إنّ العقيليّة أعتقته من رقّ العبوديّة. وعن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال: كان برد أبو بشّار مولى أمّ الظباء

السّدوسيّة فادّعى بشّار أنّ ولاءه لبني عقيل لنزوله فيهم. وفي نسبه أقوال كثيرة أضربت عنها. وعن يحيى بن الجون العبديّ-راوية بشّار-قال؛ لمّا دخلت على المهدي قال لي: فيمن تعتدّ يا بشّار؟ فقلت: أمّا اللسان والرأي فعربي، وأمّا الأصل فعجميّ، كما قلت في شعري يا أمير المؤمنين (من المتقارب): ونبّئت قوما بهم جنّة … يقولون من ذا وكنت العلم ألا أيها السائلي جاهلا … ليعرفني أنا أنف الكرم نمت في الكرام بني عامر … فروعي وأصلي قريش العجم وإني لأغني مقام الفتى … وأصبي الفتاة فما تعتصم قال؛ وكان أبو دلامة حاضرا فقال: كلاّ لوجهك أقبح من ذلك، ووجهي مع وجهك! فقلت: كلاّ والله ما رأيت رجلا أصدق على نفسه، وأكذب على جليسه منك! والله إني لطويل القامة، عظيم الهامة، تامّ الألواح، أسجح الخدّين! ولربّ مسترخي المذزوين للعين فيه مراد قد جلس من الفتاة حجرة وجلست منها حيث أريد-فأنت مثلي يا مرضعان؟ قال؛ فأمسك عنّي! ثم قال لي المهدي: فمن أيّ العجم أصلك؟ فقلت: (54) من أكبرها في الفرسان، وأشدّها على الأقران، أهل طخارستان! فقال بعض القوم: أولئك الصغد! فقلت: الصّغد تجّار. فلم يردد عليّ المهدي. وكان بشّار كثير التلوّن في ولائه، شديد التعصّب للعجم، مرّة يفتخر بولائه في قيس فيقول (من الوافر):

أمنت مضرّة الفحشاء إني … أرى قيسا تسبّ ولا تضار كأنّ الناس حين تغيب عنهم … نبات الأرض أخطأه القطار وقد كانت بتدمر خيل قيس … وكان لتدمر فيها دمار بحيّ من بني عيلان شوس … يسير الموت حيث يقال ساروا وما نلقاهم إلاّ صدرنا … بريّ منهم وهم حرار ومرّة يتبّرأ من ولاء العرب فيقول (من الكامل): أصبحت مولى ذي الجلال وبعضهم … مولى العريب فخذ بفضلك وافخر مولاك أكرم من تميم كلّها … أهل الفعال، ومن قريش المعشر فارجع إلى مولاك غير مدافع … سبحان مولاك الأجلّ الأكبر وقال يفتخر بولاء بني عقيل (من الخفيف): إنّني من بني عقيل بن كعب … موضع السيف من طلى الأعناق ويلقّب المرعّث، وقيل: إنّما سمّي المرعّث لقوله (من مجزوء الخفيف): قال ريم مرعّث … ساحر الطرف والنظر لست والله نائلي … قلت أو يغلب القدر أنت إن رمت وصلنا … فانج، هل يدرك القمر وعن ابن سلاّم: إنّما سمّي المرعّث لأنّه كان له قميص وله جيبان جيب عن يمينه، وجيب عن شماله فإذا أراد نزعه حلّ أزراره منه فشبّهت (55) تلك الجيوب بالرعاث لاسترسالها وتدلّيها؛ وسمّي من أجلها المرعّث. وقيل لأنّه كانت في أذنه وهو صغير رعاث والرعاث القرطة واحدتها رعثة وجمعها رعاث

ورعثات. ورعثات الديك <اللحم> المتدلّي تحت حنكه؛ قال الشاعر (من الوافر): سقيت أبا المطرّح إذ أتاني … وذو الرعثات منتصب يصيح شرابا يهرب الذبّان منه … ويلثغ حين يشربه الفصيح قال؛ والرعث الاسترسال والتساقط. فكأنّ اسم القرطة اشتقّ منه. وعن الأصمعي، قال؛ كان بشّار ضخما عظيم الخلق والوجه مجدورا طويلا جاحظ الحدقتين قد تغشّاهما لحم أحمر؛ فكان أقبح الناس عمى، وأفظعه منظرا. وكان إذا أراد أن ينشد صفّق بيديه وتنحنح وبصق عن يمينه وشماله ثم ينشد فيأتي بالعجب العجيب. وولد أعمى وهو الأكمه. وقال أبو هشام الباهليّ يهجوه (من الطويل): وعبدي فقا عينيك في الرحم أيره … فجئت ولم تعلم لعينيك فاقيا أأمّك يا بشّار كانت عفيفة … عليّ إذن مشيي إلى البيت حافيا قال؛ فلم يزل بشّار منذ قال فيه هذين البيتين منكرا. وعن الأصمعي قال: ولد بشّار أعمى فما نظر الدنيا قطّ، وكان يشبّه الأشياء في شعره بعضها ببعض فكان يقدر على ما لا يقدر البصراء أن يأتوا بمثله؛ فقيل له يوما وقد أنشد قوله (من الطويل): كأنّ مثار النقع فوق رؤوسنا … وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه ما قال أحد أحسن من هذا التشبيه، فمن أين لك هذا ولم تر الدنيا قطّ ولا شيئا منها؟! فقال: إنّ عدم النظر يقوّي ذكاء القلب، ويقطع (56) عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء فيتوفّر حسه، وتذكو قريحته. ثم أنشد قوله (من الطويل):

عميت جنينا والذكاء من العمى … فجئت عجيب الظنّ للعلم موئلا وغاض ضياء العين للعلم رافدا … لقلب إذا ما ضيّع الفاس حصّلا وشعر كنور الأرض لاءمت بينه … بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا وعن أبي زيد قال، سمعت أبا محمّد التوّزيّ يقول، قال بشّار: أزرى بشعري الأذان، يعني كونه إسلاميا. وعن أبي عبيدة قال، سمعت بشّارا وقد أنشد في شعر الأعشى هذا البيت (من البسيط): وأنكرتني وما كان الذي نكرت … من الحوادث إلاّ الشيب والصلعا قال؛ فعجب لذلك وأنكره بشّار وقال: هذا بيت مصنوع ما يشبه كلام الأعشى! فعجبت لذلك. فلمّا كان بعد هذا بعشر سنين كنت جالسا في حلقة يونس فقال حدّثني أبو عمرو بن العلاء أنه صنع هذا البيت فأدخله في شعر الأعشى وذكره! فجعلت حينئذ أزداد عجبا من فطنة بشّار وصحّة قريحته، وجودة نقده للشعر. وعن أبي عبيدة قال، قال بشّار: لي إثنا عشر ألف بيت عين! فقيل له: هذا ما لم يدّعه أحد قطّ سواك! فقال: لي اثنتا عشر ألف قصيدة لعنها الله ولعن قائلها إن لم يكن في كلّ واحدة منها بيت عين! فقلنا: صدقت! وقال الجاحظ في كتاب «البيان والتبيّن» -وقد ذكر بشّارا؛ فقال: كان بشّار شاعرا خطيبا صاحب منثور ومزدوج وسجع ورسائل وهو من المطبوعين أصحاب الإبداع والاختراع المفتنين في الشعر القائلين أكثر أجناسه وضروبه. قال الشعر في حياة جرير وتعرّض له، وحكي عنه أنه قال: هجوت جريرا فأعرض عني ولو هاجاني (57) لكنت أشعر <الناس>.

قال: وكان يدين بالرجعة، ويكفّر جميع الأمم، ويصوّب رأي إبليس في تقديم النار على الطين، وذكر مثل ذلك في شعره فقال (من البسيط): الأرض مظلمة والنار مشرقة … والنار معبودة مذ كانت النار قال؛ وبلغه عن أبي حذيفة واصل بن عطاء إنكار لقوله وهتف به فقال يهجوه (من البسيط): ما لي أشايع غزّالا له عنق … كنقنق الدوّ إن ولّى وإن مثلا عنق الزرافة ما بالي وبالكم … أتكفرون رجالا كفّروا رجلا فلمّا تتابع على واصل منه ما يشهد على إلحاده خطب به. وكان واصل ألثغ بالراء فأسقطها من سائر كلامه؛ فقال: أما لهذا الأعمى الملحد، أما لهذا المشنّف المكتني بأبي معاذ من يبعج بطنه في جوف منزله وفي يوم حفله. والله لولا <أنّ> الغيلة من شيمة الغالية لأبعثنّ إليه من يفعل ذلك ولا يكون إلاّ سدوسيا أو عقيليا. فانظر إلى توريته في هذا الكلام، وإسقاطه الراء من جميعه؛ قال: الأعمى ولم يقل الضرير. وقال: المشنّف ولم يقل المرعّث. وقال: أبو معاذ ولم يقل بشّار. وقال: من شيمة الغالية أو قال سجايا الغالية ولم يقل الرافضة. وقال: يبعج ولم يقل يبقر. وقال: منزله ولم يقل داره. وعن سعيد بن سالم قال: كان أصحاب الكلام بالبصرة ستة نفر وهم: عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وبشّار بن برد، وصالح بن عبد القدّوس،

ذكر سنة ستين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

وعبد الكريم بن أبي العوجاء، ورجل من الأزد لا يذكر؛ فكانوا يجتمعون في منزل الأزدي ويختصمون عنده. فأمّا عمرو وواصل فصاروا إلى القول بالاعتزال، وأمّا عبد الكريم وصالح فصحّحا الثنوية، وأمّا بشّار فبقي محيّرا مخلّطا (58)،وأمّا الأزديّ فمال إلى قول السمنية-وهو مذهب من مذاهب الهند، وبقي ظاهره على ما كان عليه ويظهر للناس بذلك. قلت: هذا الكلام ممّا رواه أبو الفرج صاحب الأغاني في كتابه. وجرّه هاهنا ذكر بشّار بن برد والعهدة فيه على ناقله في الأصل. وقال: إنّ عمرا بلغه أنّ عبد الكريم يفسد الأحداث فقال له عمرو: قد بلغني أنك لا تزال تخلو بالحدث من أحداثنا فتفسده وتستزلّه وتدخله في دينك؛ فإن خرجت من مصرنا وإلاّ قمت فيك مقاما آتي فيه على نفسك فلحق بالكوفة فدلّ عليه محمد بن سليمان فقتله وصلبه، وأراح الله من سوء اعتقاده. ذكر سنة ستين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا فقط. ما لخّص من الحوادث الخليفة المهدي محمد بن عبد الله المنصور. وموسى بن عليّ على حرب مصر، وأبو ضمرة محمد بن سليمان على الخراج، والقاضي ابن لهيعة قاضيا بحاله.

ومن أخبار بشّار بن برد عن قعنب بن محرز الباهلي قال، قال الأصمعي: لقي أبو عمرو بعض الرواة فقال له: يا أبا عمرو! من أبدع الناس بيتا؟ قال: الذي يقول (من الرمل): لم يطل ليلي ولكن لم أنم … ونفى عنّي الكرى طيف ألم روّحي عنّي قليلا واعلمي … أنّني يا عبد من لحم ودم قال: فمن أمدح الناس؟ قال: الذي يقول (من الطويل): لمست بكفّي كفّه أبتغي الغنى … ولم أدر أنّ الجود من كفّه يعدي فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى … أفدت وأعداني فبذّرت ما عندي (59) قال: فمن أهجى الناس؟ قال: الذي يقول (من الطويل): رأيت السهيلين استوى الجود فيهما … على بعد ذا من ذاك في حكم حاكم سهيل بن عثمان يجود بماله … كما جاد بالوجعى سهيل بن سالم قال: وهذه الأبيات كلّها لبشّار. وعن أبي حاتم قال؛ كان بشّار كثير الولع بديسم العنزيّ؛ وكان مع ذلك صديقا له وهو يكثر هجاءه؛ وكان ديسم لا يزال يحفظ شيئا من شعر حمّاد وأبي هاشم في بشّار فبلغه ذلك فقال فيه (من الطويل): أديسم يا ابن الذئب من نجل زارع … أتروي هجائي سادرا غير مقصر؟! قال أبو حاتم، فأنشدت أبا زيد هذا البيت وسألته ما يقول فيه فقال: لمن هو؟ قلت: لبشّار في ديسم العنزيّ! فقال: قاتله الله ما أعلمه بكلام العرب! ثم

ذكر سنة إحدى وستين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

قال: الديسم ولد الذئب من الكلبة، ويقال للكلاب أولاد زارع. والعسبار ولد الضبع من الذئب. والسمع ولد الذئب من الضبع. وتزعم العرب أنّ السمع لا يموت حتف أنفه، وأنه أسرع من الريح؛ وإنما هلاكه بعرض من أعراض الدنيا. والله أعلم. ذكر سنة إحدى وستين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراع واحد وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المهديّ محمد بن عبد الله المنصور. وعزل أبا ضمرة وموسى بن عليّ، وولّى مكانهما عيسى بن لقمان الجمحي، والقاضي ابن لهيعة بحاله. ومن أخبار بشّار عن عمر بن شبّة قال؛ كان بالبصرة رجل يقال له حمدان (60) الخرّاط فاتّخذ جاما لإنسان كان بشّار يجلس إليه. فسأله بشّار أن يتّخذ له جاما فيه صورة طير يطير! فلمّا أحضره له قال: كان ينبغي أن يتّخذ فوق هذا الطائر من الجوارح كاسر يصيده فإنه كان أحسن! فقال: لم تقل ذلك! قال: بلى قد قلته لك، ولكن عملت على أني أعمى لا أبصر شيئا وتهدّده بالهجاء! قال له حمدان: لا تفعل فإنك ترجع إلى ندامة! قال: أو تهدّدني أيضا؟ قال:

ذكر سنة اثنتين وستين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

نعم! قال: وأيّ شيء تستطيع أن تصنع لي إن هجوتك؟ قال: أصوّرك في صورتك هذه على باب دكّاني، وأجعل من خلفك صورة قرد ينكحك حتى يراك الصادر والوارد! قال بشّار: اللهم أخزه! أنا أمازحه وهو يأبى إلاّ الجدّ!. ذكر سنة اثنتين وستين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المهدي محمد بن عبد الله المنصور بالله. وعزل عيسى بن لقمان وولّى مكانه واضحا مولاه على حرب مصر وخراجها، والقاضي ابن لهيعة <بحاله>. ومن أخبار بشّار عن محمد بن الحجّاج قال؛ كان بشّار يهوى امرأة من أهل البصرة فراسلها وجعل لزيارتها موعدا فأخلفته واعتذرت بمرض أصابها فكتب إليها هذه الأبيات (من مجزوء الكامل): يا ليلتي تزداد نكرا … من حبّ من أحببت بكرا

حوراء إن نظرت إلي‍ … ك سقتك بالعينين خمرا وكأنّ حسن حديثها … قطع الرياض كسين زهرا (61) وكأنّ تحت لسانها … هاروت ينفث <فيه> سحرا وتخال ما جمعت علي‍ … هـ ثيابها ذهبا وعطرا وكأنها برد الشرا … ب صفا ووافق منه قطرا جنّيّة إنسيّة … أو بين ذاك أجلّ أمرا وكفاك أنّي لم أحط … بشكاة من أحببت خبرا إلاّ مقالة واله … نثرت له الأحزان نثرا متخشّعا تحت الهوى … عشرا وتحت الموت عشرا وعن جحظة عن علي بن يحيى قال؛ كان إسحاق الموصليّ لا يعتدّ لبشار بشيء ويقول: هو كثير التخليط في شعره، وأشعاره مختلفة لا يشبه بعضها بعضا؛ أليس هو القائل (من الرمل): إنّما عظم سليمي حبّتي … قصب السكّر لا عظم الجمل وإذا أدنيت منها بصلا … غلب المسك على ريح البصل لو قال كلّ شيء مليح ثم أضيف إليه هذا التخليط لزيّفه. وكان يقدّم ابن أبي حفصة عليه ويقول: هو أشدّ استواء شعر منه.

ذكر سنة ثلاث وستين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة ثلاث وستين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراع واحد وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المهدي محمد بن عبد الله المنصور بالله. وعزل واضحا وولّى مكانه يحيى الخرسي حرب مصر وخراجها، والقاضي ابن لهيعة بحاله. فيها قتلوا عطاء الخراساني المعروف بالمقنّع. وكان مبتدأ أمره قصّارا (62) من أهل مرو. وكان يعرف شيئا من السحر والنيرنجات والتمويه. فادّعى الملعون الربوبية من طريق الحلولية والتناسخ، وأوهم أصحابه والذين اتّبعوه وأضلّهم أنّ الله جلّ ذكره وتعالى علوا كبيرا تحوّل إلى صورة آدم عليه السلام؛ فلذلك قال للملائكة، اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس فاستحقّ بذلك السخط. ثم تحول إلى صورة نوح عليه السلام، ثم إلى صورة واحد فواحد من الأنبياء عليهم السلام والحكماء حتّى حصل في صورة أبي مسلم الخراساني المقدّم ذكره. ثم زعم بكذبه ولعنته أنه انتقل عزّ وجلّ من صورة أبي مسلم إلى صورته نفسه تعالى الله عمّا يقولون. فقبل القوم دعواه وعبدوه، وقاتلوا دونه مع ما عاينوا من عظم ادّعائه وقبح صورته؛ وذلك أنه كان مشوّه الخلق، أعور العين، أمكن اللسان. وإنما غلب عليهم وتسلّط على عقولهم بالتمويهات التي

أظهرها لهم بالسحر والنيرنجات. وكان في جملة ما أظهره لهم صورة قمر يطلع فيراه الناس من مسافة شهرين من موضعه ثم يغيب! فعظم في أعينهم واشتدّ اعتقادهم فيه. وهذا القمر الذي عناه أبو العلاء المعرّي في شعره فقال (من الطويل): أفق إنّما البدر المقنّع رأسه … ضلال وغيّ مثل بدر المقنّع وكقول ابن سناء الملك (من الطويل): إليك فما بدر المقنّع رأسه … بأسحر من ألحاظ بدري المعمّم فلمّا اشتهر المقنّع، وانتشر ذكره ثار عليه الناس، وقصدوه في قلعته التي كان اعتصم بها وحصروه؛ فلمّا أيقن بالهلاك جمع أهله ونساءه وسقاهنّ سمّا فمتن منه من ساعتهنّ. ثم تناول (63) شربة منه فمات، ودخل المسلمون قلعته فقتلوا من فيها من أتباعه وأشياعه في هذه السنة. فنعوذ بالله من مكر الله والخذلان. ومن أخبار بشّار عن أبي عبد الرحمن التيميّ قال: دخل بشّار إلى إبراهيم بن عبد الله بن حسن فأنشده قصيدة يهجو فيها المنصور، ويشير عليه برأي يستعمله في أمره حين ظهوره على المنصور، فلمّا قتل إبراهيم خاف بشّار فقلب الكائنة وأظهر أنها في أبي مسلم الخراساني وحذف منها أبياتا وأولها يقول (من الطويل): أبا جعفر ما طول عيش بدائم … ولا سالم عمّا قليل بسالم على الملك الجبّار يقتحم الردى … ويصرعه في المأزق المتلاحم كأنك لم تسمع بقتل متوّج … عظيم ولم تعلم بفتك الأعاجم

تقسّم كسرى رهطه بسيوفهم … وأمسى أبو العبّاس أحلام نائم وقد كان لا يخشى انقلاب مكيدة … عليه ولا جري النحوس الأشائم مقيما على اللذّات حتى بدت له … وجوه المنايا حاسرات العمائم وقد ترد الأيام غرا وربّما … وردن كلوحا باديات الشكائم ومروان قد دارت على رأسه الرحى … وكان لما أجرمت نزر الجرائم فأصبحت تجري سادرا في طريقهم … ولا تتّقي أشباه تلك النقائم تجرّدت للإسلام تعفو سبيله … وتعري مطاه لليوث الضراغم فما زلت حتى استنصر الدين أهله … عليك فعاذوا بالسيوف الصوارم لحى الله قوما رأسوك عليهم … وما زلت مرؤوسا خبيث المطاعم أقول لبسّام عليه جلالة … غدا أريحيا عاشقا للمكارم من الفاطميّين الدعاة إلى الهدى … جهارا ومن يهديك مثل ابن فاطم (64) سراج لعين المستضيء وتارة … يكون ظلاما للعدوّ المزاحم إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن … برأي نصيح أو نصاحة حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضة … فإنّ الخوافي قوة للقوادم وما خير كفّ أمسك الغلّ أختها … وما خير سيف لم يؤيّد بقائم وخلّ الهوينا للضعيف ولا تكن … نؤوما فإنّ الحزم ليس بنائم وحارب إذا لم تعط إلاّ ظلامة … شبا الحرب خير من قبول المظالم وعن المازني قال، سمعت أبا عبيدة يقول: ميميّة بشّار هذه أحبّ إليّ من ميميّتي جرير والفرزدق. قال الأصمعيّ، قلت لبشّار: يا أبا معاذ! إنّ الناس يعجبون من أبياتك في المشورة! فقال: يا أبا سعيد! إنّ المشاور بين صواب

ذكر سنة أربع وستين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

يفوز به ويجني ثمرته أو خطإ يشارك فيه وفي مكروهه! فقلت له: أنت والله في قولك هذا أشعر منك في شعرك. ذكر سنة أربع وستين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراع واحد وستة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المهدي محمد بن عبد الله المنصور بالله. وعزل يحيى الخرسيّ عن مصر، وولي الحرب نصر بن سالم بن سوادة، وولي الخراج أبو قطنة إسماعيل بن إبراهيم. وعزل ابن لهيعة عن القضاء وولي مكانه إسماعيل بن اليسع الكندي؛ وكان يقول بقول أبي حنيفة رضي الله عنه وكان محمود الأثر. ومن أخبار بشّار عن قدامة بن نوح قال؛ كان بشّار يحشو شعره إذا أعوزته القافية والمعنى بالأشياء التي لا حقيفة لها؛ فمن ذلك (65) أنه أنشد يوما شعرا له فيه قوله: *غنّي للغريض يا ابن قيان*

فقيل له: من ابن قيان هذا؟ لسنا نعرفه من مغنّي البصرة ولا الحجاز! قال: وما عليكم منه؟ ألكم قبله دين فتطالبوني به أو ثارّ تريدون تدركوه؟ قالوا: ليس شيء مما ذكرت، وإنما أردنا أن نعرفه! فقال: هو رجل يغنّي لي ولا يخرج من بيتي! فقالوا: إلى متى؟ قال: منذ يوم ولد إلى يوم يموت!. وعن أحمد بن خلاّد قال، حدّثني أبي، قال، قلت لبشّار: إنك لتجيء بالشيء المهجّن المتقارب! قال: وما ذاك؟ قال؛ قلت: بينما تقول شعرا تثير به النقع وتخلع به القلوب مثلك حيث تقول (من الطويل): إذا ما غضبنا غضبة مضريّة … هتكنا حجاب الشمس أو تقطر الدما إذا ما أعرنا سيّدا من قبيلة … ذرى منبر صلّى علينا وسلّما إلى أن تقول (من الهزج): ربابة ربّة البيت … تصبّ الخلّ في الزيت لها عشر دجاجات … وديك حسن الصوت فقال: لكلّ شيء وجه وموضع. فالقول الأوّل جدّ وهذا قلته في ربابة جاريتي وأنا لا آكل البيض من السوق، وربابة هذه لها عشر دجاجات وديك فهي تجمع لي البيض وتحفظه فهذا عندها من قولي أحسن من: *قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل* عندك أنت!. وعن يحيى بن الجون العبديّ قال؛ كنّا عند بشّار فأنشدنا قصيدته التي يقول فيها (من المتقارب):

وجارية خلقت وحدها … كأنّ النساء لديها خدم فلمّا رأيت الهوى قاتلي … ولست بجار ولا بابن عم (66) دسست إليها أبا مجلز … وأيّ فتى إن أصاب اعتزم فما زال حتّى أنابت له … فراح وحلّ لنا ما حرم فقال له رجل من أصحابه: ومن أبو مجلز هذا يا أبا معاذ؟ قال: وما حاجتك إليه؟ ألك عنده دين تطالبه؟ هو رجل يتردّد بيني وبين معارفي في رسائلي. قال: وكان كثيرا ما يحشو شعره بمثل هذه الأشباه. وعن حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال: كانت بالبصرة قينة لبعض ولد سليمان بن عليّ، وكانت محسنة بارعة الظرف، وكان بشّار صديقا لسيّدها ومدّاحا له، فحضر مجلسه يوما والجارية تغنّي فسرّ بحضوره فشرب حتّى سكر ونام ونهض الناس ونهض بشّار فقالت له الجارية: يا أبا معاذ! أحبّ أن تذكر يومنا هذا في قصيدة ولا تذكر فيها اسمي ولا اسم سيّدي، وتكتب بها إليه. فانصرف وكتب إليه (من البسيط): وذات دلّ كأنّ البدر صورتها … باتت تغنّى عميد القلب سكرانا: «إنّ العيون التي في طرفها حور … قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللبّ حتّى لا حراك به … وهنّ أضعف خلق الله أركانا» فقلت أحسنت يا سؤلي ويا أملي … فأسمعيني جزاك الله إحسانا: «يا حبّذا جبل الرّيان من جبل … وحبّذا ساكن الرّيان من كانا» قالت: فهلاّ فدتك النفس أحسن من … هذا لمن كان صبّ القلب حيرانا:

يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة … والأذن تعشق قبل العين أحيانا فقلت: أحسنت أنت الشمس طالعة … أضرمت في القلب والأحشاء نيرانا فأسمعيني صوتا مطربا هزجا … يزيد صبّا محبّا منك أشجانا يا ليتني كنت تفّاحا مفلّجة … أو كنت من قضب الريحان ريحانا (67) حتّى إذا وجدت ريحي فأعجبها … ونحن في خلوة مثّلت إنسانا فحرّكت عودها ثم انثنت طربا … تشدو به ثم لا تخفيه كتمانا: أصبحت أطوع خلق الله كلّهم … لأكثر الخلق لي في الحبّ عصيانا فقلت أطربتنا يا زين مجلسنا … فهات إنك بالإحسان أولانا لو كنت أعلم أنّ الحبّ يقتلني … أعددت لي قبل أن ألقاك أكفانا فغنّت الشرب صوتا مؤنقا رملا … يذكي السرور ويبكي القلب ألوانا: لا يقتل الله من دامت مودّته … والله يقتل أهل الغدر أحيانا ووجّه بالأبيات إليها فبعث إليه سيّدها بألفي درهم وطيب. قلت: البيتان التاليان في هذه القصيدة يرويان لجرير <ابن عطيّة> بن الخطفى؛ وقد ساقهما صاحب الأغاني في هذه القصيدة لبشّار، وصاحب «الأغاني» فليس ممّن يطعن في فضله ومعرفته ونقده؛ وهما: *إنّ العيون التي في طرفها حور* والذي بعده. وأجمعت الرواة أنّ البيت الأوّل أرقّ بيت قالته العرب، ونسبوه لجرير. والله أعلم. وعن الرياشيّ قال: حضر بشّار باب محمد بن سليمان فقال له الحاجب: إصبر! فقال بشّار: إنّ الصبر لا يكون إلاّ على بليّة! فقال الحاجب: إنّ وراء

ذكر سنة خمس وستين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

قولك شرا، ولن أتعرّض لك، قم فادخل! وعن محمد بن سلاّم قال، قال هلال بن عطية لبشّار؛ وكان يمازحه: إنّ الله عزّ وجلّ لم يذهب بصر أحد إلاّ عوّضه منه شيئا فما عوّضك؟ قال: الطويل العريض! قال: وما هو؟ قال: ألاّ أراك ولا أرى أمثالك من الثقلاء! ثم قال له: يا هلال! أتطيعني في نصيحة أخصّك بها؟ قال: نعم! قال: إنك كنت تسرق الحمير زمانا ثم تبت وصرت (68) رافضيا فعد إلى سرقة الحمير-والله-خير لك من الرفض! وكان هلال يستثقل فقال فيه (من الوافر): وكيف يخفّ لي بصري وسمعي … وحولي عسكران من الثقال قعودا حول دسكرتي وعندي … كأنّ لهم عليّ فضول مال إذا ما شئت صبّحني هلال … وأيّ الناس أثقل من هلال ذكر سنة خمس وستين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراع واجد وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المهدي محمد بن عبد الله المنصور بالله. وعزل سالما وأبا قطنة وولّى مكانهما إبراهيم بن صالح حربا وخراجا. والقاضي ابن اليسع بحاله.

ومن أخبار بشّار عن هشام ابن الكلبي قال، كان أول بدء بشّار أنه عشق جارية يقال لها فاطمة سمعها تغنّي فأنشأ يقول (من الرمل): درّة بحرّية مكنونة … مازها التاجر من بين الدرر وفيها يقول (من الرمل): أيّها النوّام هبّوا ويحكم … واسألوني اليوم ما طعم السهر وعن العبّاس بن خالد البرمكّي قال: كان الزوّار قديما يسمّون إلى أيّام خالد بن برمك السؤّال فقال خالد: هذا والله اسم أستقبحه لطلاّب الخير خصوصا أن يكونوا من أشراف الناس والأحرار! وإني لأرفع الكريم أن يسمّي أمثال هؤلاء المؤمّلين من أبناء النعم بمثل ذلك ولعلّه خير ممن يقصد وأفضل وأكثر أدبا! ولكنّا نسميهم من الآن الزوّار! فقال بشّار يمدحه بذلك (69) (من الطويل): حذا خالد في فعله حذو برمك … فمجد له مستطرف وأثيل وكان ذوو الآمال يدعون قبله … بلفظ على الإعدام فيه دليل يسمّون بالسّؤال في كلّ موطن … وإن كان منهم نابه وجليل فسمّاهم الزوّار سترا عليهم … فأستاره في المجتدين سدول وقال بشار هذا الشعر في الساعة التي تكلّم فيها خالد بهذا الكلام في أمر الزوّار فأعطاه لكلّ بيت ألف درهم. وعن أبي شبل عاصم بن وهب قال؛ نهق حمار ذات يوم بقرب بشّار فخطر بباله بيت فقال (من البسيط):

ما قام أير حمار فامتلا شبقا … إلاّ تحرّك عرق في است ... ؟ ووقف وصار يقول: في است من؟ فسلّم عليه في ذلك الوقت صديق له يسمى تسنيم بن الحواري فضحك بشّار وصفّق بيديه وقال: في است تسنيم. فقال له تسنيم: ويحك ماذا؟! فأنشده البيت فقال له: عليك لعنة الله فما عندك فرق بين صديقك وعدوّك؟ أيّ شيء حملك على هذا؟ ألاّ قلت: في است حمّاد، الذي هجاك وفضحك وأعياك؟! وليست قافيتك على الميم فأعذرك! فقال: صدقت والله في هذا كلّه ولكن ما زلت أقول: في است من! ولا يخطر ببالي أحد حتّى سلّمت عليّ فرزقته! فقال تسنيم: إذا كان <هذا> جواب السلام عليك فلا سلّمك الله ولا سلّم على من يسلّم عليك. وجعل بشّار يضحك ويصفّق وتسنيم يوسعه شتما. وقالت امرأة لبشار: ما أدري لم يهابك الناس مع قبح وجهك! فقال بشار: ليس من حسنه يهاب الأسد! وعن دماذ قال، (70) حدّثنا رجل من الأنصار قال، جاء أبو الشمقمق إلى بشّار يشكو إليه الضيقة، ويحلف له أن ليس عنده شيء! فقال له بشّار: والله ما عندي شيء يعينك، ولكن قم معي إلى عقبة بن سلم! فقام معه فذكر له أبا الشمقمق وكان معروفا شاعرا وأوسعه شكرا وثناء فأمر له بخمس مائة درهم فقال له بشّار (من مجزوء الكامل): يا واحد العرب الذي … أمسى وليس له نظير لو كان مثلك آخر … ما كان في الدنيا فقير وعن عبد الرحمن بن العبّاس بن فضل عن أبيه قال: كان الشعراء

يجلسون بالليل في مسجد الرصافة ينشدون ويتحدّثون، وكنت أجيء إلى ذلك. فصحت يوما ببشّار وقلت: يا أبا معاذ! من الذي يقول (من الهزج): أحبّ الخاتم الأحم‍ … ر من حبّ مواليه فأعرض عنّي وأخذ في بعض إنشاده. ثم صحت به: يا أبا معاذ! من الذي يقول: *إنّ سلمى خلقت من قصب السكّر* فغضب وصاح: من هذا الذي يقرّعنا منذ الليلة بأشياء كنا نعبث بها في الحداثة؟ فتركته ساعة ثم صحت: يا أبا معاذ! من ذا يقول هذا (من الطويل): أخشّاب حقا أنّ دارك تزعج … وإنّ الذي بيني وبينك ينهج فقال: ويحك عن مثل هذا فسل! ثم أنشدها حتّى أتى على آخرها. وفي هذه القصيدة يقول بشّار وفيه غناء (من الطويل): فواكبدا قد أنضج الشوق نصفها … ونصف على نار الصبابة ينضج وواحزنا منهنّ يحففن هودجا … وفي الهودج المحفوف بدر متوّج فإن جئتها بين النساء فقل لها … عليك سلام مات من يتزوّج (71) بكيت وما في الدمع منك خليفة … ولكنّ أحزاني عليك توهّج الشعر لبشّار، والغناء فيه لسليم بن سلاّم. وعن أبي غسّان دماذ قال: سألت أبا عبيدة عن السبب الذي من أجله نهى المهديّ بشارا عن ذكر النساء، قال: كان أوّل ذلك اشتهار نساء البصرة وشبّانها بشعره حتّى قال سوّار بن عبد الله الأكبر ومالك بن دينار: ما شيء أدعى

لأهل المصر إلى الفسق كأشعار هذا الأعمى، وما زالا يعظانه. وكان واصل بن عطاء يقول: إنّ من أخدع حبائل الشيطان لكلمات هذا الأعمى الملحد. فلمّا كثر ذلك وانتهى خبره من وجوه كثيرة إلى المهديّ نهاه عن ذكر النساء، وقول التشبيب بهنّ-وكان المهديّ من أشدّ الناس غيرة-فقلت: ما أحسب شعر هذا أبلغ في هذه المعاني من شعر جميل وكثيّر عزّة وعروة بن حزام وقيس بن ذريح وعمر بن أبي ربيعة وتلك الطبقة! فقال لي: ليس كلّ من سمع تلك الأشعار يعرف المراد منها، وبشّار يقارب النساء حتّى لا يخفى عليهنّ ما يقول، وأيّ حرّة حصان تسمع قول بشّار فلا يؤثّر في قلبها فكيف بالمرأة الغزلة التي لا همّة لها إلاّ الرجال؟ وهاك من قوله، وأنشد (من المنسرح): قد لامني في خليلتي عمر … واللوم في غير كنهه ضجر قال أفق قلت لا فقال بلى … قد شاع في الناس منكم الخبر قلت وإن شاع ما اعتذارك ممّ‍ … ما ليس لي فيه عندهم عذر ماذا عليهم وما لهم خرسوا … لو أنّهم في عيوبهم نظروا أعشق وحدي فيقتلون به … كالترك تغزو فتقتل الخزر يا عجبا للخلاف يا عجبا … في في من لام في الهوى الحجر حسبي وحسب الذي كلفت به … منّي ومنها الحديث والنظر أو قبلة في خلال ذاك وما … بأس إذا لم تحلّ لي الأزر (72) أو عضّة في ذراعها ولها … فوق ذراعي من عضّها أثر أو لمسة دون مرطها بيدي … والباب قد حال دونه الستر والساق برّاقة خلاخلها … أو مصّ ريق وقد علا البهر

واسترخت الكفّ للعراك وقا … لت إيه عنّي والدمع ينحدر إنهض فما أنت كالذي زعموا … أنت وربّي مغازل أشر قد غابت اليوم عنك حاضنتي … فالله لي منك فيك ينتصر يا ربّ خذ لي فقد ترى ضرعي … من فاسق جاء ماله سكر أهوى إلى معضدي فرضرضه … ذو قوّة ما يطاق مقتدر ألصق بي لحية له خشنت … ذات سواد كأنها الإبر حتّى علاني وأسرتي غيب … ويلي عليهم لو أنّهم حضروا أقسم بالله لا نجوت بها … فاذهب فأنت المساور الظفر كيف يأمّي إن رأت شفتي … أم كيف إن شاع منك ذا الخبر قد كنت أخشى الذي ابتليت به … منك فماذا تقول يا عبر قلت لها عند ذاك يا سكني … لا بأس إنّي مجرّب خبر قولي لها بقّة لها ظفر … إن كان في البقّ ماله ظفر ثم قال لي: بمثل هذا الشعر يميل القلب، ويلين الصعب، وتسلب الحرّة فكيف بالغزلة. وعن أبي عبيدة قال، قال رجل يوما لبشّار في المسجد الجامع يداعبه: يا أبا معاذ! يعجبك الغلام الجادل؟ فقال غير مكترث ولا محتشم: لا ولكن تعجبني أمّه!.قال، وأنشد أبو أيّوب لبشّار في ثقيل فقال (من السريع): هل لك في مالي وعرضي معا … وكلّ ما يملك جيرانيه واذهب إلى أبعد ما ينتوى … لا ردّك الله ولا ماليه

وعن محمد بن عمران الضبّي قال، أنشدنا الوليد بن يزيد قول بشّار (73) (من الخفيف): أيها الساقيان صبّا شرابي … واسقياني من ريق بيضاء رود إنّ دائي الظما وإنّ دوائي … شربة من رضاب ثغر برود ولها مضحك كثغر الأقاحي … وحديث كالوشي وشي البرود نزلت في السواد من حبّة القل‍ … ب ونالت زيادة المستزيد ثم قالت نلقاك بعد ليال … والليالي يبلين كلّ جديد عندها الصبر عن لقائي وعندي … زفرات يأكلن قلب الحديد قال؛ فطرب الوليد وقال: من لي بمزاج كاسي هذه من ريق سلمى فيروي ظمئي، ويطفئ حرقي! ثم بكى حتى مزج كأسه بدمعه، وقال: إن فاتنا ذاك فهذا. وعن عبد الله بن أبي بكر قال، كان لنا جار بزّاز يكنّى أبا بدر، وكان صديقا لبشّار، فبعث إليه ذات يوم يطلب منه ثيابا بنسيئة فلم يصادفها عنده فقال يهجوه (من الهزج): ألا إنّ أبا بدر … زنا في ليلة القدر ولم يرع-تعالى اللّ‍ … هـ ربّي-حرمة الشهر وكتبها في رقعة وبعثها إليه، ولم يكن أبو بدر ممن يقول الشعر، فقلبها وكتب في ظهرها يقول (من الهزج): ألا إنّ أبا بدر … له في ذلكم عذر

ذكر سنة ست وستين ومائة النيل المبارك في هذه السنة (74)

أتته أمّ بشّار … وقد ضاق بها الأمر فواثبها فواقعها … وما ساعده الصبر قال؛ فلمّا قرئت على بشّار كاد ينشقّ غيظا، وندم على تعرّضه لرجل لا نباهة له فجعل ينطح الحائط برأسه غيظا ويقول: لا عدت أتعرض لهجاء سفلة قطّ! ذكر سنة ستّ وستين ومائة النيل المبارك في هذه السنة (74) الماء القديم ذراعان فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإصبع واحد. ما لخّص من الحوادث الخليفة المهدي محمد بن عبد الله المنصور بالله، وعمّاله بمصر حسبما تقدّم من ذكرهم في السنة الخالية. ومن أخبار بشّار؛ قال أبو الفرج، نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى قال، مدح بشّار خالد بن برمك فقال (من الطويل): لعمري لقد أجدى عليّ ابن برمك … وما كلّ من كان الغنى عنده يجدي حلبت بشعري راحتيه فدرّتا … سماحا كما درّ السحاب مع الرعد إذا جئته للحمد أشرق وجهه … إليك وأعطاك الكريمة بالحمد له نعم في الحمد لا يستثيبها … جزاء، وكيل التاجر المدّ بالمدّ مفيد ومتلاف سبيل تراثه … إذا ما غدا أو راح كالجزر والمدّ أخالد إنّ الحمد يبقى لأهله … جمالا، ولا تبقى الكنوز على الكدّ فأطعم وكلّ من عارة مستردّة … ولا تبقها إنّ العواري للردّ

قال؛ فأعطاه خالد ثلاثين ألف درهم، وأمر خالد أن يكتب هذان البيتان في صدر مجلسه. وقال ابنه يحيى بن خالد: آخر ما أوصاني به العمل بهذين البيتين. وعن محمد بن عبد الله بن عثمان؛ قال؛ كان أبو الوزير مولى عبد القيس من عمّال الخراج، وكان عفيفا بخيلا، فسأل عمر بن العلاء، وكان جوادا شجاعا، في رجل فوهب له مائة ألف درهم؛ فدخل أبو الوزير على المهديّ فقال له: يا أمير المؤمنين! إنّ عمر بن العلاء خائن! قال: ومن أين علمت؟ فقال: كلّمته في رجل كان أقصى أمله ألف درهم فوهب له مائة ألف درهم! فضحك المهديّ ثم قال: {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ} أما سمعت قول بشّار في عمر (75) (من المتقارب): إذا نبّهتك عظام الأمور … فنبّه لها عمرا ثم نم فتى لا يبيت على دمنة … ولا يشرب الماء إلاّ بدم أو ما سمعت قول أبي العتاهية فيه (من البسيط): إنّ المطايا تشتكيك لأنّها … قطعت إليك سباسبا ورمالا فإذا وردن بنا وردن مخفّة … وإذا صدرن بنا صدرن ثقالا أو ليس الذي يقول فيه أبو العتاهية أيضا (من البسيط): يا ابن العلاء ويا ابن القرم مرداس … إني لأطريك في أهلي وجلاّسي حتّى إذا قيل ما أعطاك من نشب … ألفيت من عظم ما أعطيت كالناسي

ثم قال له: من اجتمعت ألسن الناس على مدحه كان حقيقا أن يصدّقها بفعله. وعن الأصمعي قال: أمر عقبة بن سلم لبشار بعشرة آلاف درهم فسمع أبو الشمقمق بذلك فوافى بشّارا فقال له: يا أبا معاذ! إني مررت بصبيان فسمعتهم يلعبون وينشدون (من مجزؤ الرمل): هلّلينه هلّلينه … طعن قثّاة لتينه إنّ بشار بن برد … تيس أعمى في سفينه فأخرج إليه بشّار مايتي درهم، وقال: خذ هذه ولا تكن راوية الصبيان يا شميق! وعن أحمد بن صالح-وكان أحد الأدباء-قال: غضب بشار على سلم الخاسر-وكان من تلاميذه ورواته-وإنما لقّب بالخاسر كونه أباع مصحفا واشترى بثمنه طنبورا؛ فاستشفع إليه بجماعة من إخوانه فجاءوه في أمره فقال: كلّ حاجة لكم مقضيّة إلاّ سلما! قالوا: ما جئناك إلاّ في سلم، ولا بدّ ما ترضى عليه! وأحضروه فقام إليه فقبّل رأسه (76) ومثل بين يديه فقال: يا سلم! من الذي يقول (من البسيط): من راقب الناس لم يظفر بحاجته … وفاز بالطيّبات الفاتك اللهج قال: أنت يا أبا معاذ! جعلني الله فداك! قال: فمن الذي يقول (من مخلع البسيط): من راقب الناس مات غمّا … وفاز باللذة الجسور قال: خرّيجك يقول ذلك-يعني نفسه! قال: أفتأخذ معانيّ التي عنيت

بها وتعبت في استنباطها فتكسوها ألفاظا أخفّ من ألفاظي حتّى يروى ما تقول، ويذهب شعري؟! لا أرضى عنك أبدا! قال؛ فما زال يضرع إليه حتّى رضي عنه. وفي هذه القصيدة (من البسيط): لا خير في العيش إن كنّا كذا أبدا … لا نلتقي وسبيل الملتقى نهج قالوا حرام تلاقينا فقلت لهم … ما في اللقاء ولا في قبلة حرج من راقب الناس لم يظفر بحاجته … وفاز بالطيّبات الفاتك اللهج أشكو إلى الله همّا ما يفارقني … وشرّعا في فؤادي الدهر تختلج وعن العبّاس بن خالد؛ قال: سمعت <غير واحد> من أهل البصرة يحدّث أنّ امرأة قالت لبشّار: أيّ رجل أنت لو كنت أسود الرأس واللحية! فقال بشّار: إنّ بيض البزاة أثمن من سود الغربان! قالت: أمّا قولك فحسن في السمع، فمن لك بأن يحسن شيبك في العين كما حسن قولك في السمع؟! فكان بشار يقول: ما أفحمني قطّ غيرها! وراسل امرأة كان قد سمعها بمجلسه فهويها فقالت لرسوله، قل له: أيّ معنى فيك وأنت كما تعلم؟ فبماذا تطمع في وصالي، وبأيّ شيء تدلّ؟! وجعلت تهزأ به. فلمّا أدّاه الرسول ما قالت؛ قال: عد إليها وأنشدها (77) (من الكامل): أيري له فضل على إيرانهم … وإذا أشطّ سجدن غير أوابي تلقاه بعد ثلاث عشرة قائما … فعل المؤذّن شكّ يوم سحاب وكأنّ هامة رأسه بطّيخة … حملت إلى ملك بدجلة جابي

ذكر سنة سبع وستين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة سبع وستين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراع واحد وأربعة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المهدي محمد بن عبد الله المنصور بالله. وعزل إبراهيم بن صالح وولّى مكانه موسى بن مصعب على الحرب والخراج، وعزل القاضي ابن اليسع وولّى غوث بن سليمان الحضرمي ولاية ثانية. ومن أخبار بشّار عن النضر بن الحجّاج قال، قال بشّار: دعاني عقبة بن سلم ودعا حمّاد عجرد وأعشى باهلة، فلمّا اجتمعنا قال لنا إنه خطر ببالي البارحة مثل يتمثّل به الناس: «ذهب الحمار يطلب قرنين فرجع بلا أذنين» فأخرجوه لي من الشعر ومن أخرجه فله خمسة آلاف درهم، وإن لم تفعلوا جلدتكم كلّكم خمسمائة سوط! فقال حمّاد: أجّلنا-أعزّ الله الأمير-شهرا! وقال الأعشى: أجّلنا أسبوعين! قال؛ وبشّار ساكت! فقال عقبة: أيه يا أعمى! ما لك لا تتكلّم أعمى الله قلبك! فقال: أصلح الله الأمير! قد حضرني شيئ فإن أمرت قلته، فقال: قل! فقال (من السريع):

شطّ بسلمى عاجل البين … وجاورت أسد بني القين ورنّت النفس لها رنّة … كادت لها تنشقّ نصفين يا نبت من لا أشتهي ذكره … أخشى عليه علق الشين والله لو ألقاك لا أتّقي … عينا لقبّلتك ألفين (78) طالبتها ديني فراغت به … وعلّقت قلبي مع الدين فصرت كالعير غدا طالبا … قرنا فلم يرجع بأذنين قال: فانصرف بشّار بالجائزة دونهما. قال؛ وكان <بشّار> يقول الشعر وهو صغير، فإذا هجا قوما جاؤوا إلى أبيه فشكوه فيضربه ضربا شديدا. فكانت أمّه تقول: كم تضرب هذا الصبيّ الضرير؟ أما ترحمه؟ فيقول: بلى والله إني لأرحمه، ولكنه يتعرّض للناس فيشكونه إليّ! فسمعه بشّار فطمع فيه فقال له: يا أبه! إنّ هذا الذي يشكونه إليك مني هو قولي الشعر، وإني إن ألممت عليه أغنيتك وسائر أهلي. فإذا شكوني إليك فقل لهم: أليس الله يقول: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ}؟! فلمّا عاودوا شكواه قال لهم برد ما قاله بشّار، فانصرفوا وهم يقولون: فقه برد أغيظ لنا من شعر بشّار! وعن الفضل بن يعقوب قال: كنّا عند جارية لبعض التجار بالكرخ تغنّينا وبشّار عندنا فغنّت قوله (من مجزوء الكامل): يا منظرا حسنا رأيته … من وجه جارية فديته قال؛ فطرب بشّار وقال: هذا والله يا أبا عبد الله أحسن من سورة الحشر! وتمام الأبيات (من مجزوء الكامل):

وأنا المطلّ على العدا … وإذا غلا الحمد اشتريته وأميل في أنس الندي‍ … م من الحياء وما اشتهيته ويشوقني بيت الحبي‍ … ب إذا غدوت وأين بيته حال الخليفة دونه … فصبرت عنه وما قليته وقيل؛ قالها لمّا نهاه المهديّ عن ذكر الغزل. وكان الخليل بن أحمد ينشدها (79) ويستحسنها ويعجب بها. وروى؛ قال؛ قال عبد الله بن المسور الباهليّ يوما لأبي النضر-وقد تحاوروا في شيء-:يا ابن اللخناء! فقال أبو النضر: والله لو كنت ولد زنا لكنت خيرا من باهلة كلّها! فغضب الباهليّ واختلط، فقال له بشّار: أنت منذ اليوم تزنّي أمّه ولا يغضب، فما غضبك أنت؟ فقال له: وأمّه مثل أمّي يا أبا معاذ؟! فضحك بشّار ثم قال: والله لو أنّ أمّك أمّ الكتاب ما حصل بينكما هذه المصارمة كلّها! وعن أبي جعفر الأسدي قال: مدح بشّار المهديّ فلم يعطه شيئا فقيل له إنه لم يستجد شعرك! فقال: والله لقد قلت فيه شعرا لو قلته في الدهر لم يخش صرفه على أحد، ولكنّا نكذب في القول فنكذب في الأمل. وعن محمد بن الحجّاج قال؛ قدم بشّار الأعمى على المهديّ فدخل عليه في بستان فأنشده مديحا يقول فيه (من المنسرح): كأنّما جئته أبشّره … ولم أجيء راغبا ومجتلبا يزيّن المنبر الأشمّ بعط … فيه وأقواله إذا خطبا تشمّ نعلاه في الندى كما … يشمّ ماء الريحان منتهبا

قال؛ فأعطاه خمسة آلاف درهم وكساه وحمله على بغل، وجعل له وفادة في كلّ سنة، ونهاه عن التشبيب بالنساء بتّة. ثم قدم عليه في السنة الثانية فدخل عليه فأنشده قصيدة طويلة يقول في أوّلها (من الطويل): تجاللت عن فهر وعن جارتي فهر … وودّعت نعمى بالسلام وبالبشر منها (من الطويل): وأخرجني من وزر خمسين حجّة … فتى هاشميّ يقشعرّ من الوزر دفنت الهوى حيا فلست بزائر … سليمى ولا عفراء ما قرقر القمري ومصفرّة بالزعفران جلودها … إذا اجتليت مثل الهرقلية الصفر (80) وغيرى ثقال الردف هبّت تسبّني … ولو شهدت قبري لصلّت على قبري تركت لمهديّ الأنام رضابها … وراعيت عهدا بيننا ليس بالختر ولولا أمير المؤمنين محمّد … لقبّلت فاها أو لكان بها فطري لعمري لقد أوقرت نفسي خطيئة … فما أنا بالمزداد وقرا على وقر وهي طويلة امتدح بها المهديّ فأعطاه عادته ولم يزده شيئا. وعن عمر بن شبّة أنّ بشّارا حضر مجلسا لصديق له يقال له عمرو بن عثمان، فقال له: أنشدنا يا أبا معاذ شيئا من غزلك! فأنشأ يقول (من البسيط): وقائل هات شوّقنا فقلت له … أنائم أنت يا عمرو بن عثمان أما سمعت بما قد شاع في مضر … وفي الخليفين من بكر وقحطان

قال الخليفة لا تنسب بجارية … إيّاك إيّاك أن تشقى بعصيان وعن إبراهيم التمّار البصري، قال، دخل المهديّ إلى بعض حجر الحرم فنظر إلى جارية منهنّ تغتسل فلمّا رأته حصرت ووضعت يدها على حرها فأنشأ المهديّ يقول: نظرت عيني لحيني. ثم أرتج عليه فقال: من بالباب من الشعراء؟ قالوا: بشّار! فأذن له فدخل عليه، فقال: ويحك يا أعمى أجز: نظرت عيني لحيني! فقال مبادرا (من مجزوء الرمل): نظرت عيني لحيني … نظرا وافق شيني سترت لمّا رأتني … دونه بالراحتين فضلت منه فضول … تحت طيّ العكنتين فقال المهديّ: قبّحك الله! أكنت ثالثنا؟! ثم ماذا؟ فقال (من مجزوء الرمل): فتمنّيت وقلبي … للهوى في زفرتين (81) أنني كنت عليه … ساعة أو ساعتين فضحك المهديّ وأمر له بجائزة فقال: يا أمير المؤمنين! أقنعت من مثل هذه الصفة بساعة أو ساعتين؟! قال: فكم ويلك؟ قال: سنة أو سنتين! فقال: اخرج قبّحك الله! فخرج بالجائزة. وعن محمد بن الحجّاج قال، جاءنا بشّار يوما فقلنا له: ما لك مغتمّا؟ قال: مات حماري فرأيته في النوم فقلت له: متّ وقد كنت أحسن إليك! فقال (من مجزوء الرمل): سيّدي خذ بي أتانا … عند باب الإصفهاني تتمشّى ببيان … وبدلّ قد شجاني

تتثنّى بقوام … بثناياها الحسان وبغنج ودلال … سلّ جسمي وبراني ولها خدّ أسيل … مثل خدّ الشنفراني فلذا متّ ولو عش‍ … ت إذن طال هواني فقلنا له: ما الشنفران يا أبا معاذ؟ فقال: ما يدريني! هذا من غريب الحمار، فإذا لقيته فسله عنه! وعن عافية بن شبيب قال: كان لبشّار مجلس يجلس فيه بالعشيّ يقال له البردان: فدخل إليه نسوة في مجلسه يسمعن شعره فعشق امرأة منهنّ وقال لغلامه: عرّفها محبّتي لها، واتبعها إذا انصرفت حتّى تعرف منزلها! ففعل الغلام وأخبرها أمره فلم تجبه إلى ما أحبّ. فكان الغلام يتردّد إليها حتّى برمت منه فشكته إلى زوجها فقال لها: أجيبيه وعديه الدار يجئك إلى هاهنا! ففعلت وجاء بشّار مع رسولها فدخل وزوجها جالس وهو لا يعلم به فجعل يحادثها ساعة ثم قال لها: ما اسمك بأبي أنت؟! فقالت: أمامة! (82) فقال (من الوافر): أمامة قد وصفت لنا بحسن … وإنّا لا نراك فألمسينا قال: فأخذ زوجها يده فوضعها على أيره وقد أنعظ ففزع بشّار ووثب قائما وقال (من الوافر): عليّ أليّة ما دمت حيا … أمسّك طائعا إلاّ بعود ولا أهدي لأرض أنت فيها … سلام الله إلاّ من بعيد طلبت غنيمة فوضعت يدي … على أير أشدّ من الحديد

ذكر سنة ثمان وستين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

فخير منك من لا خير فيه … وخير من زيارتكم قعودي ووثب زوجها عليه وقال: هممت أن أفضحك! فقال له: قد كفاك- فديتك-ما فعلت بي! ولست-والله-عائدا إليها أبدا فحسبك ما جرى! فتركه. ذكر سنة ثمان وستين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان فقط. ومبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وأحد عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المهديّ محمد بن عبد الله المنصور بالله. وموسى بن مصعب بحاله إلى أن قتل قتلته العبسيّة في شرح مطوّل، فولي مكانه صاحب شرطته عسّامة بن عمرو. ثم ولي الفضل بن صالح والقاضي غوث إلى أن توفّي في هذه السنة فولي مكانه المفضّل بن فضالة بن عبيد القتباني. قتل المهديّ بشّارا، وسبب ذلك أنه أوّل ما تغيّر عليه حين بلغه قال (من الكامل):

قاس الهموم تنل بها نجحا … والليل إنّ وراءه صبحا لا يؤيسنّك من مخبّأة قول تغلّظه وإن جرحا … عسر النساء إلى مياسرة والصعب يمكن بعد ما جمحا (83) قال؛ فأحضره وقال له: يا عاض بظر أمّه! أتحضّ الناس على الفجور، وتقذف المحصنات المخبّآت؟! والله إن قلت بعدها بيتا واحدا في تشبيب لآتينّ على نفسك! وعن عليّ بن محمّد-وهو الصحيح-قال: خرج بشّار إلى المهديّ ويعقوب بن داود حينئذ وزيره فمدحه ومدح يعقوب فلم يحفل به يعقوب، ولم يعطه شيئا. ومرّ يعقوب ببشّار يريد منزله فصاح به بشّار: *طال الثواء على رسوم المنزل* فأجابه يعقوب: *فإذا تشاء أبا معاذ فارحل* فغضب بشّار وقال يهجوه (من البسيط): بني أمية هبّوا طال نومكم … إنّ الخليفة يعقوب بن داود ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا … خليفة الله بين الزقّ والعود قال النوفلي: فلمّا طالت أيام بشّار على باب يعقوب دخل عليه، وكان من عادته إذا إراد أن ينشد يتفل عن يمينه وشماله ويصفّق بيديه ففعل ذلك، وأنشد (من الكامل): يعقوب قد ورد العفاة عشيّة … متعرّضين لسيبك المنتاب فسقيتهم وحسبتني كمّونة … نبتت لزارعها بغير شراب مهلا فدى لك إنني ريحانة … فاشمم بأنفك واسقها بذناب طال الثواء على تنظر حاجة … شمطت لديك فمر لها بخضاب تعطي الغزيرة درّها فإذا أبت … كانت ملامتها على الحلاّب

فقيل إنه يقول ليعقوب: أنت من المهديّ بمنزلة الحالب من الناقة (84) الغريزة الدرّ التي إن لم يوصل إلى درّها فليس ذلك من قبلها إنما هو من منع الحالب منها، وكذلك الخليفة ليس المنع منه لسعة معروفه وإنما هو من قبل السبب. قال: فلم يعطف ذلك يعقوب. ثم إنه امتدح المهديّ بقصيدته المقدّم ذكرها التي أوّلها (من مجزوء الكامل): يا منظرا حسنا رأيته … من وجه جارية فديته فحرمه أيضا فلمّا يئس من جوائز الخليفة هجاه وأنشد ذلك في حلقة يونس قصيدة منها (من السريع): خليفة يزني بعمّاته … يلعب بالدبوق والصولجان أبدلنا الله به غيره … ودسّ موسى في حر الخيزران فسعي به إلى يعقوب بن داود، وكان قبلها قد بلغه هجاؤه إيّاه فحمله الأمر فدخل على المهديّ فقال له: يا أمير المؤمنين! أبلغ من قدر هذا الأعمى الزنديق الملحد بشّار أن يهجو أمير المؤمنين؟! قال: بأي شيئ؟ قال: بما لا ينطق به لساني ولا يتوهّمه فكري! فقال: بحياتي أنشدني! فقال: والله لو خيّرتني بين إنشادي إيّاه وبين ضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي! فحلف عليه المهديّ بالأيمان التي لا فسحة له فيها أن يخبره فقال: أمّا لفظا فمعاذ الله، ولكنّي أكتب ذلك! فكتبه ودفعه إليه فكاد المهديّ ينشقّ غيظا، وعمل على الانحدار إلى البصرة للنظر في أمرها وما وكده غير بشّار. فانحدر، فلمّا كان بالبطيحة سمع أذانا في وقت أضحى النهار فقال: انظروا ما هذا الأذان! فإذا بشّار سكران. فقال: يا زنديق! يا عاضّ بظر أمّه! عجبت أن يكون هذا غيرك! أتلهو بالأذان في غير وقت صلاة وأنت سكران؟! ثم دعا بابن نهيك (85)

صاحب الزنادقة فأمره بضربه ضرب التلف فضربه بين يديه على صدر الحرّاقة سبعين سوطا أتلفه فيها فكان إذا أصابه السوط يقول: حسّ، وهي كلمة تقولها العرب للشيئ الموجع المؤلم. فقال بعضهم: أنظر إلى زندقته كيف يقول حسّ ولا يقول بسم الله! فقال له: يا جاهل! أطعام هو فأسمّي عليه حتّى يبارك لي فيه؟! فقال آخر: أفلا قلت الحمد لله؟ فقال: أو نعمة هي فأحمد الله عليها؟! فلمّا تبيّن فيه الموت طرح في سفينة حتّى مات ثم رمي به في البطيحة فجاء بعض أهله فحملوه إلى البصرة ودفن فيها. وعن محمّد بن الحجّاج قال؛ لمّا ضرب بشّار وطرح في السفينة قال: ليت عين أبي الشمقمق رأتني حين يقول (من مجزوء الرمل): إنّ بشّار بن برد … تيس أعمى في سفينه وعن أحمد بن خلاّد عن أبيه قال، مات بشّار سنة ثمان وستين ومائة، وقد بلغ نيّفا وتسعين سنة. وعن ابن مهرويه قال، حدّثني أبي قال، لمّا ضرب المهديّ بشّارا بعث إلى منزله من يفتّشه-وكان يتّهم بالزندقة-فوجد في منزله طومارا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. أردت هجاء آل سليمان بن عليّ لبخلهم فذكرت قرابتهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأمسكت عنهم إجلالا له صلّى الله عليه وسلم، على أنّي كنت قد قلت (من البسيط): دينار آل سليمان ودرهمهم … كبابليّين حفّا بالعفاريت لا يبصران ولا يرجى لقاؤهما … كما سمعت بهاروت وماروت فلمّا قرأه المهديّ بكى وندم على قتله، وقال: لا جزى الله يعقوب خيرا فإنه لمّا هجاه لفّق عندي شهودا على أنه زنديق فقتلته ثم ندمت حين لا ينفع الندم.

(86) ذكر سنة تسع وستين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

<قيل للجاحظ: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول (من الخفيف): ما هجرت المدام والزير والب‍ … مّ بطوع لكن برغم وكره منعتني من الثلاثة من لو … قتلتني لم أقل والله من هي قالت البدر والمدامة والور … ورضابي ولون خدّي ووجهي قلت بخلا بكلّ شيئ فقالت … لا ولكن بخلت بي وبشبهي قلت يا ليتني شبيهك قالت … إنما يقتل المحبّ التشهيّ> (86) ذكر سنة تسع وستين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وخمسة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المهدي محمد بن عبد الله المنصور بالله إلى حين وفاته في هذه السنة في تاريخ ما يذكر. والفضل بن صالح على مصر. والقاضي المفضّل بن فضالة بحاله. توفّي المهديّ رحمه الله بقرية من قرى ما سبذان يوم الأربعاء لسبع بقين من المحرّم سنة تسع وستين ومائة، وله يومئذ اثنان وأربعون سنة وسبعة أشهر وأيام، وصلّى عليه الرّشيد ابنه.

ذكر خلافة موسى الهادي بن محمد المهدي بالله بن المنصور

صفته: أسمر، طويل، معتدل الخلق، بعينه اليمنى بياض. قضاته: محمد بن عبد الله بن علاثة، وعافية بن يزيد. وزراءه: أبو عبد الله ابن يسار، ثم يعقوب بن داود، ثم الفيض بن صالح. حجابه: الحسن بن عثمان، والفضل بن الربيع، وسلام الأبرص. نقش خاتمه: رضيت بالله ربّا. ذكر خلافة موسى الهادي بن محمد المهدي بالله بن المنصور هو أبو عبد الله وقيل أبو محمد موسى بن محمد المهدي بالله بن عبد الله المنصور. وباقي نسبه قد علم. ويلقّب موسى أطبق؛ وذلك أنه كان بشفته العليا تقلّص فوكّل به خادم يلزمه يقول: موسى أطبق! لتستقرّ عادته على طبق فاه فلزمه هذا اللقب. وكان شجاعا بطلا جوادا صعب المرام، إذا غضب يزول

عقله ويتبيّن فيه كالجنون. ويلقّب أيضا المخدوع لهذا السبب. أمّه أمّ ولد من مولّدات المدينة يقال لها خيزران. وقيل هي بنت عبد العزيز بن طارقة الحرشي. وهي إحدى الثلاثة اللاتيّ (87) كلّ منهنّ ولدت خليفتين كما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. بويع له بمدينة السلام وهو مقيم بحرّان في شهر الله المحرّم من هذه السنة. وكان وليّ عهد أبيه المهدي وبعده الرشيد هارون أخوه. وأقام له البيعة أخوه الرشيد ببغداد وبعث بها إليه مع نصير مولاه. خلافته سنة وشهرا وأياما. تزوّج أمة العزيز فأولدها يحيى ثم رحيم فأولدها جعفرا-وهو الذي قصد أن يأخذ له البيعة ويخلع أخاه الرشيد حسبما تقدّم من الكلام في ذلك؛ وشغوف فأولدها العبّاس. اشترى جارية بألف دينار، وكانت شاعرة، وشغف بها شغفا شديدا دون سائر نسائه، ورزق منها عدة بنات منهنّ أمّ عيسى تزوّجها المأمون. وكان له من أمّهات الأولاد عبد الله وإسحاق وإبراهيم. وكان شرّيرا. ومن نكت التاريخ أنه ذكر بحضرته ذات يوم من بعض ندمانه أنه قال ما يمضي يوم من الدهر على أحد إلاّ ولا بدّ من نكد يحصل له فقال الهادي: هذا كلام مستحيل! أنا قادر على أن تمضي عليّ أيام بغير نكد ثمّ إنه أمر من الغد أن يهيّأ له مجلس في قصره الأبيض، ويوضع فيه جميع ما يحتاج إليه من سائر الطيبات من المآكل والمشارب وسائر أنواع الرياحين، وأن لا يرفع إليه أحد خبرا من أخبار الدنيا، ولا يدخل عليه داخل. واختلى مع تلك الجارية التي كان مشغوفا بها في ذلك المجلس المهيّأ له، وعاد معها في ألذّ عيش وأهناه تغنّي له وتسقيه ولم يكن بينهما ثالث، ولا دخل عليهما داخل، ولا طولع بخبر. ولم يزالا على مثل ذلك إلى أن تقوّض النهار فبينا هما كذلك إذ أخذت الجارية حبّة رمّان للتنقّل بها فشرقت بها وفاضت نفسها من وقتها وساعتها. فحصل عليه من ذلك ما لا يحصل (88) على بشر، ومشى في جنازتها إلى

ذكر سنة سبعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

مقابر قريش، ولم ير بعدها ضاحكا حتّى لحق بها بعد أيام قلائل. والله أعلم. ذكر سنة سبعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة الهادي موسى بن محمد المهدي بالله ابن المنصور إلى حين وفاته في هذه السنة في تاريخ ما يأتي. وكان قد ولّى عليّ بن سليمان الهاشمي عوضا عن الفضل بن صالح على حرب مصر وخراجها. والقاضي المفضّل بن فضالة بحاله. توفّي الهادي رحمه الله بعيساباذ في قصره الذي سمّاه الأبيض ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول من هذه السنة، وله خمس وعشرون سنة وشهور. وصلّى عليه أخوه الرشيد. صفته: أبيض، جسيم، حسن الوجه، بشفته العليا تقلّص، طويل. قاضيه: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، وسعيد بن عبد الرحمان.

ذكر خلافة هارون الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور، وما لخص من أخباره

وزراؤه: محمد بن جميل وبعده: يحيى بن خالد، وربيع بن يونس، وعمر بن بزيع. حاجبه: الفضل بن الربيع مولاه. نقش خاتمة: الله ثقة موسى وبه يؤمن. ذكر خلافة هارون الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور، وما لخّص من أخباره هو أبو محمّد وقيل أبو جعفر هارون بن محمد بن عبد الله المنصور بالله. وباقي نسبه قد علم. أمّه الخيزران أمّ أخيه الهادي، وفيها شعر (من الوافر): يا خيزران هناك ثمّ هناك … أمسى العباد يسوسهم إبناك كان الرشيد ينعت المظفّر والموفّق والمؤيّد. وسمّى هو نفسه (89) الغازي والحاجّ، وكتب ذلك على قلنسوة له. وبويع له بمدينة السلام في شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وله يومئذ اثنان وعشرون سنة ونصف سنة. وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرين وستة عشر يوما. ويقال إنه بويع يوم الجمعة-وهو اليوم الذي مات فيه أخوه الهادي وهي الليلة التي مات فيها خليفة، وولي خليفة، وولد خليفة: مات الهادي، وولي الرشيد، وولد المأمون.

تزوّج زبيدة واسمها أمة العزيز وتكنّى أمة الواحد، وزبيدة لقب لها، وتكنّى أمّ جعفر بنت جعفر بن المنصور أولدها محمد الأمين. ومراجل أمّ ولد أولدها عبد الله المأمون. وماردة أولدها محمد المعتصم وقيل اسمه أحمد المعتصم. ونادرة وأولدها صالحا. ولمّا أفضى إليه الأمر سلّم عليه عمّه وعمّ أبيه وعمّ جدّه في وقت واحد. وذلك أنّ سليمان بن المنصور عمّه، والعبّاس بن محمّد بن علي عمّ أبيه، وعبد الصمد بن عليّ عمّ جدة المنصور. وذكر الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب شذور العقود أنه كانت في عبد الصمد بن علي عدة عجائب؛ منها أنه ولد في سنة أربع ومائة، وولد أخوه محمد بن علي والد السفّاح والمنصور في سنة ستين للهجرة فبينهما في المولد أربع وأربعون سنة. وتوفّي محمد في سنة ست وعشرين ومائة، وتوفّي عبد الصمد في سنة خمس وثمانين ومائة فكان بينهما في الوفاة تسع وخمسون سنة. ومنها أنه حجّ يزيد بن معاوية في سنة خمسين هجرية، وحجّ عبد الصمد بالناس سنة خمسين ومائة فبينهما مائة سنة وهما في النسب إلى عبد مناف سواء؛ لأنّ يزيد بن معاوية بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف؛ فبين يزيد وعبد مناف خمس جدود. وعبد الصمد (90) ابن عليّ بن عبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف؛ فهذه من نكته أيضا. ومنها أنه أدرك السفّاح والمنصور وهما ابنا أخيه. ثم أدرك المهدي وعبد الصمد عمّ أبيه. ثم أدرك الهادي وعبد الصمد عمّ جدّه. ثم أدرك الرشيد وفي أيامه مات رحمه الله

ذكر سنة إحدى وسبعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

عليه. وقيل إنه مات بأسنانه التي ولد بها، ولم يثغر، وكانت قطعة واحدة من أسفل. وأمّه كثيرة التي يقول فيها عبيد الله بن قيس الرقيّات الشاعر (من المنسرح): *عاد له من كثيرة الطرب* وهي من القصائد الحسان المشهورة بجودة الشعر. وعمي آخر عمره. انتهى كلام ابن الجوزي فيه. وقرأت في بعض الكتب أنّ من جملة عجائبه أيضا أنه دخل غارا فصادفت عيناه شيئا خرج من ذلك الغار فخرجا جميعا فكان سبب عماه. والله أعلم. ذكر سنة إحدى وسبعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة الرشيد هارون بن محمد المهدي بالله بن المنصور. وعزل علي بن سليمان عن مصر وولّى مكانه موسى بن عيسى حربا وخراجا. وأبو الطاهر القاضي بها يومئذ. روي أنه حضر إلى الرشيد شاعر باهليّ فامتدحه بقصيدة استكثرها الرشيد

ذكر سنة اثنتين وسبعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

من مثل ذلك الأعرابي لإعجابه بها؛ فقال: لست أظنّك صاحبها! فإن كنت كذلك فقل في هذين-وأشار إلى الأمين والمأمون وهما قائمان بين يديه-فقال (91) الأعرابي: يا أمير المؤمنين! لقد حمّلتني شططا، وسلكت بي وعرا، وأوردتني أجاجا هيبة الملك وأبّهة الخلافة، مع دهشة القدوم، وتشريد القافية. فقال الرشيد: حسبك! ففي كلامك هذا دليل على فراهتك! فقال: الآن اطمأنّ القلب وطاب القول، وأنشأ يقول (من الطويل): بنيت بعبد الله بعد محمد … ذرى قبّة الإسلام فاخضرّ عودها هما طنباها بارك الله فيهما … وأنت أمير المؤمنين عمودها فقال: وأنت بارك الله فيك. سل حاجتك ولا تكن دون إحسانك! فقال: يد أمير المؤمنين بالعطاء أطلق من لساني بالقول! فأعجب الرشيد بهاتين الكلمتين وردّدهما مرارا، ثم أمر له بهنيدة معجّلة فخرج أغنى أهل بيته. وهنيدة مائة من الإبل برعاتها. والله أعلم. ذكر سنة اثنتين وسبعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وإصبعان. ما لخّص من الحوادث الخليفة الرشيد هارون بن محمد المهدي بن المنصور بالله. وعزل موسى بن عيسى، وولّى حرب مصر مسلمة بن يحيى، وولّى خراجها عمر بن غيلان. وأبو الطاهر قاضيا بحاله.

وعن العبّاس بن الفضل بن الربيع قال، حلف الرشيد لا يدخل إلى حظية له أياما، وكان لها مكان في قلبه، فمضت الأيام ولم تسترضه، فأحضر جعفر بن يحيى وعرّفه الخبر وأنشده شعرا عمله وقال: أجزه لي، وهو (من الرمل): صدّ عنّي إذ رآني مفتتن … وأطال الصبر لمّا أن فطن كان مملوكي فأضحى مالكي … إنّ هذا من أعاجيب الزمن فقال جعفر: يا أمير المؤمنين! إنّ أبا العتاهية محبوس بلا جرم وهو أقدر الناس على أن يأتي بشيئ مليح في هذا المعنى. قال: وجّه إليه البيتين ودعه يجزهما! فوجّه بهما إليه فلمّا قرأهما أبو العتاهية كتب تحتهما يقول (من الرمل): ضعف المسكين عن تلك المحن … لهلاك الروح منه والبدن ولقد كلّفت شيئا عجبا … زاد في النكبة واستوفى المحن قيل فرّحنا ويأبى فرح … أن يواتيني من بيت الحزن فلمّا قرأ الرشيد الأبيات استحسنها وأمر بإطلاقه وصلته وحضوره فحضر فقال: أحزنتني! قال: الآن أطاع الفكر وطاب القول، وقال (من الرمل):

ذكر سنة ثلاث وسبعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

عزّة الحبّ أرته ذلّتي … في هواه إذ له وجه حسن فلهذا صرت مملوكا له … ولهذا شاع أمري وعلن فقال الرشيد: جئت بما في نفسي، وأحسن إليه. ذكر سنة ثلاث وسبعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وثلاثة أصابع ونصف. ما لخّص من الحوادث الخليفة الرشيد هارون بن محمد المهدي بن المنصور. وعزل مسلمة وولّى مكانه على مصر محمد بن زهير، ثم عزله وولّى مكانه داود بن حاتم؛ وعمر بن غيلان بحاله، وكذلك القاضي أبو طاهر. وكان أبو العتاهية قد اعتقله المهدي في سنة توفّي فيها. وسبب ذلك ما روي عن عبد الرحمن بن عيينة الديلي قال؛ حدّثني يزيد حوراء وكان يغنّي بحضرة المهديّ، قال، كلّمني أبو العتاهية (93) في أن أكلّم المهديّ في عتبة، فقلت له: أمّا الكلام فلا يمكنني، ولكن قل شعرا أغنّيه به في وقت أريحيته فقال (من البسيط):

نفسي بشيئ من الدنيا معلّقة … الله والقائم المهديّ يكفيها إني لأيأس منها ثمّ يطمعني … فيها احتقارك للدنيا وما فيها قال؛ فعملت فيه لحنا وغنيته فقال: ما هذا؟ فأخبرته خبر أبي العتاهية فقال: ننظر فيه! فأخبرت بذلك أبا العتاهية ثم مضى شهر فجاءني فقال: هل حدث خبر؟ فقلت: لا! قال: فاذكرني! قلت: إن أحببت ذلك فقل شعرا تحرّكه به، فقال (من الخفيف): ليت شعري ما عندكم ليت شعري … فلقد أخّر الجواب لأمر ما جواب أولى بكلّ جميل … من جواب يردّ من بعد شهر قال يزيد: فغنيت به المهديّ فقال: عليّ بعتبة! فأحضرت، فقال: إنّ أبا العتاهية كلّمني فيك فما تقولين؟ وعندي لك وله كلّ ما تحبّان مما لا تبلغه أمانيكما! فقالت: علم أمير المؤمنين أعزّه الله ما أوجب الله عليّ من حقّ مولاتي، وأريد أن أذكر ذلك لها! قال: فافعلي! ففعلت ثم جاءت فقالت: ذكرت ذلك لمولاتي فكرهته وأبته فليفعل أمير المؤمنين ما يريد. فقال: ما كنت لأفعل شيئا تكرهه! قال يزيد: فأخبرت أبا العتاهية فقال (من الكامل): قطّعت منك حبائل الآمال … وأرحت من حلّ ومن ترحال ما كان أشأم إذ رجاؤك قاتلي … ونبات وعدك يعتلجن ببالي ولئن طمعت لربّ برقة خلّب … مالت على طمع ولمعة آل قال؛ وأكثر أبو العتاهية من ذكر عتبة والتشبيب بها حتّى عادت في أفواه أهل بغداد فسعوا به إلى المهديّ حتى اعتقله. والله أعلم. (94)

ذكر سنة أربع وسبعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة أربع وسبعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة الرشيد هارون بن محمد المهدي بن المنصور. وداود بن حاتم على حرب مصر. وعزل عمر بن غيلان عن الخراج، وولّى الربيع بن سليمان. واستعفى القاضي أبو طاهر فولي القضاء المفضّل بن فضالة ثاني ولاية. ومن أخبار أبي العتاهية ما روي أنّه كان سبب اعتقاله بعد موت المهديّ، وأنّ الهادي اعتقله لمّا بلغه أنه قال أبياتا عند موت المهديّ! فقال الهادي إنه لشامت به كونه لم يوصله لعتبة فاعتقله! وهذه الأبيات (من الرمل): خانك الطرف الطموح … أيّها القلب الجموح لدواعي الخير والشرّ (م) … دنوّ ونزوح أحسن الله بنا أنّ (م) … المعاصي لا تفوح وهذا البيت الذي أخذ عليه فيه. وذلك أنّ المهديّ كان يتّهم بمحبة عمّته فعرّض أبو العتاهية في هذا البيت بشيئ من ذلك (من مجزوء الرمل): فإذا المستور منّا … بين جنبيه فضوح

نح على نفسك يا مسك‍ … ين إن كنت تنوح لتموتنّ ولو عمّر … ت ما عمّر نوح سيصير الحيّ منا … جسدا ما فيه روح من عيني كلّ حيّ … علم الموت يلوح موت بعض الناس في الأر … ض على بعض فتوح كم عزيز قد رأينا … طويت عنه الكشوح صاح فيه بفناء … صائح الدهر الصيوح كلّ نطّاح من النا … س له يوم نطوح هل لمطلوب بذنب … توبة منه نصوح وقال أيضا من أبيات (من مجزوء الكامل): وعظتك أجداث بهت … زجرتك أموات رفت فأرتك قبرك في القبو … ر وأنت حيّ لم تمت يا شامتا بمنيّتي … إنّ المنية لم تمت (95) وفيها توفّيت الخيزران والدة الرشيد بالله ومشى في جنازتها إلى مقابر قريش. وقيل إنها توفيت في سنة ثلاث وسبعين. والله أعلم.

ذكر سنة خمس وسبعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة خمس وسبعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة الرشيد بالله هارون بن محمد بن المنصور. وعزل الربيع عن مصر، وأعاد موسى بن عيسى الولاية الثانية بمصر حربها وخراجها. والقاضي المفضّل بن فضالة قاضيا بحاله. ومن أشعار أبي العتاهية في الزهد (من الخفيف): خلّ عنّا حديث سعدى ولبنى … وانظر القبر كيف يعقد لبنا واعتبر يا خيّ وعنّ عن الله‍ … وفإنّ السعيد من عن اللهو عنّا كم حملنا إلى القبور حبيبا … ودفنّا أبا وإبنا وأبنا لو علمنا أنّا نموت يقينا … ورأينا القبور تبنى لتبنا كلّ يوم خلّ يرحّل عنّا … وديار معطّلات ومغنى وحبيب فريسة للمنايا … تحتويه كأنه ليس منّا أعلمتنا صروفها حادثات … لو علمنا يوما بما قد علمنا هذه الأرض أمّنا وأبونا … حملتنا بالكره ظهرا وبطنا إنما المرء فوقها فهو لقط … فإذا صار تحتها صار معنى وله (من الوافر):

كفى حزنا بدفنك ثم إني … نفضت تراب قبرك من يديّا وكانت في حياتك لي عظات … وأنت اليوم أوعظ منك حيّا قيل لبعض الحكماء: ما أبلغ العظات؟ قال: النظر إلى محلّة الأموات. (96) حدّثني سيّدي الشيخ أحمد بن محمد الدمشقي رفيق الشيخ شعبان قدّس الله روحهما في دمشق بجامع بني أمية سنة اثنتي عشرة وسبعمائة قال، مررت في سياحتي في بلاد بخارى بالجبّانة فنظرت إلى قبر أعجبتني هيئته يدلّ على أنّ صاحبه ملك، ورأيت عليه مكتوبا بالفارسي هذه الأبيات (من المنسرح): يا أيّها الناس كان لي أمل … قصّر بي عن بلوغه الأجل فليتّق الله ربّه رجل … أمكنه في حياته العمل ما أنا وحدي نقلت حيث ترى … كلّ إلى مثله سينتقل فقال الشيخ شعبان رضي الله عنه، وقرأت أيضا على قبره الأبيات (من الكامل): يا ساكنا سكن البلى وبقيت … لو أفن من جزع عليك فنيت يعزز عليّ بأن أراك بمنزل … سكّانه حتّى المعاد صموت الحيّ يكذب لا صديق لميّت … لو كان يصدق مات حين يموت فقمت من عندهما وقد أتحفانا بأشرف تحفة حفظت عنهما. سقى الله عهدهما!

ذكر سنة ستة وسبعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة ستة وسبعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وستة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة الرشيد هارون بن محمد المهدي بن المنصور. وعزل موسى بن عيسى، وولي إبراهيم بن صالح على الحرب، وعمر بن غيلان على الخراج. وتوفي إبراهيم بن صالح وولي ابن المسيّب. والقاضي بحاله. وكان أبو العتاهية أكثر شعره في الزهد فمن ذلك قوله (من الخفيف): مبتدانا ومنتهانا سواء … فلماذا من الأخير عجبنا (97) قد وجدنا من بعد ما قد عدمنا … وعدمنا من بعد ما قد وجدنا واللبيب اللبيب من وعظته … ألسن الردى وإن كنّ كنّا فكأنّا لغير ذاك خلقنا … وسواء لجمع ذلك تعنى كلّنا نجعل الظنون يقينا … ويقين الأمور نجعل ظنّا قيل إنّ أبا العتاهية قال لبشّار: إني لأستحسن قولك إذ تقول (من مجزوء الكامل): كم من صديق لي أكا … تمه البكاء من الحياء فإذا تأمّل لامني … فأقول ما بي من بكاء

ذكر سنة سبع وسبعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

لكن ذهبت لأرتدي … فطرفت عيني بالرداء فقال له بشّار: أنت أشعر مني إذ تقول (من الوافر): وقالوا قد بكيت فقلت كلاّ … وهل يبكي من الجزع الجليد ولكنّي أصاب سواد عيني … عويد قذى له طرف حديد ذكر سنة سبع وسبعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة الرشيد بالله هارون بن محمد المهدي بالله بن المنصور. وعزل عبد الله بن المسيّب وولّى إسحاق بن سليمان حرب مصر وخراجها. وعزل القاضي المفضّل وولّى مكانه محمد بن مسروق الكندي. فيها فتحت هرقلة وهي كرسيّ مملكة الروم، وأصاب الناس منها مالا عظيما.

ذكر سنة ثمان وسبعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

وعن محمد بن يزيد المبرّد قال، حدّثني بعض حاشية السلطان (98) قال، غنّى إبراهيم الموصلي بحضرة الرشيد يوما (من البسيط): يا ربع سلمى لقد هيّجت لي طربا … زدت الفؤاد على علاّته وصبا فأعجب به الرشيد وطرب واستعاده مرارا! فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين! لو سمعته من عبدك مخارق فإنه أخذه عنّي وهو يفضل الخلق جميعا فيه، ويفضلني أيضا، فأمر بإحضاره فأحضر فغنّى: *يا ربع سلمى لقد هيّجت لي طربا* فبكى الرشيد وقال: سل حاجتك! فقال مخارق: تعتقني يا أمير المؤمنين وتشرّفني بولائك أعتقك الله من النار! قال: أنت حرّ لوجه الله، أعد الصوت! فأعاده ثانيا فبكى الرشيد وقال: سل حاجتك! فقال: ضيعة تقيمني غلّتها يا مولاي! قال لك ذلك، أعد الصوت! فأعاده فبكى وقال: حاجتك سلها! قال: منزل بفراشه وما يصلحه وخادم! قال: لك ذلك، أعد الصوت! فأعاده فبكى وقال: سل حاجتك! فقال: حاجتي أن يطيل الله بقاءك يا أمير المؤمنين، ويديم عزّك، ويجعلني من كلّ سوء فداك. قال: وكان مخارق إذا غنّى هذا الصوت يقول أنا عتيق هذا. ذكر سنة ثمان وسبعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع فقط. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة الرشيد بالله بن المهدي بالله بن المنصور بالله. وفيها عزل إسحاق بن سليمان عن مصر وولّى عبيد الله بن المهدي. ثم عزله وردّ عبد الله بن المسيّب إلى مصر على عادته. والقاضي محمد بن مسروق الكندي بحاله. (99) فيها أحضر أبو عبيدة-وهو معمر بن المثنّى-الأصمعيّ إلى الرشيد. ذكر الأصمعي ونسبه وأشياء من طرفه هو عبد الملك بن قريب. وقريب لقب لأبيه. وإنما اسمه عاصم بن علي بن أصمع بن مظهّر بن رتاج؛ بنسب متصل إلى معدّ بن عدنان، وعرف بالأصمعي انتسابا إلى جدّه أصمع بن مظهّر. ويعرف بالباهلي. وإنما قيل له الباهلي وليس في نسبه باهلة لأنّ باهلة اسم امرأة مالك بن أعصر، وقيل: باهلة بن أعصر. وكان الأصمعي صاحب لغة ونحو ونوادر وملح وأخبار وغرائب. سمع شعبة بن الحجّاج والحمّادين ومسعر بن كدام وغيرهم. وروى عنه عبد الرحمن ابن أخيه عبد الله وأبو القاسم بن سلاّم وأبو حاتم السجستاني وأبو الفضل الرياشي وغيرهم. وهو من أهل البصرة، وقدم بغداد في أيام هارون الرشيد.

وقيل لأبي نواس الحسن بن هانئ الشاعر المعروف: قد أحضر أبو عبيدة الأصمعيّ إلى الرشيد! فقال أبو نواس: أمّا أبو عبيدة فإنهم إن مكّنوه قرأ عليهم أخبار الأولين والآخرين، وأمّا الأصمعيّ فبلبل يطربهم بنغماته. وقال عمر بن شبّة؛ سمعت الأصمعيّ يقول: أحفظ عشرة آلاف أرجوزة. وقال إسحاق الموصلي: لم أر الأصمعيّ يقول: أحفظ عشرة آلاف أرجوزة. وقال إسحاق المصولي: لم أر الأصمعيّ يدّعي شيئا من العلم فيكون أحد أعلم به منه. وقال الربيع بن سليمان، سمعت الشافعيّ رضي الله عنه يقول: ما عبّر أحد عن العرب بأحسن من عبارة الأصمعي. فمن طرفه؛ حكى الأصمعيّ قال، استطفت ببعض البيوت بالبادية فسمعت صبيّة إمّا سداسية العمر أو سباعية تقول (من الرجز): أستغفر الله لذنبي كلّه … قبّلت إنسانا بغير حلّه (100) شبه غزال ناعم في دلّه … وانتصف الليل ولم أصلّه قال، فقلت: قاتلك الله فما أفصحك من جويرية! فقالت: يا عمّ! أو بعد قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}؟ قد جمع بين أمرين ونهيين وبشارين في آية واحدة؛ أثّمّ بعدها فصاحة؟ قال الأصمعي: فكأنّي والله لم أسمع هذه الآية إلاّ منها فعمدت إلى ذهيب كان معي فدفعته إليها فقالت: أغد يا عمّ! كفاك الله ثلاثا: حرفة الحاذق، وحرمان المستحقّ، وكساد الحسناء. ثم قالت: كأني بك وقد حدّثت أمير المؤمنين الرشيد بهذه فعوّضك عن كلّ دينار أعطيتنيه مائة دينار. فقال الرشيد: وكم أعطيتها يا أصيمع؟ قال: عشرة دنانير يا أمير المؤمنين! فقال: قد رسمنا لك بما حكمت به الصبية. فراح الأصمعيّ بألف دينار.

ذكر سنة تسع وسبعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة تسع وسبعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة الرشيد بالله هارون بن محمد المهدي بن المنصور عبد الله. وخرج عبد الله بن المسيّب إلى العراق عن ولاية مصر، وعاد إليها موسى بن عيسى، وتقدّمه إلى مصر يحيى بن موسى ثم قدم موسى بعده. والقاضي محمد بن مسروق. فيها توفي الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، وله تسعون سنة، وقيل: تسع وثمانون سنة. وصلّى عليه ابن أبي ذئب. ومن نوادر الأصمعي (101) عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال، بينا نحن بحضرة الشيخ بمجلسه إذ وقف بنا أعرابيّ رثّ الهيئة، حسن الشمائل فسلّم ثم قال: أيّكم الأصمعي؟ فأشرنا إليه، فقال: أنت أبا سعيد عبد الملك بن قريب الذي تروي عن الأعراب، وتأخذ جوائز الخلفاء بأشعارك المبتدعة، وأخبارك المخترعة؟ فقال له: وما حاجتك يا أخا العرب؟ قال: أتنشدني شيئا مما تمتدحون به ملوككم؟ فابتدره بعض الجماعة وأنشده في مسلمة بن عبد الملك (من الطويل):

أمسلم أنت البحر إن جاء وارد … وليث إذا ما الحرب طار عقابها وأنت كسيف الهندوانيّ إن غدت … حوادث من دهر تعبّ عبابها وما خلقت أكرومة في امرئ … ولا عابة إلاّ إليك مآبها إليك رحلنا العيس ما لم نجد لها … أخي ثقة يرجى لديه ثوابها قال؛ فحرّك الأعرابيّ رأسه فظننّا أنّ ذلك إعجابا بما سمع. ثم قال: إنّ هذا الشعر خلق مهلهل خطاؤه أكثر من صوابه، كيف يجوز أن تمتدحوا ملوككم بمثل هذا وتشبّهونهم بالبحر وهو ملح غضامض لا يأمن راكبه، ويسفّه صاحبه، وتشبّهونه بالأسد وهو شثن المنظر أخشم أبخر يتلاعب به صبيان الحيّ، وتطرده الرعاة عن الموارد، وبالسيف ولربما نبا عن الضريبة، وخان في وقت الحقيقة، وبالجبل وهو حجر أصمّ لا يسمع ولا يعقل، ولم لا قلتم كما قال صبيّ من حيّنا؟! فقلنا له: وكيف قال صبيّ حيّكم؟ فقال (من البسيط): إذا سألت الورى عن كلّ مكرمة … لم يعز أعظمها إلاّ إلى الهول فتى جوادا أذاب المال نائله … فالنيل يشكر منه كثرة النيل لو ناظر الشمس ألفى الشمس كاسفة … أو زاحم الصمّ ألجاها إلى الميل (102) أمضى من النجم إن نابته نائبة … وعند أعدائه أجرى من السيل لا يستريح إلى الدنيا وزينتها … ولا تراه إليها ساحب الذيل يقصّر المجد عنه كلّ مكرمة … كما يقصّر عن أفعاله قولي قال؛ فبهتنا جميعا لما سمعنا. ثم إنه قال: لعلّ أن تنشدوني شعرا ترتاح إليه الروح، وتسكن إليه النفس؛ فابتدر بعض الجماعة وأنشد (من الطويل): وناعمة تجلو بعود أراكة … موشّرة يسبي المعانق طيبها كأنّ بها خمرا بماء غمامة … إذا ارتشفت بعد الرقاد غروبها أراك إلى نجد تحنّ وإنما … هوى كلّ نفس حيث حلّ حبيبها

ذكر سنة ثمانين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

فقال: ليس هذا ببعيد من الأول، وإنما يستره حسن رواية المنشد فلم لا قلتم كما قلت أنا؟ فقال الشيخ فما قلت أنت؟ جعلت فداك! فقال (من الطويل): تعشّقتها بكرا وعلّقت حبّها … فقلبي عن كلّ الورى فارغ بكر إذا احتجبت لم يكفك البدر ضوءها … وتكفيك ضوء البدر إن حجب البدر وحسبك من خمر يغويك ريقها … وو الله ما من ريقها حسبك الخمر ولو أنّ جلد الذرّ لا مس جلدها … لكان لجلد الذرّ في جلدها أثر وما الصبر عنها إن وجدت بهيّن … وهل <صبوة> في مثلها يحسن الصبر ولو لم يكن للبدر ضدّ جمالها … وتفضله في حسنه لصفا البدر قلت: لو كتب هذان الشعران بالغوالي في خدود الغواني، وبأنامل الحور على ورق النور، وبدموع الهجران على صفحات الحسان، أو بريش الجفون من سواد العيون، وبدموع الصدود على بياض الخدود (103) لكانا مستحقّهما، ولم يصلا إلى حقّيهما. ذكر سنة ثمانين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وتسعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة الرشيد بالله هارون بن محمد المهدي. وعزل موسى بن عيسى عن مصر وأعاد عبد الله بن المسيّب، وقيل: بل عبيد الله بن المهدي-وهو

ذكر سنة إحدى وثمانين ومائة (104) النيل المبارك في هذه السنة

الصحيح. والقاضي مسروق بحاله. فيها حجّ الرشيد ماشيا حافيا لنذر كان عليه. وكان يقف حول البيت، وينادي: يا ربّ! أنت أنت، وأنا أنا! أنت العزيز وأنا الذليل! فقال سفيان البلخي رضي الله عنه لولده: يا بنيّ! من هذا؟ فقال: يا أبت! هذا جبّار الأرض يتضرّع لجبّار السماء! ومن ملح الأصمعي قال، كنت ببعض أحياء العريب فرأيت شابا حسن الشباب، وسيم الخلق وقد أتى إلى بعض الأخبية وأمسك بعمود فسطاط وأنشد (من الطويل): جزى الله عنّا ذات بعل تصدّقت … على عزب حتّى يكون له أهل فيجزيها يوما إذا هي أرملت … وكان له أهل وليس لها بعل فلا تمنعوا عزّابكم من نسائكم … فما في كتاب الله أن يمنع الفضل قال؛ فلم يكن بأسرع أن خرجت شابة كأنها البعير فقبضت على عضده وأدخلته الخباء ساعة ثم خرج وهو يقول: لولا الرحماء لهلكت الضعفاء! ذكر سنة إحدى وثمانين ومائة (104) النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا فقط. ما لخّص من الحوادث الخليفة الرشيد بالله هارون بن محمد المنصور. وفيها خرج عبيد الله بن

ذكر سنة اثنتين وثمانين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

المهدي إلى بغداد والولاية باسمه. ثمّ ولي إسماعيل بن صالح الحرب وحويّ بن حويّ العذري الخراج. والقاضي ابن مسروق مكانه. ومن مضاحك الأصمعي قال، سافر أعرابيّ وغاب عن أهله مدة ثم عاد فوجد مع زوجته ولدا بكرا فوقف يرتجز (من الرجز): لتقعدنّ مقعد القصيّ … أو تحلفي بربّك العليّ أني أبو ذيالك الصبيّ فأنشأت تقول (من الرجز): لا والذي ردّك يا صفيّ … ما مسّني من بعدك إنسيّ غير غلام واحد صبي … بعد امرأين من بني عديّ وآخرين من بني بلي … وستة كانوا على الطويّ وخمسة جاؤوا مع العشي … وغير تركيّ ونصرانيّ قال الأعرابيّ: فشددت فاها وإلاّ كانت تذكر أهل المشرق والمغرب. ذكر سنة اثنتين وثمانين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وسبعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا فقط. ما لخّص من الحوادث الخليفة الرشيد هارون بن محمّد المهدي. وولّى الليث بن الفضل مصر

(105) حربا وخراجا معا. وخرج إسماعيل بن صالح وحويّ بن حويّ العذري إلى العراق بباب الرشيد. والقاضي محمد بن مسروق بحاله. في هذه السنة بايع الرشيد لولديه وأخذ العهد لمحمد الأمين وبعده لعبد الله المأمون، وأنفذ بيعتهما فعلّقت بالكعبة. ومن مضاحك الأصمعيّ قال، مررت بأربعة نسوة في بركة ماء تسبحن وتلعبن، فوضعت يدي فأخذت أثوابهنّ وحلفت لا أدفعها لهنّ حتّى تنشد كلّ واحدة منهنّ شعرا تصف فيه هنها! فأنشدت إحداهنّ (من الرجز): إنّ هني جزورا يحكي … كأنّه قبع نضار مكّي أو جبنة من جبن بعلبكّ … أو وجه خاقان أمير تركي تسمع فيه الدلك بعد الدلك … مثل حرير القنّب المنفكّ كأنّ بين فكّه والفكّ … فارة مسك دبّجت في مسك ثم أنشدت الثانية تقول (من الرجز): إنّ هني جزورا حبابيه … كالقدح المقلوب فوق الرابيه إذا جدبت فوقه ربابية … داخله أحلى من الزلابيه ثم أنشدت الثالثة تقول (من الرجز): إنّ هني أضيق من سفين … ما مثله في ضيقه واللين يدوع منك دعوة العجين … فيستنزل الماء من العرنين ثم أنشدت الرابعة تقول (من الرجز): إنّ هني إن أستحي أن أذكره … كشبه الثور مولّى مشفره

ذكر سنة ثلاث وثمانين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

لو نطح الفيل هني لدحوره … أو نزل البحر هني لعكّره قال الأصمعي: فأعطيتهنّ ثيابهنّ وعلمت أنهنّ من الباذلات. (106) ذكر سنة ثلاث وثمانين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وثمانية عشر إصبعا. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة الرشيد بالله هارون بن محمد المهدي بالله بن المنصور. والليث بن الفضل <بحاله>.وفيها ضمن محفوظ بن سليمان الخراج وهو أول من افتتح الضمان بمصر. ومحمّد بن مسروق قاض على حاله. روي عن الأصمعي قال، حضرت أنا وأبو عبيدة معمر بن المثنّى عند الفضل بن الربيع، فقال لي: كم كتابك في الخيل؟ فقلت: مجلّد واحد. فسأل أبا عبيدة عن ذلك فقال: خمسون مجلّدة! فقال له: قم إلى هذا الفرس وأمسك كلّ عضو منه وسمّه! فقال: لست ببيطار وإنما هذا شيئ أخذته عن العرب. فقال: قم يا أصمعي فافعل ذلك! فقمت وأمسكت ناحيته وشرعت أذكر عضوا عضوا وأضع يدي عليه وأنشد ما قالت العرب فيه إلى أن فرغت منه فقال: خذه! وكنت إذا أردت أن أغيظ أبا عبيدة أركبه إليه. وروي هذا الحديث من طريق أخرى وأنّ ذلك كان بين يدي الرشيد، وأنّ الأصمعيّ لمّا فرغ من أعضاء

ذكر سنة أربع وثمانين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

الفرس قال له الرشيد: يا أبا عبيدة! ما تقول؟ فقال: أصاب في بعض وأخطأ في بعض؛ فالذي أصاب فيه مني تعلّمه، والذي أخطأ فيه ما أدري من أين أتى به! ذكر سنة أربع وثمانين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخّص من الحوادث (107) الخليفة الرشيد هارون بن محمد المهدي. والليث بن الفضل على الحرب، والخراج عليه محفوظ بن سليمان ضامنا له. وخرج القاضي <ابن> مسروق إلى العراق وهو مستمرّ في القضاء، واستخلف ابن الفرات. وفيها كان أول تغيّر الرشيد على البرامكة. وذلك أنّ جعفر بن يحيى كان قد بنى في هذه السنة دارا عظيمة الشأن لم ير لها من قبلها مثيل؛ وكان انتهاؤها في هذه السنة. فلمّا اكتملت فرشت فرشا هائلا، وجلس جعفر فيها وقد أحاطت به آل برمك في أعظم هيئة وأبهى زيّ، وأنعم في ذلك اليوم بما تحرّر وتقديره عشرة آلاف ألف درهم؛ وكان يوما مشهودا لم ير الناس مثله، وامتدحته الشعراء قياما بين يديه، واستعظمت الناس ما رأوه في ذلك اليوم من عظيم ملك آل

ذكر سنة خمس وثمانين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

برمك. وكان بين آل برمك وآل الربيع بن زياد منافسات وهنات على الرئاسة فسعوا بذلك إلى أن بلّغوه مسامع الرشيد. وكان مما يريده الله تعالى من نفاذ أمره أن حصل في ذلك اليوم من سائر الناس السهو عن أن يذكروا الخليفة الرشيد لا في خطبة ولا في مديح ولا في دعاء! فلمّا بلغ الرشيد ذلك من لسان واش وعدوّ حاسد بقي في نفس الرشيد وأخفاه ولم يظهره. ثم إنه بعد أيام وقعت للرشيد رقعة بين القصص فيها مكتوب (من السريع): قل لأمين الله في خلقه … ومن إليه الحلّ والعقد هذا ابن يحيى جعفر قد غدا مالكا … مثلك ما بينكما حدّ أمرك مردود إلى أمره … وأمره ليس له ردّ ساواك في الملك فأبوابه … آهلة يعمرها الوفد (108) وقد بنى الدار التي مالها … في الأرض لا شبه ولا ندّ ما بنت الروم شبيها لها … كلاّ ولا الفرس ولا الهند الدرّ والياقوت حصباؤها … وتربها العنبر والندّ وجدّك المنصور لو حلّها … لما اطّباه قصره الخلد وما يباهي العبد أربابه … إلاّ إذا ما بطر العبد قال؛ فجعل الرشيد ينظر إليها في كلّ وقت ويرفعها حتّى أوقع بهم في سنة سبع وثمانين ومائة حسبما يأتي إن شاء الله. ذكر سنة خمس وثمانين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وتسعة أصابع.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة هارون الرشيد بالله بن محمد المهدي بالله. وعمّال مصر بحالهم. وعزل القاضي <ابن> مسروق وولّى عبد الرحمن بن عبد الله بن المجبر بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه. فيها تزايد الحال بالرشيد لترادف الإغراء على البرامكة. وعن محمد بن حازم قال؛ دخلت على الرشيد بالله ذات يوم وهو خلو فقدّم بين يديه لوزينج فأمرني فتقدّمت للمؤاكلة فبينا هو في مدة لقمة من ذلك اللوزينج إذ تنفّس تنفّسا صبعا، ولقوّة تنفّسه سقطت اللقمة مد يده فقلت: أعاذ الله أمير المؤمنين من كلّ مكروه! ووقاه كلّ سوء، وجعلني فداه من كلّ ما يخشاه! والله لقد قطّعت كبدي لهذا النفس فما موجبه؟ وأنت أنت! فقال: يا محمد! تكتم؟ فقلت؛ أعيذ أمير المؤمنين بالله أن يظنّ في عبده وربيب نعمته إفشاء سرّه، لا كان ذلك أبدا (109) ولو بضعت بضعا! فقال: يا محمد! قد تلفت لما أجد من جعفر بن يحيى وأكاتمه منذ سنتين، وقد أخذ الحقد بي حدّه! فقلت: الله الله يا أمير المؤمنين! ومن جعفر؟ إن هو إلاّ عبد أنعمنا عليه فقال: دع بنا هذا الكلام، واضرب بنا في غيره! فتحادثنا ساعة ثم انصرفت إلى منزلي فلم أشعر إلاّ برسول جعفر يستدعيني إليه فأتيته في منزله فلقاني من معبر الدار واحتضنني وقال: جزاك الله يا أبا عبد الله عن محاضرتك خيرا! فقلت: وما ذاك أيها الوزير؟ فقصّ عليّ المجلس الذي كنت فيه مع الرشيد حتّى لم يخلّ بحرف منه-ولم أعلم-والله-كان بيني وبين الرشيد في ذلك الحديث ماكث إلاّ الله عزّ وجلّ؛ قال؛ فأنكرت ذلك وحلفت عليه أيمانا مغلّظة يلزمني فيها كلّ شيئ من كفّارة وعتق خوفا على نفسي ونعمتي وأهلي من الرشيد! هذا وأنا قد غاب صوابي وذهل عقلي! فقال: خفّف عليك يا أبا عبد الله، فأنت صادق! ثم أمر لي بعشرة

ذكر سنة ست وثمانين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

بدر من دراهم، وخمسة تخوت من قماش فاخر، وحملني على بغلة من مراكيبه. قال ابن حازم: فلم أملك نفسي دون أن حضرت باب الرشيد واستأذنته في غير وقت تكون لي عادة بذلك فأذن لي؛ فلمّا دخلت عليه تبسّم وقد رآني متغيّر الحالة، مضطرب الكون فبادرني وقال: يا محمد! أو أحدّثك بما جئت فيه؟! فقلت: جعلت فداك يا أمير المؤمنين! إنه أمر ليس فيه غير أخذ الروح، وزوال النعمة! فقال: خفّف عليك أبا عبد الله قد كان بينك وبين جعفر كيت وكيت، وقصّ عليّ حتّى لم يخلّ بحرف واحد! فقلت: يا أمير المؤمنين! طيّب الله قلبك، وجعل الجنّة مأواك! ليس العجب منك فإنكم أهل بيت وحي (110) صلوات الله عليكم أجمعين! العجب من جعفر! فقال: يا محمد! مع جعفر من الفراسة ما هو أعظم مما شاهدت! سأقصّ لك ما هو أعجب من هذا! فقلت: بلى جعلت فداك يا أمير المؤمنين! فقال: كان جعفر جالسا عندي منذ أيام ثم نهض وولاّني قفاه فتأمّلت إلى عنقه وقلت في نفسي: أترى إذا أمرت بضرب عنقه يقع السيف محاذيا رأسه أم محاذيا كتفيه؟ فالتفت إليّ من عند باب المخرج وقال: بل في الوسط يا أمير المؤمنين! فقلت له: وما ذاك! فقال: كلام خطر بقلبي جعلت فداك! قال ابن حازم: فتعجّبت لتوارد خواطرهما. ذكر سنة ست وثمانين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان فقط. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة هارون الرشيد بالله بن محمد المهدي بالله. وعمّال مصر مستقرون حسبما تقدّم في السنة الحاليّة.

وصل جعفر بن يحيى من التمكّن من الرشيد ما لم يصله أحد أبدا من أول زمان وإلى آخر وقت مما أجمعت الدولة وأرباب التواريخ على ذلك. فمن ذلك ما رواه الجاحظ قال؛ طلب جعفر الإذن من الرشيد ليفصد وجلس ذلك للخلوة مع ندمائه وجلساء حضرته بعد ما لبسوا خلع المنادمة، وجلسوا في مراتبهم، وأمر الحاجب أن يمنع عنه كلّ أحد ما خلا صالحا؛ ولم يذكر اسم أبيه-وكان صالح أحد ندماء حضرته. فبينا هم في أوائل أمورهم ومبتدأ سرورهم إذ حضر صالح بن علي عمّ الرشيد فظنّ الحاجب أنه صالح (111) الذي عناه جعفر فأذن له. فلم يشعر القوم إلاّ وقد أطلّ عليهم! فلمّا حقّقه جعفر < .... > أسرع إلى لقائه؛ ولم يكن صالح ركب إلى جعفر قطّ. فأشار لجعفر أن اجلس! وقال: ألبسونا ما لبستم من خلع المنادمة! فاستعظم ذلك جعفر! فقال: والله لا بدّ من ذلك! أحضر ذلك بين يديه فلبس وتعطّر وجلس إلى جانب جعفر وتناول قدحا وسمع عليه ألحانا وشرب ثم قال: والله ما ذقتها منذ عمري سوى في ساعتي هذه! هذا وجعفر قد تهلّل بقدومه وفعله وقال: يا سيّدي! لقد عطمت خطاك عليّ، وشققت والله على عبد بيتك! فهلاّ أمرتني بالمثول بين يديك لأمتثل أوامرك؟ فقال: أحببت زيارتك في محلّك، ولي حوائج إليك! فقال جعفر: ليأمر مولاي بمهما شاء ليقضى إن شاء الله! فقال: عليّ دين ألف ألف درهم! فقال جعفر: قد قضاها الله تعالى من مال أمير المؤمنين الرشيد! ثم ماذا! جعلت فداك! قال: إنّ ولدي عبد الله قد كبر وأحبّ الولاية، وأحبّ أن يعقد له على ما يليق بمثله! فقال جعفر: قد ولاّه أمير المؤمنين ما أحببت أنت له

من سائر ما هو تحت طاعة أمير المؤمنين من الدنيا! ثم ماذا؟ فقال: وأحببت أن تكون له بأمير المؤمنين صلة فإنه أهل لذلك! فقال جعفر: وقد زوّجه أمير المؤمنين هارون الرشيد ابنته آمنة وأمهرها من عنده ألف ألف! ثم ماذا؟ فقال: قد تجاوز بك الإحسان فوق الظنّ فلله أنت! ثم نهض وشيّعه جعفر إلى باب الدار. قال الجاحظ، قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: فعجبنا من إنعام جعفر لصالح في جميع ما طلب حتّى في زواج ابنة أمير المؤمنين من غير (112) إذنه في ذلك، ثم قطعنا بقية يومنا في ألذّ عيش وأهنئه، ثم بكرّنا إلى دار الخلافة فبينا نحن جلوس على الباب ننتظر الإذن، وجعفر قد جاز إلى عند الرشيد ساعة لم نشعر إلاّ بالأموال وقد حملت إلى دار صالح، والبنود تخفق على رأس عبد الله ولده بولاية مصر. ثم عقد له على ابنة الرشيد في ذلك اليوم وكان يوما عظيما لم ير الناس مثله في الاحتفال! فلمّا كان عشيّة ذلك اليوم اجتمعنا بحضرة جعفر فقال: أما تسألونني ما كان من أمري مع الرشيد بسبب صالح وولده؟ فقلنا: والله لقد وددنا ذلك وهيبة الوزير تمنعنا من السؤال فيه! فقال: لمّا صرت عند أمير المؤمنين حكيت له أمر صالح وما كان منه وعبوره إلينا إلى حيث قال ألبسونا مما لبستم! فقال أمير المؤمنين: أحسن والله! ثم لمّا شرب فقال أمير المؤمنين: وأحسن والله ثمّ أحسن! فما كان منك إليه؟! فقلت: يا أمير المؤمنين! وهل لي يد تمتد إلى بيت الخلافة إلاّ بيد أمير المؤمنين؟! ذكر لي أنّ عليه ألفي ألف درهم فقلت: قد قضاها الله تعالى من مال أمير المؤمنين؛ فقال: أحسنت والله! قد أمرنا له بذلك! ثم ماذا؟ فقلت: واختار أن يولّي ولده عبد الله عملا من أعمال أمير المؤمنين! فقلت: قد ولاّه الله وأمير المؤمنين ما أحببت! فقال: أحسنت والله قد وليته مصر حربا وخراجا! قلت: وأحبّ أن تكون له صلة بأمير المؤمنين فعقدت له على آمنة ابنة أمير المؤمنين! فقال: أحسنت والله قد زوّجته ابنتي آمنة ومهرتها من عندي ألف ألف درهم! فقلت: وكذا والله ضمنت له يا أمير المؤمنين! فجرى الأمر على ما رأيتم. قال إسحاق: فعجبنا والله لهذا التمكين. (113)

ذكر سنة سبع وثمانين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة سبع وثمانين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وأربعة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة هارون الرشيد بالله بن محمد المهدي بالله. فيها خرج الليث بن الفضل إلى العراق، ووليها أحمد بن إسماعيل حربا. ومحفوظ على الخراج بحاله. وعبد الرحمن بن عبد الله العمري القاضي يومئذ بمصر. فيها كانت نكبة البرامكة سلخ المحرّم من هذه السنة. ذكر نكبة جعفر بن يحيى بن خالد وجميع آل برمك اختلف المؤرّخون في سبب كائنة جعفر المذكور ونكبة آل برمك اختلافا كثيرا فذهب كلّ منهم إلى ما اتّصل به وحقّقه ثم رواه. والقريب من ذلك ما رواه الطبري رحمه الله تعالى ثم ما رواه المسعودي رحمه الله تعالى في كتابه المعروف بمروج الذهب. وقد ذكرت ذلك في كتابي الذي ألّفته قبل هذا التاريخ وسمّيته بأمثال الأعيان وأعيان الأمثال، وحذوت فيه حذو كليلة ودمنة، وأقمت مقام كلّ حكاية من حكاياته واقعة من نكت التاريخ تليق في مكانها، وجعلته اثنتي عشرة محاضرة، وأسّست بناءه على إقامة اسمين مجهولين أحدهما على صورة تنّين وسمّيته بناطق الطنين، والآخر صورة ثعلب وسمّيته

حاذق الأمين. واخترعت فيه من المحاضرات ما يلتذّ بها السامع التذاذ المسرف بالمسكرات، وأثبتّ فيه كائنة البرامكة من رواية المسعودي فلا أذكرها في هذا التاريخ حرمة لذلك الكتاب المقدّم ذكره، وخشية (114) أن يتكرّر الكلام فيما ألفته، فيقع الخطأ، ويعود من عيوب الشعر بمنزلة الإيطاء. وعلى الجملة فإنّ المؤرّخين أجمعوا أنّ سبب نكبتهم أخت الرشيد. فمنهم من ادّعى أنّ اسمها العبّاسة. ومنهم من قال ميمونة؛ وكان الرشيد يحبّها ولا يطيق الصبر عنها، وكذلك جعفر في منزلتها عنده في المحبّة فقصد أن يعقد له عليها لتحلّ له بالنظر وأوصاه أن لا يطمع نفسه منها بغير النظر. وكان كلّ من في القصر لا يحجب عن جعفر إلاّ زبيدة أمّ الأمين وهي تكنّى أمّ جعفر؛ وكانت تكره جعفرا ويحيى وجماعة البرامكة، وكانوا يحصرون عليها نفقاتها وإنعاماتها، ولا يجيزون أوامرها فشكت ذلك للرشيد فقال ليحيى: يا أبه! إنّ أمّ جعفر تشكو منك! فقال: أمتّهم أنا يا أمير المؤمنين؟ فقال: معاذ الله! فقال: فلا يرجع أمير المؤمنين لأقوال النساء! ثم قوّى يحيى وجعفر الاحتجاز عليها فقلقت لذلك ولم تطق الصبر عليه؛ وكان الرشيد قد غزا في تلك السنة الروم وغاب مدّة وترك جعفر وراءه. فلمّا قدم الرشيد قال لزبيدة: لو وجدت من يعرّفني ما كان فعل جعفر في قصري! أنا متعوب وهو مستريح! فقالت: يا أمير المؤمنين! أرجو أنّ الزمام يحدّثك! فاستدعى بمسرور وجلس جلسة الغضب وقال: حدّثني ما فعل جعفر في قصري! فقال: يا أمير المؤمنين! لا علم لي إلاّ أنّ الساعة دفعت إليّ أختك ميمونة هذه الرقعة وقالت: ادفعها لجعفر! ففضّها فإذا فيها مكتوب (من الطويل): عزمت على قلبي بأن يكتم الهوى … فصاح وأنبا إنني غير فاعل (115) من ميمونة المتيّمة بالهوى إلى سيّدها جعفر الذي بيده الداء والدواء.

فقال الرشيد: ويلك! أو كان بينهما أمر قبل هذا؟! فقال: يا أمير المؤمنين! رزقت منه ولدين اسم أحدهما حسنا والآخر حسينا وهي الآن حامل وأنت زوّجتها به وأذنت لها في الاجتماع به! فقال الرشيد: نعم على غير هذا كان! قال الطبري رحمه الله؛ قال مسرور: فأمرني بضرب عنق أرجوان الزمام الذي كان على باب أخته ثم قال: عليّ بعشرة فعلة فأتيت بهم فأمر بحفر سرداب عميق ثم دخل فوجد أخته ميمونة في الحليّ والحلل تتجلّى كالطاووس الذكر فأمر بها فكتّفت بشعرها ثم أحضر ولديها فذبحهما في حجرها وجعلها في صندوق وولديها معها وأقفله وأمر بحمله فحملته الفعلة إلى السرداب فألقاه فيه ثم أمرني فضربت رقاب الفعلة خيفة أن يشيع الخبر بين العامّة ففعلت وألقوا في الحفيرة. ثم أصبح وجلس مع زبيدة فقال لها: كيف حالي مع البرامكة! قالت: أغريقا في بحر كنت؟! قال: نعم! قد كنت كذلك، ولكن قد أفقت الآن! فقالت زبيدة: إني أخاف عليك إذا خرج جعفر إلى خراسان، وكان خارجا بالغد إلى خراسان يكشف أحوالها ويجمع أموالها. فلمّا كان ذلك الغد خرج فجلس مجلسا عاما. قال يحيى بن أكثم: دخلت على الرشيد في ذلك اليوم فرأيت الشرّ لائحا عليه فنظر إليّ وقال: يا ابن أكثم! أنظر إلى الخيل كيف وجوهها إلى باب جعفر وأذنابها إلى أبوابنا! فقلت: يا أمير المؤمنين! ومن جعفر؟ (116) رجل من بعض خدمك! فقال لي: يا أكثم! هذا هو الاستخفاف! والله لا صبرت على هذا! ثم تنفّس تنفّسا شديدا وفي نفسه أمر عظيم. قال الواقدي-وهو من علماء التاريخ-:ودخل عليه في ذلك النهار جعفر يستأذنه في الخروج. وقيل إنه كان عقد له اللواء على خراسان وقلّده وولاّه-هذا من رواية الواقدي رحمه الله. وقال الدولابي: بل كان متوجّها لكشف أحوالها كما قد تقدّم من القول في ذلك. فقال الرشيد: ليس بالرأي خروجك يوم الجمعة ولكن يكون يوم السبت من الغد فهذا يوم مذموم في الاصطرلاب! فلم يرجع جعفر لقوله بل قام وتناول الاصطرلاب وأخذ الطالع

وحسب-وكان فاضلا عالما جدا؛ فقال: صدقت-والله-يا أمير المؤمنين هو كما ذكرت! ثم خرج من عنده. قال مسرور: فاستدعاني الرشيد وقال لي: اضرب لي القبة الحمراء في وسط القصر وضع فيها الدست المذهّب والإبريق ففعلت. فلمّا مضى من الليل شطره طلبني وقال: إمض في هذه الساعة إلى جعفر وقل له: قد وصلت خريطة من خراسان ولم يقرأها أمير المؤمنين حتّى تحضر، فهل لك في الحضور؟ قال مسرور: فمضيت لما أمرني به ودخلت على جعفر وهو في مضجعه فقال: ليس لي معه لا نوم ولا قرار، ما الخبر؟ فعرّفته فلمّا سمع بأمر خراسان نهض فأفرغ عليه ماء ثم لبس أفخر الثياب وخرج ومعه ألف مملوك بالمناطق الذهب. وكان جعفر قد اشتمّ بعض خبر فكان شديد الحرص على نفسه، وكان الرشيد قد أمر البوّابين والحجّاب مع جماعة كبيرة رتّبهم معهم مختفين أن لا (117) يمكّنوا أحدا ممن يصحبه جعفر من العبور معه؛ وكان من عادته أنه لا يلتفت إلى خلفه أبدا. فلمّا وصلنا إلى القصر دخل جعفر مسرعا فلم يشعر بنفسه إلاّ وهو وحده فالتفت إليّ وقد فهم ما يراد به فقال: يا مسرور! هذا وقت الصنيعة راجع فيّ أمير المؤمنين فإن أمر برأسي فلك ذلك وإلاّ فأكون عتيقك، ولك من الأموال سبعين قفلا من عين، والله على ما أقول وكيل! قال مسرور: فرحمته وتركته محتفظا به، ودخلت على الرشيد فلمّا رآني غضب وقال: ويلك! أين رأس جعفر؟ إن كنت عجزت عنه فعندي من هو أشدّ منك يأخذ رأسك ورأسه! قال؛ فخرجت مسرعا فوجدت جعفر يصلّي فضربت عنقه في سجوده، وجعلت رأسه في الطست، وغطّيتها بالمنديل الذهب ثم دخلت بها إلى الرشيد فلمّا رآها بكى وأغمي عليه ساعة ثم قال: يا مسرور! أما كنت ترفق به؟ أما كنت تعلم أنه كان يحبّك ويعرف مقدارك؟ ثم بكى وأغمي عليه ثانية فلمّا أفاق قال: يا جعفر! خوّلناك ورفعناك وائتمنّاك فلم تف لنا ففعلنا بك ما تستحقّ! ثم قال: يا مسرور! عليّ بالأمين والمأمون وابن حميد متولّي بغداد فأشخصتهم فقال: تركبون في هذه الساعة إلى منازل

ذكر سنة ثمان وثمانين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

البرامكة فيقتلون بأسرهم إلاّ يحيى بن خالد والفضل ولده يصفّدا ويحضرا ثم تخرّب جميع منازلهم وتحرّق بالنيران حتى تصير دكا. قال مسرور: فلم يطلع الفجر حتى قتل ألف ومائتي وزير وكاتب ومستصحب ثم نقلنا الأموال وخرّبنا الآدر، وقسّم جعفر نصفين (118) وصلب نصفه بالجانب الغربي، ونصفه بالجانب الشرقي، ونصبت رأسه على باب القصر. وأمر بالفضل بن يحيى ويحيى أبوه إلى السجن. انتهى كلام الواقدي رحمه الله في خبر البرامكة ممّا رواه الطبري، والله أعلم. ذكر سنة ثمان وثمانين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وستة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإصبع واحد. ما لخّص من الحوادث الخليفة هارون الرشيد بالله بن محمد المهدي. وأحمد بن إسماعيل على الحرب بمصر، ومحفوظ على ضمان الخراج بها. والقاضي عبد الرحمن العمري بحاله مستمرّ. وأمّا ما ذكره المسعودي في قتلة جعفر فقد تقدّم القول إنّ العبد أثبت جميع ذلك مفصّلا في كتابه المعروف بأمثال الأعيان وأعيان الأمثال. ولنذكر منه هاهنا كلاما مجملا. قال المسعودي إنّ الرشيد لمّا عقد لأخته العبّاسة على جعفر لتحلّ له بالنظر لم يرفع جعفر رأسه إليها قطّ ولا تمقّل لها وجها أبدا.

وكان جعفر جميلا بارعا في الجمال، لذيذ المفاكهة، راويا من كلّ فنّ، جامعا لسائر العلوم والآداب؛ فأحبّته أخت الرشيد محبة ما عليها مزيد وراسلته فامتنع ونهر رسولها وتهدّده فلمّا يئست منه احتالت عليه بأمّه وصحبتها حتّى ملكت قلبها ولم تزل بها في حديث طويل أثبتّه بكماله في ذلك الكتاب-حتّى احتالت على ولدها جعفر وأوهمته أنها جارية شرتها وعلّقت قلبه بذكرها ورصدته حتّى أتى ليلة من عند الرشيد وقد طفح به السكر، وكانت أخت الرشيد قد تنكّرت في تلك الليلة وحضرت إلى عند أمّ جعفر (119) فأخلتها معه وهو يظنّ أنها تلك الجارية التي وعدته أمّه بها فواقعها فوجدها بكرا فلمّا نهض عنها قالت له: كيف رأيت حيل بنات الملوك؟ فقال: وأيّ بنات الملوك أنت؟! فقالت: أنا زوجتك العبّاسة أخت مولاك أمير المؤمنين! فعندما سمع ذلك سقط إلى الأرض ولم تحمله ركبتاه وقال: والله لقد عملت على خراب بيوت آل برمك إلى آخر الأبد! ثم إنها علقت منه وولدت واستمرّ أمرها معه، واحتسبت لا يعلم بأمر ولدها فأنفذته إلى المدينة النبوية على ساكنها السلام. ثم إنّ زبيدة نمّت عليها وعلى جعفر لبغضها في آل برمك، وعرّفت الرشيد ما كان من جعفر وأخته سرا فحجّ في تلك السنة وتوقّع على الولد حتّى ظفر به وصحّح الخبر وكتم أمره حتّى أوقع بجعفر. وقال المسعودي في قتلة جعفر إنها كانت بسرّ من رأى في المخيّم، وإنّ الرشيد خرج مع جعفر ليودّعه عند مسيره إلى خراسان، وإنه جلس تلك الليلة التي قتله فيها مع الرشيد على مجلس الشراب وعاد الرشيد يشرب نصف الكأس ويعطيه لجعفر ويتناول أيضا منه نصف كأسه فيشربه منه، وجعل فخذه على فخذه ولم يزالا كذلك حتّى نهض جعفر يريد المضيّ إلى

مخيّمه فقام الرشيد لقيامه ومشى معه خطوات وجعفر يعزم عليه في ردوده إلى مرتبته ويقبّل يديه، ولم يزل حتّى شيّعه إلى باب القبّة ثم عانقه وقبّله ورشفه وبكى وبكى جعفر أيضا ساعة ثم عاد الرشيد وجلس وأمر بحضور شرار الخادم؛ وكان هذا شرار بشع المنظر، وكان جعفر يكرهه وإذا أراد الرشيد أن يمزح مع جعفر يدع شرارا هذا يأتي إليه (120) ويداعبه ويعبث به، وكان جعفر يكرهه أشدّ كره؛ قال؛ فلمّا عاد الرشيد إلى مرتبته أحضر شرارا وقال له: يا شرار! إني قد انتدبتك لأمر لم انتدب فيه الأمين والمأمون! قال؛ فقبّل شرار الأرض وقال: الله الله يا أمير المؤمنين! والله لو أمرتني أن أنحر نفسي بيدي لفعلت ذلك! فقال: أما نظرت إلى ما كان مني في هذه الليلة إلى جعفر؟! قال: بلى يا أمير المؤمنين! فقال: إفهم كلامي ولا تظنّ أنّ بي ثملا من شراب! فقال: أعوذ بالله! يأمر أمير المؤمنين بما شاء! قال؛ فناوله ... من على ركبته وقال: إمض في هذه الساعة واطلب جعفرا وقل أجب أمير المؤمنين بسرعة في شيئ سهى عنه وقد تفكّره ليوصيك بعمله فإنه سيقوم معك فإذا صار في باب الدهليز اضرب عنقه وأتني برأسه في الطست الذهب! قال؛ فارتعدت رجلا العبد وبهت فلمّا رآه الرشيد كذلك قال: يا شرار! وتربة المهدي والمنصور لئن لم تأتني هذه الساعة برأس جعفر لا ضربنّ رأسك! قال؛ فخرج شرار وأحضر جعفرا وهو يظنّ أنه أنفذه ليمازحه فوصل إلى باب الدهليز وهو يشتم شرارا ويسبّه فلمّا فهم المراد به قال: يا شرار! عاود في أمير المؤمنين، وتثبّت في أمرك، ولك عندي خزائن الأموال! وها أنا قد حصلت فادخل عليه فإن رأيته مصمّما على ما أمرك فافعل، وإن رأيته عاوده الندم والغلط تكون قد فعلت مراده، وأعود عتيقك! قال؛ فدخل شرار فلمّا رآه الرشيد قال: ويلك! وأين رأس جعفر؟! وصرخ حتّى سمعه جعفر فخرج شرار فضرب عنقه وأحضر <رأسه> في الطست فلمّا رآه بكى وأغمي عليه ساعة ثم أفاق فقال: يا

مسرور! فأجابه فقال: إضرب رأس شرار فإني لا أطيق أنظر قاتل جعفر! قال؛ ففعل ذلك! (121) قلت؛ ما أحسن من قال: أشقى الناس بالسلطان صاحبه، كما أنّ أقرب الأشياء إلى النار أسرعها احتراقا. وكقولهم: شبه أصحاب السلطان كقوم رقوا إلى جبل ثم سقطوا فكان أقربهم إلى التلف أبعدهم في المرقى وشبّهوا صاحب السلطان كراكب الأسد؛ يهابه الناس <لموضعه> وهو لمركوبه أهيب. وقد قيل (من المتقارب): بقدر الصعود يكون الهبوط … فإيّاك والدرج العاليه وكن في منزل إذا ما سقطت … تقوم ورجلاك في عافيه ومما حفظ من كلام جعفر بن يحيى قوله: الرزق مقسوم، والحريص محروم، والحسود مغموم، والبخيل مذموم. وقوله: إذا كان الإيجاز كافيا كان الإكثار عناء، وإذا كان الإيجاز مقصّرا كان الإكثار أبلغ. وقوله: الخراج عمود، الملك، وما استغزر بمثل العدل، ولا استنزر بمثل الجور. ووقّع إلى بعض العمال بدكين: كثر شاكوك وقلّ شاكروك، وترادف متظلّموك، وكثر بالشرّ ذاكروك؛ فإمّا اعتدلت وإمّا اعتزلت. والسلام. ووقّع أيضا: بئس الزاد إلى يوم المعاد العدوان على العباد.

ذكر سنة تسع وثمانين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة تسع وثمانين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإصبع واحد. ما لخّص من الحوادث الخليفة هارون الرشيد بالله بن محمد المهدي. وعزل أحمد بن إسماعيل عن حرب مصر، وولي عبد الله بن محمد بن إبراهيم. ومحفوظ على الخراج. وعبد الرحمن العمري قاض بحاله. وفيها استكتبت الرشيد إسماعيل (122) بن صبيح من غير أن يطلق عليه اسم الوزارة. ومن كلام الرشيد له يقول: إيّاك يا ابن صبيح والدالّة فإنها تفسد الحرمة ومنها أتي البرامكة. قال المسعودي رحمه الله في كتابه، قال مسرور، كنت ببغداد لمّا خرج الرشيد إلى وداع جعفر بسرّ من رأى؛ وكان يحيى بن خالد لم يخرج من بغداد مع ولده لوجع كان يعتريه فركبت إليه لأعوده فوجدت بغلة النوبة مشدودة على باب منزله ثم دخلت إلى يحيى فوجدته جالسا وبين يديه بناكيم الرمل والدوائر والاصطرلابات والتقويم وكتب عدّة في علم النجوم وهو ساعة ينظر في

الاصطرلاب وساعة ينظر في غيره بحيث دخلت عليه ولم يحسّ بي؛ فلمّا سلّمت ردّ السلام وهو في اهتمامه فقلت: أيها الوزير! إنني لمّا أتيت وجدت بغلة النوبة مسرجة فسررت بعافية الوزير ثم دخلت فوجدتك مهتما فيما أنت فيه فقال: يا أبا البشر! إنّ لذلك سببا! قلت: وما هو؟ أصلح الله الوزير! قال: رأيت البارح فيما يرى النائم كأنّي راكب هذه البغلة وأنا على شاطئ دجلة وكأنّ قائلا يقول من الجانب الآخر هذا البيت (من الطويل): كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا … أنيس ولم يسمر بمكّة سامر قال؛ فالتفت إليه وضربت بيدي عجز البغلة وقلت (من الطويل): نعم نحن كنّا أهلها فأبادنا … صروف الليالي والجدود العواثر ثم انتبهت فزعا منذ الثلث الأخير فأحضرت ما ترى ونظرت فإذا الأمر قد قرب! قال مسرور: فلم يتمّ لي كلامه حتّى وقعت الضجّة وهجم عليه فقال لي: يا مسرور! هكذا تقوم القيامة! (123) ومما حفظ من كلام يحيى بن خالد: النيّة الحسنة مع العذر الصادق يقومان مقام النجح. وقوله: إذا أدبر الأمر كان العطب في الحيلة. وقوله: من أحسنت إليه فأنا مرتهن به، ومن لم أحسن إليه فأنا مخيّر فيه. وقوله: أحسن ما يكون الحسن بتجنّب القبيح. وقوله: ذكر النعمة من المنعم تكدير، ونسيان المنعم عليه كفر. وقوله: ثلاثة تدلّ على عقول أصحابها الرسول والكتاب والهدية. وقوله: ما أحد يرى في ولده ما يحبّ إلاّ رأى في نفسه ما يكره.

ذكر سنة تسعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة تسعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع واثنا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا، وسبعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة هارون الرشيد بن محمد المهدي. وعزل <عبد الله بن> محمد بن إبراهيم ومحفوظا؛ وولّى الخصيب بن عبد المجيد الخراج، والحسين بن جميل الحرب والقاضي العمري بحاله. وقيل إنه بعد فعله بالبرامكة ما فعل ساء تدبيره، وانعكس عليه مراده، واختلّت أحوال كثيرة مما كانت مستقيمة في أيام البرامكة. وفيها حجّ الرشيد فإنه كان يغزو عاما ويحجّ عاما؛ فكتب إليه يحيى بن خالد من السجن يستعطفه ويقول (من مجزوء الكامل): قل للخليفة ذي الصنا … ئع والعطايا الفاشيه وابن الخلائف من قر … يش والملوك الهاديه يا ابن الملوك وخير من … ساس الأمور الماضيه إنّ البرامكة الذين سخطتهم … ورميتهم بالداهيه عمّتهم لك سخطة … لم تبق منهم باقيه

ذكر سنة إحدى وتسعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

من لي وقد غدر الزما … ن بمادّتي وحماتيه من لي وقد غضب الإما … م على جميع رجاليه يا عطفة الملك الرضى … عودي إلينا ثانيه (124) وهي طويلة وهذا ملخّصها. فلمّا وقف عليها الرشيد قال: أو بقي ليحيى عقل يقول به الشعر؟! والله لأشغلنّه عن ذلك! ثم كتب إليه بخطّه: بسم الله الرحمن الرحيم. {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ} الآية؛ وكتب تحت ذلك هذه الأبيات (من مجزوء الكامل): يا آل برمك إنّما … كنتم ملوكا عاتيه فكفرتم وعصيتم … وجحدتم نعمائيه عدتم كشيئ قد مضى … أحلام قوم ماضيه ذكر سنة إحدى وتسعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا فقط. ما لخّص من الحوادث الخليفة هارون الرشيد بالله بن محمد المهدي. وعزل الخصيب عن خراج مصر، وضمّه إلى الحسين بن جميل مع الحرب. واستعفى القاضي عبد الرحمن العمري فلم يعف وهو مستمرّ على قضائه. فيها توفّي يحيى بن خالد البرمكي بالسجن. وكان قد توفّي قبله ولده

الفضل بسبعة أيام؛ وسبب ذلك؛ روي أنّ يحيى بن خالد لمّا كتب تلك الأبيات المقدّم ذكرها وأجابه الرشيد عنها بما تقدّم من القول في ذلك أمهله قليلا؛ وكان البرد قد أقبل؛ فكتب إلى الرشيد يستعطفه ويستوهب منه ملبوسا للفضل ولده يلقى به برد السجن! فلمّا وقف عليها الرشيد طلب أربعة خدّام ودفع إليهم سياطا رديّة وأمرهم أن يتوجّهوا إلى السجن والسياط ملفوفين في بقجة (125) فيفرغوها بين يدي يحيى ويقولون له: ها قد أنفذ لولدك ما يدفئ جلده! ثم يضربون الفضل قدّام يحيى أربع مائة سوط. فلمّا قدموا السجن ودخلوا على يحيى ونظر البقجة ظنّ أنّ ذلك ملبوس، وأنّ الرشيد رقّ لهما! فلمّا فعلا ما أمروا به وضربوا الفضل وطرحوه وقد غاب عن الدنيا وتوجّهوا إلى الرشيد فأقام الفضل لا يعقل ولا يعي فطلب يحيى السجّان وسأله أن يحضره جرائحيا فرقّ لهما السجان وأمهل إلى الليل وأحضر جرائحيا كان جارا للسجّان فلمّا كشف عن ضرب الفضل هوّن الأمر عليه وقال: هذا يفيق ويبرا غير أني أريد منك أن تساعدني في قبولك الغداء وشرب الشراب! وعاد ذلك الجرائحي يصنع في بيته له المصاليق ويأتيه بالأشربة بيده. ثم إنه ذات يوم كشف عن ضربه ثم دار بوجهه إلى القبلة وسجد شكرا لله تعالى ثم قال ليحيى: أبشر يا سيّدي بسلامة ولدك فإنني لمّا كشفته أول يوم كان إلى التلف أقرب منه إلى السلامة! ولم أقل ذلك القول إلاّ لتقوى نفسه، والآن فقد زال ما كنت أحذر. وذلك أنّ الذين ضربوه كانوا جهّالا بالضرب فلمّا استقلّ الفضل من ضربه وقد بالغ الجرائحيّ في خدمته بكلّ ما اتصلت قدرته إليه اشتور يحيى والفضل وكتب الفضل قطعة

قرطاس وختمها وأعطاها للجرائحي ودلّه على شخص في مكان ببغداد يوصل تلك الرقعة إليه. فظنّ الجرائحيّ أنها ضرورة له فلمّا أحضرها لذلك الرجل وقرأها بكى حتّى أغمي عليه ثم نهض وأقبل ومعه كيس فيه ألف دينار فقال للجرائحي: خذ يا مولاي هذه الدنانير تصرّف (126) فيها! واقبل العذر في هذا الوقت! فلمّا رآها الجرائحيّ، وسمع ذلك منه شخر وقال: والله لو علمت أنّ إنفاذي لهذا لما أتيت إليك! وقفز مغضبا وأتى بيته، وانقطع عن الفضل وتحيّل ذلك الرجل حتى أعاد الجواب إلى الفضل بما كان من أمر الجرائحيّ. فقال الفضل: لا حول ولا قوة إلاّ بالله استقلّ الرجل ما أعطي، ولم يعلم أنّه لم يبق لنا شيئ! ثم أنفذ خلفه ولا طفه وقال: والله لم يدع لنا الرشيد ما إذا قصدنا أن يبلغنا ليلة واحدة فنجده! وإنما هذا الذي أعطاك رجل كنّا أسدينا إليه خيرا فقصدناه؛ وها هو قد جعلها ألفي دينار! فأنعم أيّها الرجل عليّ بقبول ذلك- وهو يحدّثه وقد أخرج الجرائحيّ من جرمدانه موسى أمضى من القضاء وأمسك بلحية نفسه، وجعل الموسيّ على نحره وقال: وحقّ ربّ البرية إن عاودتني في شيئ من هذا الكلام ذبحت نفسي بيدي! أتظنّ يا مولاي أنّني استقللت ذلك؟! لا والله! وإنّما والله لا أخذت على خدمتي لك جزاء أبدا ولو ملو الأرض ذهبا، فلا تعاودني أتلف نفسي بين يديك! قال؛ فتعجّب الفضل ويحيى لغزارة مروءة ذلك الرجل. فلمّا خلا الفضل بأبيه يحيى قال: يا أبة! كم تظنّ أنّنا لنا من الصنائع على الناس؟ والله إن صنيعة هذا الحجّام أعظم من كلّ شيئ فعلناه! قال؛ فبلغ ذلك آل الربيع-وكانوا قد تمكّنوا من الرشيد بعد آل برمك-فوشوا بجميع ذلك للرشيد وقالوا: يا أمير المؤمنين! أليس يحيى بن خالد يزعم أنه لم يبق شيئ حتّى أنفذ يستعطي من أمير المؤمنين ملبوسا لفضل؟ ها هو قد أنعم

ذكر سنة اثنتين وتسعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

على رجل جرائحيّ ألفي دينار! وإنما أموالهم مودعة عند الناس! (127) قال؛ ففحص الرشيد عن ذلك فلمّا حقّقه أمر بصلب ذلك الرجل والجرائحيّ والسجّان، وأنفذ إلى الفضل فضرب ضرب التلف فأقام يوما أو بعض يوم، وتوفّي إلى رحمة الله تعالى. فبقي بعده يحيى سبعة أيام وتوفّي! رحمهما الله تعالى. ووجد تحت وسادته قطعة كاغد فيها مكتوب: قد تقدّم الخصم إلى بين يدي الحاكم العدل، والغريم على الأثر، والموعد المحشر {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.قال فلمّا قرأها الرشيد بكى حتّى تحدّرت دموعه على لحيته. والله أعلم. قلت: وجدت هذه الحكاية في بعض المجاميع فاستنسختها على ما هي عليه، والعهدة في ذلك على ناقلها من الأصل. ذكر سنة اثنتين وتسعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة هارون الرشيد بن محمد المهدي. وعزل الحسين بن جميل، وولي مالك بن دلهم حرب مصر وخراجها. والقاضي العمري بحاله. روى <محمد بن ظفر في كتابه المسمّى بنجباء الأبناء. ومحمد هذا

صاحب كتاب سلوان المطاع أيضا رحمه الله تعالى> عن محمد بن عبد الرحمن الهاشمي قال: كانت عتابة أمّ جعفر بن يحيى بن خالد تزور أمّي بعد نكبة البرامكة بمدة طويلة، وكانت لبيبة من النساء حازمة برزة فصيحة. فكان يعجبني أن أجدها عندها فأستكثر من حديثها فقلت لها يوما: يا أمّ! إنّ بعض الناس يفضّل جعفرا على الفضل، وبعضهم يفضّل الفضل على جعفر! فقالت: ما زلنا نعرف الفضل للفضل! فقلت: أكثر الناس على خلاف (128) هذا! قالت: أنا أخبرك عنهما واقض أنت! قال؛ فقلت: هات! وذلك الذي أردت منها. فقالت: كان الفضل وجعفر يلعبان في داري فدخل أبوهما فدعا بالغداء وأحضرهما فطعما معه وأقبل عليهما يؤنسهما بحديثه فقال: أتلعبان بالشطرنج؟ فقال جعفر-وكان أجرأهما-:نعم! فقال له: هل لاعبت أخاك بها؟ فقال جعفر: لا! قال: فإذا فرغنا من غدائنا فالعبا بين يديّ حتّى أرى اللعب لمن منكما؟ فقال جعفر: نعم! فلمّا رفع الطعام جيء بالشطرنج وصفّت بينهما فأقبل عليها جعفر وأعرض عنها الفضل فقال له أبوه: ما لك يا بنيّ لا تلاعب أخاك؟ فقال: لا أحبّ ذلك! فقال جعفر: إنه يرى أنه ألعب مني، وأنا ألاعبه مخاطرة! فقال الفضل: لا أفعل! فقال أبوه: لاعبه وأنا معك! فقال جعفر: نعم! فقال الفضل: لا! واستعفى أباه فأعفاه. ثم قالت لي عتابة: قد حدّثتك عنهما فاقض! فقلت: قد قضيت لجعفر! فقالت: يا بنيّ! لو عرفت أنك لا تحسن القضاء ما حكّمتك! فقلت لها: وما الذي أنكرت من قضائي؟ فقالت: ألم تر أنّ جعفرا قد سقط فيما حكيت لك أربع سقطات تنزّه الفضل عنهنّ؟! فقلت لها: في ماذا سقط؟ فقالت: سقط أولا حين قال إنه يلعب بالشطرنج-فاعترف عند أبيه بالهزل وكان أبوه صاحب جدّ. قلت: هذه واحدة. قالت: وسقط في التزام ملاعبة أخيه، وفي ذلك إظهار الشهوة لغلبه والتعرّض لغضبه. فقلت: وهذه ثانية. فقالت: وسقط في قوله ألاعبه مخاطرة؛ وأخبر عن نفسه بالمقامرة،

وأظهر الحرص على انتزاع مال أخيه. (129) قلت: وهذه ثالثة. قالت: والسقطة العظمى وهي قاصمة الظهر حيث قال أبوه لأخيه: لاعبه وأنا معك فقال أخوه لا فقال هو نعم فناصب أباه وأخاه وغالبهما! قال؛ فقلت لها: والله لقد أصبت وأحسنت يا أمّاه وإنك لأقضى من الشعبيّ! ثم قلت: عزمت عليك هل خفي هذا على مثل جعفر؟ وقد ظهر ذلك لأخيه الفضل؟! فقالت: يا بني! لولا العزمة لما أخبرتك! إنّ أباهما لمّا خرج خلوت بالفضل فقلت له: ما منعك من إدخال السرور على أبيك بملاعبة أخيك؟ قال: منعني منه أمران أحدهما أني لو لاعبته لغلبته ولو غلبته لأخجلته، والثاني قول أبي: لاعبه وأنا معك، وما يعجبني أن يكون أبي معي على أخي. قالت: ثم إني خلوت بجعفر فقلت له: يا بني! أيقول أبوك أتلعب بالشطرنج فتقول نعم وقد امتنع منها أخوك؟ فتسم نفسك بالهزل عند أبيك وهو صاحب جدّ؟! فقال: إني سمعت أبي يقول في الشطرنج إنها نعم لهو البال المكدود، وإنه ليعلم ما نلقى من كدّ التعلّم فظننت أنه لا يعيب ذلك علينا. ثم إني لم أكن آمن أن يكون قد نمي إليه أنّا نلعب بها، وخفت أن ينكر أخي فيكون الكذب أقبح فبادرت إشفاقا وقلت إن كان من أبي نكثر لقيته دون أخي! قالت فقلت له: فعلام قلت ألاعبه مخاطرة كأنك تقامر أخاك وتستكثر ماله؟! قال: كلاّ ولكنه استحسن الدواة التي وهب لي أمير المؤمنين المهدي فعرضتها عليه فأبى قبولها ورجوت أن يلاعبني عليها فتطيب نفسه بأخذها! فقلت: يا أمّاه! وما كانت (130) الدواة؟ فقالت: إنه دخل على المهدي وبين يديه دواة من العقيق الأحمر محلاة بالياقوت الأصفر فرآه ينظر إليها فوهبها له. قال: فقلت لها ثم ماذا؟ فقالت: فقلت له ما عذرك إذ قال له أبوه لاعبه وأنا معه، فقلت نعم! قال: عرفت أنّه يغلبني وله في ذلك شرف وسرور بتحيّز أبيه إليه دوني. قال محمّد بن عبد الرحمن: فقلت بخ بخ هذه والله اللبابة والسيادة. ثم قلت لها: هل كان معهما من بلغ الحلم؟ فقالت: يا بنيّ! أين يذهب بك! أنا أحدّثك عن صبيّين يلعبان وتقول هذا! لقد كنا ننهى الصبيّ إذا

ذكر سنة ثلاث وتسعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

بلغ عشر سنين أن يبتسم. قلت: وللبرامكة أحاديث عجيبة وحكايات غريبة في الجود والإحسان وبراعة اليراعة وبلاغة اللسان ما لو ذهبنا فيه إلى الإكثار لخرجنا عن شروط الاختصار. ذكر سنة ثلاث وتسعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة هارون الرشيد إلى أن توفّي في هذه السنة في تاريخ ما يذكر. ومالك بن دلهم على مصر إلى أن عزله الأمين فيها وولّى الحسن بن النحناح حربا وخراجا. وكذلك عزل القاضي عبد الرحمن العمري وولّى مكانه هاشم بن أبي بكر من ولد أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه؛ وكان يذهب إلى رأي الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه. توفّي هارون الرشيد رحمه الله تعالى بطوس ليلة الأحد غرّة جمادى

الآخرة (131) من هذه السنة وله ست وأربعون سنة غير شهرين، ودفن بطوس. وقيل إنه حمل إلى مدينة السلام ودفن بها؛ والله أعلم. وزر له أبو علي يحيى بن خالد بن برمك ثم الفضل ولده ثم جعفر إلى أن نكبوا فاستكتب إسماعيل بن صبيح. وقيل إنّ الفضل بن الربيع وزر له ثم حجبه. والصحيح أنه كان حاجبا بعد محمد بن يحيى بن خالد. وكان قبل محمد بن يحيى بشر مولى الرشيد حاجبا. <صفته: طويل، جسيم، أبيض، جميل؛ قد وخّطه الشيب. مولده سنة تسع وأربعين ومائة في شوّال>. القضاة: استخلف على الجانب الغربي نوح بن درّاج. وعلى الشرقي حفص بن غياث. وحجابه: آخر وقت الفضل بن الربيع بن زياد. نقش خاتمه: كن من الله على حذر. وقيل: العظمة والقدرة لله. وقيل: كان على خاتمه بالحميرية: الله ربّي. وعلى خاتم الخلافة: لا إله إلاّ الله وقيل: مولده المحرّم من سنة ثمان وأربعين ومائة.

ذكر خلافة محمد الأمين ابن هارون الرشيد وأخباره وما لخص من <الحوادث>

ذكر خلافة محمد الأمين ابن هارون الرشيد وأخباره وما لخّص من <الحوادث> هو أبو العبّاس-وقيل أبو عبد الله-محمد. وقيل أبو موسى محمد بن هارون الرشيد بن محمد المهدي. وباقي نسبه معلوم. يلقّب بالمترف والمؤنّث لترف كان فيه-وهو المخلوع؛ وسمّاه المأمون حين خلعه الناكث والخالع-، وثقة الإسلام. أمّه زبيدة واسمها أمة الواحد. وقيل: أمة العزيز. كنيتها أمّ جعفر بنت جعفر بن أبي جعفر عبد الله المنصور بالله ثاني الخلفاء العباسيين وزبيدة لقب لها. كان جدّها يرقّصها ويقول: يا زبيدة! يا زبيدة! فغلب على اسمها لقبها. بويع له بمدينة السلام يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة. (132) وقيل: قدم عليه رجاء الخادم بوفاة أبيه يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة من هذه السنة. وكانت

خلافته منذ قام بالأمر إلى أن قتل ببغداد على يد طاهر بن الحسين أربع سنين وسبعة أشهر وأحد عشر يوما. صفا له الأمر من ذلك سنتين وأشهرا. وكانت الفتنة بينه وبين أخيه المأمون سنتين وخمسة أشهر. وقال المهلبي: ملك الأمين أربع سنين وخمسة أشهر وثمانية أيام. وقال الدولابي: كان سمحا معطاءا أهوجا، قبيح السيرة، سفّاكا للدماء، ضعيف الرأي. ورزق من الولد موسى من أمّ ولد تسمّى نظما، ولقبه الناطق بالحقّ، وضرب اسمه على الدينار والدرهم. قال الصولي: قرأت على درهم مسوس (من مجزوء الخفيف): كل عزّ ومفخر … فلموسى المطهّر ملك خطّ ذكره … في الكتاب المسطّر وماتت أمّ ولده هذا المذكور فحزن عليها حزنا شديدا فدخلت ... أمّه زبيدة عليه معزّية له فقالت (من البسيط): نفسي فداؤك لا يذهب بك التلف … ففي بقائك ممن قد مضى خلف عوّضت موسى فكانت كلّ مرزية … من بعد موسى على مفقوده سلف قال أبو العيناء: لو نشرت أمّ جعفر ذوائبها ما تعلّقت إلاّ بخليفة! وذلك أنّ المنصور جدّها، والسفّاح أخو جدّها، والمهدي عمّها، والرشيد زوجها، والأمين ابنها، والمأمون والمعتصم ابنا زوجها، والواثق والمتوكّل ابنا المعتصم ابنا ابن زوجها. وفي محمد الأمين يقول أبو الهول الحميري (من الكامل):

ذكر سنة أربع وتسعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

ملك أبوه وأمّه من نبعة … فيها سراج الأمّة الوهّاج (133) شربوا بمكّة في ذرى بطحائها … ماء النبوة ليس فيه مزاج كان ذكيا فصيحا شجاعا قويا. قيل: ورد عليه كتاب ملك الروم فيه خشونة من الكاتب يتضمّن تهدّدا وتوعّدا؛ فأمر الكاتب أن يكتب جوابه فأطنب وأطال فلمّا وقف عليه مزّقه وقال: أكتب <الجواب> ما سترى لا ما تسمع، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار!.وقيل هذا الجواب للمعتصم كان؛ والله أعلم أيهما كان. قالت عريب: رأيت ثمانية من الخلفاء فلم أر أجمل من الأمين إلاّ أنه كان مشغوفا باللعب والمزاح والمداعبة حتى بلغ أنه لما بعث عيسى بن عليّ لمحاربة ابن ماهان جاءه الخبر أنّ ابن ماهان قتل عيسى بن عليّ وأنّ العساكر واصلة لحصاره! قال: دعوني الساعة فإنّ كوثر الخادم سبقني بصيد سمكة حتّى أصيد أنا نظيرها! فجرى عليه ما يأتي ذكره ملخّصا من غير إطناب إذ هو مسطر في سائر كتب المؤرخين. ذكر سنة أربع وتسعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة محمد الأمين بن هارون الرشيد. وعزل ابن النحناح وولّى مكانه

ذكر أبي نواس ولمعة من أخباره ونبذة من أشعاره

حاتم بن هرثمة حربا وخراجا. والقاضي البكري بحاله. وفيها ولد أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رضي الله عنه صاحب <الجامع في> الحديث النبوي الصحيح. قلت: والأمين هو ممدوح الحسن بن هانئ المعروف بأبي نواس الشاعر المشهور. ولنذكر هاهنا نسبه وطرفا (134) من أخباره، ونتفا من شعره كونه شيخ الشعراء المحدثين، المتمسّك من سائر فنون الشعر بكلّ حبل متين. ذكر أبي نواس ولمعة من أخباره ونبذة من أشعاره أما نسبه فهو الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصبّاح الحكميّ. كان جدّه مولى الجرّاح الحكميّ فنسب إليه؛ على ما ذكر ابن خلّكان. وذكر محمد بن داود بن الجرّاح في كتاب الورقة أنّ أبا نواس ولد بالبصرة ونشأ بها ثم خرج إلى الكوفة مع والبة بن الحباب ثم صار إلى بغداد. وقال غيره إنه ولد بالأهواز ونقل منها وعمره سنتان، وأمّه أهوازية اسمها جلبان. وكان أبوه من جند مروان بن محمد آخر ملوك بني أميّة؛ وكان من أهل دمشق، وانتقل إلى

الأهواز، وتزوّج أمّه جلبان فاستولدها عدة أولاد منهم أبو نواس وأبو معاذ. وأسلمت أبا نواس أمّه لبعض العطّارين فرآه أبو أسامة والبة بن الحباب الشاعر فاستملحه فقال له: اصحبني أخرّجك فإنك ستقول الشعر! فصار معه وخرّجه. وأول ما قال من الشعر (من المقتضب): حامل الهوى تعب … يستخفّه الطرب وروي أن الخصيب <صاحب ديوان الخراج بمصر> سأل أبا نواس عن نسبه فقال: أغناني أدبي عن نسبي! فأمسك عنه!.ولد في سنة خمس-وقيل: ستّ-وأربعين ومائة. وتوفّي سنة ثمان وتسعين ومائة ببغداد. ودفن في مقابر الشونيزي. ويكنى أبو علي. وإنما قيل له أبو نواس لذؤابتين كانتا تنوسان على عاتقيه. ومن حسن ظنّه بربّه قوله (من الوافر): تكثّر ما استطعت من الخطايا … فإنك بالغ <ربا> غفورا ستبصر إن وردت عليه يوما … وتلقى سيدا ملكا كبيرا تعضّ ندامة كفيك مما … تركت مخافة النار الشرورا وهذا من أحسن المعاني وأغربها. وأخباره كثيرة جدّا وكذلك أشعاره فلخّصنا من ذلك ما ذكرناه في هذا الجزء المبارك.

ومن جملة ما أظهر المأمون للناس من عيوب أخيه الأمين أنّه قال: وعنده شاعر ماجن يحلّل في شعره ما حرّم الله، ويحضّ الناس على التهتّك في المحارم؛ وهو قوله (من الطويل): ألا سقّني خمرا وقل لي هي الخمر … ولا تسقني سرا متى أمكن الجهر وبح باسم من تهوى ودعني من الكنى … فلا خير في اللذات من دونها ستر فما الغبن إلاّ أن تراني صاحيا … وما الغنم إلاّ أن يتعتعني السكر وخمّارة نبّهتها بعد هجعة … وقد لاحت الجوزاء وانحدر النسر فقالت من الطرّاق قلت عصابة … خفاف الأذى تبتغى لهم الخمر ولا بدّ أن يزنوا فقالت أو الفدا … بأبلج كالدينار في طرفه سحر وجاءت به كالبدر ليلة تمّه … تخال به سكرا وليس به سكر فقمنا إليه واحدا بعد واحد … فكان به من طول عرمتنا فطر قال حمزة في شرحه: قوله: إلا سقّني خمرا وقل لي هي الخمر! ما الفائدة في ذلك أليس أنه علم أنها الخمر فما فائدة قوله: وقل لي هي الخمر! وذلك أنّ الإنسان له حواسّ خمس: حاسّة النظر والشم والذوق والسمع واللمس فلمّا تناول كأسها بيده استلذّ تلمسه إيّاها ثم استلذّ بنظرها ثم بشمّها ثم بذوقها فبقي السمع فقال: قل لي هي الخمر! كي يستلذّ سمعه بذكرها (135) فحينئذ تستكمل اللذّة الحواسّ الخمس. قلت: لعمري لقد تغالى فيما حرّم الله تعالى! عفا الله عنه! وقوله (من البسيط):

دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراء … وداوني بالتي كانت هي الداء صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها … لو مسّها حجر مسّته سرّاء من كفّ ذات هن في زيّ ذي ذكر … لها محبّان لوطيّ وزنّاء قامت بإبريقها والليل معتكر … فلاح من وجهها في البيت لألاء وأرسلت من فم الإبريق صافية … كأنما أخذها بالعقل إغفاء رقّت عن الماء حتّى ما يلائمها … لطافة وجفا عن سلكها الماء فلو مزجت بها صبحا لمازجها … حتّى تولّد أنوار وأضواء دارت على فتية ذلّ الزمان لهم … فما يصيبهم إلاّ بما شاءوا قوم إذا شربوا طابت حلومهم … لم تبد منهم على الصهباء عوراء لتلك أبكي ولا أبكي على دمن … كانت تحلّ بها هند وأسماء فقل لمن يدّعي في العلم فلسفة … علمت شيئا وغابت عنك أشياء قال حمزة: والمخاطب بهذا البيت رئيس المتكلمين إبراهيم النظّام لأنه كان ينهاه عن الكبائر ويقول إنها تخلّد في النار. وأبو نواس ففي خمرياته لا يجاريه أحد؛ فمن ذلك قوله (من الطويل): ألا دارها بالماء حتّى تلينها … فلن تكرم الصهباء حتّى تهينها أغالي بها حتّى إذا <ما> ملكتها … بذلت لإكرام الخليل مصونها وقوله (من مجزوء الكامل):

(136) ذكر سنة خمس وتسعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

نفس المدامة أطيب الأنفاس … وجليس كأسك أظرف الجلاّس فإذا خلوت بشربها في مجلس … فاكفف لسانك عن عيوب الناس في الكأس مشغلة وفي لذّاتها … فاجعل حديثك كلّه في الكاس (136) ذكر سنة خمس وتسعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وثمانية عشر إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة محمد الأمين بن هارون الرشيد. وعزل حاتم بن هرثمة وولّى مكانه جابر بن الأشعث الطائي حربا وخراجا؛ وهو الذي بنى قبّة الهوى. والقاضي هاشم البكري بحاله مستمرا. ومن شعر أبي نواس في الغزل (من المنسرح): ضممته ضمّ بارد الضمّ … لا كأب مشفق ولا أمّ ألثمه في الدجى وبرق ثنا … ياه يريني مواقع اللثم ولم نزل والظلام يشملنا … جسمين مستود عين في جسم ثم افترقنا بعد العناق وقد … أثّرت فيه كهيئة الختم وقال في غلام ذمّي (من البسيط): يا من إذا درس الإنجيل ظلّ له … قلب التقيّ عن القرآن منحرفا

رأيت شخصك في نومي فعانقني … كما تعانق لام الكاتب الألفا وقوله (من البسيط): إني لأحسد لا في أسطر الصحف … إذا رأيت اعتناق اللام بالألف ومنه (من البسيط): وما أظنّهما طال اعتناقهما … إلاّ لما لقيا من شدّة الشغف وقوله (من الطويل): ولم أنس ما عاينته من جماله … وقد زرت في بعض الليالي مصلاّه ويقرأ في المحراب والناس حوله … ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله فقلت تدبّر ما تقول فإنها … فعالك يا من تقتل الناس عيناه وقال (من البسيط): وشادن شافعيّ الفقه قلت له … وزند نار الهوى في مقلتي واري بالله فيما بنار الهجر تقتلني … فقال عندي يجوز القتل بالنار ومن قصائده الطنّانات (من البسيط): (137) لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند … واشرب على الورد من حمراء كالورد كأس إذا انحدرت في حلق شاربها … أرتك حمرتها في العين والخدّ فالخمر ياقوتة والكأس لؤلؤة … من كفّ لؤلؤة ممشوقة القدّ تسقيك من يدها خمرا ومن فمها … خمرا فما لك من سكرين من بدّ لي نشوتان وللندمان واحدة … شيئ خصصت به من دونهم وحدي وله في المعنى (من الكامل): أنظر إلى شمس القصور وبدرها … وإلى خزاماها وبهجة زهرها

لم تلق عينك أبيضا في أسود … جمع الجمال كوجهها في شعرها وردية الوجنات تختبر اسمها … من حسنها لا ما تخطّ بحبرها وتمايلت فضحكت من أردافها … عجبا ولكني بكيت لخصرها تسقيك كأس مدامة من عينها … ممزوجة بمدامة من ثغرها وروي أنّ أبا نواس لمّا سمع أبا الشيص الأعمى يقول (من الكامل): وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي … متأخّر عنه ولا متقدّم أجد الملامة في هواك لذيذة … حبا لذكرك فليلمني اللوّم أشبهت أعدائي فصرت أحبّهم … إذ كان حظّي منك حظّي منهم وأهنتني فأهنت نفسي قاصدا … ما من يهون عليك ممن يكرم قال؛ وددت لو أخذ شعري كلّه في هذا المقطوع. ولمّا مات الرشيد رحمه الله وجلس الأمين؛ قال (من المنسرح): جرت جوار بالسعد والنحس … فالناس في مأتم وفي عرس تضحكنا دولة الأمين وتبكين‍ … نا وفاة الرشيد بالأمس بدران بدر ببغداد في الخ‍ … لد وبدر بطوس في الرمس (138) قال حمزة: صادف أبو العتاهية أبا نواس وهو ثمل فقال له: أما آن لك أن تنتهي؟ أما آن لك أن تنزجر؟! فقال (من مجزوء الرمل): أتراني يا عتاهي … تاركا تلك الملاهي أتراني مفسدا بال‍ … نسك عند القوم جاهي؟! ثم خطا غير بعيد وعاد وهو يقول (من السريع):

ذكر سنة ست وتسعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

لن ترجع الأنفس عن غيّها … ما لم يكن منها لها زاجر وروي أنّ جماعة من أخلاّئه دخلوا عليه في مرضته التي مات فيها فقال قائل: إنّ لك هنات، وإني أخشى عليك منها! فقال: هيه! حدّثني ثابت البناني عن أنس بن مالك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: إختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي. ثم أنشد (من مجزوء الكامل): عش ما بدا لك آمنا … في ظلّ شاهقة القصور يغدى عليك بما يسرّ (م) … ك في الرواح وفي البكور فإذا النفوس تحشرجت … يوما بحشرجة الصدور أيقنت أنك لم تزل … من طول عمرك في غرور وقيل: لمّا مات رئي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بهذا البيت من شعري (من مجزوء الرمل): يا كبير الذنب عفو اللّ‍ (م) … هـ من ذنبك أكبر وقيل إنه قال: غفر لي بهذا البيت (من السريع): نسرق هذا اليوم من دهرنا … فربّما يعفى عن اللصّ ذكر سنة ست وتسعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة محمد الأمين ابن هارون الرشيد. وعزل جابر وولّى عبّاد بن محمد (139) بن خليفة فولّى خراجه إبراهيم بن تميم. وتوفّي القاضي هاشم البكري رحمه الله وولي مكانه القاضي إبراهيم <بن> البكّاء. فيها كان ابتداء الفتن بين الأمين والمأمون. وحقيقة ذلك ما أذكره ملخّصا من غير إطناب فيه كونه مشهورا في سائر تواريخ الناس فأحببت أن أمخض من ذلك الزبد، وأنتقي النكت والنبذ. وذلك ما رواه الطبريّ رحمه الله قال: كان الرشيد قد جعل الأمين والمأمون وليي عهده، وحجّ بهما سنة ست وثمانين ومائة، وكتب بينهما شرطا وتحالفا على الكتاب العزيز في الكعبة المطهّرة بأن لا يغدر أحد منهما بالآخر. فلمّا أراد تعليق كتابهما وقع كتاب الأمين من يد إبراهيم الحجبيّ فتفاءل من ساعته لوقوعه بسرعة بسرعة انتقاض أمره دون أخيه المأمون. فلمّا صفا الأمر للأمين ودخلت هذه السنة حدّث نفسه بالنكث، وأن يعقد الأمر لولده موسى! واستشار أمّه في ذلك فخوّفته سوء العاقبة ونقض

ذكر سنة سبع وتسعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

الأيمان بعد توكيدها فقال: إنما أنت تكرهين ولدي موسى كما كنت تكرهين أمّه! فأمسكت عنه وعلمت أنّ أمره يؤول إلى الفساد. فبعث إلى أخيه المأمون- وهو يومئذ بخراسان-يأمره في الحضور لختان ولده موسى، وأنه لا يمكنه ذلك إلاّ بحضوره. وبعثت عيون المأمون يعرّفونه المراد به. فتعلّل المأمون عليه واحتجّ وأنفذ هدايا نفيسة من طرف البلاد. فلمّا يئس من حضوره خلعه وجاهره وبايع لولده موسى ولقّبة «الناطق بالحقّ».وأخذ البيعة من بعد ولده موسى لأخيه عبد الله <وأمّه أمّ ولد. ونقش أيضا اسمه على الدينار والدراهم>.ولم يجعل للمأمون في ذلك شيئا وسبّه وقال: وما المأمون؟! (140) إن هو إلاّ ابن أمة كتعاء! ثم جهّز له الجيوش والعساكر يقدمها عيسى بن يعلى. ولمّا بلغ المأمون ذلك أخرج الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان ليلتقي عساكر الأمين فالتقيا بعد حديث طويل هذا زبد منه. وكسرت جيوش الأمين، وقتل عيسى بن يعلى. وتقدّم الحسين إلى بغداد وحاصر الأمين بقية هذه السنة حتّى دخلت سنة سبع وتسعين ومائة؛ حسبما يأتي في ذكر السنة إن شاء الله تعالى. ذكر سنة سبع وتسعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم سبعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة محمد الأمين ابن هارون الرشيد محصورا ببغداد. وعبّاد بمصر. وعزل إبراهيم البكّاء عن القضاء، وولّى لهيعة بن عيسى الحضرميّ. وفيها أخرج <الحسين بن عليّ الأمين> حاسرا في جبّة موشّاة حتّى مضى به فخلعه ثم حبسه في خضراء مدينة المنصور فأقام يومين. ثم إنّ الجند شغبوا على الحسين بن علي وطالبوه بأرزاقهم ولم يكن معه ما يعطيهم فهرب في اليوم الثالث فتبعه تميم مولى أبي جعفر وغالب في جماعة من الجيش فلحقوه وقتلوه وجاؤوا برأسه إلى الأمين، وأخرجوه وهو عطشان فسقوه ماء من مطهرة للعجلة لأنه كاد يتلف عطشا؛ وذلك بعد ثلاث سنين وخمسة عشر يوما من يوم بيعته. ثم لمّا أعيد إلى مكانه لم يزل في حرب وحصار سنة وستة أشهر. وقتل الأمين بعد ذلك كما يأتي من ذكره في ذكر سنة ثمان وتسعين إن شاء الله. (141) ذكر سنة ثمان وتسعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثمانية أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة محمد الأمين ابن هارون الرشيد إلى أن قتل في أول هذه السنة في تاريخ ما يأتي. وعزل عبّاد عن مصر. وولي مكانه المطّلب بن عبد الله فولّى

خراجه ابن أسباط فأقام شهورا ثم عزل وولي العبّاس بن موسى فأقبل يريد مصر فلمّا كان ببلبيس توفّي. وعزل القاضي لهيعة وولّى مكانه الفضل بن غانم. وفيها قتل الأمين رحمه الله. وذلك أنه لمّا بلغ المأمون مقتل حسين انتدب هرثمة بن أعين، وعلى مقدّمته طاهر بن الحسين بن مصعب بن رزيق. ونفّذ الأمين جيشا يقدمه عليّ بن عيسى. وانهزم جيش الأمين، وتبعه عساكر المأمون. ونزل طاهر بن الحسين الأنبار. ونزل هرثمة بن أعين النهروان. والتجأ الأمين إلى مدينة أبي جعفر؛ وحصل الحصار، وكانت لهم حروب ومحاصرات مع عامة بغداد وشطّارها وعيّاريها. وعادت لهم مقدّمين على كلّ طائفة منهم حتّى أنّ الرجل منهم يصنع بنفسه تماثيل كثيرة؛ فمنهم من يعمل نفسه صفة فرس وعليه المقطّعات الصوف والبراذع. وتركهم منهم المقدّمين عليهم، وقاتلوا قتالا عظيما مما يطول شرحه، والأمين يبذل لهم الأموال حتّى نفذ جميع ما عنده واحتاج أن ضرب (142) جميع أوانيه من ذهب وفضّة وأنفقها عليهم. وقيل له ذات يوم: لقد أجاد عامة بغداد وأحسنوا بلاءهم في خدمتك، ومنعوا هؤلاء الطالبين أذاك! فقال: لعن الله الطائفتين هؤلاء يطلبون دمي، وهؤلاء يطلبون مالي! وكان يميل إلى هرثمة خلاف طاهر فلمّا ضجر وغلب ونفذ جميع ما يملكه أجمع على النزول على حكم أخيه وراسل في ذلك هرثمة فأجابه. فلمّا كان ليلة الأحد لخمس بقين من المحرّم من هذه السنة خرج في

صفة الأمين

حرّاقته إلى جهة هرثمة؛ وكان قد بلغ ذلك طاهرا فجعل له جماعة يرصدونه حتّى غرّقوا حرّاقته وقتلوه، وأحضروا رأسه إلى طاهر فنصبها على الباب الجديد ثم أنزله وبعث بها إلى المأمون وهو يومئذ بخراسان بمدينة بغاسان، ودفن جثّته. ويقال إنّ المأمون لمّا رأى رأس الأمين بكى واستغفر له، وذكر له جميلا أسداه إليه في حياة الرشيد؛ والله أعلم! <فذكر عن أحمد بن سلاّم صاحب المظالم ببغداد قال؛ كنت مع هرثمة في الحرّاقة التي تحوّل فيها الأمين. فلمّا غرقت أخذت مع الأمين وتركت في بيت فيه بوار. فلمّا ذهب من الليل ساعة وإذا قد فتحوا الباب الذي أنا فيه وأدخلوا الأمين وهو عريان الجسد عليه سراويل وعلى كتفه خرقة خلقة فتركوه معي فاسترجعت وبكيت فقال لي: من أنت؟ فعرّفته بنفسي فقال: يا أحمد! ضمّني إليك فإنّي أجد وحشة شديدة! فضممته. ثم فتح علينا الباب ودخل رجل فتصفّح في وجوهنا وأثبتّه صحّة فإذا هو محمد بن حميد الطاهريّ. فلمّا عرفته علمت أنّ الأمين مقتول! فلم تكن إلاّ هفوة إذ هجموا علينا جماعة بأيديهم السيوف مشهرة وصاح الأمين: ويحكم! أنا ابن عمّ رسول الله! أنا ابن هارون الرشيد! أنا أخو المأمون! الله الله في دمي! فضربه رجل منهم بالسيف في مقدّم رأسه؛ وكان في يد الأمين وسادة كانت في ذلك البيت؛ فضربه بها في وجهه فصرعه فصاح: قتلني قتلني! فدخل منهم جماعة فنخسه رجل منهم في خاصرته بالسيف، وركبوه فذبحوه من قفاه، وحزّوا رأسه وتركوا جثته. والله أعلم>. صفة الأمين طويل، جسيم، حسن الوجه، أبيض بحمرة، وقيل أسمر أشقر أسبط،

(143) ذكر خلافة عبد الله المأمون ابن هارون الرشيد وما لخص من سيرته

صغير العين. مولده في سنة ست وسبعين ومائة في شهر جمادى الأولى. قتل وله سبع وعشرون سنة وأربعة أشهر. وقيل ثمان وعشرون سنة. وكانت مدة خلافته أربع سنين وخمسة أشهر وثمانية أيام <على> ما رواه الكلبي. وهو أول خليفة خلع من بني العبّاس وقتل. وزراؤه: الفضل بن الربيع إلى أن يئس منه وهرب. ثم إسماعيل بن صبيح وغيره. حجابه: العباس بن الفضل بن الربيع، وعلي بن صالح، وابن شاهك. نقش خاتمه: لكلّ عمل ثواب. محمد واثق بالله. (143) ذكر خلافة عبد الله المأمون ابن هارون الرشيد وما لخّص من سيرته هو أبو العبّاس عبد الله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي. وباقي نسبه معلوم. <أمّه أمّ ولد يقال لها مراجل أهداها للرشيد عيسى بن ماهان، وتوفيّت أيام نفاسها به>.ولقب خليفة المسلمين: وهو أول من تسمّى بإمامة

المسلمين. وكان جليل القدر، كامل العقل، بارع الفضل، عظيم العفو، حسن التدبير. بويع له بمدينة السلام يوم الأحد لست بقين من المحرّم سنة ثمان وتسعين ومائة؛ وهو بمرو في قول. كان يقال إنّ لبني العبّاس فاتحة وواسطة وغالقة. فالفاتحة المنصور والواسطة المأمون والغالقة المعتضد. ودليل ذلك أنّ أول من عني بالعلوم من أول مبتدأ الدولة العباسية المنصور رحمه الله؛ وأول من اشتهر في دولته بالعلوم وترجمتها عبد الله بن المقفّع الخطيب الفارسي كاتبه فإنه ترجم كتب أرسطوطاليس المتطبّب وهي كتبه المنطقيّة الثلاثة؛ وهي: كتاب قاطيغورياس وكتاب باري أرمينياس وكتاب أنالوطيقا. وذكر أنّه لم يكن ترجم منه إلى وقته إلاّ الكتاب الأول فقط. وترجم بعد ذلك المدخل إلى كتاب المنطق المعروف بإيساغوجي وغيره ترجم من ذلك عبارة سهلة قريبة المأخذ. وترجم مع ذلك الكتاب الهنديّ المعروف بكليلة ودمنة وهو أول من ترجمه من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية. وله تواليف حسنة منها رسالته في الأدب والسياسة؛ ومنها رسالته المعروفة باليتيمة في طاعة السلطان. وأمّا علم النجوم فأول من عني بها في دولة المنصور محمد بن إبراهيم الفزاري المقدّم ذكره في أوّل جزء من هذا الكتاب في أول ذلك الجزء. (144) وهو الرجل الذي افترد بالقول في ذكر عمر الدنيا ودورات الفلك حسبما تقدّم من القول في ذلك. ذكر الحسين بن

محمد بن حميد المعروف بابن الآدمي في زيجه الكبير المعروف بنظم العقد أنّه قدم على الخليفة المنصور في سنة ست وخمسين ومائة رجل من الهند بالحساب المعروف بالسند هند في حركات النجوم مع تعاديل معمولة على كرة درجات محسوبة لنصف نصف درجة مع ضروب من أعمال الفلك من الكسوفين ومطالع البروج وغير ذلك؛ في كتاب يحتوي على اثني عشر بابا. وذكر أنه اختصره من كردجات منسوبة إلى ملك من ملوك الهند يسمّى فيغر فأمر المنصور بترجمة ذلك الكتاب إلى اللّغة العربية وأن يؤلّف منه كتاب تتّخذه العرب أصلا في حركات النجوم فتولّى ذلك محمد بن إبراهيم الفزاريّ وعمل منه كتابا يسمّيه المنجّمون بالسند هند الكبير وتفسير السند هند بالعربية الدهر الداهر. فكان أهل ذلك الزمان يعملون به إلى أيام أبي العبّاس المأمون. فاختصره له أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزميّ وعمل منه زيجه المشهور ببلاد الإسلام، وعوّل فيه على أوساط السند هند، وخالفه في التعاديل والميل فجعل تعاديله على مذاهب الفرس، وميل الشمس فيه على مذهب بطلميوس، واخترع فيه من أنواع التقريب أبوابا حسنة لا تفي بما احتوى عليه من الخطأ البيّن الدالّ على ضعفه في الهندسة! فطاروا به كلّ مطير، وما زال نافقا عند أهل العناية بالتعديل إلى آخر وقت. فلمّا أفضت الخلافة إلى أبي العباس المأمون طمحت نفسه (145) الفاضلة إلى درك الحكمة، وسمت به همته الشريفة إلى

ذكر سنة تسع وتسعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة

الإشراف على علوم الفلسفة، ووقف العلماء في وقته على كتاب المجسطي وفهموا صورة آلات الرصد الموصوفة فيه فبعثه شرفه وحداه ميله على أن جمع علماء عصره من أقطار مملكته وأمرهم أن يضعوا مثل تلك الآلات، وأن يقيسوا بها الكواكب ويتعرّفوا منها أحوالها كما صنعه بطلميوس ومن كان قبله؛ ففعلوا ذلك كما يأتي تتمة الكلام في تاريخ ما فعلوه إن شاء الله تعالى. ثم لم يشتغل أحد بعد المأمون والمنصور بهذه العلوم غير المعتضد حسبما يأتي من ذكر ذلك في أيامه. فلذلك يقال إنّ لبني العبّاس فاتحة وواسطة وغالقة كون أنّ هؤلاء الثلاثة خلفاء طمحت بهم أنفسهم الشريفة إلى درك العلوم الشريفة فدلّ ذلك على علوّ هممهم وسموّ مقاصدهم. ذكر سنة تسع وتسعين ومائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإحدى عشر إصبعا. وعمّال مصر على ما تقدّم من ذكرهم في السنة التي قبلها. وكذلك القاضي. ومن نبذ أخبار المأمون ما رواه محمد بن ظفر في كتابه المعروف بدرر نجباء الأبناء قال؛ روي أنّ الكسائي-وهو عليّ بن حمزة-وكان مؤدّبا لولد الرشيد، وكان لا يفتح عليهم إذا غلطوا في العرض عليه إنما كان ينكّس طرفه فإذا غلط أحدهم نظر إليه وربّما ضرب الأرض بخيزرانة في يده. فإذا سدّد القارئ للصواب مضى وإلاّ نظر في المصحف. فافتتح المأمون عليه السورة المذكور فيها الصفّ (146) فلمّا قرأ {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ} نظر إليه الكسائي وتأمّل المأمون فإذا هو مصيب! فمضى في قراءته.

فلمّا حضر بين يدي الرشيد قال له: يا أمير المؤمنين! إن كنت وعدت الكسائي وعدا فإنه يستنجزه! فقال: إنه كان استوصلني للفرّاء فوعدته فهذا هو الذي قال لك. فقال المأمون: إنه لم يقل لي شيئا! وأخبره بالأمر. فتمثّل الرشيد بقول القائل في ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوّام (من الطويل): ورثت أبا بكر أباك بيانه … وسيرته في ثابت وشمائله وأنت امرؤ ترجى لخير وإنما … لكلّ امرئ ما أورثته أوائله وعن أبي محمد يحيى مؤدّب المأمون قال؛ كان المأمون طفلا جدا وأنا أقرئه {أَلَمْ نَشْرَحْ} وحضرت صلاة الظهر فصلّيت قاعدا وأخطأ فقمت لأضربه فقال: أيها الشيخ! أتطيع الله قاعدا وتعصيه قائما؟! فكتبت بها إلى الرشيد فأمر لي بخسمة آلاف درهم. وروي أنّ اليزيديّ بكرّ ذات يوم لتأديب المأمون وانتظر خروجه فتأخّر فأرسل إليه يعلمه بانتظاره وكان يلعب. ثم إنه خرج فضربه اليزيديّ بالدرّة فبينما هو يبكي دخل حاجبه فقال: إنّ جعفر بن يحيى يستأذن! قال؛ فاستوى جالسا على مرتبته، وجمع عليه ثيابه، ومسح عينيه ثم قال للحاجب إئذن له! فلمّا دخل جعفر رحّب به المأمون وقرّبه وتبسّم إليه وحادثه. ثم نهض جعفر فأمر المأمون بدابّة فقرّبت منه وأمر غلمانه فسعوا بين يديه. قال اليزيديّ؛ فلمّا خرج جعفر قلت للمأمون: لقد كنت مشفقا أيها الأمير أن تشكوني إليه! فقال: إلى أين يذهب بك-عافاك الله-أنا أري جعفرا أني أحوج نفسي (147) إلى تأديب! والله ما يطمع الرشيد مني بذلك! خذ في أمرك عافاك الله! وروي أنّ الرشيد رحمه الله اطّلع في مستشرف له على قصره فرأى ولده عبد الله المأمون يكتب على حائط؛ فقال لخادم: إنطلق حتّى تنظر ماذا يكتب عبد الله واحرص أن لا يراك ولا يفطن لك! فذهب الخادم فنظر ثم عاد إلى

(148) ذكر سنة مائتين هجرية النيل المبارك في هذه السنة

الرشيد فأخبره أنه كتب (من مجزوء الكامل): قل لابن حمزة ما ترى … في زير باج محكمه قال الخادم: إني تسلّلت عليه حتّى قمت من خلفه ولم يشعر لغلبة الفكر عليه! فقال الرشيد: إرجع إليه فسله عمّا هو فيه فسيقول لك إني أفكّر في إجازة هذا البيت فقل (من مجزوء الكامل): قال ابن حمزة يا بنيّ … هزلت مجترئا فمه فانطلق الخادم إليه فقال له ذلك فكان منه من القول بعد أن أفكر والتفت إلى الخادم وقال: يا فلان! قد علمت أنك رسول ولولا ذلك لم تنج مني! فرجع الخادم إلى الرشيد فأخبره فقال له: نجوت! ثم إنّ الرشيد أخبر الكسائيّ بالحديث وقال له: من أين علم عبد الله أنّ الخادم رسول؟ قال: لا أدري. فقال الرشيد: علمه من قوله: «هزلت مجترئا فمه» إذ كان الخادم لا يقدر على مخاطبته بذلك إلاّ مأمورا. ومن محاسن أجوبته وهو طفل أنه كان في ذات وقت ضعيفا في جسده فسأله الرشيد: ما سورتك يا بنيّ؟ فقال: ما بين عمّ وعبس ولم يتفاءل بالنازعات. وقال له ذات يوم وبيده مساويك: ما بيدك يا عبد الله؟ فقال: محاسنك يا أمير المؤمنين!.وكان بيده قضبان خيزران فقال له الرشيد: ما هؤلاء؟ قال: عروق القنا يا أمير المؤمنين! <إجلالا لأمّ الرشيد>. (148) ذكر سنة مائتين هجرية النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد. وعزل المطّلب وولّى السريّ بن الحكم فولّى خراجه محمد بن أسباط، والقاضي لهيعة بحاله. وممّا روي أنّ الرشيد ناظر يحيى بن خالد فيمن يعهد إليه من ولده أولا. وعلم يحيى ميله إلى أم جعفر زبيدة أمّ الأمين، وتحقّق أنه يؤثر هواها، وأن لا معدل له عن ولدها فحطب في حبلها. فأحضر الرشيد الأمين والمأمون وأغرى بينهما وهما إذ ذاك صبيّان فأسرع الأمين إلى المأمون فنال منه؛ وكان المأمون أحلمهما. ثم إنه أمرهما بأن يتصارعا فوثب الأمين فلزم المأمون مكانه! فقال له الرشيد: ما لك لا تقوم يا عبد الله؟! أخفت ابن الهاشميّة؟ أما إنه أيّد! فقال المأمون: هو على ما ذكره أمير المؤمنين، ولكنّي لم أخفه. وإنما قبض يدي عنه ما قبض لساني حين أسمعني. فقال له الرشيد: ما الذي قبض يدك ولسانك عنه؟ قال؛ قول الأمويّ لبنيه يوصيهم (من الكامل): إنفوا الضغائن بينكم وتواصلوا … عند الأباعد والحضور الشهّد بصلاح ذات البين طول بقائكم … ودماركم بتقاطع وتفرّد فلمثل ريب الدهر ألّف بينكم … بتعاطف وترحّم وتودّد حتّى تلين جلودكم وقلوبكم … لمسوّد منكم وغير مسوّد إنّ القداح إذا جمعن فرامها … بالكسر ذو حنق وبطش أيّد عزّت فلم تكسر وإن هي بدّدت … فالوهن والتكسير للمتبدّد (149) فرقّ الرشيد رقّة شديدة واغرورقت عيناه بالدموع ثم عاد يكفكفها

ذكر سنة إحدى ومائتين هجرية النيل المبارك في هذه السنة

وأقبل على الأمين فقال له: ما أنت صانع إن صرف الله إليك أمر هذه الأمة؟ فقال: أكون مهديّها يا أمير المؤمنين! فقال الرشيد: إن تفعل فأهل ذلك أنت! ثم أقبل على المأمون فقال له: يا عبد الله! ما أنت صانع إذا صرف الله إليك أمر هذه الأمة؟ فابتدرت دموع المأمون، وفطن الرشيد لما أبكاه فلم يملك عينيه فأرسلهما، وبكى يحيى بن خالد، وبكى الأمين، فلمّا قضوا من البكاء أربا عاد الرشيد لمسألة المأمون فقال: أعفني يا أمير المؤمنين! قال الرشيد: عزمت عليك أن تقول! فقال: إن قدّر الله ذلك جعلت الحزن شعارا، والحزم دثارا، واتّخذت سيرة أمير المؤمنين مشعرا لا تستحلّ حرماته، وكتابا لا تبدّل كلماته! فأشار الرشيد إلى الأمين والمأمون بالانصراف فذهبا ثم أقبل على يحيى بن خالد فأنشده بيت صخر بن عمرو بن الشريد حيث يقول (من الطويل): أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه … وقد حيل بين العير والنزوان فقال يحيى بن خالد: هيّأ الله لك يا أمير المؤمنين من أمره رشدا. ذكر سنة إحدى ومائتين هجرية النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد. وفيها وثب سليمان بن غالب على السريّ بن الحكم فأخرجه إلى الصعيد. وكان سليمان (150) من قبل طاهر بن الحسين. وولّى أيضا طاهر الخراج عمر بن خلف الرازي. ثم عاد الأمر إلى السريّ. وابن لهيعة قاض بحاله.

ذكر بيعة إبراهيم بن المهدي ولمع من أخباره

فيها عقد المأمون عقد ابنته على عليّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق رضوان الله عليهم. وكان المأمون قدّم عليا عليه السلام على أبي بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم. قال القاضي يحيى بن أكثم: لمّا أراد المأمون أن يزوّج ابنته من علي الرضا عقد المجلس وقال: يا يحيى! تكلّم! فأجللت أن أقول أنكحت! فقلت: يا أمير المؤمنين! أنت الحاكم الأكبر والإمام الأعظم، وأنت أولى بالكلام! ففهم عنّي ما أضمرته فقال: الحمد لله الذي تصاغرت الأمور لمشيئته، ولا إله إلاّ الله إقرارا بربوبيّته، وصلّى الله على محمد ذكره وآله وعترته. أمّا بعد! فإنّ الله جعل النكاح دينا، ورضيه حكما، وأنزله وحيا ليكون سببا للمناسبة. ألا وإني قد زوّجت ابنة عبد الله المأمون من علي بن موسى وأمهرتها أربع مائة درهم اقتداء بسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وانتهاء إلى ما جرى عليه السلف الصالح. والحمد لله ربّ العالمين، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وفيها نزع الناس لبس السواد وعاد إلى الخضرة، وعقد الأمر لعليّ بن موسى <من بعده> فاختشت بنو العبّاس من انتقال الأمر عنهم إلى العلويين فاغتنموا غيبة المأمون، وتوجّهه إلى غزو الروم، وأتوا إلى منصور بن المهدي ليبايعوه ولقّبوه المرتضى، وسلّم عليه بالخلافة، ونقش اسمه على الدينار والدرهم؛ ثم خلعوا المأمون! فضعف منصور عن ذلك واستقالهم فعمدوا إلى إبراهيم بن المهدي فبايعوه. ذكر بيعة إبراهيم بن المهدي ولمع من أخباره (151) أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي بن المنصور. وباقي نسبه معلوم.

ذكر سنة اثنتين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

أمّه أمّ ولد تسمّى شكلة سوداء، وبها يعرف فيقال إبراهيم بن شكلة! وكان أسود عظيم الخلقة لقّب بالتنّين. وهو الخليفة الذي تنقّل في خمس طبقات: كان يعدّ في طبقة أبناء الخلفاء. <ثم صار خليفة>.ثم عاد إلى طبقة الندماء بحضرة المأمون. ثم صار في طبقة المغنّين. ثم عاد في مشيخة بني هاشم. ذكر سنة اثنتين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المأمون عبد الله بن هارون الرشيد. وعمّال مصر بحالهم. كانت بيعة إبراهيم بن المهدي ببغداد في التاسع من المحرّم من هذه السنة. ولقب المبارك وملك الكوفة والسواد فأقام كذلك أحد عشر شهرا ثم اضمحلّ أمره فهرب واستخفى وبقي في استتاره ستّ سنين. وظفر به المأمون في شهر ربيع الآخر سنة عشرة ومائتين، فعفى عنه واستبقاه كما يأتي من ذكر ذلك في تاريخه. ولم يزل حيا ظاهرا قائم الجاه، موفور المال إلى أن مات حتف أنفه في خلافة المعتصم في شهر رمضان سنة أربع وعشرين ومائتين وله أحد وستون سنة وشهور. وكان قد كتب له إبراهيم بن نوح بن الوليد النصراني من أهل الأنبار.

ومن مستظرفات إبراهيم بن المهدي، قال جحظة البرمكي؛ حدّثني خالد الكاتب؛ قال؛ جاءني يوما رسول إبراهيم بن المهدي فسرت إليه فرأيت رجلا (152) أسود على فراش قد غاص فيه فاستجلسني وقال: أنشدني من شعرك! فأنشدته (من الطويل): رأت منه عيني منظرين كما رأت … من الشمس والبدر المنير على الأرض عشية جاءني بورد كأنه … خدود أضيفت بعضهنّ إلى بعض … ونازعني كأسا كأنّ حبابها دموعي لمّا صدّ عن مقلتي غمضي وراح وفعل الراح في حركاته … كفعل نسيم الريح في الغصن الغضّ قال؛ فزحف حتّى صار في ثلثي الفراش وقال: يا فتى! شبّهوا الخدود بالورد وأنت شبّهت الورد بالخدود! زدني! فقلت (من مجزوء الكامل): عاتبت نفسي في هوا … ك فلم أجدها تقبل وأطعت داعيها إلي‍ … ك ولم أطع من يعذل لا والذي جعل الوجو … هـ لحسن وجهك تمثل لا قلت إنّ الصبر <عن‍ … ك> من التصابي أجمل فزحف حتّى انحدر من على الفراش ثم قال: زدني! فقلت (من الرمل): عش فحبّيك سريعا قاتلي … والضنى إن لم تصلني واصلي

ذكر سنة ثلاث ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

ظفر الحبيب بقلب دنف … فيك والسقم بجسم ناحل فهما بين اكتئاب وضنى … تركاني كالقضيب الذابل فبكى العاذل لي رحمة … فبكائي لبكاء العاذل فتمايل طربا وقال: يا بليق! كم معك لنفقتنا؟ قال: ثمان مائة دينار! قال: إقسمها بيني وبين خالد! فدفع لي نصفها وانصرفت. <وفيها ولد أبو داود سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني>. ذكر سنة ثلاث ومائتين النيل المبارك في هذه السنة (153) الماء القديم خمسة أذرع وثمانية عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد. والسريّ كذلك. وفيها وثب الجرويّ على أسفل الأرض وغلب عليها. وفيها كانت الزلزلة بمرو حتّى سقطت منارة المسجد، وسقط المسجد الجامع ببلخ ونحو من ربع المدينة. وفيها توفّي علي الرضا رضي الله عنه. ودخل المأمون بغداد يوم السبت

لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر. ورجع الناس إلى السواد وخلعوا الخضرة. قلت: قد تقدّم القول في ذكر جحظة ولم ننسبه فلعلّ النفس تتشوّف لذكره؛ هو أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك. ولقّب جحظة. قال أبو الحسن علي بن محمد بن مقلة الوزير الآتي ذكره في مكانه إن شاء الله تعالى؛ سألت جحظة عن لقبه من لقّبك بهذا؟ فقال: عبد الله بن المعتزّ لقيني يوما فقال: ما حيوان إذا عكسته صار آلة للمراكب البحرية؟ فقلت: علق إذا عكس صار قلعا! قال: أحسنت يا جحظة! فلزمني اللقب. وكان أقبح خلق الله منظرا، وأحسنهم مخبرا؛ ولذلك قال ابن الرومي فيه (من الكامل): نبّئت جحظة يستعير جحوظه … من فيل شطرنج ومن سرطان يا رحمتا لمنادميه تحملّوا … ألم العيون للذّة الآذان وكان طيّب الغناء، ممتدّ النفس، حسن الشعر والنادرة والحكاية؛ لا يكاد يملّ. ولا تزال تندر له الأبيات الجيّدة. وهو القائل: جانبت أكثر لذّتي وشرابي … وهجرت بعدك عامدا أصحابي فإذا كتبت لكي أنزّه ناظري … في حسن لفظك لم تجد بجوابي (154) إن كنت تنكر ذلّتي وتلدّدي … ونحول جسمي وامتداد عذابي فانظر إلى جسدي الذي موّهته … للناظرين بكثرة الأثواب وهو القائل (من مجزوء الكامل): وإذا جفاني صاحب … لم أستجز ما عشت قطعه وتركته مثل القبو … ر أزوره في كلّ جمعه

ذكر سنة أربع ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

وقال في بخيل (من الكامل): لا تعذلوني إن هجرت طعامه … خوفا على نفسي من المأكول فمتى أكلت قتلته من بخله … ومتى قتلت قتلت بالمقتول وكان كما قال عن نفسه (من المنسرح): يا من دعاني وفرّ مني … أخلفت والله حسن ظنّي قد كنت أرضى بخبز ذرّ … وكافح مع قليل بنّ وسكرة من نبيذ دبس … أقام دهرا بقعر دنّ وليس يغلو بما ذكرنا … محدّث شاعر مغنّيّ ذكر سنة أربع ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وأربعة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد. والسريّ علي مصر بحاله. والجرويّ بالموضع الذي تغلّب عليه. وعمر بن خلف على الخراج. والقاضي لهيعة توفّي في هذه السنة؛ فولّى السريّ من بعد مشاورة أهل البلد إبراهيم بن إسحاق القاري. وفيها توفي الإمام الشافعي رضي الله عنه.

ذكر سنة خمس ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

(155) وقيل: في هذه السنة كان عودة الناس إلى السواد وترك الخضرة. ذكر سنة خمس ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع واثنان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد. والسريّ بمصر إلى أن توفّي في هذه السنة وولي أبو نصر محمد بن السريّ الحرب، وولّى الخراج إبراهيم بن نعيم بن إسحاق. والجرويّ بالمكان الذي تغلّب عليه. والغالب على أمر المأمون في هذه السنين طاهر بن الحسين. وقيل لطاهر ببغداد لمّا بلغ ما بلغ: ليهنك ما أدركته من هذه المنزلة التي لم يدركها أحد من نظرائك بخراسان! فقال: ليس يهنيني ذلك لأنّي لا أرى عجائز بوشنج يتطلّعن إليّ من أعالي أسطحتهنّ إذا مررت بهنّ في هذه المواكب! وإنما قال ذلك لأنه ولد بها ونشأ فيها. وكان جدّه مصعب بن رزيق واليا عليها وعلى هراة. وكان طاهر شجاعا مقداما أديبا فاضلا. وركب يوما ببغداد في حرّاقته فاعترضه مقدّس

الخلوقي الشاعر المشهور وقد أدنيت من الشطّ ليخرج فقال: أيها الأمير! إن رأيت أن تسمع أبياتا مني! فقال؛ أنشد! فقال (من المتقارب): (156) عجبت لحرّاقة ابن الحسي‍ … ن لا غرقت كيف لا تغرق وبحران من تحتها واحد … وآخر من فوقها مطبق وأعجب من ذاك أعوادها … وقد مسّها كيف لا تورق؟ فقال طاهر: أعطوه ثلاثة آلاف دينار! ثم قال: زدنا حتى نزيدك! فقال: كلّ منا أخذ الكفاية! قلت: وما أحسن هذين البيتين في بعض الرؤساء وقد ركب البحر؛ وهما (من الطويل): ولمّا امتطى البحر ابتهلت تضرّعا … إلى الله يا مجري الرياح بلطفه جعلت الندى من كفّه مثل موجه … فسلّمه واجعل موجه مثل كفّه وكان طاهر يلقّب ذو اليمينين لفرط جوده وسماحته. وكان أعور بفرد عين. وهجاه عمرو بن بانة الشاعر فقال (من الرجز): يا ذا اليمينين وعين واحدة … نقصان عين وعين زائدة ويحكى أنّ إسماعيل بن جرير البجليّ الشاعر كان مدّاحا لطاهر بن الحسين المذكور فقيل له إنه يسرق الشعر ويمدحك به! فأحبّ أن يمتحنه فقال له: تهجوني! فامتنع فألزمه بذلك فكتب إليه يقول (من الوافر): رأيتك لا ترى إلاّ بعين … وعينك لا ترى إلاّ قليلا فأمّا إن أصبت بفرد عين … فخذ من عينك الأخرى كفيلا فقد أيقنت أنك عن قليل … بظهر الغيب تلتمس السبيلا

ذكر سنة ست ومائتين (157) النيل المبارك في هذه السنة

فلمّا وقف عليها قال له: إحذر أن تنشدها أحدا! ومزّق الورقة. وأخبار طاهر كثيرة. وولده عبد الله في الجود واصطناع المعروف <مثله>.وإنما نذكر من كلّ شيئ طرفا، ومن كلّ فنّ لطفا. ذكر سنة ست ومائتين (157) النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وأربعة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد. وتوفي أبو نصر محمد بن السريّ وولي مكانه عبيد الله بن السريّ على الحرب، وإبراهيم على الخراج والقضاء والقصص جميعا. وكان المأمون رحمه الله أفضل الناس وأغزرهم مروءة وأكثرهم ذكاء وأتمّهم رئاسة. حكى القاضي ابن أكثم قال؛ بتّ ذات ليلة عند المأمون فترك وسادي إلى وساده فلحقه في الليل سعال فعاد يحشو منديل كمّه في فيه حتّى لا يجزعني من نومي وفعل ذلك عدّة مرار وأنا أراه وأريه أنّي نائم لأنظر آخر أمره. ثم إنه عطش فقام يمشي وهو يخفّف الوطء حتّى أتى إلى مكان كيزان الماء فشرب ثم عاد ولم يوقظ أحدا من نومه. ثم لم يزل يكابد السعلة ويخفيها إلى أن برق الضوء فتحركت فقال: الصلاة رحمك الله! فنهضت وقلت: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين فقد أتعبت الخلائق أجميعن! فقال: وما ذاك يا قاضي؟ فقصيت

ذكر سنة سبع ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

عليه جميع ما عاينته منه؛ فقال: أو كنت غير نائم؟ فقلت: نعم والله حتّى شاهدت ما قد وهبك الله من عظيم قدرته! فتبسّم ونهض إلى الصلاة. ذكر سنة سبع ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث (158) الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد. وعبيد الله بن السريّ بمصر وأضيف إليه الخراج فولاّه محمد بن أسباط من قبله. واستعفى القاضي إبراهيم بن إسحاق فأعفي وولي القضاء إبراهيم بن الجرّاح. ذكر سنة ثمان ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد. وعبيد الله بن السريّ بحاله على مصر حربا وخراجا. والقاضي إبراهيم بن الجرّاح بحاله مستمرا. ولم يتجدد شيئ فيذكر بحكم التلخيص.

ذكر سنة تسع ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة تسع ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة عبد الله المأمون بن الرشيد. وعمّال مصر بحالهم. فيها كانت بيعة ابن عائشة وهو إبراهيم بن محمد بن عبد الوهّاب بن إبراهيم الإمام. وعائشة جدته أمّ أبيه وبها يعرف إبراهيم؛ وهي بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس. وأمّها أمّ جعفر بنت جعفر بن حسن بن حسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام. فولد عبد الوهّاب ينسبون إليها. فبويع لإبراهيم هذا سرا في هذه السنة، واجتمع له عدة من وجوه قواد المأمون؛ بينهم محمد بن إبراهيم الإفريقي ومالك بن شاهي (159) وابن شاهك وغيرهم. فنمي الخبر إلى المأمون فقبض على ابن عائشة وعلى جميع من بايعه فحبسهم في المطبق. ثم حدث حدث في المطبق فضرب عنق ابن عائشة وأعناق جماعة معه وصلبه في صبيحة تلك الليلة. وكان ابن عائشة أول عبّاسيّ صلب في الإسلام. والله أعلم. ذكر سنة عشر ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا

ما لخص من الحوادث

وثمانية عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد. وعبيد الله بن السريّ بحاله إلى مستهلّ ذي القعدة نزل عبد الله بن طاهر ببلبيس وأقام بها بقيّة السنة. وإبراهيم بن الجرّاح على القضاء. وكان المأمون قد استشار طاهرا فيمن يولّيه مصر فأشار بولده عبد الله. وهو الذي أحدث بمصر زراعة البطيخ العبدلي فنسب إليه؛ قيل إنه أحضر زريعته معه من خراسان. وفيها تزوّج المأمون ببوران ابنة الحسن بن سهل. وكانت الوليمة العظيمة التي لم يسمع بمثلها. وسبب زواجه بها ما ساقه ابن عبد ربّه في كتاب العقد من أطرف ما يسمع؛ أثبتّ ذلك في كتابي المسمّى بحدائق الأحداق ودقائق الحذّاق ووسمته باسم القاضي علاء الدين ابن الأثير برّد الله ضريحه لما كان بيني وبينه من الأخوّة والصحبة القديمة من الصغر. وهو كتاب يشتمل على أربعة أجزاء جامع لفنون الأدب وعيون النخب. فتركت أن أثبت الواقعة في هذا التاريخ إجلالا لذلك الكتاب؛ والله الموفّق للصواب.

(160) ذكر سنة إحدى عشرة ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

(160) ذكر سنة إحدى عشرة ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد. ودخل عبد الله بن طاهر مصر، وعزم على محاربة عبيد الله بن السري ثم وقع بينهما الصلح فسوّغه عبد الله بقية خراج السنة، وعزل إبراهيم بن الجراح عن القضاء، وولّى عيسى بن المنكدر وأجرى عليه في كلّ شهر أربعة آلاف درهم. وفي هذه السنة ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي عمّه. وقيل: بل في سنة عشرة؛ أحضر إليه وهو في زيّ النساء فلمّا مثل بين يديه قال: من ولي الأمر محكّم في القصاص. ومن تناوله الاغترار بما مدّ إليه من أسباب الرضا أمن من عادية الدهر في نفسه. وقد جعلك الله فوق كلّ ذي ذنب كما جعل كلّ ذنب دونك؛ فإن أخذت فبحقّك، وإن عفوت فبفضلك. ثم قال (من المجتث): ذنبي إليك عظيم … وأنت أعظم منه فخذ بحقّك أولا … فاصفح بفضلك عنه إن لم أكن في فعالي … من الكرام فكنه فقال المأمون: إني شاورت أبا إسحاق والعبّاس-يعني عن أخيه المعتصم وولده؛ فأشار بقتلك! قال؛ فما قلت لهما يا أمير المؤمنين؟ قال؛ قلت لهما: بدأنا له بالإحسان ونحن متمّموه له فإن غيّر فالله مغيّر! قال إبراهيم:

أما ألاّ يكونا قد نصحا في عظيم الملك وجلالة الخلافة وما جرت عليه السياسة فقد فعلا. وقد بلغا ما بلغه ذو الرأي (161) السديد؛ ولكنك أبيت أن تستجلب النصر إلاّ من حيث عوّدك الله. ثم استعبر باكيا! فقال له المأمون: ما يبكيك؟ قال: جذلا يا أمير المؤمنين إذ كان ذنبي إلى من هذه صفته في الإنعام. ثم قال: وإن كان قد بلّغني جرمي استحلال دمي فحلم أمير المؤمنين وفضله يبلغاني عفوه. ولي بعدها شفاعة الإقرار بالذنب، وحقّ الأبوّة بعد الأب. فقال المأمون: يا إبراهيم! لقد حبّب إليّ العفو حتّى خفت أن لا أؤجر عليه! أما لو علم الناس ما لنا في العفو من اللذّة لتقربوا إلينا بالجرائم! لا تثريب عليك يغفر الله لك. ولو لم يكن في حقّ نسبك وسببك ما يبلغ الصفح عن جرمك لبلّغك ما أمّلت من حسن تنصّلك ولطف توصّلك. ثم أمر بردّ ضياعه وأمواله وأملاكه. فقال إبراهيم (من البسيط): رددت مالي ولم تبخل عليّ به … وقبل ردّك مالي قد حقنت دمي وقام علمك بي فاحتجّ عندك لي … مقام شاهد عدل غير متّهم فلو بذلت دمي أبغي رضاك به … والمال حتّى أسلّ النعل من قدمي ما كان ذاك سوى عاريّة رجعت … إليك لو لم تهبها كنت لم تلم وقد كان تصويب إبراهيم لرأي أبي إسحاق المعتصم والعبّاس ولد المأمون ألطف لطلب الرضا ودفع المكروه واستمالتهما إلى المعاطفة عليه من الإزراء في رأيهما. وكان المأمون قد استشار أيضا في قتل إبراهيم أحمد بن أبي خالد الأحول فقال: إن قتلته فلك نظراء، وإن عفوت عنه فلا نظير لك! وكان إبراهيم إذا خلا يقول: والله ما عفا عني لرحم ولا محبّة ولكن قامت له سوق

في العفو (162) كره أن يفسدها بي!. ولمّا وثب إبراهيم لطلب الأمر اقترض من التجار أموالا كثيرة؛ وكان في ذلك لعبد الملك الزيّات عشرة آلاف دينار فلمّا لم يتمّ أمره لوى التجار أموالهم. فصنع محمد بن عبد الملك الزيّات-الآتي ذكره إن شاء الله تعالى- قصيدة يخاطب فيها المأمون منها الإغراء بإبراهيم بن المهدي يقول فيها (من الطويل): وو الله ما من توبة نزعت به … إليك ولا حبّ نواه ولا ودّ فلا يتوكا الناس موضع شبهة … فإنك مجزيّ بحسب الذي تسدي فكم غلط للناس في نصب مثله … بمن ليس للمنصور بابن ولا المهدي فكيف بمن قد بايع الناس والتقت … ببيعته الركبان غورا إلى نجد ومن صكّ تسليم الخلافة سمعه … ينادي بها بين السماطين من بعد ومولاك مولاه وجندك جنده … «وهل يجمع السيفان-ويحك-في غمد» وأيّ امرئ سمّى بها قطّ نفسه … ففارقها حتّى يغيّب في اللحد فإن قلت قد رام الخلافة غيره … فلم يؤت فيما كان حاول من جدّ فلم أجزه إذ خيّب الله سعيه … على خطأ قد كان منه ولا عمد ولم ترض بعد العفو حتّى رفدته … وللعمّ أولى بالتعهّد والرفد فليس سواء خارجيّ رمى به … إليك سفاه الري والرأي قد يردي

ذكر سنة اثنتي عشرة ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

وآخر في بيت الخلافة تلتقي … به وبك الآباء في ذروة المجد ثم عرضها عليه. ولم يكن محمد يومئذ من أهل النباهة ولا من أرباب الوجاهة. فلمّا وقف عليها إبراهيم سأله كتمانها واستحلفه على ذلك، وأدّى مال أبيه دون جميع التجار. فلو كان إبراهيم واثقا بعفو المأمون لما التفت إلى هذا الإغراء، ولا عرّج على ذلك الافتراء. وكيف (163) يثق به وهو لم يخل في أيامه من الترويع، ولا سلم من مخاوف التخويف والتقريع. ولا جرم أنه أحلّ نفسه في محلّ المراتب السخيفة خشية على نفسه وخيفة. ولم يأمن على نفسه حتّى قضى المأمون نحبه، ولا اطمأنّ حتّى مضى لسبيله ولقي ربّه. ذكر سنة اثنتي عشرة ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد. وخرج عبد الله بن طاهر من مصر إلى العراق واستخلف على الحرب عيسى بن يزيد الجلودي، وعلى الخراج سهل بن أحمد. وابن المنكدر قاضيا مستمرا.

فيها كان ابتداء المحنة العظيمة وإظهار القول بخلق القرآن وكان الذي قام بهذا الأمر بشر المريسي وبنو الجهم. وشاع ذلك وذاع، وقتل من خالف، واختفت العلماء والأئمة في منازلهم وامتنعوا من الصلوات في الجوامع، وقتل منهم خلق كثير. وكانت من المحن العظيمة حتّى عاد لذلك عبد العزيز الكناني وتوصّل من الحجاز إلى دار السلام واحتال في التوصّل إلى المأمون، وعقد لهم مجلسا عظيما، وحصل الجدال بين عبد العزيز رضي الله عنه وبين بشر المريسي. وهذه الماجريّة تسمّى الحيدة وهي طويلة جدا ضمّنتها بكمالها في كتابي المسمّى بذخائر الأخاير الذي وسمته باسم القاضي المرحوم فخر الدين ناظر الجيوش المنصورة، وجعلته ثلاث ذخائر: الأولى ذخيرة «الدرّ الثمين في أخبار الأمم المتقدمين».والثانية ذخيرة (164) «الياقوت البهرمان في تأييد تنزيل القرآن بالدلائل الواضحة والبرهان».والثالثة ذخيرة «درر العقيان في خصائص البلدان» مما أعاقني ذلك عن إثباته في هذا التاريخ. وآخر ما انفصل عليه ذلك المجلس المذكور والمحفل المشهور أنّ الله تعالى نصر كلامه وكتابه، وأعلى كلمة عبد العزيز وأثابه، وقهر منازعه ومن انتصر له من أولئك الناس؛ بنصّ التنزيل والتأويل وحكم القياس. وأعيد إلى بلده معجّلا مكرّما

ذكر سنة ثلاث عشرة ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

مبجّلا. فلله الحمد على تأييد تنزيل كلامه فإنه لا رادّ لحكمه، ولا ناقض لإبرامه. ذكر سنة ثلاث عشرة ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد. فيها عقد لأخيه أبي إسحاق المعتصم بالله على مصر والشام وعزل الجلودي، وولّى عمير بن الوليد. ودخل المعتصم مصر فقتل عبد السلام وابن حنش وصلبهما على الجسر بسبب ما نقل عنهما فيما يأتي ذكره عند ذكر دولة العبيديين خلفاء مصر في الجزء الذي يتلو هذا الجزء إن شاء الله. وكان على الخراج إسماعيل بن موسى، وعلى الحرب صالح بن شيرزاد فعزلهما وولّى إبراهيم بن تميم وعبد الله بن يزيد. والقاضي عيسى بن المنكدر بحاله. ذكر سنة أربع عشرة ومائتين النيل المبارك في هذه السنة (165) الماء القديم ثلاثة أذرع وستة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد. والمعتصم على مصر. وولاة الخراج ابن تميم وابن أسباط. وضمن عبد الله بن زيد بن خلف أسفل الأرض. وعزل عيسى بن المنكدر عن القضاء ولم يولّ أحدا. وفيها أمر المأمون أن يتولّوا الرصد بمدينة الشماسية من بلاد دمشق فوقفوا على زمن سنة الشمس الرصديّة، ومقدار ميلها، وخروج مركزها، وموضوع أوجها. وعرفوا مع ذلك بعض أحوال الكواكب من السيّارة والثابتة. ثم قطع بهم عن استيفاء غرضهم موت المأمون في سنة ثماني عشرة ومائتين فقيّدوا ما انتهوا إليه وسمّوه «الرصد المأموني».وكان الذي تولّى ذلك يحيى بن أبي منصور كبير المنجّمين في عصره، وخالد بن عبد الملك المرورّوذي، وسند بن عليّ، والعبّاس بن سعيد الجوهري. وألّف كلّ واحد منهم في ذلك زيجا منسوبا إليه موجودا في أيدي الناس. فكانت أرصاد هؤلاء أوّل أرصاد كانت في مملكة

ذكر سنة خمس عشرة ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

الإسلام. وقد ذكرت من هذه الصناعة قطعة جيّدة في كتابي المسمّى بأعيان الأمثال وأمثال الأعيان في المحاضرة التاسعة منه المعروفة بالنجوميّة. وهو كلام مفيد للطالب إن شاء الله. ذكر سنة خمس عشرة ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وثمانية عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثلاثة عشر ذراعا وأحد وعشرون إصبعا. (166) ما لخّص من الحوادث الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد. والمعتصم على مصر بحاله. وكذلك العمّال من جهته. ومصر بغير قاض. وفيها كان الغلاء العظيم المفرط بمصر وأعمالها حتّى بلغ القمع ويبة واحدة بدينار ذهب عين مصري. وحصل على الناس ما يطول شرحه من سوء الحال، وأمور تقشعرّ لسماعها الجلود. فنعوذ بالله من أمثالها. ومن مستظرفات إبراهيم بن المهدي لمّا عاد في طبقة الندماء للمأمون قيل؛ أحضر بين يدي المأمون جماعة اتّهموا بزندقة وثبت عليهم في مجلسه ذلك فقدّموا لضرب العنق فضربت رقابهم. وأحضر آخرهم شابّ فصاح:

نصيحة يا أمير المؤمنين! فقدّم! وقال: ما نصيحتك؟ فقال: والله إني لم أكن من القوم، ولا أعلم ما يقولون! وإنّما أنا رجل طفيليّ رأيت هؤلاء القوم مجتمعين فظننت أنّهم في وليمة فلم أشعر إلاّ وقد قبضوا عليهم وأنا في الجملة! فقال المأمون: يؤدّب الطفيلي! فنهض إبراهيم بن المهديّ وقال: هبه لي يا أمير المؤمنين لحالة جرت لي أقصّها لأمير المؤمنين! فقال: هات ما معك يا عمّ! فقال؛ نعم يا أمير المؤمنين! كنت ذات يوم في بعض أزقّة بغداد راكبا دابّتي إذ شمّمت من بعض تلك الآدر رائحة طعام حسن الرائحة كثير الأبزار فتاقت نفسي إليه فرفعت بصري أنظر إلى الدار التي فيها تلك الرائحة فإذا أنا بمعصم في شباك كأنّه عمود رخام أو قطعة من نور؛ قد قمّع أطراف الأنامل بأحمر فعاد كما قال (من الطويل): أشارت بأطراف لطاف كأنّها … أنابيب دزّ قمّعت بعقيق (167) وأومت إلى خدّ كأنّ بياضه … بريق سيوف أو لهيب حريق قال إبراهيم: فشغلني حسن ذلك المعصم عن رائحة الطعام فبهتّ ساعة فلمّا أحسّت صاحبته بتأمّلي إليها قامت وغلّقت باب الشبّاك فأخذت قلبي وجميع جوارحي فحرّكت دابّتي إلى خيّاط على رأس الزقاق فسألت منه: لمن الدار؟ ومن هو صاحبها؟ فقال: هو رجل تاجر كبير القدر يقال له أبو محمد ابن خواجا عمر، ويدعو اليوم عنده دعوة لجماعة من أصحابه ونظرائه. فهو معي في الكلام وإذا قد ظهر ثلاث نفر ركّاب على دوابّ فره عليهم آثار الحشمة؛ فحرّكت دابّتي إلى نحوهم وقلت: جعلت فداكم إنّ أبا محمد قد أعياه انتظاركم وقد بعثني مستحثا لسرعة قدومكم! ثم تقدّمتهم إلى باب المنزل فخرج صاحب الدار وتلقّانا بأحسن متلقّى وهو يظنّ أنّي رفيقهم وهم يظنّون أنّي من جهته. وصرت مع الجماعة إلى منزل حسن قد فرش وزيّن فجلسنا ساعة نتحادث ثم

أحضرت الموائد من ذلك الطعام الذي شممته فأكلت منه حدّ الكفاية وقلت: هذا الطعام قد أخذت حظّى منه فكيف لي بصاحبة المعصم؟ ثم أحضروا آنية الشراب وخرجت شابّة كأنّها قضيب خيزران لكنّها ليست هي صاحبة المعصم فسلّمت وجلست واستدعت بعود كما قيل في مثله (من الطويل): سقى الله أرضا أنبتت عودك الذي … زكت منه أعراق وطابت مغارس تغنت عليه الورق والعود أخضر … وغنّت عليه الغيد والعود يابس فغنت وحرّكت عليه عدّة طرائق وعادت فكان كما قيل (من الكامل): (168) في كفّ جارية كأنّ بنانها … من فضّة قد طوّقت عنّابا وكأنّ يمناها إذا نطقت به … تلقى اليمين على الشمال جوابا ثم أصلحت شاذّه وحرّكته ثانيا فخيّل لي أنّ الأركان من الدار ترقص من حسن لعبها واستقبلت وأنشدت تقول (من الطويل): يقولون كم تذري المدامع عينه … لك الدهر دمع دائم يتحدّر وليس الذي يجري من العين ماؤها … ولكنّها نفس تذوب فتقطر قال؛ فلم أتمالك نفسي يا أمير المؤمنين دون أن صرخت صرخة طنت لها المكان. فأمسكت ساعة ثم إنّها أعادت الضرب وغيّرت الطريقة وحرّكت وأنشدت تقول (من الطويل): شكوت فقالت كلّ هذا تبرّما … بحبّي أراح الله قلبك من حبّي ولمّا كتمت الحبّ قالت لشدّ ما … صبرت وما هذا بفعل شجي القلب وأدنو فتقصيني وأبعد طالبا … رضاها فتعتدّ التباعد من ذنبي فشكواي تؤذيها وصبري يسؤوها … وتجزع من بعدي وتنفر من قربي فيا قوم هل من حيلة تعرفونها … أشيروا بها واستربحوا الأجر من ربّي قال؛ فصرخت أخرى أشدّ من الأولى فأمسكت من بعدما نظرت بعينها

إلى صاحب المنزل كالمنكرة؛ فغمزها بعينه. ثم أعادت الضرب وغيّرت الطريقة وحرّكت وهي تقول (من الكامل): قالت وقد عاينت حمرة كفّها … لا تعتبر فالعهد غير مضيّع ما إن تعمدت الخضاب وإنما … زفرات ذكرك أوقدت في أضلعي فبكيت من جزع دما فمسحته … بأناملي فتخضّبت من أدمعي قال؛ فكأنما كاشفت ما بقلبي من ذلك المعصم والكفّ المخضّب (169) فلم أتمالك والله دون أن صرخت صرخة أعظم من الأوليين. فلم أشعر بها إلاّ وقد ضربت بالعود الأرض كسرته ونهضت مغضبة وقالت: متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء؟! وإنّ القوم توثّبوا لذلك ونظر بعضهم إلى بعض فقلت لصاحب المنزل: هل من عود غيره؟ فقال: نعم! وأحضر عودا أحسن من ذاك فأخذته يا أمير المؤمنين وأصلحته وحرّكت تحريك ذي قلب قريح وفؤاد جريح، وأنشدت (من الطويل): ترى الدرّ منظوما إذا ما تكلمت … وكالدرّ منظوما إذا لم تكلّم تعبّد أحرار القلوب بحبّها … وتملأ عين الناظر المتوسّم قال؛ وإذا بتلك الصبية خرجت وهي حاسرة عن رأسها فقبّلت أقدامي ودموعها تجري؛ فقبلت عذرها وزال عن القوم ما كانوا فيه، وأقبلوا يعتذرون، وسألوني الزيادة؛ فأصلحته وغيّرت وأنشدت (من الكامل): وحديثها السحر الحلال لو انّه … لم يجن قتل المسلم المتحرّز إن طال لم يملل وإن هي أوجزت … ودّ المحدّث أنها لم توجز قال؛ فطاب لهم الوقت وشربوا بالكاس والكاس، وقبّلوا جميعا أطارفي، وسألوني أن أزيدهم فحرّكت وغيّرت وأنشدت (من البسيط):

نفسي الفداء لمن قامت تودّعني … والصبر قد غاب والتوديع قد حضرا فخلت محمرّ دمعي في غلائلها … من حبّ رمّان نهديها قد انتثرا قال؛ فصرخت الجارية وقالت: السلاح يا قوم! هذا في الأحلام لا يكون، فكيف في اليقظة؟! فطاب لهم الشراب وسكروا الأصناف، وانصرفوا محمولين إلى منازلهم وبقيت أنا وصاحب البيت (170) إذ كان أصحّ منهم عقلا وأثبت جأشا. فلمّا خلونا قال: يا سيّدي! لقد ضيّعنا ما كان من أعمارنا في غير فائدة إذ لم نكن نعرفك فيه، فيالله من تكون، وكيف كان سبب تصدّقك علينا؟ قال؛ فقصصت عليه الحال وعن الطعام وصاحبة المعصم وعرّفته بنفسي فنهض يا أمير المؤمنين قائما وقبّل الأرض وقال: أنا جالس مع الخلافة ولا أشعر؟! والله لا برحت أو أعرض عليك سائر من عندي! وأمر بإخراج سائر جواريه وسراريه فلم أجد صاحبة المعصم فيهم. فقال: والله يا سيّدي لم يبق غير الوالدة والأخت. فقلت: فالأخت خالية من بعل؟ فقال: نعم! فقلت: إبدأ بها جعلت فداك! فأخرجها فإذا هي صاحبة المعصم بعينها. فلمّا عرفتها أطرقت إلى الأرض حياء فقال: يا سيّدي! ترى أن أكون عبدك وهي أمتك؟ وأعقد لك عليها؟ فقلت: نعم! قال؛ فأمر برفع تلك الآنية وأحضر عشرة من مشايخ جيرانه، وأخرج بدرة دراهم وقال: إشهدوا عليّ أنّي زوّجت أختي فلانة من سيّدي إبراهيم بن المهدي هذا، وأمهرتها عنه من مالي هذه البدرة. ثم أمر بجملة نثار نثر على تلك الجماعة وصرفهم. وقال: إن شئت مهّدت لك فبتّ مع أهلك هنا، وإن شئت حملتها إليك! فاستحييت أن أبيت معها في منزل الرجل؛ فأمر بعماريتين وحملت إلى منزلي ومعها من القماش والأمتعة ما ضاقت به منازلنا، واستولدتها هذا القائم على رأس أمير المؤمنين! فأعجب المأمون م‍

ذكر سنة ست عشرة ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

سمع، وأطلق ذلك الطفيليّ وأنعم عليه، وأمر بإحضار ذلك الرجل وأن تكون له نوبة في المنادمة بالحضرة. (171) ومن أطرف ما قيل في طفيلي هذين البيتين (من الخفيف): تعجبه من غيره دعوة … فهو يراها أبدا في المنام قد كتب التطفيل في وجهه … هذا قتيل في سبيل الطعام ولبعض الكرماء الأجواد-وهو عبد الله الهروي؛ يقول (من السريع): إنّ الطفيليّ له حرمة … زادت على حرمة ندمان لأنه جاء ولم أدعه … مبتدئا منه بإحسان وما أحسن هذه الاستعارة في مديح ملك (من مجزوء الكامل): ملك طفيلي السما … ح على الأقارب والأباعد ما فرّجت أبوابه … إلاّ تفرّجت الشدائد ذكر سنة ستّ عشرة ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع فقط. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد. وفيها قدم المأمون إلى مصر

ذكر سنة سبع عشرة ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

لسبع ليال خلون من المحرّم ثم خرج إلى البيما وسباها. وفيها ابتدئ ببناية المقياس المأموني الذي هدمه الماء. واشتدّ بالناس الغلاء وعزّ القمح جدا. وضمن إبراهيم بن تميم وأحمد بن أسباط الخراج بألفي ألف دينار وسبعين ألف دينار. ثم خرج المأمون متوجّها إلى الشام. ثم توجّه إلى العراق؛ والبلاد في ولاية المعتصم. وهي بغير قاض. وفيها (172) توفّي طاهر بن الحسين وعقد المأمون لعبد الله بن طاهر على خراسان. ذكر سنة سبع عشرة ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وستة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد. ومصر في ولاية المعتصم

ومن قبله عليها كيدر واسمه نصر بن عبد الله على الحرب، وابن تميم وابن أسباط على ضمانهما الخراج. وولي القضاء هارون بن عبد الله الزهري؛ وكان محمودا. وتزايد الغلاء بمصر، وأخلوا أكثر أهلها شرقا وغربا ولم يبق بها إلاّ ذو قدرة وميسرة. وعبد الله بن طاهر بخراسان. روي أنّ سوّارا دخل عليه وهو يومئذ بخراسان فقال: أصلح الله الأمير (من الطويل): لنا حاجة والعذر فيها مقدّم … خفيف معناها مضاعفة الأجر فإن تقضها فالحمد لله وحده … وإن أنت لم تفعل ففي أوسع العذر قال له: حاجتك أبا عبد الله! قال: كتاب لي-إن رأى الأمير أكرمه الله- أن ينفذه في خاصّة كتبه إلى محمد بن عبد الملك في تعجيل أرزاقي! قال عبد الله بن طاهر: أو غير ذلك أبا عبد الله؟! تعجيلها لك من مالنا فإذا هي وردت كنت مخيّرا بين أن تأخذ أو تردّ! فأنشأ سوّار يقول (من المتقارب): فبابك أيمن أبوابهم … ودارك معمورة عامره وكفّك حين ترى المجتبين … أندى من الليلة الماطره وكلبك آنس بالمعتفين … من الأمّ بابنتها الزائره (173) ومآثر عبد الله بن طاهر وجوده كثيرة لو شرحناها لخرجنا عن الاختصار. وكذلك جميع أهل بيتهم نسجوا على منوال واحد في الجود والكرم.

ذكر سنة ثمان عشرة ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة ثمان عشرة ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع واثنان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا فقط. ما لخّص من الحوادث الخليفة عبد الله المأمون بن هارون الرشيد إلى أن توفّي رحمه الله في تاريخ ما يأتي. وولّى المعتصم ولده إسحاق مصر لمّا تولّى الخلافة. واستمرّ كيدر وابن أسباط على الخراج. والقاضي هارون بن عبد الله بحاله. كان المأمون يقول: نظرت في الطالع فرأيت أنّي أقبر بالرقّة! فكان إذا مرّ بها وعبر عليها يسرع في السير. فلمّا كان في غزاة الصائفة مرّ يريد طرسوس فمرّ بأرض سهلة طيبة كثيرة العشب والخضرة فأمر بالنزول بها وطابت نفسه بالإقامة فيها. واغتسل في ذلك النهر فحمّ وقوي به المرض فنظر إلى بناء عن بعد فقال لبعض غلمانه: أنظر ما هذا البناء! فقيل: هو دير. فاستدعى براهبه وسأل منه ما اسم هذا الدير؟ قال؛ يقال له دير البدندون. قال: وما تفسير ذلك بالعربي؟ قال: معناه قرب الأمر مدّ رجلك! فارتاع لذلك. وكان يقول بالتفاؤل؛ فعلم أنّه ميّت. ولقوّة جزعه لم يتمّ يومه حتّى مات. رحمه الله تعالى. وذلك يوم الأربعاء لثمان خلون من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين. مدّة خلافته عشرون

ذكر خلافة المعتصم بالله بن هارون الرشيد وما لخص من سيرته

سنة. عمره ثمان وأربعون سنة. وقيل تسع وأربعون. مولده ليلة الجمعة لثلاث عشرة بقيت من ربيع الأول سنة سبعين ومائة. <قيل: لم ير تباعد أكثر مما بين قبر الرشيد وقبر ولده المأمون؛ دفن الرشيد رحمه الله بطوس، ودفن المأمون رحمه الله بطرسوس؛ فسبحان الحيّ الذي لا يموت>. (174) صفته: أبيض، تعلوه شقرة، ربعة، أقنى، أعين، ضيّق الجبهة، طويل اللحية دقيقها بخدّه الأيمن خال وخّطه الشيب. وزراؤه: الفضل بن سهل ذو الرئاستين. ثم أخوه الحسن بن سهل، وأحمد بن أبي خالد، وأحمد بن يوسف. والله أعلم. نقش خاتمه: الله ثقة عبد الله. عبد الله يؤمن بالله. إسأل الله يعطيك؛ ذكره القضاعي. ذكر خلافة المعتصم بالله بن هارون الرشيد وما لخّص من سيرته هو أبو إسحاق محمد وقيل أحمد بن هارون الرشيد. وباقي نسبه معلوم.

يقال له السبّاع والبيطار والخليفة الثماني. فأمّا السبّاع فإنّه كان يصيد السباع بيده، ويلوي أعمدة الحديد في حلوقها أطواقا ويرسلها. وأمّا البيطار فإنه كان يصيد حمر الوحش فيغلّها بالحديد ويطلقها. وأمّا الثماني فإنّ أحواله جميعها جرت على ثمانية ثمانية كما يأتي ذكر ذلك. أمّه أمّ ولد يقال لها ماردة من مولّدات الكوفة. وقيل إنها تركيّة. بويع له يوم مات المأمون وكان بطرسوس ثم قدم إلى بغداد غرّة شهر رمضان سنة ثمان عشرة ومائتين. وكان ذلك بعهد من المأمون له. وشخص إلى سرّ من رأى سنة عشرين ومائتين واتخذها دارا. تفسير الكلام كونه عرف ولقّب بالخليفة الثماني. وذلك أنّه الثامن لولد العبّاس. وثامن الخلفاء العبّاسيين. والثامن بولد الرشيد. ومولده سنة ثمان وسبعين في الثامن من الشهر الثامن (175) من السنة المذكورة. <ومات> وعمره ثمان وأربعون سنة. وملك ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام. وفتوحه ثمان. وتوفّي لثمان بقين من شهر ربيع الأول. وخلّف ثمانية بنين وثماني بنات. وخلّف من العين ثمانية آلاف ألف دينار وثمان مائة ألف ألف درهم وثمانية آلاف غلام وثمانية عشر ألف دابّة وثمان مائة حظية. هذا ما ذكره أبو منصور الثعالبي وهو عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري

الذي قال في حقّه ابن بسّام صاحب كتاب الذخيرة: كان أبو منصور في وقته راعي تلعات العلم، وجامع أسباب النثر والنظم، رأس المؤلّفين في زمانه، والمصنّفين بحكم قرانه، وتواليفه أشهر مواضع وأبهر مطالع وأكثر راولها وجامع من أن يستوفى لها حدّ أو وصف أو يوفي حقوقها نظم أو رصف. فمن جملة نظمه ما كتب به إلى الأمير أبي الفضل الميكالي رحمه الله يقول (من الكامل): لك في المفاخر معجزات جمّة … أبدا لغيرك في الورى لم تجمع بحران بحر في البلاغة شانه … شعر الوليد وحسن لفظ الأصمعي كالنور أو كالبدر أو كالسحر أو … كالوشي في برد عليه موسّع شكرا فكم من فقرة لك كالغنى … وافى الكريم بعيد فقر مدقع وإذا تفتّق نور شعرك ناضرا … فالحسن بين مرصّع ومصرّع أرجلت فرسان الكلام ورضت أف‍ … راس البديع وأنت أمجد أروع ونقشت في فصّ الزمان بدائعا … تزري بآثار الربيع الممرع ومن شعره أيضا يقول (من البسيط): لمّا بعدت فلم توجب مطالعتي … وأمعنت نار سوقي في تلهّبها (176) ولم أجد حيلة تبقي على رمقي … قبّلت عيني رسولي إذ رآك بها وأمّا تواليفه فيقال إنها تسعة وتسعين كتابا. فقيل له: لم لا تكمّلها مائة؟

ذكر سنة تسع عشرة ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

قال: تقلّ في النطق بها. والذي وقف العبد عليه من تصانيفه: كتاب فقه اللغة وسرّ البلاغة، وكتاب من غاب عنه المطرب، ومؤنس الوحيد، ولطائف المعارف، وكتابه الذي ما عمل في فنّه مثله المسمّى «يتيمة الدهر»؛وهو أكبر كتبه على علمي مما وقفت عليه وأحسنها وأجمعها. وفيها يقول أبو الفرج نصر الله بن قلاقس الإسكندري (من مجزوء الكامل): أبيات أشعار اليتيمة … أبكار أفكار قديمه ماتوا وعاشت بعدهم … فلذاك سمّيت اليتيمه ونعود إلى ذكر المعتصم بالله. ومن جملة فتوحاته عمّورية؛ وهي التي امتدحه فيها أبو تمّام الطائي بالقصيدة المشهورة التي أوّلها: *السيف أصدق أنباء من الكتب* وفيها يقول (من البسيط): رمى بك الله برجيها فهدّمها … ولو رمى بك غير الله لم يصب فقيل له: جعلك حجرا! فقال: إذا كان الله الرامي فلا أبالي أيّما كنت! ذكر سنة تسع عشرة ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وسبعة أصابع. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وعشرة أصابع.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتصم بالله بن هارون الرشيد. وطلب ولده إليه إلى العراق من مصر. وولي الحرب بها رجل من خراسان يقال له دلور ثم المظفّر بن كيدر. وضمّان الخراج بحالهما. وكذلك القاضي هارون. (177) وكان المعتصم أمّيا دون سائر الخلفاء. وسبب ذلك ما رواه المسعودي رحمه الله أنّ الرشيد كان يحبّه فسمعه يوما وقد خرجت جنازة بعض خدم القصر وهو يقول: وددت-والله-لو كنت مثل هذا الميّت واستريح من كدّ التعليم! فقال الرشيد: والله لا حملت على ولدي شيئا يتمنّى من أجله الموت! ووجدت في مسوداتي أنه قرأ بين يديه بعض كتّابه يسمّى أحمد بن إسماعيل كتابا ورد على المعتصم من بعض الأعمال يقول فيه: وأمطرنا حتّى كثر لدينا الكلأ؛ فقال المعتصم: يا أحمد! وما الكلأ؟ قال: لا علم لي! فقال المعتصم: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله! خليفة أمّي وكاتب عامّي! ضاع الناس بيننا! أنظروا من بالباب! فلم يكن غير محمد بن عبد الملك الزّيات، وكان يخدم يومئذ في مطبخ الآدر؛ فلمّا مثل بين يديه قال له المعتصم: من تكون يا شاب؟ فقال: شبيب دولتك، وربيب نعمتك محمد بن عبد الملك! فقال: يا محمد! ما الكلأ؟ فقال: ما يبس من حشيش الأرض ونباتها يا أمير المؤمنين. ثم قصّ عليه النبات من ابتدائه إلى كهولته إلى يبسه وما قالت فيه العرب منظوما ومنثورا، وطرّز ذلك بذكر الديار والأطلال والدمن ووقائع العرب وأيامها المشهورة بأفصح لسان وأحسن بيان. فسلّمه منذ ذلك اليوم ديوان الترسّل وفضّ الخرائط.

ذكر سنة عشرين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة عشرين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث (178) الخليفة محمد المعتصم بالله هارون الرشيد. وولي موسى بن أبي العبّاس حرب مصر. وأفرد إسحاق بن إبراهيم بن تميم بالخراج. وعزل ابن أسباط. والقاضي هارون الزهري مستمرّ بحاله. ذكر محمد بن عبد الملك الزيّات روي أنّ محمدا هذا كان أبوه عبد الملك صاحب حانوت يبيع فيه الزيت، وكان ذا مال. وكان محمد من صغره متولّعا بالاشتغال. وكان أبوه يدعه في حانوته ليبيع عنه كعادة أبيه ويغيب أبوه عنه في أشغاله فيترك محمد الحانوت ويأتي حلقة يونس وحلقة الكسائي وغيرهما من المشايخ فيأتي أبوه إليه ويضربه ويعيده إلى حانوته. فأتى ذات يوم وهو في حلقة الكسائي فضربه وأقامه والشيخ ينظر إليه فسأله فقال: يا سيّدي! نحن قوم عامّة ولنا حانوت نسترزق الله تعالى فيها فأدعه بها فيتركها ويحضر عندكم فما هو وذاك؟ فقال الشيخ: يا ولدي! ولم تخالف أباك؟ فقال: يا سيّدي رغبة في العلم، وبغضا في حرفتنا.

ذكر سنة إحدى وعشرين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

فقال له الشيخ: فهل عندك شيئ مما نحن فيه؟ قال؛ فقصّ عليه جميع ما يقوله الشيخ، وما يرمي من المسائل وما يجاب ويجيب عنها في تلك الأيام يوما بيوم. فبهت الشيخ وسائر من حضر فقال لأبيه: إن رأيت أيّها الرجل أن تخلّي عن ولدك وأنا أدفع إليك أجرته فسيكون له شأن من الشأن! فقال أبوه: معاذ الله! فإن كان صالحا لخدمة سيّدي فلا عدت أعرض له. فكان محمد إذا أتى أباه وأمّه يهزآن به ويسخران منه فيقول لأبيه: والله لأطعمنّك اللوزينج في صحاف الفضة على محامل البلور بحضرة الخلفاء! ولا زالت (179) تترقّى به الأحوال إلى أن صار منه ما صار حتّى وزر للمتوكّل وللواثق من قبله. فبينما هو ذات يوم بحضرة الواثق وقد أحضر لوزينج في صحاف البلور على محامل الفضّة فتذكّر قوله لأبيه فدمعت عيناه! فرآه الواثق فسأله فقصّ عليه ولم يخفه شيئا فأمر بإحضار أبيه وكان قد أسنّ وكفّ بصره فلمّا حضر عاد يأخذ يده ويضعها على الصحاف البلور والمحامل الفضة ويلقمه من اللوزينج وقال: {يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ}! ذكر سنة إحدى وعشرين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وخمسة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأحد وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد. وموسى بن أبي العبّاس على حرب مصر. وعزل إسحاق وولي عبد الله بن عبد الرحمن الخراج. والقاضي هارون الزهري بحاله.

ذكر سنة اثنتين وعشرين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

روى ابن عساكر-في تاريخه-رحمه الله عن الدولابي أنّ المعتصم اقتنى أسدا عظيم الخلق لم ير الناس مثله؛ فسلسله وجعله في مجلسه. فبينا هو ذات يوم جالس إذ انفلت ذلك الأسد من وثاقه ووثب على المعتصم فضربه بعمود كان لا يبرح في يده من حديد بحلق من ذهب فحطّم به رأس الأسد ولعظم الضربة انكسرت يده، وانصرع الأسد مجندلا! فأحضر المعتصم المجبّر فجبر يده فلمّا جبرت وجدها معوجّة فأحضر المجبّر وقال: اعدلها! فقال: يا أمير المؤمنين! لا تعتدل حتّى تكسر ثانيا! فرفع (180) يده وضرب بها حافّة السرير فكسرها وقال: جبّر معتدلا وإلاّ ضربت عنقك! فجبرها ذلك اليوم. ولعظم ما عاين المجبّر من جبروته لم يعش إلاّ أياما قليلة ومات فرقا. وكان شديدا قويا يحمل ألف منّ ويمشي به عدّة خطوات. ذكر سنة اثنتين وعشرين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وخمسة عشر إصبعا. ومبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأحد وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة محمد المعتصم بن هارون الرشيد. وولي موسى بن أبي العبّاس الحرب بمصر. وأبو الجارود الخراج. وفيها انقضّ نجم لم ير الناس أعظم منه حتّى نودي بالنفير في الرقّة وكور الجزيرة والشامات، وتخوّفت الناس منه عدّة ليال.

ذكر سنة ثلاث وعشرين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

ومن نكت المعتصم ما رواه الطبريّ رحمه الله أنّ المعتصم كان ذات يوم في بستان له راكبا حمارا مصرّيا-وكان هذا عوائد الخلفاء في البساتين-فدخل عليه الحاجب يعرّفه بحضور خارجيّ قد مسك فأمر بإحضاره. فلمّا صار بالقرب من المعتصم قبض على مقبض سيف من بعض الموكّلين به ووثب على المعتصم، وانهزم الموكّلون به. فلمّا أراد أن يضرب المعتصم وهو راكب لم يتغيّر؛ فقال المعتصم: يا غلام! إضرب عنقه! فالتفت الخارجي ينظر لمن القول فوثب المعتصم عليه ولكمه أرماه كالحجر ثم تناول السيف منه وذبحه به ورجع إلى مركوبه ولم يتغيّر عليه شيئ، وأمر به فسحب ولا (181) تعرّض لأحد من موكّليه؛ وإنما منذ ذلك اليوم جعل مملوكا يحمل السلاح حيث كان فاستمرّ الحال على ذلك. ذكر سنة ثلاث وعشرين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وأربعة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا وأحد وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد. وموسى بن أبي العبّاس بحاله. وولي سعيد بن البختكان مع المنذر بن الجارود الخراج جميعا. والقاضي هارون الزهري بحاله مستمرّ على قضائه.

قال الصولي، قال لي محمد بن يزيد المهلّبي، قال، قال لي محمد بن عمر الرومي الشاعر: لله درّ المعتصم ما كان أعقله من رجل! كان له غلام يقال له عجيب، وكان عند اسمه من حسنه، وكان مشغوفا به. فحارب بين يديه يوما فحسن بلاؤه؛ فدعاني المعتصم فقال: يا محمد! جليس الرجل صديقه وذو نصحه وموضع أنسه، ولي عليك حقّ الرئاسة والإحسان والإمامة؛ فاصدقني عمّا أسألك عنه! فقلت: لعن الله من يقيم نفسه إلاّ مقام العبد الناصح الذي يرى فرضا عليه أن يضيف كلّ حسن إليك. وينفي كلّ عيب عنك وإن كان لا عيب بحمد الله! قال: قد علمت أنّي دون إخواني في الأدب لحبّ الرشيد لي وميلي إلى اللعب وأنا حدث فما نلت ما نالوا. وقد قاتل عجيب بين يديّ فأحسن، وأنت تعلم وجدي به. وقد جاش طبعي بشيئ قلته فإن كان مثله يجوز فاصدقني وإلاّ طويته! قلت: والله لا جزت (182) ما أمرت به! فأنشدني (من المجتث): لقد رأيت عجيبا … يحكي الغزال الربيبا الوجه منه كبدر … والقدّ يحكي القضيبا وإن تناول سيفا … رأيت ليثا حريبا وإن رمى بسهام … كان المجيد المصيبا طبيب ما بي من الحبّ (م) … فلا عدمت الطبيبا إنّي هويت عجيبا … هوى أراه عجيبا قال؛ فحلفت له أيمان البيعة أنّه شعر مليح من أشعار الخلفاء الذين ليسوا بشعراء! فطابت نفسه. فقلت له: يحتاج إلى لحن فيه. فقال: لا أحبّ ذلك

لذكر عجيب! قلت: فلا يذكر البيتان اللذان فيهما ذكر عجيب! قال: أمّا إذا فنعم! فغنّى به مخارق، ووصلني بخمسين ألف درهم. كان محمد بن عمر الرومي من الشعراء المفحمين، فائقا على أهل عصره. وله ديوان مشهور في أيدي الناس. وكان هجوه أقطع من مدحه. وهو الذي هجا الورد بمعنى لم يسبق إليه؛ وهو قوله (من البسيط): يا مادح الورد ما تنفكّ من غلط … أمّا تأملته في كفّ ملتقطه كأنه سرم بغل حين أبرزه … إلى الخراء وباقي الروث في وسطه وكان يفضّل النرجس على الورد؛ وفي ذلك يقول (من الكامل): خجلت خدود الورد من تفضيله … خجلا تورّدها عليها شاهد لم يخجل الورد المضاعف لونه … إلاّ وناحله الفضيلة عائد للنرجس الفضل المبين وإن أبى … آب وحاد عن الفضيلة حائد أين الخدود من العيون نفاسة … ورياسة لولا القياس الفاسد (183) هذي النجوم وهي التي ربّتهما … بحيا السماء كما يربّى الوالد فانظر إلى الولدين من أدناهما … شبها بوالده فذاك الماجد فقال أبو الحسن بن يونس المصري يجيبه (من الكامل): يا من يشبّه نرجسا بنواظر … دعج تنبّه إنّ ذهنك فاسد إنّ القياس لمن يصحّ قياسه … بين العيون وبينه متباعد أو قلت إنّ كواكبا ربّتهما … بحيا السماء كما يربّي الوالد فانظر إلى المصفرّ لونا منهما … وافطن فما يصفرّ إلاّ الجاحد وقال أبو الحسن أيضا متعقّبا للورد على النرجس (من مجزوء الرمل): أصبح الورد أميرا … وله النرجس عبد

(184) ذكر سنة أربع وعشرين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

يجلس هذا وهذا … قائم يقلق وجد وكذا كلّ أمير … هو في الإمرة فرد وأمّا هجو ابن الرومي فله الغاية في ذلك. فمن <ذلك> قوله (من البسيط): قوم من الزنج والأتراك قد بلغوا … فينا بأقبح فعل غاية الأمل ففخر هذا لما قد نيل من دبر … وفخر هذا لما قد قدّ من قبل وقوله (من الكامل): يا ابن الزنيم ويا ابن الغيّ والدنس … يا ابن الطريق لشارد ولوارد ما فيك موضع عضّة لبعوضة … إلاّ وفيها نطفة من واحد وأجاد في ذكر السفن بالنيل؛ فقال (من السريع): أما ترى الوقت وألاّفه … والنيل في غاية إسعافه كأنّه الرقّ نوتيّنا … يكتب واوات بمجدافه وله أشعار فائقة وتشابيه خارقة أضربنا عن ذلك للاختصار. إذ هو كتاب إيجاز، وتاريخ إنجاز لا كتاب إطناب وتعليل وإسهاب. (184) ذكر سنة أربع وعشرين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد. وموسى بن أبي العبّاس على الحرب بمصر. وافترد ابن البختكان بالخراج. والقاضي هارون بحاله. روي أنّ المعتصم قال يوما للقاضي أحمد بن أبي دؤاد: أيظنّ دعبل الخزاعيّ أنّ لي حلم المأمون؟! والله إن أمرت به ليكوننّ أحدوثة لأهل زمانه! فقال أحمد: وما الذي فعل يا أمير المؤمنين؟ قال: هجاني! فقال: أعوذ بالله يا أمير المؤمنين! ومن دعبل حتّى يتوهّم هذا في خاطره أو يهجس بحسّه؟! ومن القائل لأمير المؤمنين؟ قال: عمي إبراهيم! قال: وإبراهيم متّهم يا أمير المؤمنين! قال: بماذا؟ قال؛ لقوله فيه هذا (من الكامل): إن كان إبراهيم مضطلعا لها … فلتصلحن من بعده لمخارق ولتصلحن من بعد ذاك لزرزر … ولتصلحن من بعده للمازق قال؛ فضحك المعتصم وقال: لعمري إذا كان إبراهيم خليفة كان مخارق وليّ عهده! والمازق وزرزر مغنّيين ذكرهما صاحب كتاب الأغاني. وأما البيتان اللذان ذكرهما إبراهيم وغمّ بهما على دعبل فهذان (من الطويل):

ذكر سنة خمس وعشرين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

ملوك بني العبّاس في الكتب سبعة … ولم تأتنا عن ثامن منهم كتب كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة … ملوك إذا عدّوا وثامنهم كلب (185) وفيها زلزلت مدينة فرغانة زلزلة عظيمة مات من أهلها تحت الردم خمسة عشر ألف نفس، وخرب منها قريب الثلث. وكانت زلزلة ما عهدوا قبلها مثلها. وفيها احتبس فتح باب مكة يوم التروية؛ وكان يوم الثلاثاء؛ فلم ينفتح عامة ذلك النهار. والله أعلم. ذكر سنة خمس وعشرين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعا ونصف. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد. وموسى على حرب مصر. وابن البختكان على الخراج. وفيها كانت الرجفة بسوق الأهواز حتّى هرب أهلها إلى السفن والبر

ذكر سنة ست وعشرين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

وسقطت فيها آدر كثيرة ونصف مسجد الجامع. وليلة الأربعاء مستهلّ جمادى الآخرة من هذه السنة ظهرت حمرة شديدة مع الفجر مع حرارة عظيمة حتّى ظنّ أنها نار محرقة، وخرج أهلها يستغيثون ويضرعون، ولم تزل إلى بعد طلوع الشمس. واستمرّ ذلك النهار بكماله من أشدّ ما يكون من الحرّ. وعاد يضمحلّ أولا فأولا إلى ثاني يوم الفجر. ذكر سنة ستّ وعشرين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وستة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد. وعزل موسى (186) وولي مكانه مالك بن نصر كيدر. وعلى الخراج أبو الوزير أحمد بن خالد وابن البختكان. وعزل القاضي هارون الزهري وولي مكانه محمد بن أبي الليث. قال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه المعروف بمرآة الزمان عن محمد بن حبيب إنّه في هذه السنة مطر أهل تيماء بردا كالبيض قتل بها ثلاثمائة

ذكر سنة سبع وعشرين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

وستين إنسانا، وهدمت آدر، وسمع في ذلك صوت يقول: إرحم عبادك، أعف عن عبادك! ونظروا إلى قدم طول أثرها ذراع ونصف بغير أصابع عرضها شبران، فجعلوا يسمعون صوتا ولا يرون شخصا. ذكر سنة سبع وعشرين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة أصابع. مبلغ الزيادة ثلاثة عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد إلى أن توفّي في هذه السنة في تاريخ ما يذكر. ومالك بن نصر على حرب مصر. وكان قد عزل أبو الوزير عن الخراج وولي الوليد بن يحيى رفيقا لابن البختكان. ومحمد بن أبي الليث قاضيا مستمرا على قضائه. توفّي المعتصم رحمه الله لسبع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول من هذه السنة، وله ثمان وأربعون سنة. وصلّى عليه الواثق ولده، ودفن بالجوسق الكبير. صفته: أبيض، شديد البياض، حسن الوجه، أصهب الشعر، عظيم اللحية، ربعة. (187)

ذكر خلافة هارون الواثق بالله ابن محمد المعتصم، وما لخص من سيرته

وزراؤه والكتّاب: الفضل بن مروان ثم أحمد بن عمّار ثم محمد بن عبد الملك الزيّات. حجّابه: وصيف، وإيتاخ التركيان؛ ويخلفهما محمد بن حمّاد ثم دنفش. نقش خاتمه: سل الله يعطيك؛ وقيل: الله ثقة أبي إسحاق وبه يوقن. ذكر خلافة هارون الواثق بالله ابن محمد المعتصم، وما لخّص من سيرته هو أبو جعفر هارون بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد؛ وباقي نسبه قد علم. أمّه أمّ ولد يقال لها قراطيس أدركت خلافته وماتت بالكوفة في هذه السنة. بويع له صبيحة يوم مات فيه أبوه؛ وذلك في شهر ربيع الأول من هذه

ذكر سنة ثمان وعشرين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

السنة، وله يومئذ <ستّ و> ثلاثون سنة وأشهرا. كان الغالب عليه محمد بن عبد الملك الزيّات المقدّم ذكره. واستسنّ للمصادرين تنورا من حديد بمسامير ذات أصماخ بارزة إلى داخله يجعل فيه الرجل المصادر وربّما أمر أن يحمى عليه بالنار من خارجه فما يمكث الرجل أن يهلك! وبه قتل في خلافة المتوكّل. وكان بينه وبين القاضي أحمد بن أبي دؤاد هنات ومباينة؛ ومنها ما يأتي بعد ذكر السنة إن شاء الله تعالى. ذكر سنة ثمان وعشرين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة هارون الواثق بالله بن المعتصم بالله بن هارون الرشيد. وولّى على الحرب بمصر علي بن يحيى الأرمنيّ. والوليد بن يحيى خراج أسفل (188) الأرض، وموسى بن خالد خراج الصعيد بأعلى الأرض. والقاضي محمد بن أبي الليث مستمرّ على قضائه. كان الواثق في كثير من أموره يذهب مذاهب المأمون، وشغل نفسه بمحنة الناس في الدين فأفسد قلوبهم، وكان يعاقب من امتنع من القول بخلق القرآن العظيم.

ذكر سنة تسع وعشرين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة تسع وعشرين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع ينقص ستة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا فقط. ما لخّص من الحوادث الخليفة هارون الواثق بالله بن محمد المعتصم. وعزل عليّ بن يحيى عن حرب مصر، وولّى مكانه عيسى بن منصور. وكذلك عزل الوليد وولّى مكانه عبد الملك بن خليفة المعروف بأبي الوزير. والقاضي محمد بن أبي الليث بحاله. وأمّا السبب الذي كان بين محمد بن عبد الملك الزيّات وبين القاضي أحمد بن أبي دؤاد؛ وذلك أنّ القاضي أحمد بن أبي دؤاد كان كثير التعصّب للناس، واقفا على قدم الاجتهاد في قضاء حوائج خلق الله تعالى حتّى عرف بذلك، وخبطت إليه آباط الإبل من شرقها وغربها وعادوا نزولا عليه! فعاد كثير الترداد إلى الوزير محمد بن عبد الملك حتّى ملّه وبرم منه. قال ابن الرومي: فبينا نحن جلوس في حضرة القاضي أحمد بن أبي دؤاد بمجلس خلوته إذ دخل خادم الدواة يستأذن على حاجب الوزير محمد بن عبد الملك فأذن له فسلّم ثم قال: الوزير يقرئك السلام، ويقول لك خفّف وطأتك أيّها القاضي عن كثرة الترداد إليه فإنه يستعفيك من ذلك! (189) قال؛ وكان القاضي متكئا فجلس

ذكر سنة ثلاثين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

وقال؛ قل للوزير إنّ أمير المؤمنين-أعزّه الله-قد أحلّك محلاّ فإن جئناك فلأمير المؤمنين، وإن انقطعنا عنك فلك؛ وكلّ يعرف أصله! ثم حصلت الوحشة بينهما منذ ذلك اليوم. ذكر سنة ثلاثين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع واثنان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وتسعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة هارون الواثق بالله بن محمد المعتصم. وعيسى بن منصور بحاله وعبد الملك بن خليفة. والقاضي ابن أبي الليث مستمرّ على قضائه. كان سبب صلة القاضي أحمد بن أبي دؤاد بالخلفاء ما روي عن محمد بن عمر الرومي قال؛ طلبت ذات ليلة إلى حضرة المأمون للمنادمة- وكان المأمون والمعتصم ويحيى بن أكثم وصرت رابعهم. فأفضى بنا الحديث والمنادمة إلى الطعام وطبخه فقال المأمون: ليطبخ كلّ منا قدرا من الطعام ونتناظر فيه! فأحضر لكلّ واحد منا بحاجته فلمّا تهيأت القدور ورضوا جميعا وقلنا: لا بدّ لنا من يحكم بيننا! فقال القاضي يحيى: أي من أحضرناه حكم لأمير المؤمنين علينا! فقال المأمون لبعض الخدم أخرج من باب الخاصّة فمن وجدت أحضره إلينا كائنا من كان! قال؛ فخرج الخادم-وكان الليل قد تهوّر-

فأحضر رجلا حسن الهيئة واللباس، عليه سمة فضل ووقار فسلّم فأبلغ، وتكلّم فأحسن فأعجب المأمون فقال: من (190) تكون أيّها الرجل؟ فقال: عبد من عبيد أمير المؤمنين أحمد بن أبي دؤاد! فسأله عن نسبه فانتسب. وكان أحمد متّصل النسب إلى أبي دؤاد الإيادي-وهو حارثة بن الحجّاج-الشاعر الجاهلي المقدّم ذكره في أول جزء من هذا التاريخ عند ذكرنا لشعراء الجاهلية. وكان أبو دؤاد قد مدح الحارث بن همّام بن مرّة بن ذهل بن شيبان فأعطاه عطايا كثيرة ثم مات ولد لأبي دؤاد وهو في جوار الحارث فوداه، وحلف الحارث أنه لا يموت له ولد إلاّ وداه، ولا يذهب له مال إلاّ أخلفه فضرب العرب المثل بحسن جواره؛ فمن ذلك قول قيس بن زهير (من الوافر): أطوّف ما أطوّف ثم آوي … إلى جار كجار أبي دؤاد ومن هذا الضرب كثير؛ وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم. فلمّا انتسب القاضي أحمد بن أبي دؤاد للمأمون أثنى يحيى عليه بخير فقال: أو تعرفه؟ قال: نعم! يا أمير المؤمنين، وهو ينوب عني في بعض جهاتي. فقال المأمون: يا أحمد! هؤلاء أربعة قدور قد طبخوا فاحكم بينهم! قال: فشمّر أحمد كمّه وعمد إلى قدر المأمون من غير أن يعلمها فأكل منها بثلاث لقم وقال: زه لمن حكمك، لقد أتقن صناعتك فلله درّه! ثم عمد إلى قدر المعتصم فأكل منها لقمتين وقال: إن صدقني حزري فهما عن يد واحدة! ثم عمد إلى قدر ابن الرومي فأكل منها لقمة واحدة وقال؛ هذه قدر طبّاخ ابن طبّاخ قد أتقن صناعتها وجرد أبزارها. ثم عمد إلى قدر القاضي يحيى فوضع لقمة في فيه ثم تفلها وقال: كأنّ طبّاخها جعل مكان بصلها خرا! قال؛ فضحك المأمون (191) والمعتصم حتّى فحصا برجليهما ثم أمر المأمون أن تغسل القدور الأربع وتملأ دراهم وينعم بها عليه،

ذكر سنة إحدى وثلاثين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

وأمره أن يلازم حضرته. وكان سبب ضحك المأمون والمعتصم عند قول أحمد: كأنّ طبّاخها جعل مكان بصلها ما قاله؛ كون أنّ يحيى كان يتّهم باللّواط! فحسن ذلك الكلام من أحمد لسعادته. وقيل: سبب صلته غير هذا؛ والله أعلم. ذكر سنة إحدى وثلاثين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة أصابع ونصف. ما لخّص من الحوادث الخليفة هارون الواثق بالله بن محمد المعتصم. وعيسى بن منصور بحاله على حرب مصر. وفيها عزل محمد بن عبد الملك وولي الوليد بن يحيى وأحمد بن خالد على الخراج. والقاضي ابن أبي الليث بحاله. كان للواثق من الولد محمد المهتدي وأمّه أمّ ولد يقال لها قرب، وعبيد الله، وأبو العباس أحمد، وأبو إسحاق إبراهيم. وكان إبراهيم مغرى بالخمرة وشربها فخرج ذات يوم في خلافة أبيه الواثق وبه خمار إلى مجلس محمد بن عبد الملك الزيّات والمجلس غاصّ بمن فيه وأحمد بن أبي دؤاد في الجانب الآخر في حفدته؛ فقال إبراهيم ابن الواثق لمحمد بن عبد الملك: أيّها الوزير ما دواء الخمار!؟ قال؛ فامتعض لها محمد وقال: ما لي ولذا

ذكر سنة اثنين وثلاثين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

السؤال؟! قال؛ فبان الخجل في إبراهيم فتشوّف القاضي إليه ففهم منه أنه يريد سؤاله؛ فقال: ما داء الخمار أيّها القاضي؟ قال: فتنحنح القاضي حتى أصلح صوته وقال؛ قال (192) الله تعالى {ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}،وقال سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إستعينوا على كلّ صنعة بصالح أهلها؛ وقال الأعشى (من المتقارب): وكأس شربت على لذّة … وأخرى تداويت منها بها وقال أبو نواس (من البسيط): دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراء … وداوني بالتي كانت هي الداء قال؛ فتهلّل وجه إبراهيم ابن الواثق بعد الخجل وقال لمحمد بن عبد الملك: لم لا كنت مثل سيّدنا قاضي القضاة أتى بآية من كتاب الله، وخبر عن رسول الله، واستشهد ببيتين من أشعار شعراء الجاهليّة والإسلام؛ فلله درّه من قاض! قال؛ ولم يكن قيل لقاض قبل ذلك اليوم «سيّدنا» من بيت خلافة قطّ! فعاد محمد بن عبد الملك يودّ الأرض لو <أنّها> ابتلعته. ذكر سنة اثنين وثلاثين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة هارون الواثق بالله بن محمد المعتصم بالله إلى أن توفّي في هذه

السنة في تاريخ ما يذكر. وفيها توفي عيسى بن منصور وولي مكانه هرثمة بن النضر. والوليد وأحمد بحالهما. وكذلك ابن أبي الليث قاضيا بحاله. توفّي الواثق بالله إلى رحمة الله تعالى لستّ بقين من ذي الحجّة من هذه السنة، وصلّى عليه القاضي أحمد بن أبي دؤاد، (193) ودفن بالهاروني وله ست وثلاثون سنة. وقيل: تسع وثلاثون سنة. وكانت ولادته سنة ست وتسعين ومائة. مدة خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوما. والله أعلم. صفته: أبيض إلى الصفرة، جميل، وسيم، في عينه اليمين نكتة بياض. وزراؤه: محمد بن عبد الملك الزيّات من أول خلافته إلى أن توفّي. حجّابه: إيتاخ التركي ثم وصيف مولاه ثم أحمد بن عمّار وقوصرة. نقش خاتمة: الله ثقة الواثق بالله. وقيل: محمد رسول الله وخاتم النبيّين.

خلافة جعفر المتوكل على الله بن محمد المعتصم بالله وما لخص من سيرته

خلافة جعفر المتوكّل على الله بن محمد المعتصم بالله وما لخّص من سيرته هو أبو الفضل جعفر بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد. وباقي نسبه معلوم. ويلقّب النحيف والبنّاء لكثرة ما أحدثه من الأبنية. أمّه أمّ ولد يقال لها شجاع ويقال إنّها تركيّة، وماتت قبل قتله بسبعة أشهر ووجد لها خمسة آلاف ألف دينار عينا، وجواهر بقيمة ألف ألف دينار، وفرش وأثاث وأواني ورقيق ودوابّ بقيمة ألف ألف دينار، وأربع عشرة ضيعة غلتها في السنة أربع مائة ألف دينار. وكانت وفاتها في سنة سبع وأربعين ومائتين. بويع له في ذي الحجة سنة اثنين وثلاثين ومائتين وله ستّ وعشرون سنة. والله أعلم. ذكر سنة ثلاث وثلاثين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر

ما لخص من الحوادث

ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث (194) الخليفة جعفر المتوكّل على الله بن محمد المعتصم. وهرثمة بن النضر بحاله إلى أن توفّي، وولي مكانه علي بن يحيى الأرمني المرة الثانية. وعمال الخراج بحاليهما. وكذلك القاضي ابن أبي الليث مستمرّ على قضائه. ذكر سنة أربع وثلاثين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة جعفر المتوكّل على الله بن محمد المعتصم بالله. وعلي بن يحيى الأرمني على حرب مصر. والوليد وأحمد على الخراج. وفيها كانت الزلزلة العظيمة بأذربيجان أقامت سبعة أيام تعاودهم ليلا ونهارا حتّى دكّت المدينة وقتل تحت الردم عالم عظيم. والذين سلموا عدموا أموالهم وأمتعتهم تحت الهدم. ثم أنشئت مدينة غيرها على ميل من المدينة القديمة وسكنها الناس. ولم تزل حتّى أخربها التتار عند خروجهم حسبما يأتي من ذلك إن شاء الله تعالى.

ذكر سنة خمس وثلاثين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة خمس وثلاثين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة جعفر المتوكّل على الله بن محمد المعتصم بالله. وعلي بن يحيى على حرب مصر مستمرّا. وعزل الوليد بن يحيى عن الخراج بعدما كان استقرّ به وحده وولي مكانه إسحاق بن يحيى بن معاذ. وصرف القاضي (195) ابن أبي الليث ولم يولّ مكانه أحد. فيها تحركت الأسعار بمصر وكان بها وباء كثير. وتوفيت جماعة من أعيان المصريين. والله أعلم. ذكر سنة ست وثلاثين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة جعفر المتوكّل على الله بن محمد المعتصم. وتوفي إسحاق بن يحيى بن معاذ، وولي مكانه محمد بن إسحاق بن إبراهيم على حرب مصر

ذكر سنة سبع وثلاثين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

وخراجها معا؛ فولّى من قبله على الخراج خوط واسمه عبد الواحد، واستكتب عبد الرحمن بن أبي داود المعروف بابن أندونه. ثم توفي في هذه السنة محمد بن إسحاق أيضا وعزل صاحباه عن الخراج، وولي أحمد بن خالد وعبد الرحمن بن سعيد على الخراج. ومصر بلا قاض في هذه السنة. وفيها كان القبض على الوزير محمد بن عبد الملك الزيّات وصودر ووجد له من الأموال والذخائر ما يضيق عنه الحصر. وجعل في ذلك التنور الذي كان اقترحه للمصادرين ولم يزل فيه حتّى هلك. وقيل إنّه وزر للمتوكّل أربعين يوما، وقبض عليه. ووزر له بعده محمد بن الفضل الجرجاني ثم عبيد الله بن يحيى بن خاقان. ذكر سنة سبع وثلاثين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث (196) الخليفة جعفر المتوكّل على الله بن محمد المعتصم بالله. وفيها ولي عنبسة بن إسحاق الحرب والخراج معا. وولي القضاء ابن مسكين وهو بالإسكندريّة. وجدت في مسوداتي عن الفتح بن خاقان-وكان أخصّ الناس بالمتوكّل- قال؛ كنت ذات يوم مع المتوكّل على النرد فاستأذن عليه القاضي أحمد بن أبي دؤاد فقال المتوكل: قد أتى يثقل علينا في حوائج الناس! أشهدك يا فتح لا قضيت اليوم له حاجة! قال الفتح: فقصدت رفع النرد من بين أيدينا؛ فقال المتوكّل: دعه يا فتح! أو أجاهر الله تعالى بشيئ وأخفيه خوفا من خلقه؟ ثم دخل القاضي ونحن في لعبنا فقال المتوكّل: قصد الفتح أن يرفع النرد لمّا سمع بك يا قاضي! فقال: خاف لأعلّم عليه يا أمير المؤمنين! قال الفتح: فاستملحناه بعد ما كنا تحشمناه، ونظر إلى نحوي المتوكّل وتبسّم فعلمت أنّه قد استملحه فقال: سل حاجتك يا قاضي! قال؛ فسأل أمير المؤمنين اثنتي عشرة حاجة لم تكن له فيها واحدة! فأنعم له بجميع ذلك ثم نهض وهو يدعو لأمير المؤمنين بأحسن كلام وأبلغ دعاء وأبرعه. فلمّا خرج قلت: أليس أني شهدت على أمير المؤمنين-أعزّه الله-أنه لا يقضي له اليوم حاجة؟! فقال: يا فتح! مثل أحمد

(197) ذكر سنة ثمان وثلاثين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

يردّ؟! والله إنه ليسحرني بحسن تأتّيه وبراعة منطقه ولطف معانيه. قال الفتح: فأثنيت خيرا وقلت: أما إني فما شهدت على أمير المؤمنين إلاّ بحاجة واحدة، وأمّا اثنتا عشرة حاجة فلا! قال؛ فضحك المتوكّل وقال: أو عددتها يا فتح! قلت: إي وحياة أمير المؤمنين! وما القصد، إلاّ عدّ مكارم أمير المؤمنين. (197) ذكر سنة ثمان وثلاثين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وستّة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة جعفر المتوكّل على الله بن محمد المعتصم بالله. وعنبسة على الحرب والخراج معا. والقاضي ابن مسكين مستمرّ على قضائه. فيها ظهر رجل ادّعى النبوة وأنه نوح فقبض عليه واستتيب فلم يتب فأمر المتوكّل بصلبه على جذع عال. وكان قد قبض معه رجل واحد ممن كان آمن به فاستتيب فتاب ووقف على صاحبه وهو على ذلك الجذع العالي فقال: لا زلت تزعم أنك نوح حتّى صلبت على صاري السفينة! فبلغ ذلك المتوكّل فضحك منه وأمر بإطلاقه. ذكر سنة تسع وثلاثين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا وستّة عشر إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة جعفر المتوكّل على الله بن محمد المعتصم بالله. وعنبسة على مصر حربا وخراجا. وكذلك القاضي ابن مسكين بحاله مستمرّ. (198) ذكر سنة أربعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا ونصف إصبع. ما لخّص من الحوادث الخليفة جعفر المتوكّل على الله بن محمد المعتصم بالله. وعنبسة بحاله. وكذلك عمّال الخراج. والقاضي ابن مسكين على حاله مستمرّ. فيها جاءت الكتب من التجار، من تجار المغرب، أنّ ثلاثة عشر قرية من قرى القيروان خسف بها، ولم ينج من أهلها إلاّ اثنان وأربعون رجلا، وقد عادوا سود الوجوه فأتوا إلى مدينة القيروان فأخرجهم أهلها وقالوا: أنتم مسخوط عليكم! لا تدخلوا مدينتنا. وبني لهم حظيرة خارج المدينة فكانوا فيها؛ والناس يهرعون إليهم من كلّ فجّ عميق. ذكر ذلك الشيخ جمال الدين ابن الجوزي في تاريخه. والله أعلم. ذكر سنة إحدى وأربعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة جعفر المتوكّل على الله بن محمد المعتصم بالله. وعزل عنبسة، وولي يزيد بن عبد الله الحرب، وأحمد بن خالد الخراج. والقاضي ابن مسكين مستمرّ على قضائه. وفي هذه السنة تناثرت الكواكب بما لم يعهد بمثل ذلك، ومات كثير من البقر والدوابّ (199) ومواشي كثيرة حتّى عسر اللحم في تلك السنة. ذكر سنة اثنين وأربعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وستة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة جعفر المتوكّل على الله. وعمّاله بمصر على حالهم. وذكر صاحب تاريخ أصبهان أنّ في هذه السنة زلزت دامغان على أهلها فسقط أكثر من نصفها عليهم فقتلهم. وزلزلت الريّ وجرجان ونيسابور وأصبهان

(200) ذكر سنة ثلاث وأربعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

وقم وقاشان الجميع في وقت واحد. وحكي أيضا أنّ قرية يقال لها أجدابا مما يلي قومس كان بها زلازل متداركة فخرج الناس عنها فسمعوا من نحو السماء صوتا عاليا يقول: الله أجلّ وأعود بعباده. وذكر هذه الواقعة أيضا ابن الجوزي في تاريخه. وذكر ابن أبي الوضّاح صاحب تاريخ حلب أنّ طائرا دون الرخمة وفوق الغراب أبيض اللون وقع على موضع بحلب لسبع بقين من رمضان من هذه السنة فصاح: معاشر الناس! اتّقوا الله الله الله-حتّى صاح أربعين صوتا ثم حلّق طائرا ثم عاد من الغد فصاح كذلك أربعين صوتا! وكتب بذلك صاحب البريد، وأشهد جماعة من الناس ممن سمعه. ذكر صاحب تاريخ القيروان أنّ في هذه السنة نزل من السماء أحجار فوقع حجر على خيمة أعرابيّ فوزن فكان زنته عشرة أرطال فحمل إلى الفسطاط حجرا وآخر إلى (200) ذكر سنة ثلاث وأربعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وثمانية عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإصبعان. ما لخّص من الحوادث الخليفة جعفر المتوكّل على الله بن محمد المعتصم بالله. ويزيد بن

ذكر سنة أربع وأربعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

عبد الله على حرب مصر، وأحمد بن خالد على الخراج. والقاضي ابن مسكين مستمرّ. روي أنّ المتوكّل والفتح بن خاقان تجاريا ذات ليلة في ذكر الأشحّاء فقال ابن خاقان؛ روي عن المدائني قال؛ كان عمر بن يزيد الأسدي بخيلا على الطعام فدخل عليه ابن عبدل الشاعر وهو يأكل بطيخا فسلّم فلم يردّ السلام ولم يدعه إلى المأكول؛ فقال ابن عبدل (من البسيط): في عمرو بن زيد خلّتا دنس … بخل وجبن ولولا أيره سادا جئناه يأكل بطيخا على طبق … فما دعانا أبو حفص ولا كادا فقال المتوكّل: له أعجب من هذا! أنّه أصابه قولنج فحقنه الطبيب بدهن كثير فانحلّ في بطنه في الطست! فقال للغلام: ما تصنع به؟ قال: أصبّه قال: لا! ولكن ميّز منه الدهن واستصبح به! ذكر سنة أربع وأربعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وإصبع واحد. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة جعفر المتوكّل على الله بن محمد المعتصم بالله. ويزيد بن عبد الله على حرب مصر. وفيها قدم سليمان بن وهب شريكا مع أحمد بن خالد (201) على الخراج وعمالته بمصر. والقاضي ابن مسكين مستمرّ على قضائه. ذكر سليمان بن وهب وابتداء شأنه روى الصولي في كتاب الوزراء أنّ الفضل بن سهل وزير المأمون رحمهما الله تعالى كان أرسل وهب بن سعيد أبي سليمان وأخيه الحسن إلى فارس محاسبا لعمّالها. فبلغه أنّه جار وحابى العمّال وقبل الرشوة فعزله وسخط عليه، وبعث له بأخيه الحسن بن سهل لينظر في أمره؛ فأحسّ وهب بن سعيد بالشرّ فأوصى إلى رجل من أهل واسط-وكان رجلا مأمونا موسرا يتحرّف بصناعة الخزّ ويتجر في الجلود؛ فأعطاه مالا كثيرا وضمّ إليه ولديه سليمان وحسن- وهما صغيران-ثم توجّه إلى بغداد فغرق قبل وصوله. فلمّا انتهى إلى الوصيّ خبره وغرقه أخبر بذلك الغلامين وقال لهما: اختارا حرفة تتحرّفان بصناعتها إن أحببتما الخزازة وبيع الجلود وذلك يضرّ بكما؛ ولكن عندي لكما مال جليل أتّخذ لكما به عقارا يردّ عليكما! فقال له سليمان: ما لنا ولحرف العوامّ وصناعتهم! وإنّما حرفة أمثالنا حزر أعناق الرجال في القراطيس! قال؛ فتهيّبهما الوصيّ وسمع ما لم يكن يظنّه بهما؛ فضمّ إليهما من يؤدبهما فلمّا اشتدّا قالا

ذكر سنة خمس وأربعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

لوصيّهما: إنّ واسطا لا تفي بما نريد من العلم ونؤمّله من الرئاسة! ولكن جهّزنا إلى معترض العلماء ومستقرّ الخلفاء! ففعل وأوصل لهما جميع ما لهما. فلمّا صارا إلى بغداد نالا ما أمّلاه من العلم والرئاسة ولبثا معا في دار المأمون وهما غلامان. فيروى أنّ المأمون رأى سليمان بن وهب يمشي في دار الخلافة (202) فقال: من أنت يا غلام! فقال سليمان: الناشئ في دولة أمير المؤمنين المغتذي بنعمته، المكرّم بخدمته سليمان بن وهب! فقال: أحسنت يا غلام! ثم دعاه وأمره أن يكتب بين يديه كتابا ولم يكن بلغ قدره أن يكتب مثل ذلك الكتاب. فكتبه وحررّه على ما أراد المأمون من جودة الخطّ والضبط وسهولة اللفظ فاستحسنه المأمون. ولمّا خرج سليمان من عنده كتب إليه بعض إخوانه يقول (من البسيط): أبوك كلّفك الشأو البعيد كما … قدما تكلّفه وهب أبو حسن فلست تحمد إن أدركت غايته … ولست تعذر مسبوقا فلا تهن ولم تزل أمورهما تنمى إلى أن نالا الوزارة. ذكر سنة خمس وأربعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ستة أذرع واثنان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة أصابع.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة جعفر المتوكّل على الله. ويزيد بمصر. وافترد سليمان بن وهب بعمالة الخراج بها بمفرده. وعزل القاضي ابن مسكين وتولّى عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي يعرف بدحيم فمات بالرملة قبل وصوله. وفي هذه السنة تولّى أبو الردّاد المقدّم ذكره المقياس بالنيل المبارك وكان يتولاّه النصارى من قبل ذلك. وفيها سمع أهل تنّيس صيحة عظيمة من جهة مصر فمات بها خلق كثير لهو لها ولم يعلم ما كانت. وكان أكثر من مات الحوامل طرحن ومتن. وكان ذلك سابع عشرين شوّال من هذه السنة. والله أعلم. (203) ذكر سنة ست وأربعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وستة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المتوكّل على الله جعفر بن المعتصم بالله. وعمّال مصر بحالهم.

ذكر سنة سبع وأربعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

وولي القضاء أبو بكر بكّار بن قتيبة من ولد أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه. وفيها كان تغيّر المنتصر على أبيه المتوكّل وحالف عليه جماعة من كبار القوّاد. وسبب ذلك أنّه لمّا صفت الدنيا للمتوكّل وأمن حوادث الزمان؛ وكان قد رفع المحنة في الدين، ومنع الناس من الجدل ألبتّة؛ ثم إنّه أخذ البيعة لأولاده الثلاثة محمد المنتصر-وهو الأكبر من ولده-ثم للمعتزّ ثم للمؤيّد. ثم إنّه بلغه عن ابنه المنتصر كلام أغراه عليه؛ فيقال إنّ المتوكّل كان يغلو في بغض عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وأنّ المنتصر أخذ عليه في شيئ من ذلك؛ فأخّر المنتصر عن ولاية عهده وقدّم المعتزّ، وجعل أمر المنتصر راجعا للمعتز إن شاء كان وليّ عهده وإن شاء لم يكن. فأغرى ذلك المنتصر على قتله في تاريخ ما يأتي من ذكر ذلك إن شاء الله تعالى. ثم عاد يسبّ ولده المنتصر، ويسبّ أمّه، ويسخر به، ويأمر الذين يحضرون مجلسه من أهل السخف بسبّه. فلم يزل المنتصر يتسبّب ويسعى في قتله حتّى قتله. ذكر سنة سبع وأربعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة (204) الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة جعفر المتوكّل على الله إلى أن قتل في تاريخ ما يأتي. ويزيد

بمصر على حربها. وسليمان بن وهب مستقلاّ بالخراج بمفرده. والقاضي بكّار رضي الله عنه على القضاء. وقيل: في هذه السنة كانت ولاية ابن أبي الردّاد المقياس بالنيل المبارك. قتل المتوكّل على الله ليلة الأربعاء لثلاث خلون من شوّال من هذه السنة، وله أربعون سنة. ودفن بمكان يقال له الجعفري. وقتل معه الفتح بن خاقان. وذلك أنّ المتوكّل كان جالسا في تلك الليلة في مجلس الشراب والفتح مجالسه. وكان زرافة التركي الحاجب قائما بالباب فأتاه المنتصر وقد أتقن الأمر مع غلمان أبيه فأخذ بيد زرافة الحاجب وعاد يحدّثه ومشى به وشاغله، ودخل لغلمان المتّفقين على المنحسة فجذب باغر التركي الصمصامة التي كان بحملها على رأسها وضربه على عاتقه خالط أمعاءه فرمى الفتح بنفسه عليه فقتل أيضا معه. نكتة: بلغ المتوكّل رحمه الله أنّ صمصامة عمرو بن معدي كرب الزبيدي عند أهله فنفذ شراها منهم بألف ناقة وعشرة بدر دراهم وخمسة أكياس ذهب وعشرة تخوت قماش! ويوم أحضرت صنع وليمة لم ير الناس مثلها وخلع وأنعم على سائر القوّاد والأعيان، وسلّمها لباغر التركي وقدّمه على جميع حملة السلاح، وأمره أن يحملها على رأسه. فكان أول ما انتضاها عليه وقتله بها.

نكتة أخرى: قيل لم يل الخلافة من اسمه جعفر إلاّ المتوكّل والمقتدر (205) فقتل المتوكّل ليلة الأربعاء، وقتل المقتدر يوم الأربعاء. نكتة أخرى: وذلك أنّ أعرق الخلفاء المنتصر بن المتوكّل بن المعتصم ابن الرشيد بن المهدي بن المنصور. قتل أباه ولم يعش بعده إلاّ ستّة أشهر؛ وأعرق الملوك من الأكاسرة شيرويه بن أبرويز بن هرمز بن نرسي بن أنوشروان بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور بن يزدجرد الأثيم بن بهرام بن سابور بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن بهرام بن بهرام بن سابور بن أردشير بن بابك؛ عدّة عشرين ملك إلى جدّه أردشير؛ قتل أباه أبرويز فلم يعش بعده إلاّ ستّة أشهر. صفته: أسمر، كبير العينين، نحيف، خفيف العارضين، ربعة، أقنى. حجابه: وصيف التركي ثم ابن عاصم ثم يعقوب قوصرة ثم المرزبان. نقش خاتمه: العزّة لله. وقيل: وعلى الله توكلت. وقيل: على إلهي اتكالي.

ذكر خلالة محمد المنتصر بن جعفر المتوكل على الله وما لخص من سيرته

ذكر خلالة محمد المنتصر بن جعفر المتوكّل على الله وما لخّص من سيرته هو محمد المنتصر بالله بن جعفر المتوكّل على الله بن محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد. وباقي نسبه قد علم. أمّه أمّ ولد يقال لها حبشية من مولّدات الكوفة. وقيل إنها روميّة. بويع له صبيحة قتل أبوه بسرّ من رأى لأربع خلون من شوال من هذه السنة، وله أربع وعشرون سنة. وقيل أكثر. وكانت خلافته ستة أشهر. رزق من الولد عليا وعبد الوهاب وعبيد الله وأحمد. وكان فصيحا أديبا؛ يقال إنّ الطيفوريّ سمّه في محاجم. (206) ذكر سنة ثمان وأربعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثمانية أذرع وثلاثة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة محمد المنتصر بالله بن جعفر المتوكّل على الله. ومنع أخويه المعتزّ والمؤيّد عن ولاية العهد لما كان في قلبه منهما في حياة أبيه. ويزيد

وسليمان بن وهب بحالهما. وفيها توفي المنتصر يوم السبت لسبع خلون من ربيع الأول من هذه السنة. روي أنه قيل للمتوكّل في حياته: إنّ ابنك المنتصر قاتلك! قال: سأقتل قاتلي! ثم إنّه عمد إلى برنيّة من ذهب فجعل فيها معجونا فيهم سمّ قاتل وختمها وكتب عليه: دواء للباه! وتركها في أعزّ خزائنه. فلمّا خلا وجه المنتصر عرض الخزائن فوجد تلك البرنيّة. وكان المنتصر مغرى بحبّ الجماع فلمّا رآها لم يملك نفسه أن لعق منها لعقة فكانت سبب هلاكه! وقيل إنه سمع وهو يقول في نزعه: عاجلنا فعوجلنا! وتوفي إلى رحمة الله، وصلّى عليه أحمد المستعين بالله بن المعتصم. صفته: أسمر، ربعة، جسيم، عظيم البطن، كبير العينين، على عينه اليمنى أثر، كثّ اللحية. مولده سنة اثنين وعشرين ومائتين. وقيل: آخر سنة ثلاث وعشرين ومائتين. والله أعلم. وزيره: أحمد بن الخصيب. حاجبه: وصيف ثم بغا ثم أوتامش.

(207) ذكر خلافة أحمد المستعين بن أحمد المعتصم وما لخص من سيرته

نقش خاتمه: المنتصر بالله ينتصر. وقيل: أمن من آمن بالله. وقيل: يؤتى الحذر من مأمنه. (207) ذكر خلافة أحمد المستعين بن أحمد المعتصم وما لخّص من سيرته هو أبو العبّاس أحمد بن محمد <ابن> المعتصم بن هارون الرشيد. وباقي نسبه معلوم. أمّه أمّ ولد تسمّى مخارق. بويع يوم مات المنتصر. ووزر له أحمد بن الخصيب وصالح بن شجاع وجماعة من أهل الفضل. وعزل سليمان بن وهب عن الخراج وولّى مكانه أحمد بن مدبّر. وترك يزيد على الحرب. والقاضي بكّار مستمرّ على قضائه. وفي هذه السنة توفي جعفر بن محمد الصادق بالمدينة رحمه الله تعالى. وفيها ظهر أبو الحسين يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن

ذكر سنة تسع وأربعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب علهيم السلام بخراسان وواليها يومئذ محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين، وطلب لنفسه، ودعا الناس إلى بيعته. وكانت له مع محمد بن <عبد الله بن> طاهر وقعات متعدّدة حتّى ظفر به محمد بن <عبد الله بن> طاهر في تاريخ ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. ذكر سنة تسع وأربعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم تسعة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأحد وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة أحمد المستعين بالله بن محمد <ابن> المعتصم. ويزيد بمصر. وكذلك ابن المدبّر على الخراج. والقاضي بكار مستمرّ. وفيها عذبت بحيزة تنّيس جميعها صيفها وشتاؤها ولم تكن عذبت قبل ذلك فيما مضى من الزمان، وإنما كانت تعذب ستة أشهر وتملح ستة أشهر ثم عادت ملحا أجاجا صيفا وشتاء في زيادتها وفي نقصانها (208). وفيها انكسر يحيى بن عمر العلوي وقتل وصلب رحمه الله تعالى، ووقع الطلب على جماعة كبراء الطالبيين كما تأتي بقية أمرهم في سنة خمسين إن شاء الله تعالى.

ذكر سنة خمسين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

وفيها علا النيل المبارك ستّة عشر ذراعا في اليوم الثالث من شهر مسرى القبطي ثم انتهى إلى ما ذكرناه؛ ولم يكن عرف بمصر بمثل ذلك. ذكر سنة خمسين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وستة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة أحمد المستعين بالله بن محمد المعتصم بالله. وعمّال مصر على حالهم. وفيها كان ظهور الداعي إلى الحقّ الحسن بن زيد العلوي في تاريخ ما يذكر. ذكر ابتداء الدولة العلوية بطبرستان وجرجان <قال صاحب كتاب الدول>:وذلك لمّا قتل محمد بن <عبد الله بن> طاهر أبا الحسين يحيى بن عمر العلويّ رحمه الله عليه وقع

الطلب على كبراء الطالبيين، وأقطع المستعين بالله محمد بن <عبد الله بن> طاهر مجازاة لفعله قطائع سلطانية بعضها في الثغرين بطبرستان المعروفين بكلار وسالوس مما يلي بلاد الديلم؛ وكان مجاورا إقطاع محمد بن <عبد الله بن> طاهر بالثغرين أراض مباحة كان أهل الثغرين يرعون بها ماشيتهم فبعث محمد بن <عبد الله بن> طاهر إلى سليمان بن عبد الله أخيه-وهو النائب على طبرستان-يأمره بحيازة إقطاعه فولّى سليمان أخا لبشر بن هارون النصراني يقال له جابر حيازة الإقطاع فحاز النصراني الأرض المباحة؛ وكان محمد بن أوس البلخي غالبا على أمر سليمان وقد فرّق أولاده في ولايات (209) طبرستان-وهم أحداث سفهاء-فتأذّت الرعايا منهم، ونقموا من أبيهم أشياء لم يطيقوا الصبر عليها. وكان في هذين الثغرين رجلان مشهوران بالتقدّم وقوّة الحال وكثرة المال يقال لأحدهما جعفر والآخر محمد ابنا رستم فأنكرا ما حاوله النصراني من حيازة تلك الأراضي واستنهضا عليه تبّاعهما في تلك النواحي، فهرب إلى سليمان. وخاف جعفر ومحمد العقوبة على ما فعلاه فراسلا جيرانهم من الديلم وحالفوهم على معاداة ولاة الخليفة، وصارت كلمتهم واحدة، واحتاجوا إلى من يدبّر أمورهم، ويجمع كلمتهم فأرسلوا إلى رجل من وجوه علويّة طبرستان يقال له محمد بن إبراهيم يدعونه إلى أن يحضر إليهم ليبايعوه

فأبى عليهم وقال: لست أصلح لذلك! ولكن أشير عليكم بالحسن بن زيد- وهو يوم ذاك مقيم بالريّ-فكاتبوه وكاتبه محمد بن إبراهيم فشخص إليهم من الريّ فبايعوه ودخل إلى أطراف الديلم فأسلم على يده جمع منهم، وتلقّب الداعي إلى الحقّ. ولمّا اجتمع للحسن بن زيد من اجتمع ناهض بهم أهل النواحي فانهزموا عنهم <إلى> سارية طبرستان. فسار الحسن إلى أهل طبرستان، ووافاه محمد بن أوس من سارية ليدفعه عنها فالتقوا فانهزم محمد بن أوس إلى سارية، ودخل الحسن بن زيد آمل طبرستان في يوم الإثنين لتسع بقين من شوّال من هذه السنة. وجبى الأموال واستخدم الرجال، واستقرّ أمره. ثم نهض إلى سارية وبها سليمان فلقيه على بابها، واشتدّت الحرب بينهم فبعث الحسن سرية من أصحابه فدخل سارية من وراء سليمان فلم يشعر بهم حتّى حملوا عليه من وراء ظهره فانهزم لوقته إلى جرجان (210) وترك أهله وعياله بسارية فبعث بهم الحسن إليه مصانين محفوظين. ولمّا استقرت طبرستان بيده بعث عكسرا مع أخيه محمد بن زيد إلى الريّ فطرد عمّال الطاهرية عنها واستخلف بها رجلا من الطالبيين يقال له محمد بن جعفر، وانصرف عنها. فبلغ ذلك المستعين بالله أمير المؤمنين فبعث إسماعيل بن فراشة في جيش إلى همذان لحفظها. ولمّا استقرّ محمد بن جعفر بالريّ ظهرت منه أمور أنكرها أهل الريّ فراسلوا محمد بن طاهر بن عبد الله فوجّه إليهم عسكرا عليه محمد بن

ذكر سنة إحدى وخمسين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

ميكال فكبس محمد بن جعفر وأسره وقتله ودخل الريّ ودعا للمستعين بالله أمير المؤمنين. وبلغ ذلك الداعي فبعث جيشا عليه واجن الأزري فقاتله ابن ميكال فقتله واجن وملك الريّ. ذكر سنة إحدى وخمسين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم سبعة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المستعين بالله أمير المؤمنين. ويزيد بمصر. وابن المدبّر كذاك. والقاضي بكّار رضي الله عنه مستمرّ. وفيها كانت الفتنة بين المستعين بالله وبين المعتزّ بالله-وهو محمد بن جعفر المتوكّل على الله-واستمرّ ذلك إلى آخر هذه السنة، وجرت أمور كثيرة يطول الشرح فيها. وفيها تحرّك محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر من خراسان إلى طبرستان فهزم الحسن بن زيد وقتل أكثر عسكره. وكان في سنة خمسين ومائتين دخل مفلح طبرستان مقدمة لموسى بن بغا وأوقع بالحسن بن زيد (211) وهزمه. ودخل الحسن منهزما إلى بلاد الديلم فتوجّه مفلح في أثره؛ وقد كان مفلح قبل ذلك انتزع الريّ من يده ثم عاد الداعي بعد ذلك ودخل طبرستان، وبعث أخاه محمد بن زيد إلى جرجان فملكها.

ذكر سنة اثنين وخمسين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

وفيها تغلّب يعقوب بن الليث الصفّار على سجستان وعظم أمره بها في مدة الفتنة الكائنة بين المستعين والمعتزّ، ونما أمره؛ حسبما يأتي في تاريخه. ذكر سنة اثنين وخمسين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ستّة أذرع وثلاثة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المستعين بالله إلى أن خلع نفسه من الخلافة في هذه السنة؛ رابع المحرّم؛ فكان مدّة خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر. وكتب له أمانا ونزل بواسط ثم قتل في شهر رمضان من هذه السنة-رحمه الله. صفته: صغير العينين، كبير اللحية، به أثر جدري. ربعة. وزيره: أحمد بن الخصيب إلى آخر وقت. حاجبه: وصيف وبغا.

ذكر خلافة محمد المعتز بالله بن جعفر المتوكل بن محمد المعتصم، وما لخص من سيرته

<قاضيه: أحمد بن أبي الشوارب>. نقش خاتمه: في الاعتبار غنى عن الاختبار. ذكر خلافة محمد المعتزّ بالله بن جعفر المتوكّل بن محمد المعتصم، وما لخّص من سيرته هو أبو عبد الله محمد؛ وقيل الزبير بن جعفر المتوكّل بن محمد المعتصم. أمّه أمّ ولد تسمّى قبيحة. وهذا الاسم جعل على الضدّ كما يقال للقار بياض وللغراب الأعور والمثل يضرب بشدّة بصره. وكان على خاتمها منقوش: أنا قبيحة واقلب. بويع له ببغداد لأربع خلون من المحرّم من هذه السنة، وله يومئذ تسع عشرة سنة (212) وأشهر، كان أخوه المؤيّد محبوسا فأخرجه وخلع عليه ثم وشي به عنده أنه يطلب لنفسه فأحضره وضربه أربعين مقرعة وحبسه بعد أن أشهد على نفسه بالخلع. ثم بلغه أنّ جماعة من الأتراك أجمعوا على إخراجه من حبسه فأخرجه يوم الخميس لثمان بقين من رجب من هذه السنة ميتا، وأحضر القضاة والفقهاء حتّى رأوه لا أثر فيه. ويقال إنه درج في لحاف سمور وشدّ طرفاه حتّى مات. وكان الغالب على أمره صالح بن وصيف. وفيها ولّى صالح بن وصيف عبد العزيز بن أبي دلف العجلي الجبال

ذكر دولة بني أبي دلف العجلي

ففخم أمره وكبر شأنه واستبدّ بالخراج، وامتنع من حمل الأموال. ولنذكر مبدأ أمر بني دلف: ذكر دولة بني أبي دلف العجلي كان أبو دلف ساكنا بالكرج في عشيرته وأهله؛ وهو أحد الكرماء الأجواد المشهورين والشجعان المذكورين. وفيه يقول عليّ بن جبلة (من المديد): إنّما الدنيا أبو دلف … بين مبداه ومحتضره فإذا ولّى أبو دلف … ولّت الدنيا على أثره وله مع بابك الخرّمي أيام خروجه من الحروب أخبار كثيرة؛ منها أنه طعن يوما رديفا لفارس في ظهره فأخرج رمحه من صدر الفارس الرادف؛ وكان معه بعض أصحابه فقال له: أنت والله كما قيل (من السريع): تطعنهم سلكى ومخلوجة … لفتك لامين على نابل ولم يزل أبو دلف مقيما بالكرج إلى أن توفّي في بغداد في سنة ثلاث وعشرين ومائتين. وترك ولدين أحدهما عبد العزيز والآخر هاشم. فقام عبد العزيز في لمّ العشيرة وحفظ القلاع مقامه (213) حتّى ولاّه صالح بن وصيف الجبال؛ وكانت الفتنة بين الخلفاء فتغلّب ومنع الخراج حتّى خرج إليه موسى بن بغا في تاريخ ما يأتي إن شاء الله تعالى.

ذكر سنة ثلاث وخمسين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

وفيها عزل يزيد بن عبد الله عن مصر ووليها مزاحم بن خاقان حربا. وابن المدبّر على الخراج بحاله. وكذلك القاضي بكّار رحمه الله تعالى. ذكر سنة ثلاث وخمسين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ستة أذرع واثنا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتز بالله أمير المؤمنين. ومزاحم بن خاقان على حرب مصر إلى أن توفّي في هذه السنة فاستعمل ابنه محمدا والقاسم بأموره يومئذ أرجوز التركي. ثم مات محمد فاستقلّ بالأمر أرجوز التركي. وابن المدبّر على الخراج، وكذلك القاضي بكّار مستمرّ على أمره وقضائه. فيها خرج موسى بن بغا وعلى مقدمته مفلج وسار وطلب عبد العزيز بن أبي دلف. فلمّا بلغه جمع جموعه ولقي مفلحا لثمان بقين من رجب من هذه السنة؛ وكان عبد العزيز في زهاء عشرين ألفا ومفلح معه ألف ومائة وثلاثة وثلاثون فارسا، وكانت الوقعة على ميل من همذان فانهزم عبد العزيز، وقتل أكثر رجاله! ثمّ سار مفلح في شهر رمضان يؤمّ الكرج وجعل له كمينين فبعث

ذكر سنة أربع وخمسين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

عبد العزيز إليه أربعة آلاف رجل فنفّذهم إليه فقاتلهم مفلح وجرّهم إلى الكمينين فهزمهم ووضع فيهم السيف. وأقبل عبد العزيز في آثارهم لينجدهم فانهزم بانهزامهم وترك الكرج ومضى فتحصّن في قلعة في جبل الكرج. ودخل مفلح الكرج (214) وأخذ جماعة من آل أبي دلف منهم أمّ عبد العزيز، ووجّه إلى سرّ من رأى سبعين جملا من الرؤوس! وأقام عبد العزيز على تغلّبه تارة وولايته أخرى إلى أن مات. وخلّف أولادا منهم دلف وأحمد وعمر وبكر والهطّال وأبو ليلى والقاسم-على ما ذكره صاحب كتاب الدول المنقطعة رحمه الله تعالى. ذكر سنة أربع وخمسين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وسبعة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتزّ بالله أمير المؤمنين. وفيها ولي أحمد بن طولون مصر حسبما يأتي من ذكره. وابن المدبّر على الخراج. والقاضي بكّار مستمرّ. وفيها تغلّب يعقوب الصفّار على كرمان ومنع الخراج.

ذكر الدولة الصفارية بخراسان

ذكر الدولة الصفّاريّة بخراسان كان يعقوب بن الليث الصفّار من بعض قوّاد الطاهرية بسجستان؛ فعظم أمره بها حتّى تغلّب عليها أيام الفتنة الكائنة بين المستعين والمعتزّ. فلمّا كان في هذه السنة غلب على كرمان، وأسر طوق بن المغلّس واليها من جهة عليّ بن الحسين بن قريش بن شبل صاحب بلاد فارس. والسبب في ذلك أنّ عليّ بن الحسين المذكور كان واليا على بلاد فارس من قبل محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر وإليه ولاية المشرق كلّه؛ فلمّا خرج يعقوب الصفّار وغلب على سجستان ولم تكن لمحمد بن طاهر قوة على دفعه تغلّب <عليّ بن الحسين> على بلاد (215) فارس، وكتب إلى الإمام المعتزّ بالله يخبره بضعف محمد بن طاهر ويسأله أن يولّيه بلاد فارس وكرمان ليمضي من كرمان وينتزع سجستان من يد يعقوب بن الليث! فأجابه المعتزّ إلى ذلك فبعث عليّ بن الحسين قائدا من قواده يعرف بطوق بن المغلّس في جيش من كرمان. وبلغ يعقوب استنقاص ابن الحسين له فكتب إلى المعتزّ أيضا يسأله أن يولّيه كرمان فأجابه وولاّه كرمان! رغبة في الإغراء بينهما ليسقط عنه كلفة الهالك منهما. فسار يعقوب إلى كرمان، وأسر طوق بن المغلّس وأكثر أصحابه لمكيدة كادهم بها. ثم سار إلى بلاد فارس فلقيه عليّ بن الحسين على كر شيراز وصفّ خيله من ورائه فعداه يعقوب عوما على الخيل إلى أن صار معه في أرض واحدة وهزمه وأسره وملك بلاد فارس وجباها سنة ثم عاد إلى سجستان.

ذكر سنة خمس وخمسين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة خمس وخمسين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع واثنا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتزّ بالله أمير المؤمنين إلى أن توفّي بعد الخلع في تاريخ ما يذكر لم يزل أمره مستقيما إلى رجب من هذه السنة فدبّر عليه حاجبه صالح بن وصيف فجاءه يوم الخميس لثلاث بقين من رجب المذكور ومعه جماعة فصاحوا على بابه وبعثوا إليه أن اخرج إلينا فاعتذر بأنه تناول دواء وأمر بأن يدخل عليه بعضهم. فدخلوا عليه فجرّوا برجله إلى باب الحجرة وأقيم في الشمس وكان يرفع قدما ويضع قدما، وجعلوا (216) يلطمونه وهو يتّقي بيده إلى أن أجاب إلى الخلع فأدخلوه حجرة ثم بعثوا إلى ابن أبي الشوارب القاضي وجماعة فحضروا وخلع نفسه ووكّل به في الحبس خمسة أيام ثم قتل وقت العصر من يوم الجمعة لليلتين خلتا من شعبان من هذه السنة وله ثلاث وعشرون سنة وأشهر. ويقال إنه منع من الطعام خمسة أيام وأدخل الحمّام وأغلق بابه وأحمي عليه حتّى مات رحمه الله تعالى. صفته: أبيض، جميل، أكحل، أسود الشعر؛ لم ير فيهم أجمل منه. مولده سنة اثنتين وثلاثين ومائتين.

ذكر خلافة محمد المهتدي بن هارون الواثق بالله وما لخص من سيرته

وزراؤه: جعفر بن محمد الإسكافي ثم عيسى بن فرخانشاه ثم أبو جعفر أحمد بن إسرائيل الأنباري. حجابه: صالح بن وصيف-وكان غالبا عليه حتّى قتله حسبما تقدّم. نقش خاتمه: الله ربّي. وقيل: الله وليّي. ذكر خلافة محمد المهتدي بن هارون الواثق بالله وما لخّص من سيرته هو أبو عبد الله وقيل أبو جعفر محمد بن هارون الواثق بالله بن المعتصم بالله. ويلقّب رهباني بني العبّاس لما كان عليه من الزهد والتقشف. أمّه أمّ ولد روميّة يقال لها قرب لم تدرك خلافته. بويع له بسرّ من رأى لليلة بقيت من بعد يومين من خلع المعتزّ. وذلك أنه كان بمدينة السلام فأحضر وأقيم المعتزّ بين يديه فقال له المهتدي: أخلعت نفسك من الخلافة طائعا غير مكره؟ قال: نعم! وبايعوه بالخلافة وسلّم عليه بإمرة المؤمنين وله يومئذ ست وثلاثون سنة وأشهر. مولده سنة تسع وعشرين ومائتين. سار السيرة الحميدة، وأظهر المآثر الجميلة. أمر بكسر الأواني الذهب والفضّة، ومحو (217) الصور، ورقع الديباج، ونفي القيان، والكفّ عن المحارم، واتّباع السنن، وجلس للمظالم، وردّ

ذكر سنة ست وخمسين ومائتين (218) النيل المبارك في هذه السنة

المغصوب؛ وكان يتشبّه بسيرة العمرين حتّى قيل إنه في العباسيين كعمر بن عبد العزيز في الأمويين. من حسن سيرته أنه وقف له رجل فقال: يا أمير المؤمنين! علينا خراج من أرض السواد وقد أجحف بنا! فقال: من الذي ضرب عليكم الخراج ووضعه؟ قال: هو عمر بن الخطّاب رضي الله عنه! فقال: ما كنت لأنقض ما أبرمه عمر بن الخطّاب! فقال الرجل: يا أمير المؤمنين! إنما ضربه علينا عمر لأنّ الذهب كان مكسورا وكسوديا وزيفا وتبرا وحمريّة وأمّا بعدما فعل الحجّاج بن يوسف بالذهب ما قد علم أمير المؤمنين من تخليصه إياه بالسبك! فقال المهتدي لعامله: خذ منهم الذهب بقيمة الذي كان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يأخذه منهم. فقال العامل: يا أمير المؤمنين! يبلغ النقص إلى ثماني ألف ألف دينار فيجحف بيت المال! فقال: خذ الحقّ ولو لم تبق في بيت المال حبّة! روى بشير قال؛ قدمت على المهتدي فتحادثنا في أمر الآخرة إلى الليل فأتي بطبق من خوص عليه أقراص من شعير وملح جريش وقليل من لبن فأكل اللقمتين ثم رفع يده؛ فقلت: يا أمير المؤمنين! أنت صائم تكابد الهواجر والجلوس للمظالم وهذا أكلك! فما الذي حملك على ذلك؟! فقال: احتسابا لله واقتداء بعمر بن الخطّاب. وكان مخشوشنا في اللباس يلبس الشعر ويأكل الشعير رحمة الله عليه. ذكر سنة ست وخمسين ومائتين (218) النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع واثنان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة المهتدي بالله أمير المؤمنين إلى أن قتل في تاريخ ما يذكر. وكان قد وزر له سليمان بن وهب فقدم عليه يزيد بن محمد المهلّبي فسرّ به وعرف له قدره، وأجلسه إلى جانبه؛ فأنشده (من الطويل): وهبتم لنا يا آل وهب مودّة … فأبقت لنا جاها ومالا يؤثّل فمن كان للآثام والذلّ أرضه … فأرضكم للأجر والعزّ منزل رأى الناس فوق المجد مقدار مجدكم … فقد سألوكم فوق ما كان يسأل يقصّر عن مسعاكم كلّ آخر … وما فاتكم ممّن تقدّم أوّل بلغت الذي قد كنت أمّلته لكم … وإن كنت لم أبلغ بكم ما أؤمّل قال؛ فقطع عليه سليمان إنشاده وقال: لا تقل ذلك أصلحك الله! فأنت والله عندي كما أنشدني عمارة بن عقيل (من الطويل): أقهقه مسرورا إذا كنت سالما … وأبكي من الإشفاق حين تغيب فقال المهلّبي: فليسمع الوزير آخر الشعر ما يحقّر أوله (من الطويل): وما لي حقّ واجب غير أنّني … بجودكم في حاجتي أتوسّل فأوليتم فعلا جميلا مقدّما … فعودوا فإنّ العود بالحرّ أجمل وكم ملحف قد نال ما راد منكم … ويمنعنا عن مثل ذاك التجمّل وعوّدتمونا قبل أن نسأل الغنى … ولا وجه للمعروف والوجه يبذل

فقال له سليمان: والله لا تبرح حتّى أقضي حاجتك كائنة ما كانت (219)،ولو لم أفد مما نالني أمير المؤمنين إلاّ بشكرك لرأيت بذلك جنابي ممرعا وزرعي ربيعا. ثم إنه وقّع له في رقاع كثيرة معه بجميع ما أحبّ. وذكر أنّ هذا ما جرى لمحمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر لمّا دخل على الفضل بن سهل فأنشده (من الطويل): أبي دهرنا إسعافنا في نفوسنا … وأسعفنا فيمن نحبّ ونكرم فيا دهرنا نعماك فيهم أتمّها … ودع أمرنا إنّ المهمّ المقدّم قال؛ فنهض الفضل قائما وحلف أن لا يجلس أو يقضي جميع حوائجه. وأمّا سبب خلع المهتدي وقتله أنه كان قتل صالح بن وصيف ونودي عليه: هذا جزاء من قتل مولاه! ثم قبض على بايكباك التركي وقيّده فعسكر الموالي وطالبوه بإطلاقه فرمى إليهم برأسه، وخرج ومعه طائفة فقاتلهم ثم انهزم وأخذ فحبس وأخرج ميتا. وروى الدولابي أنّ ابن عمّ لبايكباك وجأه بخنجر فقتله ركب عليه وشرب دمه. قتل يوم الأحد لأربع عشرة ليلة خلت من رجب سنة ستّ وخمسين ومائتين، وله سبع وثلاثون سنة وأشهر. وكانت خلافته أحد عشر شهرا وأياما. وفي أيامه ظهر صاحب الزنج. صفته: أبيض، مشرب حمرة، ربعة، صغير العينين، أقنى، أشهل،

ذكر خلافة أحمد المعتمد على الله بن جعفر المتوكل وما لخص من سيرته

أبلج، طويل اللحية، عظيم البطن، عريض المنكبين؛ في عارضيه شيب فلمّا ولي الخلافة خضب، والله أعلم. <وزراؤه: جعفر بن محمود الإسكافي، وصالح بن أحمد، ثم سليمان بن وهب. حجّابه: صالح بن وصيف، وبايكباك، وموسى بن بغا. نقش خاتمه: يا محمد خف الله. هداني الله. من تعدّى الحقّ ظلم>. ذكر خلافة أحمد المعتمد على الله بن جعفر المتوكّل وما لخّص من سيرته (220) هو أبو العبّاس، وقيل أبو جعفر أحمد بن جعفر المتوكّل. ويلقّب الخليع. امّه أمّ ولد يقال لها فتياه، لم تدرك خلافته. بويع له في رجب من هذه السنة وله سبع وعشرون سنة وأشهر. مولده في المحرّم سنة تسع وعشرين ومائتين. وفي أيامه قوي أمر صاحب الزنج. ذكر صاحب الزنج ومبتدأ أمره قال القاضي شهاب الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم قاضي حماة صاحب التاريخ المعروف بالمظفّري رحمه الله: وفي نصف شهر

شوّال سنة خمس وخمسين ومائتين ظهر فى فرات البصرة رجل زعم أنه عليّ بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وجمع الزنج الذين يكسحون السباخ-واسمه فيما ذكر علي بن محمد بن عبد الرحيم ونسبه في عبد القيس-وكان ظهوره أولا في سنة تسع وأربعين ومائتين، وكان عيّارا مشعبذا متكلّما في علم النجوم، ويكتب العوذ فاستغوى جماعة من الزنج والغلمان وذوي الجهل، وعبر دجلة وأفسد وقاتل من مرّ به في طريقه ثم مضى إلى البحرين وادّعى أنه من ولد علي بن أبي طالب عليه السلام، ودعا إلى نفسه فتبعه خلق عظيم، وأتاه جماعة فوقع بينهم قتال فانتقل إلى الأحساء وضوى إلى حيّ من بني تميم. ولم يزل يتنقّل من حيّ إلى حيّ ويقوى أمره إلى سنة سبعين ومائتين؛ لما يذكر من هلاكه. وفي هذه السنة استفحل أمره وقويت شوكته، وعاث في بلاد السلطان، ووجلت القلوب من هيبته، وعاد لا يقاتله أحد من أصحاب السلطان إلاّ وظفر به في جميع قرى العراق لكثرة من انضوى إليه من المفسدين (221).وفيها خرج إليه من البصرة جعلان فلقيه فانهزم جعلان ومن معه. وأخذ صاحب الزنج أربعة وعشرين مركبا من مراكب البحر كانت قد اجتمعت تريد البصرة فبلغ خبرها الخبيث فهجم عليها واستولى على جميع ما فيها. وقوي أصحابه بذلك قوة عظيمة، وانضاف إليه خلق كثير ثم سار إلى الأبلّة فهجمها واستولى أيضا على جميع ما فيها فعظم أمره، وترقّت أحواله، ورتّب جيوشه وجعل جماعة من زنجه مقدّمين وقوادا. ولمّا صار بهذه القوّة خاف أهل البصرة منه خوفا عظيما، وانتقل منهم جماعة كبيرة تفرقوا في عدة أماكن. وفي سنة سبع وخمسين دخل

أصحاب الخبيث إلى البصرة واستولوا عليها في خبر طويل؛ فعرف بعلوي البصرة. وقيل إنّ عدّة من قتله بالبصرة عشرون ألفا. وكان يقول لأصحابه: قد اجتهدت في الدعاء على أهل البصرة فخوطبت وقيل: إنما أهل البصرة خبزة لك تأكلها من حواشيها فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة! وقد أوّلت انكسار نصف الرغيف انكساف القمر المتوقّع في هذه الأيام! وكان الملعون قد علم ذلك من حساب النجوم فلمّا انكسف القمر زاد ضلال قومه، وألقوا أنفسهم على القتال حتّى نالوا ما قصده. ولم يزل أمر الملعون متزايدا في أحوال طويلة الشرح قد ذكرها جماعة المؤرخين في سائر تواريخهم فاختصرتها إلى سنة سبعين ومائتين. وكان الموفّق قد انتدب لقتاله، وجرت له معه عدّة وقعات في هذه المدّة والحرب بينهم سجال. فلمّا انتهى أجل الخبيث كان ذلك على يد لؤلؤ غلام ابن طولون؛ فسار إليه في زي حبشيّ بأمر الموفّق له في ذلك، وطلب الخبيث إلى أن ظفّره الله به وقتل وأخذ رأسه ونصب على عود وذلك يوم السبت لليلتين خلتا من صفر. وكان بدوّ خروجه لأربع بقين من رمضان سنة خمس وخمسين فكانت مدة أيامه أربع عشرة سنة وأربعة <أشهر وستة أيام. ولقّب الموفّق بالله لقتله صاحب الزنج الناصر لدين الله مضافا إلى الموفّق بالله. وعمل الشعراء في ذلك عدّة مدائح وتهاني للمعتمد والموفّق منهم البحتري ويحيى بن خالد بن مروان>.

(222) ذكر سنة سبع وخمسين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

(222) ذكر سنة سبع وخمسين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وستة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتمد على الله أمير المؤمنين وأحمد بن طولون على مصر وقد عظم أمره وعادت إليه أمور مصر يولّي من جهته من شاء ويعزل من شاء، وعزل ابن المدبّر وولّى أبا أيوب أحمد بن محمد بن شجاع على الخراج. والقاضي بكّار مستمرّ على قضائه. وفيها خرج على ابن طولون بغا الصغير فيما بين الإسكندريّة وبرقة ومعه ابن عمّ لجابر بن الوليد المدلجي فلقيهما أبو الحسن فقتل بغا وأتى برأسه إلى الفسطاط. حكى الصولي قال؛ حدّثني الحسن بن يحيى الكاتب؛ قال: لمّا ولي المعتزّ لم تمض مديدة حتّى أحضر الناس وأخرج المستعين ميتا وقيل اشهدوا أنّه أتت عليه منّيته ولا أثر فيه! ثم تولّى المهتدي وأخرج المعتزّ ميتا وقيل: اشهدوا أنّه أتت عليه منيّته ولا أثر فيه! ثم لم يستكمل تلك السنة التي أخرج فيها المعتزّ حتّى استخلف المعتمد وأخرج المهتدي ميّتا وقيل: اشهدوا أنّه مات

ذكر سنة ثمان وخمسين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

من جراحاته! فتعجّبت؟؟؟ الناس من تلاحقهم في مدة يسيرة. ذكر سنة ثمان وخمسين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وخمسة أصابع ونصف. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة أصابع ونصف. (223) ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتمد على الله أمير المؤمنين. وأحمد بن طولون متغلّبا على مصر. وفيها خرج عليه إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الصوفي، ودخل مدينة إسنا من صعيد مصر ونهبها. فبعث إليه أحمد بن طولون الجيش فواقعه ببلد يعرف بساو وكان الظفر لابن الصوفي، وأسر مقدّم الجيش فقطع يديه ورجليه! فلمّا بلغ ابن طولون ذلك نفّذ إليه جيشا كثيفا فانكسر ابن الصوفي وانهزم إلى عيذاب وعدّى إلى مكّة شرّفها الله تعالى بعد عدّة وقائع. وفيها توجّه ابن طولون إلى الشام وملكها جميعها إلى حدود حلب ثم تقدّم إلى طرسوس وملكها مع جميع الثغور الشاميّة فبلغه وهو بالشام أنّ ولده العبّاس قد وثب على مصر برأي قوم كانوا يلوذون به ويقولون الشعر ويروون

<ذكر بناء جامع ابن طولون

الأخبار! فعاد أحمد بن طولون من الشام إلى الفسطاط لا يلوي على شيئ إلى أن دخلها وهرب ولده العبّاس إلى برقة فسيّر خلفه جيشا كثيفا فكسروه وأخذوه أسيرا، وأدخل عليه وهو مصفّد، وأحضر له السياط، وجعل يضربه ويقول للضارب: جوّد الضرب! وعيناه تذرفان وهو يمسحها بمنديل؛ وكان أحبّ <ولده> إليه. وسجنه. ثم مكث قليلا وسار إلى أنطاكية في سنة تسع وخمسين-وقيل إنّ هذه الأمور كانت في سنة سبع وخمسين-ففتحها ثم عاد إلى مصر وبنى الجامع الذي يعرف به، وكذلك البيمارستان. وقيل إنه وجد كنزا في مكان ابتنى فيه الجامع فبنى به جميع ما أثّره. <ذكر بناء جامع ابن طولون قرأت بخط يد القاضي ابن عبد الظاهر رحمه الله في مسودّة ذكر فيها خطط القاهرة <على> أنموذج الخطط للقضاعي والكندي؛ وذكر جامع ابن طولون فقال: كانت بدايته في سنة تسع وخمسين ومائتين، وأنفق عليه من الأموال مائة ألف وعشرين ألف دينار. وحبّس عليه سوق الرقيق وغيره، وبناه من مال الكنز الذي وجده، قال؛ إنّ أحمد بن طولون كاتبه يعرف بابن دسومة <كان> واسع الحيلة بعيدا من الخير. وكان ابن طولون من أهل القرآن إذا

جرت منه إساءة استغفر وتضرّع. ولما استبدّ بخراج مصر رغب عن المظالم الدينية وأجمع على إسقاطها فشاور كاتبه يوما فأجابه بكلام طويل ينفّره عن ذلك. فلمّا نام أحمد تلك الليلة رأى في منامه صديقا له كان قد توفي مستشهدا وهو يقول له: بئس ما أشار عليك من استشرته في أمر ترك المظالم>. <واعلم أنّ من ترك لله عوّضه الله خيرا منه فامض على ما عزمت وأنا أضمن لك عن الله تعالى أفضل مما تركت منه قريب غير بعيد. فلمّا أصبح قصّ الرؤيا على ابن دسومة فقال له: أشار عليك رجلان الواحد في اليقظة والآخر في المنام. وأنت لمن في اليقظة أوجد، وبضمانه أوثق. قال؛ فأجمع رأيه ورجع إلى رأي ما رآه في منامه ولم يلتفت إلى مشورة كاتبه. وركب إلى الصيد فانخسف مكان بالرمل برجل فرس بعض حاشيته فكشف عن قبو في ذلك الرمل فوجده مطلبا حمل منه من المال ما قيمته ألف ألف دينار وهو المطلب الذي كتب إليه من العراق بسببه>. <وعلم الناس الحال فبنى به هذا الجامع والبئر في القرافة الكبيرة المعروفة ببئر عفصة. وأنفقه جميعه في وجوه البرّ والصدقة. ثم إنّه بعد ذلك تغير على كاتبه ابن دسومة وقبض عليه واستصفى ماله واعتقله حتّى مات في الاعتقال. هذا ملخّص ما قرأته بخطّ ابن عبد الظاهر رحمه الله. وقد أثبتّه بجملته في كتابي الذي عزمت على إنشائه وسمّيته الروضة الزاهرة في خطط القاهرة موفّقا لذلك إن شاء الله>. (224) وكانت له صدقات وافرة في كلّ شهر ألف دينار من خاصة ماله

ذكر سنة تسع وخمسين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

وكان حسن السيرة، كثير العدل، قويّ العزم، شديد الصولة، عظيم المهابة، سفّاكا للدماء، مظفّرا في غزواته. ملك عدة ممالك، وغلب على أكثرها، وامتنع من أداء الخراج للخليفة؛ وعاد الخليفة يلافيه ويكاتبه ويلاطفه ويخشاه. وله أحوال كثيرة، وأحكام غريبة. وكان موفّقا في جميع أموره. والله أعلم. ذكر سنة تسع وخمسين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة أصابع ونصف. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتمد على الله أمير المؤمنين. وفيها غلب يعقوب الصفّار على خراسان وأسر محمد بن طاهر. والسبب في ذلك ما ذكره صاحب كتاب الدول أنه وقع بين يعقوب بن الليث وبين قائد من كبار قواد سجستان-وهو عبد الله بن صالح السجزي-واقع أدّى إلى حرب في الليل فوقعت من عبد الله ضربة في وجه يعقوب أثخنته ثم هرب عبد الله في باقي الليل خوفا منه ومضى إلى نيسابور فآمنه محمد بن طاهر وجعله في جملته. وبلغ يعقوب الخبر فخرج من سجستان فلمّا قرب من نيسابور بلغ

ذكر سنة ستين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

عبد الله بن صالح خبره فركب إلى محمد بن طاهر ليعلمه فقال له الحاجب: هو نائم! فقال: قد جاء من يوقظه! ثم رجع وعلم أنّ محمدا لا طاقة له بيعقوب فاحتمل أمواله وأهله وسار إلى طبرستان واستجار بصاحبها الحسن بن زيد الداعي إلى الحقّ (225) فأجاره. ووصل يعقوب نيسابور فبعث إليه محمد بن طاهر وقال له: إن كان معك عهد من أمير المؤمنين فأبرزه وتسلّم البلاد! فأخرج سيفا مسلولا من تحت مطرحه وقال: هذا عهدي! فعلم محمد بن طاهر أنه لا طاقة له به فخرج إليه ليتلقّاه فأمر به يعقوب فثقف. واستعمل يعقوب على نيسابور عزيز بن السريّ، ورجع إلى سجستان وأقام إلى أول سنة ستين ومائتين. ذكر سنة ستين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وأربعة أصابع ونصف. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأحد عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتمد على الله أمير المؤمنين. وأحمد بن طولون على مصر متغلّبا. وفيها توجّه يعقوب الصفّار إلى طبرستان طالبا عبد الله بن صالح. فلمّا قرب بعث إلى الداعيّ وقال: إني لم آت قاصدا لحربك ولكن لطلب ثأري من عبد الله فإن سلّمته إليّ رجعت، وإن أبيت حاربتك! فأبى الداعي تسليمه، وصافّ يعقوب فهزمه ودخل الداعي منهزما إلى بلاد الديلم. وهرب عبد الله بن

ذكر سنة إحدى وستين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

صالح إلى الريّ والوالي عليها يومئذ الصلابي فأجاره. وأقام يعقوب بإصبهان حتّى جبا خراج سنة ثم سار إلى الريّ كما يأتي ذكره في تاريخه. وفيها في شهر ربيع الأوّل وافى ابن الديرانيّ واليا من قبل المعتمد على الله على الدينور فاجتمع ابن أبي دلف وابن عياض عليه فهزماه وأخذا ما كان في عسكره. ودام دلف- <وهو الثاني من آل بني دلف> -على ما كان أبوه إلى أن وثب عليه القاسم (226) بإصبهان في سنة خمس وستين فقتله وتغلّب عليها. فاجتمع أجناد دلف ووثبوا عليه فقتلوه في تلك السنة وولّوا أحمد أخاه كما يأتي في تاريخه. ذكر سنة إحدى وستين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراععا وخمسة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتمد على الله أمير المؤمنين. وأحمد بن طولون بمصر على حاله. فيها عقد الأمر بولاية العهد من المعتمد لولده جعفر ولقبه المفوّض إلى

(227) ذكر سنة اثنين وستين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

الله. ومن بعده لأخيه أبي أحمد طلحة ولقّبه الموفّق بالله؛ وذلك في شهر شوّال من هذه السنة. وفيها سار يعقوب الصفّار إلى الريّ في طلب عبد الله بن صالح. فلمّا نزل عليها خيّر صاحبها إمّا تسليم عبد الله والرجوع عنه أو الحرب فاختار تسليمه وسلّمه إليه فقتله يعقوب بيده وعاد إلى خراسان. ووردت رسله إلى الإمام المعتمد على الله وإلى أخيه الموفّق يعتذر عن دخول خراسان بغير إذنه، ويذكر أنه أشفق على بلاد الخليفة لكثرة المتغلّبين بها وضعف محمد بن طاهر عن حمايتها. فأمر المعتمد بلعنته بين يديّ الرسل وتبرأ منه، وأحضر الحاجّ الخراسانيّ وأخبروا ببراءة الخليفة منه. فلمّا انتهى إلى يعقوب ذلك لحقته العزّة بالإثم فسار في هذه السنة من خراسان إلى بلاد فارس-وكان قد تغلّب عليها ابن واصل؛ فلقيه يعقوب وهزمه وأخذ أمواله وأهله، وسار منها إلى الأهواز قاصدا دخول العراق حسبما يأتي من ذكر ذلك في سنة اثنين وستين ومائتين. (227) ذكر سنة اثنين وستين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتمد على الله أمير المؤمنين. وأخوه الموفّق في حرب صاحب الزنج إلى أول هذه السنة.

ذكر سنة ثلاث وستين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

في شهر المحرّم دخل يعقوب الصفّار رامهرمز طالبا بغداد فأراد الخليفة رجوعه فأحضر التجّار وشافههم بأنه ولّى يعقوب خراسان وطبرستان وجرجان والريّ وفارس وكرمان، والشرطة بمدينة السلام، وتوجّهت الرسل إليه بذلك فأبى العودة وقال: لا بدّ من الوصول إلى باب الخليفة! فلمّا علم المعتمد على الله ذلك وتحقّقه تجهّز لحربه وسار بنفسه ومعه أخوه الموفّق؛ وسار يعقوب وشقّ واسط ونزل دير العاقول، ولقيه الموفّق في جيوش الخليفة على اصطرند يوم الأحد لسبع ليال خلون من رجب سنة اثنين وستين ومائتين. ونشبت الحرب بين الفريقين واشتدّت ثم انهزم عسكر يعقوب وقتل خلق كثر من عسكره، وحمى عسكره بنفسه وخواصّه، وترك سواده وفرّ وتبعه الموفّق وكانت الهزيمة وقت العصر بحملة صادقة حملها الموفّق بنفسه. وأصاب يعقوب ثلاثة أسهم في حلقه ويديه، وأصيب من عسكره أكثر من عشرة آلاف رأس من الخيل ومن الأموال ما لا يحصر بوزن. وكان محمد بن طاهر في سواد عسكره موثقا فأطلقه الموكّل به فلحق بعسكر الخليفة. ورجع يعقوب (228) إلى بلاده مكسورا. فجيّش وعاد تملّك بلاد فارس من ابن واصل وأقام إلى سنة خمس وستين ومائتين فخرج من فارس وقصد العراق لأخذ ثأره من سنة اثنين وستين فتوفّي قبل بلوغه مناه حسبما يأتي من ذكره. ذكر سنة ثلاث وستين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتمد على الله أمير المؤمنين وأخوه الموفّق صاحب الجيش.

وأحمد بن طولون بمصر. وشارك في الخراج بين أبي أيّوب وأبي ريشة وأبي ذؤيب معهما. والقاضي بكّار بحاله مستمرّ على قضائه. نكتة جرت في ولاية ابن طولون بمصر. كان له في قصره مستشرف عال يصعد إليه في الليالي الصائفة. فبينا هو ذات ليلة بعد هدوة من الليل إذ سمع ببابه نبيح كلب وقد زاد في نبيحه فأمر بطرده فخرج الخدم وطردوه ثم عاود ولجّ فخرج الغلمان وضربوه وطردوه ثم عاود النباح وزاد. فجلس ابن طولون وقال: لهذا الكلب خبر! وأمر بخادم من خاصّته يعلم منه عقل وفهم وقال له: هذا الكلب له نبأ فأخرج وخذ معك جماعة من غلمان الدار واتبع هذا الكلب حيث اتّجه وأتني بخبره! قال؛ فخرج الخادم ومعه جماعة من غلمان الدار فلمّا رآهم الكلب بصبص لهم بذنبه ومشى بين أيديهم وتبعه القوم إلى حارة من بعض حارات مصر في زقاق دبق فوقف الكلب على باب دار مغلق الباب فعاد يحفر بيديه وينبح ويدفع الباب برأسه. فأمر الخادم بكسر ذلك (229) الباب وهجم الدار فوجدوا صبية مقتولة وعندها ستة رجال فأحضروهم من ساعتهم إلى بين يدي ابن طولون فاعترفوا أنهم يجتمعون على شرب وأنهم يحضرون بنات الخطأ فيقضون منها أربهم، ويقتلونها ويأخذون مما عليها من الحليّ والقماش وأنهم فعلوا بتلك الصبية ما فعلوه. وسأل عن الكلب فأخبر من أهلها أنها ربّته صغيرا وما كان يفارقها حيث كانت وأين حضرت. فأمر بهم فسمّروا بعد قطع أيديهم وجعلت في حلوقهم وطيف بهم على الجمال حتّى هلكوا.

ذكر سنة أربع وستين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة أربع وستين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثمانية أذرع واثنا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتمد على الله وأخوه الموفّق الغالب عليه حتّى عاد محجورا عليه في سائر ما يفعله والأمر كلّه راجع للموفّق. والحروب بينه وبين صاحب الزنج سجال؛ وقد عظم أمر صاحب الزنج وزاد شرّه وفساده. وأحمد بن طولون متغلّبا على مصر <والشام>.وقد أفرد أبا أيوب بالخراج دون رفيقيه. والقاضي بكّار مستمرّ على قضائه. ويعقوب الصفّار متغلّبا على فارس وخراسان. والداعي بطبرستان صاحب دعوة وخطبة. وابن أبي دلف متغلّبا على الجبال وما حولها. <وأحمد بن عبد الله الخجستاني متغلّبا على نيسابور>.ولم يبق في يد الخلافة غير العراق والجزيرة. وصاحب الزنج متغلّب على أكثر النواحي وأهل البصرة معه في أنحس الأحوال من تكراره إليها وفساده بها. وكذلك الكوفة. والخليفة ليس له غير الخطبة للملأ.

(230) ذكر سنة خمس وستين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

(230) ذكر سنة خمس وستين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وتسعة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتمد على الله وأخوه الموفّق صاحب الأمر وإليه رجوع الأحوال. وأحمد بن طولون بمصر. وعزل أبا أيّوب عن الخراج وولّى مكانه عليّ بن الحسين الأطروش. والقاضي بكّار مستمرّ على قضائه. فيها وصل يعقوب الصفّار إلى الأهواز قاصدا العراق فتوفّي بجنديسابور وكانت وفاته بالقولنج فأخبره طبيبه أن لا دواء له إلاّ الحقنة فأباها واختار الموت عليها. فكانت مدة تغلّب يعقوب مذ ملك سجستان وإلى أن مات أربع عشرة سنة وشهورا. وكان يعقوب حازما في رأيه، ثابتا في حروبه، ذا همة وشجاعة وجدّ في أموره. وكان عنده ظلم وجور؛ يلبس لباس المتطوّعين والزهّاد، ويفعل فعل الخوارج والمرّاق. وكان قلّ أن يرى مبتسما! وقام بالأمر بعده أخوه عمرو بن الليث الصفّار الثاني من الصفّاريّة. لمّا توفّي يعقوب بن الليث بايع جيشه أخاه عمرا بجنديسابور. فبادر عمرو بكتبه إلى الإمام المعتمد تتضمّن أنّه سامع مطيع لا يخرج عن المرسوم له. فبعث الخليفة إليه أحمد بن الأصبغ في ذي القعدة من هذه السنة بخلع وعهد على خراسان وبلاد فارس وإصبهان وسجستان وكرمان والسند. واستثنى ما وراء النهر فإنه أبقاه بيد نصر بن أحمد بن أسد بن سامان خداه. وأمر بمواقعة أحمد بن عبد الله (231) الخجستاني المتغلّب على

ذكر سنة ست وستين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

نيسابور حسبما يأتي من ذكره في تاريخه إن شاء الله تعالى. وفيها وثب أجناد دلف بن أبي دلف على القاسم بن مماه فقتلوه وبايعوا أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف. فلمّا بويع أحمد المذكور واجتمعت الجند على طاعته تغلّب على بلاد الجبل فبعث إليه الموفّق بكتمر ليطرده عنها فهزمه أحمد وعاد مغلولا إلى بغداد. وكان أحمد مظفّرا في حروبه، ذا بأس ونجدة. ودام على سيرة بيته إلى سنة ست وسبعين حسبما يأتي من ذكره. ذكر سنة ست وستين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وتسعة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتمد على الله. وأخوه الموفّق صاحب الأمر. وأحمد بن طولون بمصر على حاله. وعمّاله على الخراج مستمرّون وكذلك القاضي بكّار مستمرّ. وفيها كانت وقعة عمرو الصفّار مع <أحمد بن> عبد الله الخجستاني المتغلّب على نيسابور فهزمه. وأقام الخجستاني بنيسابور إلى أن قتل في ذي الحجة سنة ثمان وستين؛ قتله مملوك له تركيّ! وذلك أنّه كان يميل إلى هذا المملوك ويهواه فقال له يوما يداعبه إنّ مملوكا أحسن منك قد بلغنا أنه هرب من عند أبي طلحة-يعني صاحب هراة-مستأمنا إلينا فانظر كيف يكون حالك معه!

(232) ذكر سنة سبع وستين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

فلحقت المملوك الغيرة، وتخوّف من ميله عنه فقتله! وولي نيسابور في تلك السنة رافع بن هرثمة؛ وكان مقدّما على جيش الخجستانيّ، واستقرّ أمره بها. (232) ذكر سنة سبع وستين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتمد على الله وأخوه الموفّق صاحب الأمر. وأحمد بن طولون على مصر. وعمرو بن الليث بخراسان وسجستان وأعمالهما. والداعي العلوي بطبرستان وأعمالها. وابن هرثمة بنيسابور وأعمالها. وأحمد بن عبد العزيز بن دلف بالجبال وأعمالها. وكلّ من هؤلاء يتغلّب على ما بيده من الأعمال. وبعضهم متظاهر بالطاعة، مبطن بالتغلّب. وفيها كبس صاحب الزنج على البصرة ونهبها وقتل من أهلها خلق كثير. وبلغ الموفّق فتجهّز لملاقاته وكانت بينهما حروب ووقعات متعدّدة. ذكر سنة ثمان وستين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وستة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتمد على الله أمير المؤمنين. وأخوه الموفّق الغالب عليه. والمتغلبون بالنواحي المقدّم ذكرها على ما هم عليه. فيها بويع الموفّق أخو المعتمد. وبويع بولاية عهده لولده أحمد بن الموفّق ولقّب المعتضد بالله. وخلع جعفر بن المعتمد على الله، واستقرّ المعتضد بولاية العهد وعاد على ما كان عليه أبوه من رجوع الأمور إليه. وكان المعتمد لمّا اشتغل بحرب الزنج أخوه الموفّق توجّه يريد مصر لمكاتبة جرت (233) بينه وبين أحمد بن طولون! فلمّا بلغ الموفّق ذلك وهو في قتال صاحب الزنج أنفذ إسحاق بن كنداج فردّ المعتمد وسلّمه إلى صاعد بن مخلد فأنزله دار ابن الخصيب بسرّ من رأى وحجر عليه. ولقّب إسحاق المذكور ذا السفارتين ولقّب صاعد بن مخلد ذا الوزارتين. وصار ابن طولون بدمشق فجمع القضاة والفقهاء وخلع الموفّق وأفتى الفقهاء كلّهم بخلعه. ثم عاد إلى مصر وأمر بخلعه ولعنته فأبى ذلك القاضي بكّار رضي الله عنه. وكان الموفّق لمّا بلغه ما فعله ابن طولون أمر بلعنته على المنابر فلعن من أول الشام إلى آخر ما وراء النهر! فلمّا بلغ ابن طولون ذلك أمر بلعنة الموفّق فلعن من أول صعيد مصر إلى آخر شامها! إلاّ ما كان من القاضي بكّار فإنه لم يوافق على ذلك وقال لأحمد بن طولون لمّا أمره بذلك: أنت أصدرت لي منه كتابا وأعلمتني أنه وليّ العهد، وهو ثابت عندي إلاّ أن ينزع يده منها! فقال له ابن طولون: متى لم توافق على خلعه ولعنته اعتقلتك وفعلت بك كيت وكيت! ثم أكره فطلع المنبر للعنة الموفّق ثم قال: ألا لعنة الله على الظالمين ثابتا. فعلم ابن طولون أنه عناه

ذكر سنة تسع وستين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

بذلك فاعتقله. فكان القاضي بكّار رضي الله عنه يحدّث عن سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويفتي ويقرأ العلوم ويحكم وهو في السجن. ذكر سنة تسع وستين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وثمانية عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتمد على الله أمير المؤمنين. وابن أخيه المعتضد على ما كان (234) عليه أبوه الموفّق من ولاية الأمر. وافترد الموفّق لحرب صاحب الزنج وكسره في هذه السنة كسرة شنيعة، وقتل أكثر حماته، ونجا بنفسه هاربا لا يلوي على شيئ. ذكر سنة سبعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وأربعة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتمد على الله أمير المؤمنين، وأخوه الموفّق متتبع آثار صاحب الزنج حتّى قتله في هذه السنة حسبما يأتي من ذكره.

<ذكر سيرة أحمد بن طولون ومولده ووفاته

وفيها توفي أحمد بن طولون رحمه الله تعالى. وذلك أنه توجّه في أوّل هذه السنة إلى الشام وفي عوده إلى الفسطاط اعتراه مرض وقوي عليه فلمّا دخل مصر توفّي في شهر ذي القعدة من هذه السنة من علة أصابته في ذكره ودبره. وتوفي ابنه العباس بعده باثنتي عشرة ليلة. ويقال إنّه أحصي من قتله ابن طولون ومات في أيامه في حبسه فكان ثمانية وعشرون ألفا. وأطلق من سجنه بعد موته ثمانية عشر ألف إنسان. <ذكر سيرة أحمد بن طولون ومولده ووفاته قال صاحب التاريخ المظفّري: طولون غلام تركيّ بعثه نوح بن أسد عامل بخارى إلى المأمون سنة مائتين وتوفي في سنة أربعين ومائتين. وولد له أحمد سنة عشرين ومائتين ببغداد. وتوفي ذي القعدة سنة سبعين ومائتين. وذكر الكنز وصحته ووافق على لقياه إياه. وقال القاضي ابن خلكان في تاريخه إنّ طولون مملوك أهداه نوح بن أسد الساماني إلى المأمون. وكانت ولادة أحمد بسامراء في ثالث عشرين من شهر رمضان سنة عشرين ومائتين. ويقال إنّ طولون تبناه ولم يكن ابنه. ودخل مصر يوم الأربعاء لتسع بقين من شهر رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين. وتوفي في ليلة الأحد لعشر بقين من ذي القعدة

سنة سبعين ومائتين. ودفن في مقبرة عتيقة بالقرافة. وقال القاضي ابن عبد الظاهر مما وجدته بخطّه يقول: أحمد بن طولون من أولاد الأتراك وأبوه طولون تركيّ>. <قال؛ ورأيت سيرة للإخشيد قديمة عليها خطّ الفرغانيّ يقول: أحمد بن التج. بعض آحاد الأتراك ربّاه طولون يتيما لأنه كان صديقا لأبيه المذكور ومن طبقته. ولمّا صار في سنّ الحداثة مشى مع الحشوية وأصحاب الحديث، وقرأ القرآن، وغزا، وتنقّلت به الأحوال إلى أن صار في الثقات فأنفذه بايكباك التركيّ خليفة له على مصر واستقرّ حاله بها. قلت: ولم أر أحدا من المؤرّخين ذكر ذلك عنه. والله أعلم>. وولي بعده ولده أبو الجيش خمارويه. فأحضر أخاه العباس لمبايعته فأبى فدخل به منزل في الميدان فكانت وفاته-حسبما تقدّم في تاريخه. وعقد خمارويه لأبي عبد الله أحمد بن الواسطيّ على جيش الشام. ثم عقد لسعد الأعسر على المراكب وجعلها مقيمة بالشام. ونزل أحمد بن محمد فلسطين وهو خائف أن يوقع به أبو الجيش فكتب إليه الواسطيّ يصغّر له أمر خمارويه ويحرّضه على المسير، وضمّن ذلك (235) أبياتا شعرية (من البسيط): يا أيها الملك المرهوب جانبه … شمّر ذيول السرى فالأمر قد قربا

كم ذا القعود ولم يقعد عدوّكم … عن القتال لقد أصبحتم عجبا ليس المريد لما أصبحت تطلبه … إلاّ المشمّر عن ساق وإن لغبا أصاب مروان في بيت أصاب به … عين الصواب فما أخطا ولا كذبا <إني أرى فتنا تغلي مراجلها … والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا> وفيها أقبل أبو العبّاس أحمد بن الموفّق من بغداد، وانضمّ إليه إسحاق بن كنداج وابن أبي الساج حتّى أتوا الرقّة فتسلّم قنّسرين والعواصم إلى شيزر فلقيه بها أصحاب خمارويه فقاتلوه قتالا شديدا فكسرهم أبو العبّاس ثم أتى حتى دخل دمشق في تاريخ ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وفيها توفي الداعي صاحب طبرستان يوم الإثنين لثلاث خلون من رجب فكانت مدة مملكته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر واثني عشر يوما؛ أولها على أيام المستعين وآخرها على أيام المعتمد على الله. زاحمه فيها محمد بن طاهر مدّة وكذلك مفلح وكذاك يعقوب الصفّار. وكان أبو الغمر الطبري أهدى إلى الداعي سهمين في بعض الأعياد وعليهما مكتوب (من السريع): أهديت إلى الداعي إلى الحقّ … سهمي فتوح الغرب والشرق زجّاهما النصر وريشاهما … ريشا جناحي طائر السبق أيّد هذا الفأل بالصدق … هما بشيرا دعوة الحقّ قال؛ فسرّه الفأل وأعطاه عشرة آلاف درهم. وسمع بجرجان لمّا دخلها

صياحا لديلمي من أصحابه في دور بعض أهلها فقال: {أَنّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}.ولحمدان الطبري (236) وقد تأذّى بديلم الجيش فقال (من المنسرح): أنا إلى الله ما لقيت … من حبّ قوم بهم شقيت لا قلت في الأولين شرا … ولا ترفّضت ما حييت وكان كاتبه سعيد بن محمد الطبري. وقام بالأمر بعده محمد بن زيد الداعي الثاني من العلويين. لمّا مات الحسن كان أخوه محمد بجرجان فرسم لصهره محمد بن إبراهيم العلوي أن يكتب إليه ليسارع بالمجيء فينتصب بالمملكة فتباطأ. فلمّا توفّي الحسن انتصب محمد بن إبراهيم مكانه وتلقّب القائم بالحق. فبلغ الخبر محمد بن زيد فسار من جرجان فلمّا قرب هرب محمد بن إبراهيم إلى جالوس فأنفذ خلفه سرية فأدرك وقتل. ولبس محمد بن زيد القلنسوة وتلقّب الداعي، واستقامت له طبرستان. وغلبه عمرو بن الليث الصفّار على جرجان ثم أخرجه عن طبرستان على يد أخيه رافع بن الليث. وأقام رافع بها ثلاث سنين ثم عاد الداعي فهزمه عن طبرستان دون جرجان. واستقرّ الحال حتّى غلب على الأمر إسماعيل بن أحمد الساماني حسبما يأتي من ذكره في تاريخه إن شاء الله. <فيها قتل صاحب الزنج على يد الموفّق لمّا ندب لحربه لؤلؤ غلام ابن طولون حسبما ذكرناه فيما نقل من خبره ملخّصا دون إطناب. وذلك أنّ تواريخ جميع من عني بجمع أخبار الناس وقد ذكروه مفصّلا. وتاريخنا هذا من شرطه الاختصار ومخض الزبد والاستقصار على النبذ من فن غريب، وحديث عجيب>.

ذكر سنة إحدى وسبعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة إحدى وسبعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وتسعة أصابع. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتمد على الله أمير المؤمنين. وخمارويه بن أحمد بن طولون بمصر. وعزل أحمد بن إبراهيم عن الخراج وولّى مكانه علي بن إبراهيم (237) الماذرائي. وفيها دخل أبو العباس أحمد بن الموفّق بعساكر العراق إلى دمشق، وخرج إليه خمارويه بالعساكر المصرية والتقيا وانهزم خمارويه وعاد إلى الفسطاط لا يلوي على شيئ. وكان له كمين مع سعد الأعسر فظهر الكمين على أبي العبّاس ولم يعلم <سعد> بهزيمة خمارويه فكسروا أبا العبّاس وأزاحوه عن العسكر اثنا عشر ميلا. ورجع أبو العبّاس إلى دمشق مهزوما فلم يفتح له، ورجع إلى نحو المشرق. وعاد خمارويه إلى دمشق فدخلها ثم قتل سعد الأعسر لأمر حدث منه. ثم خرج المحاربة ابن كنداج في تاريخ ما يأتي إن شاء الله تعالى. وفيها بلغ الخليفة عن الصفّار ما أنكره فعزله عن خراسان وماله من الأعمال وولاّها محمد بن طاهر وهو ببغداد واستخلف له رافع بن هرثمة وأمر

ذكر سنة اثنتين وسبعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

بلعن عمرو بن الليث على المنابر لأربع بقين من شوّال من هذه السنة؛ ولم يبق بيده إلاّ سجستان ودام ذلك إلى سنة ست وسبعين ومائتين. ذكر سنة اثنتين وسبعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وتسعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتمد على الله أمير المؤمنين، وأخوه الموفّق الغالب على أمره وولده أبو العبّاس المعتضد. وخمارويه صاحب مصر والشام وهو مقيم في هذه السنة بدمشق. وفيها كان الزلزلة بالريّ وأعمالها وأخربت عدة عمائر، وقتل جمع كثير من الناس، ونبعت من الأرض عين ماء على فرسخ من الريّ لم تكن تعهد قبل ذلك هناك (238). ذكر سنة ثلاث وسبعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وسبعة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتمد على الله أمير المؤمنين، وأخوه الموفّق وولده المعتضد قائمان بأمور الناس. وخمارويه صاحب مصر وهو في هذه السنة بالديار المصرية مقيم. وعمرو بن الليث بسجستان. ومحمد بن طاهر بخراسان وأعمالها من قبل المعتمد. ومحمد بن زيد الداعي صاحب طبرستان وأعمالها. وأحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف بالجبال متغلّبا. ولم يحدث في هذه السنة حادث فيذكر بحكم التخصيص. ذكر سنتي أربع وخمس وسبعين ومائتين نيل سنة أربع المبارك: القديم أربعة أذرع وستة عشر إصبعا. المنتهى خمسة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا. نيل سنة خمس المبارك: القديم أربعة أذرع وستة عشر إصبعا. المنتهى خمسة عشر ذراعا وثمانية أصابع. الحوادث الخليفة المعتمد على الله أمير المؤمنين فيهما. وكذلك سائر الملوك والعمّال على ما تقدم من ذكرهم. وفي سنة خمس توفي أبو داود بالبصرة وهو صاحب «السنن» رحمه الله.

ذكر سنة ست وسبعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة ست وسبعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا (239). ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتمد على الله أمير المؤمنين. والموفّق والمعتضد بحالهما في تدبير الأمور. وأبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون ملك مصر مستبدا. واستوزر علي بن أحمد الماذرائي. واستعمل على الخراج المؤمّل بن أحمد. وفيها شخص الموفّق من العراق إلى إصبهان والجبال بالجيوش لدفع أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف عنها فارتفع أحمد بأمواله وعياله وخاصته وترك داره بفرشها لينزلها الموفّق، وأظهر الطاعة والانقياد لأوامره فعفا عنه الموفّق وتركه وعاد. ذكر سنة ثمان وسبعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وسبعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتمد على الله أمير المؤمنين. وفيها توفي الموفّق أخوه رحمه الله ببغداد واستبدّ بالأمر ولده أبو العباس المعتضد بالله على ما كان أبوه عليه من تدبير الأمور ورجوعها إليه. وفيها خرج أبو الجيش خمارويه من الديار المصرية لمحاربة ابن كنداج وعسكر ظاهر دمشق بالجيوش. ونزل ابن كنداج بأرض يقال لها باحوران من أرض الرافضة. وكانت الوقعة بينهما في أول سنة تسع وسبعين ومائتين فكانت الكسرة على خمارويه وانهزمت أصحابه وثبت هو في شرذمة يسيرة وحمل على ابن كنداج حملة صادقة فهزمه وتبعه حتّى أوصله سرّ من رأى. ثم سعي بينهما بالصلح فاصطلحا؛ وعاد إلى دمشق (240). ذكر سنة تسع وسبعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم سبعة أذرع وإصبع ونصف. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتمد على الله أمير المؤمنين إلى أن توفّي في هذه السنة في تاريخ ما يذكر. وخمارويه بمصر. وعزل المؤمّل عن الخراج وولي الحسين بن محمد كاتب أبي التاج. وأبو عبد الله محمد بن عبدة قاضيا كان قد ولاّه أبو

الجيش خمارويه في سنة سبعين ومائتين بعد وفاة أحمد بن طولون بأربعين يوما؛ وقيل غير ذلك. والله أعلم. وتوفي المعتمد على الله غرّة شهر رجب من هذه السنة. وقيل إنه مات مقتولا وإنه لفّ في بساط وغمّ حتى مات رحمه الله، وله خمسون سنة وأشهر. وصلّى عليه القاضي إسماعيل بن إسحاق، وحمل إلى سرّ من رأى، ودفن هناك. صفته: أسمر، مربوع، خفيف العارضين، نحيف الجسم، حسن العينين، مدوّر الوجه، بجبينه أثر جدري. فلمّا ولي الخلافة عبل جسمه وكثر لحمه، واتّسع الشيب في رأسه ولحيته. مولده محرّم سنة تسع وعشرين ومائتين. وكانت مدة خلافته ثلاثا وعشرين سنة ويومين. ولي الخلافة وله سبع وعشرون سنة وأشهر. والله أعلم. وزراؤه والكتّاب: (241) وزر له عبيد الله بن يحيى بن خاقان ثم سليمان بن وهب ثم الحسن بن مخلد ثم صاعد بن مخلد ثم أبو الصقر إسماعيل بن بلبل. حجابه: موسى بن بغا ثم جعفر بن بغا ثم حسنج ثم بكتمر. نقش خاتمه: السعيد من وعظ بغيره. والله أعلم.

ذكر خلافة المعتضد بالله أحمد بن طلحة الموفق وما لخص من سيرته

ذكر خلافة المعتضد بالله أحمد بن طلحة الموفّق وما لخّص من سيرته هو أبو العباس أحمد بن طلحة الموفّق بن جعفر المتوكّل بن محمد المعتصم. وباقي نسبه معلوم. ويلقّب السيّار لخفّة ركابه وكثرة أسفاره في الحروب قبل الخلافة وفيها. ويلقّب الأغرّ لشامة بيضاء كانت في مقدّم رأسه. وهو أحد من ولي الخلافة ولم يكن أبوه خليفة. أمّه أمّ ولد يقال لها ضرار ويقال خفير. توفيت قبل خلافته في سنة ثمان وسبعين. بويع له لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين؛ وذلك بما كان له من ولاية العهد من المعتمد؛ وله ست وثلاثون سنة وشهر. مولده في جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين ومائتين. بينه وبين مولد أبيه الموفّق أربع عشرة سنة وأربعة أشهر ويومان. كان حسن الميل إلى آل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم لرؤيا رآها. وضبط الأمور بتجربة وحنكة، ووضع عن الناس البقايا وأسقط المكوس التي كانت تؤخذ بالحرمين. وأظهر حسن السيرة، وقرّب العلماء والفضلاء. وفي أيامه كان أبو جعفر محمد بن سنان بن جابر الحرّاني المعروف

بالبتّاني أحد المهرة برصد الكواكب، والمتقدمين في علم الهندسة وهيئة الأفلاك وحساب النجوم وصناعة (242) الأحكام. وله زيج جليل ضمنه أرصاد النيّرين وإصلاحه لحركاته المبيّنة في كتاب بطليموس المعروف بكتاب المجسطي، وذكر فيه حركات الخمسة المتحيّرة على حساب ما أمكنه من إصلاحها، وسائر ما يحتاج إليه من حساب الفلك. وكان بعض أرصاده في زمن الخليفة المعتضد بالله. قال القاضي صاعد في كتابه المعروف بطبقات الأمم: لا أعلم أحدا في الإسلام بلغ في تصحيح أرصاد الكواكب وامتحان حركاتها ما بلغ هذا الفاضل. وله من تواليفه كتاب في شرح المقالات الأربع لبطلميوس. وكان في أيامه محمد بن إسماعيل التنوخي المنجّم الذي دخل الهند وصدر عنها بغرائب علم النجوم منها حركة الإقبال والإدبار. وكان في أيامه الفاضل الكبير والسيد النبيل أبو معشر جعفر بن محمد بن عمر البلخي عالم أهل الإسلام بأحكام النجوم. وهو صاحب التواليف الشريفة والمصنّفات المفيدة في صناعة الأحكام وعلم التعديل. وكان مع ذلك أعلم الناس بسير الفرس وأخبار ملوك العجم. فمن كتبه في صناعة الأحكام كتاب الطبائع، وكتاب الألوف، وكتاب المدخل الكبير، وكتاب القرانات، وكتاب الدول والملل، وكتاب الملاحم، وكتاب الأقاليم، وكتاب الهيلاج والكدخداه، وكتاب المقالات في المواليد، وكتاب النكت، وكتاب تحاويل سنيّ المواليد- وغير ذلك من كتبه في حركات النجوم وزيجه الكبير. قال القاضي صاعد:

لم أعلم كتابا أنفع ولا أكثر فائدة في هذا العلم من زيج أبي معشر لأنه جامع لأكثر علم الفلك بالقول المجرّد المطلق من البرهان. وكتاب الزيج الصغير وهو المعروف بزيج القرانات يتضمن معرفة (243) أوساط الكواكب لأوقات اقتران زحل والمشتري مذ عهد الطوفان. وكان أبو معشر مع هذا مدمنا لشرب الخمر مستهترا بمعاقرتها. وكان يعتريه صرع عند أوقات الامتلاآت القمريّة. وكان في أيام المعتضد معاصرا لأبي جعفر بن سنان. هكذا ذكر القاضي صاعد قاضي الأندلس صاحب كتاب طبقات الأمم من العرب والعجم، وصاحب كتاب الملل والنحل. والله أعلم. قال صاحب كتاب الدول: لمّا أفضت الخلافة إلى الإمام المعتضد بالله قدم رسول عمرو بن الليث الصفّار عليه يسأله اصطناعه لنفسه وتوليته خراسان من قبله، وأحضر معه هدايا جليلة. فعقد له لواء وبعثه مع عيسى النوشريّ إليه ومعه خلع وعهد بما سأل. فوصل إليه عيسى في شهر رمضان من هذه السنة. وكان السبب الذي بعث المعتضد على تولية عمرو وإجابة سؤاله أنه بعث إلى رافع بن هرثمة يأمره برفع يده عن ضياع سلطانية بالريّ فأبى ذلك. قال صاحب الدول، قال أبو القاسم داود بن سليمان، قلت لرافع بن هرثمة: لا تعصه فليس هو كمن تقدّمه من الخلفاء وهو بكتاب واحد يفسد عليك أمرك! فاغترّ ولم يقبل. وصادف ذلك تضرّع عمرو في طلب الولاية فولاّه. ثم كتب المعتضد بعد ذاك إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف يأمره بالمضيّ إلى الريّ ودفع رافع عنها فامتثل أمره وسار فلقي رافعا في يوم الخميس لسبع بقين من ذي القعدة من هذه السنة فانهزم رافع ودخل أحمد الريّ.

ذكر سنة ثمانين ومائتين (244) النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة ثمانين ومائتين (244) النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وسبعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتضد بالله أمير المؤمنين. وأبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون ملك مصر. وعزل الحسين بن محمد وولى أبا بكر محمد بن علي الخراج. والقاضي محمد بن عبدة مستمرّ. وفيها دخل عمرو بن الليث نيسابور في جمادى الأولى. وفيها توفي أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف في آخر شهر ربيع الأول. وكانت مدّة تغلّبه خمس عشرة سنة، وقام بالأمر مكانه أخوه: عمر بن عبد العزيز الرابع من آل أبي دلف قال صاحب كتاب الدول: لمّا مات أحمد بن عبد العزيز وقع الخلف بين الأخوين عمر بن عبد العزيز وبكر بن عبد العزيز على الرئاسة. ثم اتّفق الأجناد على تولية عمر، وولاّه الإمام المعتضد بالله لمّا شخص إلى الجبال في سنة إحدى وثمانين أصبهان ونهاوند والكرج وما والاهم واستمرّ ذلك.

ذكر سنة إحدى وثمانين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة إحدى وثمانين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتضد بالله أمير المؤمنين. وأبو الجيش خمارويه بمصر؛ وعمّاله بحالهم. فيها تزوّج المعتضد قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون وأصدقها ألف ألف درهم، وأنفذ الحسين بن عبد الله الجوهري المعروف بابن الجصّاص فحملها إليه في هذه السنة فلم يعجب بشيئ كإعجابه بها (245) لما وصلت إليه من الجمال البارع والأدب الكامل. فمن ذلك أنّ المعتضد لكثرة إعجابه به قدّمها على سائر حظاياه وكان يخلو بها وحده. فبينا هو ذات يوم معها في خلوة جعل رأسه في حجرها على فخذها وغرق في نومه فوضعت رأسه على وسادة وجلست بالقرب منه فلمّا استيقظ عظم عليه ذلك فصاح بها فكلّمته عن قرب منه! فقال: كيف أسلّمك مهجتي ورأسي فتضعيه على الوساد!؟ فقالت: ليس أنا ممن يجهل ما خوّلني به أمير المؤمنين من عظيم المنزلة ولكني فيما أدّبني به أبي أن قال لي: لا تجلسي مع نيام ولا تنامي مع جلوس! قال؛ فعظمت في عينه وازدادت عنده منزلة.

ذكر سنة اثنتين وثمانين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة اثنتين وثمانين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتضد بالله أمير المؤمنين. وخمارويه بدمشق إلى أن قتل في هذه السنة في تاريخ ما يذكر. وعماله بمصر على حالهم. وكذلك القاضي بها. ذبح أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون على فراشه بدمشق ليلة الاثنين لليلتين بقيتا من ذي القعدة من هذه السنة، وحمل إلى مصر ودفن عند قبر أبيه بسفح المقطّم. وقام بالأمر مكانه جيش بن خمارويه الثالث من آل طولون. ويقال إنه كان المتسبّب في قتلة أبيه؛ فدخل مصر مستقلا بولاية الأمر وأقام بقيّة هذه السنة إلى سنة ثلاث وثمانين ومائتين فخلع (246) وحبس باتّفاق كبار القوّاد. وقام بالأمر مكانه هارون بن خمارويه الرابع من آل طولون. وتولّى كتابته محمد بن علي الماذرائي. وولي الخراج أميل بن عيسى بن نصر. وعزل القاضي محمد بن عبدة ولزم بيته ولم يولّ أحد مكانه.

ذكر سنة ثلاث وثمانين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة ثلاث وثمانين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتضد بالله أمير المؤمنين. وهارون بن خمارويه بمصر وعمّاله حسبما تقدم من الكلام. فيها دخل رافع بن هرثمة نيسابور بعد خروج عمرو الصفّار منها، ودعا لمحمد بن زيد الداعي صاحب طبرستان. فلمّا بلغ عمرو رجع ونزل بظاهرها لعشر خلون من ربيع الآخر من هذه السنة وحاصرها إلى أن وقعت بينه وبين رافع وقعة لخمس بقين من رمضان فانهزم رافع في نفر يسير، توجّه نحو خوارزم فقبض عليه صاحبها وقتله في شوّال من هذه السنة. واستقامت البلاد لعمرو الصفّار. وامتنع عن الطاعة <عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف> فأشخص له المعتضد بالله وزيره عبيد الله بن سليمان وغلامه بدر المعتضدي الكبير. وكان شخوصهما لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة من هذه السنة. فلمّا شارفا الأعمال خرج إليهما عمر مستأمنا يوم السبت لعشر بقين من شعبان من هذه السنة. وقد كان أخوه بكر دخل قبله في الأمان ووعده الوزير وبدر أن يولّياه أعمال أخيه؛ فلمّا دخل أخوه في الأمان (247) قالا لبكر: إنما وعدناك أن نولّيك الأعمال إذ كان أخوك عاصيا، وأمّا إذ أطاع أخوك فلا نعزله عن ولايته،

وأمراه بالمضيّ مع أخيه إلى باب أمير المؤمنين المعتضد بالله. فوليا عيسى النوشريّ إصبهان من قبل عمر حتى يعود من باب الخلافة. فهرب بكر عند ذلك مظهرا الخلاف، وسار عمر يطلب الباب. وكتب الخليفة إلى بدر يأمره بطلب بكر وأن لا يقفل حتّى ينجز أمره. ووصل عمر إلى بغداد في يوم الاثنين لأربع بقين من شوّال فأمر الخليفة للقواد بلقائه وتلقّاه القاسم ابن الوزير عبيد الله وأوصله إلى حضرة أمير المؤمنين، وأمر أن تفاض عليه الخلع، وحمله على دابة بسرج ذهب ولجام مثله، وخلع على أخيه الهطّال، وعلى ولدين لعمر وعلي وابن لأخيه أحمد وأقاما ببغداد مطلقين، واسم الولاية لعمر إلى أن قبض عليهم لخمس بقين من شوّال سنة ست وثمانين فمات عمر في السجن وكذلك الهطّال في المحرم سنة ثمان وثلاثمائة ببغداد على أيام الإمام المقتدر بالله. وقام بأمر آل أبي دلف في هذه السنة بكر بن عبد العزيز الخامس من آل أبي دلف. ولمّا هرب بكر أظهر الخلاف، ومضى إلى الأهواز وواليها وصيف فسار ليطرده عنها فلحقه وباتا ليغاديا القتال فسار بكر تحت الليل وعاد إلى إصبهان. وكتب المعتضد إلى بدر يأمره بالبقاء بالجبال حتّى يأخذ بكرا فبعث إليه عيسى النوشريّ فهزمه بكر وفرّ بين يديه. ولبكر قصيدة يصف فيها هربه من بين يديه أوّلها (من الخفيف): قالت البيض قد تغيّر بكر … وبدا بعد وصله منه هجر (248) وفي هذه السنة حكم المنجّمون بغرق الأقاليم بالماء وأن يكون طوفانا فأصاب الناس تلك السنة قحط وغارت جميع المياه، وانقطع جريان

ذكر سنة أربع وثمانين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

الماء من جميع الآبار، ونشفت الأعين، وماتت الوحوش في الفلوات عطشا. وفيها هبّت ريح شديدة من عشاء المغرب إلى نصف الليل. وكان في اليوم الثاني وقت الزوال ظلمة عظيمة جدا. وهاجت الريح جدا أعظم من الليل وعادت تطرح رملا أحمر، وكان الناس يرون في أربع أقطار السماء أعمدة نار فلم يزل كذلك إلى وقت الصبح ثم خمدت الريح وسكنت، وصارت السماء حمرة شديدة الحمرة حتى عاد الناس ينظرون الأرض ولباسهم جميعه أصفر من بعد حمرة. ولم تظهر الشمس يوما وليلة مع نصف يوم آخر. فسبحان مدبّر الوجود الحي الموجود. ذكر سنة أربع وثمانين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وخمسة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتضد بالله أمير المؤمنين. وهارون بن خمارويه بمصر مستقلا. وولي القضاء بها أبو زرعة محمد بن عثمان الدمشقي. وفيها كانت وقعة بين بكر بن أبي دلف وبين النوشريّ انهزم فيها بكر وقتل أكثر عسكره وأفلت في نفر يسير، ولم يزل يجول في البلاد إلى أن توفي في سنة خمس وثمانين.

ذكر سنة خمس وثمانين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة خمس وثمانين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم سبعة أذرع وستة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا (249). ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتضد بالله أمير المؤمنين. وهارون بن خمارويه بحاله. وعزل أميل بن عيسى وولي الحسين بن <أحمد بن> إبراهيم المعروف بأبي زنبور على الخراج بكماله. وفيها قام بأمر آل أبي دلف أبو ليلى بن عبد العزيز بن أبي دلف السادس منهم. هو الحارث بن عبد العزيز؛ وكان قد قبض عليه أخوه عمر واعتقله في قلعة دز. وكانت هذه القلعة مسقط رأس آل أبي دلف، وكان الموكّل بحفظها خادم لهم كبير السنّ قد ربّى جميعهم يقال له شفيع ومعه جماعة من خواصّ غلمان عمر. فلمّا استأمن عمر وعصى بكر بقيت القلعة في يد شفيع فكلّمه أبو ليلى في إطلاقه فأبى وقال: حتّى يأتيني من أخيك عمر كتاب! وكان لأبي ليلى وهو معتقل غلام صغير يتصرف في حوائجه فقال له: احتل لي في مبرد! فأدخل له مبردا في طعام. فلمّا حصل المبرد عنده سأل أن تدخل إليه جارية تتولى خدمته. فأدخلت إليه جارية حديثة السنّ يقال لها ذلفاء. وكان شفيع يجيء كلّ ليلة إذا أراد أن ينام إلى البيت الذي فيه أبو ليلى حتّى يراه ثم يقفل عليه ويوثقه ويمضي فينام وتحت فراشه سيف مسلول. قال صاحب كتاب الدول؛ فذكرت

ذلفاء الجارية أنّ الحارث برد مسمار القيد حتّى كان يخرجه من رجله متى شاء. قالت؛ وجاء شفيع ليلة من الليالي إلى أبي ليلى فقعد إليه يحادثه فسأله أبو ليلى أن يشرب معه أقداحا ففعل. ثم قام الخادم لحاجته عازما على العود؛ فأمرني أبو ليلى ففرشت له فراشه فجعل عليه ثيابا مجموعة في شكل النائم وغطّاهنّ (250) باللحاف وأمرني أن أقعد عند أسفل الثياب في هيئة من يغمز رجلي نائم وقال لي: إذا جاء شفيع وسأل عني فقولي نام! وخرج أبو ليلى من البيت واختفى في صفّة خارج الباب الذي كان يغلق عليه فيها فرش وبسط فاختفى في تلك الفرش وجاء شفيع فنظر إلى الفراش وسألني فأخبرته فقفل الباب على غير شيئ ومضى فنام. فخرج أبو ليلى وأخذ السيف من تحت فراش الخادم وشدّ عليه فقتله فوثب الغلمان فقال لهم: أنا أبو ليلى وقد قتلت شفيعا، ولئن بقي معي أحد في الدار قتلته فاخرجوا وأنتم آمنون! فخرجوا بأجمعهم. وجاء حتّى جلس على باب القلعة فاجتمع إليه الناس ممن كان بالقلعة فوعدهم بالإحسان وأخذ عليهم الأيمان. ولمّا أصبح نزل من القلعة وبعث إلى أحياء الأكراد والصعاليك فأنفق فيهم وخرج عاصيا وسار إلى إصبهان فوقعت بينه وبين عيسى النوشريّ وقعة دون إصفهان بفرسخين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة أربع وثماني ومائتين فأصاب أبا ليلى سهم في حلقه فنحره فسقط ميتا وانهزم أصحابه وأخذت رأسه وسار بها وصيف إلى بغداد فوصل بها لخمس خلون من صفر سنة خمس وثمانين ومائتين؛ فاستوهبها أخوه عمر قبل القبض عليه وسجنه. ثم وجّه المعتضد بالله أمير المؤمنين في سنة ست وثمانين غلامه رائقا إلى إصفهان لأخذ البدنة والتاج من الجونة اللذين كانا لأبي دلف فمضى رائق وأخذهما ثم قبض

(251) ذكر سنة ست وثمانين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

على عمر والهطّال ومن معهما وجرى ما ذكرناه. وانقطعت دولة آل أبي دلف ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة. والله أعلم. (251) ذكر سنة ست وثمانين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم سبعة أذرع واثنان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتضد بالله أمير المؤمنين. وهارون بن خمارويه مستقلا بمصر وعمّاله على ما تقدّم من ذكرهم. وفيها فتح الخليفة المعتضد بالله آمد وظفر بمحمد <بن أحمد> بن عيسى وحصل على أمواله التي لم يسمع بمثلها؛ ومن جملتها تسع مائة طست ذهب وألفي زرديّة ذهب وألفي خوذة؛ وهذا ما اجتمع لملك قطّ! ومن الجواري والمماليك والأواني والفصوص ما يضيق حصره ورجع الخليفة بهذه الأموال الجمّة إلى سرّ من رأى. ذكر سنة سبع وثمانين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتضد بالله أمير المؤمنين. وهارون بن خمارويه بمصر وعمّاله بحالهم. فيها أسر إسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان خداه صاحب ماوراء النهر لعمرو بن الليث الصفّار وأنفذه إلى باب الخلافة في سنة ثمان وثمانين ومائتين حسبما يأتي ذكره في تاريخه بعد ذكر الدولة السامانية وابتدائها إن شاء الله. ذكر الدولة السامانية ومبتدأ أمرها قال صاحب كتاب الدول المنقطعة: لمّا دخل المأمون بن الرشيد رحمهما الله إلى خراسان وجد بها أسد بن سامان خداه وهو (252) من ولد بهرام جور شوبين. ذكر غرس النعمة أنه وجد نسبهم في بعض الكتب: أسد بن سامان خداه بن جثمان بن طمغاث بن نوشرد بن بهرام شوبين بن بهرام خشنش بن منوزاد خسرو بن نرسي بن بهرام بن أردشير بن سابور بن يزدجرد. فعرف المأمون مقداره بمقدار أبوته وقدّمه وولّى أولاده-وكان له أربعة أولاد: نوح بن أسد، أحمد بن أسد، يحيى بن أسد، إلياس بن أسد. ولمّا قدم المأمون العراق وولّى خراسان لغسّان بن عبّاد أوصاه بهم فولّى غسّان في سنة أربع ومائتين نوح بن أسد سمرقند وأحمد بن أسد فرغانه ويحيى بن أسد الشاش وأشروسنه وإلياس بن أسد هراة. ولمّا ولي طاهر بن الحسين خراسان أقرّهم. ثم ولي عبد الله بن طاهر فأقرّهم وزاد في الإحسان إليهم. وكان نوح

ذكر سبب ملك إسماعيل خراسان وأسره عمرو بن الليث الصفار

أكبر الإخوة فمات في سنة إحدى وثلاثين ومائتين في آخر خلافة الإمام الواثق بالله وفي ولاية طاهر بن عبد الله بن طاهر فكانت ولايته سبعا وعشرين سنة فأقرّ أخاه أحمد بن أسد على عمله. وكان كريما وفيه قيل (من البسيط): ثوى ثلاثين حولا في ولايته … فجاع يوم ثوى في قبره حشمه وأقام أحمد إلى أن توفّي في شهر رمضان سنة إحدى وستين ومائتين فكانت ولايته ثلاثين سنة. وكانت وفاته في أيام المعتمد على الله. وقد كان استخلف ولده نصرا على سمرقند مع سائر أعماله فأقرّه المعتمد وأصدر إليه عهده في شهر رمضان سنة إحدى وستين فبقي على الأعمال طوال أيام الطاهرية. وكان أخوه إسماعيل بن أحمد نائبا عنه ببخارى فوقع بينهما مشاحنة أدّت إلى محاربة فالتقيا فهزم إسماعيل نصرا وأسره (253) فلمّا رآه أسيرا ترجّل له وقبّل يده وأعاده إلى سمرقند واليا على سائر بلاد ماوراء النهر إلى أن توفي فوليها إسماعيل. ذكر سبب ملك إسماعيل خراسان وأسره عمرو بن الليث الصفّار لمّا استمرت يد عمرو بن الليث الصفّار على خراسان حملته نفسه على منازعة إسماعيل على ماوراء النهر فكتب إلى الإمام المعتضد بالله يطلب منه التولية فأجابه، وكتب إلى إسماعيل سرا يأمره بمنابذة عمرو ويشجّعه ويقوّي قلبه على محاربته. ولمّا حصلت الإجابة لعمرو بعث حاجبه محمد بن بشر في جيش كثيف لقتال إسماعيل بن أحمد، وبلغ الخبر إسماعيل فكتب إلى عمرو: إنك وليت دنيا واسعة، وإنما في يدي ماوراء النهر وهو ثغر الشرق؛ فاقنع بما

في يدك واتركني ردءا لك بهذا الثغر! فلم يجبه عمرو إلى ذلك. فأعاد الكتاب إليه يسأله أن لا يغرّر بالمسلمين في تعدية النهر فأعاد الجواب أنّي لو أشاء أن أسكّره بالبدر والأموال وأعبر العساكر عليه لفعلت! فلمّا علم إسماعيل أنه لا بدّ من محاربته جمع عساكره وعبر النهر إلى خراسان ولقي محمد بن بشر فهزمه وقتل في المعركة مع أكثر جيشه. ثم عاد إلى ماوراء النهر. فلمّا رجع المفلولون إلى عمرو أخذ في توبيخهم ولومهم على الانهزام فقال له بعض الأجناد: أيّها الأمير! إنّ إسماعيل قد طبخ فيما وراء النهر قدرا كبيرة وإنّما غرف لنا منها مغرفة والباقي بحاله فمتى شئت أن تذوق فافعل! فسكت عنه ثم تجهّز الصفّار وخرج بنفسه قاصدا حرب إسماعيل. وبلغه الخبر فسار إليه وعدّى (254) النهر كما فعل في الكرّة الأولى. فنزل الصفّار على بلخ ونزل إسماعيل بإزائه وقطع الميرة عنه ومنعه النفوذ إلى ناحية من النواحي فصار الصفّار كالمحاصر وندم على ما فعل وطلب المحاجزة فأبى إسماعيل فعزم على الحرب فلم يكن بينهما كبير قتال حتّى انهزم الصفّار ومرّ على وجهه هاربا فمرّ بأجمة قيل له إنها أقرب الطرق فدخلها في خاصّته وأمر باقي العسكر بالرجوع في الطريق الجادّة قصدا أن يتبع عسكر إسماعيل الطريق الجادّة فينجو! فما سار في الأجمة إلاّ يسيرا حتّى وحلت دابته فلم يكن في نفسه حيلة وهرب من معه ولم يلووا عليه فأدركه السابقون من أصحاب إسماعيل فأسروه فخيّره إسماعيل بين بقائه عنده والتوجيه إلى باب المعتضد بالله فاختار التوجيه. فبعثه إلى باب الخلافة مع أشناس فوصل في أول جمادى الأولى من سنة ثمان وثمانين ومائتين فأمر الإمام المعتضد غلامه بدر بتلقّيه فلقيه وسلّم عليه عمرو وكنّاه ولم يؤمّره فاغتاظ بدر وزاد في إشهاره عند الدخول به، وأركبه جملا وحمله من المصلّى وشقّ به بغداد من باب خراسان؛ وكان في حال إشهاره تدمع عيناه وهو رافع يديه يدعو! فرقّ الناس له، وأمر المعتضد بحبسه في القصر فحبس إلى أن توفي في السجن يوم الثلاثاء لثمان خلون من جمادى الأولى سنة تسع وثمانين ومائتين؛ فكانت مدة مملكته إلى حين أسره قريب من اثنتين وعشرين سنة.

وقيل إنّ المعتضد لمّا حضرته الوفاة أمر بقتله فأخرج وقتل. ومن أخبار عمرو الصفّار؛ كان عمرو بن الليث إذا جلس للشرب وضع قلنسوته بين يديه وأجلس قوّاده أمامه وبين يدي كلّ منهم عمود ذهب أو فضّة (255) على أقدارهم. فإذا أعاد قلنسوته على رأسه قاموا بأجمعهم وأخذوا العمد بأيديهم لينظروا ما يأمرهم به فيمتثلوه. وكان ممن يحضر شربه أبو الفوارس صعلوك أحد القوّاد المستأمنة إليه فقال ليلة وهم على الشراب لمحمد بن زيدويه أحد أصفهسلاريّه الصفّار: هذا شاوك أيّها الأمير! وأشار بكأس! قال محمد بن زيدويه؛ فأعاد الأمير عمرو قلنسوته على رأسه فوثبنا كلّنا وفي أيدينا العمد فأمرنا بالانصراف فانصرفنا. فلمّا كان السحر وجّه خلفي فأتيته وجلا فقال: لا بأس عليك اشتهيت أكل الرؤوس، وأحببت أن تساعدني عليها! وكشف طبقا بين يديه فإذا رأس صعلوك! فجفّ لساني وارتعدت فرائضي. ثم أخرج إليّ نصلين غير مغمدين وغمدا واحدا وقال: أغمدهما فيه! فقلت: لا يمكن ذلك! فقال: وكذلك لا يجتمع أميران في جند! فإمّا تؤمّر وإمّا أؤمّر! فقلت: الله الله فيّ أنا عبدك ومملوكك والرجل غلط عليّ فيما قال، وإن أحببت قتلتني فهو بيدك، وإن استبقيتني فلخدمتك! فصرفني إلى منزلي وصفح عني وأبقى عليّ. ومن أخباره. كان عمرو يشتري المماليك ويربّيهم ويهبهم لقوّاده فيكونون أصحاب أخبار عليهم ويجري عليهم الجرايات سرا فلا يخفى عنه خبر. خرج القاضي أبو رجاء يوما من منزله إلى مجلس عمرو فقدّم له مهر ريّض فركبه فنفر به في طريق خال وليس يراه أحد إلاّ غلامه فوقعت قلنسوته فأعادها ودخل إلى المجلس فقال عمرو: يا أبا رجاء! لم تركب المهارة؟ وإنما حقّك أن تركب القرّح فإنّ هذا الذي جرى عليك من سقوط قلنسوتك لا يليق بمثلك! فاشتدّ تعجّب أبي رجاء (256) وتحفّظ فيما بعد.

وكان ينفق في أجناده كلّ ثلاثة أشهر وله جعبة فيها تسعون سهما فيأخذ كلّ يوم سهما يخزنها غلام له اسمه ضاحك؛ فيرمي بذلك السهم إلى آخر نهاره ثم يودع في جعبة أخرى فإذا تفرّغت تلك الجعبة وامتلأت الأخرى ضرب طبل العطاء فيحضر الناس فأول ما يعرض فرسه بجميع آلاته وينادى باسمه فيوزن ثلاثمائة درهم وتحمل إليه فيأخذها بيده ويقول: الحمد لله الذي وفّقني لطاعة أمير المؤمنين حتّى استحققت الرزق! ثم يودعها خفّه فتكون لمن ينزعه. وكان أعور فركب ليلعب بالصوالجة فقال له أزهر أحد قوّاده: ليس بصواب لك أن تحضر هذا اللعب! قال: ولم؟ قال: ربّما أصابت عينك السليمة الكرة فتبقى بلا عين ونبقى نحن بغير أمير! فلم يعاود اللعب بعدها. وكان يجحف بالأغنياء ويلطف بالفقراء ويقول: إنما يطلب الشحم في بطون البقر لا في بطون العصافير! ومن مليح الشعر قول البسّامي في عمرو وقد أرجف بدخوله الكرج (من الخفيف): أنا عبد الصفّار إن فرّج اللّ‍ … هـ هموم القلوب بالصفّار لا يغرّنك الجواشن والبيض … فمن تحتها قلوب العذارى وإذا مالقوك بالخيل فاعلم … أنّها عدّة ليوم الفرار وقال من قصيدة بعد دخوله أسيرا إلى بغداد مشهورا على جمل يصف سعادة بني العبّاس (من الطويل): وحسبك بالصفّار نبلا وهمّة … يروح ويغدو للجيوش أميرا حباهم بأجمال ولم يدر أنّه … على جمل منها يقاد أسيرا وكانت سيرة الصفّار كسيرة أخيه يعقوب إلاّ أنه كان أقرب للطاعة (257).

وفيها قتل محمد بن زيد الداعي صاحب طبرستان وقام بالأمر بعده الناصر للحقّ الحسن بن عليّ ثالث العلويين حسبما يأتي من خبره في سنة ثلاثمائة واثنا عشر. وسبب ذلك لمّا أسر إسماعيل بن أحمد بن سامان عمرو بن الليث الصفّار وملك خراسان سار محمد بن زيد إلى جرجان فملكها وحصل له بها من أموال عمرو ودفائنه ما سوّل له أنه يقصد خراسان فكتب إليه إسماعيل يستنزله عن جرجان وأمره بالرجوع إلى طبرستان فأبى فسيّر إليه إسماعيل خليفة كان لرافع بن هرثمة يقال له محمد بن هارون السرخسي في جيش عظيم فالتقى الجمعان على باب جرجان فاستظهر الداعي وانهزم جيش خراسان. ثم وقف محمد بن هارون على قرب من البلد لعادة جرت للخراسانيين بعد الهزائم فثاب إليه الناس والمهزومون من أصحابه، وانتقضت صفوف الداعي وتفرّق عسكره في طلب النهب فكرّ عليه السرخّسى بعد اليأس منه فهزمه وقتل أكثر عسكره وفقد الداعي وأسر ابنه زيد بن محمد وأحضر بين يديّ السرخّسي فسأله عن أبيه فقال: كنت معه وفارقته وقت الهزيمة. فبينا هو يخاطبه إذ مرّ فارس من الخراسانية يجرّ فرسا فقال زيد: هذا فرس أبي! فاستدعاه محمد بن هارون وسأله عن فارسه فقال: نكّسته وجرحته وها هو على ضفّة النهر! فصاروا إليه فأخذوه وهو مثخن بالجراح فمات بعد يوم ونقل ولده زيد إلى بخارى فأقام بها إلى أن توفي، وله بها عقب. وكانت الوقعة يوم الجمعة لخمس خلون من شوّال سنة سبع وثمانين ومائتين. فمدة مملكته سبع عشرة سنة وأشهرا زاحمه فيها رافع بن الليث ثلاث سنين. (258) وفيها ظهر أبو سعيد القرمطي حسبما يأتي من ذكره في الجزء الذي يتلو هذا الجزء المتضمّن أخبار العبيديين خلفاء مصر كون هؤلاء القرامطة أصلهم

ذكر سنة ثمان وثمانين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

من دعاتهم الذين بثّوهم في أقطار الأرض. وسيأتي إن شاء الله تعالى في الجزء المختصّ بهم سائر أخبارهم ومبدأ أمورهم وأصل دعوتهم وأسماء سائر دعاتهم شرقا وغربا بمعونة الله تعالى وحسن توفيقه. ذكر سنة ثمان وثمانين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ستة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع ونصف. ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتضد بالله أمير المؤمنين وهارون بن خمارويه بمصر على حاله وعمّاله بحالهم حسبما تقدّم من ذكرهم في السنة الحاليّة. وفيها ملك إسماعيل بن أحمد الساماني خراسان وسائر أعمالها مضافا إلى ماوراء النهر، وغلب على جرجان وطبرستان بقتل محمد بن زيد الداعي وولاّها لمحمد بن هارون السرخسي ثم عزله وولّى صعلوك، فنافق عليه؛ وقام الناصر للحقّ العلوي كما يأتي ذلك في تاريخه إن شاء الله تعالى. ذكر سنة تسع وثمانين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وثلاثة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة المعتضد بالله أمير المؤمنين إلى أن توفّي في سنة تسع وثمانين في تاريخ ما يذكر، وهارون بن خمارويه بمصر مستقلا؛ وعماله بحالهم إلى أن خرج (259) حسين إلى الشام، وتولّى أبو الطيب الماذرائي. توفّي المعتضد بالله أمير المؤمنين رحمة الله عليه لسبع بقين من شهر ربيع الآخر من هذه السنة، وله خمس وأربعون سنة وشهور. وكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وأربعة أيام. صفته: أسمر، نحيف إلى الطول أقرب، خفيف العارضين، في مقدم لحيته طول، شيّب. وزراؤه: عبيد الله بن يوسف بن سليمان بن وهب. ثم ابنه القاسم. حجّابه: خفيف السمرقندي، وصالح الأمين خليفة بدر غلامه. نقش خاتمه: فوّضت أمري إلى الله. وقيل: أحمد يؤمن بالله. ذكر خلافة المكتفي بالله علي بن أحمد المعتضد بالله ابن الموفّق طلحة، وما لخّص من سيرته هو أبو محمد عليّ بن أحمد المعتضد بن الموفّق طلحة بن جعفر

ذكر سنة تسعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

المتوكّل على الله. وباقي نسبه قد علم. يلقّب المترف لنعمة جسمه، والصنم لحسنه وجماله. أمّه أم ولد يقال لها خاضع؛ وتلقّب جيجقة تركيّة، لم تدرك خلافته. بويع له في شهر ربيع الآخر عند وفاة أبيه، وقيل قبل وفاته بأربعة أيام. وذلك أنّه لمّا اشتدّت علّته أمر بأخذ البيعة على الناس لابنه من بعده فأخذت عليهم ثم جدّدت له بعد وفاته، وكان مقيما بالرقّة فأقام بها القاسم بن عبيد الله. وله أربع وعشرون سنة وأشهر. كانت له أموال جمّة وعساكر متوافرة، ووطّد له أبوه الأمور، وسلك طريق أبيه، ودانت له الناس وأحبّته الرعايا. وفي هذه السنة كانت الوقعة بين صعلوك ومحمد بن هارون السرخسي. وذلك أنّ محمد بن هارون لما اتّفق مع العلويّ واجتمعا على محاربة صعلوك فلم يزل صعلوك يدقّق الحيلة حتّى فرّق بينهما! فمضى محمد بن هارون إلى بلاد الريّ فهزم (260) أرقتمش التركيّ واليها وقتله واستقرّ بها. فسار صعلوك ولقيه على باب الريّ؛ وكان محمد بن هارون في ثمانية آلاف فانهزم وقتل صعلوك أكثر أصحابه وتسلّم الريّ. ودخل السرخسي إلى نحو بلاد الديلم. وبعث الإمام المكتفي بالله إلى إسماعيل الساماني في سنة تسعين ومائتين عهده على الريّ إجابة لسؤاله. ذكر سنة تسعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثلاثة عشرة ذراعا وإصبعان.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة المكتفي بالله أمير المؤمنين. وهارون بن خمارويه بمصر، وعمّاله بحالهم. فيهما كان الغلاء العظيم بمصر وأحصي من هلك فيهما وأخرج من ديوان المواريث فكان مائتي ألف إنسان خارجا عمّن هلك طريحا من رعاع الناس؛ فنعوذ بالله من أمثالها، ونسأله المعونة على ما بقي من أعمارنا. وفيها انقضّ نجم شهاب فأحرق بعمان دورا وأسواقا وأناسا عدتهم ثمانون نفرا ما بين شيخ وغلام وطفل وامرأة. وفيها قام بأمر الصفّارية طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث الثالث من الصفارية. وذلك لمّا أسر عمرو جدّه وولي إسماعيل الساماني تغلّب طاهر على سجستان وبعث بجيش إلى فارس فملكها لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر سنة ثمان وثمانين ومائتين، وولّى عليها السبكري غلام جدّه عمرو، وقوي أمره. فلمّا كان في هذه السنة قلّده المكتفي تقليدا من جهته بما في يده من الأعمال، وأقام بسجستان، وتشاغل باللهو والصيد. فخرج عليه (261) الليث بن علي بن الليث في سنة ست وتسعين حسبما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. ذكر سنة إحدى وتسعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وستة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وإصبع ونصف.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة المكتفي بالله أمير المؤمنين. وهارون بن خمارويه مستقلا بمصر. فيها كانت الوقعة بين أبي سعيد القرمطي وبين شبل الديلمي على الرصافة، وكان الظفر للقرمطي وقتل شبل وأكثر جيشه، وأحرق الرصافة. وفيها ظهر القرمطي الآخر بدمشق وخرج إليه طغج من قبل هارون بن خمارويه فكانت النصرة للقرمطي، ودخل طغج دمشق مفلولا، وكانت له معه عدة وقعات حسبما يأتي من ذكرها مفصّلة في الجزء الذي يليه إن شاء الله تعالى. وفيها خرج ملك الترك في جيش عظيم-ذكر أنه كان في سبعمائة قبة ولا يكون ذلك إلاّ للعظماء-فوجّه إليه إسماعيل الساماني بعض قوّاده في خلّق كثير من العسكرية والمطوعة فوافاهم وهم غارّون مع الصبح فاستباحهم قتلا وأسرا. وتوفّي إسماعيل ببخارى في سنة خمس وتسعين على ما يأتي من ذكره في تاريخه. ذكر سنة اثنتين وتسعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا وإصبع ونصف.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة المكتفي بالله أمير المؤمنين. وفيها ذبح هارون بن خمارويه (262) ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من <؟ >،وقام بالأمر شيبان بن أحمد بن طولون إلى أن قدم محمد بن سليمان من العراق في جيوش كثيفة، وأخذ جميع الطولونية وحملهم إلى العراق. ثم ورد كتاب الإمام المكتفي بالله بولاية الحسين بن أحمد على الخراج بمصر، وعيسى النوشري على الحرب، وعزل أبي زرعة القاضي وولّى محمد بن عبدة؛ وهي الولاية الثانية. وخرج محمد بن سليمان إلى العراق. ذكر سنة ثلاث وتسعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وإصبع ونصف. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة المكتفي بالله أمير المؤمنين، وعمّال مصر من قبل الخلافة بحالهم. ذكر سبب انتقاض أمر الطولونيّة من مصر وذلك أنّ المكتفي بالله لمّا أنفذ محمد بن سليمان في جيوش العراق قارب دمشق والوالي بها يومئذ بدر الحمّاميّ من قبل هارون بن خمارويه فكتب إلى محمد بن سليمان بالسمع والطاعة ثم تلقّاه هو والحسين بن أحمد الماذرائي. وكتب محمد بن سليمان إلى دميانة وهو عامله على المراكب يأمره بالسير إلى فلسطين وعليها يومئذ وصيف بن صوارتكين عاملا لهارون بن خمارويه فالتقى مع دميانة فكسره دميانة ووصل تنّيس فملكها، وتقدّم نزل بالدميرة. وجرت خطوب وحروب وأمور يطول شرحها. وآخر الأمر أنّ أصحاب هارون تفرقوا عنه وعاد في نفر يسير، وتشاغل باللهو والطرب فاجتمع عمّاه وهما عمارة وشيبان وأتاهما أخاهما أيضا المسمّى بعديّ-وهؤلاء أبناء أحمد بن طولون (263) -واتّفقوا على قتل ابن أخيهم هارون بن خمارويه فذبحوه وهو ثمل من

شرابه في تاريخ ما تقدم من ذكره؛ وعمره يومئذ اثنان وعشرون سنة. وكانت مدة ولايته ثمان سنين وثمانية أشهر. ثم بويع لعمّه شيبان. وبلغ ذلك طغج مع جماعة من وجوه القوّاد فاتّفقوا وكتبوا إلى الحسين بن حمدان، وأخبروه بقتل هارون، وكاتبوا أيضا لمحمد بن سليمان وطلبوا الأمان وحرّكوه على المسير فدخل محمد بن سليمان إلى مصر وحبس شيبانا بعين شمس فقفز عسكره إلى محمد بن سليمان، وطلب شيبان الأمان، وخرج من الفسطاط؛ فكانت ولايته اثنين وعشرين يوما. ثم دخلها محمد بن سليمان الكاتب فأمر بإحراق القطائع فأحرقت، ونهب أصحابه الفسطاط ثم ركب بعد ذلك بنفسه، وطمّن قلوب الناس، وأطلق من في السجون، وسار سيرة حسنة، ودعا من الغد لأمير المؤمنين المكتفي بالله على المنابر، وولّى طغج بن جفّ على قنّسرين مضافا إلى دمشق. ثم أخرج بني طولون وهم يومئذ عشرون نفرا، وأخرج جميع قوّاد ابن طولون ومواليهم وأتباعهم ومن كان يلوذ بهم ولم يترك بمصر منهم أحدا. نكتة: قيل إنّ أحمد بن طولون لما كان متملّكا مصر رأى في منامه أنّ شخصا يكنس داره فقصّه على القاضي بكّار رحمه الله فقال: تعرفه؟ قال: إذا رأيته عرفته! قال: فاجمع لي سائر أصحابك واعرضهم عليّ! فجمع أصحابه وعرضهم فلم ير ذلك الشخص الذي رآه في المنام فقال القاضي: هل بقي من أحد؟ فقيل: لم يبق غير كاتب وهو في المطبخ! فقال: أحضره! فلمّا رآه ابن طولون قال: هو هذا! فسأله: ما اسمك؟ قال: محمد بن سليمان! فقال (264) ابن طولون: ما تقول يا قاضي؟ فقال القاضي: إذا أراد الله تعالى أمرا يأتيه! فقال ابن طولون لذلك الكاتب: أخرج من هذه البلدة وإن رأيتك بعدها قتلتك!

ذكر سنة أربع وتسعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

فخرج على وجهه إلى أن أتى بغداد؛ فكتب وعاشر الناس ونفق عند الرؤساء واتصل بالوزراء إلى أن بلغ ما بلغ وعاد إلى مصر فكنس ذرّية بني طولون وأجلاهم عن مصر. ثم ورد كتاب بتولية عيسى بن محمد النوشريّ فدخلهما في جمادى الأولى سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وخرج محمد بن سليمان بذرّية آل طولون طالبا للعراق فلما كان بدمشق اجتمع الناس من المصريين على محمد بن الخليج وانضمّ إليهم خلق كثير ممن كره مفارقة مصر وبايعوه بالإمرة عليهم وادّعى أنه من سليم، وخرج بالناس طالبا مصر فبلغ عيسى النوشريّ ذلك فخرج بمجموعه لملتقاه فكانت منهما ثلاث وقعات في هذه السنة وهي سنة ثلاث وتسعين ومائتين، وانكسر النوشريّ ودخل ابن الخليج الفسطاط وعاد إليه النوشريّ فكان بينهما وقائع يأتي ذكر ملخّصها في ذكر سنة أربع وتسعين إن شاء الله تعالى. ذكر سنة أربع وتسعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة أصابع. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وأحد عشر إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة المكتفي بالله أمير المؤمنين. ودخل ابن الخليج الفسطاط في شهر صفر من هذه السنة فأقام بها صفر وربيعين ثم بلغه مسير عيسى النوشريّ ودميانة في المراكب، ونزل فاتك النويرة من عمل صعيد مصر وصحبته بدر الحمّاميّ فقصدهم ابن الخليج وسار ليلا ليكبس على فاتك (265) فضلّ في الطريق لما يريده الله عزّ وجلّ، وأصبح صبحهم دون النويرة، ونذر بهم فاتك فبدرهم وانكسر ابن الخليج وانهزمت أصحابه، وثبت هو بنفسه في جمع يسير ثم كثر عليه أصحاب فاتك فانهزم حتى دخل الفسطاط فاستتر عند شخص يقال له ثويل. ودخل دميانة في مراكبه الفسطاط ودخل عيسى النوشريّ على ما كان عليه. ووشي بابن الخليج فهجم عليه وأخذ وقتل. وكانت ولايته سبعة أشهر وعشرة أيام. ثم دخل فاتك الفسطاط، وخرج إلى العراق في أول سنة خمس وتسعين ومائتين. والنوشريّ متوليا على مصر من قبل الخلافة. <وقيل إنّ ابن الخليج حمل إلى العراق. وأبو زنبور على الخراج. وفيها ولي أبو عبيد علي بن حربويه القضاء بمصر من قبل المكتفي بالله.>

ذكر سنة خمس وتسعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة خمس وتسعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وأحد عشر إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المكتفي بالله أمير المؤمنين إلى أن توفّي في هذه السنة في تاريخ ما يذكر. فيها توفي إسماعيل الساماني ببخارى-وهي كرسي مملكته ومملكة بنيه- لأربع عشرة ليلة خلت من صفر من هذه السنة؛ فكانت مدة مملكة بخراسان وماوراء النهر ثماني سنين وأشهرا ولمّا توفّي لقّب بعد وفاته بالماضي؛ وكذلك عادة أهل خراسان في ملوكهم السامانيّة أن يلقّبوهم بعد وفياتهم. وكان إسماعيل كبير اللحية، عظيم الهامة، أبيض اللون. وكان محبّا في العلماء حليما، كريما، يعمل الأسمطة كلّ يوم للفقهاء وأرباب الحديث، ويجالسهم على الموائد؛ فإذا انتظم على كلّ مائدة أهلها حمل بين يديه كرسيّ يوضع له على كلّ مائدة فيجلس عليه ويأكل معهم فكان إذا (266) جلس على مائدة وقام عنها سأله أهل الموائد الباقون أن يجلس عندهم إدلالا منهم عليه، ووثوقا بحلمه وكرمه.

ولمّا مات قام بالمملكة السامانيّة ولده إحمد بن إسماعيل الشهيد الثاني من ملوك السامانيّة. وكنيته أبو نصر أحمد بن إسماعيل، وباقي نسبه قد تقدّم ذكره. ولمّا مات أبوه بويع له ببخارى وكان عمّه إسحاق بن أحمد بسمرقند فسوّلت له نفسه أخذ المملكة بعد أخيه إسماعيل فبادر في جيش كثيف فلم يشعر إلاّ بأحمد ابن أخيه قد وصل ودخل عليه القصر. فلمّا رآه بادر إليه وعمل عزاء أخيه وبكيا وأقاما كذلك ثلاثة أيام. وعزم على القبض على أحمد ورتّب له جماعة على باب قاعة من القصر أعدّها لحبسه، وأمرهم أنّ أحمد إذا جاء في اليوم الرابع ليدخل عليه يقولون له إنه في تلك القاعة فإذا دخلها بادروا إليه بالتقييد. فمضى بعضهم ممن كان لأحمد عنده صنيعة وأخبره الخبر ووصف له القاعة المذكورة، وبكّر أحمد وقد اعتدّ في خاصّته فلمّا دخل القصر بادر الغلمان الموصوفون وأخبروه أن عمّه في تلك القاعة فأبى دخولها وتمّ إلى قاعة الجلوس فوجد عمّه بها وهو ينتظر وصول البشارة بتقييده. فلمّا رآه أبلس فتقدّم إليه أحمد وأمر بالقبض عليه وعلى الغلمان وإحضار القيود المعتدّه له فقيّده بها وسائر غلمانه، وولي على سمرقند ثم عاد إلى بخارى فحبس عمّه ثم رضي عليه بعد مدة وأخذ عليه البيعة وردّه إلى سمرقند واستقرّ. <توفّي المكتفي بالله رحمه الله في ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائة، وله إحدى وثلاثون سنة وشهور. خلّف في بيت ماله من الذهب ستّ عشرة ألف ألف دينار، ومن الورق ثلاثون ألف ألف درهم. صفته: أسمر، أعين، حسن الوجه، ربعة، وافر اللحية، أسود الشعر لم يشب.

ذكر سنة ست وتسعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

وزراؤه: القاسم بن عبيد الله بن سليمان إلى أن مات سنة إحدى وتسعين، ثم العباس بن الحسين بن أيّوب. حجابه: خفيف السمرقندي ثم سوسن مولاه. نقش خاتمه: اعتمادي على من خلقني. وقيل: عليّ يتوكّل على ربّه. وقيل: بالله عليّ بن أحمد يثق>. ذكر سنة ست وتسعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وأحد عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا. (267) ما لخّص من الحوادث فيها بويع أبو الفضل جعفر بن أحمد المعتضد وتلقّب بالمقتدر غرّة المحرّم من هذه السنة. وقيل إنه بويع لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي الحجة. وقيل: من ذي القعدة سنة خمس وتسعين؛ والله أعلم. أمّه أمّ ولد صقليّة يقال لها شغب، وكان الأمر لها في خلافة ابنها وهو يتدبّر بها. وكان سنّه حين ولي الخلافة ثلاث عشرة سنة وشهران بعهد من أخيه المكتفي بالله.

ذكر عبد الله بن المعتز بالله وقصته ولمع من أخباره وأدبه وأشعاره

وخلع في شهر ربيع الأول سنة ستّ وتسعين بعد بيعته بأربعة أشهر، وبويع عبد الله بن المعتزّ فلم يتم أمره غير يوم أو بعض يوم، وانتقض يويه وعاد المقتدر لولايته. ذكر عبد الله بن المعتزّ بالله وقصته ولمع من أخباره وأدبه وأشعاره <هو أبو العباس عبد الله بن محمد المعتزّ بالله. أمّه أمّ ولد اسمها حائن. وهو الخليفة الذي قام يوما أو بعض يوم وانتقض أمره. قال صاحب كتاب الوزراء إنه كان سبب بيعة المقتدر بالله، وتخلية البيعة عن ابن المعتزّ ما أشار به أبو الحسن بن الفرات على الوزير أبي العبّاس لما كانوا يعلمون من عبد الله بن المعتزّ وتجند الأمور ولأجل أنّ المقتدر يوم ذاك طفل ليكونوا المتصرفين بغير منازع، فصحّ لهم ما طلبوه من ذلك حتى قتل أبو العباس الوزير ووزر ابن الفرات، وكان الغالب على الأمور النساء وسمّوا السادة وهنّ السيّدة أمّ المقتدر، وحاط ودستنبويه أمّ ولد المقتدر، والقهرمانة ثمل>. كان عبد الله بن المعتزّ رحمه الله غزير الروية كثير الأدب، راو من كلّ فنّ، جامع بلاغة النثر إلى رقّة الشعر. فمن كلامه في الحكمة قوله: البشر دالّ على السخاء كما يدلّ النور على الثمر. وقوله: إذا اضطررت إلى الكذاب فلا تصدّقه ولا تعلمه أنك تكذّبه فيتنقل عن ودّه ولا ينتقل عن طبعه. وقوله: كما أنّ الشمس لا يخفى ضوؤها وإن كانت تحت السحاب كذلك الصبي لا يخفى

غزير عقله وإن كانت مغمورة بأخلاق الحداثة. وقوله: كرم الله عزّ وجلّ لا ينقض حكمته؛ وكذلك لا يعجّل الإجابة في كلّ دعوة كما أنّ السيف جلاه أهون من طبعه كذلك استصلاح الصديق أهون من اكتساب غيره. وقوله: إذا استرجع الله تعالى مواهب الدنيا كانت مواهب الآخرة. وقوله: لولا ظلمة الخطأ ما أشرق نور الصواب. وقوله: الحوادث الممضّة مكسبة لحظوظ (268) جزيلة منها ثواب مدّخر وتطهير من ذنب وتنبيه من غفلة وتعريف بقدر النعمة ومرور على مقارعة الدهر. ومن نثره الجاري في باب المرقص قوله: الأرض عروش مختالة في حلل الأزهار، متوّجة بأكاليل الأشجار، موشّحة بمناطق الأنهار. والجو خاطب لها قد جعل يسير بمخصرة البرق ويتكلّم بلسان الرعد، وينثر من القطر أبدع نثار. وكان أحمد بن سعيد يؤدّبه في صغره فتحمّل البلاذري على قبيحة أم المعتز بقوم سألوها أن تأذن له أن يدخل على ابن المعتز وقتا من النهار فأجابت أو كادت تجيب؛ قال أحمد بن سعيد: فلمّا اتّصل الخبر بي جلست في منزلي غضبا لما بلغني من ذلك فكتب إليّ ابن المعتزّ وهو يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة يقول (من البسيط): أصبحت يا ابن سعيد حزت مكرمة … عنها يقصّر من يحفى وينتعل سربلتني حكمة قد هذّبت شيمي … وأجّجت نار ذهني فهي تشتعل أكون إن شئت قسّا في بلاغته … أو حارثا وهو يوم الحفل يرتجل وإن أشأ فكزيد في فرائضه … أو مثل نعمان لمّا ضاقت الحيل أو الخليل عروضيا أخا فطن … أو الكسائيّ نحويا له علل تعلو بداهة ذهني في مراكبنا … كمثل ما عرفت آبائي الأول

وفي فمي صارم ما سلّه أحد … من غمده فدرى ما العيش والجذل عقباك شكر طويل لا نفاد له … تبقى معالمه ما أطّت الإبل قسّ الذي ذكره هو قسّ بن ساعدة الإياديّ وقد سمع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلامه وتعجّب منه-وقد ذكرناه في أوّل جزء من هذا الكتاب. والحارث هو الحارث بن حلّزة اليشكريّ ووصف ارتجاله يوم فخره بقصيدته (269) التي أنشدها بحضرة عمرو بن هند التي أوّلهما (من الخفيف): آذنتنا ببينها أسماء … ربّ ثاو يملّ منه الثواء وزيد هو زيد بن ثابت الأنصاريّ رضي الله عنه وإليه انتهى علم الفرائض. ونعمان هو أبو حنيفة نعمان بن ثابت رضي الله عنه رئيس أهل العراق في الفقه. والخليل هو الخليل بن أحمد الفراهيديّ ويقال الفرهوديّ منسوب إلى حيّ من الأزد. والكسائيّ هو عليّ بن حمزة الكسائيّ الكوفيّ النحويّ، وكان مؤدّب الأمين والمأمون. ومن كلام ابن المعتزّ: الكتاب فاتح الأبواب، جريء على الحجّاب، مفهم لا يفهم وناطق لا يتكلّم، به يشخص المشتاق إذا أقعده الفراق. والقلم مجهّز لجيوش الكلام، يخدم الإرادة، ولا يملّ الاستزادة، يسكت واقفا وينطق سائرا على أرض بياضها مظلم وسوادها مضيء. كأنه يقبّل بساط سلطان أو يفتح نوار بستان. ومنها كقوله منظوما في القاسم بن عبيد الله؛ قال الصولي: لمّا عرض القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب خطّه على المعتضد ليخلف أباه؛ قال ابن المعتزّ (من الخفيف):

قلم ما أراه أم ملك يج‍ … ري بما شاء قاسم ويشير خاشع في يديه يلثم قرط … اسا كما قبّل البساط شكور ولطيف المعنى جليل نحيف … وكبير الأفعال وهو صغير كم منايا وكم عطايا وكم حت‍ … ف وعيش تضمّ تلك السطور نقشت في الدجى نهارا فما أد … ري أخطّ فيهنّ أم تصوير هكذا من أبوه مثل عبيد اللّ‍ … (م) هـ يسمو إلى العلى ويصير <وقال أيضا في أبيه عبيد الله بن سليمان بن وهب (من الطويل): عليم بأعقاب الأمور كأنّه … بمختلسات الظنّ يسمع أو يرى إذا أخذ القرطاس خلت يمينه … تفتّح نورا أو تنظّم جوهرا> (270) وعبد الله بن المعتزّ إمام المشبّهين. ووقع له في تشابيهه من المعاني المبتكرة ما فاق بها على من تعلّق بالتشبيه؛ فمن ذلك قوله (من البسيط): سقى الجزيرة ذات الظلّ والشجر … ودير عبّدون هطّال من المطر فطال ما نبهتني للصبوح به … في غرّة الفجر والعصفور لم يطر أصوات رهبان دير في صلاتهم … سود المدارع نعّارين في السحر مزنّرين على الأوساط قد جعلوا … فوق الرؤوس أكاليلا من الشجر كم فيهم من مليح الوجه مكتحل … بالسحر يطبق جفنيه على حور لاحظته بالهوى حتّى استقاد له … طوعا وأسلفني الميعاد بالنظر وجاءني في قميص الليل مستترا … يستعجل الخطو من خوف ومن حذر فبتّ أفرش خدّي في التراب له … ذلا وأسحب أذيالي على الأثر

ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا … شبه القلامة قد قدّت من الظفر وكان ما كان ممّا لست أذكره … فظنّ خيرا ولا تسأل عن الخبر وله من التشابيه الداخلة في المرقصات قوله (من الطويل): سقتني في ليل شبيه بشعرها … شبيهة خدّيها بغير رقيب فما زلت في ليلين بالشعر والدجى … وشمسين من خمر ووجه حبيب وله من ذلك أيضا (من الوافر): وفتيان سروا والليل داج … وضوء الصبح متّهم الطلوع كأنّ بزاتهم أمراء جيش … على أكتافهم صدّأ الدروع وله في تشبيه الهلال أيضا وهو هلال الفطر يقول (من الكامل): أهلا بفطر قد أنار هلاله … فالآن فاغد إلى الشراب وبكّر وانظر إليه كزورق من فضّة … قد أثقلته حمولة من عنبر (271) وله في تشبيه البنفسج ما هو داخل في باب المرقص قوله (من البسيط): بنفسج جمّعت أوراقه فحكت … كحلا تشرّب دمعا يوم تشتيت كأنّه وضعاف القضب تحمله … أوائل النار في أطراف كبريت وقوله (من البسيط): ساروا وقد خضعت شمس الأصيل لهم … حتّى توقّد في ذيل الدجى الشفق

وله (من الوافر): كأنّ سماءنا لمّا تجلّت … خلال نجومها عند الصباح رياض بنفسج خضل نداه … تفتّح بينه نور الأقاحي وقد ضمّنت كتابي الذي وسمته بالمذاكرة والمفاخرة وآداب المعاشرة جملة كبيرة من تشابيهه البديعة ممّا يغني <؟؟؟ > إعادتها هاهنا، وتخرج عن الغرض في التاريخ. وله من التصانيف عدة كتب نفيسة. وكان يقول: ولو قيل لي ما أحسن شعر تعرفه؟ لقلت قول العباس بن الأحنف (من البسيط): قد سحّب الناس أذيال الظنون بنا … وفرّق الناس فينا قولهم فرقا فكاذب قد رمى بالظنّ غيركم … وصادق ليس يدري أنّه صدقا وهذا الشعر أيضا من أعلى المرقصات طبقة. ولنعد الآن إلى سياقة التاريخ بحول الله تعالى ومعونته. وذلك أنه لمّا ولي المقتدر بالله دبّر الأمور الوزراء والكتاب، وغلب على أمرهم النساء والخدم حتّى أنّ جارية لأمّه تعرف بثمل القهرمانة كانت تجلس للمظالم وتحضرها الفقهاء والقضاة. وكان الوزير العباس بن الحسن فأساء

السيرة، وتعاظم في نفسه، وامتنع، وحجب نفسه عن الناس، وزاد كبره على القوّاد فاجتمع القوّاد والحاشية ووثبوا عليه فقتلوه وبايعوا لعبد الله بن المعتزّ بعد خلعهم للمقتدر بالله. وكان الذين قاموا بهذا الأمر الحسين بن حمدان ومحمد بن داود بن الجراح مع جماعة (272) من القواد وقالوا إنّ المقتدر غير بالغ وإنّ إمامته لا تجوز! فخلعوه وبويع عبد الله بن المعتزّ، ولقّب المرتضى بالله؛ وذلك يوم السبت لعشر بقين من شهر ربيع الأوّل سنة ست وتسعين ومائتين. ثم اضطرب أمره وضعف ثاني يومه لمّا أراد الانتقال إلى دار الخلافة دارت عليه الدائرة، وغلبت عليه حرفة الأدب، وحاربه غلمان المقتدر بمعونة العامة لهم فهزموا أصحاب ابن المعتزّ حتى تهاربوا. وهرب ابن المعتزّ واستتر عند أبي عبد الله الحسين بن عبد الله المعروف بالجصّاص التاجر الجوهريّ فوشي به فقبض عليه بعدما أعيدت البيعة للمقتدر بالله، وسلّم ابن المعتزّ لمؤنس الخادم فأخرج ميّتا من دار السلطان يوم الخميس لليلتين خلت من شهر ربيع الآخر من هذه السنة، وسلّم إلى أهله فدفن في خراب بإزاء داره وله خمسون سنة. ولمّا مات رثاه عليّ بن بسّام فقال (من البسيط): لله درّك من ميت بمضيعة … ناهيك في العلم والآداب والحسب ما فيه لوّ ولا لولا فينقصه … وإنّما أدركته حرفة الأدب وفي هذه السنة ظهر عبيد الله المهديّ بالمغرب وأخرج الأغالبة الآتي ذكرهم إن شاء الله تعالى في الجزء المختص بذكر العبيديين وهو الجزء التالي لهذا الجزء.

وفيها قتل أبو سعيد القرمطي المعروف بالجنابي الآتي ذكره أيضا في ذلك الجزء إن شاء الله تعالى وأوصى لولده سعيد. وفيها قام بأمر دولة الصفّاريّة الليث بن علي بن الليث ابن أخي عمرو الرابع من الصفارية. وذلك أنه لمّا اشتغل طاهر بن محمد بن عمرو باللهو والصيد خرج عليه الليث (273) بن علي بن الليث ابن عم أبيه في هذه السنة فأخرجه من سجستان فسار إلى بلاد فارس هو وأخوه يعقوب بن محمد فثقل على سبكري مقامهما فحدّث نفسه بالقبض عليهما، وبتقلّد أعمال فارس من قبل الخلافة فكاتب الوزير أبا الحسن علي بن الفرات فقلّده ونقل إليه الكتاب فقرأه عليهما فاستكبرا ذلك واستمالا جماعة من القوّاد وخرجا عن البلد وخرج سبكري إليهما فهزماه ومرّ إلى داره، وتشاغل أصحابهما بالنهب فكرّ عليهما سبكري فقبض عليهما وبعث بهما إلى بغداد وسأل أن لا يشهرا فأدخلا في عمارية مكشوفة مقيّدين وعليهما ثياب بياض. وأعظم الناس ما فعله سبكري ولعنوه. وكانت مدّة ولاية طاهر بن محمد نحو من عشر سنين. وكان قد غلب الليث بن علي على سجستان حسبما ذكرناه فاستخلف عليها أخاه المعذّل بن الليث، وسار إلى بلاد فارس فهرب السبكري بين يديه إلى رامهرمز وأرّجان وطلب النجدة من السلطان فجرّدت الجيوش من بغداد في شهر رمضان من هذه السنة، وقدّم مؤنس المظفّر عليها، وانضمّ إليه بدر الكبير والحسين بن حمدان، واجتمعوا بالسبكري، والتقوا مع الليث بن علي بن الليث فكسروه وانهزم جيشه وأسروه وأخوه محمد وابنه إسماعيل بن الليث وابن عمّه الفضل. واستقرّ مؤنس ببلاد فارس وولاّها السبكري بعد أن أمره الخليفة بذلك. وقيل إنه لم يولّ

ذكر سنة سبع وتسعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

السبكري حتّى أخذ منه مائة ألف دينار. ووصل مؤنس وصحبته الأسرى في المحرّم سنة سبع وتسعين ومائتين، وشهّر الليث بن علي بن الليث على فيل؛ وكان لدخوله يوم عظيم. فكانت مدّة مملكة الليث بن علي نحو من سنة. والله أعلم. (274) ذكر سنة سبع وتسعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وواحد وعشرون أصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المقتدر بالله أمير المؤمنين. وتوفّي النوشري بمصر ووليها تكين من قبل الخلافة. فيها خرجت الترك الخرجة التي لم تكن قبلها ولا بعدها نظير لها! وذلك أنّهم اجتمعوا في أربعة مائة ألف وقصدوا بلاد المسلمين وتفرّقوا أربع فرق؛ فرقة مائة ألف إلى بخارى ومائة ألف إلى خوارزم ثم انقسموا أيضا فتوجّهت خمسون ألفا إلى سمرقند، وخمسون ألفا أيضا إلى أسبيشاب، وخمسون ألفا إلى الشاش، وخمسون ألفا إلى فارياب؛ وقبضوا على التجار الذين كانوا في بلادهم واسترقّوهم. ولمّا بلغ السلطان أحمد بن إسماعيل الساماني ذلك تجمّع إليه المشايخ والعسكرية والمطوّعة ودخلوا عليه فوجدوه باكيا فأخذوا في تسليته

فقال: والله ما أبكي جزعا من الموت، ولا خوفا على انتزاع الملك ولكن على المسلمين الذين أسروا واسترقّوا. ثم نظر إلى صاحب جيش المطوّعة-وهو عبد الله بن عبيد الضبي-وقال له: كأنّي بك تقول: إنّ هذا يحتاج إلى خلق والناس مستورون وليس لهم عدّة؛ فأحضر الرجّال ولكّ الأموال والخيول والعدد! فخرج وجمع الناس. ثم إنّ الله عزّ وجلّ كفى الأمر على يد الفقيه أبي بكر ابن الأزهر البخاري-وكان يعدّ بألف-فخرج بأربعمائة فارس ممّن رغب في الشهادة، وأن يكون فداء المسلمين؛ ومعهم (275) مائة راجال على سبيل الكشف لأخبار الترك فيسّر الله عليهم إحراق العسكر القاصد إلى بخارى! وذلك أنهم نزلوا واديا في برية الفضاء-وهذه برية مسافة أيام جميعها ملتفّة بشجر العضاه فوقعت السرية عليهم ليلا والترك قد اجتمعوا في واد وقد تكاثفت عليهم أشجاره فأمر النفّاطين بإطلاق النار فأحاطت بهم. وأرسل الله عليهم الرياح العواصف فلم يسلم منهم أحد؛ وكان هذا مما يتعجّب منه. وأمّا قاصدو خوارزم فإنهم حصل لهم من أهلها أسرى لا يحصرهم العدد كثرة فعادوا بهم فلمّا فرغت السرية من العسكر القاصد بخارى عزموا على الرجوع فأشار عليهم أحد شيوخ المطوّعة وهو أبو أحمد أن يقصدوا العسكر القاصد خوارزم لعلهم يجدون فرصة لتخليص الأسرى! فساروا فوجدوا الترك قد عادوا عن خوارزم مسافة ثلاثة أيام لم ينزلوا ثم نزلوا فسار المطوّعة وكمنوالهم عن قريب منهم. وخرج ابن الأزهر ومعبد ودخلا عسكر الترك وقصدا مجتمع الأسرى فوقعا فيهم وكلّماهم فانتبه الأسرى فأخبراهم أنّهما من أهل بخارى وعرّفاهم مكان السريّة وأطلقا منهم رجالا. وعاد بعضهم يحفّ بعض، ورسم لهم ابن الأزهر أن يثوروا على الترك من وسطهم إذا ضرب السريّة الطبول. وخرج ابن الأزهر ومعبد إلى السريّة وفرّقاها أربع فرق، وضربت الطبول من أربع جوانب العسكر فما نبّه الترك إلاّ أصواتها، وتفرّق عليهم أهل خوارزم بكثرتهم فلم يخرج أحد

ذكر سنة ثمان وتسعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

إلاّ قتلوه فلم ينج منهم إلاّ اليسير. وأمّا أهل أسبيشاب وفارياب والشاش فإنّ الله تعالى نجّاهم بزيادة نهر الشاش. (276) ذكر سنة ثمان وتسعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وأربعة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المقتدر بالله أمير المؤمنين. وتكين على مصر مستقلا من جهة الخلافة. فيها دعي للمهدي على منابر رقّادة، وعظم أمره بالمغرب. وكان ذلك في شهر ربيع الآخر من هذه السنة. وفيها قام بأمر الصفّاريّة معذّل بن عليّ بن الليث الخامس من الصفّارية. وتغلّب على سجستان عند مقتل أخيه. فسار إليه أحمد بن إسماعيل السامانيّ ملك خراسان في خمسة عشر ألف فارس وعشرة آلاف راجل ووصل إلى نيسابور فاستقرّ بها وبعث الحسين بن علي المعروف بابن مسكين وبأخي صعلوك في سبعة آلاف فارس وثمانية آلاف راجل إلى سجستان وترك عنده بنيسابور باقي الجيش. فنزل الحسين على سجستان وحاصرها سنة فضاق بالعامة الأمر وتخوّف بنو الليث فعزموا على الهرب إلى ناحية بست والرخّج- وهما من سجستان-وهراة مما يلي السند. فخرجوا من باب الحصن، ورأى معذّل بن علي أن يستأمن فاستأمن إلى الحسين وهرب أخواه وهما محمد بن

ذكر سنة تسع وتسعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة

علي بن الليث والحسين بن علي بن الليث. وبعث الحسين بن علي في أثرهما بأبي جعفر ابن الحسين الأسبيشابي فظفر بالحسين ونجا محمد. ثم سار الحسين أخو صعلوك إلى نيسابور وقد فتح سجستان. وقلّدها أحمد بن إسماعيل لابن عمه أبي صالح منصور بن إسحاق بن أحمد بن أسد السامانيّ، وضمّ إليه ألف فارس. فكانت مملكة معذّل بن علي نحوا من سنتين. (277) ذكر سنة تسع وتسعين ومائتين النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم سبعة إذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المقتدر بالله أمير المؤمنين. وتكين على مصر بحاله. وفيها سقط ببغداد ثلج عظيم وبرد قتل حيوانا كثيرا. فيها انقرضت الدولة الصفّارية. وسبب ذلك أنّه قام بالأمر فيهم بعد المعذّل سبك السبكري السادس منهم. وكان مؤنس عند أسره الليث بن علي بن الليث ولّى السبكري بلاد فارس-حسبما تقدّم من الكلام فيه-فقصّر السبكري في الطاعة وامتنع من كثير مما اشترط عليه. فندب الوزير ابن الفرات وصيفا غلام الموفّق لحربه فسار إليه من مدينة السلام في جيش كثيف. وكتب إلى بدر الحمّامي الكبير عامل إصبهان، وإلى الحسين بن حمدان وهو يومئذ عامل قم؛ بمؤازرة وصيف على حرب السبكري. فاجتمعوا وكاتبوا قوّاد السبكري فأجابهم إسحاق بن شروين الطبري وأحمد بن قادويه وجوجور التركي وهؤلاء كانوا أركان عسكره. فلمّا وصل وصيف إلى شيراز أخرج السبكري على مقدّمته

ذكر سنة ثلاثمائة هجرية النيل المبارك في هذه السنة

جوجور التركي فاستأمن جميع من كان معه. وصافّ السبكري وصيفا على باب شيراز فانهزم السبكري بعد مخامرة قوّاده المذكورين، وهرب إلى كرمان وأسر القتّال. وملك وصيف بلاد فارس ثم كتب الوزير ابن الفرات إلى منصور بن إسحاق الوالي بسجستان من قبل أحمد بن سامان يأمره بالجدّ في طلب السبكري. ثم دخل وصيف (278) ومعه القتّال إلى بغداد في هذه السنة، وشهّر القتّال على فيل. ثم إنّ منصور بن إسحاق والي سجستان تتبّع السبكري حتّى أخذه أسيرا. وقد كان محمد بن عليّ بن الليث عند انهزامه مضى إلى بست والرخّج وتغلّب عليهما فبعث إليه أحمد بن إسماعيل بجيش فأسره وحمله مع السبكري وجماعة من بقيّة آل الصفّار إلى الحضرة. وحمل السبكري ومحمد بن علي بن الليث على فيلين، وكان دخولهما يوما مشهودا. وانقطعت دولة بني الصفّار. ذكر سنة ثلاثمائة هجريّة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم سبعة أذرع وإصبع. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا فقط. ما لخّص من الحوادث الخليفة المقتدر بالله أمير المؤمنين. وتكين بمصر مستمرّ. فيها قام بالدولة العلويّة الناصر للحقّ الحسن بن علي. لمّا قتل محمد بن زيد-حسبما ذكرناه-وولي الأمر إسماعيل بن أحمد السامانيّ ولّى محمد بن

هارون طبرستان وأمره بقتال من وجده من العلويّة. فهربوا في البلاد. وكان الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب-عليهم السلام وعلى الصالحين من ذرّيتهم-شيخا من شيوخ الزيديّة شديد الصحبة لمحمد بن زيد، وكان قد دخل خراسان سرا يدعو إليه الناس فعلم به فجرت عليه مكاره أدّت إلى ثقل سمعه، وتهيأ له أن هرب من السجن وعاد إلى محمد بن زيد وشهد الحرب التي قتل فيها. فلمّا وقع عليه الطلب وعلى أمثاله من العلويين هرب ودخل إلى بلاد الديلم وأقام عند ملكهم جستان بن وهسودان (279) المرزبان فأكرمه وأنزله. فأخذ يدعو الديلم إلى الإسلام فأسلم جمهورهم. وجعل ينتقل في قراهم ويدعوهم. ثم دخل إلى بلاد الجيل ودعاهم فأسلم أكثرهم ووقفت دعوته على حدّ النهر <المعروف> بإسبادرود. فاجتمع أهل دعوته عليه وعاد من بلاد الجيل في جمع. فلمّا دخل بلاد الديلم وجده الملك جستان على خلاف ما فارقه عليه لأنه فارقه على أنّه معلّم يدعو الناس لا طالبا للمملكة! فمنعه جستان من الأعشار والصدقات فوقع بينهم حرب انهزم فيها جستان وألجأه الأمر إلى مسالمة الناصر والدخول في طاعته. وأقام الناس بهوسم-وهي قاعدة مملكة الديلم-واتّفق أنّ محمد بن هارون السرخسي نائب الملك إسماعيل بن أحمد الساماني على طبرستان تخوّف منه فهرب واستأمن إلى الحسن. وتسلّم طبرستان وجرجان أبو العبّاس محمد بن علي المعروف بصعلوك الساماني؛ وكان في عسكر كثيف. واتّصل السرخسي بالناصر في عسكر جيّد فاستظهر به واجتمعا على لقاء صعلوك فاحتال عليهما صعلوك حتى افترقا بحيلة غريبة. ثم مضى السرخسي إلى

ذكر سنة إحدى وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

نواحي الريّ ورجع الناصر إلى بلاد الديلم ولم يتمّ له أمر. ثم أنفذ كرة ثانية جيشا مع كاكي والحسن بن الفيروزان فهزمهما صعلوك وقتلا في الوقعة. ثم خرج الناصر بنفسه وسار إلى صعلوك. وكان مع الناصر كما ذكر المكثّر عشرة آلاف رجل من الديلم والجيل وأكثرهم رجّالة وعارين من السلاح. وكانت عدّة الخراسانية نيفا وثلاثين ألف رجل على غاية القوة والمنعة فانهزموا وقتل الديلم مقتلة (280) عظيمة وألجأوهم إلى بحر طبرستان فكان من غرق أمثال من قتل. قال صاحب كتاب الدول، وقال الصابي في الكتاب التاجي يقال إنّ المفقودين كانوا نيفا وعشرين ألفا. وقال حمزة بن الحسن الإصفهاني صاحب تاريخ إصفهان: كان المفقودون سبعة آلاف رجل، وكانت هذه الوقعة في سنة ثلاثمائة، واستقرّ أمر الناصر. والله أعلم. ذكر سنة إحدى وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم اثنان وعشرون إصبعا بغير أذرع. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وإصبع واحد. ما لخّص من الحوادث الخليفة المقتدر بالله أمير المؤمنين. فيها قتل أحمد بن إسماعيل ملك خراسان. وكان سبب قتله كلام كثير ملخّصه أنّ ابن قارن صاحب جبل دنباوند استأمن إليه فأقام ببابه أياما كثيرة لم يصل إليه. فشكى ذلك إلى كندا تكين كنداجور الديلمي أحد قوّاد الملك أحمد

فقال له: هل حملت إلى مشايخ البلد شيئا؟ فقال: لا! فقال: هذا سبب عدم وصولك! ثم دخل كندا تكين إلى أبي الحسن الكاتب وسأله كيف سبب التوصّل؟ فقال الكاتب: يحتاج إلى ستّة آلاف دينار ترضي بها مشايخ الباب! فمضى الديلمي وعرّف ابن قارن ذلك؛ فاقترض من التجّار ستّة آلاف دينار وسلّمها إليه فأوصلها كنداتكين إلى أبي الحسن الكاتب فأخذها وأوصل ابن قارن إلى الملك أحمد وقرّبه وأنزله وسرّ بمقدمه. ثم قال لأبي الحسن: تعرّف منه هل عوده إلى بلاده أحبّ إليه أم بقاؤه؟! فسأله أبو الحسن فاختار العود إلى بلاده فخلع عليه (281) خلعا تصلح للملوك، وحمل بين يديه عشر بدر، وقاد بين يديه عشرة أفراس بمراكب الذهب، وردّه إلى بلاده مكرّما، وكتب إلى أمراء الأعمال بإنزاله وإكرامه، وصرفه مكرّما شاكرا. فلمّا وصل مرو-وكان واليها يومئذ صعلوك المقدّم ذكره-فأنزله وأكرمه وسأله: كيف رأيت السيّد؟ قال: أمّا رؤيته فاشتريتها بستّة الاف دينار! قال: ممّن؟ قال: من أبي الحسن الكاتب! فكتب صاحب الخبر بذلك لوقته وابن قارن لا يشعر! فلمّا ورد الكتاب على الملك أحمد كتب من ساعته بردّ ابن قارن بحيث ما أدرك، وأن يترك كلّ ما معه يمضي إلى بلاده ويرجع في خمسة غلمان. ثم ركب أحمد بعد ذلك إلى صيد السبع بشاطئ جيحون. فأدرك الرسول ابن قارن بمرو بعد فرجع بهم إلى أحمد وهو في الصيد، فلمّا لقيه قال له أحمد: يا أبا منصور! رددناك وشغلنا قلبك! ثم قال له: ضع يدك على رأسى! فوضعها. فقال: أقسم بها كم غرمت على بابي؟! قال: ستّة آلاف دينار، ولو وصلت إليك بأولادي الستة لكان قليلا! قال: ومن أخذها منك؟ فقال: أبو الحسن الكاتب! فجدّد له أحمد صلة أخرى، واستدعى أبا الحسن وقال: رجل غريب ترك نعمته من غير خوف ولا لنا في بلاده طمع، جاء إلينا بنفسه، وأهدى إلينا الهدايا الخطيرة تفعل معه ما فعلت؟! كأنك ما تذكر مجيئك إليّ ودرّاعتك ما تساوي ستّة دراهم! أنا لك بهذه إذا عدنا إلى بخارى. ثم اتّفق صيد السبع وعزم على العود فعلم أبو الحسن أنّه إن أصبح ودخل بخارى ناله بعقوبة وهلاك واستئصال نعمة، فعمل على قتله،

وأجابه إلى ذلك الغلمان بعد أن وعدهم وحلف لهم (282) أنّه يبايع لإسحاق بن أحمد عمّ أحمد بن إسماعيل ويزيدهم في أرزاقهم، ويجعل كلّ واحد من قوّادهم أميرا على بلد، وأمر الخازن وصاحب الكسوة بقتله وضمن لهما مالا جزيلا. فدخلا عليه في قبته وذبحاه فيها. ذكر الوزير أبو القاسم المغربي في أخبار خراسان أنه كان لأحمد بن إسماعيل أسدان داجنان يربضان على باب البيت الذي فيه مبيته كلّ ليلة فلا يتمكّن أحد أن يلمّ به، وأنّه تغافل تلك الليلة فلم يربضهما على باب القبّة فقتل. وكان قتله في سنة إحدى وثلاثمائة. فكانت مدّة ملكه سبع سنين وأشهرا. وكان من أجمل الناس صورة، وأحسنهم سيرة. ولمّا قتل لقّب بالشهيد. أولاده: الأكبر أبو العباس الفضل، ويليه أبو الحسن نصر، وأبو زكريا يحيى، وأبو إسحاق إبراهيم، وأبو صالح منصور. قام بالأمر بعده من ولده أبو الحسن نصر بن أحمد بن إسماعيل. لقّبه أصحابه في حياته بالمؤيّد، وبعد مماته بالسعيد. ذكر ذلك غرس النعمة في تاريخه. وجرى بعد قتلة أحمد بن إسماعيل أمور وحروب وأحوال يطول شرحها بين أبي الحسن وبين عمّ أبيه إسحاق بن أحمد. وآخر الأمر استقرّ الحال على استمرار أبي الحسن نصر بن أحمد بن إسماعيل في الملك إلى حين وفاته في تاريخ ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. <في هذه السنة ولد سيف الدولة ابن حمدان>.

ذكر سنة اثنتين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة اثنتين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث (283) الخليفة المقتدر بالله أمير المؤمنين. وتكين بمصر. وعقد لأبي النمر أحمد بن صالح على برقة، وبعث معه جيشا فيه جمع كبير فسار أبو النمر إلى برقة في سنة ثلاثمائة وأنس بها، وفرض بها فروضا، وحسن أثر ولايته. فلمّا كان في هذه السنة بعث إليه صاحب إفريقية حباسة بن يوسف رجلا من البربر من كتامة فجرت بينهما حروب وأمور كثيرة، وانهزم أبو النمر وتبعه حباسة وكان في مائة ألف أو يزيدون فدخل إسكندريّة. وقدمت الجيوش من الشرق معهم القاسم بن سليمان منجدة لأمير مصر تكين، وقدم معهم أحمد بن كيغلغ وأبو قابوس. وخرج تكين بجيوشه إلى الجيزة، وسار حباسة من الإسكندريّة، ونودي بالنفير في الفسطاط فلم يتخلّف أحد عن الخروج إلى الجيزة. ثم وافاهم حباسة بجيشه فالتقوا وكثرت القتلى بينهم، وقلّت رجال حباسة وقتلوا أشدّ قتل وانهزم الباقون، وركبت أهل مصر أكتافهم ومضوا على وجوههم ولم يفرّق بينهم إلاّ الليل. وكان لحباسة كمين فخرج على المصريين، وتحايت

أصحابه، واضطرب العسكر المصري أشدّ اضطراب ثم أقاموا يومين ورجع المصريون إلى الفسطاط. ثم كانت بينهم وقعة ثانية انهزمت جيوش حباسة وقتلوا وهربوا إلى نحو المغرب لا يلوي بعضهم على بعض، وتمزّقوا كلّ ممزّق. وفيها دخل الناصر العلويّ مدينة آمل. وكان لمّا دخل طبرستان وملكها فوّض أمر الجيش للحسن بن القاسم العلوي فاستبدّ بالأمر، واصطنع الرجال، ووسّع عليهم في العطاء. ثم قبض على الناصر وحبسه. فاستكبر (284) الديلم هذا الفعل واجتمعوا وحضروا إلى القاسم وطالبوه به وبإخراجه، ووثب إليه ليلى بن النعمان وأخوه-وهما من أكبر القواد-وقالا: إن أفرجت عنه الساعة وإلاّ قتلناك! فأخرجه لهم وهرب إلى بلاد الجيل فأطاعوه وتلقّب بالداعي. فتكلّم الناس عند الناصر أن يردّه ويولّيه جيشه وعهده؛ وكان الناصر قد ولّى الجيش لليلى بن النعمان؛ فأجاب. وعاد الحسن بن القاسم فوفى له الناصر بذلك وزوّجه ابنة ولده علي بن الناصر. ولم تزل أمورهما مستقيمة إلى أن توفّي الناصر في سنة أربع وثلاثمائة حسبما يأتي من ذكره إن شاء الله. وفيها ولد المتنبّي الشاعر المشهور. وفيها توفّي الشاه بن ميكائيل رحمه الله.

ذكر سنة ثلاث وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة ثلاث وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وتسعة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المقتدر بالله أمير المؤمنين. وعزل تكين عن مصر، وتولّى ذكاء الأعور الحرب، ومحمد بن علي الخراج. وعبيد الله المهدي صاحب المغرب بكماله؛ وفيها ابتنى المهديّة. وأبو الحسن نصر بن أحمد بن إسماعيل ملك خراسان وتوابعها. والناصر العلويّ بطبرستان وبلاد الديلم وتابعهما. وفيها استوزر المقتدر حامد بن العبّاس. ومؤنس الخادم صاحب الجيش، وإليه رجوع الأمور.

ذكر سنة أربع وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة أربع وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة (285) الماء القديم سبعة أذرع وثلاثة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المقتدر بالله أمير المؤمنين. وذكاء الأعور على حرب مصر. وصرف محمد بن عليّ عن الخراج وولّى عمّه الحسين بن أحمد. وفيها تغلّب يوسف بن أبي الساج على الريّ وقزوين وطرد عنهما محمد بن عليّ صعلوك. وتوفّي الناصر العلويّ في شعبان سنة أربع وثلاثمائة وعمره تسع وسبعون سنة. وكانت مملكته المستقيمة إلى حين وفاته ثلاث سنين وثلاثة أشهر وأياما. وهو الذي حرّر مذهب الزيديّة وألّف فيه. وكان يقول: بزر القزّ ليس بمال، والديلم ليسوا بعسكر! أمّا البزر فلأنه إذا أقبل الربيع صار بعوضا، وأمّا الديلم فلسرعة تنقّلهم من عسكر إلى عسكر! وكان يقول لأصحابه: من قتل منكم مقبلا فهو مؤمن، ومن قتل مدبرا فهو كافر! وإذا أتي بالجريح مقبلا نثر عليه الكافور المسحوق فيجد راحة ويسكن ألمه، وإذا كان مدبرا نثر عليه ملحا فيشتدّ ألمه

فيقول له: قد بان لكم أنّ المؤمن ينتفع بالدواء لإيمانه، والكافر لا ينتفع به لكفره. أولاده: أبو الحسن عليّ، وأبو القاسم جعفر، وأبو الحسين أحمد. وقام بالأمر بعده في الدولة العلويّة الحسن بن القاسم الداعي. ولمّا مات الناصر لبس الحسن بن القاسم وليّ عهده القلنسوة ونعت نفسه بالداعي وكنّي بأبي القاسم. وبعث بجعفر وأحمد ولدي الناصر إلى جرجان لانتزاعها من أيدي الخراسانية فلقيهما دونها (286) إلياس بن محمد بن ليسع الصغدي والي جيش خراسان على موضع يقال له تيماله. فلمّا اصطفّا برز بين الصفين ودعا إلى المبارزة فبرز إليه من جيش ولد الناصر بويه بن فناخسرو جدّ عضد الدولة فقتله وانفضّ جيش الخراسانية. فبعث إليهما بعد ذلك نصر بن أحمد السامانيّ جيشا عليه سيمجور الدواتي فلقياه بجلابين من سواد جرجان فهزماه فوقف غير بعيد وتجمّعت إليه الجيوش من الخراسانية كعادتهم في ذلك ثم كرّ راجعا عليهما فهزمهما أقبح هزيمة وقتل الديلم أفظع قتل، وانهزموا في مضائق ليأمنوا جولان الخيل ومعهم ولدا الناصر حتّى وصلوا جرجان فتجمعوا فيها وأخلوها قاصدين طبرستان. وقد اتّفق رأي الديلم على خلع الداعي فخلعوه وبايعوا أبا القاسم جعفر بن الناصر. ولمّا وصلا في جيوشهما لقيهما الداعي دون مدينة آمل فانكسر وولّى هاربا إلى بلاد الجيل. وملكا طبرستان مديدة ثم كرّ الداعي راجعا وقد احتشد فلقياه فهزمهما فمضيا إلى بلاد الجيل واحتشدا وعادا فحاربهما الداعي حربا شديدا ثم انهزم واستوليا على عسكره، وهرب وحيدا

متنكّرا يريد بلاد الجيل واخترق بلاد الديلم فأسره بعضهم ثم منّ عليه وأطلقه فتمّ إلى بلاد الجيل فأقام عندهم. واتفق وفاة أبي الحسين وتلاه أخوه أبو القاسم بعده فبقي أمر الديلم بطبرستان بغير مدبّر فعقدوا عليهم لليلى بن النعمان فقام بأمرهم وهو يدعو للداعي إلى أن قتل بنيسابور قتله حمّويه بن عليّ صاحب جيش نصر بن أحمد السامانيّ؛ فعقدوا بعده لعليّ بن خرشيد فعاجلته المنية فعزموا على بلحسين (287) بن كاكي فأشار عليهم بأخيه ماكان بن كاكي-وهو أشجع الديلم بالاتّفاق-فلمّا ولي عليهم اجتمع هو وأخوه على نصب أبي علي محمد بن أبي الحسين أحمد ابن الناصر فنصبوه فجرى على يديه قتل بلحسين بن كاكي بسارية؛ وكان أخوه ماكان بمدينة آمل. ثم سقط أبو علي المنتصب للأمر في الميدان فهلك. ولمّا اتّصل بما كان ما جرى على أخيه كاتب الداعي يستدعيه فوافى في عسكر كثيف واجتمع معه ماكان وملك البلد- أعني طبرستان-ثم سار إلى الريّ فملكها. وأقام الداعي بجرجان. وكانت في نفسه حفائظ على الديلم لنصرتهم عليه أولاد الناصر فعمل دعوة لهم وجعل يستدعي واحدا واحدا ويقتله إلى أن فطنوا لذلك فانهزموا إلى خراسان ودخلوا في طاعة نصر بن أحمد السامانيّ، وسوّدوا أعلامهم، وقدّموا على أنفسهم أسفار بن شيرويه الجيلي. وبعث معهم ابن أحمد جيشا كثيفا. وساروا فدخلوا جرجان، وسار الداعي منها إلى طبرستان ثم إلى الريّ، واجتمع بما كان وأمره أن يمضي إلى طبرستان لدفع أسفار عنها فعلم أنه لا طاقة له بذلك فقال له: الرأي أن تمضي أنت فإنك الإمام! فاضطرّ الداعي إلى ذلك، ووقعت الحرب بينه وبين الخراسانية فانهزم جيشه وجرح ودخل آمل واستتر بها فتبعوا الديلم أثر دمه وأظهروه في الدار فوجدوه يصلّي فأجهزوا عليه. قتل يوم الثلاثاء لست بقين من شهر رمضان سنة عشرة وثلاثمائة. ولمّا قتل الداعي ملك أسفار جرجان، وأبو موسى هارون بن بهرام

(288) ذكر سنة خمس وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

طبرستان، وعادت الدعوة للملك نصر بن أحمد بن إسماعيل الساماني، وانقطعت دولة العلويّين. (288) ذكر سنة خمس وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذرعا وإصبعان. ما لخّص من الحوادث الخليفة المقتدر بالله أمير المؤمنين. وذكاء الأعور على حرب مصر. وصرف الحسين بن أحمد عن الخراج وولي عليّ بن أحمد بن بسطام. وفيها كانت أراجيف بمصر بسبب المغاربة وقوّة حركتهم إلى الديار المصرية، ثم بطلت الأخبار واستقرّت الأحوال هذه السنة والتي بعدها. ذكر سنة ست وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المقتدر بالله أمير المؤمنين. وذكاء بحاله. وورد كتاب من قبل الخلافة بصرف ابن بسطام وإعادة الحسين بن أحمد على الخراج. قيل إنه لمّا ولي ابن بسطام الخراج عوض الحسين بن أحمد قبض على الحسين وأولاده

وجميع كتّابه وألزمهم بأموال جمّة، وتوعّد الحسين بالعقوبة، وفعل بألزامه وحاشيته وأولاده كلّ قبيح؛ والحسين يتضرّع إليه ويسأله وهو لا يزداد إلاّ تنمّرا. فلما كان في أوّل هذه السنة أحضر الحسين بين يدي ابن بسطام وقرّعه وسفه عليه، وأحضر بعض حاشيته وخواصّه وضربه بالسياط قدّامه، ثم قدّم أحد بنيه وأمر بتجريده وقدّم له السياط وألزم بالأيمان التي لا فسحة له فيها متى لم يورد في ذلك النهار عشرة آلاف دينار (289) أوقع الفعل ببنيه قدّامه ثم به نفسه. فلمّا عاين الحسين بن أحمد ذلك قال: أصلحك الله! إنّ لي إليك سرّا بيني وبينك فإن رأيت أن تخليني بك فعلت! قال: فتوهّم ابن بسطام أن يعده بشيئ من المال لنفسه فقال: معاذ الله أني أقبل الرشوة على مال أمير المؤمنين، فلا تطمع نفسك مني بذلك! قال: فتناول عند ذلك الحسين من عمّته كتابا لطيفا وقال: لتقف على هذا الكتاب أصلحك الله، وتأمّل ما فيه سرّا في نفسك! قال: فلمّا وقف عليه وجده جميعه بخطّ يد الإمام المقتدر بالله أمير المؤمنين بإعادة الحسين بن أحمد إلى منصبه وإيقاع الحوطة على ابن بسطام! فلم يملك نفسه دون أن وثب قائما يقبّل رأس الحسين وأطرافه وأجلسه ووقف مكانه بين يديه ورأسه بين رجليه لقرب عهده بما فعل به. قال؛ فنهض الحسين إليه وأجلسه إلى جانبه وقال: لا بأس عليك! إنّما أنت كنت مجتهدا في نصيحة أمير المؤمنين! ثم إنّه بالغ في كلّ ما تصل القدرة إليه من الإحسان ولم يسترفع منه ولا من كتّابه حساب تلك السنة التي وليها وزوّده من ماله بجملة كثيرة مع تحف ولطائف من دق تنّيس وغيرها، وشيّعه بنفسه إلى ظاهر الفسطاط. قلت: وهذه الواقعة فيها تنبيه من غفلة وتيقّظ من جهل.

ذكر سنة سبع وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة سبع وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وتسعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المقتدر بالله أمير المؤمنين. وتوفّي ذكاء الأعور؛ وكان (290) بالجيزة في مصافّ أبي القاسم عبد الله ابن صاحب إفريقية. وأعيد تكين الولاية الثانية. وكان ابن صاحب إفريقية في مائة ألف عنان فأخذ الإسكندرية والفيوم والبهنسا وجزيرة الأشمونين. ووصل مؤنس الخادم من قبل الإمام المقتدر بالله بجيش كثيف فنزل الجيزة. ثم وافت من قبل عبيد الله المهدي مائة مركب حربيّة فيها ثمانين طريدة وعشرين عشاري فنزلوا رشيد. ثم وجّه الإمام المقتدر ثمل الخادم في خمسين مركب حربيّة والتقت المراكب فانكسرت المغاربة واحترق أكثرها واستأمن منهم خمسمائة نفر فأرسلهم ثمل إلى الفسطاط فثارت عليهم الرعيّة فقتلوهم بالمقس. ثم لمّا أعيد تكين إلى ولاية مصر الثانية من

ذكر سنة ثمان وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

ولايته فنزل الجيزة وحفر خندقا وأقبلت مراكب صاحب إفريقية وعليها سليمان الخادم فدخلوا البحيرة، وأقبل ثمل الخادم في مراكبه فلمّا سمعوا به خرجوا. وأرسل الله تعالى عليهم ريحا فألقت مراكب سليمان المغربي إلى البرّ وتكسّر أكثرها، وأخذ جميع من فيها قبضا بالكفّ. وأنفذهم ثمل إلى تكين مستأسرين في الحبال فعزل أهل القيروان وطرابلس الغرب وبرقة وصقلية ناحية، وعزل كتامة وزويلة وقتلهم؛ وكانوا عدة سبعمائة نفر. وانتقل عبد الرحمن ابن صاحب إفريقية من الإسكندرية إلى الفيوم ونزلها بقية هذه السنة. <وفيها توفي أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله، صاحب التاريخ الكبير. ذكر أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر الفرغاني في كتابه المعروف بالصلة-وهو الذي وصل به تاريخ الطبري الكبير-أنّ قوما من تلاميذ الشيخ الطبري حصّلوا أيام حياته مذ بلغ الحلم إلى أن توفّي في هذه السنة- وقيل توفّي في سنة عشرة وثلاثمائة وهو ابن ستّ وثمانين سنة-ثم قسموا عليها عدّة أوراق مصنّفاته فصار منها لكلّ يوم أربع عشرة ورقة! وهذا لا يتهيّأ لمخلوق إلاّ بكريم العناية الإلهية.> ذكر سنة ثمان وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث (291) الخليفة المقتدر بالله أمير المؤمنين. وتكين على ولاية مصر نازلا بالجيزة. وتحرّك أبو القاسم طالبا الفسطاط العاشر من شهر ربيع الأوّل من هذه السنة؛ وكان يوما مشهودا؛ ونادى في المغاربة: من اذى قتل! فلم يحصل منهم كثير إيذاء بل ما تخطّفوه سرقة. ثم بلغه أنّ ثمل الخادم وصل بمراكبه إلى رشيد في عدّة كبيرة، ومؤنس في البرّ مع تكين، وأنّهم عادوا إلى الفيّوم في حشود عظيمة فخرج من الفسطاط هاربا على وجهه لا يلوي على شيئ وطلب برقة من غير حرب ولا قتال. وعاد مؤنس وتكين إلى الفسطاط. وورد كتاب من الإمام المقتدر بعزل تكين وولاية مؤنس الخادم مصر فولّى مؤنس من قبله على مصر أبا قابوس فأقام ثلاثة أيام ثم ردّ إليها تكين فأقام أربعة أيام ثم صرف. ذكر سنة تسع وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وثلاثة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا وثلاثة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المقتدر بالله أمير المؤمنين. وعزل تكين سلخ ربيع الأول من هذه

ذكر سنة عشرة وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

السنة. وتولّى أبو قابوس ابن محمود خمسة أيام ثم عزل وردّ تكين فأقام شهرا وعزل. وتولّى هلال بن بدر من قبل المقتدر. وخرج مؤنس الخادم طالبا العراق في أربعة آلاف من أهل الديوان، وأقام هلال بن بدر بقيّة هذه السنة؛ وكانت مصر في أيام ولايته من النهب والقتل والفساد إلى أبعد غاية حتى صرف. (292) وفيها أخذ الحسين بن منصور الحلاّج وقطعت يداه ورجلاه وحزّ رأسه وأحرق بالنار في شهر ذي القعدة من هذه السنة. ذكر سنة عشرة وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وواحد وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المقتدر بالله أمير المؤمنين. وعزل هلال بن بدر وولي في هذه السنة أحمد بن كيغلغ ومعه محمد بن الحسين بن عبد الوهاب على الخراج فشعّث على الجند وأسقط كثيرا منهم فشغبوا عليه فانتحى عنهم إلى ناحية فاقوس. وتوجّه الجند إلى محمد بن الحسين الماذرائي وتركوا ابن كيغلغ على

ذكر سنة إحدى عشرة وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

فاقوس بمفرده وخاصّته فأقام ثلاثة أشهر، وولي مصر الأمير تكين الولاية الرابعة له، ودخلها متسلّمه في ذي القعدة سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. ذكر سنة إحدى عشرة وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وأحد عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المقتدر بالله أمير المؤمنين. والأمير بمصر تكين ومتسلّمه بها ولم يصل في هذه السنة حتى دخل يوم عاشوراء سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة. فلمّا استقرّ بها طلب ابن مهران وقتله لما كان أسلفه من قبل لمّا كان مؤنس الخادم بمصر. قيل إنه عذّبه أشدّ عذاب حتى مات. وفيها <ولي> القضاء بمصر عبد الله بن المكرّم. واستخلف الكريزيّ وأبو أحمد الكرخي على الخراج. (293) ذكر سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة أصابع.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة المقتدر بالله أمير المؤمنين. وتكين أمير مصر. والكرخي على الخراج بها. والقاضي ابن المكرّم. وفيها ظهر سليمان بن <أبي> سعيد القرمطي وفتح البصرة كما يأتي ذكر ذلك في الجزء المختصّ بذكرهم إن شاء الله تعالى. ذكر سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وثلاثة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المقتدر بالله أمير المؤمنين. وتكين أمير مصر. وعزل الكرخي عن الخراج وولي القرطبي. وعزل الكريزيّ وولي ابن حمّاد القضاء. وفيها دخل عليّ بن عيسى الوزير مصر. وفيها امتنع الحاجّ بسبب القرامطة حسبما يأتي من ذكرهم. وفيها ظهر كوكب عظيم له ذؤبة وشعاع ساطع وهو شديد الحمرة؛ وكان ظهوره من جهة الشمال إلى نحو المغرب وطوله بالتقدير لرائي العين ثلاثين

ذكر سنة أربع عشرة وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

رمحا وعرضه رمحان؛ وكان كذلك عند غروب الشمس. وأقام كذلك ثلاث ساعات. وفيها خرج جراد عظيم سدّ عين الشمس وأهلك كثيرا من الثمار. ذكر سنة أربع عشرة وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة (294) الماء القديم خمسة أذرع وإصبع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المقتدر بالله أمير المؤمنين. وتكين أمير مصر. وعماله بحالهم إلى أن صرف القرطبي وولّي محمد بن عليّ الماذرائي. وفيها سار القرمطيّ إلى نحو مدينة السلام ووصل إلى عقرقوف، وخرج إليه موسى الطوسي وبنو حمدان حسبما يأتي من ذكره إن شاء الله تعالى. ذكر بني حمدان ومبدأ أمرهم قال أبو منصور الثعالبي رحمه الله: كان بنو حمدان ملوكا أوجههم للصباحة، وألسنهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرجاحة. وسيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان مشهور بسيادتهم، وواسطة قلادتهم، وحضرته مقصد الوفود، ومطلع الجود، وقبلة الآمال، ومحطّ الرحال، وموسم الأدباء، وحلبة الشعراء. ويقال إنّه لم يجتمع بباب ملك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر، ونجوم الدهر. <وكان محبّا لجيّد

الشعر>،شديد الاهتزاز له، وكان كلّ من أبي محمد عبد الله بن محمد الفياض الكاتب، وأبي الحسين عليّ بن محمد الشميشاطي قد اختارا له من مدائح الشعر عشرة آلاف بيت؛ وإنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها. وتوفّي في كنفه السيّد الفاضل والحكيم الكامل أبو نصر محمد بن نصر الفارابي فيلسوف المسلمين بالحقيقة. أخذ صناعة المنطق عن يوحنا بن حيلان المتوفّى بمدينة السلام. وله التصانيف المفيدة، صحيحة العبارة لطيفة الإشارة؛ منبّهة على ما أغفله الكنديّ وغيره من صناعة التحليل، وأنحاء التعاليم. وأوضح (295) القول فيها عن موّاد المنطق الخمسة، وأفاد وجوه الانتفاع بها، وعرّف طرق استعمالها، وكيف تعرف صورة القياس في كلّ مادّة منها. فجاءت كتبه في ذلك الغاية الكافية. وكان أبو نصر المذكور معاصرا لأبي بشر متّى بن يونس إلاّ أنه كان دونه في السنّ، وفوقه في العلم. وعلى كتب متى بن يونس في علم المنطق معوّل العلماء ببغداد وغيرها من أمصار المسلمين لقرب مأخذها، وكثرة شرحها. وكانت وفاة الفارابي بدمشق في كنف الأمير سيف الدولة ابن حمدان المشار إليه التغلبي في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. وكفى بسيف الدولة نبلا أن اجتمع ببابه مثل هذا الفاضل الموصوف، ومثل أوحد الكبراء، وشيخ الشعراء أحمد بن الحسين المتنبّي الشاعر الموصوف الذي لأجله سمّيت الشعراء في زمانه بالطراز المذهب؛ وفيهم مثل السري الرفّاء والنامي والببغاء والوأواء وغيرهم. وسيأتي من ذكرهم والمرقص والمطرب من أشعارهم في آخر هذا الجزء ما تصل إليه القدرة من المحفوظ والمنقول إن شاء

ذكر المتنبي ونسبه ولمعة من خبره

الله تعالى. وكذلك يأتي طرف جيّد من ذكر سيف الدولة بن حمدان في تاريخه. وإنّما قدّمنا هذا القول توطئة لما يأتي بعده بمعونة الله تعالى. ذكر المتنبّي ونسبه ولمعة من خبره هو أبو الطيب أحمد بن الحسين بن عبد الصمد الجعفي الكوفيّ الشاعر المعروف بالمتنبّي المشهور. وكان من المكثّرين من نقل اللغة، ومن المطّلعين على غريبها وحوشيّها، ولا يسأل عن شيئ إلاّ واستشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر حتى أنّ أبا عليّ الفارسيّ صاحب (296) كتاب التكملة و <كتاب> الإيضاح قال له يوما: <كم> لنا من الجموع على وزن فعلى؟ فقال المتنبي في الحال: حجلى وظربى! قال الشيخ أبو عليّ؛ فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثا فلم أجد؛ وحسبك من يقول في حقّه أبو عليّ هذه المقالة! وحجلى جمع حجل وهو الطائر الذي يسمّى القبج. والظربى جمع ظربان على وزن قطران وهي دويّبة منتنة الرائحة. وأمّا شعره فكما قال القاضي ابن خلّكان رحمه الله؛ فهو النهاية ولا حاجة.

(297) ذكر سنتي خمس عشرة وست عشرة وثلاثمائة النيل المبارك في هاتين السنتين

إلى ذكر شيئ منه هاهنا لشهرته. لكنّ الشيخ تاج الدين الكنديّ رحمه الله تعالى كان يروي له بيتين لا يوجدان في ديوانه، وكانت روايته لهما بالإسناد الصحيح المتّصل به، وأثبتهما في تاريخه القاضي ابن خلّكان المذكور فأحببت ذكرهما أيضا لعزّتهما وهما (من الكامل): أبعين مفتقر إليك نظرتني … فأهنتني وقذفتني من حالق لست الملوم أنا الملوم لأنّني … أنزلت آمالي بغير الخالق قلت: وسيأتي من شعره شيئ لطيف آخر هذا الجزء في طبقتي المرقص والمطرب إن شاء الله تعالى. والناس في شعره على طبقات؛ فمنهم من يرجّح شعره على شعر أبي تمّام ومن بعده. ومنهم من يرجّح أبا تمّام عليه. قال القاضي ابن خلكان: واعتنى العلماء بديوانه فشرحوه. وقال لي أحد المشايخ الذين أخذت عنهم: وقفت له على أربعين شرحا وأكثر ولم يفعل هذا بديوان غيره. ولا شكّ أنه كان رجلا مسعودا. وإنما قيل له المتنبّي لأنه ادّعى النبوة في بادية السماوة، وتبعه خلق كثير من بني كلب وغيرهم. فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الإخشيد فأسره وتفرّق جمعه، وحبسه ثم أطلقه واستتابه. وقيل غير ذلك. وهذا أصحّ. والله أعلم. (297) ذكر سنتي خمس عشرة وستّ عشرة وثلاثمائة النيل المبارك في هاتين السنتين الماء القديم أربعة أذرع واثنتان وعشرون إصبعا. الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا واثنان وعشرون. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وإصبع.

الحوادث

الحوادث الخليفة المقتدر بالله أمير المؤمنين. وعزل الماذرائي وأعيد بعده القرطبي. ذكر سنة سبع عشرة وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم سبعة أذرع واثنتا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. الحوادث الخليفة المقتدر بالله أمير المؤمنين. والماذرائي على الخراج مع الأمير تكين مستقرّ. وعزل القاضي عبد الله بن زبر، وولّى ابن حمّاد نيابة. فيها أخذوا القرامطة الحجر الأسود؛ وذلك أنّ أبا طاهر الجنّابي القرمطي دخل مكّة يوم التروية فقتل الحاجّ قتلا ذريعا، ورمى القتلى في بئر زمزم، وأخذ الحجر الأسود، وعرّى الكعبة وقلع بابها. واستمرّ الحجر الأسود عند القرامطة اثنتين وعشرين سنة إلاّ شهرا ثمّ ردّوه على يد شنبر لخمس بقين أو خلون من ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. وكان بذل لهم في ردّه خمسين ألف

(298) ذكر سنتي ثمان عشرة وتسع عشرة وثلاثمائة النيل المبارك في هاتين السنتين

دينار فما فعلوا وقالوا: أخذناه بأمر ولا نردّه إلاّ بأمر. وسيأتي جميع أحوالهم وعقائدهم الفاسدة ومذاهبهم الذميمة في الجزء المختصّ بهم؛ وهو الذي يلي هذا الجزء إن شاء الله تعالى. (298) ذكر سنتي ثمان عشرة وتسع عشرة وثلاثمائة النيل المبارك في هاتين السنتين الماء القديم خمسة أذرع وأحد عشر إصبعا. الماء القديم خمسة أذرع وتسعة أصابع. الزيادة سبعة عشر ذراعا وإصبعان. الزيادة خمسة عشر ذراعا وأربعة أصابع. ذكر سنة عشرين وثلاثماية النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المقتدر بالله أمير المؤمنين إلى أن قتل في تاريخ ما يذكر. وذلك أنّه لمّا زاد أمر النساء، وعادت الأمور كلّها معلّقة بأمّ المقتدر، وحصرت على الأموال، ومنعت الأرزاق؛ وكان مؤنس الخادم قد استولى على ديار ربيعة وأعمال الموصل وغلب على الأمر، وخرج عن الطاعة، وانقادت إليه أكثر الجند

لعدم الأرزاق؛ فحصل بينه وبين المقتدر المشاناة وركب وطلب بغداد لخلع المقتدر، وحسّن للمقتدر أن يخرج لملاقاته وكان ذلك عملا عليه لما في أنفس الناس من سوء تدبيره وحكم النساء عليه. فخرج إلى باب الشماسية واقتحم العسكر فقتل قتله رجل من الأكراد وهو لا يعرفه وأخذ ثيابه وجرّ برجله وستره بحشيش. وكان ذلك نهار الأربعاء لثلاث بقين من شوّال من هذه السنة وله ثماني وثلاثون سنة وشهران إلاّ أياما. وبقيت جثته إلى آخر النهار ملقاة ثم حمل ودفن بالرصافة. وكانت في أيامه أمور مهولة لم ير مثلها فيما قيل. منها أنّه ولي وهو دون الحلم ولم يكن ولي أحد (299) من الخلفاء في هذا السنّ. ومنها أنّه أقام في الخلافة خمسة وعشرين سنة إلاّ أياما ولم يكن ذلك لمن قبله. ومنها أنّه استوزر اثني عشر وزيرا. ومنها أنّ الحجّ بطل في أيامه خوف القرامطة وما فعلوه. ومنها خروج المغرب عنه وتغلّب المهديّ على تلك البلاد، وإخراج الأغالبة الآتي ذكرهم في الجزء التالي لهذا الجزء إن شاء الله تعالى. صفته: ربعة، درّي اللون، أحور، أصهب، جعد، مدوّر اللحية، قد كثر الشيب في رأسه وعارضيه. مولده في شهر رمضان سنة اثنين وثمانين ومائتين. وزراؤه: العبّاس بن الحسن، وابن الفرات ثلاث دفعات، ومحمد بن عبد الله بن خاقان، عليّ بن عيسى، وحامد بن العبّاس، وأبو القاسم الخاقاني، وأحمد بن عبيد الله بن الخصيب، وأبو عليّ ابن مقلة، وسليمان بن الحسن بن

ذكر خلافة القاهر بالله محمد بن أحمد المعتضد وما لخص من خبره

مخلد، وعبيد الله بن محمد الكلوذاني، والحسين بن القاسم بن عبيد الله ثم الفضل بن جعفر بن الفرات ويعرف بابن خنزابة وقتل وهو وزيره. حجّابه: سوسن مولى المكتفي. ياقوت مولى المكتفي، نصر القشوريّ، ابنا رائق. نقش خاتمه: لله المقتدر بالله. وقيل: الملك لله. وقيل: الحمد لله الذي ليس كمثله شيئ. ذكر خلافة القاهر بالله محمد بن أحمد المعتضد وما لخّص من خبره هو أبو منصور محمد بن المعتضد أحمد بن الموفّق طلحة؛ وباقي نسبه معلوم. ولمّا قتل مؤنس الخادم وابن يلبق ومن كان غلب على الأمر (300) تقرّر لقبه القاهر بالله، المنتقم من أعداء الله لدين الله، ونقش ذلك على الدنانير والدراهم وذلك بعد خلافته بستة أشهر، أمّه أمّ ولد روميّة يقال لها قتول. بويع له يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال سنة عشرين وثلاثمائة وله ثلاث وثلاثون سنة. وكان مغلوبا على أمره ستة شهور من ملكه فلمّا قبض على مؤنس الخادم

ذكر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

ووجوه أصحابه وقتلهم صفا له الأمر. وكانت خلافته سنة وستّة أشهر وأياما. وكان فيه هوج، شديد الإقدام على سفك الدماء، محبا لجمع المال، قبيح السيرة والسياسة. صادر جماعة من أمّهات أولاد المقتدر وأولاده، وضرب أمّ المقتدر وعلّقها برجلها الواحدة في حبل البرّادة. ثم تسلّمها منه ابن يليق عليّ فأقامت عنده عشرين يوما واستخرج منها أموالا جمّة يضيق عنها الحصر ولا يصدّقه العقل لكثرته. وماتت بعد ذلك في جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. وفي هذه السنة قتل أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان. وفيها مات الطحاوي صاحب الرسالة. وفيها ولد المعزّ الفاطمي حسبما يأتي من خبره. ذكر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وأربعة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القاهر بالله أمير المؤمنين. وعزل <محمد بن> تكين أمير مصر

ذكر سنة اثنين وعشرين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

وبقيت البلاد بلا وال إلى أن دعي للأمير محمد بن طغج بالشام، واستخلف أخاه عبد الله بمصر. ثم ورد كتاب من الخلافة بعزل ابن طغج وولاية (301) ابن كيغلغ فاستخلف أبا الفتح النوشري. وفيها كانت وقعة المغاربة مع حبكويه. وفيها عزل ابن زبر عن القضاء وولي محمد ابن أبي الشوارب، واستخلف على الحكم أحمد بن عبد الله بن قتيبة ودخل البلد وأقام فيها شهورا ثم صرف. وولي أبو عثمان أحمد بن إبراهيم <بن حمّاد> من قبل القاهر. وكان قد ولي أبو قابوس ثم عزل وأعيد الأمير تكين. وفيها كان بمصر زلزلة عظيمة هدّمت دورا كثيرة وتساقطت فيها الكواكب بما لم يعهد بمثلها. ذكر سنة اثنين وعشرين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة وعشرون ذراعا وستة عشر إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة القاهر بالله إلى أن <خلع> وكحّل في تاريخ ما يأتي. و<محمد بن> تكين بمصر إلى أن عاد ابن كيغلغ. وعزل <ابن> حمّاد عن القضاء وولي محمد بن موسى السرخسي ثم ورد كتاب بإعادة القاضي محمد بن أبي الشوارب الولاية الثانية. واستخلف محمد بن بدر الصيرفي والأمير بمصر يومئذ محمد بن كيغلغ. وعلى الخراج بها محمد بن عليّ الماذرائي. فيها وثب الغلمان الساجيّة والحجرية على القاهر بالله لستّ خلون من جمادى الآخرة سنة اثنين وعشرين وثلاثمائة، وطولب بالخلع فأبى فأكحل بمسمار محمّى مرّتين بعد أن أقيم بين يدي الراضي بالله وسلّم عليه بالخلافة. فكان القاهر أول من سمل من الخلفاء. ولم يزل باقيا في دار السلطان إلى أن أخرجه المستكفي بالله في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وردّه إلى داره (302) فأقام مدة ثم خرج في يوم جمعة إلى جامع المنصور فعرّف الناس بنفسه وسألهم أن يتصدّقوا عليه! فقام إليه ابن أبي موسى الهاشمي فأعطاه ألف درهم وردّه إلى داره. ولم يزل حتّى توفّي في خلافة المطيع في جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة؛ وله اثنان وخمسون سنة. في أيامه ضرب أبو علي ابن شنّبوذ الشيخ المقرئ سبع درر بسبب أنه

قرأ قراءة شاذّة فأمر الوزير ابن مقلة بضربه فضرب فدعا عليه الشيخ بقطع اليد وتشتيت الشمل فأجيبت دعوة الشيخ في الوزير ابن مقلة، وقبض عليه في شوّال سنة ست وعشرين وثلاثمائة في خلافة الراضي بالله استفتي في أمره فقيل إنه سعى في الأرض فسادا فأفتى بقطع يده. واختلف في ذنبه فقيل إنه زوّر على الخليفة. وقيل كاتب عليه. ولمّا قطعت يده أصبح وجلس في الديوان فقيل له: تعود إلى الخدمة بعدما جرى عليك؟! فقال: إنما أمير المؤمنين أدّبني ولم يصرفني! ثم نسب إليه بعد ذلك أمر آخر فأمر الراضي بالله بقطع لسانه! ولحقه بعد ذلك أمراض مختلفة، وتوفّي في شوّال سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. أجمع المؤرخون أنه نبش بعد دفنه ثلاث مرار من قبره. الأوّل أنّه دفن في دار البلاط ثم نبش وأخرجه ولده ودفنه بالجبّانة. ثم نبشته زوجته ودفنته عندها في تربة لها! والله أعلم! صفة القاهر بالله: ربعة أسمر، معتدل الجسم، طويل العنق، أصهب الشعر، وافر اللحية، ألثغ، لم يشب. مولده سنة سبع وثمانين ومائتين. والله أعلم. وزراؤه (303):أبو عليّ ابن مقلة، ثم محمد بن القاسم بن عبيد الله، ثم أحمد بن عبد الله الخصيبيّ. حجّابه: عليّ بن يلبق مولى مؤنس، ثم سلامة الطولونيّ وسمّاه المؤتمن.

ذكر خلافة الراضي بالله محمد بن المقتدر بالله جعفر، وما لخص من خبره

نقش خاتمه: محمد رسول الله. وقيل: لله القاهر بالله. والله أعلم. ذكر خلافة الراضي بالله محمد بن المقتدر بالله جعفر، وما لخّص من خبره هو أبو العبّاس محمد بن المقتدر جعفر. وباقي نسبه قد علم. والعامّة تلقّبه الآجرّي لكثرة ما هدمه من الأبنية. أمّه أمّ ولد رومية يقال لها ظلوم؛ أدركت خلافته. بويع له لستّ خلون من جمادى الأولى من هذه السنة، وله من العمر أربع وعشرون سنة وشهرا. وكانت خلافته ستّ سنين وعشرة أشهر وأياما. قال <أبو> الحسن العروضي مؤدّب الراضي بالله: غدا عليّ الراضي يوما وفي يده درج فوضعه وأقبل على ما كنت وظّفته له فأسرع في حفظه وتحصيله ثم انحاز عني وأخذ ذلك الدرج وعاد يتصفّحه فقلت له: ما في درجك أيّها الأمير؟ فقال حكمة ممّا ترجم لأمير المؤمنين أبي جعفر المنصور انتسختها من طومار وجدته عنده! فقلت: أسمعني ما فيه! فقرأ عليّ: لا يضرّ فساد الملك مع صلاح وزرائه كما لا ينفع صلاحه مع فساد وزرائه كثير نفع. وينبغي للملك أن يسوس وزراءه بثقة يمكن فيها احتراس، وأنس تشوبه هيبة. وليحذر كلّ الحذر

من اختصاص بعضهم دون بعض، وتفضيل بعضهم على بعض. فالوزراء للملك كالطبائع للجسم؛ صلاح الجسم باعتدال طبائعه وتساويها في القوّة، كما أنّ عطبه في قوّة بعضها (304) على بعض. قال العروضي؛ فقلت له: أيّها الأمير! إنّك اليوم غير محتاج إلى هذا وشبهه! فقال: كلا! إنّي إليه لمحتاج فإن كان عندك منه علم فأفدناه، وإن لم يكن عندك فاستفده لكي تفيدناه! قال: فعلمت بذلك سموّ همّته، وقوّة فطنته. وحكى العروضي أنّ الراضي كتب إلى أبيه المقتدر بالله كتابا قبّض فيه قلمه ونظّم حروفه فجاء خطا ثقيلا؛ وكان إذا مشق في خطّه ومطّط حروفه أجاد؛ قال؛ فقلت له: كأنّ الأمير قصد إلى قبض خطّه! فقال: نعم! قلت: ولم؟ قال: لأنّ مشق القلم ومطّ الحروف ضرب من الجراءة والقلب نائب اللسان؛ فهل يصلح أن أطلق لساني في محاورة والدي وأتشادق على أمير المؤمنين؟! قال العروضي: فجعلت أنظر إليه متعجّبا! فقال: ما بالك يا أستاذ؟ فقلت: أنّى لك هذا؟! فقال: يا أستاذ! إنّ آدابنا مولودة معنا! فقلت: أشهد بذلك! وفي هذه السنة توفي عبيد الله المهدي صاحب المغرب. وفيها كان ظهور عليّ بن محمد الشلمغاني لعنه الله؛ وكان قد ادّعى ما ادّعاه المقنّع، المقدّم ذكره في هذا التاريخ؛ فقتل هو وابن أبي عون لأنّه كان من أقاربه ويقول بقوله، وأحرقا بنار الدنيا قبل نار الآخرة. <ذكر الشيخ أبو القاسم علي بن منجب بن سليمان الكاتب في سيره أنّ ابن مقلة الوزير ذكر أن الحسين بن القاسم بن

ذكر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

عبيد الله بن سليمان الوزير كان يعتقد أنّ عليّ بن محمد الشلمغانيّ المعروف بابن أبي العزاقر إليه. ثم كتب إلى عامل الرقّة بضرب عنقه وحرقه بالنار ففعل>. ذكر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ستّة أذرع وسبعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة الراضي بأحكام الله أمير المؤمنين. وفيها دخل الأمير محمد بن طغج (305) إلى مصر وقبض على الماذرائي، وصار الأمر إلى بكران الكاتب. وفيها دخل أبو الفتح ابن جعفر بن الفرات إلى مصر بعد دخول الأمير ابن طغج. وفيها مات الفقيه إبراهيم بن حمّاد، وكذلك الجنّابي القرمطي حسبما يأتي ذكره. وفيها ظهر كوكب عظيم له ذؤابة.

ذكر سنة أربع وعشرين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

ذكر سنة أربع وعشرين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وستّة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا وثلاثة وعشرين إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة الراضي بأحكام الله أمير المؤمنين. والأمير محمد بن طغج بمصر وإليه حربها وخراجها. وعزل بكران عن الخراج وولّى عبد الله بن الحسين. وورد كتاب القاضي ابن أبي الشوارب بعزل خليفته محمد بن بدر عن الحكم، واستخلاف ابن زبر المرّة الثانية، ثم عقّب ذلك بكتاب آخر بأن يستخلف محمد بن أحمد الشافعي فجرى في ذلك فصول كثيرة من الأمير محمد بن طغج؛ فاستقر آخر الحال أن يكون محمد بن أحمد المذكور يفصل بين الناس بأمر الأمير محمد بن طغج. وفيها جرت أسباب خاف الأمير محمد بن طغج على نفسه فهرب إلى برقة ثم عاد إلى الإسكندريّة وأقام بها. وفيها سخط الراضي على الوزير ابن مقلة، وجرى على ما تقدّم من ذكره. وفي نسخة أنّ ذلك كان في سنة ستّ وعشرين؛ والله أعلم؛ واستوزر

(306) ذكر سنة خمس وعشرين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

<عبد الرحمن بن> عيسى بن جرّاح. وفيها أخرب المسلمون كنيسة قسطنطين القبليّة وأحرقوها بالنار يوم الشعانين، وكانت فتنة كبيرة، والله أعلم. <وفيها توفّي ابن مجاهد-رحمه الله-في شهر شعبان. ومولده سنة خمس وأربعين ومائتين؛ فكان عمره تسعا وسبعين سنة؛ تنقص شهرين وأياما> (306) ذكر سنة خمس وعشرين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وستّة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة الراضي بأحكام الله أمير المؤمنين. والأمير <ابن> طغج مستقلاّ بمصر حربا وخراجا. وولّى الخراج أبو علي صالح بن نافع، واستخلف الكرجي. وفيها كانت الوقعة بين المسلمين والروم، وكانت عدّة فتن يطول شرحها.

ذكر سنتي ست وعشرين وسبع وعشرين وثلاثمائة النيل المبارك في هاتين السنتين

ذكر سنتي ستّ وعشرين وسبع وعشرين وثلاثمائة النيل المبارك في هاتين السنتين الماء القديم خمسة أذرع وعشرة أصابع. الماء القديم ثلاثة أذرع وثلاثة وعشرون إصبعا. الزيادة سنة ستّ سبعة عشر ذراعا وعشرة. الزيادة سنة سبع أربعة عشر ذراعا وواحد وعشرون إصبعا. الحوادث الخليفة فيهما الراضي بأحكام الله أمير المؤمنين. والأمير <محمد بن> طغج مستقلاّ بمصر. وعاد أمر الخراج إلى حسنون النصراني. ومات أبو زرعة وفوّض الحكم وديوانه إلى محمد بن بدر، وكاتب فيه الأمير <ابن> طغج القاضي ابن أبي الشوارب فاستقرّ به. وفي سنة ستّ وعشرين وثلاثمائة ملكت الروم أنطاكية. وسيأتي خبر أنطاكية من أول بنائها إلى حين فتحها السلطان الشهيد الملك الظاهر ركن الدنيا والدين بيبرس البندقداري في تاريخ فتحهم لها في آخر جزء من هذا التاريخ؛ وهو الجزء السابع المعروف بالدرّة الزكيّة في أخبار الدولة التركية إن شاء الله تعالى.

ذكر سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

وكذا أن أخذوا إسكندرية في سنة ستّ وعشرين وثلاثمائة ... فليقسطوا (307)،وسيّر إليهم يسألهم أن يذكره في صلواتهم فأجابوه إلى ذلك. وفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة توفّي منقذ بن نصر، جدّ بني منقذ ملوك شيزر. وفيها توفي الخرائطي صاحب كتاب «اعتلال القلوب» رحمة الله عليه. وفيها وصل بجكم التركيّ في الحادي والعشرين من شهر ذي القعدة، وانهزم ابن رائق إذ كان الغالب على أمر الراضي بالله. واستتر ابن رائق سنة وعشرة أشهر. وخلع الراضي على بجكم التركيّ، وعقد لواء، وعاد إليه تدبير الأمور الدنياوية؛ والله أعلم. ذكر سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا وستّة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة الراضي بأحكام الله أمير المؤمنين. وفيها ظهر ابن رائق وطلب الشام، وخرج إليه الأمير محمد بن طغج الإخشيد-لقّب بذلك في هذه السنة-

وجرى بينهما حروب. وعاد ابن رائق ولم يظفر بشيئ وخراج مصر بين الكرجي وحسنون النصراني. وابن بدر ينظر في أمور الناس. وفيها فتحت الاشكر وقتل ملكهم. وفيها توفّي أحمد بن محمد بن عبد ربّه صاحب كتاب العقد. وعبد ربّه جدّه هو ابن حبيب بن محمد بن سالم مولى الأمير هشام بن عبد الرحمن الداخل الأندلس، المقدّم ذكره، في أخبار بني أمية ملوك الأندلس. وكان فاضلا متقنا حافظا شاعرا نبيلا. وكان له ابن أخ يسمّى سعيد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد ربّه؛ وكان طبيبا نبيلا شاعرا محسنا، وله في الطبّ رجز جليل (308) محتو على جملة حسنة دلّ على تمكّنه من العلم، وتحقّقه لمذاهب القدماء، وكان له مع ذلك نظر بحركات الكواكب وطبائعها ومهابّ الرياح، وتغيّر الأهوية. وحكى عنه القاضي صاعد صاحب كتاب الملل والنحل في كتابه المعروف اليوم بكشف طبقات الامم من العرب والعجم أنّ سعيد فصد ذات يوم فكتب إلى عمّه المذكور يسأله الحضور عنده؛ وكان في سعيد شحّ فلم يجبه عمّه إلى ذلك فكتب إليه يقول (من الكامل): لمّا عدمت مؤانسا وجليسا … نادمت بقراطا وجالينوسا وجعلت كتبهما شفاء تفرّدي … وهو الشفاء لكلّ جرح يوسى فلمّا وصل إليه هذان البيتان أجابه يقول (من الكامل): ألفيت بقراطا وجالينوسا … لا يبخلان ويثريان جليسا فجعلتهم دون الأقارب جنّة … ورضيت منها صاحبا وجليسا وأظنّ بخلك لا يرى لك تاركا … حتّى تنادم بعدهم إبليسا! وكان سعيد بن محمد هذا جميل المذهب، خارجا عن مذاهب غيره من أبناء جنسه، منقبضا عن الملوك. وهو القائل في آخر عمره (من الطويل):

ذكر سنة تسع وعشرين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

أما بعد غوصي في علوم الحقائق … وطول انبساطي في مواهب خالقي وفي حين إشرافي على ملكوته … أرى طالبا رزقا إلى غير رازقي وقد أدّبت نفسي بتقويض رحلها … وأسرع في سوقي إلى الموت سائقي وإنّي وإن خيّمت أو سرت هاربا … من الموت في الآفاق فالموت لاحقي ذكر سنة تسع وعشرين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع واثنا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. (309) ما لخّص من الحوادث الخليفة الراضي بأحكام الله أمير المؤمنين إلى أن توفّي في تاريخ ما يأتي. والأمير محمد الإخشيد مستقلاّ بمصر والشام. ووقع في مصر فتنة عظيمة سببها الحريق الذي عاد بمصر من جهة النصارى فإنّهم تسلّطوا وأحرقوا دورا متعينة لأكابر البلد وتواتر ذلك أشهرا، وعادت الناس من ذلك في أشدّ الأحوال، وغلت الأسعار، وكانت سنة شديدة على أهل مصر؛ وهلك من أهلها عالم عظيم! هذا والأمير محمد الإخشيد بدمشق والرسل بينه وبين ابن رائق متواردة. وتوفّي الراضي إلى رحمة الله تعالى بمرض الاستسقاء في شهر ربيع الأول وله إحدى وثلاثون سنة وشهور رحمه الله تعالى.

ذكر خلافة المتقي بالله إبراهيم بن جعفر المقتدر وما لخص من خبره

صفته: أسمر، أعين، نحيف الجسم، ربعة، أسود الشعر سبطه، خفيف اللحية في مقدّمها طول، بوجهه أثر جدري. مولده سنة سبع وتسعين ومائتين. وزراؤه: أبو عليّ ابن مقلة حتى سخط عليه. ثم ابنه أبو الحسن. ثم عبد الرحمن بن عيسى بن داود بن الجرّاح. ثم أبو جعفر محمد بن القاسم الكرخي. ثم سليمان بن الحسن بن مخلد. ثم الفضل بن جعفر بن الفرات. ثم أبو عبد الله البريدي. حجّابه: محمد بن ياقوت ثم ذكي مولاه. نقش خاتمه: لله الراضي بالله. والله أعلم. ذكر خلافة المتّقي بالله إبراهيم بن جعفر المقتدر وما لخّص من خبره هو أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر المقتدر بالله. وباقي نسبه قد علم (310) أمّه أمّ ولد تسمّى خلوب أدركت خلافته. بينه وبين أخيه الراضي في المولد شهر وسبعة أيام. بويع له يوم الأربعاء لعشر بقين من شهر ربيع الأول من هذه السنة وذلك بعد موت أخيه بخمسة أيام وله من العمر إحدى وثلاثون

ذكر سنة ثلاثين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

سنة وشهور. كانت خلافته أربع سنين إلاّ شهرا كان بجكم التركيّ يدبّر الملك إلى أن قتل في متصيّد خرج إليه في شهر رجب من هذه السنة وكانت ولايته سنتين وثمانية أشهر وأيام؛ وصار التدبير لكورتكين أبي شجاع. وكتب المتّقي يستدعي ابن رائق وهو في مقابلة الإخشيد. فلمّا وصل إلى بغداد هرب كورتكين فكانت مدّة ولايته الأمور ثمانين يوما. وخلع المتقي على ابن رائق وطوّق وسوّر لأربع بقين من ذي الحجة من هذه السنة. ذكر سنة ثلاثين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وثلاثة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وثمانية أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المتقي لله أمير المؤمنين، ومدبّر الدولة ابن رائق. وكان في أيامه غلاء وشدّة حتّى خرج الحرم من القصر بالرصافة ينادين الجوع الجوع! ووصل أبو الحسين البريدي إلى بغداد وملك أصحابه دار السلطان. وهرب المتقي وابنه وابن رائق إلى الموصل. فقتل الحسن بن حمدان لابن رائق في رجب من هذه السنة ثم اعتذر للإمام المتّقي لله وقال: إنّما قتلته لأنّني علمت أنّه يريد الإيقاع بك! فقبل عذره اضطرارا وردّ إليه تدبير الملك، ولقّبه ناصر الدولة. (311) ثم سار المتقي لله وابن حمدان وإخوته إلى بغداد فأقام ناصر الدولة بها

ذكر سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

ثلاثة عشر شهرا إلى أن خلع المتّقي في تاريخ ما يذكر. وفيها عاد الأمير محمد الإخشيد من الشام إلى مصر، وعزل ابن الوليد عن الحكم، وولّى محمد بن بدر؛ وتوفّي في شعبان من هذه السنة فأقام أبو الذكر التمّار ينظر في أمور الناس ثم ولّى القضاء الحسن بن إسحاق الجوهري. وفيها خرج الأمير الإخشيد إلى الشام وولّى أخاه البلد. ذكر سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وثلاثة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإصبع واحد. ما لخّص من الحوادث الخليفة المتّقي لله أمير المؤمنين. ومدبّر الدولة في أوّل هذه السنة ناصر الدولة ابن حمدان، والإخشيد بالشام. ووزر القراريطي ثم الكرخي. وتقلّد القضاء بمصر الحسن بن إسحاق حسبما تقدّم. وفي ذي الحجة من هذه السنة أخذ الأمير الإخشيد البيعة لولده أبي القاسم وسلّمه لكافور الإخشيدي. وفيها مات الملك نصر بن أحمد بن إسماعيل، ملك خراسان، السامانيّ بمرض السلّ فكانت مدّة ملكه ثلاثين سنة؛ وكان عمره-كما ذكر الفرغاني-

يوم ولي الملك اثنتي عشرة سنة. وقال الوزير أبو القاسم ابن الغزي: كان عمره ثماني سنين. وزيره أبو عبد الله محمد بن أحمد الجيهاني؛ وهو أول وزير لآل سامان؛ وكان به مذهب فاضح وفيه يقول أبو الطيب الطاهري (من المنسرح): أنت إذا كنت طول دهرك بال‍ … مبعر عمّا سواه تشتغل فأين نلقاك للحوائج أم … في أيّ يوم يهمّك العمل (312) وكان مكروها عند جميع قوّاد آل سامان، وأقام وزيرا اثنتي عشرة سنة! ويقال إنّ أهل بخارى رجموا تابوته ولم يصلّ عليه أحد منهم. ووزر بعده أبو الفضل البلعمي وكان قبل ذلك يتولّى الخراج. وقام بملك آل سامان نوح بن نصر بن أحمد بن إسماعيل رابع ملوكهم. لقّبه أصحابه في حياته بالمؤيّد وبعد وفاته بالحميد. ولمّا توفّي السعيد نصر ولي ولده نوح؛ وكان ذلك في هذه السنة وهي السنة الثالثة من خلافة الإمام المتّقي لله. وكان إصفهسلاره في جيشه الأمير أبو علي أحمد بن محمد بن محتاج فسيّره لحرب ركن الدولة ابن بويه فلمّا بعد نقل عنه ما أوجب استحكام القطيعة بينهما فولّى الإصفهسلارية لإبراهيم بن سيمجور الدواتي. وقبض نوح على وكلاء أبي علي بخراسان وبلغ أبا عليّ فخلعه وبعث إلى أحد عمومته وهو إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل- وكان قد هرب من أخيه نصر ودخل في جملة بجكم التركيّ المقدّم ذكره ثم

ذكر سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

انتقل إلى ناصر الدولة ابن حمدان-فلمّا استدعاه أبو علي حضر وتلقّاه بهمذان وبايعه وتولّى تدبير جيشه، وقدم إلى الريّ ثم إلى خراسان، وسلّم الريّ لركن الدولة وصالحه، وسار إلى نيسابور فاضطرب حبل خراسان على نوح الحميد، وسار عمّه في جيوشه يتقدّمه أبو علي ابن محتاج المذكور إلى بخارى فانهزم الحميد إلى سمرقند ودخل ابن محتاج وإبراهيم بخارى، وجلس مجلس الملك بها وذلك في سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة حسبما يأتي بقيّة الكلام في تاريخه. ذكر سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وإصبع واحد. مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا وتسعة أصابع (313) ما لخّص من الحوادث الخليفة المتّقي لله أمير المؤمنين إلى أن خلع في سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة حسبما يأتي من ذكر ذلك في تاريخه إن شاء الله تعالى. فيها غلب على الأمر بتدبير ملك الخلافة توزون وخلع عليه المتّقي اضطرارا. وهرب ناصر الدولة ابن حمدان. وفيهما خاف المتّقي على نفسه من توزون فخرج بنفسه وحرمه إلى الموصل في شهر ربيع الأوّل من هذه السنة، وعاد توزون إلى بغداد وراسله المتّقي في الصلح وجرى ما يأتي ذكره في سنة ثلاث وثلاثين. وفيها ملك سيف الدولة ابن حمدان حلب. ذكر سيف الدولة ابن حمدان ونبذ من خبره هو أبو الحسن عليّ بن عبد الله بن حمدان، وباقي نسبه قد تقدّم. كان ملكا جوادا شجاعا فاضلا أديبا شاعرا، يحبّ أهل العلم والفضل والأدب. وهو

الذي انتهى «كتاب الأغاني» الكبير الذي ألّفه أبو الفرج الإصفهاني في أيّامه وقدّمه إليه فأعطاه ألف دينار؛ واتّفق الناس أنه لم ينصفه فيه. وقيل إنه لما وقف على هذا الكتاب الوزير الفاضل والملك العادل ابن عبّاد، ورأى جميع ما فيه من محاسن الآداب الصحيحة والنوادر العجيبة المليحة قال: والله إنّ سيف الدولة يوصف بسماحة وليس هو كما يقال عنه كونه لم يجز مؤلّف هذا الكتاب إلاّ بألف دينار! وكان يحقّ له أن يجيزه عن كلّ جزء ألف دينار! وكان قد وصل إليه في خمسين جزءا!؛وإنّ خزانة كتبي تشتمل على مائة ألف وسبعة عشر ألف سفر! منذ وقع لي هذا الكتاب أغناني عن جميعهم!.وكان سيف الدولة شاعرا بليغا فمن محاسن شعره في وصف قوس قزح قال فأبدع (314) (من الطويل): وساق صبيح للصبوح دعوته … فقام وفي أجفانه سنة الغمض يطوف بكاسات العقار كأنجم … فمن بين منفضّ علينا ومنقضّ وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفا … على الجوّد كناء الحواشي على الأرض يطرّزها قوس السحاب بأصفر … على أحمر في أخضر تحت مبيضّ كأذيال خود أقبلت في غلائل … مصبّغة والبعض أقصر من بعض وهذا من التشبيهات الملوكيّة التي لا تكاد تحضر مثلها السوقة. والبيت الأخير أخذ معناه أبو علي بن محمد المعروف بابن الإخوة المؤدّب البغدادي

فقال في فرس أدهم محجّل (من الخفيف): لبس الصبح والدجنّة بردي‍ … ن فأرخى بردا وقلّص بردا وروي أنه كانت له جارية من بنات ملوك الروم بديعة الجمال في نهاية الحسن فحسدها بقيّة الحظايا لقربها منه! وتبيّن له أنهن يقصدن قتلها بسمّ أو ما أشبه ذلك فخاف عليها ونقلها إلى بعض الحصون وقال (من الخفيف): راقبتني العيون فيك فأشفق‍ … ت ولم أخل قطّ من إشفاق ورأيت العدوّ يحسدني في‍ … ك مجدّا يأ أنفس الأعلاق فتمنّيت أن تكوني بعيدا … والذي بيننا من الودّ باقي ربّ هجر يكون من خوف هجر … وفراق يكون خوف فراق وهذه الأبيات رأيتها في ديوان عبد المحسن الصوري، والله أعلم لمن هي! ومن شعر سيف الدولة (من الهزج): أقبّله على جزع … كشرب الطائر الفزع رأى ماء فأطمعه … وخاف عواقب الطمع وصادف خلسة فدنا … ولم يلتذّ بالجرع (315) ويحكى أنّ ابن عمّه أبا فراس كان يوما بين يديه في نفر من ندمائه فقال لهم سيف الدولة: أيّكم يجيز قولي وليس لها إلاّ سيّدي؟! يعني أبا فراس (من مجزوء الرمل): لك جسمي تعلّه … فدمي لم تحلّه؟ 1 فارتجل أبو فراس وقال (من مجزوء الخفيف): قال إن كنت مالكا … فلي الأمر كلّه فاستحسنه وأعطاه ضيعة بأعمال منبج تغلّ ألفي دينار في كلّ سنة.

ومن شعره أيضا (من الطويل): يجنّي عليّ الذنب والذنب ذنبه … وعاتبني ظلما وفي شقّه العتب إذا برم المولى بخدمة عبده … تجنّى له ذنبا وإن لم يكن ذنب وأعرض لمّا صار قلبي بملكه … فهلاّ جفاني حين كان لي القلب ويحكى أنّ سيف الدولة كان يوما جالسا والشعراء ينشدونه فتقدّم أعرابيّ رثّ الهيئة وأنشد يقول (من مجزوء الكامل): أنت عليّ وهذه حلب … قد نفد الزاد وانتهى الطلب بهذه تفخر البلاد وبال‍ … أمير تزهى على الورى العرب وعبدك الدهر قد أضرّ بنا … إليك من جور عبدك الهرب فقال سيف الدولة: أحسنت والله! وأمر له بمائتي دينار وراحلة. كانت ولادته سابع عشر ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثمائة. وقيل سنة إحدى وثلاثمائة. وتوفّي لخمس بقين من صفر سنة ستّ وخمسين وثلاثمائة بمدينة حلب. وكان قد جمع من نفض الغبار الذي تجمّع عليه في غزواته شيئا وعمله لبنة بقدر الكفّ وأوصى أن يوضع خدّه عليها في لحده فنفّذت وصيته في ذلك. وملك حلب في سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. وقيل: سنة اثنتين وثلاثين؛ انتزعها من أحمد بن سعيد الكلابي صاحب الإخشيد. وطالعت في بعض المجاميع أنّ أوّل (316) من ملك حلب من بني حمدن الحسين بن سعيد وهو أخو أبي فراس. فكان سيف الدولة قبل ذلك مالك واسط وتلك النواحي، وتقلّبت به الأحوال وانتقل إلى الشام وملك دمشق أيضا وكثيرا من بلاد الشام وبلاد الجزيرة. وغزواته مع الروم مشهورة، وللمتنبّي فيه وفي أكثر وقائعه قصائد مستفاضة على ألسنة الناس، وديوانه أشهر من أن يذكر. وسيأتي

ذكر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

من شعره في آخر هذا الجزء لمع ممّا يجري ذلك في باب المرقص والمطرب. وملك بعده ولده أبو المعالي شريف بن سيف الدولة. ولنعد إلى سياقة التاريخ بعون الله تعالى. ذكر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان ونصف إصبع. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا ونصف إصبع. <ما لخّص من الحوادث> فيها في شهر المحرّم وصل الإخشيد إلى الرقّة واجتمع بالمتّقي لله وسأله أن يسير معه إلى مصر فأبى. وأشار عليه بالمقام مكانه ومدّه بالمال وفارقه. ثم وصل توزون، وقبّل يد الإمام المتّقي لله ورجليه، وركب في خدمته، ونزل المتّقي هو وحرمه في مضرب توزون. وأنفذ توزون أحضر عبد الله المستكفي وبويع له، وسلّم إليه المتّقي فأخرجه إلى جزيرة بقرب السند بعد ما سملت عيناه وأقيم بين يدي المستكفي بالله وسلّم عليه بالخلافة وأشهد على نفسه بالخلع يوم السبت لعشر بقين من صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وله

(317) ذكر خلافة المستكفي بالله عبد الله بن المكتفي بالله وما لخص من خبره

يوم ذاك خمس وثلاثون سنة. وتوفّي في خلافة المطيع في شعبان سنة سبع وخمسين وثلاثمائة، وله يومئذ ستون سنة وأشهر. والله أعلم. <صفة المتقي رحمه الله: أبيض. أشهل. أشقر. كثّ اللحية لم يشب إلى حين خلع. ولد في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين. وزراؤه: أحمد بن محمد بن ميمون، ثم البريدي، ثم سليمان بن الحسين، ثم القراريطي، ثم الكرخي، ثم الإصبهاني، ثم عليّ بن محمد بن مقلة. حجّابه: سلامة الطولوني مولى خمارويه، ثم أحمد بن خاقان. نقش خاتمه: المتقي لله. وقيل: إبراهيم بن المقتدر بالله يثق بالله. والله أعلم>. (317) ذكر خلافة المستكفي بالله عبد الله بن المكتفي بالله وما لخّص من خبره هو أبو القاسم عبد الله بن المكتفي بالله. وباقي نسبه معلوم. وتسمّى

ذكر سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

بإمام الحقّ آخر هذه السنة، وضرب ذلك على الدينار والدرهم. أمّه أمّ ولد يقال لها غصن لم تدرك خلافته. بويع له بالسنديّة لعشر بقين من صفر سنة ثلاث وثلاثين-وهي هذه السنة-وله إحدى وأربعون سنة وأياما؛ وكانت سنة وأربعة أشهر خلافته حتّى خلعه معزّ الدولة بن بويه. وفي هذه السنة الإخشيد بمصر. وورد كتاب المستكفي بالله بتقليد القضاء لابن شعيب فلم يوافق الإخشيد على ذلك وأقرّ ابن هارون على الحكم. وعزل الكرخي عن الخراج ووليه جعفر بن الفضل. وخرج الإخشيد إلى الشام، واستخلف ابنه وأخاه أبا المظفّر على مصر. ذكر سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وستّة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المستكفي بالله أمير المؤمنين إلى أن خلع في هذه السنة في تاريخ ما يأتي ذكره.

ذكر الدولة البويهية ومبتدأ أمرها ملخصا

فيها توفّي الإخشيد بدمشق وكانت ولاية كافور الإخشيدي نيابة عن ابن مولاه أنوجور؛ وكانت ولايته نيابة واستقلالا إحدى وعشرين سنة وشهرين وعشرين يوما. ذكر إبراهيم بن إسماعيل القرشي أنه لمّا تولى ابن الإخشيد- وهو عليّ يلقّب أنوجور-صار الأمر لكافور والاسم لابن الإخشيد، واستقرّ ذلك بمصر والشام. وفيها توفّي توزون لثمان بقين من المحرّم من هذه السنة. وكانت إمارته سنتين (318) وأربعة أشهر وأياما. واجتمع الجيش على محمد بن يحيى بن شيرزاد كاتب توزون. ووصل بنو بويه في شهر جمادى الأولى من هذه السنة فقلّد المستكفي بالله أبا الحسين أحمد بن بويه الإمارة وخلع عليه وطوّقه وسوّره ولقّبه معزّ الدولة، ولقّب أخاه <أبا الحسن عليّا عماد الدولة ولقب أخاه> أبا عليّ الحسن بن بويه ركن الدولة وخلع أيضا عليه. ونزل الديلم دور الناس باليد ولم يكن ذلك فيما تقدم. ذكر الدولة البويهية ومبتدأ أمرها ملخّصا أمّا بنو بويه فأوّل من ملك منهم كان عماد الدولة أبو الحسن عليّ بن بويه فناخسرو الديلمي. وكان بويه فيما يقال صيّادا ولم تكن له عيشة غير صيد

السمك في أوّل أمره. وسبب تمليكه أنّه كان شجاعا مقداما، وكان في جيش أولاد الناصر للحقّ العلويّ. وقد تقدّم <خبر> مبارزته في ذلك الوقت. وانتشأ أولاده الثلاثة على ما كان عليه أبوهم من الشجاعة. ولمّا انقطعت دولة العلويّين، وتغلّب كلّ إنسان على طرف من ممالكهم ببلاد الديلم غلب عماد الدولة المذكور على شيراز، واتّفقت له أسباب عجيبة كانت سببا لثبات ملكه؛ ذكر ذلك أبو محمد هارون بن العبّاس المأموني في تاريخه أنّ عماد الدولة في أول ملكه اجتمع أصحابه وطالبوه بالأموال ولم يكن معه ما يرضيهم به وأشرف أمره على الانحلال فاغتمّ لذلك فبينا هو مفكّر قد استلقى على ظهره في مجلس قد خلا فيه للفكرة والتدبير إذ نظر إلى حيّة عظيمة قد خرجت من موضع من سقف ذلك المجلس ودخلت موضعا آخر فخاف أن تسقط عليه فدعا الفرّاشين وأمرهم بإحضار سلّم وأن تخرج الحيّة! فلمّا صعدوا وبحثوا (319) عن الحيّة فوجدوا ذلك السقف يفضي إلى غرفة بين سقفين فعرّفوه ذلك فأمرهم بفتحها ففتحت فوجد فيها عدّة صناديق من المال والمصاغات قدر خمس ماية ألف دينار فحمل المال بين يديه فسرّ بذلك وأنفقه في رجاله وثبت أمره بعد أن كان قد أشفى على الانخرام. ومن غرائب أسبابه أيضا أنّه قطع ثيابا وسأل عن خياط حاذق فوصف له خياط كان لصاحب البلد قبله فأمر بإحضاره-وكان أطروشا-فوقع له أنّه سعي به إليه في وديعة كانت عنده لصاحب البلد وأنه طلبه بهذا السبب! فلمّا خاطبه حلف أنّه ليس عنده إلاّ اثنا عشر صندوقا لا يدري ما فيها فعجب عماد الدولة من جوابه ووجّه معه من أحضرها فوجد فيها أموالا وثيابا بجملة كثيرة. وكانت هذه الأسباب من أقوى دلائل السعادة. ثم تمكّنت أحواله، واستقرّت قواعده، وأقام في الملك ستّة عشر سنة. ولمّا ملك كان سنّه اثنتين وعشرين سنة وعاش سبعا

وخمسين ولم يعقب وأتاه في مرضه أخوه ركن الدولة واتّفقا على تسليم البلاد- وهي بلاد فارس-إلى عضد الدولة ابن ركن الدولة فتسلّمها وكان من أمره ما كان. خلع المستكفي بالله في شهر جمادى الآخرة من هذه السنة. وسبب ذلك أنّ أبا جعفر بن شيرزاد قوّى عزم معزّ الدولة على خلعه فإنه كان قد استكتبه ثم إنّ قهرمانة المستكفي تعرف بعلم صنعت دعوة وأحضرت <جماعة> من الديلم فاتّهمها معزّ الدولة أنها أرادت تعقد على الديلم بيعة في نقض رئاسته فركب إلى دار السلطان لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين-وهي هذه السنة (320) ووقف بين يدي المستكفي بالله على رسمه وعادته، وتقدّم إلى المستكفي رجلان من الديلم فمدّا إليه أيديهما وصاحا صياحا عظيما بالفارسيّة فقدّر المستكفي أنّهما يريدان تقبيل يده فمدّها إليهما فجذباه بها وسحباه بعمامته في عنقه إلى مقام معزّ الدولة. ثم قبضوا على علم القهرمانة وابنيها. وسيق المستكفي إلى دار معزّ الدولة ماشيا، ونهبت دار السلطان. ثم أحضر المطيع وأقيم المستكفي بين يديه وسلّم عليه بالخلافة وأشهد على نفسه بالخلع، ثم سمل. ولم يزل في دار السلطان إلى أن توفي في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة؛ وله ست وأربعون سنة وأشهر. والله أعلم. صفته: أبيض، حسن الوجه قد وخّطه الشيب، خفيف العارضين، أسود الشعر سبطه. مولده شهر صفر سنة اثنتين وتسعين ومائتين. وكان جهوريّ الصوت.

ذكر خلافة المطيع لله الفضل بن جعفر المقتدر وما لخص من سيرته.

وزراؤه: أبو جعفر محمد السامريّ. ثم الشيرازيّ-وكان ابن شيرزاد الغالب على الأمر. حجابه: أحمد بن خاقان المفلحي. نقش خاتمه: لله المستكفي بالله. وقيل: لله الأمر. وقيل: محمد رسول الله. ذكر خلافة المطيع لله الفضل بن جعفر المقتدر وما لخّص من سيرته. هو أبو العباس وقيل أبو القاسم الفضل بن جعفر المقتدر بالله. وباقي نسبه قد علم. أمّه أمّ ولد يقال لها مشعلة أدركت خلافته، وماتت سنة خمس وأربعين وثلاثمائة. وبويع له في جمادى الآخرة من هذه السنة وله ثلاث وثلاثون سنة وشهور. وكان حصار بغداد في أيامه. (321) ومدبّر الملك معزّ الدولة ابن بويه.

ذكر سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

وقيل: في هذه السنة توفي الإخشيد بمصر وقيل بدمشق وهو الصحيح. وعادت الأمور إلى كافور نيابة عن أنوجور ابن الإخشيد. وفيها توفي محمد بن عبيد الله المهدي صاحب المغرب-حسبما يأتي من خبره في الجزء المختصّ بالعبيديّين. ذكر سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وثلاثة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المطيع لله أمير المؤمنين. وأنوجور ابن الإخشيد بمصر؛ ومدبّر أموره بها كافور الإخشيدي. وكذلك مدبّر الممالك الخليفية معزّ الدولة ابن بويه. ومتولّي الخراج بمصر جعفر بن الفضل إلى أن صرف عنه ووليه ابن عبد الوهّاب. والقاضي عبد الله بن الوليد على القضاء بمصر. وفيها ثار غلبون على الصعيد ثم دخل الفسطاط بالسيف فأقام ساعة من

ذكر سنة ست وثلاثين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

نهار ثم خرج عنها. ورجع أنوجور مع جماعة من أصحابه فمرّ غلبون منهزما إلى الصعيد من يومه! وأخرج إليه مرتاح الشرابي وجماعة كبيرة من الغلمان الإخشيدية فتبعوه إلى منية بني خصيب وكسروه وقتلوه وجيء برأسه وطيف بها على عود. وفيها توفي أبو العباس القاضي ابن الطبري صاحب ابن سريج القاضي رحمة الله عليهم. وقيل: في هذه السنة توفّي المستكفي. والأل أصّح. والله أعلم. ذكر سنة ست وثلاثين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة (322) الماء القديم ثلاثة أذرع وثلاثة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المطيع لله أمير المؤمنين. ومدبّر الممالك الخليفيّة معزّ الدولة ابن بويه. وابن شيرزاد الغالب على أمور الوزراء والكتّاب بكتابته لمعزّ الدولة. وأنوجور ابن الإخشيد ملك مصر اسما والغالب على الأمور كافور الخادم. والخراج لابن عبد الوهّاب. والقاضي بمصر ابن الوليد بحاله ثم عزل في آخر هذه السنة وولي إبراهيم بن ... من جهة الخلافة، وأضيف إليه فلسطين

والأردنّ. ثم تسلّم الحكم عمر بن الحسن بن أحمد بن شعيب واستخلف ابن الحدّاد الفقيه. وصرف ابن عبد الله عبد الوهاب عن الخراج ووليه محمد بن مقاتل. وفيها دخل كافور الإخشيدي من الشام إلى مصر لعشر بقين من رمضان. ونظرت في مسوّداتي أنّ في هذه السنة لم يكن تبقّى من الماء القديم بالمقياس شيئ حتّى يبس القاع، وأنّ الغلاء بمصر وتحريك الأسعار كان ابتداؤها من هذه السنة. والله أعلم. وكان سبب الغلاء بمصر وتحريك الأسعار كان ابتداؤها من هذه السنة. والله أعلم. وكان سبب الغلاء بمصر القحط الذي نزل بالشام في هذه السنة. قال صاحب البرق الشامي إنه حصل في هذه السنة في الشام بكماله غلاء عظيم حتّى أكلت الناس الميتة وبعضهم البعض فجلبت الناس الغلال من مصر؛ واتّفق خسّة نيلها فتحركت الأسعار أيضا بمصر. وفيها صادر كافور صالح بن نافع وأخذ منه أموالا جمة؛ وسببها أن صالحا كانت عنده غلال عظيمة فأباعها بأغلى الأثمان. ونفذ كافور يطلب منه غلالا ويستعيدها في قابل فاحتجّ أنه لم يبق عنده غير خمس ماية إردبّ! فسعي به فوجد عنه تسعة آلاف إردبّ برّ خارجا عن بقية الحبوب فأخذت منه وفرّقت وصودر وأخذت منه أموال عظيمة.

(323) ذكر سنتي سبع وثلاثين وثمان وثلاثين وثلاثمائة النيل المبارك في هاتين السنتين

(323) ذكر سنتي سبع وثلاثين وثمان وثلاثين وثلاثمائة النيل المبارك في هاتين السنتين الماء القديم ثلاثة أذرع وستة عشر إصبعا. الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. <الماء> القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعا. الزيادة ستة عشر ذراعا وإصبعان. لم يحدث شيئ فيذكر بحكم التلخيص قال صاحب البرق الشامي إنّه في سنة سبع وثلاثين فتح سيف الدولة ابن حمدان الروم. وفيها أمر كافور لتكين والي الإسكندرية بنفي بدر الدين إلى إقريطش فقال: والله لا فرّقت بينه وبين ولده! فبلغ كافور فنفذه إلى دمياط فأقام مدّة ولاية كافور مسجونا. وفي سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة كثر النزاع بين القضاة بمصر وحملوا أموالا عظيمة لكافور. وفيها كانت زلزلة عظيمة بمصر وخرج الناس على وجوههم هاربين إلى الصحارى. هذا ما ذكره صاحب البرق الشامي وأما غيره من جماعة أرباب التواريخ المصرية مثل القاضي القضاعي وابن عسكر وغيرهم فذكروا أنّ الزلزلة العظيمة كانت بمصر في سنة أربعين وثلاثمائة حسبما يأتي من ذلك.

ذكر سنتي تسع وثلاثين وأربعين وثلاثمائة النيل المبارك في هاتين السنتين

ذكر سنتي تسع وثلاثين وأربعين وثلاثمائة النيل المبارك في هاتين السنتين القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعا. الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة أصابع. القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعا. الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. الحوادث الخليفة المطيع لله أمير المؤمنين. ومدبّر الممالك معزّ الدولة بن بويه وأنوجور بمصر ومدبّر ملكه كافور. وفي هذه السنة وهي سنة تسع وثلاثين (324) لخمس خلون من ذي القعدة ردّ القرامطة الحجر الأسود إلى الكوفة ثم أعيد إلى مكّة شرّفها الله تعالى. وفي سنة أربعين كانت الزلزلة العظيمة بمصر في شهر صفر ثم عادت في ربيع الأول حتّى هجر الناس منازلهم وآدرهم وسكنوا الصحارى، وانشقّت عدّة أماكن من الأرض وظهر منها ماء منتن، وأقامت الزلزلة تعاود ستة أشهر. وفيها ابتدأ كافور بالجلوس للمظالم بحضرة القضاة والفقهاء، وكبر شأنه وقوي سلطانه، وورد عليه تقليد من جهة الإمام المطيع لله أمير المؤمنين بولاية مصر والشامات والحجاز، وعزل ابن مولاه أنوجور عليّ بن الإخشيد. فلمّا قرئ <منشوره> قام كافور وقبّل الأرض بين يدي ابن مولاه وقال: يا سيّدي!

لا يدعى لي بمنابر مصر إجلالا لك-يعني الجامع العتيق وجامع ابن طولون، ولا على منابر الرملة بسبب مولاي أبي المظفّر، ولا على منابر طبريّة بسبب مولاي أبو بكر بن محمد بن تكين؛ فاستحسن ذلك منه. فلمّا توفّي أبو المظفّر وابن تكين دعي لكافور على سائر منابر الشام. وكان كافور شديد الساعد لا يطيق أحد أن يمدّ قوسه إلاّ النادر من الناس؛ وكان إذا أتي برام شديد الساعد دعا بقوسه ويقول: إرم عليه! فإن عجز عنه أو ادّعى أنّه عجز عنه أعجبه ذلك وضحك وتقدّم عنده ذلك الرجل! وإن قوي على مدّها واستهان بها عبس <في> وجهه وسقطت منزلة ذلك الرجل عنده! وقيل إنّه أرسل قوسه إلى بغداد إلى خادم لبني بويه فعرّف مولاه أنّه سيّر قوسه إليه ليستعمل له عليهم عشرة قسيّ مثلها تكون في حيلها وقوّتها فقال ابن بويه: ما سيّر كافور قوسه إلاّ لتعرف قوّة ساعده! فبلغ ذلك كافور فأعجبه وانشرح لذلك. قال صاحب تاريخ القيروان إنّه بلغ ممّا كان (325) يعمل في مطبخ كافور لمّا قوي سلطانه وكثرت أمواله في كلّ يوم من اللحم ألفين وسبع ماية رطل، وخمسماية طائر دجاج، وألف طائر حمام، ومائة طائر إوزّ، وخمسون خروفا رميسا، ومائة جدي مسمّن، وعشرون فرخ سمك، وخمس مائة صحن حلواء في كلّ صحن عشرون رطلا، ومائتان وخمسون طبق فاكهة، وعشرة أفراد نقل، وألفين وخمسائة كوز فقّاع كبير، ومائة قرابة سكر وليمون. وكان قد

ذكر سنتي إحدى وأربعين واثنتين وأربعين وثلاثمائة النيل المبارك في هاتين السنتين

اجتمع عنده من المماليك الترك ألفين وخمسمائة مملوك بشراء ماله. وعظم أمره من هذه السنة وما بعدها. ذكر سنتي إحدى وأربعين واثنتين وأربعين وثلاثمائة النيل المبارك في هاتين السنتين الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعا. الزيادة ثمانية عشر ذراعا فقط. الماء القديم ستة أذرع وعشرون إصبعا. <الزيادة> ستة عشر ذراعا وستة أصابع. الحوادث الخليفة فيهما المطيع لله أمير المؤمنين. ومدبّر ممالكه معزّ الدولة بن بويه. وأنوجور بمصر اسما بغير رسم والأمور راجعة إلى كافور حسبما تقدّم. وفي سنة إحدى كانت خلافة المعزّ العبيدي بالمغرب. وفيها وصلت مراكب الروم إلى الإسكندرية يطلبون الفداء فأنعم لهم بذلك. ذكر سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وسبعة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة أصابع.

الحوادث

الحوادث الخليفة المطيع لله أمير المؤمنين. ومعزّ الدولة بن بويه مدبّر الممالك (326) وكذلك كافور الإخشيدي بمصر. وفيها كان الحريق العظيم بمصر؛ وأحرق سوق الزيّاتين وقيسارية العسل وأصبح الناس على خطر عظيم فأمر الأمير كافور بالنداء من أتى براوية ماء أو حمار جرار ماء أو جرّة على كتفه فله درهم. وبلغ ما أحرق ألف وسبعمائة دار، ووصل الحريق إلى شاطئ النيل. وحسب ما أنفق على طفيه فكان أربعة عشر ألف درهم. وفيها كان طاعون عظيم حتى تفانت الناس. وفيها نزلت الروم الفرماء فنفر المسلمون إليهم وكان بينهم حرب. وفيها أوقع سيف الدولة بن حمدان ببني كلاب. وفيها توفّي الحميد ملك خراسان الساماني وقام بالملك أبو الفوارس عبد الملك بن نوح. توفّي نوح بن نصر بن أحمد بن إسماعيل الساماني في شهر ربيع الآخر من هذه السنة بعد حروب ووقائع جرت بينه وبين بني بويه لما كانوا عليه من نصرة ابن محتاج المقدّم ذكره؛ فأضربت عن جميع ذلك طلبا

للإيجاز. فكانت مدة مملكته إلى حين وفاته اثنتي عشرة سنة وثلاثة أشهر. أولاده: أبو الفوارس عبد الملك القائم بالأمر بعده، أبو صالح منصور. أصفهسلار جيوشه أبو علي بن محتاج حتّى كان منه ما ذكر. ثم كان الأمير منصور بن قراتكين. ثم كان الأمير سعيد بكر بن مالك. وأمّا أبو الفوارس المذكور فلقّب في حياته بالموفّق وبعد وفاته بالرشيد كعادة ملوك خراسان. ولمّا ولي الرشيد بعد أبيه الحميد أبقى بكر بن مالك على أصفهسلاريته وبعث إلى أبي علي بن محتاج وهو بنيسابور؛ فسار بكر وضبط الطريق فلم يرعه إلاّ دلوفه عليه بالعساكر ففرّ ابن محتاج بالعسكر الذي خفّ معه من أصحابه ودخل بكر نيسابور. (327) وكتب ابن محتاج إلى ركن الدولة ابن بويه فسار إليه بنفسه واجتمعا على جرجان وتعاقدا على قتال بكر بن مالك. وكتب بكر إلى الرشيد فحشد عساكر خراسان وبعثها إلى بكر فلمّا بلغ ركن الدولة وابن محتاج ذلك أحجما عنه ورجعا إلى الريّ، وكاتباه على الصلح، وبذل له ابن بويه من مال الريّ مائتي ألف دينار في كلّ عام! فاستأذن الرشيد في ذلك فأذن له وتمّ الصلح. وورد أبو الفضل القاشاني صاحب البريد من حضرة ركن الدولة بالمال المبذول جملة وصحبته كتاب من الإمام المطيع لله أمير المؤمنين يذكر فيه أنه رسم أن يحمل من مال الريّ كلّ سنة مايتي ألف دينار معونة لعساكر خراسان على استقبال سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. <و> في صاحب البريد هذا يقول الشاعر (من مجزوء الرمل): يا أبا العبّاس لو تع‍ … لم من والي البريد لبكيت الدين والدن‍ … يا بدمع كالفريد

ذكر سنتي أربع وأربعين وخمس وأربعين وثلاثمائة النيل المبارك في هاتين السنتين

وجه شيطان مريد … واست بغّاء مريد وقفا ليّنه الصف‍ … ع ووجه كالحديد ثم تعاظم بكر وتكبّر فلمّا رجع صوّروه عند الرشيد بغير صورته، وذكروا عنه أنه يريد ينصّب أخا الرشيد منصورا في المملكة فحضر الدار ليخلع عليه ويطوّق فبينا هو ينتظر الخلع إذ خبطته السيوف! وجرت أمور كثيرة أضربت عنها لطولها. واستقرّ الرشيد بمملكة خراسان إلى سنة خمسين وثلاثمائة حسبما يأتي ذكره في تاريخه إن شاء الله تعالى. ذكر سنتي أربع وأربعين وخمس وأربعين وثلاثمائة النيل المبارك في هاتين السنتين الماء القديم خمسة أذرع فقط. الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة أصابع. الماء القديم ستة أذرع وأربعة أصابع. الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا. (328) الحوادث الخليفة فيهما المطيع لله أمير المؤمنين. ومعزّ الدولة مدبّر الممالك الخليفيّة. وكذلك الأمير كافور الإخشيدي بالديار المصرية والبلاد الشاميّة والأقطار الحجازيّة. وفي سنة أربع ولد العزيز ابن المعزّ العبيديان ملوك المغرب-حسبما يأتي من ذلك. وفيها وصل ملك النوبة إلى أسوان ونهبها وقتل كلّ من كان بها. فنفذ إليه كافور محمد بن الحارث في جيش كثيف فمسك ملك النوبة، وفتح دنقلة

ذكر سنة ست وأربعين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

وأحضره مقيّدا إلى بين يدي كافور؛ فعفا عنه ونفذه إلى بلاده؛ وذلك في سنة خمس. وفيها ترهّب الدمستق ولبس الصوف. وفيها توفّي القاضي أبو بكر صاحب «كتاب الفروع». وفيها توفّي أبو القاسم الرسّي الحسني نقيب الطالبيين، واستقرّ عليّ بن الحسن ابن طباطبا نقيبا مكانه-كما يأتي خبره في موضعه إن شاء الله تعالى. ذكر سنة ستّ وأربعين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ستّة أذرع وأربعة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المطيع لله أمير المؤمنين. ومعزّ الدولة ابن بويه بحاله. وكذلك الأمير كافور الإخشيدي. فيها جرت عدّة حوادث عظيمة منها ببلاد الطالقان حصل بها خسف عظيم تقدير ماية وخمسين قرية من أرضها وأرض دينا وصارت جميعها نارا. وكذلك بأرض الريّ في عدة هذه القرى. واتّصل ذلك إلى أعمال حلوان فخسف بها

ذكر سنتي سبع وأربعين وثمان وأربعين وثلاثمائة النيل المبارك في هاتين السنتين

أيضا عدّة قرى أخر، وقذفت الأرض بما فيها وطلعت عظام الموتى من القبور، (329) وتفجرت من الأرض المياه، وتقطّع بالريّ جبل يقال له طول وكذلك عدّة جبال من جبال حلوان دكّوا دكا حتى قيل كان هاهنا جبال! وعلقت قرية من قرى الريّ بين السماء والأرض من بكرة النهار إلى الظهر ثم خسف بها وبجميع من كان فيها. وتفرقت الأرض فرقا عظيما، وخرجت منها مياه منتنة ودخان عظيم. ذكر جميع هذا الشيخ الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه المعروف بمرآة الزمان-وهو تاريخ جليل يشتمل على غرائب الأحاديث. وفيها نقص البحر المالح وظهرت من وسطه جبال وجزائر لم تر إلاّ في تلك السنة. وفيها قدم المتنبّي الشاعر من عند سيف الدولة إلى كافور الإخشيدي وامتدحه، فأجازه جوائز عظيمة. والله أعلم. ذكر سنتي سبع وأربعين وثمان وأربعين وثلاثمائة النيل المبارك في هاتين السنتين الماء القديم خمسة أذرع وتسعة عشر إصبعا. الزيادة ستة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا. الماء القديم سبعة أذرع وتسعة عشر إصبعا. الزيادة سبعة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا.

الحوادث

الحوادث الخليفة المطيع لله أمير المؤمنين. ومعزّ الدولة مدبّر الممالك الخليفيّة. وكذلك الأمير كافور الإخشيدي بمصر. وفي سنة سبع عادت الزلازل بحلوان وقم وقاشان، وأتلفت خلقا عظيما، وهدّمت الحصون والقلاع والأبنية الماكنة. وفيها ظهر ببلاد الشرق جراد عظيم وتوصّل إلى أن عمّ الشرق والغرب، وأتى على جميع الزروعات والفواكه حتّى أكل أوراق الأشجار. وفي (330) سنة ثمان نافق شبيب العقيلي وفتح دمشق عنوة، ودخل من باب الجابية. وفيها بلغ القمح كلّ إردبّ دينارين مصريّة. ذكر سنة تسع وأربعين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا فقط. ما لخّص من الحوادث الخليفة المطيع لله أمير المؤمنين. ومعزّ الدولة مدبّر الممالك الخليفيّة؛ وكذلك كافور الإخشيدي بمصر.

ذكر سنة خمسين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

وفيها ظفر إسحاق بن عيسى ببلاد أرمينية، وخلع ودعا لنفسه وتلقّب المستجير بالله. وفيها وقعت الفتنة بين الشيعة والسنة ببغداد. وفيها فتحت الروم الهارونيّة، وهدّموا مساجدها وسبوا أهلها فثارت الرعيّة إلى كنيسة الروم فأخربوها وكانت فتنة عظيمة. ثم إنّ كافور جهّز مراكب الجهاد وشحنها بالرجال، وازدحمت في مركب منهم الرجال فانقلبت بهم المركب فغرق منه أربع ماية نفر فصعب على كافور وتطيّر من ذلك. وفيها فتح الإفرنج جزيرة إقريطش. وفيها توفي أنوجور بن الإخشيد من علّة لحقته في مذاكيره؛ وكان كافور كارها له فأقام أخوه عليّ بن الإخشيد مكانه باسم الإمرة من غير أن يكون له حكم. ذكر سنة خمسين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وأحد وعشرين إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذرعا وسبعة أصابع

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث (331) الخليفة المطيع لله أمير المؤمنين. ومعزّ الدولة مدبّر الممالك الخليفيّة. وكافور الإخشيدي بمصر على حاله. وفيها توفي عبد الملك بن نوح ملك خراسان السامانيّ. وكان قد أنفذ إليه ألبتكين من نيسابور خيولا عدّة فعرضت عليه وهو في الميدان فجعل يركب فرسا ويركضها ثم ينتقل عنها إلى غيرها إلى أن أذراه أحدها فاندقّ عنقه فحمل ميّتا لتسع خلون من شوّال من هذه السنة؛ فكانت مدّة ملكه سبع سنين. وفي أيامه سنة تسع وأربعين أسلم من الأتراك مائتي ألف خركاه. وقام بالمملكة السامانية أبو صالح منصور بن نوح. لقّب في حياته بالمظفّر وبعد وفاته بالسديد. ولمّا توفي الرشيد ولي أخوه هذا وهو منصور بن نوح بن نصر بن أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان خداه. فلمّا ولي تحرّك ألبتكين لتجديد عهده بخدمته من نيسابور إلى بخارى واستخلف محمد بن عبد الرزّاق فكوتب محمد من بخارى بصدّه ومنابذته لأنه كان أشار بأن يولّى بعض أولاد الرشيد وكره ولاية السديد. وجدّدت ولاية الجيوش لابن عبد الرزّاق فتحرك إلى ألبتكين وصدّه فتوجّه إلى غزنة وأقام بها متوفّرا على غزو الهند إلى أن أدركه أجله، ورجع عسكره إلى بخارى. وزراؤه: أبو علي البلعمي وزير أخيه؛ وهو الذي قيل فيه هذا (من الخفيف):

ذكر سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

إنّ ذا البلعميّ والعين غين … هو عيب على الزمان وشين وأبو عبد الله أحمد بن محمد الجيهاني استوزره في السنة التي توفّي فيها وفيه يقول الشاعر (من مجزوء الرمل): (332) لا لسان لا بيان … لا رواء لا عباره قد قبلناك ولكن … أين آثار الوزاره ذكر سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المطيع لله أمير المؤمنين. ومعزّ الدولة بن بويه بحاله. وكذلك الأمير كافور الإخشيدي بمصر. وفيها فتح نقفور ملك الروم حلب وأحرق المصاحف، وهدّم دار سيف الدولة التي كانت داخل باب الجنان وحمل سقفها إلى بلاد الروم مع منبر الجامع.

(333) ذكر سنة اثنين وخمسين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

واعتصم سيف الدولة بقنّسرين، وأسر أبو فراس بن حمدان. وانتقل ملك الروم وحاصر أنطاكية. وفيها كتبوا العامّة ببغداد لعنة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه على حيطان المساجد ببغداد، ولعنة من منع فاطمة عليها السلام حقّها، ومن منع الحسين وأخوه الحسن حقّهما وأن يدفنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ثم إنّ الذي كتب على حيطان المساجد محي في الليل فأراد معزّ الدولة بن بويه أن يعيده فمنعه أبو محمد المهلّبي الوزير وأشار عليه أن يكتب مكانه: لعن الله الظالم لآل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الأوّلين والآخرين! فصاحت العامّة: لا! لا! بل لعنة معاوية لا غير! وفيها بني المارستان والسقاية بمصر. وفيها وردت شيوخ طرسوس إلى كافور فقال منهم علي المطوري: {يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ... } فجهّز السقلى في عسكر عظيم حتّى دخلوا الثغور واستعانوا بسيف الدولة فلم يغثهم. (333) ذكر سنة اثنين وخمسين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وخمسة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وأربع أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المطيع لله أمير المؤمنين. ومعزّ الدولة بحاله. وفي يوم الأحد عاشر المحرّم أمر معزّ الدولة تغلق الأسواق ويلبسوا المسوح، ونصبوا القيان في

ذكر سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة (334) النيل المبارك في هذه السنة

الأسواق مسوّدات الثياب، والنساء منشورات الشعور مسوّدات الوجوه، يلطمن الخدود بالأسواق والشوارع، ويقيموا المآتم على الحسين بن عليّ عليه السّلام. ولم يكن لأهل السنّة مقاومة لأهل الشيعة لأجل معزّ الدولة لأنّه كان رأس الشيعة. وكانت هذه السنة أوّل ابتداء المناح على الحسين ببغداد. وفيها أرسلت بطارقة الأرمن إلى ناصر الدولة رجلين ملتصقين عمرهما خمسة وعشرين سنة وأبوهما معهما وهما ملتصقان من تحت إبطيهما، ولهما بطنان وصرتان ومعدتان، ولكلّ منهما يدين ورجلين، كاملين جميع الأعضاء، وقصد ناصر الدولة إقصاءهما فأحضر الأطباء والجرائحية فسألهما هل يجوعان جميعا ويعطشان جميعا ويتغوّطان جميعا؟! فقالا: نعم! فعلما أن متى فصلوهما ماتا جميعا. ثم إنّ أحدهما مات وبقي أياما فنتن وبقي أخوه حي فلحقه بعد أيام يسيرة. وذكر أبوهما أنّهما يختصمان في بعض الأوقات ويتغاضبان ويقيمان الأيام لا يتكالمان، وربّما أصلح بينهما أبوهما! والله أعلم. ذكر سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة (334) النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة المطيع لله أمير المؤمنين. ومعزّ الدولة بن بويه بحاله. وكذلك الأمير كافور الإخشيدي بمصر. فيها فتح الروم المصّيصة. وجاء الخبر بفتح طرسوس أيضا في شعبان على الأمان. وفيها عاد النواح على الحسين؛ ووقعت فتنة عظيمة بين السنة والشيعة، وجرح بينهم خلق كثير ونهبوا بعضهم بعضا. ذكر سنة أربع وخمسين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المطيع لله أمير المؤمنين. ومعزّ الدولة بحالة. وكذلك كافور الإخشيدي. وفيها توفّي ابن مولاه واستقرت الدعوة بالمنابر للأمير كافور في جميع الديار المصريّة والبلاد الشاميّة.

ذكر سنة خمس وخمسين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

وفيها أمطرت ببغداد بردا زنة كلّ حصوة ماية وخمسون درهم وأقلّ وأكثر، وقتلت شيئا كثيرا من الطير والمواشي. وفيها قتل المتنبّي الشاعر في الوقعة بين الروم وبين سيف الدولة وكانت الكسرة على سيف الدولة فلمّا انهزم الجيش ولّى المتنبّي منهزما في الجملة فقال له غلامه: كيف تنهزم وأنت القائل (من البسيط): والخيل والليل والبيداء تشهد لي … والطعن والضرب والقرطاس والقلم فقال لغلامه: قتلتني قتلك الله! وكرّ راجعا وحمل فقتل! وهو أحد الشعراء (335) الذين ضرّهم شعرهم. وفيها عاد النواح على الحسين ببغداد على ما تقرّر عليه الحال في السنتين الماضيتين، والله أعلم. ذكر سنة خمس وخمسين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراعان وأربعة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة اثنا عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المطيع لله أمير المؤمنين. ومعزّ الدولة بحاله. وكذلك الأمير كافور الإخشيدي بمصر. وقوي سعر الغلال في هذه السنة بمصر وكانت سنة صعبة شديدة على الناس.

ذكر سنة ست وخمسين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

وفيها فتحت الروم قنّسرين وأحرقوا جامعها. وفيها عمل النواح على الحسين ببغداد على حسب العادة. ذكر سنة ستّ وخمسين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ذراع واحد وعشرين إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المطيع لله أمير المؤمنين. ومعزّ الدولة <بحاله> إلى أن توفّي في شهر ربيع الآخر وقام بأمر المملكة ببغداد عزّ الدولة أبي منصور بختيار. وفيها مات سيف الدولة ابن حمدان رحمه الله. وقام بأمر المملكة ولده حسبما تقدم من ذكره. وفيها توفي كافور الإخشيدي في رواية. وقيل في سنة سبع وخمسين؛ وهو الصحيح.

(336) ذكر سنة سبع وخمسين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

وفيها كان النواح على الحسين كجاري العادة في حياة معزّ الدولة وقبل وفاته. وكانت فتنة بين السنة والشيعة، وانتصر معز الدولة للشيعة. (336) ذكر سنة سبع وخمسين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وثلاثة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وتسعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المطيع لله أمير المؤمنين. ومدبّر الممالك الخليفيّة عزّ الدولة بختيار ابن معزّ الدولة بن بويه. وفيها توفّي أبو المسك كافور الإخشيدي إلى رحمة الله تعالى. وكانت ولايته مصر نيابة واستقلالا أحد وعشرين سنة وشهرين وعشرين يوما. وقام بولاية مصر بعده أبو الفوارس أحمد بن علي بن محمد الإخشيد، ودعي له بالإمارة على منابر مصر وهو يومئذ ابن إحدى عشرة سنة، والحسين بن عبد الله بن طغج خليفته، والوزير أبو الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات المدبّر. وفيها قدم الحسن بن عبيد الله بن طغج من الشام ودعي له على منابر

مصر ثم خرج إلى الشام وكانت حروب ووقائع يأتي ذكرها في الجزء التالي لهذا الجزء إن شاء الله تعالى. وفيها كان الغلاء بمصر، واشتغلت الإخشيدية عن النظر في حال الناس بالنزه واللهو والطرب، وعادت الناس في أشدّ ما يكون. ووجد في القصر رقعة مكتوب فيها بخط لا يشاكل خطّ الكتّاب حتى قيل إنّ الجنّ كتبوها فيها مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم. {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى} الآية. وقدرتم فأسأتم، وملكتم فتخلّيتم، ووليتم فظلمتم، وحكمتم فجرتم، ودرّت عليكم الأرزاق فقطعتم أرزاق العباد، واغتررتم بصفو أيامكم ولم تنظروا في العواقب، ولم تراقبوا المراقب، وانعكفتم (337) على اللذات، واستهترتم بسهام الليل الصائبات لا سيّما إذا خرجت من قلوب أحرقتموها، وأكباد أجعتموها! ولو تأملتم حقّ التأمّل لانتهيتم عمّا فعلتم، وبكيتم على ما قدّمتم! هذا مع كلام كثير آخره يقول: فكفى بمحنة ملك أن يكون موته فرجا لأصدقائه، وفرحا لأعدائه! فاعملوا ما شئتم إنّا صابرون، وجوروا ما استطعتم فإنّا عليكم بالله مستجيرون، وادّرعوا بعزّكم وسلطانكم فإنّا بالله متدرّعون، واعملوا إنّا عاملون، وانتظروا إنّا منتظرون! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. فلم يقم أمر الإخشيد بعد هذه الورقة إلاّ سنة وأخذهم الله بما كانوا يفعلون. ولمّا اشتدّ البلاء بالناس من وجوه عدّة كاتبوا المعزّ الفاطميّ وهو يومئذ بالقيروان، وتوجّه إليه جماعة من وجوه مصر بعد خطوب كثيرة وأحوال منكرة. فجهّز المعزّ قائده جوهر فإنه اختشى أن تكون مكيدة عليه من جهة الخلفاء

ذكر سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة

العباسيين؛ فنفذ عبده جوهر في جيوش كثيفة وخزائن وأموال فلمّا شارف مصر خرج إليه أعيان الناس يطلبون الأمان فكتب لهم كتابا استوعب فيه جميع الألفاظ مما يليق بالأمانات. ثم بعد ذلك اجتمعت الكافوريّة والإخشيدية ووجوه العساكر المصرية وتهيأوا للقتال وعدوا إلى الجيزة، ووقعت الحرب بينهم، وقتل جمع من الفريقين، ووقعت الكسرة على الإخشيديّة وهربوا ودخلوا منازلهم، وأخذوا ما عزّ عليهم، وهربوا إلى الشام. ذكر سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة النيل المبارك في هذه السنة الماء القديم (338) ما لخّص من الحوادث الخليفة المطيع لله أمير المؤمنين. وعزّ الدولة بختيار مدبّر الممالك الخليفيّة. وفيها دخل القائد جوهر إلى الفسطاط يوم الثلاثاء بعد العصر لسبع عشرة ليلة خلت من شعبان من هذه السنة وبنوده تخفق وطبوله تضرب، وعليه قميص ديباج، وأحمال المال بين يديه على بغال في صناديق عدّتها ألف وخمسمائة صندوق. ونزل في ساحة موضع بنيت القاهرة المحروسة. وأخذ الناس في الحضور إليه أولا فأولا وهو يقبل عليهم ويخلع وينعم. وأقام العسكر ينجرّ من الجيزة إلى مناخ القائد جوهر سبعة أيام. ثم إنه اختطّ مكان القصر وبادر إلى مولاه المعزّ يبشّره بالنصر والظفر ويهنئه بالفتح. وروى صاحب تاريخ

فصل يتضمن ذكر المخضرمين من صدر شعراء الدولتين الأموية والعباسية.

القيروان أنه لما ورد على المعزّ التهاني بالفتح جلس مجلسا عاما وأنشدته الشعراء مدائح منتخبة بشائر الفتح يأتي منها شيئ في الجزء المختصّ بذكرهم إن شاء الله تعالى. وخرجت مصر والشام والحجاز من دولة بني العبّاس. وإلى هاهنا في هذا الجزء أثنينا عنان الكلام في التاريخ المختصّ بالخلفاء من بني العباس لنبتدئ تتمة ذلك في الجزء المختص بذكر الخلفاء العبيديين. ويكون ابتداؤنا بذكرهم في أول ذلك الجزء السادس. ولنتلو الآن هذا الكلام بذكر بقية من أغفلنا عن ذكره من شعراء صدر الإسلام وهم المسمّون <بالمحدثين الذين حدثوا عن المولودين> في الملة الإسلامية. والمخضرمون أيضا بدولتي الأموية والعباسية. إذ تقدم القول من العبد في كلّ جزء من هذا التاريخ وما اختصّ به من شعراء زمانه (339)،وفحول أوانه معتمدا في ذلك كلّه على من له الأمر كلّه. فصل يتضمن ذكر المخضرمين من صدر شعراء الدولتين الأمويّة والعباسيّة. الرمّاح بن أبرد. له في المطرب (من الطويل): وما أنس ما الأشياء لا أنس قولها … وأدمعها تذرين حشو المكاحل تمتّع بذا اليوم القصير فإنه … رهين بأيام الفراق الأطاول طريح بن إسماعيل. له في المطرب (من الوافر):

تخلّ لحاجتي واشدد قواها … فقد أمست بمنزلة الضياع إذا أرضعتها بلبان أخرى … أضرّ بها مشاركة الرضاع وقوله هذا كان لعبد الحميد كاتب مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية؛ وقد كلّفه قضاء حاجة وسأله استنجازها فقال: جعلتها في جملة الحوائج! المستهلّ بن الكميت. له في المرقص (من الكامل): غرّاء تسحب من قيام فرعها … وتغيب فيه وهو ليل أسحم فكأنها فيه نهار مشرق … وكأنه ليل عليها مظلم الحسين بن مطير. له في المرقص (من الطويل): مخصّرة الأوساط زانت عقودها … بأحسن مما زيّنتها عقودها يمنيننا حتى ترفّ قلوبنا … رفيف الخزامى بات كلّ يجودها وقوله (من الطويل): فتى عيش في معروفه بعد موته … كما كان بعد السيل مجراه ممرعا مروان بن أبي حفصة. له في المرقص (من الكامل):

ذكر الباقين من شعراء صدر الدولة العباسية الكائنين في آخر المائة الثانية

مسحت ربيعة وجه معن سابقا … لمّا جرى وجرى ذوو الأحساب وجرت به غرّا سوابق زانها … كرم النجار وصحّة الأنساب <قوم رواق المكرمات عليهم … عالي السماك ممدّد الأطناب> (340) بشّار-وقد تقدّم-له في المرقص (من الطويل:): كأنّ مثار النقع فوق رؤوسنا … وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه وقوله (من الطويل): إذا ما جئته في حاجة سدّ بابه … فلم تلقه إلاّ وأنت كمين ذكر الباقين من شعراء صدر الدولة العبّاسية الكائنين في آخر المائة الثانية أبو نواس-وقد تقدّم-فمن مرقصاته يصف الخمرة (من المديد): فتمشّت في مفاصلهم … كتمشّي البرء في السقم وقوله (من الطويل): وحمراء قبل المزج صفراء بعده … كأنّ شعاع الشمس يلقاك دونها ترى العين تستكفيك من لمعانها … وتحسر حتّى ما تقلّ جفونها كأنّ يواقيتا بصحن إنائها … وزرق سنانير تدير عيونها

وقوله (من الكامل): قال ابغني المصباح قلت له اتّئد … حسبي وحسبك ضوءها مصباحا فسكبت منها في الزجاجة شربة … كانت لنا حتّى الصباح صباحا شكّ البزال فؤادها فكأنما … أهدت إليك بريحها تفّاحا عمرت تكاتمك الزمان حديثها … حتّى إذا بلغ السآمة ساحا وقوله (من الكامل): وإذا علاها الماء ألبسها … زبدا شبيه جلاجل الحجل حتّى إذا سمكت جوانبها … كبّت بمثل أكارع النمل وقوله (من الكامل): يا من بدائع حسن صورته … تثني عليه أعنّة الحدق وقوله (من الخفيف): بصحن خدّ لم يغض ماؤه … ولم تحطه أعين الناس وقوله (من المنسرح): مباحة ساحة القلوب له … يرتع فيها أطايب الثمر وقوله (من البسيط): بانوا وفيها شموس دجن … تثقل أقدامها القرون تعوم أعجازهنّ عوما … وتنثني تحتها المتون

(341) والبة بن الحباب. له في المرقص (من مجزوء الكامل): ولها ولا ذنب لها … حبّ كأمثال الرماح بالقلب يعبث دائما … فالقلب مجروح النواحي العبّاس بن الأحنف. له في المرقص (من المنسرح): أحرم منكم بما أقول وقد … نال <به> العاشقون من عشقوا صرت كأنني ذبالة نصبت … تضيء للناس وهي تحترق وقوله (من الكامل): والنجم في كبد السماء كأنه … أعمى تحيّر ما لديه قائد وله في المطرب (من البسيط): همّت بإتياننا حتّى إذا نظرت … إلى المراة نهاها وجهها الحسن وقوله؛ ويروى للمجنون (من الكامل): يكون أجاجا دونكم فإذا انتهى … إليكم تلقّى نشوكم فيطيب أبو العتاهية؛ وقد تقدم له في المطرب (من الطويل): ليالي تدني منك بالقرب مجلسي … ووجهك من ماء البشاشة يقطر

ذكر شعراء المائة الثالثة في الدولة العباسية

وقوله (من المتقارب): أتته الخلافة منقادة … إليه تجرّر أذيالها فلم تك تصلح إلاّ له … ولم يك يصلح إلاّ لها سلم الخاسر. سمّي كونه باع مصحفا وشرى بثمنه طنبورا! له في المطرب (من المنسرح): لا تسأل المرء عن خلائقه … في وجهه شاهد من الخبر وقوله (مجزوء الكامل): أعطاك قبل سؤاله … فكفاك مكروه السؤال ذكر شعراء المائة الثالثة في الدولة العباسية حبيب بن أوس الطائي المكنّى بأبي تمّام؛ قوله (من الكامل): وإذا أراد الله نشر فضيلة … طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النار فيما جاورت … ما كان يعرف فضل طيب العود (342) وقوله في المرقص (من البسيط): يقول في قومس صحبي وقد أخذت … من السرى وخطى المهريّة القود أمطلع الشمس تبغي أن تؤمّ بنا … فقلت كلاّ ولكن مطلع الجود وقوله (من الطويل): كواعب زارت في ليال قصيرة … حكين لي من حسنهنّ كواعبا وجوه لو أنّ الأرض فيها كواكب … توقّد للساري لكانت كواكبا

وقوله (من الكامل): من كان مرعى عزمه وهمومه … روض الأماني لم يزل مهزولا وقوله (من الخفيف): إنما البشر روضة فإذا كا … ن ببذل فروضة وغدير فتكلّم بما تجمجم فالمن‍ … طق عنوان ما تجنّ الصدور وقوله (من الطويل): أصمّ بك الناعي وإن كان أسمعا … وأصبح عرنين المكارم أجدعا وما كنت إلاّ السيف لاقى ضريبة … فقطّعها ثم انثنى فتقطّعا وقوله (من الطويل): ألا في سبيل الله من عطّلت له … فجاج سبيل الله وانثغر الثغر فتى كلما فاضت عيون قبيلة … دما ضحكت عنه الأحاديث والذكر كأنّ بني نبهان يوم وفاته … نجوم سماء خرّ من بينهم بدر وله في المطرب (من الطويل): كريم متى أمدحه أمدحه والورى … معي وإذا ما لمته لمته وحدي وقوله (من البسيط): ظبي تقنصته لمّا نصبت له … في آخر الليل أشراكا من الحلم عبد الصمد بن المعذّل. له في المطرب (من المتقارب): أقول وجنح الدجى ملب‍ … د والليل في كلّ فجّ يد

عبد السلام بن رغبان ديك الجنّ؛ في المرقص (من الطويل): بها غير معدول فداو خمارها … وصل بعشيّات الغبوق ابتكارها مشعشعة من كفّ ظبي كأنما … تناولها من خدّه فأدارها دعبل الخزاعي. له في المرقص (من المتقارب): (343) وداعك مثل وداع الربيع … وفقدك عندي كفقد الديم وله في المطرب (من البسيط): إنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا … من كان يألفهم في المنزل الخشن أبو الشيص. له في المطرب (من الطويل): وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي … متأخّر عنه ولا متقدّم أجد الملامة في هواك لذيذة … حبا لذكرك فليلمني اللوّم عبد الله الربيعي. له في المرقص (من البسيط): كأنني ثمل من النديم ضحى … عنه بأقداحه من بعد ميثاق وكلّ كفّ رآها ظنّها قدحا … وكلّ شخص رآه ظنه الساقي

إبراهيم بن المهدي. له <من> المطرب (من الطويل): إذا كلّمتني بالعيون الفواتر … رددت عليها بالدموع البوادر فلا يعلم الواشون ما كان بيننا … وقد قضيت حاجاتنا في الضمائر عليّة أخته بنت المهدي. لها في المطرب (من الطويل): وأحسن أيّام الهوى يومك الذي … تروّع بالهجران فيه وبالعتب إذا لم يكن في الحبّ سخط ولا رضى … فأين حلاوات الرسائل والكتب محمد بن عبد الملك الزيّات. له في المرقص (من البسيط): ما لي إذا غبت لم أذكر بواحدة … وإن مرضت وطال السقم لم أعد ما أعجب الشيئ ترجوه وتحرمه … قد كنت أحسب أني قد ملأت يدي الحسين بن الضحّاك الخليع. له في المطرب (من الطويل): وكالوردة الحمراء أحيا بأحمر … من الخمر يسعى في غلائل كالورد له عبثات عند كلّ تحية … بعينيه تستدعي الحليم إلى الوجد رعى الله عصرا لم أبت فيه ليلة … من الدهر إلاّ من حبيب على وعد (344) أبو علي البصير. له في المرقص (من الوافر): لعمر أبيك ما نسب المعلّى … إلى كرم وفي الدنيا كريم

ولكنّ البلاد إذا اقشعرّت … وصوّح نبتها رعي الهشيم إبراهيم الصولي. له في المطرب (من السريع): وليلة من الليالي الغرّ … قابلت فيها بدرها ببدري لم تك إلاّ شفقا وفجر … حتّى تقضّت وهي بكر الدهر عليّ بن الجهم. له في المرقص (من الطويل): وقلن لنا نحن الأهلّة إنما … نضيء لمن يسري إلينا ولا نقري فلا نيل إلاّ ما تزوّد ناظر … ولا وصل إلاّ بالخيال الذي يسري ولكنّ إحسان الخليفة جعفر … دعاني إلى ما قلت فيه من الشعر فسار مسير الشمس في كلّ بلدة … وهبّ هبوب الريح في البرّ والبحر خالد الكاتب. له في المطرب (من السريع): رقدت ولم ترث للساهر … وليل المحبّ بلا آخر يزيد بن <محمد أبو> خالد المهلّبي. له في المرقص (من الطويل): ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلّها … كفى المرء نبلا أن تعدّ معايبه

وقوله (من الخفيف): إن تغيبي عنّا فسقيا ورعيا … أو تحلّي بنا فأهلا وسهلا أبو عبادة البحتري. له في المرقص (من الكامل): شرفا تتابع كابرا عن كابر … كالرمح أنبوبا على أنبوب وقوله يصف <من> قصيدة (من الكامل): فكأنها والسمع معقود بها … وجه الحبيب بدا لعين محبّه وقوله (من البسيط): أجدّك ما ينفكّ يسري لزينبا … خيال إذا آب الظلام تأوّبا سرى من أعالي الشام يجلبه الكرى … هبوب نسيم الريح تجلبه الصبا وقوله في الخمرة (من الكامل): (345) تخفي الزجاجة لونها فكأنها … في الكفّ قائمة بغير إناء وقوله (من الكامل): متعتّب في غير ما متعتّب … إن لم يجد جرما عليّ تجرّما وقوله (من الكامل): ألف الصدود فلو يمرّ خياله … بالصبّ في سنة الكرى ما سلّما وقوله (من الوافر): دنوت تواضعا وعلوت قدرا … فشأناك انحدار وارتفاع كذاك الشمس تبعد أن تسامى … ويدنو الضوء منها والشعاع عبيد الله بن <عبد الله بن> طاهر. له في المرقص (من الكامل):

وإذا سألتك رشف ريقك قلت لي … أخشى عقوبة مالك الأملاك ماذا عليك-دفنت قبلك في الثرى … من أن أكون خليفة لسواك أيجوز عندك أنّ قدر متيّم … كلف بحبّك دون عود أراك أحمد بن سليمان بن وهب. في المرقص (من الكامل): حفّت بسرو كالقيان تلحّفت … خضر الحرير على قوام معتدل فكأنها حين الرياح تميلها … تبغي التعانق ثم يمنعها الكسل محمد بن عمر الرومي-وقد تقدّم-وله (من البسيط): شكا المحبّ ويشكو وهي ظالمة … كالقوس تصمي الرمايا وهي مرتان وقوله (من الكامل): كالموت إن نظرت وإن هي أعرضت … وقع السهام ونزعهنّ أليم وقوله يخاطب بني طاهر (من المتقارب): علوتم علينا علوّ السماء … فجودوا علينا بأنوائها أحمد بن أبي البغل الكاتب. له في المطرب (من البسيط): دعوا مقلتي <تبكي> لفقد حبيبها … وتطفي ببرد الدمع حرّ لهيبها ففي حبل خيط الدمع للقلب راحة … فطوبى لنفس متّعت بحبيبها بمن لو رأته القاطعات أكفّها … لما رضيت إلاّ بقطع قلوبها

محمد بن صالح الحسني. له في المطرب (من الكامل): (346) وبدا له من بعد ما اندمل الهوى … برق تألّق موهنا خفقانه يبدو كحاشية الرداء ودونه … صعب الذرى متمنّع أركانه فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه … والماء ما سمحت به أجفانه عبد الله الأخيطل. له في المرقص يصف مصلوبا (من البسيط): كأنه عاشق قد مدّ راحته … يوم الفراق إلى توديع مرتحل أو قائم من نعاس فيه لوثته … مواصل لتمطّيه من الكسل أبو عبد الرحمن العطوي. له في المرقص يرثي أحمد بن أبي دؤاد (من البسيط): وليس صرير النعش ما تسمعونه … ولكنه أصلاب قوم تقصّف وليس فتيق المسك ريّا حنوطه … ولكنه ذاك الثناء المخلّف وقوله يصف حقوق المنادمة في المطرب (من الوافر): حقوق الكأس للندمان خمس … فأوّلها التزيّن بالوقار وثانيها مسامحة الندامى … فكم حمت السماحة من دمار وثالثها وإن كنت ابن خير … البرية ترك الفخار ورابعها يدلّ بها أخوها … على كرم الطبيعة والنجار

حديث الأمس ننساه جميعا … فإنّ الذنب فيه للعقار وإن حدّثت الحديث فاكسه … ذاك الحديث ثوب اختصار فما حسن النبيذ بمثل حسن الأغا … ني والأحاديث القصار ومن حكمت كأسك فاغتفره … وأقله من زلّه عند العثار ابن جبلة العكّوك. له في المرقص يمدح أبا دلف العجلي (من المديد): إنما الدنيا أبو دلف … بين باديه ومحتضره فإذا ولّى أبو دلف … ولّت الدنيا على أثره (347) أحمد بن أبي فنن. له في المرقص من (المتقارب): كأنّا جميعا وثوب الدجى … علينا لمبصرنا واحد إسماعيل الحمدوني. له في المطرب (من الخفيف): يا ابن حرب أطلت فقري برفوي … طيلسانا قد كنت عنه غنيّا فهو في الرفو آل فرعون في العر … ض على النار بكرة وعشيّا زرت فيه معاشرا فازدروني … فتغنّيت إذ رأوني زريّا

جئت في زيّ راكب كي أراكم … وعلى الباب قد وقفت مليّا راشد أبو حكيمة. له في المطرب (من الطويل): تصبّرت مغلوبا وإني لصابر … كما يصبر الظمآن في البلد القفر وقوله (من الوافر): وما خطرت دواعي الشوق إلاّ … هززت إليك أجنحة التصابي بكر بن النطّاح. له في المرقص (من الخفيف): وائل بعضها يقتّل بعضا … لا يفلّ الحديد غير الحديد وله في المطرب (من الوافر): ملأت يدي من الدنيا مرارا … فما طمع العواذل في اقتصادي ولا وجبت عليّ زكاة مال … وهل تجب الزكاة على جواد علي بن بسّام. له في المطرب (من البسيط): أما ترى الليل قد ولّت عساكره … وعارض الفجر بالإشراق قد طلعا فاصبر على وردة ورديّة قدمت … كأنها خدّ ريم ريم فامتنعا كشاجم. له في المرقص (من الطويل): وقد حسرت عن واضح الفرق فاحم … كخطّي ظلام شقّ بينهما صبح وقوله (من البسيط):

فديت زائرة في العيد واصلة … والهجر في غفلة من ذلك الخبر فلم يزل قدّها ركنا أطوف به … والخال في خدّها يغني عن الحجر (348) وقوله الذي يكاد يهزّ الجماد (من الطويل): مزاجك ذا المثنى من الطيب والصبّا … وريقك ذا المشهى من الشهد والخمر فلو كنت زهرا كنت وردا مضاعفا … ولو كنت طيبا كنت من عنبر الشحر ولو كنت لحنا كنت تأليف معبد … ولو كنت عودا ما افتقرت إلى زمر ولو كنت يوما كنت تعليل ساعة … ولو كنت نوما كنت إغفاءة الفجر ولو كنت ليلا كنت قمرا تجنّبت … نحوس ليالي الشهر بل ليلة القدر فيا حبّذا البرد الذي تلبسينه … ويا حبذا من باعك البرد من تجر ويا حبذا الأعراب إن كنت فيهم … ويا حبذا الأمصار إن كنت في مصر عبد الله بن المعتزّ-وقد تقدم-له من مرقصاته (من الوافر): وفتيان سروا والليل داج … وضوء الصبح متّهم الطلوع كأنّ بزاتهم أمراء جيش … على أكتافهم صدأ الدروع وقوله (من البسيط): ساروا وقد خضعت شمس الأصيل لهم … حتّى توقّد في ليل الدجى الشفق الصنوبري. له في المرقص (من الكامل): وكأنّ نور الباقلاّء به ضحى … بلق الحمام مقيمة أنابها والنهر قد هزّته أرواح الصبا … طربا وجرّت فوقه أهدابها

ذكر شعراء المائة الرابعة المسمون بالطراز المذهب

والسرو تحسبها لتعبر لجّة … قد شمّرت عن سوقها أثوابها ذكر شعراء المائة الرابعة المسمّون بالطراز المذهب أبو الطيب المتنبّي. من مرقصاته (من الطويل): فإن يك سيّار بن مكرم انقضى … فإنك ماء الورد إن ذهب الورد منها (من الطويل): وأصبح شعري منهما في مكانه … وفي عنق الحسناء يستحسن العقد <وقوله> (من البسيط): (349) والهجر أقتل لي مما أكابده … أنا الغريق فما خوفي من البلل وما ثناك كلام الناس عن كرم … ومن يسدّ طريق العارض الهطل وقوله (من الوافر): فإن تفق الأنام وأنت منهم … فإنّ المسك بعض دم الغزال منها (من الكامل): ذكر الأنام لنا فكان قصيدة … كنت البديع الفرد من أبياتها منها (من الكامل): لو مرّ يركض في سطور كتابه … أحصى بحافر مهره ميماتها منها (من الكامل):

أعيا زوالك عن محلّ نلته … لا تخرج الآثار عن هالاتها أبو نصر ابن نباتة. له في فرس في طبقة المرقص (من الكامل): قد جاءنا الطرف الذي أهديته … جذلان يخلط أرضه بسمائه فكأنما لطم الصباح جبينه … فاقتصّ منه فخاض في أحشائه وقوله (من البسيط): لم يبق جودك لي شيئا أؤمّله … تركتني أصحب الدنيا بلا أمل السري الرفّاء الموصلي. له في المرقص (من البسيط): يلوح على الكاسات فاضلها كما … تلوح على حمر الجيوب السوالف وقوله (من الطويل): بنفسي من ردّ التحية ضاحكا … فجدّد بعد اليأس في الوصل مطمعي وصالت دموع العين بيني وبينه … كأنّ دموع العين تعشقه معي أبو فراس الحمداني. له في المرقص (من الوافر): وجرّرن العوالي في مقام … تحدّث عنه ربّات الحجال كأنّ الخيل تعلم ما عليها … ففي بعض على بعض تغالي

أبو العشائر ابن حمدان. له في المرقص (من الكامل): لقرأت منها ما تخطّ يد الوغى … والبيض تشكل والأسنّة تنقط وقوله (من الوافر): لقيناهم بأرماح طوال … تبشّرهم بأعمار قصار وقوله (من البسيط): حيّا بك الله عاشقيك فقد … أصبحت ريحانة لمن عشقا (350) الوأواء الدمشقي. له في المرقص (من البسيط): فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت … وردا وعضّت على العنّاب بالبرد وقوله (من الوافر): متى أرعى رياض الحسن منه … وعيني قد تضمّنها غدير وقوله (من المنسرح): من قاس جدواك بالغمام فما … أنصف في الحكم بين شيئين أنت إذا جدت ضاحكا أبدا … وهو إذا جاد دامع العين أبو الفرج الببغاء. له في المرقص (من الكامل): وكأنما نقشت حوافر خيله … للناظرين أهلّة في جلمد وكأنّ طرف الشمس مطروف وقد … جعل الغبار به مكان الإثمد

وقوله (من البسيط): الباذل العرف والأنواء باخلة … والمانع الجار والأعمار تخترم حيث الدجى النقع والبيض الكواكب … والأسد الفوارس والخطّيّة الأجم الوزير المهلّبي. له في المرقص (من الطويل): خليليّ إني للثريا لحاسد … وإني على ريب الزمان لواجد أيجمع منها شملها وهي سبعة … وأفقد من أحببته وهو واحد الشريف الرضي. له في المرقص (من الخفيف): واستملاّ حديث من سكن الخي‍ … ف ولا تكتباه إلاّ بدمعي فاتني أن أرى الديار بطرفي … فلعلّي أرى الديار بسمعي محمد بن هاشم الخالدي. له في المرقص (من الكامل): ما عذرنا في حبسنا الأكوابا … سقط الندى وصفا الهواء وطابا وكأنما الصبح المنير إذا بدا … باز أطار من الظلام غرابا سفرت فغار حياؤها من لحظها … فعلا محاسنها فصار نقابا

أخوه سعيد. له في المرقص (من الكامل): (351) ومدامة حمراء في قارورة … زرقاء تحملها يد بيضاء فالراح شمس والحباب كواكب … والكفّ قطب والإناء سماء الصاحب بن عبّاد. له في المرقص (من الكامل): رقّ الزجاج وراقت الخمر … فتشابها فتشاكل الأمر فكأنها خمر ولا قدح … وكأنه قدح ولا خمر الصابي. له في المرقص (من الطويل): وكم من يد بيضاء حازت جمالها … بذلك لا تسودّ إلاّ من النفس إذا رقّشت بيض الصحائف خلتها … تطرّز بالظلماء أردية الشمس أبو العبّاس الضبّي. له في المرقص (من الكامل): زعم البنفسج أنه كعذاره … حسنا فسلّوا من قفاه لسانه وقوله (من مجزوء الكامل): والشمس عند غروبها … تصفرّ من ألم الفراق أبو الحسن السلامي. له في المرقص (من الطويل):

فبشّرت آمالي بملك هو الورى … ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر وهذا كقول المتنبي-وهما متعاصران (من البسيط): رأيته فرأيت الناس في رجل … والدهر في ساعة والأرض في دار وكقوله (من السريع): وليس لله بمستنكر … أن يجمع العالم في واحد أبو سعيد الرستمي، له في المرقص (من الطويل): أفي الحقّ أن يعطى ثلاثون شاعرا … ويحرم ما بين الورى شاعر مثلي كما سامحوا عمرا بواو زيادة … وضويق بسم الله في ألف الوصل ابن مطران. له في المرقص (من الطويل): ظباء أعارتها الظبا حسن لفتها … كما قد أعارتها العيون الجاذر (352) فمن حسن ذاك المشي جاءت فقبّلت … مواطئ من أقدامهنّ الظفائر أبو الفتح البكتمري. في المرقص (من الرجز): وروضة راضية عن الديم … وطئتها بناظري دون القدم وصنتها صوني بالشكر النعم الفيّاض كاتب سيف الدولة. في المرقص (من البسيط):

قم فاسقني بين الناي والعود … ولا تبع طيب موجود بمفقود نحن الشهود وخفق العود خاطبنا … تزوّج ابن غمام بنت عنقود سيدوك الثمار. له في المرقص (من البسيط): عهدي بنا ورداء الوصل يجمعنا … والليل أطوله كاللمح بالبصر فالآن ليلي مذ غابوا فديتهم … ليل الضرير فصبحي غير منتظر أبو الحسن اللّحام. له في المرقص (من الكامل): يا سائلي عن خالد عهدي به … رطب العجان وكفّه كالجلمد كالأقحوان غداة غبّ سمائه … جفّت أعاليه وأسفله ندي بديع الزمان. له في المرقص (من البسيط): وكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا … لو كان طلق المحيّا يمطر الذهبا والدهر لو لم يخن والشمس لو نطقت … والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا أبو العلاء السروي. له في المرقص (من الطويل): مررنا على الروض الذي قد تنسّمت … رباه وأرواح الأباريق تسفك فلم نر شيئا كان أحسن منظرا … من الروض يجري دمعه وهو يضحك

أبو النصر العتبي. له في المرقص (من البسيط): الله يعلم أني لست ذا بخل … ولست ملتمسا بالبخل لي عللا (353) لكنّ طاقة مثلي غير خافية … والدّر يعذر في قدر الذي حملا الخبّاز البلدي-وقد تقدّم-وله في المرقص (من الوافر): أنا نشوان من خمر الأماني … ونشوان الأماني غير صاحي وما قصّرت في طلب ولكن … سل الحسناء عن بخت القباح أبو الفرج ابن هندو. له في المرقص (من المنسرح): عابوه لمّا التحى فقلنا … عبتم وغبتم عن الجمال هذا غزال ولا عجيب … تولّد المسك في الغزال شمس المعالي قابوس. له في المطرب (من البسيط): قل للذي بصروف الدهر عيّرنا … هل عاند الدهر إلاّ من له خطر أما ترى البحر تعلو فوقه جيف … وتستقرّ بأقصى قعره الدرر وفي السماء نجوم مالها عدد … وليس يكسف إلاّ الشمس والقمر أبو الفضائل الميكالي. له في المرقص (من السريع):

كم والد يحرم أولاده … وخيره يحظى به الأبعد كالعين لا تدرك ما حولها … ولحظها يدرك ما يبعد أبو الحسن الأبناوي. له في المرقص؛ في زيد بن بقية لمّا صلب (من الوافر): علوّ الحياة وفي الممات … لحقّا تلك إحدى المعجزات كأنّ الناس حولك حين قاموا … وفود نداك أيام الصلات أصاروا الجو قبرك فاستنابوا … عن الأكفان ثوب السافيات أبو علي ابن وكيع. له في المرقص (من الرمل): غرّد الطير فنبّه من نعس … فأدر كأسك فالعيش خلس (354) سلّ سيف الفجر من غمد الدجى … وتعرّى الصبح من ثوب الغلس وانجلى عن حلل فضّيّة … نالها من ظلم الليل دنس وقوله (من الطويل): كأنّ الحباب المستدير بكأسها … كواكب درّ في سماء عقيق ابن الحجّاج. له في المرقص (من البسيط):

خشف من الترك مثل البدر طلعته … يحوز ضدّين من ليل وإصباح كأنّ عينيه والتفتير غنجهما … آثار ظفر بدت في صحن تفّاح علي بن الحسن البلخي. له في المرقص (من البسيط): أقمت لي قيمة مذ صرت تلحظني … شمس الكفاة بعيني محسن النظر كذا اليواقيت فيما قد سمعت به … من حسن تأثير عين الشمس في النظر -انتهي الكلام في ذكر الشعراء المختصين بهذا الجزء، وما وقع لنا من مليح أشعارهم من المحفوظ والمنقول جهد الطاقة وحدّ الاستطاعة. وبتمام ذلك تمّ هذا الجزء من التاريخ المسمّى بكنز الدرر وجامع الغرر؛ بخطّ يد واضعه ومصنّفه وناسخه ومؤلّفه؛ أقلّ عبيد الله وأفقرهم إلى الله أبو بكر عبد الله بن أيبك، صاحب صرخد. كان عرف والده بالدواه داري. غفر الله له ولوالديه ولمن قرأه وتجاوز عن كلّ خطأ يراه، ولجميع المسلمين. نجز ولله الحمد والمنّة بتاريخ آخر النهار المبارك من يوم الثلاثاء خامس شهر ربيع الآخر سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، أحسن الله تقضّيها بخير. آمين يا ربّ العالمين (355) يتلو ذلك في أول الجزء السادس منه ما مثاله: ذكر أول مبتدأ العبيديين خلفاء مصر ونسبهم مع جميع ما اختلف فيه. وبذلك يكون الابتداء وبالله الاهتداء، موفّقا لذلك إن شاء الله تعالى. والحمد لله وحده وصلّى الله على سيّدنا محمد رسوله وعبده وعلى آله وصحبه السلام. وحسبنا الله ونعم الوكيل

مصادر الدراسة والتحقيق

مصادر الدراسة والتحقيق آل وهب ليونس أحمد السامرائي. بغداد 1978. ابن وكيع التنّيسي شاعر الزهر والخمر. جمع شعره وحققه حسين نصار. القاهرة، مكتبة مصر، بدون تاريخ. (عيون الأدب العربي). أخبار أئمة الزيديّة Wilferd Madelung,Beirut 7891.)Beiruter Texte Und Studien 82(. Ima?ms of Tabarista?n,Daylama?n And GI?la?n.Collected and Edited by Arabic Texts concerning the History of the ZaydI ? - إتّعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء للمقريزي، تقيّ الدين أحمد بن عليّ (الجزء 2).تحقيق محمد حلمي محمد أحمد، القاهرة 1971/ 1390. الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البرّ، أبي عمر يوسف بن عبد الله (1 - 4).تحقيق عليّ محمد البجاوي، مطبعة نهضة مصر، حوالي 1960. أخبار الدول المنقطعة. تاريخ الدولة العبّاسية لابن ظافر الأزدي، جمال الدين أبي الحسن عليّ. تحقيق محمد بن مسفر بن حسين الزهراني، المدينة المنوّرة 1988/ 1408. أخبار الدول المنقطعة (قسم الفاطميين Fa?timides Par Andre? Ferre?,Le Caire 2791.)Publication de L'In- de G?ama?l al-Di?n ?Al?i Ibn Z?a?fir.Ed.de la section Consacre?e aux Ahba?r ad-Duwal al-Munqati? a - (

stitut Francais d'Arche?ologie Orientale du Caire ( أخبار الراضي لله والمتّقي لله أو تاريخ الدولة العبّاسية من سنة 322 إلى 333 هـ Dunne.Beirut 9931/9791. by Abu? Bakr Muhammad b.Yahya? as-Su?li?.Ed.J.Heyworth Akhba?r ar-Ra?di? Wal-Muttaqi? from the Kita?b al-Aura?k -‍ الأخبار الطوال للدينوري، أبي حنيفة أحمد بن داود. تحقيق عبد المنعم عامر، جمال الدين الشيّال، القاهرة 1960. أخبار العبّاس وولده من أخبار الدولة العبّاسية لمؤلّف من القرن الثالث الهجري. تحقيق عبد العزيز الدوري، عبد الجبار المطلّبي، بيروت 1971. أخبار القضاة لوكيع، محمد بن خلف بن حيّان (1 - 3).تحقيق عبد العزيز مصطفى المراعي، القاهرة 1366 - 1947/ 1369 - 1950. أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير، عزّ الدين أبي الحسن عليّ بن محمد (1 - 5).المكتبة الإسلامية بطهران، طهران حوالي 1924/ 1342. أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم من كتاب الأوراق للصولي، أبي بكر محمد بن يحيى Ed.J.Heyworth Dunne,Beirut 9931/9791. Kita?b al-Awra?k by Abu? Bakr Muhammad b.Yahya? as-Su?li. Ash ?a?r Awla?d Al-Khulafa? wa Akhba?ruhum from the - الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني، شهاب الدين أبي الفضل أحمد (1 - 4).مطبعة السعادة، القاهرة 1328. الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني (1 - 24).دار الكتب المصرية 1948 - 1974. الأمالي للقالي، أبي عليّ إسماعيل بن القاسم (1 - 2).نشرة إسماعيل يوسف دياب، القاهرة 1344 - 1926. أمراء مصر في الإسلام لابن طولون، شمس الدين محمد بن عليّ. تحقيق

صلاح الدين المنجد، بيروت، بدون تاريخ. (رسائل ونصوص، نشرة وتحقيق صلاح الدين المنجّد،1/ 1). أمهات الخلفاء لابن حزم الأندلسي، أبي محمد عليّ بن أحمد. تحقيق صلاح الدين المنجّد، بيروت 1980. أنباء نجباء الأبناء لابن ظفر الصقلّي، أبي عبد الله محمد بن أبي محمد. تحقيق لجنة إحياء التراث العربي، بيروت 1980/ 1400. الإنباء في تاريخ الخلفاء لابن العمراني. تحقيق قاسم السامرائي، الرياض 1982. إنباه الرواة على أنباه النحاة للقفطي، جمال الدين أبي الحسن عليّ بن يوسف (1 - 3).تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1369 - 1950/ 1374 - 1955. أنساب الأشراف للبلاذري، أبي العباس أحمد بن يحيى (القسم 1).تحقيق محمد حميد الله، مصر 1959. (ذخائر العرب 27). أنساب الأشراف للبلاذري، أبي العبّاس أحمد بن يحيى (القسم 3).تحقيق عبد العزيز الدوري، بيروت 1978/ 1398. (النشرات الإسلامية 28/ 3). الأوائل لأبي هلال العسكري، الحسن بن عبد الله بن سهل (1 - 2).تحقيق محمد المصري، وليد قصاب، دمشق 1975. بدائع الزهور في وقائع الدهور لابن إياس، محمد بن أحمد (الجزء 1).تحقيق محمد مصطفى، فيسبادن؟؟؟ 1975/ 1395. (النشرات الإسلامية 1/ 5 - 1). البداية والنهاية لابن كثير، أبي الفداء عماد الدين إسماعيل بن عمر (7 - 12). طبعة مكتبة المعارف، بيروت ومكتبة النصر، الرياض،1966.

بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنّحاة للسيوطي، جلال الدين عبد الرحمان (1 - 2).تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1964/ 1384. البيان والتبيين للجاحظ، أبي عثمان عمرو بن بحر (1 - 4).تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي 1985/ 1405. تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام للذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان (حوادث ووفيات 121 - 140 هـ‍).تحقيق عمر عبد السلام التدمري، بيروت 1988/ 1408. تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام للذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان (حوادث ووفيات 141 - 170 هـ‍).تحقيق عمر عبد السلام التدمري، بيروت 1408 - 1988/ 1411 - 1990. تاريخ بخارا IIIe Se?rie,Vol.XIII(. 2981.)Publication de L'E?cole des Langues Orientales Vivantes par Mohammed Nerchakhy.Publie? par Charles Schefer,Paris Description topographique et historique de Boukhara - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، أبي بكر أحمد بن عليّ (1 - 14).القاهرة 1931. تاريخ الحكماء للقفطي، جمال الدين أبي الحسن عليّ بن يوسف Qifti?'s Ta'ri?h? al-Hukama?'.Ed.Julius Lippert,Leipzig 3091. Ibn Al - - تاريخ الخلفاء للسيوطي، جمال الدين عبد الرحمان. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1976. تاريخ دمشق الكبير لابن عساكر (المجلد 14).نشرة مصورة عن المخطوطات بدار البشير بعمّان،1988. تاريخ سعيد بن البطريق ci 7(. pus Scriptorum Christianorum Orientalium 15.Scriptores Arabi- Cheikho,B.Carra de Vaux et H.Zayyat,Louvain 4591.)Cor- Accedunt Annales Yahya Ibn Said Antiochensis.Ed.L. Eutychii Patriarchae Alexandrini Annales II .-

تاريخ طبرستان لابن اسفنديار، بهاء الدين محمد بن حسن (1 - 2).تحقيق عبّاس اقبال، طهران 1941/ 1320. تاريخ الطبري 1091. Tabari)1 - 4(.Ed.J.Barth,Th.No?ldeke et.al.,Leiden 9781 - Annales auctore Abu Djafar Mohammed Ibn Djarir al - - تاريخ القضاعي-كتاب الإنباء بأنباء الأنبياء وتواريخ الخلفاء وولايات الأمراء للقضاعي، أبي عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر بن عليّ. مخطوطة Berlin,Ms.Or.Petermann Nr .3349 تاريخ الموصل للأزدي، أبي زكريا يزيد بن محمد بن إياس. تحقيق علي حبيبة، القاهرة 1967/ 1387. تاريخ يحيى بن سعيد. أنظر تاريخ سعيد بن البطريق. تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر (الجزء ma,Leiden 9691. qui dicitur Al-Ja?qubi? Historiae,Pars altera.Ed.M.Th.Houts- Ibn-Wa?dhih - (2 تتمّة يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر للثعالبي، أبي منصور عبد الملك. تحقيق مفيد محمد قميحة، بيروت 1983/ 1403. تجارب الأمم للمسكوية، أبي عليّ أحمد بن محمد Kairo 4191. Ahmad Ibn Muhammad Miskawayh)1 - 2(.Ed.H.F.Amedroz. Taja?rub al-Umam by - التطفيل وحكايات الطفيليين للخطيب البغدادي، أبي بكر أحمد بن عليّ بن ثابت، النجف 1966/ 1386. التنبيه والإشراف للمسعودي، أبي الحسن عليّ بن الحسين 4981.) Bibliotheca Geographorum Arabicorum VIII(. bI?h Wa'l-Ischra?f Auctore al-Masu?di?.Ed.M.J.de Goeje,Leiden Kita?b al-Tan - - تهذيب تاريخ ابن عساكر لعبد القادر بدران (1 - 7).دمشق 1329 - 1349. جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري، الحسن بن عبد الله (1 - 2).تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، عبد الحميد قطامش، القاهرة 1964/ 1384.

جمهرة أنساب العرب لابن حزم الأندلسي. تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة 1962. حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة للسيوطي، جلال الدين عبد الرحمان (1 - 2).تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1968/ 1387. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الإصفهاني (1 - 10).نشرة مصر، مكتبة الخانجي. الخطط للمقريزي-كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار للمقريزي، تقي الدين أبي العباس أحمد بن عليّ (1 - 2).بولاق 1853/ 1270. الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني، شهاب الدين أحمد (1 - 5).تحقيق محمد سيد جادّ الحقّ، القاهرة 1966/ 1385. ديوان ابن المعتزّ، عبد الله بن محمد (1 - 3).تحقيق محمد بديع شريف، القاهرة 1989. ديوان أشعار ابن المعتزّ، عبد الله بن محمد (1 - 3).تحقيق يونس أحمد السامرائي، بغداد 1987. ديوان ابن نباتة السعدي، أبي نصر عبد العزيز بن عمر (1 - 2).تحقيق عبد الأمير مهدي حبيب الطائي، بغداد 1977. (منشورات وزارة الإعلام- سلسلة كتب التراث 56 - 57). ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي (1 - 4).تحقيق محمد عبده عزام، مصر 1965 - 1972. (ذخائر العرب 5). ديوان أبي العتاهيّة-أبو العتاهيّة. أشعاره وأخباره. تحقيق شكري فيصل، دمشق 1965/ 1384. ديوان أبي العتاهيّة-الأنوار الزاهيّة في ديوان أبي العتاهيّة. جمعه أحد الأباء اليسوعيين. المطبعة الكاثولكية، بيروت 1888.

ديوان أبي فراس الحمداني. بيروت 1900. ديوان أبي نواس، الحسن بن هانئ الحكمي. نشرة دار صادر، بيروت 1962/ 1382. ديوان أبي نواس، الحسن بن هانئ الحكمي. تحقيق أحمد عبد المجيد الغزالي، بيروت 1953. ديوان أبي نواس، الحسن بن هانئ الحكمي. نشرة صادر، بيروت 1962/ 1382. ديوان أبي نواس، الحسن بن هانئ الحكمي (1 - 3).تحقيق E.Wagner فيسبادن 1958 - 1988. (النشرات الإسلامية 1/ 20 - 3). ديوان أبي نواس، الحسن بن هانئ الحكمي (الجزء 4).تحقيق ler, G.Schoe - فيسبادن 1983/ 1402. (النشرات الإسلامية 4/ 20). ديوان البحتري (1 - 4).تحقيق حسن كامل الصيرفي، القاهرة 1963. (ذخائر العرب 34). ديوان بشّار بن برد (1 - 3).تحقيق محمد الطاهر بن عاشور، القاهرة 1950/ 1369. (لجنة التأليف والترجمة والنشر). ديوان الثعالبي، أبي منصور عبد الملك بن محمد. تحقيق محمود عبد الله الجادر، بيروت 1988/ 1408. ديوان جرير بشرح محمد بن حبيب (1 - 2).تحقيق نعمان محمد أمين طه، القاهرة 1971. (ذخائر العرب 43). ديوان دعبل بن عليّ الخزاعي. جمع وتحقيق محمد يوسف نجم، دار الثقافة، بيروت 1962. ديوان شعر الأعشى، ميمون بن قيس Ibn Qais al-A?s?a?.Ed.Rudolf Geyer,London 8291.)E.J.W. Gedichte von Abu? Basi?r Maimu?n -

Gibb Memorial Series N.S.VI ( ديوان العبّاس بن الأحنف. تحقيق عاتكة الخزرجي، القاهرة 1954. ديوان عبيد الله بن قيس الرقيّات. تحقيق محمد يوسف نجم، بيروت 1958/ 1378. ديوان عروة بن الورد بشرح ابن السكيت. تحقيق المعين الملوحي. دمشق، بدون تاريخ. ديوان الصنوبري، أحمد بن محمد بن الحسن الضبّي. تحقيق إحسان عبّاس، بيروت 1970. ديوان المتنبي بشرح العكبري-ديوان أبي الطيب المتنبّي بشرح أبي البقاء العكبري (1 - 4).تحقيق مصطفى السقا، إبراهيم الأبياري، عبد الحفيظ شلبي، القاهرة بدون تاريخ. ديوان الوأواء الدمشقي. نشرة سامي الدهان، دمشق 1950. الذخائر والتحف للقاضي الرشيد بن الزبير. تحقيق محمد حميد الله، الكويت 1959. (التراث العربي 1). الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسّام الشنتريني، أبي الحسن عليّ (الجزء 2/ 4).تحقيق إحسان عبّاس، بيروت 1979/ 1399. الرسالة القشيريّة في علم التصوّف للقشيري، أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن. طبعة مصر 1319. رفع الإصر عن قضاة مصر لابن حجر العسقلاني، أحمد بن عليّ (الجزء 1). تحقيق حامد عبد الحميد، محمد المهدي أبو سنة، محمد إسماعيل الصاوي، القاهرة 1957. زين الأخبار لكرديزي، أبي يوسف عبد الحيّ بن الضحاك. تحقيق عبد الحيّ حبيبي، طهران 1968/ 1347. (منابع تاريخ وجغرافياى ايران 110).

زهر الآداب وثمر الألباب للحصري، أبي إسحاق إبراهيم بن عليّ (1 - 4). تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة 1372 - 1953/ 1374 - 1954. السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي، أحمد بن عليّ (1 - 4).تحقيق محمد مصطفى زيادة وسعيد عبد الفتّاح عاشور، القاهرة 1956 - 1972. كتاب السنن-صحيح سنن المصطفى لأبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني (1 - 2).نشرة عبد الواحد محمد الغازي، مصر 1348 هـ‍. سير أعلام النبلاء للذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان (1 - 24). تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرين، بيروت 1401 - 1981/ 1409 - 1988. سيرة أحمد بن طولون للبلوي، أبي محمد عبد الله بن محمد المديني. تحقيق محمد كرد عليّ، دمشق 1939/ 1358. السيرة النبوية لابن هشام، أبي محمد عبد الملك (1 - 4).تحقيق مصطفى السقا، إبراهيم الأبياري، عبد الحفيظ شلبي، القاهرة 1936/ 1355. شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي، أبي الفلاح عبد الحيّ (1 - 8)،القاهرة 1350 - 1351. شرح أشعار الهذليين للسكريّ، أبي سعيد الحسن بن الحسين (الجزء 1). تحقيق محمود محمد شاكر، عبد الستّار أحمد فراج، القاهرة، بدون تاريخ. (كنوز الشعر 3). شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات لابن الأنباري، أبي بكر محمد بن القاسم. تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة 1963. شعراء بصريون من القرن الثالث الهجري لمحمد جبّار المعيبد، بغداد 1977. (منشورات مركز دراسات الخليج العربي 17).

شعراء عبّاسيون ليونس أحمد السامرائي (1 - 3)،بيروت 1407 - 1987/ 1411 - 1990. شعراء مقلّون لحاتم صالح الضامن، بيروت 1987/ 1407 (مكتبة النهضة العربية). شعر ابن المعتزّ (1 - 3).تحقيق يونس أحمد السامرائي، بغداد 1977. (منشورات وزارة الإعلام-سلسلة كتب التراث 62). شعر مروان بن أبي حفصة. تحقيق حسين عطوان، دار المعارف بمصر 1973. الشعر والشعراء لابن قتيبة، أبي محمد عبد الله et Poe?tarum.Ed.M.J.de Goeje,Leiden 4091. Ibn Qotaiba Liber Poe?sis - صفة الصفوة لابن الجوزي، جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمان بن عليّ (1 - 4).تحقيق محمود فاخوري ومحمد رواس قلعه جي، حلب 1389 - 1969/ 1393 - 1973. صلة تاريخ الطبري لعريب Goeje,Leiden 7981. Arib,Tabari Continuatus,Ed.M.J.de - طبقات الأمم لصاعد بن أحمد بن صاعد Louis Cheikho.Beyrouth 2191. Gories des Nations par Abou Qa?sim Ibn Sa? ?Id l'Andalous.Ed.P. Tabaqa?t al-Umam ou Les Cate ?- - طبقات الشعراء لابن المعتزّ. تحقيق عبد الستّار أحمد فراج، مصر 1956/ 1375. (ذخائر العرب 20). طبقات الصوفية للسلمي، أبي عبد الرحمان محمد بن الحسين. تحقيق نور الدين شريبة، مصر 1953/ 1372. طبقات فحول الشعراء للجمحي، محمد بن سلام (1 - 2).تحقيق محمود محمد شاكر، القاهرة 1974/ 1394.

الطبقات الكبير لابن سعد، أبي عبد الله محمد (1 - 9).تحقيق E.Sachau وآخرين، ليدن 1905 - 1940. الطرائف الأدبية، وهي مجموعة من الشعر، لعبد العزيز الميمني. بيروت 1937. العقد الفريد لابن عبد ربّه، أبي عمر أحمد بن محمد (الجزء 5).تحقيق أحمد أمين، أحمد الزين، إبراهيم الأبياري، القاهرة 1946/ 1365. (لجنة التأليف والترجمة والنشر). عيون الأخبار لابن قتيبة، أبي محمد عبد الله بن مسلم (1 - 3).نشرة دار الكتب المصرية 1343 - 1925/ 1348 - 1930. عيون الأخبار وفنون الآثار في فضائل الأئمة الأطهار للداعي المطلق إدريس، عماد الدين القرشي (5 - 7).تحقيق مصطفى غالب، بيروت 1975. (سلسلة التراث الفاطمي 15). العيون والحدائق في أخبار الحقائق لمؤلف مجهول Leiden 9681.)Fragmenta Historicorum Arabicorum I(. hada?ik fi akhba?r'l-haka?il.Ed.M.J.de Goeje et P.de Jong, Kita?bo'l-Oyun Wa'l - - غرر أخبار ملوك الفرس وسيرهم Ibn Isma? ?il al-Tha ?a?libi.Reprint Amsterdam 9791. des Perses par Abou? Mansou?r ?Abd al-Malik Ibn Mohammad Hermann Zotenberg,Histoire des Rois - فتوح مصر وأخبارها لإبن عبد الحكم، أبي القاسم عبد الرحمان بن عبد الله 2291.) Yale Oriental Series-Researches III(. of Ibn ?Abd Al-Hakam.Ed.Charles C.Torrey,New Haven The History of the Conquest of Egypt,North Africa and Spain - الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية لابن الطقطقى، محمد بن عليّ بن طباطبا. نشرة مصر 1317. الفهرست لابن النديم، أبي الفرج محمد بن إسحاق. تحقيق رضا تجدّد، طهران 1971/ 1350.

فوات الوفيات لابن شاكر الكتبي، أبي عبد الله محمد (1 - 4).تحقيق إحسان عبّاس، بيروت 1973 - 1974. فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي، محمد بن عبد الرؤف (1 - 6). دار المعرفة، بيروت 1972/ 1391. الكامل في التاريخ 3581. scribitur)1 - 21(.Ed.Carolus Johannes Tornberg,Leiden 7681 - Ibn-el-Athiri Chronicon quod perfectissimum in - - الكامل للمبرّد، أبي العبّاس محمد بن يزيد (1 - 4).تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم والسيد شحاته، مصر، دار نهضة مصر 1981. كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة، مصطفى بن عبد الله (1 - 2).تحقيق محمد شرف الدين يالتقايا، إسطنبول 1941/ 1360. كنز الدرر وجامع الغرر لابن الدواداري، أبو بكر بن عبد الله بن أيبك (الجزء 1) -الدرّة العليا في أخبار بدء الدنيا، تحقيق، Bernd Radtke القاهرة 1982. (مصادر تاريخ مصر الإسلامية 1/ 1). كنز الدرر وجامع الغرر لابن الدواداري، أبو بكر بن عبد الله بن أيبك (الجزء 3) -الدرّة اليتيمة في أخبار سيّد المرسلين والخلفاء الراشدين. تحقيق محمد السعيد جمال الدين، القاهرة 1981. (مصادر تاريخ مصر الإسلامية 3/ 1). كنز الدرر وجامع الغرر لابن الدواداري، أبو بكر بن عبد الله بن أيبك (الجزء 6) -الدرّة المضيعة في أخبار الدولة الفاطمية. تحقيق صلاح الدين المنجّد، القاهرة 1961. (مصادر تاريخ مصر الإسلامية 6/ 1). كنز الدرر وجامع الغرر لابن الدواداري، أبو بكر بن عبد الله بن أيبك (الجزء 7) -الدرّ المطلوب في أخبار ملوك بني أيوب. تحقيق سعيد عبد الفتّاح عاشور، القاهرة 1982. (مصادر تاريخ مصر الإسلامية 7/ 1).

كنز الدرر وجامع الغرر لابن الدواداري، أبو بكر بن عبد الله بن أيبك (الجزء 8) -الدرّة الزكيّة في أخبار الدولة التركية. تحقيق، Ulrich Haarmann , القاهرة 1971. (مصادر تاريخ مصر الإسلامية 8/ 1). كنز الدرر وجامع الغرر لابن الدواداري، أبو بكر بن عبد الله بن أيبك (الجزء 9) -الدرّ الفاخر في سيرة الملك الناصر. تحقيق، Roemer, Hans Robert القاهرة 1960. (مصادر تاريخ مصر الإسلامية 9/ 1). لطائف المعارف للثعالبي، أبي منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل. تحقيق إبراهيم الأبياري، حسن كامل الصيرفي، القاهرة 1960. مآثر الإنافة للقلقشندي، أحمد بن عبد الله (1 - 3).تحقيق عبد الستّار فراج، الكويت 1964. ما اتّفق لفظه وافترق مسمّاه في الأماكن والبلدان المشتبهة في الخطّ للحازمي، أبي بكر محمد بن موسى. إصدار فؤاد سزكين، فرانكفورت 1986/ 1407. (منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، سلسلة ج، عيون التراث 35). مجمع الأمثال للميداني، أبي الفضل أحمد بن محمد (1 - 2).نشرة نعيم حسين زرزور، بيروت 1988/ 1408. مختار الأغاني لابن منظور، محمد بن مكرّم (1 - 8).تحقيق إبراهيم الأبياري، القاهرة 1965. مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر لابن منظور، محمد بن مكرّم (1 - 29). تحقيق رياض عبد الحميد مراد، روحية النحاس، محمد مطيع الحافظ وآخرون، دمشق 1404 - 1984/ 1408 - 1988. مرآة الجنان وعبرة اليقظان لليافعي، أبي محمد عبد الله بن أسعد (1 - 4). نشرة حيدرآباد الدكن 1337 هـ‍.

مروج الذهب ومعادن الجوهر للمسعودي de l'Universite? Libanaise,Etudes Historiques XI(. ge?e par Charles Pellat)1 - 7(,Beyrouth 0791 - 9791.)Publication Ed.Barbier de Meynard et Pavet de Courteille,revue et corri- Mas ?u?di?.Les Prairies d'Or .- مسالك الأبصار في ممالك الأمصار لابن فضل الله العمري، شهاب الدين أبي العبّاس أحمد بن يحيى (الجزء 11 - قسم الوزراء).إصدار فؤاد سزكين، فرانكفورت 1988/ 1408. (منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، سلسلة ج، عيون التراث 11/ 46). مسالك الأبصار في ممالك الأمصار لابن فضل الله العمري، شهاب الدين أبي العبّاس أحمد بن يحيى (الجزء 14 - شعراء جاهليون، أمويون وعباسيون).إصدار فؤاد سزكين، فرانكفورت 1988/ 1408. (منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، سلسلة ج، عيون التراث 14/ 46). مسالك الأبصار في ممالك الأمصار لابن فضل الله العمري، شهاب الدين أبي العبّاس أحمد بن يحيى (الجزء 15 - شعراء عباسيون).إصدار فؤاد سزكين، فرانكفورت 1988/ 1408. (منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، سلسلة ج، عيون التراث 15/ 46). مسالك الأبصار في ممالك الأمصار لابن فضل الله العمري، شهاب الدين أحمد بن يحيى (الجزء 24 - تاريخ).إصدار فؤاد سزكين. فرانكفورت 1989/ 1409. (منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، سلسلة ج، عيون التراث 24/ 46). المعارف لابن قتيبة، أبي محمد عبد الله بن مسلم. تحقيق ثروت عكاشة، القاهرة، دار الكتب 1960. معجم الأدباء-إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب لياقوت الرومي 7 (. Liouth,London 7091 - 6291.)E.J.W.Gibb Memorial Series VI,1 - al-Arib ila Ma?rifat al-Adib of Ya?qu?t)1 - 7(.Ed.D.S.Margo- The Irsha?d -

المغرب في حلى المغرب لابن سعيد، عليّ بن موسى بن عبد الملك (الجزء quist,Leiden 9981. der Ih?s?i?den Und Fus??a???ensische Biographien.Ed.Knut L.Tall- Kita?b al-Mug?rib fi? Hula? al-Mag?rib,Buch IV.Geschichte - (4 مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الإصفهاني، عليّ بن الحسين بن محمد. نشرة كاظم المظفر، نجف 1965/ 1385. المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي، أبي الفرج عبد الرحمان بن عليّ (6 - 10).طبعة حيدرآباد الدكن 1357 - 1358. المنتظم في تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزي، أبي الفرج عبد الرحمان بن عليّ (8 - 14).تحقيق محمد عبد القادر عطا، مصطفى عبد القادر عطا، بيروت 1992/ 1412. المؤتلف والمختلف للآمدي، أبي القاسم الحسن بن بشر بن يحيى. تحقيق عبد الستّار أحمد فراج، القاهرة 1961/ 1381. النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي، جمال الدين أبي المحاسن يوسف (1 - 6).طبعة دار الكتب المصرية 1330 - 1336. نزهة الألباء في طبقات الأدباء لابن الأنباري، كمال الدين أبي البركات عبد الرحمان بن محمد. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1967/ 1386. نساء الخلفاء المسمّى جهات الأئمة الخلفاء من الحرائر والإماء لابن الساعي، تاج الدين أبي طالب عليّ بن أنجب. تحقيق مصطفى جواد، مصر حوالي 1960. (ذخائر العرب 28). نسب قريش للمصعب الزبيري. تحقيق ليفي بروفنسال، القاهرة 1953. نور القبس المختصر من المقتبس للمرزباني، أبي عبيد الله محمد بن عمران. تحقيق رودلف زلهايم، فيسبادن 1964/ 1384. (النشرات الإسلامية 1/ 23).

الوافي بالوفيات للصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك) Bibliotheka Islamica 6 a-6 v(. Part 1 - 22.Ed.H.Ritter et al.Leipzig-Wiesbaden 1391 - 8391. Biographische Lexikon des S?al?h?addin Hali?l Ibn Aibak as-Safadi? Das - (22 - 1) الوزراء والكتاب للجهشياري، أبي عبد الله محمد بن عبدوس. تحقيق مصطفى السقا، إبراهيم الأبياري، عبد الحفيظ شلبي، القاهرة 1938/ 1357. الولاة والقضاة للكندي، أبي عمر محمد بن يوسف Memorial Series XIX(. Ibn Hajar.Ed.Rhuvon Guest,Leiden 2191.)E.J.W.Gibb di? together with an Appendix derived mostly from Raf'el Isr by Judges of Egypt or Kita?b el Umara?'wa Kita?b el Quda?h of el Kin- The Governors and - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلكان، شمس الدين أبي العبّاس أحمد بن محمد (1 - 8).تحقيق إحسان عبّاس، بيروت 1968 - 1972. يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر للثعالبي، أبي منصور عبد الملك بن محمد (1 - 4).تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة 1956/ 1375. يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر للثعالبي، أبي منصور عبد الملك بن محمد (1 - 4).نشرة مفيد محمد قميحة، بيروت 1983/ 1403.

6 - الدرة المضية فى أخبار الدولة الفاطمية

الجزء السادس تصدير فى عام 1958 اقترحت على الأستاذ هانس رومى-وكان يومئذ فى المعهد الألمانى للآثار بالقاهرة-أن ينشر المعهد سلسلة من النصوص التاريخية المتعلّقة بمصر الإسلامية، ودللته على كتاب كنز الدرر لابن الدوادارى، وأبنت له أنه مصدر من الطراز الأوّل وخاصة فيما يتعلّق بعصره. وقد استجاب الأستاذ رومى، ثم المعهد إلى اقتراحى. واتفقنا أن نحقق الكتاب معا. وكان اهتمام الأستاذ رومى بالجزأين الثامن والتاسع، المتعلقين بالعصر المماليكى، وصرفت عنايتى إلى الجزأين السادس والسابع المتعلقين بالفاطميين والأيوبيّين. إنى سعيد جدا أن ينهض المعهد الألمانى بالقاهرة بنشر النصوص التاريخية المتعلقة بمصر. فالواقع أن هذه النصوص والوثائق كثيرة جدا، وإذا استثنينا بعض تواليف المقريزى، فإن ما نشر منها قليل. ونعتقد أن كتابة تاريخ مصر الإسلامية لا يمكن أن تتم بوجه أكمل إلا بعد نشر هذه النصوص والوثائق. لذلك كان عمل المعهد مفيد جدا، للعلماء والباحثين، ولمصر نفسها.

وإنى أغتنم هذه الفرصة لأشكر الأستاذ هـ‍. شتوك مدير المعهد على إخراجه هذه السلسلة المفيدة، وعلى تكليفى تحقيق هذا الجزء، ومساعداته القيمة. وإلى الأستاذ رومى الذى استجاب لاقتراحى، وأقبل على تحقيق الكتاب، فكان أول نص ينشره بالعربية. وإلى زملائى فى معهد المخطوطات: فؤاد سيد، ورشاد عبد المطلب، ومحمد مرسى الخولى، ومحمد عبد القادر، الذين أعانونى فى تصحيح تجارب الطبع وصنع الفهارس. ص. م

مقدمة

مقدمة كان القرن الثامن الهجرى من أخصب العصور الإسلامية فى المؤلفات التاريخية. فقد ظهر فيه عدد كبير من المؤرخين، تركوا آثارا تاريخيّة مهمّة. وكانت الكثرة من هؤلاء، من رجال الحديث الذين جمعوا بين الحديث والفقه ونقد الرجال، وبين التأريخ بمفهومه عند المسلمين. كالقطب اليونينى (726 هـ‍-1326 م)، والبرزالى (739 هـ‍-1339 م)، وابن الجزرى (739 هـ‍-1339 م)، والذهبى (748 هـ‍-1348 م)، والحسينى (765 هـ‍-1364 م)، والسبكى (771 هـ‍-1370 م)، وابن كثير (774 هـ‍-1373 م)، وابن رافع (774 هـ‍-1372 م)، وابن رجب الحنبلى (795 هـ‍-1392 م). وعرف فريق جمع بين الأدب والتأريخ كالصلاح الصفدى (764 هـ‍-1363 م). وفريق ثالث كان من الورّاقين، كابن شاكر الكتبى (764 هـ‍-1363 م). وفريق رابع كان ممن يتّصلون بالدولة أو كانوا موظفين فيها أو أبناء موظفين، مثل بيبرس الدوادارى (725 هـ‍- 1325 م)، وأبى بكر ابن الدوادارى (بعد 736 هـ‍-1335 م). وقد امتازت كل فئة فى تآليفها التاريخية بميزة خاصة.

ومؤلف الجزء الذى ننشره هو من الفئة الأخيرة. وميزة هذه الفئة أنها كانت شهود عيان لكثير من الحوادث التى عاصرتها، وأتيح لها أن تطلع على خفايا أمور السياسة فى ذلك العصر، كما أنها عبّرت عن وجهات النظر الحكومية فى أحيان كثيرة. وعلى هذا فإن ما يتعلّق، من مؤلفاتها، بالعصر الذى عاشت فيه، هو على جانب كبير من الشأن. أما ما سبق عصرها فقيمته متعلقة بشأن المصادر التى استمدت منها، وطريقة الأخذ عنها. ونحن لا ندرى الكثير عن مؤلّف هذا الجزء. ولولا كتبه التاريخية التى وصلت إلينا لما عرفنا عنه شيئا. إذ سكت عنه الذين ترجموا لعلماء القرن الثامن ورجاله، فى حين ترجموا للكثيرين غيره. وإذن فإن من الصعب أن نقدّم ترجمة واسعة له. ومن المؤسف أنه هو أيضا لم يتحدّث عن نفسه كثيرا فى تاريخه، وما وجدناه فى تاريخه قد يقدم له ترجمة صغيرة، ولكنها على كل حال ناقصة. يذكر المؤلف فى عنوان تاريخه اسمه. وهو «أبو بكر بن عبد الله ابن أيبك صاحب صرخد». ولنحاول أن نبحث أولا عن جدّه. لقد بحثنا كثيرا عن ولاة صرخد، وهى بليدة فى حوران لها قلعة مشهورة، فوجدنا فيهم «أيبك صاحب صرخد، الاستادار المعظمى». وكان هذا

توفى سنة 645 هـ‍. وهو بانى المدرسة العزيّة على الشرف الأعلى بدمشق. وتذكر المصادر أنه توفى بصرخد، ثم نقل إلى مدرسته بدمشق. لكن مؤلفنا يذكر أن جدّه وجدّته مدفونان بأذرعات. فلعل جدّه أيبك آخر كان صاحب صرخد. أما أبوه فيحدّثنا ابنه أنه سمّى بالدوادارى لأنه انتسب إلى خدمة الأمير سيف الدين بلبان الرومى الظاهرى. ويذكر ابن تغرى بردى أن بلبان هذا كان دوادارا عند الظاهر بيبرس الذى تولّى السلطنة سنة 658 هـ‍ وظلّ إلى سنة وفاته سنة 676 هـ‍. وكان مقرّبا إليه مطلعا على أسراره، مدبّرا أمور القصّاد والجواسيس والمكاتبات. وتوفى سنة 680 هـ‍، أى بعد موت الظاهر بأربع سنين. على أننا لا ندرى متى انتسب إلى خدمة بلبان. ويحدثنا أبو بكر أنهم كانوا يسكنون فى القاهرة بحارة الباطلية. وبهذه الحارة نشأ وربّى، فقد كان لأبيه سكن فيها. ويحدثنا أيضا أنه فى سنة 699 هـ‍، ولّى أبوه أعمال الشرقية وإمرة العربان. فبقى فيها إحدى عشرة سنة، إلى سنة 710 هـ‍، فاستعفى فأعفى. وخيّره السلطان بين البقاء فى القاهرة أو الذهاب إلى الشام. فاختار الشام. فباع سكنه، ولم يكن لديه سواه، وتجهّز

بثمنه إلى الشام، ومعه ابنه المؤلف. وفى دمشق عيّن مهمندارا، والمهمندار هو الذى يستقبل الرسل والضيوف الواردين ويدبر أمورهم ويعنى بهم. ثم أضيف إليه شدّ الدواوين. فقبل العمل الجديد على كره، حتى واتت الفرصة فتخلّص منه. وبقى مهمندارا إلى سنة 713 هـ‍، عند ما مات، وهو يقوم بمهمة رسمية. فقد كان يفتش القلاع، وفى جولته مرّ بوادى الزرقا، من الأردن، قاصدا قلعة عجلون. فوقع من فوق فرسه، ومات. فحمل إلى أذرعات بحوران، ودفن قريبا من أبيه وأمّه. وتدلّ اللهجة التى يتحدث المؤلف بها عن أبيه على أنه كان ذا شأن، وأنه شارك فى أمور هامة سياسيّة، تتعلّق بالناصر محمد بن قلاوون، وأنه كان مهابا، وكان أمينا، فقيرا، خلف بعد وفاته الكثير من الديون. أما مؤلفنا فالغموض يحيط بحياته. لا ندرى متى ولد، وقد ذكر أنه نشأ وربى بحارة الباطلية بالقاهرة. ولما انتقل أبوه إلى دمشق، ذهب معه، وظل فيها إلى سنة وفاته (713 هـ‍)، ولا ندرى إذا كان بقى بدمشق أم عاد إلى القاهرة، وكذلك لا ندرى إن كان انتسب إلى خدمة الحكومة أم ظل بطّالا منعزلا، لكننا نرجح أنه كان ذا صلة

حسنة بالناصر محمد، فقد أشاد بذكره فى مقدمة تاريخه، وفى مقدمة الجزء التاسع منه خاصة، بل وضع تاريخه كله من أجله «فوضعت هذا التاريخ اللطيف مشرّفا بالاسم السلطانى الناصرى الشريف»، ونرجح أيضا أنه انصرف عن أعمال الحكومة إلى تلقى الأدب والعلم «. . . استأنست بالخلاء عن الملاء، ووليت وجهى شطر الأئمة الفضلاء، وبسطت حجرى لالتقاط درر الشفاه، وجعلت ذلك دواء لقلبى وشفاه. . .». على أنه كان فى حال حياة أبيه يرافقه دائما، وكان يحضر المحادثات التى كانت تجرى بين أبيه ورجال الدولة. وقد نقل الكثير منها فى الثامن والتاسع من تاريخه. وكان يستمع إلى آراء الكبار والقوّاد، وكان يساعد أباه على عمله، وقد أنفذه مرّة إلى القاهرة، وهو فى دمشق، ليتخفى ويكتب له بما يجرى فيها من مؤآمرات. ولكن العجيب أن لا يذكر أباه أحد من المؤرخين. إنّ من يقرأ الجزء التاسع والثامن من كنز الدرر يحسّ بأن الرجل كان ذا شأن. وأنه أسهم فى الأمور السياسية إلى حد بعيد. فلماذا أغفل المقريزى وابن تغرى بردى وابن حجر ذكره، وقد ذكروا من هو أقل منه شأنا؟ ونستطيع أن نخلص إلى القول إن أبا بكر ابن الدوادارى كان من أسرة أفرادها من رجال الدولة الكبار-أبوه وجدّه-ونرجح

أنها كانت من حوران، أو تعيش فى حوران. فجدّه كان صاحب صرخد، وصرخد فى حوران، ودفن هو وزوجته فى أذرعات، وهى فى حوران وكان لأبيه قرية خسفين إقطاعا له، وهى فى حوران أيضا. ... ولنتحدث عن شخصية ابن الدوادارى العلمية. يخبرنا فى مقدمة تاريخه الكبير «أنه اشتغل بفن الأدب، السامى القدر، العالى الرتب»، وأنه تردّد إلى العلماء «. . . ووليت وجهى شطر الأئمة الفضلاء، وبسطت حجرى لالتقاط درر الشفاه. . . ورويت عن الفضلاء من مشارقها ومغاربها». على أننا لا نجد ذكرا فى تاريخه لهؤلاء العلماء والفضلاء الذين تردّد إليهم وروى عنهم. ونجده فى الجزء التاسع من تاريخه يتردّد على بعض المتصوّفة ويروى أخبارهم. كما نجده يزور الأديرة فى الوجه القبلى ويقرأ ما فى خزائنها. وهو يذكر من مصادر الجزء السادس «الكتاب القبطى الذى وجدته بالدير الأبيض بالوجه القبلى واستنسخت منه» وما ندرى إن كان يعرف القبطية، أو ترجم له ما فى الكتاب. وكذلك نراه يلتقط أو يقع على كثير من الكتب النادرة، مما يدل على شغفه بالعلم والقراءة.

هذا الشغف العلمىّ دفعه إلى التأليف. وهو يذكر فى الجزء التاسع بعض الكتب التى ألفّها. مثل: 1 - أعيان الأمثال وأمثال الأعيان. 2 - حدائق الأحداق، ودقائق الحذّاق. 3 - عادات السادات، سادات العادات. فى مناقب الشيح أبى السعادات. ولم تصل إلينا هذه المؤلفات. 4 - تاريخ موجز اسمه درر التيجان. 5 - تاريخ موسع اسمه كنز الدرر. وقد وصلا إلينا. 6 - ووعد فى الجزء السادس، أن يؤلّف بعد تكملة التاريخ الكبير، أى كنز الدرر، كتابا اسمه «الروضة الزاهرة فى خطط القاهرة» وما ندرى إن كان وضعه أم لا. هذه التواليف تدلنا على أنه كان يعنى بالأدب والأخبار والتاريخ، ولم تصلنا كتبه الأدبية، والأغلب أنها كانت تقوم على الجمع. على أننا نحسّ، من ثنايا الجزء السادس، أنه كان يتذوّق الشعر، ويحسن انتقاءه. فهو يعلّق أحيانا على بعض الأشعار بعبارات جيدة، وهو ينتقى لبعض الشعراء مقطعات رائعة.

ولقد وصل إلينا التاريخان اللذان وضعهما. فلنتكلم عنه مؤرّخا، بالاستناد إليهما، وخاصة الجزء السادس والتاسع من تاريخه الكبير. ... نلاحظ، فى تتبع كنز الدرر، أن ابن الدوادارى جمّاع فى الأجزاء التى سبقت عصره، مؤلّف فى الحوادث التى عاصرها ورآها. ويقول فى مقدمته عن تاريخه: «. . انتخبته وانتقيته، وغربلته ونقّيته، من تواريخ رئيسة، وكتب نفيسة، فعاد كالحديقة المشرقة، ذات أشجار مورقة. . . ونوادر ملهية، ومضاحك هزلية، وملح شهيّة، ورقائق مبكية، وأهاجى منكية، ومدائح زكية، وحكايات مليحة،. . . فلما كملت مسوّداته، ونجزت آياته، ألفت كل واقعة فى زمانها، وماجرية فى أوانها، وأقمته تاريخا غريب المثال، كثير الحكم والأمثال. ولخّصت من تواريخ الجمع ما ينزّه الناظر ويشنف السمع، يتضمّن من فوائد الجد، ونوادر الهزل، وفوائد النثر، وقلائد النظم ما يملأ البصر نورا، والقلب سرورا. . . فنلاحظ أن ابن الدوادارى عمد بادئ بدء إلى «التقميش» أو «الجمع»، وإلى «التلخيص»، كما نلاحظ أن غايته فى تاريخه إرضاء القارئ

وتسليته، لذلك حشد فيه النوادر والمضاحك والملح والرقائق والأهاجى والمدائح والحكايات. أما فى القسم الذى عاش فيه وأرّخه فنجده مؤرخا من الطراز الأول، كثير الملاحظة، يسوق أكثر ما يمكن من تفصيلات، وخاصة فيما رآه هو نفسه أو شارك فيه. وهو يقص، بحرارة وصدق، الحوادث التى رآها وأثرت فى نفسه. ولا شك أنه فى هذا القسم من أثمن المراجع التى يرجع إليها لتأريخ المماليك. غير أن أسلوبه عامى فيما ينشئه هو بنفسه، فى أغلب الأحايين: يستعمل اللغة العامية، وتراكيبها، وألفاظها، وقد يخلطها باللغة الفصحى، المسجوعة، مما حفظه من الكتب. فيأتى من ذلك أسلوب عجيب، يفصح مرة، ويسفل أخرى. وقد ألّف تاريخين: الأوّل هو «كنز الدرر»، والثانى «درر التيجان». جعل الأول فى تسع مجلّدات، وهو يدخل فى إطار التواريخ العامة، منذ مبدإ الخليقة إلى عصر المؤلف. وقد جعل كل جزء يختص بدولة واختصّ كلّ جزء باسمين خاص وعام. ويعتقد أن عمله هذا لم يسبق إليه. فالاسمان الفرعيان الأولّ يتعلّق بفلك من أفلاك السماء التسع، والثانى يتعلّق بموضوع الكتاب. وإذ كان الاسم العام «كنز الدرر» فقد جعل عنوان الكتاب الفرعى الثانى درّة دائما. لأن الكنز كله درر.

وها هى أسماء الأجزاء: 1 - نزهة البشر من قسمة فلك القمر وهو: الدرّة العليا فى أخبار بدوّ الدنيا 2 - غلّة الوارد من قسمة فلك عطارد وهو: الدرة اليتيمة فى أخبار الأمم القديمة 3 - المشرّف بالقدرة من قسمة فلك الزهرة وهو: الدر الثمين فى أخبار سيد المرسلين 4 - بغية النفس من قسمة فلك الشمس وهو: الدرة المسميّة فى أخبار الدولة الأموية 5 - الذى كلّ سمع له مصيخ من قسمة المريخ وهو: الدرة السنية فى أخبار الدولة العباسية 6 - الفائق صحاح الجوهرى من قسمة فلك المشترى وهو: الدرّة المضية فى أخبار الدولة الفاطمية 7 - شهد النحل من قسمة فلك زحل وهو: الدر المطلوب فى أخبار دولة بنى أيوب 8 - زهر المروج من قسمة فلك البروج وهو: الدرة الزكية فى أخبار دولة الملوك التركية

9 - الجوهر الأنفس من قسمة الفلك الأطلس وهو: الدر الفاخر فى سيرة الملك الناصر ويحدثنا أنه جمع مواده أولا وسوّده، ابتدأه سنة 709 هـ‍، أى قبل أن ينتقل إلى دمشق مع أبيه. ثم أخذ ينسخه ويبيّضه ويعيد النظر فيه جزءا جزءا. وقد وقف فى حوادث تاريخه عند سنة 735 هـ‍. وفرغ من الجزء الآخر فى مستهل سنة ست وثلاثين. فيكون قضى فى جمعه وكتابته سبعا وعشرين سنة. والتاريخ الثانى الذى ألفه ابن أيبك هو درر التيجان وغرر تواريخ الزمان. وهو تاريخ عام مختصر فى مجلد واحد. بدأه من زمن آدم، ثم تكلم على الأنبياء، وعلى عصر الجاهلية، وبدأ بذكر الحوادث منذ بدء الإسلام، سنة فسنة، وانتهى إلى سنة 710 هـ‍. وقد أضاف فيه إلى ذكر الحوادث تراجم الملوك والوزراء والعلماء والأدباء والشعراء والأطباء. بخلاف الأوّل، فقد جعله للحوادث والدول. وقد وصل إلينا التاريخان، والأول بخط المؤلّف. ونعتقد أن كل جزء من أجزاء التاريخ الكبير، يحتاج إلى دراسة خاصة ونقد داخلى.

الدرة المضية فى أخبار الدولة الفاطمية

لذلك سنقصر الكلام هنا على المجلد الذى نقدمه وهو الجزء السادس المتعلق بالدولة الفاطمية. ... الدرّة المضيّة فى أخبار الدولة الفاطمية هذا هو الجزء السادس من «كنز الدرر». عنوانه الفرعى الأول: «الفائق صحاح الجوهرى من قسمة فلك المشترى»، وعنوانه الثانى «الدرة المضية فى أخبار الدولة الفاطمية». وهو يختص بذكر الخلفاء الفاطميين بمصر، والدول المنقطعة والمتصلة التى قامت أثناء دولتهم. بدأ بحوادث سنة 359 هـ‍ (ص 120) ودخول جوهر القائد إلى مصر. وتابع ذكر الحوادث إلى سنة 554 هـ‍. وتكلم على الدعوة الفاطمية بالتفصيل، وعلى القرامطة، والأغالبة، وبنى حمدان، والسلاجقة، وملوك البويهيين، والسامانيين، والصليحيين باليمن. استمد موادّه من مصادر أغلبها مفقود. نذكرها فيما يلى: 1 - كتاب الشريف أبى الحسين أخى محسن فى أصل الفاطميين (ص 6).

2 - تاريخ القيروان (ص 4،299). 3 - تحفة القصر فى عجائب مصر للعاضد الفاطمى (ص 363)، 352. 4 - تاريخ القاضى ابن خلكان (ص 145) 5 - تاريخ مصر لابن زولاق (ص 4) 6 - الروضة البهيّة فى خطط القاهرة المعزيّة لابن عبد الظاهر (ص 135) 7 - أخبار الشام لعلى بن محمد بن يحيى السلمى السميساطى، أبو القاسم، إلى سنة 395 هـ‍ (ص 272) 8 - دمية القصر (ص 283) 9 - تاريخ ابن دحية (ص 298) 10 - حلّ الرموز فى علم الكنوز (ص 301) 11 - سيرة الحاكم لمجهول (ص 302) 12 - رسائل أبى القاسم الوزير المغربى (ص 312) 13 - تاريخ بغداد، لم يذكر مؤلفه (ص 328،336) 14 - كتاب قبطى وجده بالدير الأبيض بالوجه القبلى واستنسخ منه (ص 353)

15 - خريدة القصر للعماد (ص 409) 16 - السيل والذيل للعماد (ص 421) 17 - سيرة السلطان صلاح الدين لابن شدّاد (ص 422) 18 - مفرج الكروب لابن واصل. 19 - كتاب جنى النحل [لابن سعيد] (ص 437) 20 - سير التاريخ لعلى بن منجب (ص 111) 21 - سيرة السلطان صلاح الدين لابن شدّاد (ص 422) والكثير الغالب من هذه المصادر مفقود (1،2،3،5،6، 7،10،11،13،14،16،19،20) والباقى مطبوع أو مخطوط (4،8،9،12،15،17،18،21). والمفقود منها ذو شأن كبير، وما نجده من بعض نصوصها فى مصادر أخرى قليل. ومن المفيد أن ننوه هنا بأحد هذه المصادر المفقودة التى نقلها ابن الدوادارى فى هذا الجزء السادس، وهو «أخبار الشام» للسميساطى. فقد سرد منه حوادث دمشق فى زمن الفاطميين وكنا لا نعرف كتابا يتعلّق بهذه الفترة فى تاريخ دمشق إلا تاريخ القلانسى: فكان المصدر الوحيد عن دمشق الفاطميّة. أما كتاب السميساطى هذا فلم نعثر له من قبل على خبر. وما نقله منه يؤكد أو يعدّل الأخبار التى رواها القلانسى،

وتوفى السميساطى سنة 453 هـ‍، وهو واقف الخانقاه السميساطية بدمشق ومن تلاميذ الخطيب البغدادى فيها. وسيكون هذا الجزء من تاريخ ابن الدوادارى بعد اليوم من مصادر تأريخ دمشق أيضا. وواضح أن هذه المصادر المفقودة المهمّة، هى التى تجعل لهذا الجزء شأنا وقيمة، رغم العاميّة التى يتصف بها صاحبه. ... ويعتمد المؤلف على التلخيص إلى حدّ كبير، فهو يذكر فى كل سنة «ما لخّص من الحوادث»، كما يذكر تلخيصه الأخبار عن المؤرّخين. وقد أردنا أن نبيّن قيمة هذا التلخيص. فرجعنا إلى نصوص الكتب المطبوعة التى نقل منها، وعارضناها بما جاء عن ابن الدوادارى، وقد لفت نظرنا أنه يلخص تلخيصا مخلاّ، أحيانا كثيرة، ولا يتقيّد بنص الأصل وألفاظه. وأنه يوجز حتى يضيع بعض تفصيلات الحوادث. وقد أشرنا إلى بعض ذلك فى حواشينا، وخاصة فيما نقله عن مفرج الكروب وابن خلّكان. ولاحظنا أيضا أنه فى النصوص التى ينقلها كثيرا ما يخطئ فى أسماء الأعلام، أو الأماكن، مما يدلّ على أنه لم يكن على علم بها. ...

ولنر الآن نهجه فى كتابه: يعنى ابن الدوادارى بذكر قياس ماء النيل كل سنة. ولا ندرى المصدر الذى أخذ عنه. وقد قايسناه بما جاء عند ابن تغرى بردى، فوجدنا اتفاقا كبيرا، ووجدنا اختلافا بعض الأحايين. ولعلهما أخذا عن مصدرين مختلفين. ولا نعتقد أن ابن تغرى بردى نقل عن ابن أبيك، وهو المتقدم. على أننا نلاحظ أن المؤلف سينقطع عن ذكر ارتفاع النيل فى الجزء التاسع. وقد ترك فى المخطوطة مكان مقدار الارتفاع بياضا، بانتظار مصدر ينقل عنه. ثم يذكر ما لخص من الحوادث، فيبدأ بذكر خليفة المسلمين فى بغداد ومدبرى الأمر حوله، ثم خليفة مصر ومدبرى الأمر من حوله، ثم ما وقع فى جميع الأقطار من حوادث. وعندما يأتى ذكر دولة من الدول المنقطعة، أو اسم صاحب من أصحاب الدعوات، كالقرامطة وغيرهم، فإنه يذكر الدولة أو الدعوة بالتفصيل حتى ولو تجاوزت سنو تاريخها السنة التى هو فيها. وذلك

حتى يكون عند القارئ فصلا قائما بنفسه كاملا عن الدولة أو عن الدعوة. على أن أسلوب كتابته التاريخ يدلنا على أنه كان متأدبا لكنه ضعيف الثقافة، وخاصة بآلات اللغة العربية، فهو يقتبس أحيانا كثيرا من الجمل الفصيحة الرائعة، قد يكون حفظها من قراءاته، ثم ما تلبث أن نجد جملا ركيكة جدا، وألفاظا وتراكيب عامية، ونجده يخطئ فى النحو أخطاء كثيرة، ويكثر من لغة «أكلونى البراغيث»، وكذلك يخطئ فى رسم الكلمات لأن النسخة التى وصلت إلينا من التاريخ هى بخطّه. وإذا قايسنا ابن الدوادارى بالمؤرخين المعاصرين له، فى القرن الثامن كالبرزالى، وابن كثير، والذهبى، والصفدى، وابن الجزرى، والقطب اليونينى، وابن شاكر الكتبى، والحسينى، والسبكى، وجدناه دونهم بمراحل، من حيث أسلوبه وعبارته، وتلخيصه. فتاريخ ابن أيبك، على ما ظهر لنا من الجزء السادس الذى ننشره والتاسع المطبوع، تاريخ أقرب إلى الأسلوب العامى أحيانا من الأسلوب الفصيح، وقد يفيد أحيانا، من هذه الناحية، لمعرفة اللغة العامية العربية فى القرن الثامن فى دمشق والقاهرة، حيث عاش المؤلف.

وصف المخطوطة

وصف المخطوطة الجزء الذى ننشره مكتوب بخط المصنف، كسائر أجزاء كنز الدرر، ومحفوظ فى مكتبة أحمد الثالث باستنبول برقم 2922/ 6. صوّره معهد المخطوطات العربية على ميكروفلم، وهو محفوظ لديه برقم 413 تاريخ. أثبت على الورقة الأولى داخل إطار مزخرف، فى الأعلى: الجزء السادس فى تاريخ كنز الدرر وجامع الغرر تأليف أضعف عباد الله وأفقرهم إلى الله أبو بكر (كذا) ابن عبد الله بن أيبك صاحب صرخد، كان، عرف والده رحمه الله بالدوادارى، انتسابا لخدمة الأمر المرحوم سيف الدين بلبان الرومى، الدوادارى الظاهرى تغمّده الله برحمته، وأسكنهم فسيحة جنته بمحمد وآله وهو الدرّة المضيّة فى أخبار الدولة الفاطمية. على هامش الإطار فى الأعلى والأيسر نصّ وقفيّة نسخة التاريخ هده كلها على مسجد الزينى بالقاهرة وهذا نصها:

صورة الورقة الأولى من المخطوط

صورة الورقة الأخيرة من المخطوط

الحمد لله رب العالمين وقف وحبس وسبّل وأبّد جميع هذا الجزء المبارك وهو السادس من تاريخ كنز الدرر وجامع الغرر. . . . . . المقر الأشرف العالى. . . . . . يحيى الظاهرى آمر استاد الدار العالية وملك الأمراء وكاشف الجسور السلطانية بالوجهين القبلى والبحرى. . . . . . . . . الظاهرى أعزّ الله أنصاره وضاعف. . . . . . . . . على طلبة العلم الملازمين للجامع المبارك إنشاء المقرّ المشار إليه الكائن بباب الخوخة بالقرب من سكن المقرّ المشار إليه. وجعل مقرّه بالجامع المذكور لا يخرج منه برهن ولا عارية ولا بوجه من الوجوه ولا بطريق من الطّرق. وقفا صحيحا شرعيّا، تقبل الله ذلك منه قبولا جميلا، وأثابه ثوابا جزيلا، ({فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ. إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.}) وأشهد على نفسه الكريمة بذلك فى العشرين من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وثمانماية. وحسبنا الله ونعم الوكيل. وتحت ذلك توقيع من شهد عليه. وتحته تثبيت للوقف المذكور عند الحاكم الحنفى بمصر سنة 857 هـ‍. وواقف هذا الجزء ترجم له السخاوى فى الضوء (10/ 233) وابن إياس (2/ 114) واسمه يحيى بن عبد الرزاق الزينى القبطى الاستادار

المعروف بالأشقر. وقد ذكر السخاوى «أنه بنى مدرسة بجانب بيته الذى عمله بالقرب من المدرسة الفخرية بين السورين بالغ فى شأنها ووقف فيها كتبا هائلة». وتوفى سنة 874 هـ‍. وكان بناؤه المسجد سنة 848 هـ‍. وما تزال هذه المدرسة (أو المسجد) قائمة. وقد وصفها حسن عبد الوهاب فى تاريخ المساجد الأثرية ص 234. ويكون إيقاف الكتاب كما تدل الوقفيّة فى سنة إتمام بناء المسجد. وجاء فى آخر ورقة منه: انتهى الكلام فى ذكر الشعراء المذكورين المختصين بهذا الجزء وبتمامهم نجز ولله الحمد والمنة والطول، وبه القوّة والحول، بخط يد واضعه ومصنفه وجامعه ومألفه (كذا) أضعف خلق الله وأفقرهم إلى رحمته أبو (كذا) بكر بن عبد الله الدوادارى المقدم ذكر نسبته فى أوّله، غفر الله له ولوالديه، ولمن قرأه وتجاوز عن كل خطأ يراه، ولكافة المسلمين أجمعين. وكان الفراغ من نسخه آخر يوم الأحد العشرين من شهر جمادى الآخرى سنة أربع وثلاثين وسبع ماية الهجرية على صاحبها السلام. أحسن الله نقصها بخير إنه ولىّ ذلك وقادر عليه والأمور مبتدأها منه ومصيرها إليه وهو حسبى ونعم الوكيل. بلغ نظرا من المصنف عفا الله عنه

يقع هذا الجزء فى 329 صفحة. فى الصفحة 21 سطرا. كتب بخط نسخى، تنقص من كلماته النقط أحيانا. العنوانات (السنوات، ما لخصّ من الحوادث، الفصول) كتبت بخط أغلظ وبحبر أحمر. أضاف المؤلف بخطه فى الحواشى إضافات كثيرة نقلها من بعض كتب التاريخ، وهذه الحواشى واضحة فى القسم الأخير من الجزء، إذ أضاف فيها ما أخذه عن ابن واصل. رسم الكلمات جدير بأن ننوّه به. فقد ذكرنا أن فيه كثيرا من الخطأ. وقد جزمنا بأنه خطأ لأن هذا الرسم يخالف الرسم الذى نجده فى سائر مخطوطات القرن الثامن. لذلك لا فائدة من سرد أنموذجات منه تكون أساسا للدراسة، لأنه ليس رسم العصر. وقد أشار الأستاذ رومر فى مقدمته إلى بعض مزايا الرسم عند المؤلف.

نهج التحقيق

نهج التحقيق المعروف فى قواعد تحقيق النصوص أن المخطوطة التى يعثر عليها مكتوبة بخط المؤلف ينبغى أن تثبت كما وصلت إلينا دون تبديل فى نصتها أو تصحيح، ذلك لأنها صورة عن ثقافة المؤلف وروحه. ويكون عمل المحقق أن ينبه إلى الخطأ، أو يصحّح ما يحتاج إلى تصحيح فى الحواشى. لذلك حاولنا أن نطبق النهج الصحيح الموضوع لمثل هذه الحالات. فاتبعنا ما يلى: 1 - أثبتنا النص كما ورد المخطوط بأخطائه الغوية والنحوية، على كثرتها. وأشرنا فى الحاشية إلى صحة كلّ لفظ، أو اتبعنا اللفظ بكلمة (كذا) إذا كان الخطأ فيه واضحا جدا أو غير مفهوم، وبذلك يستطيع القارئ أن يقرأ المؤلّف بتراكيبه وألفاظه، كما كتبها. 2 - أخطأ المؤلف فى رسم الكلمات فى بعض أحايين. ولما كان الرسم يتبدّل بتبدّل العصور، وليس من فائدة من إثبات الرسم الخطا لأنه مخالف اسم أيّامنا، فقد صححنا الرسم، على ما هو جار اليوم. واكتفينا بالتنويه بذلك عندما وصفنا المخطوطة، حتى يكون لدى القارئ فكرة عن ثقافة المؤلف فى علم الخط والرسم. 3 - تخفيف الهمز فى الكلمات أثبتناه كما ورد، على أننا أحيانا

أثبتنا الهمز عندما لا يؤثر ذلك فى تبديل مفهوم اللفظ، أو بعده عن العامية. 4 - نقل المؤلّف نصوصا كثيرة من كتب وصل بعضها إلينا وفقد البعض الآخر. وقد عارضنا النصوص التى وصلت إلينا بما ذكره المؤلف. وقوّمنا هذه النصوص حسبما وردت فى مصادرها الأصلية، إلاّ عندما يكون النقل جزئيا، أو اختصارا، فعندئذ أحلنا على المصدر ونوّهنا أن نصّ المؤلف لا يوافق نصّ الأصل، أو أن اختصاره مخلّ، وقد نضيف إلى نص المؤلف ألفاظّا من المصدر الذى نقل منه، عندما يكون نص المؤلف مبهما، وأحيانا تثبت نص الأصل بلفظه فى الحاشية عندما يصعب تقديم نص المؤلف. 5 - صححنا فى الحواشى أسماء الأعلام والأماكن التى أخطأ المؤلف فيها. 6 - ورد فى الكتاب أشعار كثيرة، وخاصة من مدائح الفاطميين. ولم نجد الكثير منها فى المصار التى بين أيدينا، وهذا من مزايا الكتاب. وقد عارضنا ما وجدناه منها بالدواوين أو كتب الأدب، وأشرنا إلى اختلاف الروايات. ومن المؤسف أن المؤلف لم يذكر المصادر التى نقل منها هذه الأشعار. ولقد نقل فى آخر الكتاب كثيرا من المرقص والمطرب لابن سعيد لكنه لم يذكر اسمه. وقد رجعنا إلى

المرقص والدمية والخريدة واليتيمة وتتمة اليتيمة وغيرها وعارضنا ما ورد فى كتابنا من أشعار وردت فيها، وصححناها أحيانا دون الإشارة إلى ذلك. 7 - عارضنا أحيانا، نصوص المؤلف المتعلّقة بالحوادث والوفيات، بما جاء عنها فى المصادر التأريخية الأخرى. لنتأكد من صحتها. وأثبتنا فى الحاشية الاختلاف، أو أحلنا على المصادر الثانية ليرى القارئ الاختلاف. 8 - أتبعنا النص بفهارس منوّعة للأعلام-ويدخل فيها القبائل والأمم والدول والفرق-وللأماكن، وللألفاظ الاصطلاحية. ونرجو أن يفيد العلماء والباحثون من هذا الجزء، فإن فيه موادّ كثيرة لها شأنها. كما نرجو من يجد خطأ فى عملنا أن ينبهنا إليه. يوليو 1960 المنجد

الجزء السّادس من تاريخ كنز الدّرر وجامع الغرر تأليف أضعف عباد الله وأفقرهم إلى الله أبو بكر ابن عبد الله بن أبيك صاحب صرخد كان عرف والده رحمه الله بالدوادارى انتسابا لخدمة الأمير المرحوم سيف الدين بلبان الرومى الدوادار الظاهرى تغمّده الله برحمته وأسكنهم فسيح جنّته بمحمد وآله وهو الدّرّة المضيّة فى أخبار الدّولة الفاطميّة

<مقدمة المؤلف>

<مقدمة المؤلف> بسم الله الرحمن الرحيم ربّ اختم بخير الحمد لله الذى خصّنا بالإسلام، وشرّفنا إذ جعلنا من أمّة محمّد البدر التّمام، ومصباح الظلام، ورسول الملك العلاّم، صلّى الله عليه كلّما خطب إمام، وندب حمام، وعلى آله الكرام، الأشراف الأحلام، ما عسعس ظلام، وتنفّس صبح بابتسام، وعلى أصحابه الأعلام، هداة الإسلام، ما هجس هاجس إنسان بمنام، وحدس حادس لسان بكلام، وسلّم وكرّم، ومجّد وعظّم. وبعد فإنّ الأعمال بالنيّات، ولكلّ امرئ ما نوى، والنيّة أبلغ من العمل إذا لم يخامر النيّة هوى. وأوضح المسالك، ونجاة الهالك، فيما أتى به البشير الصادق، الذى بالحقّ عن الحقّ ناطق، فذلك أوضح السّبل إلى النجاه، وأبين لذوى عينين من الصبح إذا فارق دجاه. اللهمّ هذا مذهبى واعتقادى، وتنقيبى وانتقادى، لعلى أكن من المخصوصين، فى كتابه المبين، بقوله: ({الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ})

({وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}). اللهم إنّى أشهدك أنّ هذه الآيات عقيدتى، والخالص من سريرتى ونيّتى، فأمتنى اللهمّ على هذه النيّة، ولا تحل بينى وبين هده الأمنية. ثم إنّ هذا الجزء السّادس، المشنّف المسامع بدرره النفايس، الّذى إليه كلّ قلب يرتاح، وكلّ سمع إليه يأنس (ص 3) لما اشتمل عليه من جواهر الكلام، ونوادر تواريخ الأيّام، مما دثر ونسى وبان، وغبر عليه تصاريف الزمان فوفّقنى الله تعالى لأحيى ذلك الداثر الدّارس، ليشنّف بدرره آذان كلّ قارئ ودارس، حتى يعود كأنّه مشاهدا لتلك العصور الخالية، ومنادما لتلك الرمم البالية، وهذا الجزو فهو المختصّ بذكر العبيدييّن، الخالفاء المصرييّن، وجميع ما قيل فيهم من الاختلاف، ووقع عليهم من الائتلاف، والعبد يقلّد كلّ إنسان بدعواه، ويذكر ما ذكره من غرضه وهواه، إذ ليس لنا بحمد الله تعالى هوى نميل إليه، ولا مذهبا فاسدا فنبنى قولنا عليه، وإنّما نذكر كلّ طائفة وما تقلدوه من ذكرهم، وما ذكروه من ذمّهم وشكرهم، وإلى الله تعالى المصير، وهو بكل شئ خبير، وهو على كل شئ قدير. ونسأله الّلف والتّدبير.

<ذكر أصل الخلفاء العبيديين>

<ذكر أصل الخلفاء العبيديين> قال صاحب «تاريخ القيروان» رحمه الله تعالى: إنّ المهدى هو: عبيد الله ابن الحسن بن علىّ بن محمّد بن علىّ بن موسى بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد بن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب عليه السّلام. وقال ابن زولاق صاحب «تاريخ مصر» رحمه الله تعالى: إنّ المهدىّ هو عبيد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علىّ بن الحسين بن علىّ ابن أبى طالب عليه السّلام. وقيل: هو عبيد الله بن علىّ بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن الحسن ابن (ص 4) محمد بن علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب عليه السّلام. وقيل هو: عبيد الله ابن التقىّ ابن الوفىّ ابن الرضىّ. وهؤلآء الثلاث يقال لهم المستورون فى ذات الله. واسم الرضىّ عبد الله. وإنّما استتروا خوفا على نفوسهم، لأنهم كانوا مطلوبين من جهة الخلفاء العباسيين. وعبد الله المذكور الملّقب بالرضىّ هو عبد الله بن محمد بن الحسين. والأصحّ ابن إسماعيل بن جعفر المقدّم ذكره. واسم التقىّ الحسين. واسم الوفىّ أحمد. والرضىّ عبد الله. هذا ما ذكره القاضى شمس الدين

ابن خلّكان فى «تاريخه» رحمه الله تعالى وجماعة علماء المسلمين مع كافة أمة محمد أجمعين. هذا عند من يصحّح نسبهم ويدّعى أنّهم من الفاطميين، وهم قليل ما هم. وأمّا الأكثر من العلماء والمحقّقين وأرباب التواريخ المعتنين بحفظ أنساب العالم فإنّهم ينكرون ذلك ويبطلون دعوى المهدىّ المذكور، وأنّ نسبه هذا جميعه ليس بصحيح. ويثبتون أنّ اسمه سعيد ابن زوجة الحسين بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن ميمون القدّاح. وسمّى قدّاحا لأنه كان يقدح العين من الماء، وكان كحّالا. وهذا القول عند الطبقة الوسطى فى تصحيح نسبه. ذكره أيضا القاضى ابن خلّكان فى تاريخه. وأما الأكثر أيضا من العلماء الأشراف العلويّين من المصريّين والشاميّين فإنهم يقولون، وهم المقلّدون بذلك: إن عبيد الله هذا كان يهوديا من أهل سلمية. وكان حدّادا، واسمه سعيد. فلما دخل المغرب تسمّى بعبيد الله. وزعم أنّه علوى فاطمى، وادّعى نسبا ليس بصحيح، ثم تسمّى بالمهدىّ. وكان زنديقا خبيثا، عدوّا للإسلام، يتظاهر بالتشيع، حريصا على إزالة الملّة الإسلاميّة. (ص 5) ودليل ذلك قتله للفقهاء والعلماء والأئمة والمحدّثين والصّالحين. قتل منهم عدّة كبيرة. وكان قصده إعدام الدين من الوجود،

لتبقى العالم كالبهائم، فيتمكّن من إفساد عقولهم واعتقاداتهم ({وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ}). ونشأت ذريّته بأجمعها على ذلك مبطنون به، ويجهرون به إذا أمكنهم. ولم تزل الدعاة لهم منبّثون فى الأرض والبلاد، يضلّون من أمكنهم إضلالة. ومن دعاتهم الذين يعرفون بالقرامطة الخارجين عن دين الإسلام، المارقين من الإيمان، وسيأتى ذكر هم بعد ذلك. ومن دعاتهم من أضلّ عدّة طوائف فى سائر الأرض شرقا وغربا ومنهم الدرزيّة والحشيشيّة وغيرهم. قلت: وقد وضع فى ذكر هؤلاء القوم كتابا صنّفه الشريف العابد أبو الحسين محمد بن على بن الحسين بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل ابن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب عليه السّلام المعروف بأخى محسن، رضى الله عنه. وكان سيّدا فاضلا عالما محقّقا لأنساب أهل بيته، رضوان الله عليهم، وذكر فيه ما العبد ذاكره فى هذا الجزء بحكم التلخيص منه. ثم تتلو بعد ذلك سياقة التاريخ من أول سنة تسع وخمسين وثلاث مئة، كون أن الجزء الرابع منه انتهى آخره فى سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة، عند خروج مصر عن مملكة العباسيّين. وبالله التوفيق. ...

قال السيّد الشريف المشار إليه رضى الله عنه: هذا كتاب وضعناه نبيّن فيه أمر إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علىّ بن الحسين بن على بن أبى طالب صلوات الله عليهم وأولاده، لما كثر القول فى ابنه محمد، ونسب إليه من ليس من أهله، وجعلوه بابا للخديعة والمكر، ليتمكّنوا به من المخدوعين وليس هو كذلك. فلما نظرنا فى هذا الأمر رأينا أن نضع كتابا نبيّن فيه أمر إسماعيل ابن جعفر وابنه محمد الّذى (ص 6) إليه الدعوة دون أخيه علىّ بن إسماعيل، ونذكر جميع أولادهم فى سائر الأقطار، ونذكر كلّ رجل منهم باسمه ونسبه مفردا، كى يتأمّل هذا الأمر من أراد معرفة ذلك. فإذا فعلنا ذلك وبيّناه أخرجنا من ولد إسماعيل بن جعفر من انتمى إليه وليس من ولده، بالبرهان الذى يعرفه من نظر فى كتب الأنساب. ونبدأ بذكر الأصول منهم ثم الفروع. والعالم بالأنساب يعلم أنّ الفروع ترجع إلى الأصول. والبيوت من ولد علىّ بن أبى طالب عليه السّلام معدودة وكذا أنسابهم معدودة لا يخفى الأوّل منها على الآخر. وقد وجدنا هؤلاء الذين تغلّبوا على المغرب ثم على مصر، أعنى سعيد بن الحسين وأولاده، وهو الذى تسمّى بالمغرب عبيد الله وتلقّب بالمهدىّ، لا يعرف لهم ذكرا لا فى الأصول ولا فى الفروع، غير ما يوهمون به العامة والرّعاع من الناس أنهم من ولد على بن أبى طالب عليه السّلام. ولا يذكرون لهم نسبا إليه.

وقد خفى أمرهم على أكثر الناس، ويجب على من كانت فيه عصبيّة لآل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يتحقّق أمر نسبهم لتكون عصبيّة فيهم لا فى غيرهم. فأمّا من موّه عليه بآل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليعدل به عن الحقّ إلى الباطل ويخدع بالأيمان والعهود والمواثيق، ويدخل فى أمر مكتوم قد غطّى عليه، وهو لا يعلم، فإنه ترك الهدى واتّبع الضلالة. وإنّا لا نجد عهودا ولا مواثيق تكون فى شريعة من الشرايع بكتمان سرّ، لأنّ الله عزّ وجلّ لم يأمر بكتمان هدى أنزله على عباده، وقد قال جلّ اسمه: ({هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اِتَّبَعَنِي} (ص 7)، {وَسُبْحانَ اللهِ، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}). فما كان من بصيرة فإنّما يريد أن يهدى بها عباده بغير سرّ ولا كتمان. وأهل العقول والبصائر يعلمون أنّ الكتمان فى أمور الدين والتنقّل من حال إلى حال هو حدّ الإربة، وهذا مّما أسّسه عبد الله بن ميمون القدّاح لنفسه ولولده الذى صار إلى المغرب، وانتهى إلى ولد علىّ بن أبى طالب عليه السّلام. وسنذكر خبره وما كان منه إلى أن صار إلى سلمية، ونذكر خبر ولده من بعده إلى أن صار بالمغرب فيما يأتى من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى، بعد ذكر جميع ولد علىّ بن أبى طالب كرّم الله وجهه، ليكون ذلك حجّة وبيانا وردّا عليهم فيما يدّعونه من هذا النسب.

والحجّة لنا على قائل يقول: إنّ سعيدا المتسمّى عبيد الله، الملقّب بالمهدى، الذى استولى على المغرب سنة تسع وثمانين ومئتين من ولد علىّ بن أبى طالب عليه السّلام أن نقول له: إنّ هذه أسماء جميع ولد على بن أبى طالب مسطّرة فى هذا الكتاب، فانسبه لنا إلى من يقول إنه من ولده منهم إن كنت صادقا. فإن نسبه عند من يعرف الأنساب حقق عليه أنّه دعىّ، وإن أمسك عما يسأل عنه فالحجّة لنا عليه. ثم إنّ هذا الرجل ابتدأ وذكر جميع ولد الإمام على بن أبى طالب عليه السّلام، وأبان ذلك بيانا جيّدا لا خلل فيه ولا زيغ عن الحق، وأطال فى ذلك ما لو شرحناه فى هذا الكتاب لكان جزوا مستقلاّ بذاته، فأضربت عن جملته، وذكرت من ذلك الأصول من ولد الإمام على عليه السّلام ليفهم من الأصول عن الفروع. قال: (ص 8) الشّريف أبو الحسين محمد بن على: ولد علىّ بن أبى طالب عليه السّلام: الحسن والحسين. أمّهما فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومحمّد الأكبر ابن الحنفيّة. أمّه خولة بنت قيس بن جعفر الحنفى. والعبّاس الأكبر، وعبد الله، وعثمان الأكبر، وجعفر الأكبر، أمّهم أمّ البنين بنت المحل بن الديان بن حزام الكلابىّ، فقتل جميع هؤلاء الأربعة مع الحسين عليه السّلام يوم الطّفّ.

وعمر الأكبر، أمّه الصّهباء أمّ حبيب بنت ربيعة التغلبى. وعبد الرحمن الذى يكنى أبا بكر، وعبيد الله، أمّهما ليلى بنت مسعود ابن خالد التميمى. ويحيى وعون، أمّهما أسماء بنت عميس الخثعميّة. ومحمد الأصغر، أمّه أمامة بنت أبى العاص بن الربيع بن عبد العزّى بن عبد الشمس، وأمّها زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وجعفر الأصغر لأمّ ولد. ومحمد الأوسط، وعباس الأصغر، لأمّ ولد. وعمر الأصغر، وعثمان الأصغر، لأمّ ولد. فهؤلاء الذكور من صلبه عليه السّلام. ومن هؤلاء من توفى فى حياته طفلا صغيرا، ومنهم من قتل ولا عقب له. وأمّا الإناث من ولده فقد أعرضنا عن ذكرهنّ فى هذا الكتاب لأنّا لا نحتاج إليهن فى ذكر نسب هاهنا. قلت: وقد ذكرهم العبد بكمالهنّ مع جميع ولد الإمام علىّ عليه السّلام، وجميع الأمّهات، بروايات صحيحة، فى الجزء الثانى فى هذا التاريخ المختصّ بذكر سيّد المرسلين والخلفاء الراشدين، عند ذكرنا للإمام علىّ بن أبى طالب عليه السّلام. فمن أراد تصحيح النّسب فليقف عليه هناك.

ولد الحسن عليه السلام

قال الشريف رحمه الله: ولم يعقب من هؤلآء الذكور غير (ص 9) خمسة نفر وهم: الحسن، والحسين، ومحمد بن الحنفيّة، والعبّاس، وعمر. وسائر ولد علىّ عليه السلام ليس له عقب. ولد الحسن عليه السّلام زيد لأمّ ولد. الحسن بن الحسن لأم ولد. طلحة لأمّ ولد. القاسم، وأبو بكر، وعبد الله لا بقيّة لهم، قتلوا مع الحسين بن علىّ عليهما السّلام بالطفّ. وعمرو بن الحسن، وعبد الرّحمن بن الحسن، والحسين، ومحمّد، ويعقوب، واسماعيل، بنو الحسن. هؤلآء الذكور من ولد الحسن عليه السّلام. ولم يعقب من ولد الحسن غير رجلين وهما: الحسن بن الحسن، وزيد ابن الحسن. وسائر ولد الحسن لا عقب لهم. ثم إنه ساق النسب من هذين السّيدين المذكورين إلى حين انقطاعهم مما يطول الشرح فى ذكرهم، فأعرضنا عن ذلك، إذ الشرط ألاّ نذكر إلاّ الأصول منهم.

ولد الحسين عليه السلام

ولد الحسين عليه السّلام عليّا الأكبر، قتل مع أبيه يوم الطفّ، ولا عقب له. وعليّا الأصغر وفيه بقيّة. وجعفر لا بقية له. وعبد الله، قتل صغيرا مع أبيه بالطفّ، ولا عقب له. هؤلآء الذكور من ولد الحسين عليه السّلام، وهم الأمّهات أولاد شتّى. فجميع نسل الحسين من علىّ الأصغر. ثم إنّه ساق النسب من هذا السيد إلى آخر وقت، أضربنا عنه. ولد محمد بن الحنفيّة عليه السّلام عبد الله يكنى أبا هاشم، وحمزة، وجعفر الأكبر، درجوا ولا عقب لهم، وعليا، وهم لأمّ ولد. والحسن بن محمد، لا بقيّة له. والقاسم بن محمد، وبه كان يكنى. وعبد الرحمن، لا بقيّة له، وهو لأمّ ولد. وإبراهيم، (ص 10) لأمّ ولد.

ولد العباس عليه السلام

وجعفر الأصغر، وعون ابنى محمد، أمّهما أمّ ولد. فهؤلآء أولاد محمد بن الحنفيّة الأصول. ثم ساق سائر من أعقب منهم ومن لم يعقب ممّا يطول شرح، ذلك فأضربنا عن ذلك. ولد العبّاس عليه السّلام عبيد الله، أمّه لبابة بنت عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب. فولد عبيد الله أبا جعفر عبد الله، وزينب، أمهما ابنة عبد الله بن معبد ابن العباس بن عبد المطلب. والحسن بن عبيد الله وفيه العدد، وأمّه أمّ ولد. وتوفى الحسن بن عبيد الله وهو ابن تسع وستين سنة، ومن هذين السيدين العدد. ثم ساق جميع نسبهم إلى آخر وقت أضربنا عنه.

ولد عمر عليه السلام

ولد عمر عليه السلام محمدا ومنه بقية. توفى وهو ابن ثلاث وستين سنة. وإسماعيل لأم ولد، لا بقيّة له. فولد محمد بن عمر: عبد الله، وعبيد الله. وتوفى عبيد الله بن عمر وهو ابن سبع وخمسين سنة. وعمر بن محمد بن عمر توفى فى عشر الستين، وهما لأمّ ولد. وروى عنهما الحديث، ومنهما العدد. ثم ساق جميع النسب منهما إلى آخر وقت. قال الشريف أبو الحسين: قد انتهينا فى النسب إلى هذا الموضع، وهو إثبات وتصديق لما يأتى بعده، وردّ على قائل إنّ سعيد المتسمّى بعبيد الله الملقّب بالمهدى من ولد على بن أبى طالب. فنقول له من أىّ ولد علىّ هو؟ أمن ولد الحسن، أم من ولد الحسين، أم من ولد محمد بن الحنفية، أم من ولد العباس، أم من ولد عمر؟ فهؤلآء الأصول من ولد علىّ بن أبى طالب عليه السلام. وقد ذكرنا كلاّ من هؤلآء الأصول، وأولادهم، وأولاد أولادهم، وذكرنا كلّ بيت منهم، ومن أعقب ومن لم يعقب. وكلّ بيت منهم مشهورين فى الأقطار من سائر الأرض الذى اتصلوا بها، كما قد ذكرنا فى هذا الكتاب أنّ منهم باليمن

ولد الهادى الذين لهم الإمارة، ومنهم بنو المطّوق، ومنهم بنو الأدرع، ومنهم بمصر بنو طباطبا إبراهيم، ومنهم ولد الداعى بطبرستان، ومنهم من له الإمارة بالديلم من ولد الحسن بن زيد. ومنهم الداعى إلى الحقّ المتولّى على طبرستان، وغيرهم مما تقدّم عند ذكر شرح أنساب الفروع من ولد الحسن بن على بن أبى طالب عليه السّلام. وإن كان من ولد الحسين بن علىّ بن أبى طالب عليهما السلام فقد ذكرنا ولد الحسين وكلّ بيت منهم فقلنا: إنّ العقب من ولد الحسين من علىّ الأصغر، والذين أعقبوا من ولده محمد أبو جعفر، وعبد الله، وزيد، وعمر، والحسين الأصغر، فذكرنا جميع من أعقب من هؤلآء. وإن كان من ولد محمد بن الحنفيّة فقد ذكرنا جميع ولده، وولد ولده، ومن أعقب منهم ومن لم يعقب. وإن كان من ولد العباس وعمر ولدى علىّ بن أبى طالب فقد ذكرناهما وجميع ذراريهما، ومن أعقب منهما ومن لم يعقب. فمن أىّ البيوت هذا المدّعى الكذّاب المتعلّق بالباطل؟ فهؤلآء جميع ولد علىّ بن أبى طالب عليه السلام الذين ينتسب إليهم من كان من العلويين فى المشرق والمغرب والقبلة والشمال. فإن كان صادق النسبة فلم لا انتسب إلى بيت من هؤلآء البيوت المذكورين كما ينتسب

أهل النسب؟ وعلى الجملة فإنه ليس بشئ من هذا النسب بل دخيل دعىّ، وسيأتى ذكر نسبه وأصله إن شاء الله تعالى. وأمّا الذين بالمغرب المشهورون من ولد على بن أبى طالب فولد إدريس الأصغر ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب، لأنه كان هرب إليه فى أيام الرشيد، وغلب على موضع منه. فدسّ عليه الرشيد متطبّبا فسقاه سمّا فقتله. وولده هناك.

ذكر العبيديون ونسبهم وبدو شأنهم، من كتاب الشريف

ذكر العبيديون ونسبهم وبدوّ شأنهم، من كتاب الشريف قال الشريف أبو الحسين محمد بن علىّ المعروف بأخى محسن رحمه الله تعالى: نبتدئ الآن بذكر خبر هؤلآء القوم الذين استولوا وتغلّبوا على المغرب، أعنى عبيد الله بن الحسين وأولاده من بعده، ونذكر مواضعهم، وكيف كان أمرهم إلى آخر ما يقف بنا الكلام. فأقول: إن هؤلآء القوم من ولد ديصان الثنوى الذى تنسب إليه الثنويّة. وهو مذهب يعتقدون فيه خالقين اثنين: أحدهما يخلق النّور والآخر يخلق الظلمة. تعالى الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شئ قدير. فولد ديصان الملعون ولدا يقال له ميمون القدّاح، وإليه تنسب الميمونيّة. وكان له مذهب فى الغلوّ. ثم ولد لميمون ولدا يقال له عبد الله. وكان أخبث من أبيه وأمكر، وأعلم بالحيل. فعمل أبوابا عظيمة من المكر والخديعة على بطلان الإسلام. وكان عارفا بجميع الشرائع والملل والسنن، وجميع علوم المذاهب كلّها، فرتّب

ما جعله للإنسان من المكر والخديعة تسع دعوات يدرّجه من واحدة إلى واحدة، فإذا انتهى إلى الدعوة الأخيرة جعله معرّى من جميع الأديان، لا يعتقد غير تعطيل البارى جلّ ذكره، وإباحة أمة محمد صلّى الله عليه وسلم وغيرهم من الأمم، ولا يرجو ثوابا ولا يخاف عقابا. وما هويت نفسه لا يرجع عنه. وكان هذا الملعون المسمّى بعبد الله بن ميمون يريد بهذا أن يجعل المخدوعين أمّة له، ويستمدّ من أموالهم بالمكر والخديعة فى الباطن، وفى الظاهر، <ف‍> إنه يدعو إلى الإمام من آل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويعنى أنه محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب عليه السّلام. وكذب فى ذلك، ليس لآل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فى هذا الأمر كثير ولا قليل، وإنّما هو شئ يخدع به الناس ليجمعهم عليه بهذه الحيلة. وقد كان عبد الله هذا طلب أن يتنبّأ قبل هذه الشعوذة فلم تتمّ له الحيلة. وقد ذكره أحمد بن الحسن المسمعى فى كتابه الذى ذكر فيه من تنّبأ من الكذّابين. وأصل هؤلآء القوم، أعنى عبد الله بن ميمون وآباءه، من موضع بالأهواز يعرّف بقورح العبّاس. وكان عبد الله هذا قد نزل عسكر مكرم، فسكن بساباط أبى نوح، فاكتسب بهذه الدعوة الخبيثة التى يأتى ذكرها فى هذا الكتاب مالا. وكان يتستّر بالتشيّع والعلم، فلما صار له دعاة، وظهر ما كان فيه

من التعطيل والإباحة والمكر والخديعة، ثار الناس عليه. فأوّل من ثار عليه الشيعة ثم المعتزلة وسائر الناس، وكبسوا ذاره، فهرب إلى البصرة، ومعه رجل من أصحابه يعرف بالحسين الأهوازى. فلما لم يجدوه هدموا دارين له بعسكر مكرم، فاتخذوا أحدهما مسجدا، والأخرى مهدومة إلى الآن. فلما وصل عبد الله بن ميمون إلى البصرة نزل ببنى باهلة على موال لآل العقيل بن أبى طالب وقال لهم: أنا من ولد عقيل، وداع إلى محمد بن إسماعيل ابن جعفر، ولم يمكنه يقول ذلك بفارس لشهرته فى الناس ومعرفتهم به. وإنما كانت دعواه إلى عقيل بن أبى طالب سرّا عند من يخدعه. فلما قام انتشر خبره، فطلبه العسكريّون فهرب. فأخذ طريق الشام ومعه حسين الأهوازى. فلما توسّطا (ص 14) الشام عدلا إلى سلمية ليخفى أمرهما. فأقام بها عبد الله وخفى أمره، حتى ولد له ابن فسمّاه أحمد مكرا منه، ليخفى ما هو عليه من فساد عقيدته. فلما هلك عبد الله قام بأمر الدعوة الخبيئة ابنه أحمد. فبعث أحمد بالحسين الأهوازى داعية إلى العراق، فلقى حمدان بن الأشعث قرمطا بسواد الكوفة. وسيأتى خبره بعد ذكر بنى عبد الله. ثم ولد لأحمد بن عبد الله الحسين ومحمد المعروف بأبى الشلعلع.

ثم ولد لحسين ولدا فسمّاه سعيدا. فاستقرّت الدعوة الخبيثة فيه. وكان أحمد فى حال حياته بعث داعيين إلى المغرب أخوين: أحدهما أبو عبد الله الشيعى، والآخر أبو العباس، فنزلا فى قبيلتين من قبائل البربر فأخذا على أهلها. وكان قد اشتهر أمرهم بسلمية جدا وأيسروا، وصارت لهم أملاك كثيرة وأموال جمّة. وبلغ السلطان أمرهم، فبعث يحثّ فى طلبهم، لما يفعلونه من المكر والحيلة وبثّ الدّعاة وفساد الدين الإسلامى. فلما وقع الطلب على سعيد هذا بسلمية هرب إلى مصر يريد المغرب. وكان على مصر يومئذ عيسى النوشرى. وكان سعيدا هذا خدّاعا، فدخل إليه ونادمه. فبلغ خبره الخليفة فبعث إلى عيسى بأن يستقصى عليه ويطلبه حيث كان. فقرئ كتاب السلطان فى مجلس عيسى وفيه ابن المدبّر، وكان مؤاخيا لسعيد ويريد أن يدخل فى دعوته. فعرف سعيد بالخبر فى وقته، فهرب. وأمر عيسى بالقبض على سعيد فلم يوجد، وهرب إلى الإسكندرية. فبعث عيسى إلى والى الإسكندرية بأن يقبض على سعيد. وكان واليها يومئذ رجلا ديلميّا يقال له علىّ بن وهسودان (ص 15) وكان سعيد كما ذكرنا خدّاعا. فلما قبض عليه تقرب إليه أنه من آل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرقّ له وأخذ منه بعض ما كان معه وأطلقه.

فسار حتى نزل سجلماسة من المغرب الأوسط. وكان فى رسم التّجار، فتقرّب إلى واليها وهو يومئذ اليسع آخر ملوك بنى مدرار، فأقام عنده مدّة. وبلغ الخليفة المعتضد خبره، فبعث يحثّ فى طلبه. فلما قرأ كتابه صاحب سجلماسة لم يقبض عليه. فورد عليه كتاب آخر يحثّه على القبض عليه. فقبضه وأودعه الاعتقال فى قلعة بسجلماسة. وقد كان خبره قد وصل إلى أبى عبد الله الشيعى الداعى الذى قدمنا ذكره، وقلنا إنه بعثه أحمد هو وأخوه أبو العباس إلى المغرب دعاة. وقيل إنّ الذى بعثهما هو محمد بن أحمد المعروف بأبى الشلعلع. فسار أبى عبد الله بمن معه من البربر فقتل والى سجلماسة واستخلص سعيدا، وصار صاحب الأمر. هذا ما ذكره الشريف أبو الحسين. وأمّا ما ذكره صاحب «الدول» فإنه قال: لما وصل أبو عبد الله الشيعى بجيوشه وقارب سجلماسة قيل لليسع صاحبها: إنّ هذا الرجل الذى فى اعتقالك هو الذى يدعو له أبا عبد الله. فعمد صاحب سجلماسة أن قتل سعيدا وتركه طريحا فى السجن، وهرب من البلد مع جميع أهله. فدخل أبو عبد الله السجن فوجده مقتولا وعنده رجل من أصحابه كان

اعتقل معه. فخاف أبو عبد الله أن ينتقض عليه ما دبّره من الأمر إن عرفت البربر والعساكر بقتل صاحب الدعوة. فتعاون مع الرجل ودفنه، ودمره ودثر مكانه، وعاهد ذلك الرجل على أن يكون هو صاحب الدعوة. فاتّفق ذلك. (ص 16) ثم أخرجه وقال: هذا هو المهدىّ صاحب الدعوة. واستقرّ له الأمر، ولم يلبث إلاّ يسيرا حتى قتل أبا عبد الله الشيعىّ الداعى، وتملك سعيد البربر كما يأتى خبره فى موضعه إن شاء الله تعالى. ثم غلب على بنى الأغلب ولاة المغرب، وتلقّب بالمهدىّ وصار إماما علويا من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر كما يأتى تتمة خبره بعد ذكر الأغالبة.

ذكر الدولة الأغلبية وابتدائها

ذكر الدولة الأغلبية وابتدائها كان الإمام المنصور عبد الله بن محمد بن عبد الله بن على بن عباس رضى الله عنه قد وجّه محمد بن الأشعث الخزاعى فى ثمانية ألفا إلى إفريقية من أهل خراسان والعراق. وكان قد خرج بها أبو الخطّاب الصفّرى فقتله. وهو الذى بنى سور القيروان فى سنة ستّ وأربعين ومئة. ثم عزله عن إفريقية وولّى عليها الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة بن سوادة فى سنة ثمان وأربعين ومئة. وهو جدّ بنى الأغلب، وإليه ينسبون. ثم عزله المنصور عن إفريقية وولّى عليها هزامرد. وكان أشجع أهل عصره. وهو من ولد قبيصة بن أبى صفرة أخى المهّلب. وكان له مع البربر ثلاث مئة وخمس وسبعون وقعة. ثم عزله وولّى يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهّلب، ثم ولّى ابنه داود بن يزيد، ثم عمه روح بن حاتم، تولاّها أيام الرشيد بالله فى سنة إحدى وسبعين ومئة، ثم وليها نصر بن حبيب سنة أربع وسبعين ومئة، ثم هرثمة بن أعين سنة تسع وسبعين ومئة، ثم مقاتل بن محمد العكّى فى سنة إحدى وثمانين ومئة، ثم ملكها من بعده بنو الأغلب فأوّلهم:

-1 - إبراهيم بن الأغلب

-1 - إبراهيم بن الأغلب (ص 17) كان ابتداء ولايته إفريقية على أيام الرشيد بالله فى جمادى الآخرة سنة أربع وثمانين ومئة. وكان إبراهيم فقيها عالما ديّنا شاعرا خطيبا ذا رأى وبأس وحزم وحلم وعلم بالحروب والمكايد، حسن السيرة. ولم يكن أحد قبله يساويه فى حسن السّيرة والسياسة والعدل. وكان كثير الاختلاف إلى الليث بن سعد. وهو أوّل من غزا صقلية. ومن عجيب أخباره فى جوده أنه أشرف من قصره يوما على امرأة قد طبخت فرخى حمام. فاستدعى خادما له وعرّفه منزل المرأة وقال له: ائتنى بالقدر على حالها. فامتثل الخادم وأحضر القدر. فأمر فغسلت القدر وملأها دنانير وأعادها لتلك الامرأة. ومن جوده أنه أعطى تاجرا جلب إليه خشبة عود هندىّ ألف دينار ومئة وصيف ووصيفة روم، وكساهم، وأمر <ب‍> مركب يوصلهم إلى الإسكندريّة. وكان قاضيه أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن غانم بن شرحبيل بن ثوبان الرعينى أورع أهل زمانه وأفقه أهل مصره، ممن صحب مالك بن أنس رضى الله عنه، وله معه أخبار مطبوعة تدلّ على حلم إبراهيم ودينه وخيره.

فمنها أنه كان إذا جلس للخصوم رمى إليه شقاف فيها أسماء القصص، فوقعت له شقفة فيها قصة نخاسين البغال. فدعاهم وسألهم. قالوا: إن أبا موسى هارون مولى إبراهيم الأمير هذا اشترى منهم بغالا بخمس مئة دينار، ولم يدفع لهم شيئا. فضمّ ديوانه وقام معهم إلى إبراهيم. وكان قد أباحه الدخول عليه متى شاء. فقال له إبراهيم: ما قصّة القاضى؟ فذكر له قصّة المتظلّمين. فأمر إبراهيم بإحضار هارون، فأحضر وسأله فأقرّ (ص 18) وقال: إنما أخّرته حتى أدفعه من خراج ضيعتى. فقال القاضى ابن غانم: إنما ظننت أنه ينكر، فاستحلفه. فأمّا إذ أقرّ فلا يبرح حتى يدفع إليهم مالهم. فلم يزل حتى دفع ذلك. وروى أنّه دخل على إبراهيم يوما وفى يد إبراهيم قارورة فيها دهن يسير. فقال لابن غانم: كم تقول إنّ هذا الدهن يساوى؟ فذكر شيئا يسيرا. فقال الأمير إبراهيم: إن ثمنه كذا وكذا، وذكر مبلغا كثيرا. فقال ابن غانم: وما هو؟ قال: إنه سمّ قاتل سريع. فقال القاضى: أرنيه. فناوله إياه فضرب به العمود فكسّرها.

فقال إبراهيم: ما هذا الذى صنعت يا قاضى. فقال: لا أترك معك ما تقتل به الناس. وكان إبراهيم يصلّى الفرائض كلّها فى الجامع مع الجماعة. فخرج ليلة من الليالى لصلاة عشاء الآخرة، وكان مشغول القلب، فعثر على حصير الجامع فسقط. فلما صلّى بالناس وانصرف بعث فى طلب ابن غانم. فمضى إليه، فقال: إنى لم أبعث وراءك إلاّ لخير. وأخبره بسقوطه على الحصير بالجامع وقال: إنما فى طلبك لتستنهكنى لئلاّ يقال إنّى سقطت لسكر. فاستنهكه. ثم قال: جزاك الله عن دينك خيرا. ولما مات ابن غانم ولى القضاء أبو محرز محمد بن عبد الله بن قيس ابن يسار الكنانى مكرها. وقد عدّه ابن شعبان الفرضى من أصحاب مالك ابن أنس. وكان قد أبى، فأمر إبراهيم عامر بن معمّر بحمله إلى مجلس الحكم، فمسك بيده وأجلسه، وتمادى فى الولاية حتى مات إبراهيم ابن الأغلب. توفى إبراهيم رحمه الله يوم الثلاثاء لثمان بقين من شوال سنة سبع وتسعين ومئة. فكانت مملكته ثلاث عشرة سنة وشهرين وأيام. والله أعلم.

-2 - (ص 19) أبو العباس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب

-2 - (ص 19) أبو العبّاس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب ولى الأمر من بعد والده. وكان صبيحا جميلا سيّئ السيرة ظلوما. فأقام فى الولاية إلى العشر الأوّل من ذى الحجّة سنة إحدى ومئتين. فأحدث على الناس ضرائب منكرة، وزاد عليهم فى الخراج، حتى جعل على كلّ زوج من البقر ثمانية دنانير. فاجتمع عند ذلك جماعة من الزهّاد والصالحين مع حفص بن عمر الجزرى الزاهد، ودخلوا عليه وسألوه رفع هذه المظلمة عن المسلمين. وقال له حفص: يا صبيح الوجه! لا تشن صباحتك بفعل قبيح. فلم يرجع عن فعله. فقال حفص لأصحابه: أخطأنا إذ قصدنا مخلوقا فى مثل هذا الأمر، فاقصدوا بنا الخالق. فدعوا الله عزّ وجلّ أن يكفى المسلمين شرّه، فما لبث أبو العباس غير خمسة أيام، وخرجت له قرحة عظيمة تحت أذنه مات منها فى العشر الأوسط من ذى الحجة سنة إحدى ومئتين. فكانت مدة مملكته أربعة أعوام.

-3 - زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب

-3 - زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب ولى الأمر بعد وفاة أخيه. وأقام مستمرّ الولاية حتى ثار عليه منصور الطنبذى لخمس بقين من صفر سنة تسع ومئتين. وثار معه جميع الجند ببلاد إفريقية إلاّ طائفة يسيرة بقيت مع زيادة الله. وغلب منصور على مدينة القيروان وحصّنها، وعلى سائر بلاد أفريقية. وحصر زيادة الله فى القصر القديم، ونزل بعسكره بين شرقىّ مدينة القيروان وقبلتها، وخندق عليه وحاصره. ثم انهزم منصور فى شهر رمضان سنة إحدى عشرة ومئتين هزيمة (ص 20) فاضحة، وخرج زيادة الله وهدم سور مدينة القيروان. ثم بعث أبا فهر بن عمرون فى جيش إلى مدينة تونس. وكان أهلها وافقوا منصورا، فاستباحها وقتل أكثر من بها، وقتل فى جملة أهلها أبا الوليد عبّاس بن الوليد الفارسىّ الزاهد. وإنه لما رجع أخبر زيادة الله بخبر الفتوح، وذكر قتله ابن الفارسى. فاستعظم ذلك زيادة الله وأكبره، وقال: أما علمت أنّ قاتل ابن الفارسىّ لا يلبث حولا؟ فلم يدر الحول حتى قتل أبو فهر. ودامت فتنة منصور حتى انقطعت لعشر ليال بقين من رمضان سنة ثمان عشرة ومئتين. ودخل الناس بأجمعهم فى طاعة زيادة الله.

وهو الذى فتح جزيرة صقلية. وكان سبب فتحها أنّ أبا العباس بن إبراهيم الأمير الذى كان قبل زيادة الله متولّيا كان قد صالح أهلها. وكان من شروط الصلح أنّ من دخل من المسلمين إليهم وأراد الخروج من عندهم لا يمنعونه. ثم نمى إليه أنّ عندهم أسرى من المسلمين قد منعوهم الخروج. فاستفتى الفقهاء فى ذلك، ثم غزاها بجيش عدّته عشرة آلاف رجل عليهم أسد بن الفرات القاضى مع إبقائه على القضاء. فخرج فى شهر ربيع الأول سنة اثنتى عشرة ومئتين إلى سوسة، ثم عاد منها إلى صقلية فى جمع عظيم. فلما حصل بها زحف إليه ملكها واسمه ملاطة فى عسكر عظيم ذكر أنّ عدته مئة ألف وخمسون ألفا. ولما صافّهم المسلمون انقطعت عنهم الموادّ، ووقع فى عسكرهم الغلاء حتى أكلوا لحوم الخيل. فأتاه ابن قادم ومعه رهط من المسلمين فقال له: الرأى أن ترجع بالمسلمين إلى إفريقية، فسلامة رجل من المسلمين خير من الروم بأسرهم. فقال (ص 21): ما كنت لأكسر على المسلمين غزوة مثل هذه. فأبى عليه ابن قادم حتى همّ أسد بإحراق المراكب. فبدرت من ابن قادم كلمة على وجه الغلط فقال: على أقلّ من هذا قتل عثمان بن عفّان. فتناوله أسد بالسوط فقنعه أربعة، ثم أمر الناس بالزحف، وأخذ اللواء بيده وهو يرمز بقراءة (يس). فلما فرغ منها قال للناس: أيّها الناس! لاتها بوهم، إنهم عبيدكم هربوا

من أيديكم ثم وقعوا لكم. يعنى أنهم الروم الذين هربوا من إفريقية لمّا ملكها المسلمون. ثم زحف. وقاتلوا المسلمون قتالا شديدا، ثم هزم الله الروم وقتل ملكهم مع أكثرهم. وملكوا المسلمون صقلية وسكنوها. وجرح أسد بن الفرات رضى الله عنه فمات من جراحته، وهو محاصر لسرقوسة فى شهر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة ومئتين، ودفن فى ذلك الموضع. وقيل إن الروم يعظّمون قبره وربما يستسقون به فيسقون. ومن عجيب أخباره أنّه لما مات أبو محرز قاضيه جمع الفقهاء ليولّى منهم قاضيا، وجعل كلّما أعرض القضاء على أحدهم أباه. فأمرهم بلزوم الجامع حتى يرضوا قاضيا. فأقاموا فيه وبعث بعض ثقاته وقال له: انظر من يقدّموه للصلاة. فقدّموا أحمد بن أبى محرز القاضى. فولاّه القضاء وجبره عليه. فلما رأى الجلد من الجبر وأن لا بدّله، أشرط عليه أن ينفذ حكمه فيه فمن دونه فقبل ذلك. فاتفق أنه تخاصم رجل من أهل القيروان مع رجل من أصحاب على بن حميد الوزير فى دار، فحكم فيها القاضى على صاحب الوزير، وختم على الدار. فمضى الرجل إلى الوزير فأخبره بما (ص 22) كان منه، فأمر بفكّ الختم.

فمضى الرجل المختوم له إلى القاضى وأشعره ذلك. فغضب وضمّ ديوانه وأخذ كتاب تقليده ومضى إلى قصر الأمير زيادة الله فى نصف النهار. فوافق مرور الحاجب فسأله الإذن. فأخبره أنه لا يقدر على الاستئذان فى مثل هذه الساعة. فمضى القاضى إلى باب القصر الذى للحرم فقرع الحلقة. فخرجت والدة الأمير من مقصورتها فزعة. فقيل لها: القاضى واقف بالباب يريد الإذن على الأمير. فخرجت حتى أتت على الأمير وهو فى بعض المقاصير مختل مع جارية من جواريه. فحرّكت باب المقصورة. فقال الأمير: من؟ فقالت: الوالدة. فخرج إليها فزعا. فقالت له: القاضى بباب الحرم. فارتاع لذلك، وأذن له. وقصّ عليه قصّته ورمى سجله. وقال: اعفنى يعفو الله عنك ويجزل ثوابك. فكان جواب الأمير له برفق: لا تغضب أيها القاضى. واجلس حتى أريك ما أصنع. قال: فخرج القاضى إلى قاعة الجلوس وتأخّر الأمير حتى اغتسل ثم خرج، وركب بنفسه، والقاضى يحاذيه وهو لا يدرى أين يتوجّه، حتى دخل من باب الربيع، ووقف على المسجد الذى يعرف بمسجد المفرعة. ثم قال للقاضى: أين الدار التى أمرت بختمها؟ فقال: هذه هى. فقال: اختمها أيها القاضى. فختمها، وختمها الأمير أيضا. وبلغ الوزير خبره فخرج من داره راجلا حتى أتاه. فانتهره الأمير ووبخّه، وقال له فى بعض كلامه: والله لولا واجب صحبتك ما جعلت ختمه إلاّ على رأس الذى حلّه. فتبرأ الوزير من ذلك الرجل

وحلف وودّ لو مات قبل هذه الواقعة. وكثر الدعاء للأمير والثناء عليه. (ص 23) وكان زيادة الله يقول: ما أبالى إن شاء الله بأهوال يوم القيامة وقد قدمت أربعة أشياء: بنائى المسجد الجامع بالقيروان. وقد أنفقت فيه ستة وثمانين ألف دينار. وبنائى القنطرة بباب الربيع. وبنائى حصن الرباط بسوسة، وتوليتى أحمد بن أبى محرز القضاء. ولى زيادة الله فى العشر الأوّل من ذى الحجة سنة إحدى ومئتين، وتوفى لأربع عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثلاث وعشرين ومئتين، وذلك فى أيّام عبد الله المأمون أمير المؤمنين، فكانت مملكته إحدى وعشرين سنة وسبعة شهور وأربعة أيام. وزيره: على بن حميد. قضاته: أبو محرز قاضى أبيه. وكان أشرك معه فى القضاء أبا عبد الله أسد ابن الفرات مولى بنى شيبان. وتولّى القضاء مع أبى محرز سنة ثلاث وثمانين ومئة. وتوفى كما ذكرنا وهو محاصر سرقسطة من جراحة، وانفرد أبو محرز فى القضاء حتى مات. وتولّى ولده أحمد بن أبى محرز فى شهر رمضان سنة عشرين.

-4 - أبو عقال الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب

-4 - أبو عقال الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب عقدت له الولاية فى اليوم الذى توفى فيه أخوه، وأقام إلى أن توفى فى يوم الخميس لتسع بقين من شهر ربيع الآخر سنة ستّ وعشرين ومئتين. فكانت مدة مملكته ستين وتسعة أشهر وسبعة أيام فى أيام المعتصم. -5 - أبو العباس بن الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب اسمه محمد: عقدت له الولاية عند وفاة والده، وأقام إلى أن توفى فى يوم الاثنين لليلتين خلتا من المحرّم سنة اثنين وأربعين ومئتين، فى أيام المتوكل على الله فكانت مدة مملكته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر (ص 24) وأحد عشر يوما. وكان قاضيه الفقيه الأمام أبو محمد سحنون رضى الله عنه. ومن أخباره: دخل عليه القاضى سحنون أول يوم من شهر رمضان فألفاه خاليا. فقال له: أراك أيها الأمير خاليا. فقال: نعم. انفردنا فى هذا الشهر

الشريف، وخلونا فيه، وتركنا ما كان لغير الله عزّ وجلّ. فقال له سحنون: فأين أنت أيها الأمير عن إسحاق المكشوى يؤانسك ويخبرك بأخبار الأمم السّالفة والقرون الماضية. وكان رجلا متفقّها كثير الحفظ للسّير. فسأله إحضاره. قال إسحاق: فأقمت أجالسه مدة الشهر، فلما أهلّ الهلال بشوّال خرج الحاجب فقال: انصرف. آجرك الله. فانصرفت ثم قلت: ما أحدا أعجز منى. حضرت مجلس الأمير ثلاثين يوما فلم أذكر الذى علىّ ولا الفقر الذى أنا فيه. قال: فلما بلغت القباب إذا برسول يركض خلفى. فقال: أجب الأمير. فرجعت. فقال: يا ابن المكشوى. أجبنى عما أسألك عليه. قال: فقلت ما هو أصلحك الله؟ فقال: عقل الرجل أين مسكنه؟ فقلت: أمّا من عاقل مثلك فبين عينيه. وأما من معتوه عاجز مثلى فخلف قفاه. فقال لى: لم ذاك؟ فقلت: أصلح الله الأمير! جالستك ثلاثين يوما فلم أذكر دينا علىّ ولا أعلمتك به. فقال: ويحك! وكم عليك من الدين؟

قلت: مئة وخمسون دينار. قال: هى لك. قلت: أصلحك الله هذا البرذون الذى يحمل رجلى ليس يقوم إلاّ بالعلف. قال: وكم يقوم به فى السنة؟ قلت: خمسون قفيزا من الشعير. فأمر لى بها. قلت: أصلحك الله، والقمح الذى به قوام الأبدان ليس فى البيت منه شئ. قال: فكم قوتك فى السنة؟ قلت خمسون قفيزا قمحا. فأمر لى بها. فقلت: أصلح الله الأمير (ص 25) الزيت الذى يتأدّم به ويستصبح. فقال: وكم يقوم بك فى السنة؟ قلت: ثلاث مئة منا. فأمر بذلك. قلت: الحطب أصلح الله الأمير يكفينى عشرة أحمال. فأمر بذلك. فقلت: أعان الله الأمير على البرّ والتقوى. فيكون ذلك فى كل عام. فقال: يا عاجز! فهل نأمر لك بشئ ثم نقطعه عنك؟ أبى الله.

-6 - أحمد بن محمد بن الأغلب يكنى: أبو إبراهيم

-6 - أحمد بن محمد بن الأغلب يكنى: أبو إبراهيم ولما توفى أبو العباس ولى ولده هذا. وكان حسن السيرة، كريم الأخلاق والأفعال، من أجود الملوك وأسمحهم وأرفقهم برعية على صغر سنه، إلى أن توفى يوم الثلاثاء لستّ خلون من جمادى الأولى سنة تسع وأربعين ومئتين. فكانت مدّة مملكته سبعة أعوام وعشرة أشهر وأحد عشر يوما. -7 - زيادة الله الثانى ابن محمد الأغلب ابن إبراهيم كان عاقلا حليما، حسن السيرة، جميل الأفعال، ذا نجدة وفضل، وليس فى بنى الأغلب مثله. وأقام واليا إلى العشرين من ذى القعدة سنة خمسين، ولا أعلم هل قتل أم مات أم خلع. فكانت مدة مملكته ثمانية أشهر وأربعة عشر يوما.

-8 - محمد بن أحمد بن محمد بن الأغلب بن إبراهيم المعروف بأبى الغرانيق

-8 - محمد بن أحمد بن محمد بن الأغلب بن إبراهيم المعروف بأبى الغرانيق ولى أبو عبد الله، وهذه كنيته، الأمر بعد عمّه يوم السبت العشرين من ذى القعدة. وكان مسرفا فى الجود مع حسن السيرة ورفق، وهو الذى افتتح جزيرة مالطة فى سنة خمس وخمسين ومئتين. وأقام واليا إلى أن توفى يوم الثلاثاء لستّ خلون من جمادى الأولى، سنة إحدى وستين ومئتين. فكانت مدة مملكته عشر سنين وخمسة أشهر وستة عشر يوما. -9 - أخوه إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب (ص 26) كنيته: أبو إسحاق ولى يوم الأربعاء لسبع خلون من جمادى الأولى، وهو الذى ابتنى مدينة رقّادة فى سنة ثلاث وستين ومئتين، وذرعها أربعة عشر ألف ذراع وست مئة ذراع.

-10 - أبو العباس <عبد الله> بن إبراهيم بن أحمد ابن محمد بن الأغلب

وتزعم أهل الطبايع أنّ رقّادة يعرض لمن كان بها الضحك من غير عجب، والسرور من غير سبب. وهو الذى قتل بناته وأصحابه وكفاته بعد ظهوره على العبّاس بن أحمد بن طولون. وقد كان ثار عليه أهل القيروان وخرجت عن يده مدّة، ولم يبق فى يده عند خروج أكثر البلاد عنه غير القصر القديم، ثم ظفر بهم. وعلى أيّامه وصل أبو عبد الله الشيعى إلى بلاد كتامة، وسافر إبراهيم إلى صقلّية غازيا، وترك على أفريقية ولد أبا العبّاس. وكان سفره فى سنة تسع وثمانين ومئتين. وخرج من صقلية وحاصر كسنته، فمات وهو محاصرا لها فى سنة تسع وثمانين ومئتين. فكانت مدة مملكته قريبا من ثمانية وعشرين سنة. أولاده: أبو العباس، أبو الأغلب. -10 - أبو العباس <عبد الله> بن إبراهيم بن أحمد ابن محمد بن الأغلب كان والده قد استخلفه على أفريقية وخرج إلى صقلّية، وعزم على أن

يجعلها دار سكنه ليقرب عليه الغزو منها. فلما مات على كسنته ولّى على الجيش الذى كان معه ولده أبو الأغلب. وكان عفيفا ورعا ديّنا عالما. فاستدعى زيادة الله أبا مضر بن أبى العبّاس، وهو ابن أخيه. وكان جدّه إبراهيم قد نقم عليه أمرا فحبسه. فأطلقه عمّه وسلّمه الخاتم والجيش، وقال له: والدك هو الأمير، وأنت أحقّ منى بتقديم الجيش. فرجع زيادة الله بالجيش عن البلد (ص 27) إلى صقلية، وحاول النفاق على أبيه فلم يمكنه ذلك مع الأجناد. فسار إلى أفريقية. وكان أبو العباس قد سيّر ابنه بالجيوش إلى الشيعى أبى عبد الله داعى المهدى العبيدى المقدّم ذكره. فوصل زيادة الله أفريقية. فقبض عليه أبوه وقيّده لأنّ الخبر نمى إليه بطلبه للنفاق. فلما مسكه عمل على قتل والده، ووافقه على ذلك بعض الخدم، فقتلوه فى ليلة صبيحتها يوم الأربعاء ليوم بقى من شعبان سنة تسعين ومئتين بمدينة تونس. فكانت مدة مملكته من يوم خرج أبوه عن أفريقية إلى حين قتل سنة واحدة واثنين وخمسين يوما. وقام بأمر المملكة:

-11 - أبو نصر زيادة الله بن أبى العباس بن إبراهيم بن أحمد

-11 - أبو نصر زيادة الله بن أبى العباس بن إبراهيم بن أحمد ولما قتل أبو العباس بادر الخدم الذين قتلوه فأخبروا ولده زيادة الله. فتخوّف لئلا يكون مكيدة من أبيه عليه. فأحضروا الرأس إليه وفكّوا قيده. فأظهر الغضب وعدم الرضا. وقتل الخدم الذين باشروا قتله، وقبض على عمومته ورؤساء أهل بيته، واستدعى أخاه من قتال الشيعىّ فبادر بقتله. وأقام يقاتل الشيعىّ مدّة، والشيعىّ ينتقص أطرافه ويكسر جيوشه، إلى أن بعث إبراهيم ابن الأغلب، وهو أحد بنى عمّه فى سنة خمس وتسعين ومئتين، فى جيش لا يجتمع لأحد من بنى الأغلب، أظهر فيه قوّته، وجعله عذره فى الهرب، وأمره أن لا يتجاوز مدينة الأربس لئلا يكن حائلا بين أطراف بلاد القيروان وبين الشيعىّ. ثم سار الشيعىّ، والتقوا يوم السبت لستّ بقين من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين ومئتين. فاستعلى عسكر زيادة الله (ص 28) على الشيعىّ، ثم نفذ قدر الله الكائن المقضىّ فانهزم إبراهيم بن الأغلب وجميع جيوشه. فبلغ الخبر زيادة الله يوم الأحد وقت الظهر. فشدّ أمواله وفاخر متاعه

وخزائنه، وأخذ من حرمه الخواصّ منهم، وكذلك غلمانه، وخرج ليلا من رقّادة هادبا. ويحكى أنه ترك بعض حظاياه وعزم على أن لا يستصحبها معه. فلمّا خرج راكبا وأمواله بين يديه وحظاياه وغلمانه غنّت تلك الجارية: لم أنس يوم الرحيل موقفها … وجفنها فى دموعها غرق وقولها والركاب سائرة … تتركنى سيدى وتنطلق قال: فرقّ لها وبكى وانتجب، وقطع أحمال بغل وأركبها واستصحبها. وروى أنّه استصحب مما اختاره من خدمه الصقالبة لسفره ألف صقلبىّ، تحت كلّ واحد فرس، فى وسط كلّ واحد منهم منطقة ذهب خارجا عن ألف بغل من الأموال والأمتعة الفاخرة. وسار بما معه، وأسلم بلاده إلى أن قرب من الإسكندرية، ووالى مصر يومئذ عيسى النوشرى من قبل الإمام المكتفى بالله. وقد كان زيادة الله قد مال عن إبراهيم بن أبى الأغلب ومال عن أبى الصعب بن زرارة، وعزم على قتلهما. فهربا إلى النوشرى والى مصر وأخبراه أنّ زيادة الله عازم على أن يدخل مصر مستأمنا، ثم يتغلّب عليها. فتخوّف النوشرىّ ذلك. وكوتب زيادة الله بأن لا يدخل مصر إلاّ بإذن

الخليفة. فبعث صاحبه المعروف بابن القديم إلى النوشرى: إنّما أنا عابر سبيل قاصدا لباب الخليفة. وسار فى إثره. فبينا ابن القديم عنده إذ وافى الخبر أنّ زيادة الله قطع الجسر آخر الليل. وكان قد قام فى وجهه الحرس (ص 29). فحمل عليهم فكشفهم عن الجسر ودخل الجيزة بجميع عسكره، ثم أتى الفسطاط، وأنزل فى دار ابن الجصّاص. وكوتب الإمام المكتفى بالله فى أمره. وأطلق له النوشرىّ المصير إلى الحضرة. فسار بعد إقامة ثمانية أيام. فتخلّف عنه عامة من كان معه. فلما وصل إلى الرّملة كوتب النوشرىّ فى إلحاقهم به. فلحقوه ووصل إلى الرقّة. ولم يؤذن له فى دخول بغداد. وورد الأمر من الإمام المكتفى بالله بأن يرجع إلى مصر ليلحق به الأجناد المندوبون للمسير معه عونة لاستنقاذ بلاده من الشيعىّ. فاعتلّ بالرقّة علّة كانت سبب منيّته. فنقل فى تابوت إلى البيت المقدّس فدفن هناك. فكانت مدة مملكته إلى أن خرج من القيروان خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة عشر يوما. وكان إبراهيم بن أبى الأغلب لما انهزم من الشيعىّ بالأربس قد وصل إلى رقّادة، فوجد زيادة الله قد خرج منها. فعزم على المقام بها. وجمع آل الأغلب وبايعهم لنفسه، وندب الناس إلى بيعته. فثارت عليه الناس وقالوا له: أنت لم تقو بهذا الرجل وبيوت الأموال وراءك والجيوش تمدّك، تريد تقاويه بنا

وبأموالنا؟ اخرج عنّا، ولا تقصد ضررنا. فخرج ولحق زيادة الله. وهذا السبب فى تغيّره عليه. وقيل: إنّه كان سمع قديما أنّ بنى الأغلب أوّلهم إبراهيم وآخرهم إبراهيم. فلما بويع إبراهيم هذا صدق الناس. ذكر ابن الجزّار أنّ مملكة بنى الأغلب كانت مئتى سنة واثنتى عشرة سنة وخمسة أشهر وأربعة عشر يوما. وعدّة ملوكهم اثنى عشر نفر بإبراهيم هذا. وانقطعت دولتهم، واستولى المهدىّ عبيد الله حسبما يأتى ذلك من بعد ذكر الدعاة الذين منهم القرامطة. وبالله التوفيق.

ذكر القرامطة دعاة العبيدين وبدو شأنهم ومبتدأهم

ذكر القرامطة دعاة العبيدين وبدوّ شأنهم ومبتدأهم قال الشريف أبو الحسين فى كتابه الذى بيّن فيه أصول هؤلآء القوم على ما نقلته من أمرهم: وقد تقدّم القول أنّ الحسين الأهوازى كان قد بعث داعيا إلى سواد الكوفة. فلما صار فى سواد الكوفة قصد طريق قرية تعرف بقس بهرام، فلقى فى الطريق رجلا يقال له حمدان بن الأشعث، ويعرف بقرمط، لأنه كان رجلا قصيرا ورجلاه قصيرتين، وخطوه متقاربا، فلقّب بقرمط. ومعه ثور ينقل عليه، فقال له الحسين الأهوازى: كيف الطريق إلى قسّ بهرام؟ فقال قرمط: هى قريتى، وأنا قاصدا. إليها فترافقا. ثمّ سأله الأهوازىّ عن قرية تعرف ببانثورا؟؟؟ فى السواد. فذكر أنها قريبة من قريته التى هى مسقط رأسه. وكان حمدان قرمط أصله من قرية تعرف بالدور على نهر هدّ من رستاق مهرونقيا من طسوج فرات نادقلى؟؟؟. فتماشيا ساعة. فقال له حمدان: إنى أراك جئت من سفر بعيد وأنت معى، فاركب ثورى هذا. فقال الحسين: إنى لم أؤمر بذلك. فقال له حمدان: كأنك تعمل بأمر قد

أمّر لك. قال: نعم. قال: من يأمرك وينهاك؟ قال: مالكى ومالكك ومن له الدنيا والآخرة. قال: فبهت حمدان قرمط يفكر، وأقبل ينظر إليه. ثم قال له: يا هذا؟ ما يملك الدنيا والآخرة إلاّ الله. قال: صدقت. والله يهب ملكه من يشاء. قال حمدان قرمط: فما تريد فى القرية التى سألتنى <عنها>؟ قال: دفع إلىّ جراب فيه علم سرّ من أسرار الله، وأمرت أن أشفى أهل هذه القرية وأغنى أهلها وأستنقذهم وأملّكهم (ص 31) ممالك الدنيا من أيدى أصحابهم. وابتدأ بدعوته ومكره لمّا رأى إصغاء قرمط إليه. فقال له قرمط: يا هذا، نشدتك الله هلاّ دفعت إلىّ من هذا العلم العظيم شيئا، وأنقذنى ينقذك الله. قال له: لا يجوز ذلك حتى تغتسل وتتطهّر وآخذ عليك عهدا وميثاقا أخذه الله على النبيّين والمرسلين. ثم ألقى إليك ما ينفعك. قال: فأتيا إلى نهر فاغتسل فيه قرمط، ولم يزل يضرع له حتى أخذ عليه العهد، ثم قال له: ما اسمك؟ قال: قرمط. فقال: قد أفلح وجهك. فقال له قرمط: أنا أسألك بحقّ من بعثك وأمرك ونهاك إلاّ ما صرت معى إلى منزلى حتى تجلس فيه، فإنّ لى إخوانا أصير بهم إليك لتأخذ عليهم العهد للمهدى. فصار معه إلى منزله. فأخذ على الناس العهد هناك. وأقام فى منزل حمدان قرمط فأعجبه أمره، وعظّمه وكرّمه، وكان على غاية ما يكون من الخشوع،

صائما نهاره قائما ليله. فكان المغبوط من أخذه إلى منزله ليلة. وكان ربّما خاط لهم الثياب ويتكسّب بذلك. وكانوا يتبرّكون بخياطته. وأدرك الثمر، فاحتاج أبو عبد الله محمد بن عمر بن شهاب العدوىّ إلى حراسة ثمره. وكان هذا الرجل من وجوه أهل الكوفة ومن أهل العلم والفضل والتوحيد. فوصف له هذا الرجل. فنصبه لحفظ ثمره والقيام على حضيرته. فأحسن حفظها واحتاط فى حفظ الأمانة، وظهر منه من التشدّد فى ذلك ما خرج به عن أحوال الناس فى تساهلهم فى كثير من الأمور. وذلك فى سنة أربع وستين ومئتين. فاستحكمت ثقة الناس به وثقته بحمدان قرمط وسكونه إليه. فأظهر له أمره وكشف له الغطاء. وكلّ ما كان (ص 32) يفعله هذا الخبيث من الثقة والأمانة وإظهار الخشوع والنسك إنما كان حيلة ومكرا وخديعة وغشا، وليس هو من أهل ذلك كله. فلمّا حضرته الوفاة جعل مقامه حمدان قرمطا. فأخذ على كثير من أهل السواد وكان ذكيّا خبيثا. وكان ممن أجابه مهرويه بن زكرويه السلمانى، وجلندى الرازى، وعكرمة البابلى، وإسحاق السورانى، وعطيف النبلى وغيرهم. وبثّ جميع دعاته فى السواد يأخذون على الناس. وكان أكبر دعاته عبدان. وقيل إنّه كان متزوجا أخت قرمط أو قرمط متزوّجا أخته. وكان عبدان رجلا ذكيّا خفيفا فطنا خدّاعا، خارجا عن طبقة نظرائه من أهل السواد، ذا فهم وعقل وخبث. فكان يعمل عند نفسه على

حدّ نصب له، ولا يرى أنه يجاوز به إلى غيره من خلع الإسلام، ولا يظهر غير التشيّع والعلم، وأنه يدعو إلى الإمام من آل رسول الله صلى الله عليه وسلّم محمد بن إسماعيل بن جعفر. وكان أحد من تبع عبدان زكرويه بن مهرويه الآتى ذكره وذكر ابنه فى هذا الكتاب. وكان زكرويه هذا شابا فيه ذكاء وفطنة. وكان من قرية بسواد الكوفة يقال لها الميسانية. تلاصق قرية تعرف بالصوان. وهاتان القريتان على نهر هدّ. فنصبه عبدان على إقليمه داعية، وأقام من قبله دعاة متفرقين فى الأعمال، وكان داعية عبدان على فرات نادقلى وإقليم نهر الميمى وإقليم نهر الرمان رجلا يقال له الحسن بن أيمن من أهل قرية من سواد الكوفة يقال لها معرزيا من إقليم فرات نادقلى. وكان داعية على طسوج تستر المعروف بالثورانى، وإليه تنسب الثورانية. وكان داعية (ص 33) على؟؟؟ الجنه والبداء المعروف بوليد. وكان داعية بسورا وبريسما المعروف بأبى الفوارس، هؤلآء كلهم رؤساء دعاة عبدان، ولهم دعاة تحت أيديهم. وكان كلّ داع منهم يدور فى عمله ويتعاهده فى كلّ شهر مرّة. وكلّ ذلك بسواد الكوفة. ودخل فى دعوته من العرب من بنى ضبيعة بن عجل، وهم من ربيعة، رجلان أحدهما يعرف برباح والآخر يعلى بن يعقوب، فأنفذهما دعاته إلى العرب فى أعمال الكوفة. ودخل فى دعوته من العرب أيضا من رفاعة من بنى يشكر، ثم من بكر بن وائل رجل يعرف بسيد، وآخر يعرف بهارون.

فجعلهما دعاته بجبيلا وما والاها فى العرب خاصة إلى حدود واسط. فمال إليه هذان البطنان ودخلا فى دعوته. فلم يكد يتخلّف عن ذلك رفاعىّ ولا ضبعى، ولم يبق فى البطون المتّصلة بالكوفة بطن إلاّ دخل فى الدعوة منه ناس كثير. وكذلك من بنى عايش وذهل وغيره وبنى عنز وبنى تيم الله وبنى ثعل وغيرهم، وكانوا أكثر من فى سواد الكوفة وما يقاربهم، وفيهم نفر من بنى شيبان. وقوى قرمط واشتد طمعه، فشرع فى أخذ أموالهم. فابتدأ ففرض عليهم وامتحنهم أنّ على كلّ إنسان منهم درهم. وسمى ذلك الفطرة، من كل رأس من الرجال والنساء والصبيان. فسارعوا إلى ذلك. فتركهم مدّة ثم فرض عليهم الهجرة، وهى على كلّ رأس أدرك الجنب دينار، وتلا قوله تعالى: ({خُذْ مِنْ أَمْاالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}). وقال: هذا تأويل هذا. فدفعوا إليه ذلك (ص 34) وسارعوا إليه، وتعاونوا عليه، فمن كان فقيرا أسعفوه. فتركهم مديدة ثم فرض عليهم البلغة وهى سبعة دنانير. وزعم أن ذلك هو البرهان الذى أراد بقوله عزّ وجلّ ({قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}).

وزعم أن ذلك بلاغ من يريد الإيمان والدخول فى السابقين السابقين ({أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}). ثم إنه صنع طعاما حلوا لذيذا وجعله على قدر البنادق، يطعم كلّ من أدّى إليه سبعة دنانير منها واحدة، وزعم أنّه طعام أهل الجنة ينزل إلى الإمام. واتخذ ذلك وإنه ينفذ إلى الداعى منها مئة بلغة، ويطالبه بسبع مئة دينار، لكلّ واحدة منها سبعة دنانير. وقد كان عمل مثل هذا الطعام المبندق بدمشق فى أيام ابن الأشعث الداعى، وأكله كثير من المتصلة. قال أبو عبد الله بن إسماعيل القادسىّ: إنه أكله فكان أطيب طعام يعرف، وأنّه لا يعرف مما كان يتّخذ. وكان أبو عبد الله هذا من أهل القادسية يخبر أمورهم وما هم عليه. فلما توطأ له الأمر الذى قدمه جميعه فرض عليهم أخماس جميع ما يملكون وما يتكسّبون، وتلا عليهم قوله تعالى: ({وَاِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ}) الآية. فبادروا فقوّموا جميع ما يملكونه وأدّوا ذلك إليه. فكانت المرأة تخرج خمس ما تغزله، والرجل يخرج خمس ما يكسبه. فلما تمّ له ذلك واستقرّ فرض عليهم الألفة. وهو أن يجمعوا أموالهم فى موضع واحد وأن يكونوا فيه أسوة واحدة لا يفضل أحد منهم صاحبه وأخاه فى

ملك يملكه. وتلا عليهم قوله تعالى: ({وَاُذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ} {عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْااناً}. . . {آياتِهِ}) وتلا عليهم (ص 35) ({لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}). وعرّفهم أن لا حاجة لهم بأموال تكون معهم، لأنّ الأرض بأسرها ستكون لهم دون غيرهم. وقال لهم: هذه محنتكم التى امتحنتم بها ليعلم كيف تعملون. ثم أمرهم بشرى السلاح وإعداده. وذلك كلّه فى سنة ستّ وسبعين ومئتين. وأقام الدعاة فى كلّ قرية رجلا مختارا من ثقاتهم. فجمع عنده أموال أهل قريته من بقر وغنم وحلى ومتاع وغيره. وكان يكسو عاريهم وينفق عليهم ما يكفيهم، فلا يبقى فقيرا بينهم ولا محتاجا ضعيفا. وأخذ كل رجل منهم بالانكماش فى صناعته والكسب بجهده ليكون له الفضل فى رتبته. فجمعت إليه المرأة كسبها من مغزلها، والصبىّ أجرة نظارته وحراسته. فلم يملك أحد منهم إلا سيفه وسلاحه. فلما استقام له ذلك كلّه وصبوا إليه وعملوا به أمر الدعاة أن يجمعوا النساء فى ليلة معروفة ويختلطن بالرجال ويتراكبن ولا يتفارقن،

فإنّ ذلك من صحّة الودّ وعظم الألفة بينهم. عمل بذلك الثورانى والوليد وصاحب اليمن. فأمّا بذل الرجل لأخيه امرأته متى أحبّ. قال الشريف: ولقد بلغنى وأنا مقيم بدردا أنّ على الفرات الكبير جماعة كبيرة تعمل بذلك إلى آخر وقت. فلما تمكن من عقولهم ووثق بطاعتهم أخذ فى تدريجهم إلى الضلالة، وأتاهم بحجج من مذهب الثنويّة، فسلكوا معه فى ذلك، حتى خلعهم من الشريعة ونقض عليهم ما كان أمرهم به فى مبتدإ أمورهم من الخشوع والورع والتقى، وظهر منهم بعد تديّن كثير إباحة الأموال والفروج (ص 36) والغناء عن الصوم والصلاة والفرائض، وأنّ ذلك كلّه موضوع عنهم، وأنّ أموال المخالفين ودماءهم حلال لهم، وأنّ معرفة صاحب الحقّ تغنى عن كلّ شئ، ولا يخاف معه إثم ولا عدوان، يعنى معرفة إمامه الذى يدعو إليه. وكان مبتدأ هذه الدعوة الخبيثة لمحمد بن إسماعيل بن جعفر بزعمهم، ولم يكن له والله فى ذلك منها شئ قل ولا جلّ. وإنما أقاموه اسما يدعون إليه من استضعفوه من أهل العقول النحيفة. وقالوا: إنّه الإمام المهدى الذى يظهر آخر الزمان ويقيم الحقّ، وأنّ البيعة له، وأنّ الداعى إنما يأخذها على الناس له، وأنّ جميع ما يجمع من الأموال مدّخر له إلى أن يظهر. ولم تزل هذه الدعوة

إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر مرتبة على ما كانت رتبت إلى أن هرب سعيد المتسمّى بعبيد الله الملقّب بالمهدى إلى المغرب من سلمية، حسبما سقناه أوّلا. فصار هو الإمام، وصار من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر. فجعلوا الدعوة إليه. وكانت الدعوة لمحمد بن إسماعيل، وأنه حى لم يمت، وأنه يظهر فى آخر الزمان وأنه مهدىّ الأمة. ولم يكن غرض هذا المحتال أن يرفع إلى محمد بن إسماعيل الدعوة، إلاّ ليتمكن من عقول قد أضلّها الله، وتتم له خديعته من سنىّ كان أو شيعى. ولما استقت أمور ذلك اللعين وظهر منه ومنهم الفجور، وبسط أيديهم بسفك الدماء، وقتل جماعة ممن أظهر الخلاف عليهم من مجاوريهم، خافوهم ودخلوا فى بيعتهم كرها أو طوعا. ثم إنّ الدعاة اجتمعوا واتّفقوا على أن يجعلوا لهم موضعا يكون وطنا لهم ودار هجرة يهاجرون إليها ويجتمعون بها. فاختاروا من سواد الكوفة فى طسّوج الفرات من ضياع؟؟؟ النلطبن (ص 37) المعروفة بالقاسميات قرية تعرف بمهتماباد. فجازوا إليها صخرا عظيما وبنوا حولها سورا منيعا، عرضه ثمان أذرع. وجعلوا من وراء ذلك خندقا عظيما حصينا. وفرغ من ذلك فى أسرع وقت. وبنوا فيه البنيان العظيم، وانتقل إليه النساء والرجال والأولاد، وسميت دار الهجرة.

وذلك فى سنة تسع وتسعين ومئتين. فلم يبق بعد هذا أحد إلاّ خافهم، ولا بقى أحد يخافونه لقوّتهم وتمكّنهم فى البلاد. وكان الذى أسعدهم فى ذلك الوقت تشاغل السلطان عنهم بفتن الخوارج من صاحب الزنج المقدّم ذكره فى الجزء الذى قبله المختصّ بذكر الخلفاء من بنى العباس الذى هذا الجزء تلوه. وهو صاحب الزنج المدّعى أيضا أنه من ولد زيد بن على بن الحسين. وكان أمره قد زاد وهو يومئذ بالبصرة، حتى عاد يعرف بعلوىّ البصرة وقصّر يد السلطان، وخرب العراق. وترك الخليفة الركوب، وتركب الأعراب من كل وجه، مع قلّة رغبة من يلى البلاد من العمّال فى تدبير الأمور والنظر بعين الصلاّح. فتمكن هؤلاء الدّعاة ومن تبعهم بهذا السبب. فمكثوا على ذلك سنين. وقد كان رجل منهم يعرف بمهرويه من دعاتهم. وكان فى مبدأه ناطورا ينطر النخل. وكان يأخذ أجرته تمرا، فينزع منه النوى ويصّدّق به. ويأخذ النوى يبيعه ويتقوّت به. فعظم فى أعين الناس قدره، وصارت له مزية فى الثقة والدين، يريد بذلك تجمّع الناس عليه ليظهر بهم ويخدعهم بالدعوة الخبيثة.

ثم إنّ مهرويه هذا سمع بعلوىّ البصرة أنه قد ظهر على السلطان، فسار إليه ليخدعه. فلما وصل إليه قال له: ورائى مئة ألف ضارب سيف (ص 38) أعينك بهم. أراد بذلك أن يطمّعه ليتمكّن منه. فلم يلتفت إليه المسمّى بعلوىّ البصرة، ولا سمع قوله، ولم يجد فيه مطمعا. لأن ذلك أيضا بيدعو إلى نفسه، وهو أخبث منه، ويدّعى أنه من ولد زيد بن على بن الحسين. ولم يكن كذلك حسبما تقدم من ذكره ونسبه. فرجع من عنده خائبا. ثم إنّ أمره عظم بعد ذلك فى السواد، وانقاد له خلق كثير. فقال: أنا من ولد عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر. فقيل له: إنّ محمد بن إسماعيل لم يكن له ولد اسمه عبد الله. فكفّ عن ذلك. وعاد يدعو للسيّد. وبقى فى قبة على جمل. وقد ذكره الطبرى رحمه الله فى تاريخه. ثم كان ابنه زكرويه حسبما يأتى من ذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر أخبار أبى سعيد الجنابى الداعى

ذكر أخبار أبى سعيد الجنّابى الداعى كان رجلا من أهل قرية جنّابا يعمل الفراء يقال له أبو سعيد الحسن ابن بهرام. أصله من الفرس. فسافر إلى سواد الكوفة، فتزّوج بقرية يقال لها القربى من سواد الكوفة إلى قوم يقال لهم بنو القصّار. وكانوا أصولا فى هذه الدعوة الخبيثة. وأكثر الحكايات عن أبى سعيد هذا أنه أخذ الدعوة عن عبدان نفسه. قال الشريف: قال أبو عبد الله محمد الكوفى لى إن أبا سعيد الجنّابى أخذ الدعوة عن قرمط نفسه. ثم إنه نزل القطيف، وهو حينئذ مدينة عظيمة، فجلس هناك يبيع الدقيق، ولزم الوفاء والصدق. وكان أوّل من أجابه إلى دعوته الحسين بن سنتر وعلى بن سنتر وحمدان بن سنتر، وقوم ضعفاء ما بين قصّاب وجمّال وأمثال هؤلاء. ثم قويت يده، واستجاب له الناس، ووجد بناحيته داعيا يقال له أبو زكريا الضمامى كان عبدان الداعى أنفذه (ص 39) قبل أبى سعيد إلى القطيف وما والاه. فلما تبيّن أمره أبو سعيد الجنّابى عظم عليه أن يكون فى البلد داع غيره. فقبض عليه وحبسه فى بيت حتى مات هزلا. وقد ذكر أنّ هذا الداعى كان أخذ على بنى سنتر قبل أبى سعيد. فعاد

فى أنفسهم حقد على أبى سعيد لقتل أبى زكريا الضمامى. واتفق لأبى سعيد أنّ البلد الذى قصده بلد واسع كثير الناس. ولهم عوائد بالحروب، وهم رجال شداد جهّال غفل القلوب، بعيدون من شريعة الإسلام ومعرفة نبوّة أو حلال أو حرام. فظفر بدعوته فى تلك الديار، ولم يناوئه مناوئ. فتمّ أمره، وقاتل بمن أطاعه من عصاه، حتى اشتدّت شوكته جدا. وكان لا يظفر بقرية إلاّ قتل أهلها ونهبها. فهابه الناس، وأجابه كثير منهم طلبا للسّلم، ورحل من البلد خلق كثير إلى نواحى مختلفة، ولم تمتنع عليه إلاّ هجر، وهى مدينة البحرين، ومحلّ سلطانها. فقاتل أهلها ونازلها شهورا. فلما طال عليه أمرها ابتنى بالأحساء دارا، وبينها وبين هجر ميلان، واتخذها منزلا. وأجابه كثير من العرب كبنى الأضبط ابن كلاب، لأنّ عشيرتهم كانوا أصابوا فيهم دما، فساروا إليه بحريمهم وأموالهم فنزلوا الأحسآء، وأطمعوه فى بنى كلاب وسائر من بقربهم من الأعراب، وطلبوا منه أن يضمّ إليهم رجالا من قبله. ففعل ذلك، ولقوابهم عشيرتهم، فاقتتلوا، فهزمتهم القرامطة وأخذوا الحريم والأموال وعادوا إلى الأحسآء. فاضطّر المغلوبين إلى أن دخلوا فى طاعته. ثم إنه وجّه بجيش آخر إلى بنى عقيل فظفر بهم. فدخلوا أيضا فى طاعته. فملك سائر تلك البلاد، وجمع من أولاد (ص 40) الأعراب من لم يبلغ أربع سنين، وجعلهم فى دور، وأقام عليهم قوما يقومون بجميع مصالحهم، ووسم جميعهم على الخدود لئلاّ يختلطون بغيرهم، وعرّف عليهم عرفاء، وشرع فى تعليمهم

الفروسية، فنشّئوا لا يعرفون غيره، وغير دعوته طبعا لهم. وقبض الأموال من جميع تلك النواحى والثمار والغلال، ورتّب الرّعاة فى الإبل والمواشى، ورتّب قوما لحفظها. ثم تفرّغ لهجر وحاصرها، حتى بلغ بهم الجهد، وأكلوا السنانير والكلاب. وكان حصارهم يزيد على عشرين شهرا. وآخر أمرهم أنه عمل الحيلة حتى قطع عنهم الماء الواصلة إليهم فى حديث طويل. فلما انقطع عنهم المياه أيقنوا بالهلاك، فهرب بعضهم نحو البحر فركبوه إلى الجزيرة وإلى سيراف وغيرهما. ودخل قوم منها فى دعوته فنقلهم إلى الأحسآء. ثم إنّه أخربها دكّا فهى إلى الآن خراب. وعادت الأحسآء مدينة البحرين. واتصلت أخباره بالمعتضد بالله أمير المؤمنين، وعظم ما ركبه. فأنفذ العبّاس بن عمرو الغنوى فى ألفى رجل وولاّه البحرين. فورد البصرة وخرج منها نحو هجر، وبينهما بضع عشرة ليلة فى فلاة مقفرة، وذلك فى سنة تسع وثمانين ومئتين، وتبعه من مطوّعة البصرة نحو من ثلاث مئة رجل من بنى ضبّة وغيرهم. وعرف أبو سعيد خبره فسار نحوه. وقدّم قدّامه مقدمة. فكانت بينهم حملات إلى أن حجز الظلام بينهم، فانصرفوا على سوآء. فلما جاء الليل انصرفت مطوّعة البصرة ومن معهم من بنى ضبّة. فانكسرت قلوب جيش السلطان. وأصبحوا فالتقوا،

فكانت الكسرة على أصحاب السلطان. وأسر العباس بن عمرو مع عدّة من أصحابه (ص 41) واحتوى القرمطىّ على عسكره، ثم قتل من غد يومه جميع الأسرى، ثم أحرقهم. وترك العباس بن عمرو. فلما كان بعد الوقعة بأيام أحضر أبو سعيد العباس بن عمرو وقال له: تحبّ أن أطلقك؟ قال: نعم. قال: على أن تبلّغ عنى ما أقول صاحبك. قال: أفعل. قال: تقول له إنّ الذى أنزل بجيشك ما أنزل بغيك وتعدّيك. هذا بلد كان خارج عن يدك، غلبت عليه وأقمت به. وكان فىّ من الفضل ما آخذ غيره. فما عرضت لما كان فى يدك، ولا هممت به، ولا أخفت لك سبيلا، ولا نلت أحدا من رعيتك بسوء، فتوجيهك إلىّ الجيوش لأىّ سبب؟ اعلم أنّى لا أخرج عن هذا البلد ولا يوصل إليه وفىّ وفى هذه العصابة التى معى روح. فاكفنى نفسك ولا تتعرض لما ليس لك فيه فائدة، ولا تصل إلى مرادك منه إلا ببلوغ القلوب الحناجر». ثم أطلقه وأرسل معه من يوصله إلى مأمنه. ووصل العباس إلى بغداد فى شهر رمضان. فكان الناس يعظّمون شأنه ويكثرون ذكره ويسمّونه قائد الشّهداء.

فلما وصل إلى المعتضد عاتبه على تركه الاستظهار. فاعتذر بهروب المطوّعة وبنى ضبّة، ثم عرّفه جميع ما قال القرمطى. فقال: صدق، ما أخذ شيئا كان فى أيدينا. ثم أطرق مفكّرا، ثم رفع رأسه. فقال: كذب عدوّ الله الكافر. المسلمون كلّهم رعيتى حيث كانوا من بلاد الله، والله لئن طال بى عمر لأسيرنّ بنفسى إلى البصرة وجميع غلمانى، ولا أبرح أسيّر إليه جيش بعد جيش، حتى أقلع شأفته إن شاء الله أو يحكم الله بينى وبينه. وشغله بعد ذلك أمر وصيف غلام ابن أبى الساج. وخرج فى طلبه وهو عليل. وذلك فى شوّال من هذه السنة المذكورة. (ص 42) فأخذه وعاد إلى بغداد. فدامت علّته حتى توفى فى تاريخ ما تقدم من ذكره فى الجزء الذى قبله. قال الشريف «أخى محسن» رحمه الله: ثم إن أبا سعيد القرمطى بعد إطلاقه العباس بن عمرو أقبل على جمع الخيول، وإعداد السّلاح، واتخاذ الإبل، وإصلاح الرجال، ونسج الدروع والمغافر، ونظم الجواشن، وضرب السيوف والأسنّة، واتخاذ الروايا والمزاد والقرب، وتعليم الصبيان الفروسية. وطرد الأعراب عن قربه، وسدّ الوجوه التى يتعرّف منها أمر بلده وأحواله، وعمد إلى إصلاح المزارع وأصول النخل وعمارته،

ونصب الأمناء على ذلك، وأقام العرفاء على الرجال، والاحتياط على ذلك كله، حتى بلغ من تفقّده واحتياطه أنّ الشاة كانت تدبح فيسلّم اللّحم إلى العرفاء ليفرّقوه على من رسم لهم به، ويدفع الرأس والأكارع والبطون إلى العبيد والإماء، ويجزّ الصّوف والشعر من المعز ويفرّقه على من يغزله، ثم يدفع إلى من ينسجه عبيا وأكسية وغرائر وجوالقات، ويفتل منه حبال، ويسلّم الجلد إلى الدباغ. فإذا خرج سلم إلى خرّازى القرب والروايا والمزاد. وما كان من الجلود يصلح نعالا وخفافا عمل منه، ثم يجمع ذلك كلّه إلى خزائن معدّة لذلك. وكان ذلك دأبه لا يغفله. وكان يوجّه فى كل مديدة بخيل إلى ناحية البصرة فيأخذ من وجد، فيستعبد، حتى زاد بلاؤه وعظمت هيبته فى صدور الناس. وقد كان واقع بنى ضبّة-لما كان فى نفسه منهم حين أعانوا العباس بن عمرو- وقائع مشهورة بالشدّة والعظم، ثم ظفر بهم فأخذ منهم خلقا، وبنى لهم حبسا عظيما، وتركهم فيه حتى موّتوا جوعا وعطشا، وزاد بلاه حتى قتل.

ذكر مقتل أبى سعيد

ذكر مقتل أبى سعيد وكان لمّا أسر العبّاس بن عمرو أخذ من عسكره خادما فاستخصّه لنفسه وجعله على طعامه وشرابه. فمكث لذلك مدّة طويلة لا يرى أبا سعيد فيها يصلّى صلاة واحدة، ولا يصوم شهر رمضان ولا فى غيره يوما واحدا، ولا يذكر الله عزّ وجلّ، ولا يعرف شريعة، ولا يرجع إلى دين من سائر الأديان. فأضمر فى نفسه قتله. فدخل معه الحمّام، وقد كان الحمّام فى داره، وأخذ معه خنجرا ماضيا. وكان الحمّام خاليا. فلما تمكّن منه ذبحه. ثم خرج فقال: يدعى فلان، لبعض بنى سنتر. فقال: ادخل. فدخل. فقبض عليه وذبحه. ولم يزل يدعو واحدا بعد واحد وهو يفعل بهم ذلك من رؤساء الوجوه إلى أن دخل بعضهم، فنظر عند دخوله إلى الدماء تسيل سيلا، فكرّ راجعا وضجّ فى الناس. وعمد الخادم فأغلق الباب. فلم يزل حتى أخذوه، ووجدوا تلك الجماعة مذبّحين. وذلك فى سنة إحدى وثلاث مئة ونحوها. وخلف من الأولاد: أبا القاسم سعيدا، وأبا طاهر سليمانا،

وأبا منصور أحمد، وأبا إسحاق إبراهيم، وأبا العبّاس محمّد، ويوسف أبا يعقوب. وكان أبو سعيد قد جمع رؤساء أهل دولته من بنى زبرقان وبنى سنتر. وكان متزوّجا إليهم، وهم أخوال بنيه، وبهم قامت دولته وقوى أمره. وأوصى إليهم إن حدث به حادث الموت يكون القيّم بأمركم أبا القاسم سعيدا ابنه، إلى أن يكبر أبو طاهر سليمان فيكون المدبّر لأمورهم. فلما قتل جرى الأمر على ما وصّاهم به. وكان قد قال لهم: سيكون الفتوح له. وجلس يدبّر أمورهم بعد قتل (ص 44) أبيه. ثم إنه دعى بالخادم وشدّ <هـ> بالحبال، ثم قرض لحمه إلى أن مات رحمه الله. ولما كان فى سنة خمس وثلاث مئة سلّم سعيد إلى أخيه سليمان الأمر، فدبّره. وعمل أشياء موّه بها على عقول أصحابه فقبلوها وعظّموا أمر جهلا منهم. وكان مبدأ أبى سعيد الحسن بن بهرام الجنّابى بالقطيف وما والاه فى سنة ست وثمانين ومئتين.

ذكر الصناديقى الداعى القرمطى باليمين

ذكر الصّناديقى الدّاعى القرمطى باليمين هو ابن أبى الفوارس داعى عبدان، يدعى بأبى القاسم. وكان هذا الصناديقى من موضع يعرف بالنرس، وكان يعمل فيه الثياب النرسيّة، وقيل إنّه كان يعمل فى الكتّان. فلما صار إلى اليمين أجابه رجل من الجند يعرف بابن الفضل فقوّى أمره على إقامة الدعوة الخبيثة. فدخل فيها خلق كثير، فخلعهم من الإسلام وأظهر العظائم، وقتل الأطفال، وسبى النساء، وتسمّى الملعون بربّ العزّة. وكان يكاتب بذلك. وأظهر شتيمة النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم. واتخذ دارا أسماها دار الصفوة. وكان يأمر الناس بجمع نسائهم من أزواجهم وبناتهم وأخواتهم إلى تلك الدار، ويأمرهم بالاحتياط بهنّ ليلا ووطئهنّ، ويحتفظ بمن تحبل منهن فى تلك الليلة وبمن تلد بعد ذلك، يتخذهم لنفسه خولا ويسمّيهم أولاد الصفوة. وعظمت فتنته باليمن، وأجلى أكثر أهله عنه. وأجلى السّلطان. وقاتل القاسم بن أحمد بن يحيى بن الحسين ابن القاسم بن إبراهيم الحسنى المعروف بالهادى، وقلعه عن عمله بصعدة، وألجأه إلى أن هرب بعياله إلى الرسّ حذرا منه لقوّته عليه. فلما زاد شرّه وتعاظم بلاه أعان <الله> عليه الهادى وظفر به فهزمه. وكان ذلك بلطف (ص 45) من ألطاف الله تبارك وتعالى.

وسبب ذلك أنه ألقى على عسكره، وقد بايته الهادى ليصبحوا للقتال، بردا وثلجا، قتل به أكثر أصحابه فى ليلة واحدة دون عسكر الهادى، وقلّ ما يعرف ذلك من البرد والثلج فى تلك الديار. فهزمه الهادى، وعاد مكسورا. ثم قتله الله عزّ وجلّ بالأكلة. وأنزل بالبلدان التى غلب عليها بثرا قاتلا، كان يخرج على كفّ الرجل منهم بثرة فيموت فى سرعة. فسمى ذلك البثر إلى الآن حبة القرمطى. وأخرب الله تعالى أكثر تلك الديار، وأفنى أهلها بموت ذريع. واعتصم ابنه من بعده بجبال وقلاع. ولم يزل بها مقيما. وكانت أهل ملته يعنونون كتبه: من ابن ربّ العزة، ثم أهلكه الله عزّ وجل، وبقى منهم بقية فاستأمنوا إلى الهادى. ولم يبق لذلك الملعون بقية ولا لمن كان على مذهبه.

عاد القول إلى ذكر قرمط والدعاة

عاد القول إلى ذكر قرمط والدّعاة وقد كان قرمط يكاتب من بسلمية من الطواغيت. فلما توفى من كان فى وقته، وجلس ابنه من بعده كتب إلى حمدان قرمط. فلما ورد عليه الكتاب أنكر ما فيه لألفاظ كان يعهدها، فتغيّرت عليه، فاستراب ذلك. وأمر قرمط ابن مليح، وكان داعيا من دعاته، أن يخرج إلى سلمية ويتعرّف له الخبر. فامتنع واعتذر إليه. فأنفذ داعيا غيره يقال له عبدان. فلما وصل إلى هناك عرف بموت ذلك الطاغية الذى كانوا يكاتبونه، ووجد ابنه. فسأله عن الحجة ومن الأمام بعده؟ فقال الابن: ومن هو الإمام؟ قال عبدان: الامام محمد بن إسماعيل بن جعفر صاحب الزمان الذى كان أبوك يدعو إليه وكان حجته. فأنكر ذلك كلّه، وقال: محمد بن إسماعيل (ص 46) لا أصل له، ولم يكن الإمام غير أبى، وهو من ولد ميمون بن ديصان، وأنا أقوم مقامه. فعرف عبدان القصّة واستقصى الصّورة، وعلم أنّ محمّد بن إسماعيل ليس له فى هذا الأمر شئ، وإنّما هو شئ يحتالون به على الناس، وأنّ ذلك كلّه كان خديعة من اللّعين، وأنّه ليس من ولد عقيل بن أبى طالب. فرجع عبدان إلى قرمط فعرّفه الخبر. وأمره قرمط أن يجمع الدعاة ويعرّفهم صورة الأمر وما تبيّن له منه، ويقطع الدعوة لمن بسلمية. ففعل عبدان ذلك.

وعلموا أنّ محمد بن إسماعيل كان لهم فى مبدأ الدعوة مثل الصانع الذى معه الأداة يعمل بها، فلما ترك أداته بطل صنعته. ولما قطعوا الدعوة من بلادهم لم يمكنهم أن يقطعونها من غير ديارهم، لأنها كانت قد امتدّت فى سائر الأقطار وكثر شرّها وتزايد خبثها. وقد تحوّلت عن الرسم الأوّل مذ هلك سعيد المسمّى بعبيد الله الملقّب بالمهدى بالمغرب. ثم إن الدعاة قطعوا مكاتباتهم إلى من بسلمية بهذا السبب. وكان رجل منهم قد توجّه إلى الطالقان. وكانوا ربما يكاتبونه أيضا. فلما انقطعت المكاتبة عن جميع ولد عبد الله بن ميمون القدّاح انقطعت عنه أيضا. فتوصّل حتى نزل على عبدان، وعاتبه بسبب انقطاع مكاتباته. فعرّفه عبدان قطعهم الدعوة، وأن أباه كان استغرّهم وادّعى نسبا ليس بصحيح، وأنه دعا لمحمد بن إسماعيل المهدى «فكنا نعمل على ذلك. فلما تبيّنا أن لا أصل لذلك كلّه وعرفنا أنّ أباك من ولد ميمون بن ديصان، وأنه صاحب الأمر تبنا إلى الله عز وجل ممّا عملناه، وحسبنا ما كفّرّنا أبوك، فتريد أن تردّنا كفار؟ انصرف عنا إلى موضعك». وكان عبدان قد تاب من هذه (ص 47) الدعوة الخبيثة بالحقيقة. فلما أيس منه صار إلى زكرويه بن مهرويه وعرّفه خبر عبدان. فلقيه زكرويه بكل ما يحبّ. وقدّر أن ينصبه داعيا مكان أبيه

فيستقيم له أخذ أموال الناس الداخلين فى الدعوة. واتفق معه على قتل عبدان. فإنه لا يتم لهما أمر إلاّ بقتله. فوجّه زكرويه إلى رجل من بنى تميم بن كليب وأخ له كانا من أهل دعوة زكرويه، وأحضر جماعة من دعاته وقراباته وثقاته وأظهرهم على ابن الخبيث وعرّفهم أنه ابن الحجّة، وأن الحجة توفى. فعظّموه وقبلوه، وقالوا له: مرنا بأمرك. فأمرهم بقتل عبدان. وقال: إنّه نافق وعصى وخرج عن الملّة. فساروا إليه من ليلتهم إلى ناسورا وهو نازل بها فقتلوه. وكان زكرويه هذا داعيا من تحت يد عبدان. وشاع فى الناس أن زكرويه قتل عبدان. فطلبوه سائر أصحابه وأصحاب قرمط بدمه. فاستتر. وخالفه القوم بأسرهم إلاّ ثقاته وأقاربه. فلما لم يرى أن أمره يتم قال لابن الخبيث: قد ترى ما قد حدث، ولا آمن عليك وعلى نفسى، فارجع إلى بلدك ودعنى، فإنى أرجو أن يتغيّر الأمر وأتمكّن من الناس وأدعوهم إليك. فانصرف ابن الخبيث إلى الطالقان. ويقال إنّ الأصل كان بسلمية مقيما، وكان يخفى أمره بذكر من بالطالقان لأنهم كانوا تحت مخافة بعد ذلك. ثم تخفّى زكرويه خوفا من طلبه بدم عبدان.

وذلك كلّه فى سنة ستّ وثمانين ومئتين. فمكث لذلك يتخفّى إلى سنة سبع وثمانين ومئتين. فلما طال أمره ورأى انحراف أهل السواد عليه، نفذ ابنه الحسن فى سنة ثمان وثمانين ومئتين إلى الشام، وصحبته رجل من القرامطة (ص 48) من أهل نهر ملحابا يسمّى الحسن بن أحمد ويكنى بأبى الحسين، وأمره أن يقصد بنى كليب وينتسب إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، ويدعوهم إلى الإمام من ولده. فاستجاب له فخذ من بنى العلّيص بن ضمضم بن عدىّ بن حباب بن كلب بن وبرة ومواليهم. وانضاف إليه طائفة من بنى الإصبع من كلب، وتسمّى هؤلآء بالفاطميين وبايعوه.

ذكر صاحب الناقة ابن الخبيث

ذكر صاحب الناقة ابن الخبيث وكان الخبيث ابن الخبيث لما رجع من عند زكرويه إلى الطالقان كتب إليه يستأذنه فى القدوم عليه. فأجابه بالتوقّف. فخرج نحو العراق ثم قدم على زكرويه فوجده مختفيا، فلم يزل حتى اجتمع به واستأذنه بالتوجّه إلى ابنه، لما بلغه من استجاب له من الناس. فأذن له، وضمّ إليه ابن أخت عيسى بن مهرويه، وتسمى بالمدّثر لقبا، وبعبد الله اسما، وتأوّل أنّه المذكور فى القرآن بالمدثّر، كذب لعنه الله، وأصحبهما غلاما من بنى مهرويه يلقّب بالمطوّق، وكان سيّافا. وكتب على أيديهم: كتب إلى ابنه الحسن يعرفه أنّه ابن الحجة، ويأمره له بالسمع والطاعة. فسار اللعين حتى نزل فى كلب. فلقيه الحسن بن زكرويه وعظّمه وسرّ به، وعرّف جموعه أنه صاحب الأمر. فامتثلوا أمره وقالوا له: مرنا بأمرك لنسارع إليه. فقال لهم: استعدوا للحرب، فقد أظلّكم النصر. ففعلوا. واتصلت أخبارهم بشبل الديلمى وهو يومئذ أمير الشام بالرصافة، وهو مولى المعتضد بالله. وذلك فى سنة تسع وثمانين ومئتين. فقصدهم، فكسروه وقتلوه. وكانت الوقعة بالرصافة غربى الفرات. ودخلوا الرصافة وأخربوها وأحرقوها ونهبوها. وأصعدوا نحو الشام (ص 49) واعترضوا الناس بالقتل والحريق ونهب القرى، إلى أن وردوا أطراف دمشق. وكان

هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون ردّ أمرها إلى الأمير طغج بن جفّ الفرغانى. فلقيتهم عساكره. فانهزموا من القرامطة ولم يثبتوا قدّامهم. وقتل كثير منهم وأخذوا منهم ما قدروا عليه. ولم يزالوا حتى نازلوا دمشق وحصروا طغج بها. وكان الخبيث ابن اللعين يحضر على ناقة فى الحرب ويقول لأصحابه: لا تسيروا فى مصافكم حتى تنبعث بين أيديكم، فإذا سارت فاحملوا، فإنّه لا تردّ لكم راية إذ كانت مأمورة. فسمّى بذلك صاحب الناقة. وحصر طغح بدمشق سبعة أشهر، وكتب إلى مصر يعرّف من قتل من أصحابه، وأنه محصور، وقد فنى أكثر الناس، وقد خرب البلد. فأنفدوا إليه بدرا الكبير غلام ابن طولون المعروف بالحمامى. فسار حتى قرب من دمشق. وخرج إليه طغج واجتمعا على قتال اللعين. والتقوا بموضع قريب من دمشق. فأصاب اللّعين سهم فذبحه وعجّل الله بروحه إلى سقر. وحمى أصحابه اللعين الثانى ابن زكرويه. فقاتلوا أشدّ قتال شبهد، حتى انحازوا عنهم وانصرفت القرامطة. وكان هذا اللعين المقتول قد ضرب دراهم ودنانير كتب على السكة من وجه ({قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ}). وعلى الوجه الثانى: لا إله إلا الله ({قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}).

ذكر الحسن بن زكرويه لعنه الله

ذكر الحسن بن زكرويه لعنه الله ولما انصرفت القرامطة عن دمشق بعد قتلة الطاغية بايعوا الحسن ابن زكرويه. فساربهم حتى افتتح عدّة من مدن الشام. وظهر (ص 50) على جند حمص، وقتل خلقا من جند المصرييّن، وتسمّى بأمير المؤمنين. وخطب له بذلك على المنابر. ثم سار إلى نحو الرقة. فخرج إليه مولى الإمام المكتفى بالله، فقتله وهزم جيوشه، واستباح عسكره. ورجع يريد دمشق، وجموعه ينهبون جميع ما مرّوا عليه من القرى والضياع. فلما قاربوا دمشق أخرج إليهم طغج جيشا كثيفا عليه غلام له يسمى بشير، فهزموه وقتلوه مع خلق من أصحابه. فلما اتصل بالمكتفى قتل غلامه وكسر جيوشه وكثرة فسادهم، ندب لحربهم أبا الأغرّ السّلمى، وضمّ إليه عشرة آلاف فارس من الجند والموالى والأعراب، وخلع عليه لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر سنة تسعين ومئتين. فسار حتى نزل حلب، ثم نزل وادى بطنان. فتفرّق الناس فى ذلك الوادى، ودخل قوم منهم الماء يتبرّدون، وكان ذلك فى القيظ، فلم يشعروا إلا بالقرامطة على حين غفلة منهم يقدمهم المسمى بالمطوّق. فعاد كلّ إنسان يحذر على نفسه وينجو من السيف. وركب أبو الأغرّ فرسه وصاح فى الناس. فثار إليه جماعة لقى بهم أوائل الخيل، ولم يلبث إلا اليسير حتى انهزم. وركبت القرامطة أكتاف الناس قتلا وأسرا،

حتى حجز بينهما الظلام وقد أتوا على عامة العسكر، وسلم منهم القليل. ولحق أبو الأغرّ فى جميع من معه بحلب، ثمّ تلاحق به من سلم، حتى عاد فى نحو ألف رجل. ووافت القرامطة فنازلوا حلب. فحاربهم أبو الأغرّ، فلم يقدروا منه على شئ، فانصرفوا. وجمع طاغيتهم الحسن بن زكرويه أصحابه، وكان قد اتصل به خلق كثير من اللصوص والمتجرّمة، وخلق من بنى كلب. فسار حتى نزل حمص، فخطب له على منابرها. ثم نهض (ص 51) إليها فأعطاه أهلها الطاعة وفتحوا له، فدخلها. ثم سار إلى حماة ومعرّة النّعمان وغيرهما. فقتل الرجال وسبى الدّرارى والأطفال، ثم رجع إلى بعلبكّ فقتل عامة أهلها، ثم صار إلى سلمية فحاربه أهلها وامتنعوا منه، فأعطاهم الأمان ففتحوا له، فمن فيها من بنى هاشم فبدأ به فقتلهم أجمعين، ثم كرّ على جميع أهلها فقتلهم بأسرهم، ولم يبق على أحد منهم، وخرج عنها ولا بها عين تطرف. وكان مع ذلك لا يمرّ بقرية فيدع بها مخبر، حتى أخرب البلاد وسبا الحريم، ولم يقم له أحد. ووردت كتب التجّار والناس من دمشق وغيرها مستصرخين بالويل والثبور لما نزل بهم، حتى كثر الضجيج بمدينة بغداد، واجتمعت الناس إلى يوسف بن يعقوب القاضى وسألوه مخاطبة الخليفة فى أمور

الناس. فلما علم المكتفى بالله ما الناس فيه من شدّة البلاء، جهّز الجيوش وخرج بنفسه إلى مضربه بباب الشماسيّة فى قوّاده وجنده، لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، وسلك طريق الوصول ومضى نحو الرقة ونزل بها، وانبّثت الجيوش بين حلب وحمص، وقلّد محمد بن سليمان حرب اللعين الحسن بن زكرويه، وضمّ إليه جيشا كثيفا. وكان محمد صاحب جيش العطاء، فى الديوان المقدّم ذكره فى الجزء الذى قبله. فلما دخلت سنة إحدى وتسعين ومئتين سار محمد بن سليمان لمناهضة القرامطة. وألتقى الجمعان لست خلون من المحرّم بموضع بينه وبين حماة اثنا عشر ميلا، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى حجز بينهم الليل، وكان الظفر للجيوش الخليفية، وقتل من الطواغيت كماتهم وكبارهم فى حديث طويل هذا (ص 52) ملخّصه. وكان الحسن بن زكرويه، لعنه الله، لما أحسّ بالجيوش، قد اصطفى المقاتلة. أخرج من معه من الرجال والشجعان عن الضعفة والسواد وعرضهم حتى رضى سلاحهم ورتّب أحوالهم. وقد امتلأ صدره من أمر المكتفى بالله وجيوشه، وهو ضابط لأمره وكاتم لذات نفسه. وأنفذ الجيش وتخلّف فى السّواد والضعفة. فلما انهزم أصحابه ارتاع لذلك، ورحل من وقته بسواده، وسار خوفا من الطلب. وتلاحق من أفلت، فخاطبهم بأنهم

أوتوا من قبل أنفسهم وذنوبهم، وأنهم لم يصدقوا الله، وحرّضهم على المعاودة إلى الحرب. فلم يجبه منهم أحد إلى ذلك، واعتلّوا بفناء الرجال وكثرة الجراح فيهم. فلما أيس منهم قال لهم: قد كاتبنى خلق من أهل بغداد بالبيعة لى ودعائى نحوها لأظهر بها. وأنا مستخلف عليكم أبا الحسين القاسم بن أحمد صاحبى. وكتبى ترد إليه بما يعمل به، فاسمعوا له وأطيعوا أمره. فضمنوا له ذلك. وشخص معه قريبه عيسى ابن أخت مهرويه المسمّى بالمدّثر، وصاحبه المطوّق، وغلام له رومى. وأخذ دليلا يرشدهم إلى الطريق. وساروا يريدون سواد الكوفة. وسلك البرّ وتجنّب المدن والقرى، حتى إذا صار قريبا من الدالية نفد زاده. فأمر الدليل فمال بهم إليها، ونزل بهم بالقرب منها، خلف رابية. ووجّه بعض من كان معه لابتياع ما يحتاجون إليه. فلما دخلها أنكرونه وقبضوا عليه، وأتى به إلى واليها، وكان يعرف بأبى حبرة يخلف أحمد بن كشمرد صاحب الحرب بطريق الفرات. والدالية قرية من عمل الفرات. فقرّره فاعترف على رفقته. فسار (ص 53) المتولّى إليهم فى جمع فأخذهم وشدّهم وثاقا، وتوجّه بهم إلى صاحبه ابن كشمرد. فصار بهم إلى المكتفى بالله، وهو يومئذ نازل بالرقّة. فأمر أن يشهروا بها. ففعل بهم ذلك، وعلى الحسن

ابن زكرويه درّاعة ديباج وبرنس حرير، وكذلك المدّثر والمطوّق، وهما على جمال مشهورين. وذلك فى يوم الأربعاء لأربع بقين سنة إحدى وتسعين ومئتين. وقدم محمد بن سليمان بالجيوش بعد أن تتّبعوا القرامطة وما بقى منهم، وقتلوا وأسروا، وخلّف المكتفى بالله عساكره مع محمد بن سليمان بالرقة وشخص فى خاصته وغلمانه ومعه القاسم بن عبيد الله الوزير إلى بغداد. ودخل القرمطى وأصحابه معه. وذلك فى أول يوم من صفر من هذه السنة. فلما صار إلى بغداد عمل له كرسيا سمكه ذراع ونصف، وركّبه على فيل. ودخل المكتفى بالله وهو بين يديه مع أصحابه الأسرى، والمطوّق فى فيه خشبة مخروطة قد شدّت إلى قفاه كالّلجام. وكان لما دخل الرقة عاد يشتم ويبصق. ففعل به ذلك عند عبوره بغداد، ثم وصل محمد بن سليمان بالجيوش وقد تلقط جماعة من القرامطة، ودخل فى زىّ حسن، وخلع عليه، وطوّق وسوّر. وكذلك سائر من كان معه من القوّاد خلع عليهم وأنعم. ثم أمر المكتفى بالله ببناء دكة فى المصلّى العتيق من الجانب الشرقى مربّعة ذرعها عشرون ذراعا فى مثلها، وارتفاعها عشرة أذرع بدرج يصعد إليها.

فلما كان يوم الاثنين لأربع بقين من ربيع الأول أمر المكتفى بالله القوّاد وجميع الغلمان وصاحب جيشه محمد بن سليمان وصاحب شرطته أن يحضروا إلى تلك الدكّة، وصعدها الوجوه، وحضر الباقون على دوابهم، وخرج (ص 54) سائر أهل بغداد. وكان يوما مشهودا. وحملوا الأسرى كلّهم مع خلق كثير أتوا من سائر البلاد من القرامطة ممن مسك وحمل إلى بغداد ممّن كان على مذهبهم، فقتلوا جميعا. وعدتهم ثلاث مئة وستون نفرا. ثم قدّم الحسين بن زكرويه وعيسى ابن أخت مهرويه وهما زميلان على بغل فى عمّرية قد أرسل عليهما أغشيتها. فأصعدا إلى الدكّة فأقعدا. وقدم أربعة وثلاثون إنسانا من الأسرى من وجوه القرامطة ممن <عرف> بالنكاية والعداوة للإسلام، والكلب على سفك الدماء وسبى الحريم. فكان كل واحد منهم يبطح على وجهه فتقطع يده اليمين ويرمى بها إلى أسفل الدكة ليراها أهل المشهد من الناس، ثم تقطع رجله اليمنى، ثم يده اليسرى، ثم رجله اليسرى، ثم تضرب عنقه. حتى فعل ذلك بجميعهم. ورمى بأعضائهم إلى أسفل الدكة. فلما فرغ من تلك العدّة قدّم المدّثر بزعمه لعنه الله ففعل به مثل ذلك، وكوى بالمكاوى قبل ضرب عنقه ليعذب. ثم المطوّق فعل به

كذلك. ثم قدّم الحسن بن زكرويه لعنه الله فضرب مئتى سوط، ثم كوى بالمكاوى، ثم قطعت ساير أعضائه، وضربت رقبته، ورفع رأسه على خشبة. وكبّر من على الدكّة، وكبّر الناس وانصرفوا. وحملت الرؤوس فنصبت على الجسر. وصلب بدن القرمطى، فمكث مصلوبا نحو من سنة، ثم سقط عليه حائط.

نسخة كتب اللعين الحسن بن زكرويه إلى عماله

نسخة كتب اللّعين الحسن بن زكرويه إلى عمّاله بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله المهدى المنصور بالله الناصر لدين الله القائم بأمر الله، الداعى إلى كتاب الله، الذابّ عن حرم الله، المختار من ولد رسول الله، أمير المؤمنين، وإمام المسلمين، ومذلّ المنافقين (ص 55) وخليفة الله على العالمين، وحاصد الظالمين، وقاصم المعتدين، ومبيد الملحدين، وقاتل القاسطين، ومهلك المفسدين، وسراج المستبصرين، ومشتّت المخالفين، والقائم بسنّة <سيّد> المرسلين، ولد خير الوصييّن، صلّى الله عليه وعلى آله الطّيبين الطاهرين وسلّم. كتاب إلى جعفر بن حميد الكردى: سلام عليك. فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلّى على محمد جدّى رسول الله. أما بعد. فقد أنهى إلينا ما حدث قبلك من أخبار أعداء الله الكفرة، وما فعلوه بناحيتك من الظلم والعيث والفساد فى الأرض، فأعظمنا ذلك، ورأينا أن ننفذ إلى هناك من جيوشنا من ينتقم الله به من أعدائنا الظالمين الذين يسعون فى الأرض فسادا. وقد أنفذنا عطيرا داعيا مع جماعة من المؤمنين إلى مدينة حمص، ونحن فى إثرهم، وأمرهم بالمصير إلى ناحيتك لطلب أعداء الله حيث كانوا. ونحن نرجو أن يجزينا الله على أحسن عوائده، فتشدّ قلبك وقلوب من انتقل من أوليائنا إليك،

وتثق بالله وبنصره. وتبادر إلينا بالأخبار وما يحدث بناحيتك. ولا تخف علينا شيئا من أمر ذلك ({سُبْحانَكَ اللهُمَّ، وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ، وَآخِرُ دَعْااهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}). وصلّى الله على جدّى رسوله، وعلى أهل بيته وسلّم كثيرا. وكان سائر عماله يكاتبونه بمثل هذا الصدر، وكان ذلك كذب وخبث من اللعين وفجور من الخبيث. وذلّ بنو القليص بعد هذه الحادثة ولزموا السّماوة. وسلم القاسم بن أحمد المسمّى بأبى الحسين، خليفة اللعين. فقدم سواد الكوفة إلى زكرويه بن مهرويه أبى الملعون. فأخبره بخبر ابنه وقومه، وأنّ القوم الذين استخلفه ابنه عليهم (ص 56) اضطربوا عليه، فخافهم وتركهم، وانصرف. فلامه على قدومه لوما شديدا وانحرف عنه. وكان زكرويه لعنه الله فى ذلك الوقت فى غاية الخوف من طلب السلطان من وجه، ومن طلب أصحاب عبدان الذى تسبب فى قتله من وجه. ثم إنه نفذ فى سنة ثلاث وتسعين ومئتين رجلا من أصحابه يقال له محمد بن عبد الله بن سعيد، وكان معلما فى الدابوقة، ويكنى بأبى غانم

فتسمى نصرا ليعمّى أمره على عادتهم، وأمره يدور أحياء كلب ويدعوهم. فتوجّه فلم يجبه أحد، إلاّ رجل من بنى زياد يعرف بمقدام بن الكمال. ثم استجاب له طوائف من الإصبعيين الذين يعرفون بالفواطم، وقوم من بنى العلّيص، وصعاليك من كلب. فسار بهم نحو الشام. وعامل المكتفى بالله يومئذ على دمشق والأردن أحمد بن كيغلغ، وهم بنواحى مصر على حرب ابن الخليج، حسبما تقدم من أمره وذكرناه فى الجزء الذى قبله، فاغتنم ذلك نصرا هذا. فصار إلى مدينتى بصرى وأذرعات فحارب أهلها ثم أمّنهم. فلما استسلموا قتل مقاتليهم وسبا ذراريهم، وأخذ جميع أموالهم، وسار نحو دمشق. فخرجت إليه الشحنة من جند المصريين مع صالح بن الفضل خليفة ابن كيغلغ. فاثخنوا فيهم، وظهروا عليهم. ثم اغتروهم ببذل الأمان، ثم غدروا بهم وقتلوا صالحا وعسكره، وطلبوا دخول دمشق فدفعهم عنها أهلها. فانصرفوا قاصدين طبرية. فلقيهم يوسف بن إبراهيم عامل ابن كيغلغ على الأردنّ فهزموه وبذلوا له الأمان. ثم غدروا به فقتلوه ونهبوا طبرية. وبلغ المكتفى بالله أمرهم فأنفذ الحسين بن حمدان فى طلبهم، مع وجوه القواد. فدخل دمشق والقرامطة بطبرية.

فلما علموا بذلك عطفوا نحو السماوة، واتبعهم (ص 57) الحسين بن حمدان فى البرية. فأقبلوا ينتقلون من ماء إلى ماء ثم يغوّرون ما يرحلون عنه من الماء. فلم يزالوا كذلك حتى وردوا الماءين المعروفين بالدّمعانة والحالّة، فانقطع عنهم لعدمه الماء. فمال نحو رحبة مالك بن طوق، وأسرى عدو الله القرمطى حتى وافى هيت لتسع بقين من شعبان سنة ثلاث وتسعين ومئتين طلوع الشمس. فنهب ربض هيت والسفن التى فى الفرات، وقتل نحو مئتى إنسان، وأقام هناك يومين، والقوم متحصّنون. ثم رحل بجميع ما أخذ. فلما اتصل الخبر بالمكتفى بالله أنفذ إلى هيت محمد بن إسحاق ابن كنداج، ومعه جماعة من القوّاد، ثم أتبعه بمؤنس الخازن. فوجدوهم قد غوّروا المياه. فأنفذ إلى بغداد وأحضر الروايا والمزاد. وكتبوا إلى الحسين بن حمدان يوافيهم. فلما أحسّوا بذلك ائتمروا بينهم. فوثب عليه رجل من أصحابه يقال له الديب بن القائم فقتل اللعين نصرا وأخذ رأسه وشخص بها إلى بغداد، متقرّبا بذلك للخليفة. فأسنيت له الجايزة، وكفّ عن طلب قومه. فمكث أياما ببغداد ثم هرب. ثم إنّ قوما من بنى كلب أنكروا ما فعله الديب من قتل المعلم

نصرا، ورضوا آخرون. فتحزّبوا أحزابا واقتتلوا قتالا شديدا. ثم افترقوا، فصارت الفرقة التى رضيت قتله إلى ناحية عين التمر، وتخلّف على الماء الذى كانوا عليه من كره قتله. واتصل الخبر بزكرويه لعنه الله، والقاسم بن أحمد عنده، فردّه إليهم لمعرفته بهم. فلما ورد عليهم جمعهم ووعظهم، وقال: أنا رسول وليّكم، وهو عاتب عليكم فيما أقدم عليه الديب. فاعتذروا له وحلفوا ما كان ذلك بمحبتهم. وذكروا ما جرى بينهم وبين أصحابهم وأهاليهم بسببه. فقال لهم: قد (ص 58) جيتكم الآن بما لم يأتكم به أحد ممن تقدمنى. وإنّ وليكم يقول لكم: قد حضر أمركم، وآن ظهوركم. وقد بايع له من أهل الكوفة أربعون ألفا، ومن أهل سوادها أكثر، وهاهو صائر إليكم. وقد أمرنى أن أقول لكم: إنّ ({مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النّاسُ ضُحًى}) فأجمعوا أمركم وسيروا إلى الكوفة، فإنه لا دافع لكم عنها. ومنجز وعدى الذى جاءتكم به رسلى. فسرّوا بذلك وارتحلوا نحو الكوفة.

ذكر خبر زكرويه لعنه الله وقتله

ذكر خبر زكرويه لعنه الله وقتله فلما وردوا القطقطانة، وهى قرية خراب فى البرّ، بينها وبين الكوفة ستة وثلاثون ميلا، وذلك يوم الأربعاء قبل يوم عرفة بيوم، من سنة ثلاث وتسعين ومئتين خلّفوا بها الخدم والأموال والسواد والحريم. ثم أمرهم أن يلحقونه <إلى> عين الرحبة، على ستة أميال بين الكوفة <و> القادسية. ثم اشتوروا كيف يكون هجومهم الكوفة. فقال قائل: ليلا فلا يتحرك أحد إلا قتلناه، ويخرج إلينا وإليها فى قلة فنأخذه أو نقتله. وقال آخر: نمهل إلى أن يدخلها عشية فى يوم العيد والجند سكارى والبلد خال. فنقصد باب إسحاق واليها وهو غافل فنأخذه. فهو أذل لهم ولا يقاومنا بعده أحد. وكانت شحنة الكوفة يومئذ سبعة آلاف رجل، إلا أنّ المقيم بالكوفة يومئذ أربعة آلاف من المصريين والشاميّين وغيرهم. والناس بها أحياء، والبلد على غاية الاجتماع والحسن وكثرة الناس، والحاج بمكة قد خرجوا على أحسن حال.

وقال آخرون من القرامطة: نسير ليلتنا ثم نكمن فى النّجف، ثم نريح الخيل وننام، ونركب عمود الفجر فنشنّها غارة على أهل المصلّى، ونضع السيف وهم آمنون ليس فيهم (ص 59) من معه سلاح. فقال اللعين: هذا هو الرأى. ففعلوا ذلك، حتى إذا حصلوا على المكان الكمين، ناموا لما يريده الله تعالى من سلامة الناس، فلم يوقظهم إلا الشمس يوم العيد، لطفا من الله عز وجلّ. ومن ألطاف الله عز وجلّ أيضا أنّ إسحاق بن عمران المتولّى كان قد أحدث مصلّى بالقرب من طرف البلد فصلّى فيه. وكان الرجوع منه إلى البلد سهلا، فقصدت القرامطة المصلّى العتيق على ما كانوا يقدّرون أنّه مصلاّهم فلم يصادفوا به أحد. فأقبلت خيل منهم من تلك الجهة فدخلت الكوفة من يمينها، فوضعوا السيف حتى وصلوا إلى حبسها ففتحوه، وقتلوا كثيرا من الناس، وجرحوا خلقا. فارتجّت الكوفة، وخرج الناس بالسلاح، وتكاثر الناس على من دخل الكوفة من القرامطة، فقذفوهم بالحجارة، ورمى عليهم بالسهام، فقتلوا جماعة. وأقبل جلّ القوم من الخندق فقتلوا ناسا، وناوشهم طوائف من الجند تخّلفوا فى الصحراء.

وكان إسحاق بن عمران المتولّى قد انصرف إلى منزله فى أحسن زى. فلما سار فى بعض الطريق لحقه فارس من بنى أسد على فرس قد جرح، فخبّره أنّ قوما من الأعراب قد هجمت البلد فقتلت وسبت وخرجت إلى الصحراء، وإنّى لقيتهم ففعلوا بفرسى ما تراه. ثم إنه تحقق أمرهم فكان بينهم طول ذلك النهار حرب شديد. ورجع القرامطة إلى سوادهم بعد قتلا كثير فى الناس من أهل الكوفة وجماعة من القرامطة. وأبلى فى هذه النوبة إسحاق بن عمران بلاء حسنا، وعرف <الناس> منه ثباتا وشجاعة. ثم كتب من وقته كتابا إلى الوزير العباس بن الحسن يعرّفه بجميع ذلك، ويستصرخه بالجيوش. ولما وصلوا القرامطة إلى سوادهم بعين الرحبة رحلوا هم إلى (ص 60) عين يسرة العذيب تعرف بعين عبد الله. ثم رحلوهم فنزلوهم بقرية تعرف بالصوان، على نهر هدّ من سواد الكوفة. فخرج إليه منها عند نزولهم إياها زكرويه بن مهرويه لعنه الله. وكان بها مستترا. فقال [أحمد بن القاسم] للعسكر: هذا صاحبكم وسيدكم ووليّكم الذى تنتظرونه. فترجّلوا بأجمعهم وألصقوا خدودهم بالأرض. وضرب لزكرويه مضرب عظيم وطافوا به، وسرّوا جدا، واجتمعت إليه جميع أهل دعوته من السواد وغيره. فعظم جيشه وتكاثفت عساكره.

ولما وصل كتاب إسحاق بن عمران إلى الوزير العباس بن الحسن قلق وشاور أصحابه فى لقاء المكتفى بالله بذلك. فأشاروا عليه بتعجيله. فقال: كيف ألقاء بذلك مع ما يحتاج إليه من الأموال؟ ولعهدى به قد ناظرنى بالأمس فى دينار ذكر أنه فضل بقية نفقة دفعت إليه. فقال أصحاب الوزير له: اذكر له ذلك، فإن أسعفك وإلاّ ففى أموالنا فضل. فقال: لقد فرّجتم عنى. ثم إنه طالع المكتفى بالله. فقال له المكتفى: كأنى بك أيها الوزير قد قلت كيف أطالع أمير المؤمنين بمثل هذا، وبالأمس قد ناظرنى فى دينار! فقال: قد كان ذلك والله يا أمير المؤمنين. قال: إنما كان ذلك يقتضى لمثل ما كنا فيه، وأمّا هذا فلا نبخل بمال. امدد يدك بالإنفاق فى الرجال ليلا ونهارا، وجرّد الكبار من القوّاد. ففعل ذلك. ووصل أوائل الجيش الكوفة فى اليوم السادس من عيد النحر. قلت: ثم كان لهم بعد ذلك وقائع وحروب. وأخذوا القرامطة تلك السنة جميع الحاج القادم. وفعلوا من الأمور القباح ما يضيق عنه

التلخيص، حتى بلغ من أمر المكتفى أنّه امتنع من الدخول إلى النساء، وكان يصوم (ص 61) نهاره سهوا لعظم أمرهم وفخامة حالهم. وكسروا جيوش الخليفة عدّة طرق. وقتلوا وأسروا كبار القواد، وفعلوا أمور تقشعرّ لسماعها الأبدان. ولم يزالون كذلك حتى نفذ المكتفى بالله سائر جيوشه مع خاصة نفسه يقدمهم محمد بن إسحاق بن كنداج وغيره. فنزلوا يوم السبت لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة أربع وتسعين ومئتين بقرية خراب يقال لها صماخ، كان يسكنها على قديم الزمان قوم من ربيعة يقال لهم بنو عنزة، وبينها وبين البصرة ثلاثة أيّام. فلقيهم قوم من الأعراب فخبّروهم أنّ القرامطة بالبنّى، وهو موضع من وادى ذى قار الذى كانت فيه وقعة العرب مع العجم فى أيام كسرى ابرويز، فظفرت العرب بالعجم. وهو واد كثير الماء العذب، وبينه وبين منزلة الجيش الخليفتى عشرة أميال. فبات الجيش بصماخ. وتراءت الطلائع فى عشى يومئذ. ورحل من غد زكرويه لعنه الله طامعا فى الظفر. فالتقوا بقرية خراب يقال لها إرم بينها وبين البنّى ثلاثة أميال، وذلك يوم الأحد لسبع بقين من ربيع الأول، فاقتتلوا قتالا شديدا صبر فيه الفئتين. ثم كانت

الدائرة على اللعين زكرويه، فانهزم، وقتل من جيوشه أكثرها، وأسر منهم خلق كثير. وأفلت صعاليك من العرب على الخيل مجرّدين. ووصل إلى الملعون وهو فى القبة فى أوائل سواده، وقد كانوا قد تحمّلوا فأخذوا. وكان سبيا عظيما، فلم يؤبه إليه وظنوا أنّه فى الخيل المنهزمة فاتّبعوها. ثم إنّ رجل من الجيش الخليفتى قذف بنار فوقعت فى قبته، فخرج الملعون من ظهرها. فلحقه بعض (ص 62) الرجالة وهو لا يعرفه. فأدركه بعض أصحاب للحيم وهو قد ضربه على رأسه ضربة أثخنه بها. فسقط إلى الأرض. فلما عرفه ذلك الرجل الذى أدركه قال لصاحبه: قد ظفرت يدك. هذا صاحب القوم. ثم أركبه نجيبا فارها وقال له: طر إن أمكنك. فإذا دخلت بغداد فعرّف الوزير أنك رسولى وسلّم إليه الخاتم واشرح له ما شاهدت. واعلم أنه إن علم محمد ابن إسحاق بن كنداج وإسحاق بن عمران بمكانك حبساك حتى يسبقك الخبر منهما إليه. فعمل بذلك. فكان ذلك الرجل أول بشير بالفتح على الوزير. ومضى لحيم إلى وصيف وابن سيما فعرّفهما. فاجتمعوا جميعا وكتبوا كتاب الفتح، وأخذ جماعة من آل زكرويه، ونهب الجيش عسكرهم.

وأخذت زوج اللعين زكرويه <و> تسمى مؤمنة. وانصرفوا نحو الكوفة فمات الملعون بخفّان من جراحاته، وصبّر وكفّن، وشهر كذلك بمدينة السلام على جمل. وأدخلوا الأسرى ورؤوس من قتل على الجمال، والنساء فى الجوالقات. ومات خبر القرامطة وانقطع ذكرهم إلى سنة خمس وتسعين ومئتين.

<ذكر أبى حاتم الزطى>

<ذكر أبى حاتم الزطى> خرج رجل زطّىّ من السواد يعرف بأبى حاتم الزطى فقصد أصحاب الثورانى خاصة. وكان الثورانى داعيا كما تقدم، وأصحابه يعرفون بالثورانية. فلما ظهر هذا المعروف فيهم بأبى حاتم حرّم عليهم الثوم والكرّاث والبصل والفجل، وحرّم عليهم إراقة الدم من جميع الحيوان، وأمرهم أن يتمسّكوا بما هم عليه من مذهب الثورانى، وأمرهم بأشياء لا يقبلها إلاّ الأحمق السخيف من ترك الشرائع. وهؤلاء طائفة من القرامطة يعرفون بالبقليّة. وأقام أيضا هذا الملعون المعروف بأبى حاتم نحوا من سنة، ثم زال. ثم اختلفوا بعده. وكانوا أهل قرى بسواد (ص 63) الكوفة، فقالت طائفة منهم: زكرويه بن مهرويه حىّ، وإنما شبه على الناس الذى قتل. وقالت طائفة منهم: الحجة لله محمد بن إسماعيل ابن جعفر حىّ. ثم خرج رجل من بنى عجل قرمطى يقال له محمد ابن قطبة فاجتمع له نحو من مئة رجل. فمضى بهم إلى نحو الحامدة من واسط فنهب وأفسد، فخرج إليهم أمير الناحية فقتلهم وأسرهم.

ذكر أبو طاهر القرمطى لعنه الله

ذكر أبو طاهر القرمطى لعنه الله ثم خمدت أحوال القرامطة إلى أن تحرك أبو طاهر بن أبى سعيد الجنّابى لعنه الله وعمل على أخذ البصرة. وذلك فى سنة عشر وثلاث مئة، فعمل سلالم عراضا يصعد على كل مرقاة اثنان بزرافين إذا احتيج إلى نصبها، وتخلع إذا أريد خلعها، ثم وافى البصرة ليلا. فأخرجت الأسنة من زبل كانت فيها بحيث لا تصدأ، وركّبت على الرماح، وفرّقها على أصحابه، وحشيت غرائر بالرمل، وحملت على الجمال، وأشياء من حديد قد أعدّت لذلك. وساروا إلى السور قبل الفجر. فوضعوا السلالم، وصعد عليها قوم من جلداء أصحابه. فقتلوا سائر من تكلّم. ودفع إلى آخرين ما يكسرون به الأقفال، وفتحوا الأبواب. ودخل جيشهم. فأول ما عملوا طرحوا ذلك الرمل الذى كان على الجمال فى الأبواب نحو ذراع ليمنعوا غلقها، وكان الأمير على البصرة يوم ذلك شبل المفلحى. فركب مذعورا فى بعض غلمانه. فقتلوه من وقته وساعته. وفزع الناس وركبت الخيل. وكانت العامة قد منعها السلطان من حمل السلاح فاجتمعوا بالآجرّ. وحضر ابن شبل واجتمع عليه الناس. ووقعت الحرب فأصابت القرامطة جراحات. والقتل فى العامة كثير جدا. ولم يزل الأمر كذلك إلى آخر النهار (ص 64) ثم

خرجوا وقد قتلوا من الناس مقتلة عظيمة إلى خارج البلد، فباتوا خارج البلد. وخرج الناس بعيالاتهم فركبوا الأنهار. وباكر البلد. فنزل دار عبد السلام الهاشمى. وتفرق أصحابه فى البلد يقتلون من وجدوا وينهبون ما يجدون ويحمل ذلك إلى مكان قد عيّن لجمعه فيه. ثم إنهم رحلوا آخر النهار إلى الأحساء بلدهم. وتراجع الناس إلى دفن قتلاهم. فلما اتصل خبرهم بالسلطان أنفذ ابن نفيس فى عدّة وعدد. فشكر الناس. ثم قلّد أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان أعمال الكوفة وحبيلا وقصر ابن هبيرة والسواد وطريق مكة. فجرى بينه وبين الثورانى وقائع عظيمة يطول شرحها. وردّهم عن أعماله بشجاعته وصرامته، حتى إنه تعرض قوم من الأعراب للفساد فى عمله، فرحل فى إثرهم إلى قرب دومة الجندل حتى ظفر بهم. ولم يكن أحد قبله فعل ذلك. فهابوه وعمرت البلاد فى أيّامه، وصلحت الطرق، وأمنت الناس. فلما وقف القرمطى على ما <فعل> هاله ذلك. وكانت جواسيسه لا تنقطع عن العراق كثرة فى صور مختلفة. وأمره يطول شرحه مع وقائع جرت له مع أبى الهيجاء ابن حمدان، وأسره إيّاه فى حديث طويل جدا. ولم يزل كذلك إلى أن دخلت سنة ست عشرة وثلاث مئة. فدخل الكوفة. وكان عاد لا يمنعه عنها مانع. فدخلها يوم الجمعة

لثلاث خلت من شهر رمضان من هذه السنة المذكورة. فأقام بها إلى مستهلّ ذى الحجة ولم يقتل بها أحد، ولا نهب شيئا، فساس الناس أمرهم معه، ولطفوا به وبمن معه، ثم رحل عن الكوفة فى ذى الحجة. فلما كان فى سنة سبع عشرة وثلاث مئة رحل بجيشه، فوافى مكّة. فدخلها يوم الاثنين لثمان خلون من ذى الحجة فقتل الناس فى البيت (ص 65) قتلا ذريعا، ونهب البيت، وأخذ سلبه، وقلع ذهبه، ونزع بابه وستائره، وأظهر الاستخفاف به، وقلع الحجر الأسود وأخذه معه، ولم يشكّ الملعون هو وأصحابه بجهلهم أنه قد بطل قول الله عزّ وجلّ ({وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً}). وخلع الشكّ فى ذلك كثيرا من الناس عن دينه، ولم يعلم أنّ معنى ذلك أنه من دخله كان آمنا فى حكمى وفرضى. فأمّا أن يكون أخرج ذلك مخرج الأخبار فإنه غلط، لأن الآية جاءت على معهود كما بيّن عزّ وجلّ. ولم يزل الحجر الأسود عندهم إلى سنة تسع وثلاثين وثلاث مئة. فأرادوا أن يستميلوا أهل الإسلام بالمقاربة، وأراد الله أن يهتك أستارهم وأن يكذب ما قدّموه من دعوتهم، وأن يلجئهم إلى تناقض الأقوال

والأفاعيل. فحملوا الحجر الأسود صغرة منهم وردّوه إلى الكوفة فنصبوه فيها. وكان قصدهم بذلك استمالة قلوب الناس. فنصبوه فى مسجد الجامع على الأسطوانة السّابعة فى القبلة مما يلى صحن المسجد. وكان فى ذلك آية عظيمة من آيات النبوة بيّن الله صدق رسوله صلّى الله عليه وسلم عند نجوم الأشكال فيه. فوطّى الله بذلك حجة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومكّن به صحة شريعته بأن جاء عنه فى الخبر أنّ الحجر الأسود يعلّق فى مسجد الجامع بالكوفة فى آخر وقت. وجاء الخبر بذلك منقولا مشهورا عن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب عليه السلام. ومثل هذا لا يكون عن منّجم، ولا يوصل إليه إلاّ بخبر من رسول ربّ العالمين. فهذا ما جرى من أبى سعيد الجنّابى وولده فى تلك الديار. وهم شعب من القرامطة. وقد لخّصت من ذكرهم جدّ (ص 66) الاجتهاد وجهد الطّاقة.

<أبو عبد الله الخادم> وأتباعه

<أبو عبد الله الخادم> وأتباعه وأمّا خراسان فإنّ الذى قدم بهذه الدعوة الخبيثة رجل يعرف بأبى عبد الله الخادم. وكان خادما لعبيد الله المهدى بالمغرب. فأوّل ما ظهرت بنيسابور. فكان أحد من أجابه رجل يعرف بأبى سعيد الشعرانى. فلما حضرت أبا عبد الله الوفاة جعله مقامه فى الأخذ على الناس، واستخلف الشعرانى بعده الحسين بن على المروزى. وأقام بعده المروزىّ محمد بن إسحاق النسفى صاحب كتاب «المحصول» والمقالة المقبولة فيه تعطيل الإسلام وغيره من الأديان، والجرأة على سفك الدماء وارتكاب المحارم وتعطيل الخالق. وكان الذى مكّن أمر هذه الدعوة المروزى بقوته وإمارته وتمكينه. ووزيره يومئذ محمد بن موسى البلخى. فاستدعى له ابن بابويه صاحب سجستان واستدعى النسفى خلقا كثيرا من الرؤساء أصحاب السلاح.

<ذكر الحلاج الداعى والحداد الداعى>

<ذكر الحلاّج الداعى والحدّاد الداعى> وأما الرىّ مع بلاد فارس فإنه دخل إليها رجل يعرف بخلف الحلاّج، كان صاحب محلجة قطن، كان قد نفذ إلى الرىّ من قبل عبد الله بن ميمون القداح المقدم ذكره. فدعا بها خلقا، وهم يعرفون هناك بالخلفيّة. ولما هلك استخلف ابنا يكنى بأبى سعيد. فأفسد عقول أهل تلك النواحى مما يطول شرحه. وإنما ذكرنا أصول هؤلاء الملاعين وأصول دعاتهم فى كلّ وجه حسبما ذكره الشريف «أخى محسن» رضى الله عنه. وأما جبل السّماق فإن الدعوة الخبيثة انتشرت فيه من رجل يعرف بالحداد الداعى. وهؤلآء أصول هذه الدعوة الملعونة. وإذ قد بينّا ما كان من أمر الدّعاة، وما جرى على هذه الأمة منهم، فلنذكر الآن أصل الدعوة وشرحها، وكيف يجرى أمرها، وكيف رتّب باطنها وظاهرها.

فصل يتضمن ذكر هذه الدعوة الخبيثة وهى تسع

فصل يتضمن ذكر هذه الدعوة الخبيثة وهى تسع الدعوة الأولى: اعلم أنّ أوّل هذه الدعوة الملعونة بعد عمل الداعى بالزرق والمآتم وقوة إجابة المدعو من سائر الأمم أنّ أوّل ما يسلك به فى السؤال عن المشكلات مسلك الملحدين والشكّاك. ويكثر السؤال عن تأويل الآيات ومعانى الأمور الشرعيّات، وشئ من الطبائع، ووجوه القول فى الأمور التى يكثر فيها الشبه ولا يصل إليها إلاّ العالم المبرّز. فإن اتفق له عالم مجيب ممارس جدل سلّم إليه الداعى وعظّمه وكرّمه وحشّمه وصوّب قوله وداخله فيما يحب من أمر الشريعة التى يومى إليها. وكل ذلك ليقطع كلامه، لئلا يبين له ما هو عليه من المكر والخديعة، وما يدخل به على غيره من الجهّال من أمر الدعوة الخبيثة. وإن اتفق مغرور-وهم الأكثرون من الناس من المغفّلين الغليظين الحواس، ألقى إليه ما يشغله ويبليه بالفكر فيه، مثل قوله: إنّ الدين لمكتوم، وإنّ الأكثر له منكرون وبه جاهلون. ولو علمت هذه الأمّة ما اختصّها الله عز وجل من العلم لم تختلف. ويوهم من سمع كلامه أنّ عنده علوما

خفيّة لم يصل إليها. فتطّلع نفسه إلى معرفة بيان ما قال. فربّما وصل أمره مع من يجالسه واحدا كان أو جماعة بشئ من معانى القرآن، وذكر شرائع الدين من تأويل وتنزيل وكلام لا يشكّ المسلم العارف فى حقيقته، ويوهم المستمعين منه أنه قد ظفر بعلم، لو صادف له مسمعا لكان ناجيا منتفعا. ويقرّر عندهم أن الآفة التى نزلت بالأمة وحيرت؟ (ص 68) فى الديانة وشتّت الكلمة وأورثت الأهواء المضلة ذهاب الناس عن أئمة نصبوا لهم وأقيموا حافظين لشرائعهم، يؤدّونها على حقائقها ويحفظون عليهم معانيها وبواطنها، وأنهم لما عدلوا عنهم ونظروا من تلقآء عقولهم، واتباعهم لما حسن فى رأيهم وسمعوه من أسلافهم وعلمائهم، تباع الملوك فى طلب الدنيا وحاملى العنا ومتبعى الإثم وأحشاد الظلمة وأعوان الفسقة، الطالبين العاجلة، والمجتهدين فى الرياسة على الضعفاء، ومن عاند رسول الله صلى الله عليه وسلّم فى أمته، وغيّر كتابه، وبدّل سنته، وقتل عترته، وخالف دعوته، وأفسد شريعته، وسلك بالناس غير طريقته، وعاند الخلفاء من بعده، وخلط بين حقه وباطل غيره، فتحيّر وحيّر من قبل منه، وصار الناس إلى أنواع الضلالات به وبأتباعه. وقالوا لهم حينئذ كالنصحاء الحكماء: إنّ دين محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يأت بالتحلّى ولا بالتمرّى، ولا بأمانى الرجال ولا شهوات الخلق،

ولا بما خفّ على الألسنة وعرفته دهماء العامة. وإنما الدين صعب مستصعب، وأمر مستثقل، وعلم خفىّ غامض ستره فى حجّته، وعظّم شأنه عن ابتذال الأسرار له، فهو سرّ الله عزّ وجلّ المكتوم وأمره المستور الذى لا يطيق حمله ولا ينهض بأعبائه وثقله، إلاّ ملك مقرّب، أو نبى مرسل، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان. فى أمثال هذا الكلام. وتمويه على من لا يعلم بأنهم لو أظهروا ما عندهم من العلم لأنكره من يسمعه ويعجب منه، وكفّر أهله. وهذه تقدمة يجعلونها فى نفوس المخدوعين لهم ليواطؤونهم على أن لا ينكرون ما يسمعون منهم، ولا يدفعونه فيجعلوا (ص 69) ذلك تأنيسا وتأسيسا لينخلع من الشرائع وترتيب أصولها، ويقلع عن الحرص فى طلبها. وربما قالوا لهم شيئا يموّهون به أن له تفسيرا وإنما هو تقليد فى الديانة. فمن مسائلهم: ما معنى رمى الجمار؟ وأعداده المحصورة فيه؟ والعدو بين الصفا والمروة؟ ولم قضت الحائض الصيام ولم تقض الصلاة؟ وما بال الجنب يغتسل من ماء دافق لشئ طاهر منه البشر ولم يغتسل من البول النجس الكثير القذر؟ وما بال الله عز وجلّ خلق الدنيا فى ستة أيام، أعجز عن خلقها فى ساعة واحدة؟ وما الصراط المضروب فى القرآن مثلا؟ والكاتبين الحافظين؟ وما بالنا لا نراهما

أخاف ربنا لا نكابره ونجاده فأذكى العيون وأقام علينا الشهود وقيّد ذلك بالقرطاس والكتابة؟ وما تبديل الأرض غير الأرض؟ وما عذاب جهنم؟ وكيف يصحّ تبديل جلد يذهب بجلد لم يذهب ولم يذنب فيعذب؟ وما معنى ({يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ})؟ ولم لا كانوا أكثر أو أقل؟ وما ذكر الشياطين وما وصفوا به؟ وأين مستقرهم ومقدار قدرهم؟ وما يأجوج ومأجوج؟ وما هاروت وماروت؟ وما سبعة أبواب النار؟ وما ثمانية أبواب الجنة؟ وما شجرة الزقّوم الثابتة فى الجحيم؟ وما دابة الأرض؟ وما رؤس الشياطين والشجرة الملعونة فى القرآن؟ وما {التِّينِ وَالزَّيْتُونِ}؟ وما {الْكُنَّسِ}؟ وما {الْكَوْثَرَ}؟ وما معنى {الم}؟ و {المص}؟ وما معنى {كهيعص}؟ و {حم عسق}؟ وأمثال هذه المسائل. ولم جعلت السموات سبعا والأرضون سبعا؟ والمثانى من القرآن سبع آيات؟ ولم فجّرت العيون اثنتى عشرة عينا؟ ولم جعلت (ص 70) الشهور اثنى عشر شهرا؟ وأمثال هذا من الكلام والأمور مما يوهمون أنّ فيه معانى غامضة وعلوما جليلة، وقالوا للمغرورين: ففكّروا أولا فى خلق أنفسكم،

وكيف صوّرها، وأين مستقرّها، وما أول أمرها؟ والآن ما هو وما حقيقته؟ وما فرّق من حياته وحياة البهائم. وفصل ما بين حياة البهائم وحياة الحشرات؟ وما بانت به الحشرات من حياة النبات؟ وما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلقت حوآء من ضلع آدم؟ وما معنى قول الفلاسفة: هو العالم الصغير؟ ولم جعلت قامة الإنسان منتصبة دون الحيوان؟ ولم جعل فى يديه عشر أصابع وفى رجليه عشر أصابع؟ ولم جعل فى أربع منها من يديه ثلاثة شقوق وفى الإبهام شقان؟ ولم جعل فى وجهه سبع ثقب وفى سائر بدنه ثقبان؟ ولم جعل فى ظهره اثنا عشر عقدة وفى عنقه سبع؟ ولم جعل رأسه فى صورة ميم، ويداه ح، وبطنه ميما أخرى، ورجلاه دالا، حتى صار ذلك كتابا مرسوما يترجم عن محمد؟ ولم جعلت أعداد عظامكم كذا وأسنانكم كذا؟ ولم صارت الرؤساء من أعضائكم كذا؟ وذكروا له شيئا من التشريح والقول فى العروق وفى الأعضاء ووجوه منافع الأعضاء. ويقولون لهم: ألا تفكرون فى حالكم وتعتبرون، وتعلمون أنّ الذى خلقكم حكيم غير مجاذف، وأنه فعل جميع ذلك بحكمة، وله فى ذلك أغراض باطنة خفيّة، حتى جمع ما جمعه، وفرّق ما فرّقه. وكيف يسعكم الإعراض عن هذه الأمور وأنتم تسمعون قول الله تعالى ({وَفِي أَنْفُسِكُمْ}

{أَفَلا تُبْصِرُونَ}) وقوله عزّ وجلّ ({وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ}) ويقول (ص 71): ({وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}) ويقول الله عز وجلّ ({سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}) فأىّ شئ رآه الكفار فى أنفسهم وفى الآفاق فعرفوا به الحق؟ وأىّ حقّ عرفه من جحد الديانة؟ أو لا يدلّكم على أنّ الله عز وجلّ أراد أن يدلّكم على بواطن الأمور الخفيّة وأمور باطنة؟ ولو عرفتموه لزالت عنكم كلّ حيرة وشبهة، وحصلت لكم المعارف السنيّة، لولا ترون أنكم جهلتم أنفسكم التى من جهلها كان حريّا بأن لا يعلم غيرها. أو ليس الله تعالى يقول ({وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}) وأمثال هذه الأمور مما يسئلون ويعترضون به من تأويل القرآن، وتفسير آيات كثيرة من ألفاظ السنن والأحكام. والجواب عن نصف معانى تفسيرها واضع الشرايع السمعيات فيما وقع منها وما نصب، وكثير من أبواب التعديل والتحوير مما يأتى فى المقالة الثانية إن شاء الله تعالى.

فإن أوجب ذلك المسئول عنه شكّا وحيرة واضطرابا، وتعّلقت نفسه بالجواب عنه فتشوّف إلى معرفته، فسألهم عنه، عاملوه بمثل ما يعامل به صاحب الفال والزرّاق والقصّاص على العوّام عند امتلاء صدورهم بما يفخمون به أولا عند هم من أحوال قد عرفوها من أحوالهم إلى معرفتها أكثر الحاجة وعلقوا بمعرفتها أنفسهم، وعند بلوغ القصاص إلى ما يبلغون إليه، يقطعون الحديث لتتعلّق قلوب المستمعين بما يكون بعده. وهذه صفة هؤلآء الدعاة وحالهم: يقدّمون الكلام والمسائل، ثم يقطعون. فتتعلّق أنفس المغرورين بما قد أخّر من القول الذى قد قدموا له مقدمة. فإذا (ص 72) خاطبهم المغرور على علم معرفته وبيان ذلك قالوا له: لا تعجل. فإنّ دين الله عز وجلّ أجلّ وأكبر من أن يبذل لغير أهله، ويجعل غرضا للعب وما جانسه. ويقولون: قد جرت سنة الله جلّ وعزّ فى عباده عند شرع من نصبه أن نأخذ العهد ممن يرشده ولذلك قال: ({وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ، وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ، وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً}).

وقال تعالى ({مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ.} {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}). وقال جلّ ذكره: ({يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}). وقال تعالى: ({وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً، إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً}). وفى أمثال هذا خبّر الله عز وجلّ أنه لم يملك حقه إلاّ لمن أخذ عهده، فأعطنا صفقة يمينك وعاهدنا بالتوكيد من إيمانك وعقودك أن لا تفشى لنا سرّا ولا تظاهر علينا عدوّا يطلب لنا غيلة، ولا تكتمنا نصحا ولا توال لنا عدوّا. وإنما غرضهم فى هذا كله أمور منها أن يستدلوا بظاهرها على ما يعطيهم المخدوع من الانقياد إليهم والطاعة لهم من باطن أمره دون شكّه واضطرابه، وكيف موقع ذلك منه وتمكنه. ومنها التوثيق بالأمن من كشف أحوالهم وانتشار أمورهم إلاّ بعد توطئة ما يريدونه حالا فحالا.

ومنها أن يرسموه بالذلّ والطاعة لهم، والرضا منه بأن يكون منقادا تابعا ومعظّما لهم مكثرا. وإلاّ فإن نكث الأيمان وقلة الاكتراث بها والفكر فيها والاعتداد بأمرها هو دينهم عند البلوغ إلى غايتهم (ص 73) التى يجرون إليها ويبلغون فيها. وإنما يجعلون ذلك مانعا لأهل هذه الطبقات ما داموا مستشعرين للعمل بالديانات. فإن سمح المدعو بإعطاء عهده وتصاغر لهم لقوّة اضطراب قلبه وشكّه قالوا له حينئذ: اعطنا جعلا من مالك وغرما نجعله مقدّمة أمام كشفنا لك الأمور وتعريفك إيّاها. فكان ذلك أيضا مما يستظهرون به عليه من الاستدلال على قوة شكّه وتعلّق نفسه، وظهريا لهم على الاستعانة على أمرهم، وتمكينهم لدعوتهم، ثم وسموا له وسما بحسب ما يراه الداعى فى أمره صلاحا. وإن امتنع عليهم المخدوع فى رتبة العهد وإعطاء الداعى رتبة الغرم وعطيتّه، أمسكوا عنه وزادوه أبدا فى شكّه وحيرته. فهذا حال الدعوة الأولى. قال العبد المولّف لهذا التاريخ أبو بكر عبد الله غفر الله له: قد اخترت الله تعالى وأضربت عن ذكر بقية المقالات، وهن ثمان بعد هذه المقالة، صيانة لكتابى، إذ لا أكتب بيدى ما صمّ له مسمعى واقشعرّ من هوله بدنى. وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده شريك له،

له الدين وله الحمد يحيى ويميت، وإليه المصير. وهو على كلّ شئ قدير. وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. فإنّى رأيت أنّ كتابى هذا جامع لأخبار الناس، فلا أشوبه بشئ يكون فيه التباس، وهذه المقالة كافية، والقصد منها أن تفهم لئلا يقع غرّ ولا جاهل، ويتحقق أنّ هذه المسائل والوهبات جميعها ابتداء الشر فى دينه ودنياه. فيجب على من أهدى الله قلبه للإيمان إذا وقع بمن يخاطبه ويداخله بشئ هذا مبتدأه أن يتجنّبه (ص 74) ويتحقّق منه أنّ آخر أمره معه يؤول إلى التعطيل والإباحة نعوذ بالله منهما. وهذه الطائفة لم تزل من أول زمان تحت الذلّ والخوف والوجل، تضرب أرقابهم، ويرفعون على الخشب فى كلّ بلدة، وفى كل إقليم إذا ظهر أحد منهم. وربما أنّ فى هذا العصر عند وضعى لهذا التاريخ أناس يعتقدون ما قد ذكرناه. غير أنهم لم يصلون إلى هذه الرتبة واحتاجون إليها لقرب مأخذهم بعقول من صبا إليهم، وأنهم يوهمون المغرورين أنهم رسل رجال الغيب، وأنّ رجال الغيب هم المتصرفون فى هذا الوجود

بما شاؤا، يعطون من أحبّوا، ويمنعون من خالفهم. وذلك أنهم رأو الناس متكلّبين على حبّ الدنيا وطلب الرياسة والترقى إلى المراتب، فدخلوا عليهم بما أحبّوا. وقالوا: نحن رسل رجال الغيب المتصرّفين فى هذا العالم بالعطاء والمنع، ويوهموا المغرور ويذكروا له أناس كانوا سقاط قد صاروا أرباب مناصب، ويدّعون أنهم كانوا السبب فى ترقيهم. فيرى ذلك المغرور أن ذلك الرجل الذى ذكروه له كان أقلّ منه فى مبتدإ أمره، وأنه لم يكن أهلا لما قد صار إليه، فتطمع آماله ويرتبط عليهم ويستعبدونه بما شاؤا. فهم عند ذلك المخيّرون. فهم إن شاؤا أخرجوهم عن دينهم وإن شاؤا استمدوا من أموالهم أوّلا فأولا. وقد بلغنى عن رجل عظيم القدر لا يمكننى ذكره أنهم لعبوا به حتى ركّبوه ثورا ووجهه إلى ذنبه، وطلعوا به الجبل حتى يجمعوا بينه وبين رجال الغيب وهم يمشون به ووجهه إلى دبر الثور. وقالوا له: إنك لا تصل إليهم إلاّ بهذا الثور، فإنه الذى يسقى عليه أرضهم التى يقتاتون بها لاجل أكل الحلال. فانظر إلى. . . (ص 75). . . . . .

ذكر خلافة عبيد الله المهدى بالمغرب وما لخص من سيرته

ذكر خلافة عبيد الله المهدى بالمغرب وما لخّص من سيرته هو أبو محمد، وقيل أبو عبد الرحمن عبيد الله. وباقى نسبه قد تقدّم عند الاختلاف فيه. ولد بالعراق فى سنة ست وستين ومئتين. وقال صاحب تاريخ القيروان: كانت ولادة المهدى فى سنة تسع وخمسين ومئتين. وقيل بل سنة ستين بسلمية، وقيل بالكوفة. ودعى له على منابر رقّادة والقيروان يوم الجمعة لسبع بقين من شهر ربيع الأول سبع وتسعين ومئتين. وكان ظهوره بسجلماسة لسبع خلون من ذى الحجة سنة ست وتسعين ومئتين. واستولى على المغرب، وبنى المهديّة، وأخرج الأغالبة فى سنة اثنتين وثلاث مئة. كان بناؤه المهديّة فى سنة ثلاث وثلاث مئة. وكان أول شروعه فى بنائها فى شهر ذى القعدة من هذه السنة. وبنى سور تونس وأحكم عمارتها، وجدّد بها مواضع.

وتوفى بالمهديّة صلاة المغرب من ليلة الثلاثاء من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلاث مئة، وله ثمان وستون سنة، وقيل اثنتان وستون سنة. وكانت خلافته بالمغرب خمسا وعشرين سنة. وكان يتولّى الأمور بنفسه. ليس له وزير ولا حاجب فيذكرا، والله أعلم.

ذكر خلافة القائم بأمر الله بالمغرب ولد المهدى وما لخص من سيرته

ذكر خلافة القائم بأمر الله بالمغرب ولد المهدى وما لخّص من سيرته هو أبو القاسم محمد بن عبيد الله المهدى. وما فى نسبه قد علم. وكان اسمه بسلمية عبد الرحمن. فلما صار بالمغرب مع أبيه تسمّى محمدا. ولد بسلمية سنة سبع وسبعين ومئتين. وقيل ولد فى المحرّم سنة ثمان وسبعين. قلت: وهذا غلط بيّن. كيف يكون ولادة أبيه فى سنة ست وستين وولادة ولده سنة سبع وسبعين فيكون بينهما إحدى عشرة سنة؟ والذى يمكن أن يكون فى ذلك أنّ مولد لمهدى سنة تسع وخمسين حسبما ذكره صاحب تاريخ القيروان. فذلك أقرب إلى الصحيح والله أعلم. بويع له فى النصف من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلاث مئة. وتوفى بالمهدية (ص 77) آخر شهر شوال سنة أربع وثلاثين وثلاث مئة. وله ثمان وخمسون سنة. وكنت خلافته بالمغرب اثنتى عشرة سنة وسبعة أشهر واثنى عشر يوما.

وقيل فى عمره أربعة وخمسون سنة وتسعة أشهر وسبعة أيام. وهو الذى كانت له الوقائع مع المصريّين وجيوش الخليفة مع مؤنس الخادم وثمل فى البر والبحر. ودخل مصر وأقام بها ثمانية أيام. ثم خرج هاربا لا يلوى على شئ. وقد تقدم ذلك جميعه فى الجزء الذى قبل هذا فى تاريخ سنيه. قلت: قد تقدّم من العبد فى هذا الجزء فأذكر من مساوئ هؤلآء القوم وابتدأت بقولى إنى أذكر جميع ما وقفت عليه وطالعته من مدح لهم وهجو فيهم. وقد تقدّم من ذكر المساوئ ما فيه الكفاية والعهدة فى ذلك على ناقله فى الأصل. والعبد يبتدئ من هاهنا بذكر ما ذكر من محاسنهم وما ذكروه المتغالين فى محبتهم. وأقلّد كل إنسان ما ذكره بحيث يتحقق الواقف عليه أنى برئ من جميع الأغراض، ليس لى مع طائفة من الفريقين ميل ولا إعراض، وإنما أمرهم إلى الله عزّ وجلّ يفصل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون. فمن سير التاريخ اختصار الشيخ أبى القاسم على بن منجب بن سليمان الكاتب ما وقفت عليه بخطه ما ذكر أنّه من تأليف أبى القاسم الطيب ابن على بن أحمد التميمى رحمهما الله تعالى:

فصل فى التنبيه على أن الإمام المهدى بالله هو حجة الله وقايم آل رسول الله صلى الله عليه وسلم

فصل فى التنبيه على أن الإمام المهدى بالله هو حجة الله وقايم آل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (ص 78) قيل: سئل موسى الكاظم بن جعفر عليهما السّلام عن ظهور القائم متى يكون. فقال: إنّ ظهور القائم مثله كمثل عمود من نور سقط من السماء إلى الأرض، رأسه بالمغرب وأسفله بالمشرق. فكذلك بداية هذا الأمر من المغرب وانتهاؤه إلى المشرق. فكان ظهور الإمام المهدى بالله بسجلماسة فى ذى الحجة من سنة ستّ وتسعين ومئتين. وهى أقصى مسكون المغرب. وستظهر دعوته الهادية بإذن الله تعالى أقصى مسكون المشرق. وقد كان الإمام المستنصر بالله دعى له ببغداد فى سنة إحدى وخمسين وأربع مئة كما يأتى ذكر ذلك فى تاريخه إن شاء الله تعالى. وكان على بن محمد بن موسى الكاظم عليهم السلام يقول: فى سنة أربع وخمسين ومئتين تنكشف عنكم الشدّة ويزول عنكم كثير مما تجدون إذا مضت عنكم سنة اثنين وأربعين.

وهذا كلام فيه إيجاز وألغاز، وذلك أنّ إشارته أن تكون البداية من تاريخ وقته، فيكون المراد سنة ست وتسعين ومئتين، وفيها كان ظهور الإمام المهدى. وكان أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام بعث إلى المغرب فى سنة خمس وأربعين ومئة رجلين يعرف أحدهما بأبى سفيان والآخر بالحلوانى، وأمرهما أن يبسطا ظاهر علم الأئمة صلوات الله عليهم، وأن لا يتجاوزا أفريقية، ثم يفترقان فينزل كل واحد منهما ناحية. فامتثلا ما أمرهما به. فكان الحلوانى يقول: بعثت أنا وأبو سفيان فقيل لنا اذهبا إلى المغرب فإنّكما تأتيان أرضا بورا فاحرثاها وكرّباها وذلّلاها إلى أن يأتيها صاحب البلد فيجدها مذلّلة فيبدر فيها حبه. وكان بين دخولهما المغرب وبين صاحب (ص 79) البدر، وهو أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن زكريا، مئة وخمس وثلاثون سنة. فلما دخل أبو عبد الله وظهر لأهل المغرب علمه وفضله قال أحد الأولياء لأصحابه: لولا واحدة كان الحلوانى يقولها ما خامرنى الشك أنّ هذا الرجل هو صاحب البدر الذى كان الحلوانى يبشّر به. قالوا: وما هى؟ قال: كان إذا وصفه قال فى فيه إصبع. فبلغ ذلك أبا عبد الله فتبسم وقال: هذا لا يكون. ولما أخذ العهد بعد ذلك واشترط الكتمان وضع إصبعه على فيه وقال: هذا هو الإصبع الذى أشار إليه الحلوانى. أمركم بالصمت والكتمان. فأمّا أن يكون فى فم رجل إصبع فلا. قالوا: كذلك والله هو.

وممّا يناظر ذلك فى الأئمة والبعث على الكتمان ما فسّر به أبو عبيد القاسم بن سلام قول الشاعر: وكلّ حديث جاوز الإثنين شائع قال: أراد بالإثنين الشفتين. وقال غيره: النهى عن الحديث مع ثالث. قلت: ثم ساق صاحب هذا الكلام محاسن الخلفاء الفاطميين مما يأتى بعض شئ فى تاريخه عند ذكر كل خليفة منهم وما قيل من مدائحهم.

فمن مدايح المهدى بالله قول الورحيلى

فمن مدايح المهدى بالله قول الورحيلى: كفى عن الشتط أنّى زاير … من أهل بيت الوحى خير مزور هذا أمير المؤمنين تضعضعت … لقدومه أركان كلّ أمير هذا الإمام الفاطمىّ ومن به … أمنت مغاربها من المحذور والشرق ليس بشامه وعراقه … من مهرب من جيشه المنصور حتى يفوز من الخلافة بالمنى … ويغار منه بعدله المنشور ومن المدائح القائمات (ص 80) قول أيوب بن إبراهيم: يا ابن الإمام المرتضى وابن ال‍ … وصىّ المصطفى وابن النبىّ المرسل الله أعطاك الخلافة واهبا … وأراك للإسلام أمنع معقل نلت الخلافة وهى أعظم رتبة … نيلت وليست من علاك بأفضل فمنعت حوزتها وحطت حريمها … بالمشرّفية والوشيج الذبّل خليل بن إسحاق لما بعثه لحرب محمد بن كيداد: وما ودّعت خير الخلق طرّا … ولا فارقته عن طيب نفس ولكنى طلبت به رضاه … وعفو الله يوم حلول رمس فعاش مملّكا ما لاح نجم … على الثقلين من جنّ وإنس

ذكر خلافة المنصور بالله بالمغرب وما لخص من سيرته

ذكر خلافة المنصور بالله بالمغرب وما لخّص من سيرته هو أبو الطاهر إسماعيل بن محمد القائم بالله بن عبيد الله المهدى بالله وباقى نسبه قد علم. ولد بالمغرب سنة إحدى وثلاث مئة. وقيل فى سنة ثلاث مئة، فى أول ليلة من ذى القعدة. وقيل بل من شهر جمادى الآخرة. بويع له فى شوال سنة أربع وثلاثين وثلاث مئة. توفى آخر شوال سنة إحدى وأربعين وثلاث مئة. وله إحدى وأربعون سنة وخمسة أشهر. وكانت خلافته ثمانى سنين. وقيل سبع سنين وعشرة أيام.

فمن مدائحه لما أظهر أبوه القائم بأمر الله بيعته فى سنة أربع وثلاثين وثلاث مئة فقال التونسى

فمن مدائحه لما أظهر أبوه القائم بأمر الله بيعته فى سنة أربع وثلاثين وثلاث مئة فقال التونسى: أما والقنا الظمآن حلفة مغرم … وجرد المذاكى والصفيح المقوّم وشهباء من نسج الحديد كأنّما … تكلله تحت العجاج بأنجم مسوّمة راحت رواحا وأربحت … لإدراك ثأر أو لإحراز مغنم (ص 81) لقد سنّ إسماعيل سنّة جدّه … لكلّ فصيح فى البلاد وأعجم وقلّد حقّ المسلمين بحقّه … فتّمت به النعما على كلّ مسلم وكان بحمد الله أمنا لخائف … وعزّا لمغلوب وغيثا لمعدم فيا بهجة الدنيا بأيّامه ابهجى … ويا بيضة الملك اسلمى ثمّت اسلمى ويا جمرة الحرب العوان قد انبرى … لك البحر زهوا فاخمدى أو تضرّمى وقد قيم بالدين والدنيا فاستوت … أمورهما من هاشم خير قيّم من الفاطميّين الذين إذا انتموا … إلى المجد غطّى رأسه كلّ منتم مليك إذا سلّ السيوف على العدى … دجا الليل أو تروى السيوف من الدم بديهته فينا كفكرة غيره … إذا هو أمضى الأمر لم يتندّم

فنعم ملاذ المسلمين وكهفهم … إذا ما خطوب الدهر جاءت بصيلم ونعم خطيب الناس فى كلّ فيصل … إذا الخطب فيه شدّ باب التكلم وقوله: وقد كانت الأيام خرسا فأصبحت … لها ألسن بالشكر لله تنطق فما بعد هذا للوسائل ملجأ … ولا للمنى فى غيره متعلّق فقد وضعت تلك المواعيد حملها … تماما وكانت قبل ذلك تطلق

ذكر خلافة المعز لدين الله بالمغرب إلى حين دخوله مصر

ذكر خلافة المعز لدين الله بالمغرب إلى حين دخوله مصر هو أبو تميم معدّ بن إسماعيل المنصور بالله محمد القائم بأمر الله ابن المهدى، وباقى نسبه قد علم. ولد بالمغرب بالمهديّة بعد مضى أربعة ساعات وأربعة أخماس ساعة من نهار يوم الاثنين الحادى والعشرين من شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاث مئة. بويع له يوم الجمعة ليلة بقيت من شوال سنة إحدى وأربعين وثلاث مئة. (ص 82)

ذكر سبب دخول جوهر القائد مصر

ذكر سبب دخول جوهر القائد مصر قال العبد الفقير إلى الله أضعف عباد الله وأحوجهم إلى عفو الله، وإن كان الخلايق بأجمعهم إلى عفوه محتاجين، وعلى رحمته متّكلين، أبو بكر بن عبد الله مؤلّف هذا التاريخ، الكثير الفنون المشنّف للسمع والمنزّه للعيون: قد تقدم القول فى الجزء الذى قبل هذا وهو الجزء الرابع ذكر دخول القائد جوهر مصر فى تاريخ سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة. وهو آخر ما انتهى فيه الكلام فى ذلك الجزء وجميع ما قدّمنا فى هذا الكلام فهو توطئة لسياقة سنى التاريخ. ونحن نبتدئ الآن بسياقة السنين على التوالى حسبما أسّسناه فى جميع ما تقدّم من الأجزاء، ونقدم قبل ذكر سنة تسع وخمسين ما كان تبقّى فى سنة ثمان وخمسين، ليكون الكلام عليه طلاوة وله ذوق وحلاوة إذا أتى على السلاوة. وذلك أنه لما قام بأمر الإخشيدية بعد وفاة الأستاذ كافور الإخشيدى أحمد بن على بن الإخشيد، حسبما تقدم من ذكره، كان بالرملة الحسن بن عبد الله بن طغج. فطمع أن يسبق فيكون صاحب الدولة. فسار إلى مصر فاستقبله كبراء الدولة. فرام الجلوس، فقالوا له: إنّ ابن عمّك أحمد قد عقد له الأمر، وقد اجتمع عليه أهل الدّولة. فطمع فى مال يأخذه، فقال لوزير عمه، وهو يومئذ جعفر بن حنزابة،

وكان المتحدّث فى الوزارة، لأحمد: احمل إلى مال. فقال: ما عندى مال. فأمر به فجرى عليه مكروه، وتوعّده بالقتل. فحقد فى نفسه. ثم إنّ الحسن بن عبيد الله رجع إلى الشام، وهو يومئذ ملكها، وضمر فى نفسه أن يحشد ويعود فيأخذ مصر. وحسّ (ص 83) جعفر بن حنزابة منه بذلك، فخشى على نفسه منه. فكتب إلى المعزّ أبى تميم، وهو يومئذ بالقيروان، يحثّه على الحضور ليملّكه البلاد. وكانت أيضا كتب كبار المصريّين قد وردت عليه بذلك. ومن جملة ما كتب إليه الوزير جعفر: إن كنت تخشى أنك لا تحضر بنفسك فابعث من تثق به يتسلّم البلاد ويعلم صحة المناصحة. فأنفذ المعزّ عبده جوهر. فحشد الناس من المدن والقرى وسار فى جيش عظيم. فلقى الإخشيدية وهزمهم. فبعض استأمن وبعض قتل. وتمكّنت المغاربة من الأنفس والأموال والثمرات. ودخل جوهر القائد مصر يوم الثلاثاء الثانى عشر من شعبان سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة. ولما سار الحسن بن عبيد الله بن طغج فى ذلك الوقت إلى الشام نزل على ظاهر دمشق. فأقام شهورا يجمع فى الناس. ثم بلغه دخول المغاربة مصر فيئس من مصر، وخشى على ما بيده من بلاد الشام.

فسار من دمشق فى شهر رمضان من هذه السنة واستخلف عليها شمولا غلام عمّه الإخشيد. وكان فى نفس شمول منه حقد، فكان على ما ذكر يكاتب جوهرا بمصر. ونزل الحسن بن عبيد الله الرملة وأخذ أهبته للحرب ممن يسير إليه من المغاربة. فوردت عليه الأخبار بأنّ القرامطة قد ساروا من بلدهم قاصدين إليه، وقد كان فى قلوب المغاربة منه هيبة عظيمة، لم يجسروا أن يخرجوا إليه جيشا، فكان مما اتفق من الأمور المقدّرة أنّ القرامطة وافت إلى ظاهر الرملة، فلقيهم الحسن بن عبيد الله، فانهزم، ثم جرى بينهم بعد ذلك الصلح. ومكث جيش القرامطة على الرملة ثلاثين يوما (ص 84). وكانت هذه الوقعة بين الحسن بن عبيد الله وبين القرامطة فى شهر ذى الحجّة سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة. ثم رحلوا القرامطة عن الرملة. فلما بلغ المغاربة كسرة الحسن بن عبيد الله من القرامطة داخلهم الطمع فيه واستضعفوه، وكاتبوا من كان قبله من العمّال والولاة ووعدوهم الإحسان إليهم ليقعدوا عنه، وجهّز لحربه من مصر جعفر ابن فلاح فى عسكر من المغاربة. وقد كان الحسن بن عبيد الله يكاتب شمولا الذى خلفه على دمشق بأن يسير إليه بمن معه وبمن يستخدمه

ليجتمعوا على حرب المغاربة، فكان يتقاعد عنه لما بينه وبين جوهر القائد من المكاتبات. وكان أيضا قد نفذ إلى الصباحى وهو والى بيت المقدس بأن يجمع له الرجال من تلك النواحى والجبال ويسير إليه. وقربوا المغاربة منه وتقاعد عنه الفئتين من دمشق والمقدس. فلما يأس ممن ينجده من نوّابه التقاهم بمن كان معه. فانهزم وأخذه السيف. فقتل كثير من أصحابه، وأخذوه أسيرا. وتمكّن جعفر بن فلاح من الرملة وذلك فى النصف من رجب سنة تسع وخمسين وثلاث مئة.

ذكر سنة تسع وخمسين وثلاث مئة

ذكر سنة تسع وخمسين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وسبعة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإحدى عشر أصبعا. ما لخّص من الحوادث: الخليفة ببغداد والعراق مع الشرق كلّه إلى حدود الشام المطيع لله أمير المؤمنين. ومصر يومئذ فى ولاية المعز لدين الله مع سائر المغرب خلا الأندلس، وقد اتصل أمره إلى أطراف الشام. (ص 85) وجوهر القائد الأمير يومئذ بمصر من قبل المعزّ المذكور. والوزير بها أبو الفضل جعفر بن حنزابة على ما كان عليه فى أيام الإخشيدية. والقاضى بمصر يومئذ أبو طاهر.

وفيها فى الثامن من شهر جمادى الأولى يوم الجمعة حضر القاضى النعمان المغربى والقائد جوهر إلى جامع ابن طولون وأمّر أن يؤذّن بحىّ على خير العمل. وهو أوّل يوم أذّن بذلك فى مصر. وفيها كان النواح على الحسين ببغداد على الرسم والعادة على ما تقدّم من شرحه فى الجزء الذى قبله. وفيها وجّه القائد جوهر الإخشيديّة إلى المغرب. ولما انكسر الحسن بن عبيد الله بن طغج وأسر انتقل جعفر بن فلاح من الرملة إلى طبرية. وابتدأ يبنى قصرا عند جسر الصيرة. وكان بها يومئذ فاتكا غلام ملهم، واليا عليها من قبل كافور الإخشيدى رحمه الله. وقد كان ابن فلاح راسله وخدعه حتى قعد عن نصرة الحسن بن عبيد الله-وكانت بنو عقيل على حوران والبثنيّة من قبل الإخشيدية حين ولى كافور مروان وظالما وملهما تلك الديار. فلما تمكن جعفر بن فلاح من طبريّة ومن الملاهمة أراد أن يقلع الجميع من تلك الديار. فاستجلب إليه مرّة وفزارة من العرب وقرر معهم قتل فاتكا غلام ملهم والى طبرية. فرتبوا له رجالة من المغاربة فظفروا به غفلة. فلما رآهم قد أحاطوا به يأس من الحياة. فجرّد سيفه وقال: غدرتم ونقضتم الأيمان. وضرب رجلا منهم على وجهه فعبر السيف فيه فرمى نصف رأسه، وأدركه بقية القوم فقتلوه.

ثم إنّ جعفر بن فلاح أظهر عدم الرضى بقتله، وأنّ ذلك كان بغير إرادته، وقبض على الذين (ص 86) قتلوه فأوثقهم، وبعث بهم إلى ابن ملهم. وقال له: هؤلآء الذين قتلوا غلامك. فقال: هو غلامى وقد وهبته. وأطلق الذين قتلوه. وقد علم أنه هو الذى أمر بقتله ولو قتلهم قتله بهم. وكان مما اتفق لدمشق من الأمر المذموم أنّ مشايخ من أهلها ساروا إلى طبرية يتلقّون جعفر بن فلاح، فيهم عقيل بن الحسن بن الحسين العلوى، وابن أبى يعلى العبّاسى. فأدركوا يوم دخولهم طبريّة قتل فاتك، والفتنة ثائرة والمغاربة قد ركبوا يأخذون الناس. فوجدوا القوم المشايخ الذين قدموا من دمشق. فأخذوهم وجرّدوهم عن ثيابهم وتواعدوهم وضربوهم. وقالوا: أو ذا نحن سائرين إليكم. فرجعوا إلى دمشق فى أسوأ الأحوال وأخبروا بما جرى عليهم من قوم جفاة قباح المناظر والزىّ والكلام، ليس لهم عقول يرجعون إليها. فلما سمع الناس ذلك ارتاعوا منه وتوحّشت قلوبهم. وكان شمول قد سار من دمشق فلقى جعفر بن فلاح بطبرية قبل ذلك، وخلا البلد من سلطان. فطمع الطامع وكثر الدعّار وحمّال السلاح. ولما قتل جعفر بن فلاح فاتكا عمل على قلع بنى عقيل من حوران والبثنيّة. فأنفد إليهم مرة وفزارة ليقلعهم من الدار، وبعث

خلفهم عسكر من المغاربة. فلما التقى القوم كانت عقيل أقوى من مرّة وفزارة. فأنجدتهم المغاربة، فانهزم العقيليّون، فتبعوهم إلى أرض حمص، ثم رجعوا عنهم. فمالوا على جبل سنير فنهبوا وهتكوا الحريم، ونزلوا إلى الغوطة فجالوا فيها. فخرج إليهم أهلها فمنعوهم النهب. فساروا حتى نزلوا على نهر يزيد نحو الدكّة ومعهم ما نهبوه من جبل سنير. فثار عليهم أهل البلد فقاتلوهم وقتلوا منهم كبيرا (ص 87) من العرب يقال له عيسى بن هواش الفزارى. وأهزموهم عن دمشق. فلما كان لثمان خلون من ذى الحجّة من هذه السنة أقبلت طلائع ابن فلاح. فخرجت الناس إليهم مستعدّين للحرب فى خيل ورجل. فاقتتلوا يومهم ذلك بأجمعه، ثم انصرفوا، ثم كانت بينهم حروب شديدة تشيّب الأطفال. وأهل دمشق صابرين على ما نزل بهم من البلاء، وأصبح القتال إلى يوم عيد الأضحى، ولم يعيّد أحدا ولا صلّوا صلاة العيد. والحرب قائمة على ساق وقدم. فانهزموا أهل دمشق وتبعتهم المغاربة قتلا وأسرا، وجرت أمور يطول شرحها. وآخر الأمر أن اتفق بينهم المراسلة، وأن فلاح لا يعفو عنهم أو تخرج النساء

مكشوفين الوجوه منشورين الشعور ففعلوا. وهو مع ذلك لا يرتد إلى توعد وترهيب. ثم قرّر على البلد جباية أموال عظيمة. كانت سبب فقر البلد إلى آخر وقت. ثم قال: نعبر يوم الجمعة نصلّى بالجامع. فدخل يوم فى عسكره، وسار حتى صار فى سوق الدوابّ، فوقف فى جماعة من أصحابه. ودخل عسكره البلد. فلما خرجوا من الجامع وضعوا ينهبون، حتى استوسقوا، ثم عطفوا يريدون الأزقّة والدور. فثار الناس عليهم فقتلوا جماعة من الرجالة. ثم إنّ مشايخ البلد خرجوا بعد ذلك لابن فلاح. فرهّب عليهم وتوعّدهم بحرق البلد ووضع السيف. وقال لهم: دخل رجال أمير المؤمنين إلى الصلاة فقتلتموهم. فلطفوا به وداروه. فأومأ إلى مال يأخذه وقال: دية رجال أمير المؤمنين. فأجابوه. وكان فى الجماعة أبو القاسم أحمد ابن الحسين العقيقى العلوى، وابن هشام وكان يتولّى الكلام فى ذلك. (ص 88) ثم قسط المال فعمّ الناس البلاء فيه.

ثم إنّه نزل الدكّة فوق نهر يزيد، فأكثر فيها البنيان، وبنى أصحابه من حوله مساكن، وصار فيها أسواق. ثم إنه بنى بها قصرا عجيبا بالحجارة العظيمة، ولم يزل حتى هدمه ابن أبى المنجّا لما ملكت القرامطة حسبما يأتى من خبرهم فى سنة ستين وثلاث مئة. ولما استقرّ بابن فلاح النزول طلب حمّال السلاح، فظفر بقوم منهم فشدّهم فى الأدهم أياما، ثم ضرب أعناقهم وكانوا اثنى عشر إنسانا.

ذكر سنة ستين وثلاث مئة

ذكر سنة ستين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واحد وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المطيع لله أمير المؤمنين. ومدبّر الممالك الخليفية ببغداد عزّ الدولة أبى منصور بختيار ابن معزّ الدولة ابن بويه الديلمى. والمعزّ صاحب المغرب وديار مصر والشام، وهو مقيم بالقيروان. وجوهر القائد بمصر من قبله. وجعفر بن فلاح بالشام من قبلهما إلى أن قتل فى هذه السنة على يد القرامطة حسبما يأتى من ذكر ذلك. وفى هذه الأيام الفتن تغّلب نقفور الدمستق ملك الأرمن على كثير

من ثغور المسلمين. وملك حلب، وأقام بها أيّاما. وسبى من المسلمين بضعة عشر ألفا. وقتل ملك الروم وتزوّج زوجته. وعزم على أن يخصى ولديه. فأدارت عليه الحيلة وقتلته ليلة الميلاد فى شهر ربيع الأوّل سنة تسع وخمسين وثلاث مئة. وفيها سلّمت الدواوين بالديار المصريّة إلى عسلوج وأبو الفرج يعقوب بن كلّس، والقاضى بمصر أبو طاهر. وابن ثوبان يقضى بين المغاربة. (ص 89) وفيها توفى أبو الفضل ابن العميد صاحب البلاغة، وقد قيل: ابتدأت البلاغة بعبد الحميد وانتهت بابن العميد. وفيها وصلت القرامطة دمشق.

ذكر سبب خروج القرامطة إلى دمشق

ذكر سبب خروج القرامطة إلى دمشق وكان لما انهزمت أهل دمشق من المغاربة خرج ابن أبى يعلى إلى الغوطة، ثم طلب البريّة يريد بغداد يستصرخ بالخليفة على المغاربة، حتى إذا صار نحو تدمر لحقه ابن عليّان العدوى فأخذه وردّه إلى جعفر ابن فلاح. فشهره فى عسكره على جمل ثم حمله إلى مصر. وكان محمد بن عصودا انهزم وخفى أمره، وتوصّل حتى صار إلى الأحساء إلى القرامطة. وقد كان استقرّ من أمرهم أن يأخذوا الخفائر من سائر الأقاليم ومن خليفة بغداد، ويقال خفارة الحاج، بعد أمور كثيرة جرت لو أثبتها كانت عدة أجزاء. وكان قد صار إليهم قبل محمد بن عصودا ظالم العقيلى لمّا انهزمت بنو عقيل أوّلا من حوران. وكان يحثّهم على المسير إلى الشام. وردفه ابن عصودا فوقع ذلك منهم بالموافقة، لأنّ المال الذى كان تقرر على الإخشيدية لهم بسبب الخفارة حسبما ذكرنا انقطع لمّا زالت دولتهم وملكت المغاربة. فكانوا على المسير إلى الشام من غير محرّك ولا محثّ. وكان جعفر بن فلاح لما تمكّن من دمشق وأخذ منها الأموال، وكبرت أحواله، طمع فى أخذ انطاكية. وظن أن ليس بها من يمنع. وكان لها نحو من ثلاث سنين مذ أخذها الروء من المسلمين. فأنفذ إليها عسكرا عليه غلام له يقال له فتوح. وكان ذلك فى شهر صفر

أو فى ربيع الأوّل سنة ستين وثلاث مئة. وحشد الناس من أعمال دمشق وغيرها (ص 90) وأنفذ عسكرا بعد عسكر. وكان ذلك بدوّ الشتاء. فقاسوا الناس مشقّة عظيمة من قوّة البرد وانكلاب الشتاء. ولم يزالو كذلك حتى أقبل الربيع. وقاتلوهم أهل أنطاكية أشدّ قتال، فلم يبلغوا منها أرب. وكان على الإسكندرونة عسكر للروم ذكر أنّه عسكر الطربارى. فجهّز إليهم ابن فلاح سرية فيها أربعة آلاف عليها كبير من المغاربة يقال له عراس، ومعه ابن الزيات أمير الطرسوسيّين. فساروا حتى أشرفوا على معسكر الروم. فنظروا إلى مضارب الروم فى مرجها وفيها خيم من الديباج. فتسرّعوا إلى النهب. وكان الطبربارى أحسّ بهم فأخذ المقاتلة من عسكره وتنحّى عن السواد. فلما دخلت المغاربة الخيام للنهب حمل عليهم الطبربارى. فانهزموا وأخذهم السيف من كل جانب. وادر ابن الزيات فأخذ عراس وصعد به الجبل فأفلت. وهلك من كان منهم فى المضيق. فكانت هذه أول خمولهم. وانكسرت قلوبهم، وبدأ أمرهم ينحلّ. وكانت الأخبار قد وردت على ابن فلاح أنّ القرامطة سائرون إلى الشام وأن ظالما المقوّى لهم. فورد عليه من ذلك مورد عظيم.

ثم إن القرامطة خرجوا من بلدهم متوجهين إلى أرض الكوفة، ثم كانت لهم إلى بغداد مراسلات. وأنفد إليهم خزانة سلاح من بغداد وتوقيع بأربع مئة ألف درهم على أبى تغلب بن ناصر الدولة ابن حمدان. ورحل القرمطىّ عن الكوفة فنزل الرحبة. وكان عليها أبو تغلب المذكور فى قصة له. فحمل إليهم العلوفة، وحمل إليهم المال الذى كتب لهم به، وأرسل إلى سيد القرامطة-وهو يوم ذاك الحسن بن أحمد بن أبى سعيد الجنّابى المقدّم ذكره-يقول له: هذا شئ (ص 91) أردت أن أسير إليه بنفسى، وأنت تقوم مقامى فيه، وأنا مقيم فى هذا المقام إلى أن يرد علىّ خبرك. فإن احتجت إلى مسيرى سرت إليك. ونادى فى عسكره: من أراد المسير من الجند الإخشيديّة وغيرهم إلى الشام فلا حجر عليه، فليسر مع السيد الحسن ابن أحمد، فالعسكران واحد. فخرج إلى عسكر القرمطىّ جماعة كبيرة من عسكر أبى تغلب. وكان فيه كثير من الإخشيدية الذين كانوا بمصر وفلسطين. ولما بلغ القرمطىّ ذلك سرّه وزاده قوّة. وسار إلى الرحبة طالبا لعسكر ابن فلاح. فلما كان يوم الخميس لست خلون من ذى القعدة سنة ستين

وثلاث مئة، وهى هذه السنة، التقيا القرمطىّ وجعفر بن فلاح. وكانت الكسرة على المغاربة. وتمزقوا كلّ ممزّق، وتفرقوا فرقا، وانهزم كثير منهم مع جعفر بن فلاح يريدون الدكّة بدمشق. فكثرت عليهم العرب، وثار العثار فلم يعرف الكبير منهم من غيره، وقتل جعفر بن فلاح فى المعمعة وهم لا يعرفونه. ثم انهزم الذين كانوا معه، يطلبون وادى الريح. وتسلّقوا فى الجبل واشتغل عنهم بالنهب، حتى استوسقوا، حتى جنّهم الليل. فلما كان بعد الوقعة عبر بجعفر بن فلاح من عرفه وهو مقتول مطروح على الطريق. فجاءه ابن عصودا فأخذ رأسه وصلبه على حائط فى داره. أراد بذلك أخذ ثار أخيه الذى كان قتله مع تلك الجماعة من حمّال السلاح. ثم إنّ القرمطىّ نزل بعد الوقعة على ظاهر المزّة، فجبى له مالا من البلد، وسار يريد الرملة. وكان قد أنفد إليها جوهر القائد من مصر رجلا من المغاربة يقال له سعادة ابن حيّان ذكر أنّه فى إحدى عشر ألفا. فلما بلغ

(ص 92) ابن حيان الخبر تحصّن فى يافا. فنازله القرمطىّ بجيوشه وحصره بها. ثم ترك على حصاره أبا المنجّا وظالم العقيلى وتوجّه القرمطى يريد مصر، حسبما يأتى ذكره فى تاريخه. وفيها كان النواح ببغداد على العادة المستقرة حسبما ذكر.

ذكر سنة إحدى وستين وثلاث مئة

ذكر سنة إحدى وستين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المطيع لله أمير المؤمنين. ومدبّر الدولة الملك بختيار بن بويه. والمعزّ بالقيروان. وجوهر القائد بالديار المصريّة. وفيها بنيت القاهرة. ذكر بناية القاهرة المحروسة وخططها وقعت على مسوّدة مجلّدة بخطّ يد القاضى ابن عبد الظاهر رحمه الله يقول فى أولها: «الروضة البهيّة فى خطط القاهرة المعزيّة». جمع الفقير إلى الله تعالى فى سنة 647.

ثم يقول بعد التحميدة والتوطئة ويذكر بدوّ نسب المعزّ ويذكر الخلاف فيه، كلّ ذلك ملخصا. ولعلّه كان يريد بسط القول بعد ذلك فى ما أخلاه من البياض فى المسوّدة فأدركه أجله قبل ذلك رحمه الله. قال: ولما تحقّق المعزّ وفاة كافور الإخشيدى رحمه الله واضطراب الأمور بمصر، ومكاتبات الأعيان منها إليه، جهّز جوهر، وهو غلام رومىّ الجنس، وصحبته العساكر. ثم برز بموضع يعرف برقّادة، وخرج فى أكثر من مئة ألف وبين يديه أكثر من ألف صندوق مال. ثم ركب إليه المعزّ عند وداعه. فجلس، وقام جوهر بين يديه. فالتفت المعزّ إلى المشايخ الذين وجّههم معه وقال: والله لو خرج جوهر هذا وحده (ص 93) ليفتحن مصر، وليدخلنّها بالأردية من غير حرب ولينزلنّ فى خرابات ابن طولون ويبنى مدينة تسمىّ القاهرة تقهر الدنيا. قال القاضى ابن عبد الظاهر رحمه الله: هذا ما ذكره القاضى الأكرم ابن القفطى وزير حلب رحمه الله فى أخبار الديار المصرية.

ذكر أشياء من خطط القاهرة مما لم يسبق إليها أحد

ذكر أشياء من خطط القاهرة مما لم يسبق إليها أحد قال: ونزل القائد جوهر فى مناخه موضع القاهرة الآن، يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من شهر شعبان سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة. واختطّ فى تلك اليلة القصر. فلما أصبح المصريون حضروا للهناء، فوجدوه وقد حفر الأساس بالليل. وكانت فيه ازورارات غير معتدلة. فلما شاهد جوهر ذلك لم يعجبه. ثم قال: دعوه. فإنه حفر فى ليلة مباركة وساعة سعيدة. وتركه على حاله. وكان قصر الشوك قبل بناية القاهرة يعرف بذلك، وكان منزلا لبنى عذرة، فجعل أحد أبواب قصر جوهر. ثم خطت خطط القاهرة بعد ذلك. وحدّ القاهرة من مصر السبع سقايات. ولما بنى جوهر القصر أدخل فيه دير العظام. وهو الآن المعروف بالركن المخلّق قبالة حوض جامع الأقمر، وبقربه بئر العظام. والمصريّون يقولون بئر العظمة. فكره جوهر أن يكون فى القصر دير فنقل

العظام التى كانت به والرمم إلى دير فى الخندق، لأنّه يقال إنها عظام جماعة من الحواريّين. وبنى مكان الدير مسجدا من داخل القصر. ولما نزل جوهر هذه المنزلة وبنى القصر، اختطت كلّ قبيلة خطة عرفت بها. فأوّل من اختطّ أهل زويلة. فعرفت بحارة زويلة. وكذلك البئر التى تعرف بها وهى بئر زويلة بالمكان الذى تعمل فيه الروايا الآن. وكذلك البابان المعروفان ببابى زويلة. البرقية: ثم اختطت أهل برقة خطة فعرفت (ص 94) بهم. حارة كتامة: ثم جاورهم قبيلة كتامة فاختطّوا خطة عرفت بهم. الباطليّة: قال ابن عبد الظاهر رحمه الله: هؤلآء قوم كان المعزّ لما حضر إلى مصر قسم العطاء للناس. فجاءت طائفة فسألت العطاء. فقيل: فرغ ما كان حاضرا، ولم يبق شئ. فقالوا: الحقّ باطل. فسموا الباطليّة، فجاوروا كتامة فعرفت بهم. قلت: رأيت فى مسوّداتى أنّ هؤلآء قوم يعرفون بالباطنية وكانوا شديد التشيّع، وكانوا يثبون على من جهّزوا له كالفداوية، ويقتلون بالسكّين، ويقولوا فى حب علىّ وبنيه. وكانت لهم أرزاق سنيّة

على الخلفاء المصريّين. ثم لما طال العهد قيل الباطليّة. فقلبت النون عينا والله أعلم. حارة الديلم: هؤلآء قوم قدموا مع أفتكين غلام معزّ الدولة ابن بويه ديلميّة. وكان صحبته أولاد سيده. وجرى له مع العزيز بن المعزّ أمور كثيرة وحروب شديدة يأتى ذكرها فى مكانها فى تاريخها، فنزلوا هذه الخطة فعرفت بهم. حارة الروم: قال ابن عبد الظاهر رحمه الله: هما حارتان. حارة الروم التى داخل باب زويلة، وحارة الروم الجوّانية داخل باب النصر. فلما صار الناس يقولون حارة الروم الجوّانية خففت فقيل الجوانيّة. قال: وقال لى القاضى زين الدين رحمه الله الله الله: إنّ الجوّانية منسوبة للأشراف الجوانيّين. منهم الشريف النسّابة الجوّانى كما أنّ كتامة منهم خير الكتامى. الوزيرية: منسوبة إلى الوزير أبى الفرج يعقوب ابن كلّس كما يذكر من خبره فى تاريخه. وداره دار الديباج التى هى الآن مدرسة الصاحب صفىّ الدين عبد الله بن علىّ. أوقفها على المالكية.

حارة برجوان: منسوبة للأستاذ برجوان الخادم. وكان خادم القصور فى أيّام العزيز. جعل ولده الحاكم فى حجره فتمكّن وكثرت أمواله. فنزل هذه الحارة فعرفت به. وسيأتى ذكره فى تاريخه إن شاء الله تعالى. قلت: هذا ما لخّصته من كتاب الخطط. وهو مسوّدة بغير ترتيب، ولا هى كلام متوالى. وقصدى إن فسح الله فى الأجل بعد تكملة هذا التاريخ أن أنشئ كتابا يتضمّن خطط القاهرة أسمّيه «الروضة الزاهرة، فى خطط القاهرة»، آتى فيه بما لم أسبق إليه من فنون، تشنف السامع وتنزّه العيون، وذلك لمّا استضويت بهذه الأنوار، المفترعة من أبكار الأفكار، فيكون ذلك أسسا للبناية، ونورا للهداية، والمرجو من الله تعالى إدراك هذه النيّة، وبلوغ هذه الأمنية، إنه بالإجابة جدير، وهو على كلّ شئ قدير. ولما بنى جوهر القصور وحضر المعزّ وسكنها امتدحه بعض شعراء المغاربة بقصيدة أوّلها، يقول:

أعليت فى الدنيا القصور القاهرة … وكذا قصورك فلتكن، فى الآخرة وقررت عينك بالأمانى والهنا … وسخنت عين حواسديك الساهرة وهذه لم تكن فى مسوّدة ابن عبد الظاهر. وستأتى بكمالها فى الكتاب الذى عزمت على إنشائه إن شاء الله تعالى. (ص 95) وفيها دخل النقفور دمستق إلى نصيبين. وكانت سنة قران. وفيها وصلت القرامطة الديار المصرية. وكان القائد جوهر قد خندق خندقا عظيما ظاهر السور، وقد ارتفع البناء من القاهرة ما يغطّى الفارس، وكان قدوم القرمطىّ مستهلّ ربيع الأوّل من هذه السنة. فقاتلوا المغاربة الخندق أشدّ قتال. وقتل كثير من خارج الخندق. ودام القتال والمحاصرة ثلاثة أشهر. ثم إنّ القرمطىّ رحل بغير سبب، ولا علم له خبر. فلما تيقّنت المغاربة وجوهر أنّ القرمطىّ عاد إلى دياره أنفذ إبراهيم ابن أخته فى جيش إلى يافا ليدرك ابن حيّان وينجده. وبلغ من عليها من المحاصرين رحيل القرمطىّ عن مصر، ومسير النجدة من قبل جوهر

إلى ابن حيّان بيافا. فسار القوم عنها، وتوجّهوا نحو دمشق، فنزلوا بعسكرهم ظاهرها. ثم جرى بين أبى المنجّا وبين ظالم العقيلى كلام وخلاف بسبب أخذ الخراج. وكان كلّ واحد منهما يريد أخذه لنفسه، وللنفقة فى رجاله. وكان أبو المنجّا له وجاهة عند القرمطىّ، فتلقّاه إلى الرملة وعرّفه ما كان من ظالم العقيلى. فقبض عليه وحبسه، ثم ضمنه شبل بن معروف فخلّى سبيله. فهرب إلى شطّ الفرات. ثم إنّ الحسن بن أحمد اعتدّ للعودة إلى مصر. وقد كان جوهر يكتب إلى المعزّ بكل ما جرى من القتال مع القرامطة، وأنّ الحسن ابن أحمد القرمطى قد أشرف على أخذ مصر. فقلق لذلك قلقا شديدا، وجمع من يقدر عليه وتوجّه إلى نحو مصر، وهو يظن أنّها ستخرج عن يده قبل وصوله إليها. فلم يزل يجدّ السير حتى دخلها فى سنة اثنتين وستين فى تاريخ ما يذكر.

ذكر دخول المعز بالله إلى مصر فى سنة اثنتين وستين وثلاث مئة

ذكر دخول المعز بالله إلى مصر فى سنة اثنتين وستين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم: خمسة أذرع وتسعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المطيع لله أمير المؤمنين. وفيها دخل المعزّ بالله الديار المصرية. قال القاضى ابن خلّكان رحمه الله تعالى فى تاريخه: لما قرب المعزّ بالله من البلد أمر جوهر القائد وجوه المصريين بالخروج إلى لقائه، فخرجوا جماعة من الأشراف الحقيقين الأنساب، فيهم عبد الله بن أحمد ابن علىّ بن الحسن بن إبراهيم ابن طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب عليه السّلام الحجازى الأصل. المصرى الدار والوفاة رحمة الله عليه.

وكان سيدا طاهرا كريما فاضلا عالما صاحب رباع وضياع وسعادة ضخمة ونعمة ظاهرة وأموال جزيلة وعبيد وحاشية، كثير النعم والأنعام. قال: فمن جملة سعة رزقه وسماحة نفسه أنه كان فى دهليزه رجل برسم كسر اللوز والفستق، له كل يوم ديناران، وذلك برسم الحلوى التى كان ينفذها لوجوه أهل مصر وأمرائها وكبارها من الإخشيديّة وغيرهم. وكان يرسل إلى كافور الإخشيدى فى كل يوم جامين حلوى ورغيف خبز. فحسده عند كافور بعض من قال له: الجامين الحلوى لا بأس بهما فما الضرورة إلى الرغيف الخبز؟ فنفذ إليه كافور يقول: يجرينى الشريف على العادة فى الحلوى، ويترك الرغيف الخبز. ففهم السيّد أنّهم أغروه بذلك. فركب إليه وقال (ص 97): حفظك الله. إنى لم أنفذ الرغيف استكثارا ولا استكبارا وإنما هى صبيّة حسنيّة من الأشراف تعجنه بيدها وتخبزه بيدها، فأحببت لك بذلك البركة. فقال كافور: والله لا عاد لى قوتا سواه. عاد القول إلى ذكر المعزّ بالله. فلما تمادى فى السير مع المعز قال الشريف ابن طباطبا للمعز: إلى من ينتسب مولانا أعزّه الله؟ فقال له المعزّ: سنعقد مجلسا ونجمعكم فيه ونسرد عليكم نسبا إن شاء الله تعالى.

فلما استقرّ المعزّ بالقصر-وكان دخول المعزّ بالله إلى قصره بالقاهرة المعزية الخامس من شهر رمضان يوم الثلاثاء من هذه السنة. فلما كان بعد ذلك واستقرّ بقصره جمع الناس فى مجلس عام وجلس لهم. وقال: هل بقى من رؤسائكم أحد؟ فقالوا: لم يبق معتبر. فسلّ عند ذلك نصف سيفه وقال: هذا نسبى. ونثر عليهم ذهبا كثيرا وقال: وهذا حسبى. فقالوا جميعا: سمعنا وأطعنا. قلت: وقد رأيت فى بعض مسوّداتى أنّ الشريف الذى جرى للمعز معه هذا السؤال هو أبو جعفر مسلم بن عبد الله الحسينى والشريف أبو إسماعيل إبراهيم بن أحمد الحسنى الزينبى. فإنّ وفاة السيّد ابن طباطبا مقدّمة على جواز المعزّ مصر. فإنّ وفاته فى رابع رجب سنة ثمان وأربعين وثلاث مئة، وكانت ولادته سنة ست وثمانين ومئتين. وصلّى عليه فى مصلّى العيد لكثرة العالم، ودفن بالقرافة. وقبره معروف مشهور بإجابة الدعوة. رحمة الله عليه. ولعلّ يكون صاحب هذه الواقعة بعض ولده. والله أعلم.

<المعز والحسن القرمطى>

<المعز والحسن القرمطى> قال الشريف أبو الحسين المعروف بأخى محسن فى كتابه المختصّ (ص 98) بذكر هؤلاء القوم: وكان المعزّ شديد الخوف من الحسن ابن أحمد القرمطىّ. فلما نزل مصر واستقرّ بها ملكه عزم على أن يكتب إليه كتابا يعرّفه فيه أنّ المذهب واحد، وأنّهم منهم استمدوا، وهم ساداتهم فى هذا الأمر، وبهم وصلوا إلى هذه الرتبة. ورهّب عليه فيه. وكان غرضه فى ذلك أن يعلم من جواب كتابه ما فى نفس الحسن بن أحمد هل خافه لما وافى مصر أم لا. وكان الحسن بن أحمد يعلم المذهب أنّه واحد، ولم يخف عليه شئ مما كاتبه به كونه يعلم الظاهر منهم والباطن. لأنّ مذهب الجميع متفقين على التعطيل والأخذ بالإباحة. وإذا تمكّن بعضهم من بعض يرى قتله، ولا يبقى عليه، لعدم الأمان بينهم. فهم كما قال الله عز وجلّ ({كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}).

ذكر نسخة الكتاب

ذكر نسخة الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله ووليّه، وخيرته وصفيّه، معدّ أبى تميم ابن إسماعيل، المعزّ لدين الله، أمير المؤمنين، وسلالة خير النبيّين، ونجل علىّ أفضل الوصيين. إلى الحسن بن أحمد. أما بعد، فإنّ رسوم النطقاء، ومذاهب الأئمة والأنبياء، ومسالك الرسل والأصفياء، السالف والآنف منا، صلوات الله علينا، وعلى آبائنا، أولى الأيدى والأبصار، فى متقدّم الدهور والأكوار، وسالف الأزمان والأعصار، عند قيامهم بأحكام الله، وانتصابهم لأمر الله، الابتداء بالإعذار، والانتهاء بالإنذار، قبل إنفاذ الأقدار، فى أهل الشقاق والآصار، لتكون الحجّة على من خالف وعصى، والعقوبة على من باين وغوى، حسب ما قال الله عز وجلّ ({وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً}) (ص 99) وقوله سبحانه ({قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اِتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ، وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}). ({وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ}).

أمّا بعد أيّها الناس، فإنا نحمد الله بجميع محامده، ونمجّده بأحسن مماجده، حمدا دائما أبدا، ومجدا عاليا سرمدا، على سبوغ نعمائه، وحسن بلائه، ونبتغى إليه الوسيلة، بالتوفيق والمعونة على طاعته، والتسديد فى نصرته، ونستكفيه ممايلة الهوى، والزّيغ عن قصد الهدى، ونستزيد منه إتمام الصلوات، وإفاضة البركات، وطيّب التحيّات، على أوليائه الماضين، وخلفائه التالين، منا ومن آبآئنا الراشدين المهديين، المنتخبين، الذين قضوا بالحق وبه يعدلون. أيّها الناس! قد جاءكم بصائر من ربّكم، ({فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها}) ليذّكر من يتذكر، وننذر من أبصر فاعتبر. أيها الناس إنّ الله جلّ وعزّ إذا أراد أمرا أقضاه، وإذا أقضاه أمضاه. وكان من قضائه فينا قبل التكوين أن خلقنا أشباحا، وأبرزنا أرواحا، بالقدرة مالكين، وبالقوّة قادرين، حين لا سماء مبنيّة، ولا أرض مدحيّة، ولا شمس تضئ، ولا قمر يسرى، ولا كوكب يجرى، ولا ليل يجنّ، ولا أفق يكن، ولا لسان ينطق، ولا جناح يخفق، ولا ليل ولا نهار، ولا فلك دوّار، ولا نجم سيّار. فنحن أول الفكرة وآخر العمل، بقدر مقدور، وأمر فى القدم مبرور. فعندما تكامل الأمر وصحّ العزم أنشأ الله عز وجل

المنشآت وأبدأ الأمّهات من هيولانا وطبعنا أنوارا وظلما، وحركة وسكونا. فكان من حكمه السابق فى علمه ما ترون (ص 100) من فلك دوّار، وكوكب سيّار، وليل ونهار، وما فى الآفاق من آثار معجزات، وأقدار باهرات، وما فى الأقطار من الآثار، وما فى النفوس من الأجناس، والصور والأنواع، من كثيف ولطيف، وموجود ومعدوم، وباطن وظاهر، ومحسوس وملموس، ودان وشاسع، وهابط وطالع. كلّ ذلك لنا، ومن أجلنا، دلالة علينا، وإشارة إلينا، يهدى الله به من كان له لبّ سجيح، ورأى صحيح، قد سبقت له منا الحسنى، فدان بالمعنى». ثم ذكر كلاما كثيرا واستشهد بآيات من القرآن العظيم حرّفها عن مواضعها وفسّرها بخلاف معانيها. ثم قال: وكتابنا هذا من فسطاط مصر، وقد جئناها على قدر مقدور، ووقت مذكور، فلا نرفع قدما، ولا نضع قدما، إلاّ بعلم موضوع، وحكم مجموع، [وأجل معلوم، وأمر قد سبق، وقضاء قد تحقق. فلما دخلنا وقد] قدّر المرجفون من أهلها أنّ الرجفة تنالهم، والصعقة تحلّ بهم، تبادروا وتعادوا شاردين، وخلّوا

عن الأهل والحريم، والأموال والرسوم، وإنّا ل‍ ({نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ}) ({يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ}). فلم أكشف لهم خبرا، ولا قصصت لهم أثرا، ولكنى أمرت بالنداء، وأذنت بالأمان، لكل باق ونافر، وباد وحاضر، ولكلّ منافق ومشاقق، وعاص ومارق، ومعاند ومسابق، ومن أظهر صفحته وأبدى إلىّ سوءته، فاجتمع المخالف والموافق، والمباين والمنافق، فقابلت الوفىّ بالإحسان، والمسئ بالغفران، حتى [رجع النادّ والشارد، و] تساوى الفريقان، واتفق الجمعان، وانتشرت البركات، فتكاثرت الخيرات، كلّ ذلك بقدرة ربّانيّة، وأمور برهانية. ثم قال: وأمّا أنت أيّها الغادر الخائن، الناكث البائن، عن هدى آبائه وأجداده، المنسلخ من دين (ص 101) أسلافه وأنداده، الموقد لنار الفتنة، الخارج عن الجماعة والسنّة، فلم أغفل أمرك، ولا خفى عنى خبرك، ولا استتر دونى أثرك، وإنّك منى بمنظر ومسمع، كما قال الله عز وجلّ ({إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى})

({ما كانَ أَبُوكِ اِمْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}) فعرّفنا على أىّ رأى أنت، وأىّ طريق سلكت. أما كان لك بجدّك أبى سعيد أسوة، وبعمّك أبى طاهر قدوة؟ أما نظرت فى كتبهم وأخبارهم؟ أما قرأت وصاياهم وأسفارهم؟ أكنت غائبا عن ديارهم وما كان من آثارهم؟ ألم تعلم أنّهم كانوا عبادا لنا أولى بأس شديد، وعزم شديد، وأمر رشيد، وعمل حميد؟ تفيض عليهم بركاتنا، وننشر عليهم موادنا، حتى ظهروا على الأعمال، وعادوا لنا عمال، ودان لهم كلّ أمير ووال، ولقّبوا بالسادة فسادوا، وبالمنحة منا واسم من أسمائنا، فعلت أسماؤهم، واستعلت كلمتهم، واشتدّ عزمهم، فسارت إليهم وفود الآفاق، وامتدت نحوهم الأحداق، وخضعت لهيبتهم الأعناق، وحسم بهم مادة الفساد والعناد، فكانوا لبنى العباس أعداء وأضداد. ثم قال بعد كلام كثير: فيا أيها الناكث الحانث، ما الذى أرداك، وصدّك وأغواك؟ أشئ شككت فيه، أم أمر استربت منه؟ أم كنت خاليا من الحكمة، وخارجا عن الكلمة، فأزلك هذا وصدّك، وعن سبيل الحقّ ردّك، إن هى إلا ({فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ})

وأيم الله لقد كان الأعلى لجدك، والأرفع لقدرك، والأفضل لمجدك، والأوسع لرفدك، والأبصر لغورك، والأحسن لعذرك، الكشف عن أحوال سلفك وإن خفيت عليك، والقفو لآثارهم وإن عميت لديك، لتجرى على سنتهم (ص 102) وتدخل فى مهنتهم، وتسلك فى مذهبهم، أخذا بأمورهم فى وقتهم، وفى زيّهم فى عصرهم، فتكون خلفا قفا سلفا بجد، وعزم مؤتلف، وعزم غير مختلف. لكن غلب الران على قلبك، والصدى على لبّك، فأزالك عن الهدى، وأزاغك عن البصيرة، والضياء، وأمالك عن مناهج الأولياء، وكنت من بعدهم كما قال الله عز وجلّ ({فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاِتَّبَعُوا الشَّهَااتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}) ثم ذكر كلاما كثيرا جدا لا حاجة لنا بإثبات جملته، وقرّعه فيه بقتل جعفر بن فلاح، ومحاصرة ابن حيّان بيافا، ومأتاه إلى الفسطاط. ثم قال بعد ذلك: وإن كنت على ثقة من أمرك، ومهل فى أمن عصرك، وعمرك، فاستقرّ بمركزك، فليأتينّك منّا وينالك من جندنا، ما نال من كان قبلك ممن تمرّد تمرّدك، كعاد وثمود ({وَأَصْحابُ})

({الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ، كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ})، (فلنأتينكم بجنود لا قبل لكم بها، ولنخرجنكم منها أذلة وأنتم صاغرون)، بأولى بأس شديد وعزم شديد ({أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ}). بقلوب نقيّة، وأرواح تقيّة، وأنفس أبية، يقدمهم النصر، ويشملهم الظفر، وتمدّهم الملائكة الغلاظ الشداد ({لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ}) فما أنت وقومك إلا كمناخ نعم، أو مراح غنم، (فإمّا نرينّك ما نعدهم فإنّا عليهم قادرون). وأنت فى القفص مفصودا، وسوقتك فالينا مرجعهم، فعندها تخسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ({فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظّى، لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلّى})، ({كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ، بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ})

الجواب

({إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ}) (ص 113) فليتدبر من كان ذا تدبير، ويتفكّر من كان ذا تفكير، يوم القيامة يوم الحسرة والندامة ({أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ}) وياليتنا ({نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ}). هيهات غلب عليكم شقاؤكم، وكنتم قوما بورا ({وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اِتَّبَعَ الْهُدى}) وسلم من عواقب الردى، وانتهى إلى الملأ الأعلى، وحسبنا الله وكفى، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ونعم المولى ونعم النصير. الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على جدّنا محمد وآله الطيبين وسلم تسليما. الجواب بسم الله الرّحمن الرّحيم. من الحسن بن أحمد القرمطىّ الأعصم. أمّا بعد فقد وصل إلينا كتابك الذى كثر تفصيله وقلّ تحصيله ونحن سائرون على إثره والسّلام، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وفيها لم يكن النواح ببغداد على الحسين عليه السّلام. وسبب ذلك ما جرى على المسلمين من ملك الروم، فإنه فتح فى هذه السنة الجزيرة وأكثر مدنها وبلادها، واستأسر ما يزيد عن مئة ألف أسير. وكان الحاجب سبكتكين مع عزّ الدولة ابن معزّ الدولة بن بويه بواسط، ولم يكن ببغداد جيوش تخشى الروم منها. وكان أيضا الخليفة المطيع معهما فى قتال الدّيلم بواسط، فحصل الطمع من الروم بسبب ذلك.

ذكر سنة ثلاث وستين وثلاث مئة

ذكر سنة ثلاث وستين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث (ص 104) الخليفة المطيع لله أمير المؤمنين إلى حين خلع نفسه من ولاية الأمر فى يوم الثلاثاء الثالث عشر من ذى القعدة من هذه السنة. وذلك أنه استدعى فى هذا التاريخ القاضى عبيد الله بن أحمد المعروف بابن معروف وكبار عدول بغداد وأشهدهم على نفسه أنه قد خلع نفسه من الخلافة، وجعلها فى ابنه عبد الكريم. وذلك عند انحداره مع سبكتكين مولى معزّ الدولة، لمّا وقع الخلف بينه وبين عز الدولة بختيار، وتغلّب على الأمر عضد الدولة حسبما يأتى من تلخيص ذكر ذلك فى تاريخه. والمعزّ بمصر.

وعسلوج ويعقوب بن كلّس إليهما أمر الوزارة شركة. وفيها سلخ ابن النابلسى وصلب. وفيها توفى القاضى النعمان. وكان يلى القضاء بالقاهرة. وولى ولده مكانه. وأبو ظفر يلى قضاء مصر بحاله. وفيها وصل الحسن بن أحمد القرمطىّ إلى الديار المصرية بجيوش عظيمة. فنزل بعساكره عين شمس، وناشب المغاربة القتال، وانبثت سراياه فى أرض مصر، وبعث عمّالا على الصعيد فجبى جميع خراجه وضيّق على المعزّ والمغاربة ضيقة عظيمة، وداومهم القتال على خندق مدينتهم، ولزمهم حتى ألجأهم إلى خلف الصور، وعظم ذلك على المعزّ وحار فى أمره، ولم ينفعه كتابه ولا ترهيبه، ولم يجسر يخرج إليه برّا السور. وكان ابن الجراح الطائى فى عسكر القرمطىّ. وكان قوة عسكره معه ومقدمه، فكاتبه المعزّ ورغّبه فى المال وبذل له مئة ألف دينار على أن يغلّ لهم جيشه، فأجابهم إلى ذلك. ثم إنّ المعزّ فكّر فى المال فاستعظمه. فعملوا دنانير من نحاس وطلوها بالذهب الكثير وجعلوها فى أكياس، وجعلوا على رأس كلّ كيس منها (ص 105) دنانير يسيرة ذهب تغطّى ما تحتها، وحملوها إلى ابن الجرّاح بعد ما استوثقوا منه بالأيمان. فلما صحّ له المال عمل

فى فلّ العسكر. فلما كان من الغد واشتدّ الحرب ولّى ابن الجراح منهزما، واتبعه أصحابه. فلما نظر ابن القرمطى إلى ذلك تحيّر ولزمه أن يقاتل وهو وأصحابه، واجتهد فى القتال حتى يخلص هو ومن معه، وانهزم وتبعوه قومه. ودخل المغاربة عسكره فظفروا بتبع وباعة نحو من ألف وخمس مئة نفر فأخدوهم أسرى وضربوا بعد ذلك أعناقهم. وذلك فى شهر رمضان فى هذه السنة. ثم إنّ المعزّ جرّد خلف القرمطى أبا محمود بن جعفر بن فلاح فى عشرة آلاف فارس وثقّل السير خوفا أن يرجع عليه القرمطى. ثم نفذ أبا المنجّا فى طائفة من الجند إلى دمشق. وقد كان لما علموا المغاربة قصة ظالم وقبض القرمطى عليه حسبما تقدم فى القول من ذلك، ثم خلص ظالم وهرب إلى حصنه بحافة الفرات، واتفقت هذه الأمور، راسلوه ليسوسوا به أمرهم. فسار إلى أن وصل بعلبكّ، فبلغه هزيمة القرمطىّ. ونزل أبو المنجّا دمشق. وسار القرمطىّ يريد بلده وفى نيته المعاودة. ونزل أبو محمود أذرعات، وسار ظالم نحو دمشق، وذكر أن كان بينه وبين أبى محمود مراسلات على أن يتّفقا على أبى المنجّا. وبلغ أبا المنجّا مسير ظالم إليه، وكان فى شرذمة يسيرة، وربما أنّ الجند كانوا طالبوا لأبى المنجا برزقهم، فسوّف بهم، فحقدوا

عليه، ونزل ظالم عقبة دمّر، وراسل لأبى المنجا إنى لم آت مقاتلا، (ص 106) ولكنّى مستأمنا. ثم إنّ جماعة من الجند خرجوا فأتوا إلى ظالم مستأمنين، وتبعهم قوم بعد قوم، فطمع ظالم فدخل دمشق، وقبض على أبى المنجّا وابنه، وانقلب العسكر إلى ظالم وملك البلد. وذلك لعشر خلون من رمضان من هذه السنة. ثم إنّه قبض على جماعة من أصحاب أبى المنجّا واستأصل أموالهم. ثم إنّه طلب ابن النابلسى المقدّم ذكره أنه سلخ وصلب، وهذا ابن النابلسى يقال له أبوبكر. وهو رجل عالم فاضل من أهل الرملة كان يرى بقتال المغاربة وبغضهم أنه واجب على كل مسلم. وكان قد انهزم من مصر لمّا ملكوا المغاربة خوفا منهم، فطلبه ظالم واعتقله تقرّبا للمغاربة. ونزل بعد ذلك أبو محمود بن جعفر بن فلاح على دمشق يوم الثلاثاء لثلاث بقين من شهر رمضان المعظّم. فلقيه ظالم، وأنس به أبو محمود لما كان فى قلبه من خوف رجوع القرمطى. ثم إنّ أبا محمود نزل الدكّة. فأخرج إليه أبا المنجّا وابنه وابن النابلسى. فتقرّب بذلك إلى جميع المغاربة. فعمل لكل واحد منهم قفص من خشب، وحملهم إلى مصر. فحبس أبو المنجّا وابنه

وأخذ ابن النابلسى فقالوا له: أنت قلت: لو أنّ معى عشرة أسهم لرميت تسعة فى المغاربة وواحد فى الروم؟ فاعترف بذلك. وسب المعزّ وشتم. فأمر به فسلخ وحشى جلده تبنا وصلب. ولما نزل أبو محمد البلد <ة> اضطرب أهلها، ومدّت المغاربة أيديهم فى أخذ من يلقونه فى الطرق من الناس. ثم امتدوا إلى نهب القوافل والقرى والضّياع. وقصرت يد أبو محمود عن دفعهم، فإنّه لم يكن معه مال يعطيهم. ثم كثر النهب والأذى والقتل. ولم يزل ذلك البلاء على الناس من المغاربة إلى السابع عشر من ذى القعدة. فوقعت الحرب بين أهل (ص 107) مدينة دمشق والمغاربة، وحصلت بينهم من الوقائع والحروب ما يطول شرحه، وقتل بينهم خلق عظيم. وأحرقوا أكثر دمشق بالنار، ولم يزالوا كذلك فى أشد الحروب يقتتلون فى كل صباح إلى أن هلّت سنة أربع وستين وثلاث مئة حسبما يأتى من بقية الكلام فى ذلك. وفيها أعاد عزّ الدولة النواح على الحسين على ما جرت به العادة. وتوفى الإمام المطيع لله أمير المؤمنين بواسط. وردّ تابوته فى ثامن عشر المحرّم من سنة أربع وستين وثلاث مئة. وكانت خلافته تسعا وعشرين سنة وأشهرا. وله يوم مات ثلاث وستون سنة وأيام، واستقرّ بالخلافة الطائع لله حسبما يأتى من ذكره.

وزراؤه

وزراؤه أبو الحسن علىّ بن محمد بن محمد بن علىّ بن مقله. ثم: أبو أحمد الشيرازى. وكان يتولّى الأمور كتّاب معزّ الدولة بن بويه. وهم: أبو جعفر الضمرى. ثم أبو أحمد المهلبى. ثم أبو الفضل الشيرازى. وأبو الفرج محمد بن العباس الشيرازى. ثم كتب لابنه بختيار بعد هذين: محمد بن محمد بن بقيّة، ولقّب الناصح. حاجبه: عبد الواحد بن أبى عمرو. صفته: أبيض تعلوه صفرة، أقنى، جميل الوجه.

ذكر سنة أربع وستين وثلاث مئة

ذكر سنة أربع وستين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث ذكر خلافة الطّائع لله ابن المطيع لله وما لخّص من أخباره وسيرته. هو أبو بكر عبد الكريم الطائع لله بن أبى العبّاس الفضل المطيع الله وباقى نسبه قد تقدم. أمّه أمّ ولد يقال لها عتب. بويع له فى (ص 108) يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة خلت من ذى القعدة سنة ثلاث وستين وثلاث مئة. ولم يزل خليفة سبع عشرة سنة وتسعة أشهر، إلى أن خلع فى تاريخ ما يأتى من ذكره إن شاء الله تعالى. كان مدبّر الملك فى أول خلافته عزّ الدولة بختيار بن معزّ الدولة، إلى أن غلبه ابن عمّه أبو شجاع فنا خسرو الملقّب بعضد الدولة ابن ركن الدولة بن بويه فى هذه السنة. واستمرّ فى الملك إلى أن مات فى ثامن شوال سنة اثنتين وسبعين وثلاث مئة.

وولى الملك بعده ولده صمصام الدولة أبو كاليجار. ثم قبض عليه وسمل. وولى بعده أخوه شرف الدولة أبو الفوارس إلى أن توفى. فولى أخوه بهاء الدولة أبو نصر. وهو الذى قبض على الإمام المطيع وخلعه فى تاريخ ما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى. والمعزّ لدين الله بالديار المصرية. وابن كلّس الوزير بها. وابن النعمان القاضى بالقاهرة. وأبو طاهر القاضى بمصر. وكان المعزّ قد أخفى نفسه أربعين يوما بعد ما جعل له فى بيت كلّ كبير ورئيس من أهل مصر عينا من جهته يخبروه بما يتجدّد لذلك الرجل فى بيته من سائر أحواله. ثم ظهر لهم وقال لهم: إنّنى رفعت إلى السماء الدنيا، وكنت أشاهد جميع ما صنعتم. وذكر لكلّ واحد ما فعله. فمنهم من صدّق زعمه، والعقلاء من الناس راءوه فى الظاهر وكفّروه فى الباطن. وكانت له أشياء من هذه الخزعبلات يرجع إليها أولى العقول الناقصة، وينكرها أصحاب العقول الوافرة.

هذا ودمشق فى أسوأ الأحوال. وقد ملكوهم المغاربة بعد حرب شديد تجرّت فيه الشطّار والمشالح والحراميّة، ولم يبق لأهل دمشق مع الطائفتين لا مال ولا حريم ولا روح. والناس (ص 109) تحت رحمة الله تعالى. وجرت أمور يطول شرحها. وكان كبير الشطّار بدمشق يعرف بابن الماورد، وقد التفّ عليه جماعة من نظرائه. ثم إنّ قوما من مشايخ دمشق خرجوا إلى أبى محمود وتضرّعوا له وعرّفوه ما الناس فيه من البلاء والجور. وكان قد ولى الشرطة بدمشق رجل مغربى يعرف بابن حمزة. ففعل كلّ قبيح فى البلد. فصرفه عن البلد وولّى رجل كردى يقال له أبو الثريا. ومعه جماعة من الأكراد يرمون بالنشّاب. وقرّر معه مسك ابن الماورد رأس الشطّار. وكان ذلك فى شهر صفر من هذه السنة. وبلغ ابن الماورد ذلك فكمن هو وأصحابه فى الدكاكين التى عند فندق ابن زكريا. فلما وصل إلى هناك ذلك الرجل الكردى المسمّى بأبى الثريّا وثب عليه ابن الماورد مع أصحابه، فوضعوا على أصحاب أبى الثريّا القتل. فولّوا منهزمين، وكذلك هو نفسه، وخرج إلى أبى محمود وعرّفه، فكانت بعد ذلك

حروب وقتال شديد بين المغاربة وأهل دمشق وعاد الحاكم فى دمشق الشاطر ابن الماورد. وجرت أحوال يطول الكلام فيها. وكان لمّا جرت الفتن أيضا ببغداد بين بنى بويه وبين سبكتكين الحاجب، وكانت الأتراك تتعصّب مع سبكتكين يجمعهم على ذلك الجنسية، وغلب على بغداد وأخرج بختيار منها قهرا، وانتصر بختيار بابن عمّه عضد الدولة، وحضر إليه فى الديالمة، وخرج المطيع لله مع سبكتكين، وكان قد ولاّه تدبير الملك ولقّبه نصير الدولة وطوّقه وسوّره، ثم قهر سبكتكين وقتل، وخلع المطيع، وتولّ الطائع حسبما تقدم. وكان سبكتكين قد أقام خليفته على الأتراك هفتكين الشرابىّ وكان فيه شجاعة وشدّة وبأس (ص 110). فلما انتصرت الديلم على الأتراك تشتت شملهم، فأخذ قوم منهم نحو أبى تغلب بن حمدان إلى الموصل فاستأمنوا إليه، وقوم منهم استأمنوا إلى عضد الدولة فناخسرو. وبقى هفتكين فى نحو من أربع مئة فارس من الأتراك، وهم شجعانهم. فأخذ على الفرات حتى نزل الرحبة، ثم انتقل فى البرّ حتى نزل على جوسية. وكان يسايره فى البرّ خلق كثير من العرب طمعا فى أخذه، فكان فيه من الضبط واليقظة والشجاعة والهيبة ما لم يجسر عليه أحد.

وكان ظالم أيضا لمّا رأى تغلّب المغاربة على دمشق قد انزوى فى بعلبكّ، فى حديث طويل. فبلغه خبر الهفتكين التركىّ. فطمع فى أخذه. فجمع إليه من انضوى من العرب. وأنفذ إلى أبى محمود بدمشق يقول له: إنّ تركيّا قد جاء من بغداد وهو يريد عملك. فأنفذ إلىّ عسكرا حتى آخذه به من قبل أن يدخل عملك. فأنفذ إليه أبو محمود عسكرا. فاجتمع له نحو من ألفين فارس. فسار بعضهم إليه بخبر الأتراك ونزولهم جوسية، وسار ظالم إلى قرب منه. ولبس هفتكين وأصحابه الحديد وتطرّحوا على خيلهم التجافيف. فلمّا وقعت عينهم عليهم أرموا عليهم النشّاب. وكان قد وصل إلى هفتكين التركىّ من جهة أبى تغلب بن حمدان بشارة الخادم فى ثلاث مئة رجل، بكلام لطيف من جهة ابن حمدان. فوصل إليه وقد صفّ خيله لظالم العقيلى. فلما رآه فى زىّ حسن ظنّ أنّه ابن حمدان نفسه. فتلقّاه. فكان بينهما (ص 111) كلام حسن. وأوعده عن الأمير أبى تغلب بكلّ جميل. وأنفذ بشارة من وقته رسولا إلى ظالم يقول له: لا تفسد فى عملنا ولا تدخله. فقال: ما جئت لأفسد فى عملكم، وإنما جيت من أجل هذا التركىّ لأصدّه. فردّ عليه: هذا رجل فى عملنا، وإلينا قصد، ونحن ما نتخلّى عنه. ونظر ظالم إلى جماعة هفتكين وما هم عليه

من الشدّة والبأس والحديد وقد انضمّ بشارة فى تلك العدّة. فانقطع طمعه ورجع طالب بعلبكّ. ثم إنّ بشارة الخادم أخذ هفتكين التركى وأتى به إلى أبى تغلب ابن حمدان فأقبل عليه وأقطعه المعرّات وكفر طاب، وأن يكون تبعا لأبى تغلب. فلم يلبث هفتكين أن ورد عليه رسول ابن الماورد رأس الشطّار بدمشق يقول له: تسير إلينا، فنخرج نحن من داخل البلد، وأنت من خارج على المغاربة وتملك البلد. فوقع ذلك الكلام بالموافقة لغرض هفتكين. وكان لما بلغ المعزّ أحوال دمشق مع أبى محمود قد سيّر إلى نائبه بطرابلس يسمى ريّان الخادم يقول له: تتوجه إلى دمشق وتعزل عنها أبى محمود، وتأمره أن يكون بطرابلس. فلما وصل هفتكين إلى دمشق لم يجد بها أحدا من المغاربة. وكان قد وردت الأخبار أن العدوّ من الروم وهو ابن الشمشقيق وهو يومئذ دمستق الرّوم، قد خرج يريد البلاد. ووصل هفتكين إلى ظاهر دمشق. وذلك لأيّام بقيت من شعبان من هذه السنة، وهى سنة أربع وستين وثلاث مئة.

ونزل حول مسجد إبراهيم. وخرج إليه الناس واستبشروا به، وكذلك ابن الماورد، وأخرجوا له الإقامة والعلوفات، وفرحوا به لإزاحة المغاربة عنهم. وأقام هفتكين أيّاما بدمشق. وشاع خبر العدو. ووصل بعلبك جيوش الروم وافتتحتها. وأخذ أهلها أسرى. فلما بلغ هفتكين الخبر وعلم أنه لا قبل له بجيوش الروم أحسن التدبير والسياسة، واجتمع بالدمستق وعرّفه أنّ دمشق بلد خراب من المغاربة وإنما له بها أيام قليلة. وأحسن الكلام والتلطّف. فأعجب الدمستق أدبه ومخاطبته، وقرّر مال يأخذه، ولا يتعرّض لأهل دمشق. فكان ذلك. وأقام الدمستق على دمشق أيّاما من غير أن وصلت منه أذية لأهلها، حتى جبى له ثلاثون ألف دينار، فأخذها وترك الباقى لهفتكين، وعاهده وهادنه. فأعجب ذلك أهل دمشق من فعل هفتكين وحسن سياسته. ورحل الدمستق ونزل بيروت. وكان بها خادم من جهة المغاربة يقال له نصير فى سبع مئة رجل من المغاربة. فاستعدّوا للقتال على الأسوار. فلما عاينوا كثرة جيش الروم علموا أن لا طاقة لهم بذلك.

فراسلهم الدمستق: إنى لا أحبّ خراب بلدكم، ولا أريد قتالكم، وإنّما أريد أن تسلّموا إلىّ هذا الخادم ومن معه، وأجعل عندكم من جهتى ذروار يكون يدفع عنكم من يطمع فيكم. فوجد الخادم ومن معه فى ذلك فرجا كبيرا يمنعهم القتل. فنزل إليه الخادم من ذاته وجميع من معه. وتسلّم الدمستق البلد وجعل فيها ذروارا من قبله. وسار عن بيروت فنزل على طرابلس، وكان بها ريّان الخادم المقدّم ذكره الذى أخذ أبو محمود من على دمشق، وهو يومئذ فى خلق كثير من المغاربة. فقاتلوا أشدّ قتال. فعمل على أن يبنى حولها ويرفع عليها العرّادات والمناجيق، وابتدأ فى البناية. فلحقته علّة، فرحل عنها إلى بلده، فهلك فى الطريق. ولما تمكّن هفتكين من دمشق وكان قد نمّ (ص 113) على ابن الماورد عند ملك الروم وقال هذا الذى لا يمكّنى من جباية مالك، فقبض عليه الدمستق واستصحبه معه فى حديث طويل أيضا هذا ملخصه. فلما صفا أمر دمشق للهفتكين نفذ شبل بن معروف نحو طبرية. فهرب من كان بها من المغاربة إلى الرملة، وقائدهم أبو محمود. فسارت العرب تطلب الأعمال، واجتمعوا وكثروا، وكان معهم رجالا من

جهة هفتكين معونة لشبل بن معروف العقيلى. وكانت المغاربة أيضا قد التقوا وتجمعوا، فالتقوا بأرض بيت المقدس. فظهرت على المغاربة، فانهزموا، وأخذهم السيف فقتل منهم خلق كثير، وأخذ من ظفر به فسيّروه إلى دمشق فطوّفوهم فى الأسواق على الجمال وملّوا منهم الحبوس، ثم ضربوا أرقاب كثير منهم والله أعلم.

ذكر سنة خمس وستين وثلاث مئة

ذكر سنة خمس وستين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وواحد وعشرين إصبعا. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وأربعة وعشرون أصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة الطائع لله أمير المؤمنين. ومدبّر الممالك الخليفية عضد الدولة ابن ركن الدولة ابن بويه. وقد استقامت أمور المملكة فى أيّامه بحسن ضبطه وسياسته. وتوفى المعزّ لدين الله فى الحادى عشر من ربيع الآخر، وقيل لسبع منه من هذه السنة. وكانت مملكته أربعا وعشرين سنة منها بمصر منذ دخول جوهر القائد ستّ سنين وثمانية أشهر إلا أيام، ومنذ دخوله سنتين وستة أشهر وأيام. عمره ثمان وأربعون سنة وخمسة أشهر. وقيل خمس وأربعون سنة وسبعة أشهر وأيام. وزيره يعقوب بن كلّس. قاضيه ابن النعمان.

ذكر خلافة العزيز بالله بن المعز لدين الله بمصر وما لخص من سيرته

ذكر خلافة العزيز بالله بن المعز لدين الله بمصر وما لخص من سيرته هو أبو منصور نزار بن معدّ المعزّ لدين الله، وباقى نسبه قد علم. ولد فى المحرّم لسبع بقين من ربيع الآخر سنة خمس وأربعين وثلاث مئة. بويع بولاية الأمر يوم وفاة أبوه. وقلد الوزارة أبو الفرج ابن كلّس. وقلّد القضاء لأبى الحسين على بن النعمان. وقلّد السيف الذهب والطوق الذهب. وحمل على مركوب بمحمل ذهب. وقرئ سجلّه بالقاهرة. فكان فى جملته: وإذا تداعى الخصمين، إليك أحدهما والآخر إلى غيرك ردّا إليك جميعا من أقصى الآفاق. فلما بلغ ذلك أبو طاهر، وهو يومئذ قاضى مصر، فرفع يده عن الأمر.

وركب العزيز إلى المقياس بالمظلّة، وعبر على الحمرا، فأمر ببناء القنطرة التى كانت متهدّمة. فشرع فيها. وهذه القنطرة كان بناها عبد العزيز بن مروان فى سنة تسع وستين ومئة. فتهدّمتّ. فجدّد العزيز بناءها. واستقرّ بالوزارة أبو الفرج بن كلّس. وكان أصله كاتبا يهوديّا ضامنا لنفسه. وخدم كافور الإخشيدىّ، فحمد خدمته. وأسلم فى خدمته. ثمّ سار إلى المغرب، وخصّ بخدمة المعزّ. فقدم حتى وزر. وفيها مات القاضى أبو طاهر رحمة الله عليه. وفيها قدمت القرامطة على هفتكين بدمشق. وكان الذى وافى منهم إسحاق وكسرى وجعفر. فنزلوا على ظاهر دمشق نحو الشماسية. ووافى معهم كثير من العجم ممن كان من أصحاب هفتكين وقد تشتّتوا فى البلاد فى وقت وقعته على نهر دالى مع الديلم. فاجتمعوا إلى القرامطة بالكوفة فأكرموهم وأركبوهم معهم، وساروا بهم إلى دمشق، فكساهم هفتكين وأركبهم الخيول (ص 115) وقوّى عسكره بهم. ولقى هفتكين القرامطة وحمل إليهم وأكرمهم وفرح بهم، وأمن من الخوف. وأقاموا على دمشق أيّاما ثم رحلوا متوجّهين إلى الرملة، وكان بها أبو محمود إبراهيم ابن جعفر الذى تقدم ذكره. فلما علم بهم تحصّن بيافا. فسارت

القرامطة فنزلوا الرملة، ونصبوا للقتال على يافا، حتى كلّ الفريقان من القتال. وصار يحدّث بعضهم بعضا. واستقرّ القرامطة بالرملة يجبون المال. فلما أمن هفتكين من نحو مصر والرملة، وعلم أنّ القرامطة كفوه ذلك الوجه، عمل على أخذ السّاحل. فسار بمن اجتمع إليه ونزل صيدا. وكان بها ابن الشيخ واليا ومعه رؤساء من المغاربة، ومعهم ظالم العقيلى. فقاتلوا هفتكين أشدّ قتال. وكانوا كثرة. فاحتال عليهم هفتكين أنه جزعا منهم وأظهر لهم أنه مهزوما منهم. فخرجوا يتبعونه. فقال لهم ظالم: لا تتبعونه لئلا يكون مكيدة منه ليستخرجكم من حصنكم. فسمعه ابن كرامة المغربى فقال له: يا شيخ أنت دسيس على أمير المؤمنين. فلما استدرجهم هفتكين من حصنهم أميالا عطف عليهم عطفة، فلم يسلم منهم غير المخفّين. وانهزم ظالم إلى صور. وقتل شيخهم ابن كرامة. ثم عدّ القتلى منهم فكانوا أربعة آلاف نفر. فحملت رؤوسهم وأتوا بها دمشق ونصبت. ثم إنّ هفتكين طمع فى أخذ عكّا. وكان بها جمع من المغاربة. فقاتلوه من خلف الأسوار. وكان العزيز بالله قد ندب القائد جوهر للقتال والخروج إلى الشام. فسار فى جيوش كثيفة لم يخرج لهم قبل ذلك مثلها، وتواترت الأخبار على هفتكين بسيره وهو على عكّا.

والقرامطة بالرملة. وأرسلوا إلى هفتكين يخبروه بعظم الجيش (ص 116) القادم مع جوهر القائد. وليس معهم من الرجال ما يلقونه. فسار هفتكين من ظاهر عكّا، فنزل طبرية. وانطردت القرامطة من الرملة ونزلها جوهر. وسار من القرامطة إسحاق وكسرى إلى الأحساء، بلدهم. وبقى جعفر منهم لم يسر. وصار إلى هفتكين التركى فاجتمعوا بطبرّية، وجمع هفتكين غلال حوران والبثنيّه ونفذها إلى دمشق. وقرب جوهر من طبرية. فرحل هفتكين طالبا دمشق. وسار جوهر حتى نزل بظاهر دمشق بالشماسيّة لثمان بقين من ذى القعدة من هذه السنة. وجمع هفتكين حمّال السلاح من أهل البلد، وأحسن إليهم من الشطّار والدعرة. ولم يكن فيهم أقدم ولا أشجع من المعروف بقسّام. وكانت له الرياسة على حمّال السلاح من الشطّار والدعّار، وكان ذكره قديما فى هذا الشأن. ثم انتشب القتال بين الفريقين بقية شهر ذى القعدة وشهر ذى الحجة إلى آخر هذه السنة.

ذكر سنة ست وستين وثلاث مئة

ذكر سنة ست وستين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة الطائع لله أمير المؤمنين. ومدبّر ممالكه عضد الدولة فناخسرو بن بويه. والعزيز بمصر. ووزيره أبو الفرج ابن كلّس. والقاضى على مصر والقاهرة أبو الحسن على بن النعمان. والخراج بمصر لابن العدّاس. وجوهر القائد فى الحرب مع هفتكين التركى على دمشق إلى الحادى عشر من شهر ربيع الآخر من هذه السنة كانت الكسرة على هفتكين وأهل (ص 117) دمشق فى حديث طويل. وهمّ هفتكين

بالهروب إلى أنطاكية فى تلك الليلة. ثم إنّه استظهر بعد ذلك وقوى. ونظر جوهر إلى أحواله تنقص وقد هجم الشتاء. وقد ذهب ما كان معه من الأموال، وصار أكثر جيشه رجّالة، وهلكت دوابهم، ولم يصل إلى شئ. فراسل يطلب الصلح والمهادنة من هفتكين. فلم يجبه إلى ذلك. ثم اتفق الحال بينهم على أن يرحل جوهر ولا يتبعه أحد. وكان قد اتصل بجوهر خبر الحسن بن أحمد القرمطىّ أنّه سائر إلى الشام. وورد إلى ابن عمه جعفر القرمطى كتابا من عنده بذلك. ورحل جوهر عن دمشق يوم الخميس الثالث من جمادى الأولى من هذه السنة. فلما صار إلى طبرية خرج الحسن بن أحمد من البرّية إلى نحو طبرية. وكان خبره قد وصل إلى جوهر. فقحم خيله حتى صار بالرملة. ثم نزل زيتون الرملة متحّصنا به من الحسن بن أحمد، وكان هفتكين قد سار من دمشق إلى الحسن بن أحمد. فلحقه وهو مريض. وتوفى الحسن بن أحمد فى الرملة. وقام بأمر القرامطة بعده ابن عمه جعفر، ثم اقتتلوا مع جوهر بقية سنة ست وستين. ثم انفسد الأمر بين هفتكين وبين جعفر القرمطىّ. فأخذ جيوشه وعاد إلى بلاده بالأحساء. وكان ابن الجرّاح محاديا لجوهر. فلم ير مع هفتكين

ما يحبّ، فانصرف عنه. وراسلته المغاربة فمايلهم. ولما اشتد الأمر بجوهر وكثر القتل فى رجاله خاف أن يهلك. فسار يريد الدخول إلى عسقلان ليكون المدد يجيئه فى البحر. وسار هفتكين يريده. فالتقوا، فاقتتلوا يومهم ذلك إلى الليل (ص 118) ثم انصرفوا وأصبحوا فى اليوم الثانى فاقتتلوا إلى الليل، وأصبحوا اليوم الثالث فاقتتلوا. فانهزم جوهر وأصحابه وأخذهم السيف. فخلّوا عن عسكرهم ودخلوا عسقلان. فأخذ من عسكرهم ما عظم قدره. فاستغنى منه ناس كثير. ونزل هفتكين على عسقلان فحاصر جوهر بها، ووردت الأخبار إلى العزيز نزار خليفة مصر، بذلك. فقال لوزيره: ما ترى؟ قال: أرى أن تخرج أنت بنفسك وإلاّ هلكت العساكر. فأقبل يجمع الجموع ويستخدم الجند المعطّلين من الإخشيدية وغيرهم، وأخرج الأموال وأنفق فى الجيوش.

ذكر سنة سبع وستين وثلاث مئة

ذكر سنة سبع وستين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع، وثلاثة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة الطائع لله أمير المؤمنين. وعضد الدولة مدبّر المملكة بحاله. <الدولة السامانية> وفيها قام بأمر المملكة السامانية المقدّم ذكرها فى الجزء الذى قبله الرضى بن منصور بن نوح. كنيته أبو القاسم. <اسمه> نوح ابن منصور بن نوح بن عبد الملك بن نصر بن نوح بن نصر بن أحمد بن إسماعيل السامانى المقدّم ذكر دولتهم وملوكهم. ولى مملكة خراسان بعد أبيه بولاية عهده له، وهو صغير غير بالغ، وحمل إليه اللوآء والتقليد والخلع من جهة الطائع لله أمير المؤمنين، وأخرج مع الخلع خادم من خدم الخلافة.

وولّى حجبته لأبى العبّاس تاش. وعقد الإصفهسلاريّة لأبى الحسن السيمجورى ولقّبه ناصر الدولة. وولّى الوزارة لأبى الحسين عبيد الله بن أحمد العتبى. وأقام أبو الحسن فى (ص 119) الإصفهسلارية إلى أن مات سنة إحدى وثمانين وثلاث مئة. فقام بأمرها أبو على الأكبر من ولده. واضطر الرضىّ إلى تولية أبى علىّ بجميع ما كان إلى أبيه، ولقّبه عماد الدولة. وذلك فى شعبان سنة إحدى وثمانين وثلاث مئة. واتفق خروج الخان وهو أبو موسى هارون من أيلك من أرض الترك طالبا مملكة الرضىّ. وكان أبو علىّ قد طرد فانق عن ولاية هراة. فتوجّه إلى الخان واستأمن له. وسار معه إلى بخارى. فهرب الرضىّ ووزيره العتبى. ودخل الخان بخارى فى سنة اثنتين وثمانين، وهرب الرضى إلى آمل. ثم مرض الخان وعزم على العود إلى بلاده وكان فى غاية العدل. فدعا عبد العزيز بن نصر السامانى فسلّم إليه البلاد، وسار فمات فى الطريق. وفيه قيل: يا قاهرا لملوك الأرض من قهرك؟ … ويا عماد جميع الأرض من قبرك؟ عجبت ممّن أطاعته أنامله … حتى سفى من تراب القبر ما سترك وعاد الرضىّ إلى بخارى، ولم يتم لعبد العزيز ولاية.

أبو الحارث منصور بن الرضى

وكان أبو علىّ الاصفهسلار، قد زاد تبسطه ومكره حتى إنّه كان يسمّى الرضىّ والى بخارى. وكان يخاطب مرّة بسيّد الأمراء المؤيّد من السماء، ومرّة يخاطب بصاحب العالم، ومرّة بوالى الدنيا، ومرّة بأمير جهان، ومعناه أمير الدنيا. فلما رأى الرضىّ ما قد صار إليه أبى على استنجد بسبكتكين الغازى أبى منصور. وكان قد تغلّب على غزنة وبست والرخّج. واجتمع معه، والتقوا مع أبى علىّ فى شهر رمضان سنة أربع وثمانين وثلاث مئة فانهزم منهما، وأخذ جميع عسكره. ولقب الرضىّ سبكتكين ناصر الدولة، وابنه محمود سيف الدولة. ثم كانت بين أبى علىّ وبين السبكتكين (ص 120) حروب يطول شرحها. وآخر الأمر أنّه قبض على أبى علىّ وسلّم لسبكتكين فكان آخر العهد به. توفى الرضىّ فى رجب سنة سبع وثمانين وثلاث مئة. وكانت مدّة مملكته إحدى وعشرين سنة وتسعة أشهر. أبو الحارث منصور بن الرضىّ وقام أبو الحارث منصور بن الرضىّ نوح. ولّى بعد أبيه بعهده إليه. وكان سبكتكين قد توفى، وقام بالأمر ابنه إسماعيل. وسار من غزنة طالبا للاصفهسلاريّة على ما كان عليه أبيه، وكان قد وليها

أبو الفوارس عبد الملك بن الرضى نوح

بكتورون غلام أبى الحارث. وجرى لهما حروب ومكايد، آخرها أن خلع أبو الحارث وسمل فى صفر سنة تسع وثمانين. فكانت مدة مملكته سنة ونصف [سنة] ثم قام بالمملكة السامانية: أبو الفوارس عبد الملك بن الرضى نوح ولما خلع أبو الحارث ولى أخوه المذكور. فأظهر محمود الغضب للمخلوع ظلما، وزحف إلى بكتورون (؟) طالبا بثأر أبى الحارث المخلوع. فصالحوه على كور خراسان قاطبة بلخ وهراة. فانصرف، فاتّبعوه غادرين، ومعهم ابن قابوس وابن سمكين. فعطف عليهم أبو المظفر نصر بن سبكتكين فهزمهم هزيمة فاضحة. فكانت هذه الهزيمة معفية لآل سامان. ووصل أبو الحسن أرسلان آيلك وهو نصر بن على أخو الخان <ب‍> بخارى فى شهر ذى القعدة سنة تسع وثمانين وثلاث مئة. وقبض على جماعة آل سامان منهم أبى الحارث المخلوع، وإبراهيم المنتصر، وعلىّ أبى يعقوب أخى أبى الفوارس، وعلىّ أبى الفوارس فلم يتجاوز ملكه السنة.

المنتصر إسماعيل بن الرضى بن نوح

ثم قام: المنتصر إسماعيل بن الرضى بن نوح وكان قد قبض عليه فى جملة من قبض عليه من آل سامان. فاتفق له (ص 121) أنه لبس جلد جارية وخرّج من محبسه، وسار إلى الجرجانيّة، وتجمّع إليه الجند السامانيّة فسار بهم، وكبس على الأتراك الخائنة فانهزموا عن بخارى، ودخلها المنتصر. وكانت بينهم أوجع حروب حتى استفحل أمر المنتصر إلى أن كرّ عليه الخان فقتل فى سنة خمس وتسعين وثلاث مئة. وانقطعت الدولة السامانية بقتله. فجميع ملوك آل سامان عشرة ملوك. أوّلهم إسماعيل بن أحمد ابن أسد بن سامان خداه وآخرهم المنتصر هذا. وجميع مدّة مملكتهم دون ولايتهم مئة سنة وستة أشهر وعشرة أيام. وكان لهم من البلاد فى أكثر الأوقات خراسان، وما وراء النهر، وسجستان، وغزنة، وبست، والرخّج، وكرمان، وجرجان، وطبرستان، والرىّ، وقومس. وفيهم يقول أبو الطيبّ الطاهرى: أودى ملوك بنى سامان فانقرضوا … وأصبح الحبل ما ينفكّ ينتقض

أضحت إمارتهم فيهم وجوهرها … عبيدهم وهم فى عرضها عرض فليبك من كان فيهم باكيا أبدا … فما لما فاتهم من ملكهم عوض وما أحسن ما وصف دولتهم بعض البلغاء فقال: «كانت الدولة السامانية كالدولة الساسانية طول مدّة وقلّة كفاء. وما أشبّهها إلاّ بالسماء التى رفعها الله بغير عمد». قلت: قد أنهيت القول فى جميع ملوك آل سامان كما انتهى القول فى جميع من تقدمهم من الملوك أرباب الدول وأصحاب الخول. وسقت هؤلآء الملوك من آل سامان على التوالى حتى لا يعود لنا التفات إلى غير ملوك مصر، كون هذا الجزء مختص بذكرهم دون غيرهم، إذ الشرط أن يكون كلّ جزء من هذا التاريخ يختصّ بدولة. (ص 122) ولنعود إلى ما كنا عليه بمعونة الله وحسن توفيقه. وفيها انتصر عزّ الدولة بختيار بأبى تغلب بن حمدان على قتال عضد الدولة فناخسرو. وسار فناخسرو إليهم، ولقيهم، فانهزموا وأخذ بختيار أسيرا فقتله. وانهزم أبو تغلب فدخل الزوزان. وسارا أخو بختيار أبو إسحاق وأبو طاهر ومرزبان بن بختيار إلى دمشق منهزمين من فناخسرو، وكانوا فى عسكر حسن. وكان هفتكين التركى

بطبريّة. فبعث إليهم بوزيره ابن الحمارة. فأنفق فيهم الأموال وحمل إليهم الإقامات وسيّرهم إلى الهفتكين. فاجتمع العسكران بطبرية فى اثنى عشر ألفا. فساروا يريدون الرملة، وسار العزيز يريدهم بجموعه. فالتقوا بين اليهوديّة وكفر ساب. فحمل عليهم الهفتكين حملة بعد حملة. فقتل منهم نحوا من مئة رجل. فأقبل عليه عسكر العزيز فى نحو من سبعين ألف، فلم يكن إلاّ ساعة حتى دخلوا عسكره وملكوا رحاله. فصاحت الديلم الذين كانوا معه: بهار بهار، يريدون الأمان الأمان. واستأمن أبو إسحاق ومرزبان بن بختيار، وقتل أبو طاهر، وأخذ كثير منهم أسرى. ولم يكن القتل فيهم بكثير. فلما انهزم عسكر هفتكين طلبوه فى القتلى أو الأسرى فلم يجدوه. فخفى عليهم أمره. وكان فى وقت الهزيمة أخذ نحو الجبل ببيت المقدس. فوقف به فرسه فنزل عنه. وحبس تحت شجرة، فعبر به رجل من العرب يقال له راهب لا حال له ولا شجاعة فيه. فأخذه أسيرا وسار به إلى ابن الجرّاح الطائى فشدّ عمامته فى عنقه وساقه إلى نحو العزيز. قال صاحب هذا النقل: حدثنى أبو القاسم جعفر بن إسماعيل أنّ ابن الجراح قال: لما جئت بهفتكين إلى نزار (ص 123)

قام قائما فقبّل هامتى. ونال ابن الجراح بذلك نائلا كثيرا. وشهر هفتكين فى العسكر وتلطّمت المغاربة وجهه وأخذوا لحيته ورأى فى نفسه العبر. وكانت هذه الوقعة يوم الخميس لسبع بقين من المحرّم سنة ثمان وستين وثلاث مئة. وفى سنة سبع وستين ولد أبى حامد الغزالى.

ذكر سنة ثمان وستين وثلاث مئة

ذكر سنة ثمان وستين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وخمسة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإصبع. ما لخّص من الحوادث الخليفة الطائع لله أمير المؤمنين. وعضد الدولة مدبّر المملكة الخليفية. والعزيز قد انتصر على الهفتكين التركى. وكان قد استخلف على مصر والقاهرة خير بن القاسم. وكان على الخراج علىّ بن عمرو، وعبد الله بن خلف. وسار العزيز بهفتكين ومن معه من الأسرى عائدا إلى مصر. وكان قد اصطنعه ومن معه وأحسن إليهم وجمعهم إلى هفتكين. وصار له بمصر عسكرا على رسم عسكر العراق. فلما نظر ابن كلّس الوزير ذلك خافه على نفسه فقتله بالسم على ما ذكر.

وكان العزيز قبل عوده إلى مصر نفذ إلى دمشق واليا من العرب يقال له حميدان بن خراش العقيلى فى نحو من مئتى رجل. وكان بها يومئذ قسّام رئيس الشطّار المقدّم ذكره. وكانت كتب العزيز قد وردت عليه من قبل الانتصار على هفتكين. فلما جرى ما جرى أظهر قسّام الكتب وقرأها بالجامع، يعد فيها الرعية بالإحسان، ويترك الخراج إن هم منعوا هفتكين من الدخول إلى البلد. ثم ولى حميدان العقيلى، حسبما ذكرنا، وأتى دمشق. فكان (ص 124) من تحت أوامر قسّام، ثم إنه وقع بينه وبين حميدان، فطرده من البلد وأخرجه أقبح خروج، ونهب داره، وخرج هاربا لا يلوى على شئ. وقوى أمر قسّام، واجتمع إليه الرجال، وكثر ما كان بيده، وقوى طمعه فى البلد، وتسمّى بملك الرّجال. وكان معه عامل من جهة السلطان يقال له الآمدى. ثم ولى البلد بعد حميدان أبو محمود. ودخل دمشق فى نفر يسير. وعاد يقف على باب قسّام يمتثل أوامره.

ذكر سنة تسع وستين وثلاث مئة

ذكر سنة تسع وستين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا فقط. ما لخّص من الحوادث الخليفة الطائع لله أمير المؤمنين. وعضد الدولة فناخسرو مدبّر الممالك الخليفيّة. وكان قد تقدّم القول أنّ أبا تغلب لما كسر هرب إلى زوزان، فأنفذ خلفه عضد الدولة العساكر، فهرب من زوزان إلى آمد، ثم سار إلى الرحبة، وكتب إلى العزيز بمصر يطلب الدخول إلى عمله والإقامة فيه. ثم سار فى برارى وجبال وأودية حتى خرج من حوران، ثم سار حتى نزل دمشق. فقال قسّام: لا يدخل أحد من أصحابه دمشق. وكان جواب كتاب أبى تغلب قد ورد عليه بما يحب، وكتب إلى قسّام أن يمنع أبا تغلب من البلد. فسأل أبو تغلب الآمدىّ عامل الخراج أن تكون أصحابه يتسوّقون من البلد. فكان ذلك. وكان

أبو تغلب قد طمع أن يولّيه العزيز دمشق. وكان قسّام قد خاف من ذلك. وكان لمّا نزل أبو تغلب من ظاهر دمشق قال ابن كلّس الوزير (ص 125) للعزيز: إنّ هذا الرجل إن تمكّن عظم شرّه. والصواب أن نعمل فى هلاكه. فكانوا يكتبون إليه بكلّ ما يحب، ويكتبون إلى قسّام: لا تمكّن هذا من شئ فيطمع فى البلد. فضربوا بينهما. وأقام أبو تغلب بظاهر المزّة شهورا. فثقل على قسّام مقامه. فلما كان فى بعض الأيّام وقف رجل أعجمىّ فى باب الجابية وكان متنبّذا وهو من أصحاب أبى تغلب، فحرّك سيفه وقال: أين هذا العيّار؟ فعظم على قسّام، وتخوّف أن تكون لأبى تغلب سلطنة عليه فيهلكه ومن معه. فانفسد الحال بينهما. وقال قسّام لأصحابه: إذا دخل أصحاب أبى تغلب فخذوهم. فأخذوا منهم تقدير سبعين رجلا، وقتلوا جماعة منهم، وخرج الذين أفلتوا إلى أبى تغلب وقد أخذت ثيابهم ودوابّهم. فلم يقدر على شئ يفعله. وكتب إلى مصر بذلك. فأعجب ذلك الوزير ابن كلّس وحسّنه للعزيز. ولمّا جرى على أصحاب أبى تغلب ما جرى طلبوا قوما من أصحاب قسّام فى الغوطة كانوا يأخذون الخفارات. فهربوا وقوى خوفهم. وكتب قسّام إلى مصر يذكر أنّ أبا تغلب قد حاصر البلد، وقد مدّ يده فى الأعمال ونحن فى الحرب معه. فخرج من مصر غلام للوزير

ابن كلّس يقال له الفضل فى عسكر كبير للحيلة على أبى تغلب وعلى العمل فى هلاكه. فنزل الرملة، وأرسل إلى ابن الجرّاح سجلاّ بولاية الرملة، وقال: إنّ هذا أبا تغلب يريد أن يسير إليها فيأخذها بسيفه، وأنا معين لك عليه. وكان أبو تغلب قد سار من دمشق فترك الفوّار. وسار الفضل فنزل طبرية، وأرسل إلى أبى تغلب: نريد نجتمع. وكان الفضل فى القديم يهوديا، وكان أبوه طبيبا. فكبرت (ص 126) نفس أبى تغلب أن يجلس معه على سرير من جهة أنّه يهودىّ الأصل. فاتفق الحال بينهما أن يجلس كلّ واحد على سرير. فكان ذلك. فجرت بينهما مخاطبة على أنّ ولاية الرملة له. وأخرج له بذلك سجلاّ، وأنه يقلع ابن الجراح منها. وقال له: أنا معين لك على ابن الجرّاح إذا كان بينكما حرب. وسار الفضل إلى دمشق فجبى الخراج، وقبّض الجند، وزادهم فى العطاء، وزاد فى عسكره رجالا كثيرا. وسار عن دمشق وأخذ طريق السّاحل. وكان أبو تغلب قد نزل الفوّار وفتح أهراء كانت بحوران والبثنيّة فى مواضع كان أبو محمود عمرها وجمع فيها. وكان قد اجتمع إلى أبى تغلب العرب من بنى عقيل ومعهم شبل بن معروف، فسار بهم إلى الرملة. فهرب ابن الجرّاح منها. وأقبل يجمع من أمكنة من

العرب وهو واثق أن الفضل معينا له. وكذلك كان ظنّ أبو تغلب. وسار الفضل فنزل عسقلان وعسكر بها. وأقبل ابن الجرّاح بجموعه والتقى مع أبى تغلب، واصطلى القتال بين الطائفتين من العرب، وأبو تغلب قائم فى مصافه لم يكن جنده بالكثير. وكان معه أيضا جماعة من المغاربة صاروا إليه. فلما حملت عرب ابن الجرّاح على عرب أبى تغلب تقهقروا، وسار الفضل من عسقلان فاجتمع عسكره مع عسكر ابن الجرّاح بالاتفاق الذى كان بينهما. فقالوا لأبى تغلب: إنّ عسكر الفضل صاروا إلى عسكر ابن الجرّاح. فقال: على هذا كانت الموافقة بينى وبين الفضل. فلما رأى مغاربة الفضل قد حملوا على جيشه، تحقّق المكيدة، وانهزم جميع من كان معه، ثم انهزم هو فلم يدر أين يأخذ. وكان عليه حديد مانع وسيف قاطع. وهو من الفرسان المعدودين فى الحرب (ص 127) وتحته فرس سابق. فذكر أنّه لم يتقدّم إليه رجل إلاّ قدّه، وهو مولى. فتبعه رجل من أصحاب ابن الجرّاح يقال له مشيع، فصاح إليه: يا إنسان! اسمع منى يا إنسان. أنا أنجو بك. فظنّ أنّ كلامه حقّ. فسمع كلامه، وهو منه على بعد، فقال له: هذه الخيل التى أمامك هى خيلنا، وهذه الخيل التى حولك هى لنا، ولو وقفت علىّ لنجوت بك، وتحلف

لى على مال تعطينى إيّاه. وعاد يكلّمه وهو يقرب منه، وهو يظنّ أنه لا يقدر عليه. فلم يشعر به حتى طعن عرقوب فرسه. فوقف به الفرس، وأخذه أسيرا وأتى به إلى ابن الجرّاح. فأركبه جملا وأشهره بالرملة. ثم حبس فى مكان، فطلب شئ يتوسّد عليه فأتوه بشوك وقالوا له: يقول لك الأمير توسّد هذا. فأغلظ لهم فى القول وشتم ابن الجرّاح. فبلغه، فقتله صبرا وأحرقه بالنار. وذلك لليلتين خلتا من صفر من هذه السنة. وفيها كانت الفتنة بين عضد الدولة فناخسرو وابن أخيه. ونفد إليه الجيوش. وذلك الذى أشغله عن الشام ومصر وأخبارهما. فلمّا أمن العزيز العساكر من جهة عضد الدولة نفد إلى دمشق سلمان بن جعفر بن فلاح فى أربعة آلاف من المغاربة، ووصل إلى دمشق فوجد قسّاما غالبا عليها. فنزل بستان الوزير فى زقاق الرمّان، وعسكره حوله. فثقل أمره على قسّام ورأى أميران تحكم فى البلد. وقد كان قسّام طمّع آماله وصنع أعلاما وطوارقا عليها صفة قحف. قيل إنه كان ترّابا زبّالا فجعل ذلك القحف رنكه. وكان قسّام هذا أصله من قرية من جبل سنير يقال لها تلفيثا. وكان من قوم يقال لهم الحارثيّون من بطن من العرب. فنشأ (ص 128)

بدمشق. وكان يعمل على الدواب فى التراب والزبل وغيره. ثم إنّه صحب رجلا يقال له ابن الجسطار ممن كان يطلب الباطل ويحمل السّلاح. فصار من حزبه، وترقّى أمره إلى ما ذكرنا. وطال المقام على سلمان بن جعفر فى غير شئ، وليس فى يده ما ينفق. فأراد أن يظهر صرامة ليتمكّن من البلد. فقال لقسّام: لا تحمّلن أحدا سلاحا. فأبوا عليه ذلك. فبعث إلى الغوطة من يسير فيها وينهى من يأخذ الخفارة أو يحمل السلاح. فعرّفوا قسّاما فقال: هذا ما لا يفكر فيه. ثم إنّ أصحاب سلمان بن جعفر وجدوا رجلا يقال له حميد ومعه ثلاثة يحملون السلاح. وكان ممن يأخذ الخفارة لقسّام. فأخذوا رؤوسهم. فكان ذلك سبب الحرب والقتال بين سلمان وبين قسّام. ثم إنّ قسّاما جمع مشايخ البلد وكتب محضرا أشهد فيه على نفسه أنّه يحمى البلد ممن يحضر إليها من جهة عضد الدولة فناخسرو، ويمنعها منه. وأنفذه إلى مصر. فوقع ذلك بغرض العزيز بالموافقة. وأنفذ رسلا من كتامة إلى سلمان أن يرتحل عن دمشق. فرحل عنها. وكان مقامه بها شهورا من هذه السنة. ورجع أبو محمود بعد مسير ابن فلاح إلى دمشق فى رسم وال، من طبرية، فى نفر يسير. وعاد أمر دمشق مستقّلا لقسام.

وفيها كانت عدة زلازل عظيمة فى عدّة أماكن، حتى ظنّوا الناس أنها القيامة قد قامت. وفيها توفى أبو عبد الله الحسين بن على البصرىّ، شيخ المعتزلة، رحمه الله.

ذكر سنة سبعين وثلاث مئة

ذكر سنة سبعين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: (ص 129) الماء القديم أربعة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة الطائع لله أمير المؤمنين. وعضد الدولة فناخسرو بحاله. والعزيز خليفة مصر. والوزير مدبّر الدولة ابن كلّس بحاله. وابن العدّاس على الخراج. والقاضى ابن النعمان مستمر على ولايته. ولمّا تمت للفضل الحيلة على أبى تغلب وقتل، عمدوا على الحيلة بابن الجرّاح وقسّام. فسار الفضل فى جيوشه وأظهر أنّه يريد حمص وحلب ليأخذهما من أيدى بنى حمدان. وكانتا، حمص وحلب، فى مدّة .

هذه السنين فى أيدى بنى حمدان حسبما يأتى من ذكرهم بعد ذلك. فلم يزل الفضل حتى نزل دمشق. وعلم ابن الجرّاح أنّ المكيدة به واقعة. فتلطّف من جهة العزيز حتى عفا عنه، بعد أن أشرف على الأخذ فى حديث طويل. وذلك فى صفر من هذه السنة. وكانت البلاد قد خربت مع ابن الجرّاح، حتى كان الإنسان يدخل الرملة فيطلب شيئا يأكله فلا يجده، ويرى الفلاّحين والمزارعين فى الأسواق يسألون الناس. وكان هذا الخراب والمجاعة فى أكثر بلاد الشام ما خلا حمص وحلب. فإنّه كان بحمص غلام تركى يسمى بكجور قأحسن السياسة فعمرت بلاده.

ذكر شئ من حديث بنى حمدان وبكجور

ذكر شئ من حديث بنى حمدان وبكجور قد تقدم القول فى ذكر بنى حمدان، وكان أول من ملك حلب منهم الحسين بن سعيد أخى أبى فراس، انتزعها من أحمد بن سعيد الكلابى صاحب الإخشيد. ثم ملكها سيف الدولة أبو الحسن علىّ ابن عبد الله بن حمدان فى سنة ثلاث وثلاثين وثلاث مئة. ثم صارت إلى ولده سعيد الدولة أبى المعالى. (ص 130) وكان من حديث بكجور أنّه كان مملوكا لقرعويه التركى مملوك سيف الدولة بن حمدان. وكان قرعويه قد تغلّب على حلب بعد سيف الدولة وأخرج ابن أستاذه منها فى حديث طويل. فسار ابنه أبو المعالى لمّا غلبه قرعويه فنزل ما بين حماة وحصن برزويه بعسكره. وكانت حمص فى ذلك الوقت قد أخربها الروم، فنزل أرقطاش التركى غلام سيف الدولة من حصن برزويه فلقى أبا المعالى مولاه، وأخرج له أموالا عمّر بها حمص، ونزلها أبو المعالى، وعمرت حمص. وكانت الروم دخلوها فى سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة وهى الدخلة الأولى، وزادت العمارة سنة فى سنة، وأبو المعالى يقوى بها. وكان قرعويه قد استناب غلامه بكجور. فلما قوى قبض على قرعويه وحبسه فى قلعة حلب. وملك حلب. وأقام بها نحوا من خمس أو ست سنين. وكوتب أبو المعالى من حلب وطمع فى أخذ البلد من رجال من أعوان قرعوية أن يكونوا معينين له

على تسليم البلد من بكجور. فجمع بنى كلاب ومن أمكنه وسار حتى إذا صار على معرّة النّعمان فتحها، وأخذ منها غلاما يقال له توزين فقتله. وسار فنزل على حلب. وذلك فى سنة ست وستين وثلاث مئة. فأقام بها نحوا من أربعة أشهر. ثم فتحها بالحيلة فى حديث طويل. وتحصّن بكجور فى القلعة، ونزل عليها أبو المعالى، ثم توسطوا بينهما أن ينزل من القلعة بكجور ويولّيه حمص. وتعاهدا على ذلك. فنزل بكجور من القلعة، فوفى له بالعهد وولاّه حمص فى هذه السنة المذكورة. فعمّر وزاد وأحسن السياسة. وكان أمره كل يوم فى (ص 131) زيادة. وعمر الطرقات من حمص إلى دمشق. وضربت إليه بنو عدى فأحسن إليهم وأنزلهم من أرض حمص إلى أرض دمشق. وكانت تنزل خيلهم فى أطراف الغوطة فى أوقات. والناس معهم تحت الخوف إلاّ قافلة تسير فى طريق حمص. وعمد بكجور إلى الأماكن المخيفة فعمر فيها أماكن وأبرجة منها الغسولة. وكذلك فى طريق طرابلس من حمص. فحسن حال بلده، وكثر المسافر إليه. وأمنت المواضع المخيفة. وكان الناس يعدمون ذلك فى غير عمله. وكان بكجور يكاتب العزيز نزارا بمصر ويكاتبه. وكان قد سيّر إليه أن يوليه دمشق. وكان العزيز قد رغب فى الجند وحملة السلاح فاصطنعهم وأجرى لهم أرزاقا وقدّمهم على المغاربة. وكان وزيره ابن كلّس قد أسّس له ذلك. وفيها توفى عضد الدولة فناخسرو، وقيل فى سنة إحدى وسبعين وثلاث مئة.

ذكر سنة إحدى وسبعين وثلاث مئة

ذكر سنة إحدى وسبعين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وسبعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وإصبعان. ما لخّص من الحوادث الخليفة الطائع لله أمير المؤمنين. وعضد الدولة مدبّر المملكة إلى حين توفى فى هذه السنة فى شوّال. وولى الملك مكانه ولده صمصام الدولة أبو كاليجار. وورد الخبر بموته على الوزير ابن كلّس. فدخل إلى العزيز فبشّره فخلع عليه. وكان يخشاه ويخافه. فلما أمن من جهة عضد الدولة جهّزوا إلى الشام عسكرا وجعلوا (ص 132) عليه غلام يقال له المصطنع.

وكان قد اتّفق لهم أنّ بشارة الذى تقدم ذكره فى هذا الكتاب أنفسد أمره مع مولاه أبى المعالى بن سيف الدولة بحلب. فهرب ومعه مئة رجل من أصحابه إلى مصر. وكان ذلك موافقا لابن كلّس. فأحسن إليه وأكرمه وولاّه طبرية فى هذه السنة. فلما ولى بشارة طبرية استجلب إليه الرجال من جند حلب، وضبط وعمر، وقوى أمره بها. وابن الجرّاح فى فلسطين يخربه ويأخذ أمواله. ولم يزل الحال كذلك حتى دخلت سنة اثنين وسبعين وثلاث مئة.

ذكر سنة اثنين وسبعين وثلاث مئة

ذكر سنة اثنين وسبعين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وسبعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع. وكان النيل فى سنة إحدى وسبعين وثلاث مئة قد بلغ من الزيادة إلى خمس عشرة ذراعا وإصبعين. ثم نزل حتى بلغ أربعة عشر ذراعا لعشر خلون من توت. ثم ردّ زيادته وبلغ ما ذكرناه بعد الخوف والوجل، ووقع الهيج فى الناس. ما لخّص من الحوادث الخليفة الطائع بحاله حسبما تقدّم من ذكر ذلك فى السنة الخالية. والعزيز كذلك بمصر.

وفيها كان الغلاء والوباء بمصر. وفنى عالم عظيم لا يعلم عدّتهم إلاّ الله عزّ وجلّ. والعساكر مهتّمين للخروج وهم وجلين من ابن الجرّاح. ثم إنّ ابن كلّس الوزير انتدب صبيا من الأتراك يقال له بلتكين التركى كان قد أهداه له هفتكين المقدّم ذكره. فولاّه أمر الجيش، وعزل المصطنع. فسار الجيش من مصر يجمع أجناس متفرّقة من عرب وعجم وترك وديلم ومغاربة ومصريّين وغير ذلك. فنزل الرملة، وهم تحت خوف ووجل. وتباعد ابن الجرّاح. وكان قد قوى جدا، ومعه أيضا عجم وجند يرمون بالنشّاب. وقد اجتمع إليه عرب كثير. وسار بشارة من طبرية. فاجتمعت العرب من قيس مع المغاربة. ثم انتشب الحرب بين الفريقين (ص 133) فجرى بينهم قتال يشيّب الأطفال. ثم إنّ بلتكين التركىّ، وهو مقدّم الجيش، انتدب معه جماعة من الترك وخرج على أصحاب ابن الجرّاح من خلفهم لمّا اشتد القتال. فانهزموا، وأخذهم السيف، ونهب عسكرهم. وانهزم ابن الجرّاح نحو الشمال حتى أخذ إلى أرض حمص فى البرّية. وأخذ فى جبل ابن مسعود حتى نزل على أنطاكية فاستجار بصاحبها فأمّنه.

وكان قد اتفق أنّ بادرس ملك الروم خرج من قسطنطينية فى عسكر عظيم يريد أرض الإسلام. وكان ابن الجرّاح لما نزل على أنطاكية خاف من الروم أن يقبضوا عليه ويشدّوه ويبيعوه إلى المغاربة أو لأبى المعالى ابن حمدان فيأخذه بما أسدى إليه من قتله أبى تغلب وإحراقه. فكاتب عند ذلك بكجور خوفا على نفسه. وكان قد علم بخروج الروم. وكان بلتكين قد سرى خلف ابن الجرّاح حتى وصل عسكره إلى دمشق. وعلم أنّ ابن الجرّاح وصل أنطاكية. فرجع عن دمشق إلى حصن كان له فى أيام هفتكين نحو جبال الشراة يقال له الكرك. فأخذه، وقتل من كان به. وكتب بذلك إلى مصر. فورد جوابه أن انزل على دمشق واجتهد فى أمر قسّام. وتحقق قسّام ذلك وهو بدمشق. فجمع الرجال من الغوطة وغيرها ورمّ شعث السّور، وضبط الأبواب، ونصب العرّادات. ونزل بلتكين التركى دمشق، وذلك فى ذى الحجة من هذه السنة. وكان على العطاء بالجيش ميشا بن الفرّار اليهودى. فتلطّف فى أمر قسّام أن يجرى أمره على غير قتال فلم يمكنه. وكان مع قسّام بدمشق جيش من الصمصامة شبه والى (كذا) من تحت أوامر قسّام، ومعه طائفة من المغاربة.

وكان قد ولى (ص 134) البلد بعد وفاة خاله أبو محمود سنة سبعين وثلاث مئة. فلما نزل بلتكين على ظاهر المزّة خرج إليه فسلّم عليه وعرّفه ما هو فيه من الضيقة مع قسّام، وأنّه قد انتدب للحرب. وكان بلتكين فى جيش كبير، ولم يكن خرج للمغاربة قبله أقوى منه، أكثرهم يرمون بالنّشاب. ثم كانت مراسلة بين ابن الفرّار وبين قسّام فى أن يسلّم البلد ويكون آمنا هو ومن معه، فلم يوافق على ذلك. ولم يزل الحال كذلك حتى دخلت سنة ثلاث وسبعين وثلاث مئة.

ذكر سنة ثلاث وسبعين وثلاث مئة

ذكر سنة ثلاث وسبعين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع فقط مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وإصبعان. ما لخّص من الحوادث الخليفة الطائع لله أمير المؤمنين. وبنى بويه على ما هم عليه بعد خلف كثير وقع بين أولاد عضد الدولة على الملك والرياسة. والمستقرّ منهم فى هذه السنة شرف الدولة أبو الفوارس. وقبض على صمصام الدولة وسمل. والعزيز بمصر. وقبض فى هذه السنة على الوزير ابن كلّس وعلى سائر أصحابه، وعاد التدبير إلى أبى محمد بن عمشار المغربىّ. والخراج إلى ابن العدّاس، والقاضى ابن النعمان بحاله.

فلما كان التاسع عشر من المحرّم وقع الحرب بين عساكر بلتكين وبين قسّام وأصحابه. وكان قد ورد كتاب من العزيز على بلتكين بحصار دمشق. فلما كان يوم الخميس ركب بلتكين وركب الجيش ووقع القتال، ولم يقاتل مع قسّام إلاّ من كان من حزبه من العيّارين ورجّالة القرى الذين جمعهم، وتنحوا (ص 135) عند أهل البلد لما فى قلوبهم منه، واستمرّ القتال والحصار إلى يوم الخميس الآخر. فكان مدّة هذا الحصار ثمانية أيام. ووقع الاتفاق أن يتسلم بلتكين البلد، ولا يتعرّض لقسّام ولا لأحد من أصحابه. وولّى البلد فى ذلك النهار حاجبا يسمى خطلخ فى خيل ورجل. ثم إن قسّام تخوّف فاختفى. ونودى عليه بالمدينة فلم يوجد. فدلّوا على زوجته وولده فوجدوهم فى كنيسة اليهود فأخذوا. وكان قسّام قد اختفى عند رجل فقير لا يؤبه إليه. فلما دخل الليل خرج إلى العسكر فوقف على خيمة ابن الفرّار اليهودى. فقال لمن حوله: رجل يريد الاجتماع بالريّس. قالوا: ومن هو؟ قال: قسّام. فدخل بعضهم فعرفه. ودخل عليه على أمان. ثم بعث إلى بلتكين: قد جاءنى قسّام مستأمنا. فانفذ بلتكين من ساعته حاجبه فى جماعة معهم قيد، فأخذوا قسّاما وقالوا له: مدّ رجليك. فقال: أنا جئتكم فى أمان. فرفع الحاجب الدبّوس فضربه به ثلاثا، وقيّد. ثم حمل بعد ذلك إلى مصر فعفى عنه على ما ذكر.

عاد القول إلى ذكر بكجور

وقد تقدّم ذكره وأصله وسبب توصّله. وهذا هو الرجل الزبّال الذى يعنون الناس عنه أنّه ملك دمشق. وربما آثار رنكه القحف على الطوارق، وجدت بدمشق إلى حين عبور قازان البلاد، والله أعلم. عاد القول إلى ذكر بكجور ثم إنّ بكجور وقع بينه وبين أبى المعالى بن سيف الدولة فى هذه السنة. وكان تحت وعد العزيز أن يولّيه دمشق. وكان العزيز قد رضى على وزيره ابن كلّس وأعاده إلى ما كان عليه، ووهبه خمس مئة غلام من الباسية وألف من المغاربة. وكان العزيز قد كتب إلى بكجور بولاية دمشق وكتب إلى بلتكين أن يسلّمه (ص 136) دمشق. فتقاعد بلتكين عن تسليمه. وكان قبل ذلك قد كتب بكجور إلى العزيز: أنفذ لى جيش آخذ لك حلب. فنفذ له. وكان بكجور قد جمع خلقا من بنى كلاب، فسار بجميع الجيوش حتى نزل حلب فحاصرها مدة يسيرة، وبادريس ملك الروم على أنطاكية. فعمل على أن يكبس على بكجور، وهو على حصار حلب. فكتب إليه ابن الجرّاح يحذّره ذلك. فارتحل عن حلب. وسار عسكر الروم خلفه. وسبق بكجور حتى نزل حمص. وشال جميع ما كان يعزّ عليه ويملكه إلى بعلبكّ. وارتحل إلى جوسية

ومعه خلق مجفلين. وسار بادريس فى إثر بكجور فنزل على ميماس حمص فلم يعرض للبلد، ودخل المدينة ونظر الكنيسة وخرج من البلد، ورحل يريد البقعة طالبا طرابلس. فذكر أنه أنفذ إلى حمص رسولا يقول لهم: نريد مالا. فقال أهل حمص: هذا بلد خراب ليس فيه مال. فرجع ونزل حمص وقال لأهلها: من خرج من البلد فهو آمن. فخرج قوم وجلس قوم. فدخل عسكره البلد فنهب وسبى وأحرق الجامع. ودخل كثير من الناس فى مغاير نحو الباب الشرقى، فدخّن عليهم فقتلهم الدخان. ولم يعرض للقرى، ولا لمن هرب إليها. وكان دخول الروم حمص يوم الثلاثاء التاسع عشر من جمادى الأولى من هذه السنة، وهى دخلة الروم الثانية حمص. وقال قوم: إنّ أبا المعالى ابن سيف الدولة خاف بكجور فبعث إلى بادريس أن أخرب حمص. فإنّ الروم كانوا مهادنين حلب وهى فى خفارتهم. ولم يزل بلتكين يسوّف بكجور الأوقات فى تسليم دمشق بمكاتبات الوزير ابن كلّس إلى بلتكين. وكان الوزير لا يودّ أن يكون بكجور بدمشق، فلما علم العزيز أنّ بكجور ممنوع من التسليم (ص 137) وفهم أنّ ذلك من مكر الوزير أنفذ رجلا من الكتّاب يقال له ابن غياث ومعه خلع، وكتب إلى بلتكين وبكجور وسائر القوّاد. فخلع على بكجور

وبلتكين وأمره بالمسير والتسليم لبكجور، فسلّم إليه البلد وعاد بلتكين متوجّها إلى مصر يوم الأحد مستهل رجب من هذه السنة. ودخل بكجور يوم السبت لسبع خلون من رجب. وكان قد علم أنّ الذى كان صدّه هذه المدّة عن ولاية دمشق ابن كلّس الوزير. وكان لابن كلّس بأعمال دمشق ضياع، ووكيله بها رجل يقال له ابن أبى العود. وكان يهوديا. فشرع فى معاندة الوكيل، وحطّ على جميع أملاك الوزير ابن كلّس، وعمل على الوكيل حتى ذبح فى بيته. فلما بلغ الوزيز ذلك غمّه وقال للعزيز: هذا أول عصيان بكجور وسوف ترى ما يكون منه. وكان ابن الجرّاح قد قدم معه وصار فى جملته. وقد أقام بكجور بالبلد يظلم ويجور ويعسف بالنّاس ويجمع الأموال لنفسه مدّة سنة أربع وسبعين وسنة خمس وسبعين إلى سنة ست وسبعين حسبما يأتى من ذكر ذلك. وفيها غلت الأسعار جدا بمصر والشام والعراق، وجاع الناس مجاعة عظيمة، وبلغ الكيل الحنطة مالا جزيلا لا يصدّقة العقل. وفيها توفى معين الدولة بجرجان والله أعلم.

ذكر سنة أربع وسبعين وثلاث مئة

ذكر سنة أربع وسبعين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع فقط مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة الطائع لله أمير المؤمنين. وشرف الدولة بن بويه مدبّر المملكة (ص 128). والعزيز بمصر. والوزير ابن كلّس مدبّر الدولة. وقد قوى أمره كأعظم مما كان. والغلاء مستمرا، والناس فى مجاعة لا رأوا مثلها فى سائر الأقاليم. وعمّ الغلاء حتى جزائر الفرنج مع بلاد الروم، وكانوا سنين صعبة.

فنعوذ بالله من أمثالهم ونسأله الإعانة على ما بقى إنّه ولىّ ذلك والقادر عليه. وفيها توفيا عقيل وتميم ولدى المعز بالله فى ذى القعدة منها. وفى سنة أربع وسبعين توفى القاضى علىّ بن النعمان وولى مكانه أخوه أبو عبد الله محمّد.

ذكر سنة خمس وسبعين وثلاث مئة

ذكر سنة خمس وسبعين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع واثنين وعشرين إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشرة ذراعا وعشرة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة الطايع لله أمير المؤمنين. وتوفى شرف الدولة ابن عضد الدولة. وولى الأمر بتدبير الممالك الخليفية بهاء الدولة أبو نصر. والعزيز بمصر. والوزير ابن كلّس مدبّر دولته. وفيها ولد الحاكم منصور ابن العزيز فى تاريخ ما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر سنة ست وسبعين وثلاث مئة

ذكر سنة ست وسبعين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة الطائع لله أمير المؤمنين. وبهاء الدولة أبو نصر مدبّر المملكة. والعزيز بمصر. والوزير ابن كلّس مدبّر الدولة العزيزية. والخراج لابن العدّاس. وصاحب الشرطة ميمون بن دية، وخليفته ابن سعد الحلولى المغربى. والقاضى أبو عبد الله محمد بن النعمان. والله أعلم. (ص 139) وفيها توفى شاذى الكردى صاحب آمد، وملك ابن أخيه مروان.

وفيها أنفذ حاجب كان بالرقّة، ممن ولاّه فناخسرو، إلى بكجور بأن يسلّم الرقّة إلى العزيز خليفة مصر. وذلك أنّ أولاد فناخسرو لما اختلفوا من بعده خشى هذا الحاجب على نفسه من بهاء الدولة الذى تولّى منهم. فأنفذ إلى بكجور بسبب ذلك. فأنفذ بكجور إليها غلامه وصيقا فى عسكر فأخذها. ووجد الحاجب الذى بها عليلا فلم يلبث إلاّ القليل حتى مات الحاجب. فأخذ وصيف موضعه، وأقبل بكجور يسير إليه بما يجمعه بدمشق من الأموال والسلاح وغيره.

ذكر سنة سبع وسبعين وثلاث مئة

ذكر سنة سبع وسبعين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة الطائع لله أمير المؤمنين. وقيل فى هذه السنة توفى شرف الدولة بن عضد الدولة وتولى أخوه بهاء الدولة حسبما تقدم من ذلك. والعزيز خليفة مصر والشام. وبكجور بدمشق من قبل العزيز. وقصد الوزير ابن كلّس أن يتحيّل على بكجور بمن يقتله غيلة. فأنفذ إلى غلام نصرانى عطّار يسمى ابن الكويّس من أهل دمشق فوعده أن يرفعه إن هو احتال على قتل بكجور. فاطّلع بكجور على ذلك. فقبض على ابن الكويّس مع جماعة من أصحابه فأكحلهم وصب

ابن الكويّس، بعد ما استصفى ماله، ومعه رجلان يقال لأحدهما السويق والآخر يعرف بابن البازل صلبهما أيضا فماتوا جميعا. وذلك فى شهر رمضان، (ص 140) وضيّق على وكلاء الوزير ابن كلّس، فكانت أمورهم معه تجرى على ذلّ عظيم، وهم يكتبون بذلك إليه. وكان المتولّى لأمور السلطان بدمشق ابن أبى العود الصغير. وكان قد ولى الأمر بعد قتل أخيه. وكان بكجور قد جار بدمشق جورا عظيما. وكان مذ ولّى لم يترك القتل والصلب. وكانت الكتب ترد عليه من العزيز فيعمل بضدّها. ولم يزل كذلك إلى أن دخلت سنة ثمان وسبعين وثلاث مئة. وفى سنة سبع خرجت العساكر إلى الحجاز من مصر وعادت الحجاز بيد المصريّين. وعاد الجيش من الحجاز فى سنة ثمان وسبعين ومعهم رأس ابن أبى حازم. وفى سنة سبع كانت الزلزلة بمصر، وكذلك بالموصل، وهدمت آدر كثيرة من الإقليمين. وفيها تأخرت الأمطار إلى نصف كانون وتلف جميع ما بدروه الناس

ذكر سنة ثمان وسبعين وثلاث مئة

ذكر سنة ثمان وسبعين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة الطائع لله أمير المؤمنين. وبهاء الدولة ابن عضد الدولة مدبّر الممالك الخليفية. والعزيز بمصر. والوزير ابن كلّس بحاله مدبّر الدولة. وفيها خرج منير الخادم من مصر فى جيش عظيم بسبب بكجور وابن الجرّاح. وكتب إلى العرب من قيس وغيرها بالمسير مع منير وقلع ابن الجرّاح. وكانت العرب من قيس تنزل أرض عمّان. وسار منير فنزل الرملة، وجمع إليه الولاة والنوّاب من سائر الأعمال. وكان بكجور قد وقع بينه وبين بشارة والى طبرية. فأنزل ابن الجرّاح

السواد وطمّعه فى ضياع ابن كلّس الوزير وكاشف بالعصيان. وأخلى بشارة لابن الجراح السواد خوفا منه. فلما قارب منير السواد تباعد ابن الجرّاح إلى أعمال دمشق. ثم إنّ بكجور جمع إليه بنى كلب واستعد للقتال. ونفذ منير سرية من بنى عقيل وفزارة فوقعوا على فرقة (ص 141) من عرب ابن الجرّاح فأتوا عليها. ونزل منير الخادم على الفوّار شهرين ليس له جسارة على بكجور ولا على ابن الجرّاح. وكان ابن الجرّاح انهزم من سريتهم فطمعوا فيه. وكان المدبّر لعسكرهم ابن الفرّار اليهودى المقدم ذكره. فراسل بكجور: إنّا لم نجئ لقتالك، وإنما جئنا لنخرج ابن الجرّاح من العمل لفساده. فالواجب أن تكون أنت معين للسلطان عليه، ونسير بعد ذلك إلى حلب وأنطاكية. فعلم بكجور أنّ ذلك خديعة له. وكان قد اشتدّ خوفه وقلقه من أهل البلد لما كان أسداهم من قبيح السيرة فيهم. فسيّر إلى ابن عليّان العدوى، فأتاه فى خيل ورجل. وأضاف إليهم بكجور ثلاث مئة رجل من <بنى> جعفر بن كلاب. وأنفذهم ولم يخرج من المدينة خوفا من أهلها لا يمنعونه من العود إليها. وبلغ منير وبشارة مسير القوم إليهم، فقدّروا أنّ بكجور وابن الجراح والجمع بأسره يأتيهم. فشدّوا

عليهم. وتقدّمت كلّ طائفة إلى الأخرى، فحملوا بجمعهم على الكلبيين والعدويّين فلم يثبتوا لهم. فهزموهم حتى لحقوهم بحيطان داريا. فرجعوا فى أسوإ حال إلى بكجور. فاشتدّ عند ذلك خوفه، وراسل القوم: إنى أسلم إليكم البلد وأرحل عنها. واتفق الحال بينهم على ذلك. فخرج ليلة الثلاثاء النصف من رجب من هذه السنة وسار بماله ورجاله إلى الرقّة، ورجع عنه عليّان العدوى وابن الجرّاح فدخلوا البرية. وكان منير وبشارة وابن الفرّار قد نفذوا إلى نزّال والى طرابلس بأن يأتيهم ليكونوا يدا واحدة على بكجور، فلم يأتيهم إلى يوم الخميس بعد خروج بكجور. وكان هذا سبب موافقتهم لبكجور على الخروج. فلما بلغ الوزير ابن كلّس ذلك (ص 142) وأن بكجور خرج سالما وصار بالرقة خشى عاقبته. ثم بلغه أنه قد ولى حمص من قبل أبى المعالى صاحب حلب فقال: يجاورنا بكجور وقد جاهرناه بالعداوة؟ وكان بكجور قد عاد إلى حمص بولاية أبى المعالى له. فكاتبه ابن كلّس بمكره وخديعته: إنّا لم نريد انتزاحك عن دمشق، وإنما كان المقصود ابن الجرّاح فتستمر على ضياعك وما كان مقررا لك بدمشق على عادتك، فإنّ أمير المؤمنين لم يأمر فيك بعزل. فقبض بكجور تلك السّنة مغلاّته وخراجه مع جميع ما كان له بأعمال دمشق من غير معارض له فى ذلك.

ذكر سنة تسع وسبعين وثلاث مئة

ذكر سنة تسع وسبعين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع فقط. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المطيع لله أمير المؤمنين. وبهاء الدولة أبو نصر بن عضد الدولة فناخسرو ابن بويه مدبّر الممالك الخليفية. والعزيز بمصر. ومدبّر دولته الوزير ابن كلّس بحاله. والجيوش مع منير الخادم، وبشارة على دمشق.

وبكجور بحمص من قبل أبى المعالى سعد الدولة بن سيف الدولة ابن حمدان. فلما تحقّق ابن كلّس إقبال صاحب حلب وهو أبو المعالى المذكور على بكجور شرع فى الفتنة بينهما بمكاتباته وحيله، حتى حصلت الوحشة بينهما حسبما يأتى من ذكر ذلك فى تاريخه إن شاء الله تعالى.

ذكر سنة ثمانين وثلاث مئة

ذكر سنة ثمانين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: (ص 143) الماء القديم ثلاثة أذرع فقط. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة الطائع لله أمير المؤمنين. ومدبّر ممالكه بهاء الدولة ابن عضد الدولة، وقد وقع الوحشة بينهما. والعزيز خليفة مصر على حاله. وفيها توفى الوزير أبو الفرج يعقوب بن كلّس ليلة الاثنين لخمس خلون من ذى الحجة. وصلى عليه العزيز بنفسه. وكان إقطاعه من العزيز فى كلّ سنة مئة ألف دينار، ووجد له من الجوهر بتركته ما قيمته أربع مئة ألف دينار، ومن الذهب العين خمس مئة ألف دينار، ومن الأوانى والمصاغات والمركوب والملبوس ما قيمته مثلها،

ووجد له من المماليك والعبيد والغلمان أربعة آلاف غلام، وثمان مئة حضيّة خارجا عن جوارى الخدمة. وكان ابن كلّس هذا أصله يهوديا من أهل بغداد، صاحب دهاء ومكر، خبيرا بأحوال الناس، ذو ذكاء وفطنة وكتابة وعبارة. ثم إنه خرج إلى الشام فنزل الرملة فجلس وكيل للتجار بها. فلما اجتمعت عنده جملة من أموال التجار أخذها وهرب إلى مصر. وكان ذلك فى أيام كافور الإخشيدى صاحب مصر يومئذ. وكان إذا دخل ضيعة تعرّف جميع أحوالها على صحّة. ثم كثرت أحواله بمصر فكان لا يسأل عن شئ من أمور القرى والضياع فى إقليمى مصر والشام إلاّ أخبر بذلك عن صحّة. فبلغ خبره كافور. فقال: لو كان هذا مسلما لصلح أن يكون وزيرا. فبلغه ذلك. فطمع فى الوزارة. فدخل يوم جمعة الجامع بمصر وقال: أنا مسلم على يد الأستاذ كافور. (ص 144) فبلغ الوزير ابن حنزابة ما هو عليه، وما قصد أن يكون، وما قد طمع فيه، فقصده بالمكروه. فهرب منه إلى المغرب وقصد إلى يهودا كانوا مع أبى تميم، وهم المتولّين على أمره، فصارت له عندهم

درجة. ونظروا منه إلى رجل فيه تدبير وفطنة وذكاء. فكان عندهم مقدّما. ولم يزل معهم إلى أن أخذ أبو تميم وهو المعزّ مصرا. فسار معه إليها. فلما توفى أبو تميم وجلس ولده نزار وهو العزيز على الأمر استوزره فى سنة خمس وستين وثلاث مئة، فلم يزل مدبّرا لأمره حتى توفى فى ذى الحجة من هذه السنة. قلت: وهذا هو الصحيح. فإنّ ابن كلّس لم يل الوزارة إلاّ فى أيّام نزار، ولم يكن له فى أيّام المعزّ وزارة. والله أعلم.

ذكر سنة إحدى وثمانين وثلاث مئة

ذكر سنة إحدى وثمانين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم ثلاثة أزرع واثنا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة الطائع لله أمير المؤمنين إلى أن خلع فى هذه السنة، قبض عليه بهاء الدولة أبو نصر ابن عضد الدولة يوم السبت لاثنتى عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة إحدى وثمانين وثلاث مئة. وهى هذه السنة المذكورة، وخلع نفسه بعد أن بويع للقادر بالله. وقطع شئ من إحدى أذنيه فيما يذكر. وتوفى يوم الثلاثاء سلخ شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاث مئة. مدّة ولايته الأمر سبع عشرة سنة وتسعة أشهر وخمسة أيام. صفته: ربعة، أبيض إلى صفرة، أجعد، كثّ، والله أعلم. نقش خاتمه: الطائع لله مطيع. وقد تقدم ذكر وزرائه.

ذكر خلافة القادر بالله بن إسحاق بن المقتدر وما لخص من سيرته

ذكر خلافة القادر بالله بن إسحاق بن المقتدر وما لخّص من سيرته هو أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر جعفر. وباقى نسبه قد تقدّم. أمّه أمّ ولد تسمّى تمنى. بويع له لتسع بقين من شعبان سنة إحدى وثمانين وثلاث مئة هذه السنة، وأحضر من البطايح، وأدخل إلى دار الخلافة، وجدّدت له البيعة فى شهر رمضان من هذه السنة المذكورة. ولم يزل خليفة إحدى وأربعين سنة وثلاثة أشهر. دبّر ممالكه فى أيامه بهاء الدولة إلى أن توفى. فولى ابنه سلطان الدولة إلى أن توفى. فولى أخوه أبو على مشرف الدولة حتى توفى. فولّى أخوهما جلال الدولة بغداد خاصّة، وباقى الأعمال أبا كاليجار ابن سلطان الدولة. والعزيز بمصر خليفة. والقاضى بها محمد بن النعمان. وولاة الخراج علىّ بن عمر، وموسى بن سهل، وجبريل. وفيها ضمن علىّ بن عمر المعروف بابن العدّاس مال الدولة والنفقات. فنظر فى الأمور جميعها، وجلس فى القصر فى حجرة أفردت له، وفرش له مرتبة ديباج.

وفيها قتل بكجور. وسبب ذلك أنّ القول تقدم أن ابن كلّس كان قد ألّب بين أبى المعالى بن سيف الدولة صاحب حلب وبين بكجور، حتى طمع كلّ واحد منهما فى أخذ الآخر. فاحتال أبو المعالى على بكجور، وكتب إليه بعض أصحابه من خاصة أبى المعالى بأذنه له فى ذلك: أن سر إلينا حتى نأخذ حلب ونحن معك على صاحبنا. فظن أنّ ذلك حق. فجمع وسار إلى حلب. وخرج إليه أبو المعالى فالتقوا فى موضع يقال له دوّارة الحمار. فاقتتلوا، وانهزم بكجور. فأخذه رجل من العرب وأتى به إلى أبى المعالى فضرب عنقه. وكانت هذه الوقعة يوم السبت مستهل (ص 146) صفر من هذه السنة. ثم سار أبو المعالى إلى الرقّة فأخذ ما كان لبكجور بها، وملك فى هذه السنة الرحبة ورجع إلى حلب. وتوفى أبو المعالى بن سيف الدولة لمذكور فى هذه السنة فى شهر رمضان، وطمع منير الخادم فى أخذ حلب كما يأتى ذكر ذلك.

ذكر سنة اثنين وثمانين وثلاث مئة

ذكر سنة اثنين وثمانين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع واثنا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. ومدبّر ممالكه بهاء الدولة ابن عضد الدولة. والعزيز خليفة مصر. وقبض على ابن العدّاس واعتقل. وفوّض الأمر فى تدبير الدولة إلى أبى الفضل جعفر بن الفرات، ثم رفعت يده فى شعبان، وتفرّق تدبير الأموال والأحوال جماعة من الكتاب. منهم ابن مهلون، وعيسى بن نسطورس، ويحيى بن تمام، وإسحاق بن المنشا وغيرهم.

وفيها غلت الأسعار بالعراق حتى أبيع الرطل الخبز بالبغدادى بأربعين درهم. وهلك عالم عظيم من الجوع، وانكشفت فى هذه السنة أحوال كثيرة من مساتير بغداد. وكان بدمشق ابن أبى العود الصغير من قبل السلطان على الأموال، وكان شديد المعاندة لمنير الخادم. ويكاتب فى حقّه أنه عاصى، وأنه يكاتب بغداد. فلما كثرت مكاتبته بذلك إلى العزيز، وكان العزيز قد اصطنع تركيّا يقال له منجوتكين، فجهّزه بعسكر كثيف إلى الشام. فلما صحّ عند منير أن ابن أبى العود قد استجلب عليه عسكرا قتله، وكاشف (ص 147) بالعصيان، ونزل العسكر مع منجوتكين التركىّ الرملة، ووافاهم بشارة والى طبريّة، وكتبوا إلى نزّال والى طرابلس أن ينزل على دمشق. وكان منير الخادم قد جمع رجاله من أهل دمشق ممن يطلب الباطل واعتدّ للحرب. والتقى منير ونزّال بمرج عذرا. فانهزم منير، وذلك <فى> التاسع عشر من رمضان هذه السنة. ولما انهزم منير أخذ فى الجبال حتى خرج إلى أرض جوسية يريد حلب. فخرجت عليه أحلاف العرب فأخذوه، وأتوا به إلى منجوتكين وهو بدمشق. فشهرّه منجوتكين على جمل، وأركب معه قردا، وشهر معه من أصحابه نحو مئة رجل

على الجمال، وعليهم الطراطير. وذلك أنهم انقطعوا فدخلوا بعلبكّ، فأخذهم وال بها يقال له جلّنار فأحضرهم. وكان من أمرهم ما ذكرنا. وأقام منجوتكين بدمشق. وطمعوا فى أخذ حلب بعد موت سعيد الدولة أبو المعالى. ثم نزل منجوتكين حلب بعد ما اجتمع إليه خلق كثير من جبل السمّاق وغيره، وأجلب بخيله ورجله، وذلك فى سنة أربع وثمانين وثلاث مئة حسبما يأتى من ذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر سنة أربع وثمانين وثلاث مئة

ذكر سنة أربع وثمانين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع واثنان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. ومدبّر ممالكه بهاء الدولة ابن عضد الدولة. والعزيز خليفة مصر، وولاة الأمور على ما تقدم. (ص 148) وفيها كان الحصار على حلب، والحمدانيين بها من قبل أبو المعالى بعد وفاته، ومنجوتكين المحاصر لها. فحاصرها نحو من شهرين فى هذه السنة. فتجمّعت الروم بأنطاكية مع واليها البرجى يريدون النجدة لحلب، لما كان بينهم من المهادنة والشروط. وكان قد خرج إليهم من داخل الروم رئيس لهم فى جمع كثير يقال

له أصابع الذهب، فساروا بجموعهم حتى نزلوا على الروج نحو فامية على النهر المقلوب. فسار منجوتكين إليهم، ونزل مقابلهم، وكان عسكره أكثر من عسكر الروم. فلما نظرت الروم إليهم قال البرجى لأصابع الذهب: الصواب أن لا نبرز إليهم لأنهم أكثر منا. وقد كانت الروم فى القديم يخرجون لكلّ رجل من المسلمين عشرة منهم فى الحرب. فخالفه أصابع الذهب لجهله بذلك. فكانت الكسرة على الروم، وكسبوا منهم أموالا عظيمة. وقتل منهم نحو من خمسة آلاف رجل، وانهزم البرجى إلى أنطاكية، وعاد منجوتكين إلى حصار حلب، واشتدّ بأهلها الحصار وأكلوا الميتات، وخرج منها خلق كثير من الضرّ فاستباحتهم المغاربة. ولم يزل البلاء والحصار على حلب بقيّة سنة أربع إلى أن دخلت سنة خمس حسبما يأتى من ذكر ذلك.

ذكر سنة خمس وثمانين وثلاث مئة

ذكر سنة خمس وثمانين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وخمسة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. ومدبّر الدولة بهاء الدولة بحاله. (ص 149) والعزيز خليفة مصر. وغلب حمدان على الصعيد، فخرج إليه ابن الزبير وواقعه وأخذه أسيرا، ودخل به مصر على جمل وعلى رأسه طرطور. وفيها توفيت السيّدة والدة العزيز. وعزل الجعفرىّ عن إمامة الجامع، ووليه سليمان بن رستم. والقاضى محمد بن النعمان بحاله.

وفيها وصل صاحب الروم إلى نجدة أهل حلب، بعد أن كادوا يهلكون جميعا. وقطع ملك الروم وهو بسيل الملك من قسطنطينية إلى حلب فى سبعة عشر يوما مسافة تقطعها القوافل فى شهرين، ولم يعلم أنّ أحدا من ملوك الروم فعل ذلك. ولما أحسّ بذلك منجوتكين رحل إلى حلب وسبق نزول بسيل الملك عليها بيومين، وأغاث الله أهل حلب بنزول الروم عليهم فخرجوا، وكثر الداخل والخارج، وأتتهم القوافل بالطعام، وعاشوا بعد موت. لكن حصل الجفل فى سائر تلك الأراضى خوفا من الروم. وكانوا المغاربة الذين مع منجوتكين على الناس أصعب من الروم فى النهب والفساد.

ذكر سنة ست وثمانين وثلاث مئة

ذكر سنة ست وثمانين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وفيها توفى بهاء الدولة. وولى ولده سلطان الدولة أبو شجاع، وعاد مدبّر الممالك الخليفيّة. والعزيز خليفة مصر، وهو مبرّز على العباسيّة، وصحبته القاضى ابن النعمان، وخليفته بالقاهرة ياس الأستاذ. وفيها توفى العزيز (ص 150) ببلبيس فى الحمّام لليلتين بقيتا من شهر رمضان من هذه السنة. وله إحدى وأربعون سنة وشهور. وكانت خلافته مصر وما معها إحدى وعشرون سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام.

وقيل كان عمره اثنان وأربعون سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام والله أعلم. قلت: قد تقدّم القول فى ذكر مدائح من تقدمه من آبائه وجدوده. ولنذكر الآن ها هنا طرفا مما مدح به المعزّ والده، وما مدح هو به أيضا مما اخترناه من حرّ المديح الذى إليه قلب كل ذو لب يستريح.

المعزيات

المعزيّات ابن هانئ الأندلسى محمد الذى فضل فى الإحسان أبناء جنسه، وسلك فى مدح الخلفاء طريقا لم يأنس فيها بغير نفسه، وأتى من المجالس الباهرة بما لم يعرف من قبله، وأبان بإعرابه عن غزارة طبعه وسعة فضله. فمن ذلك قوله من قصيدة افتتحها منها: هل كان ضمّخ بالعبير الرّيحا … مزن يهزّ البرق فيه صفيحا ومنها: ولقد تجهّمنى فراق أحبّتى … وعدا سنيح الملهيات بريحا وبعدت شأو مطالب وركائب … حتى امتطيت إلى الغمام الرّيحا حجّت بنا حرم الإمام ركايب … ترمى إليه بنا السّهوب الفيحا فتمسّحت لمم به شعث وقد … جئنا نقبّل ركنه الممسوحا هل إلى الفردوس من أرب وقد … شارفت بابا دونها مفتوحا فى حيث لا الشّعراء مفحمة ولا … شأو المدايح يدرك الممدوحا

يمضى العطايا والمنايا وادعا … تعبت له عزماته وأريحا وأميّة تحفى السؤال وما لمن … أودى به الطوفان يذكر نوحا قلت: وعلى ذكر الطوفان فلقد أحسن القائل ولا أرويه فى مدح عامل طرابلس الشام. والمشهور من ذلك قول أبى الطيّب المتنبى: وخشيت منك على البلاد وأهلها … ما كان أنذر قوم نوح نوح ومن قصيدة ابن هانى: أنفذ قضاء الله فى أعدائه … لتراح من أوتارها وتريحا بالسّابقين الأوّلين يؤمّهم … جبريل يعتنق الكماة مشيحا فكأن جدّك فى فوارس هاشم … منهم بحيث يرى الحسين ذبيحا وقلت: وهذا أبلغ ما قيل فى إغراء. وقصائد ابن هانى ومدائحه كثيرة، وإنما نتبع ما قيل من حرّ المدائح. فمن ذلك قوله: أغير الذى قد خطّ فى اللوح أبتغى … مديحا له إنّى إذا لعنود ومن أخرى: إذا أنت لم تعلم حقيقة فضله … فسائل به الوحى المنزّل تعلم

فأقسم لو لم يأخذ الناس فضله … عن الله لم يعقل ولم يتوهّم وأىّ قوافى الشّعر فيك أحوكها … وهل ترك التنزيل من متردّم يقال ردم ثوبه إذا رقعه. والمعنى هل ترك التنزيل قولا لقائل. وقوله: من يشهد القرآن فيه بفضله … وتصدّق التوراة والإنجيل فافخر فمن أنسابك الفردوس إن … عدّت ومن أحسابك التنزيل قلت: وكان سبب صلة محمد بن هانى بالمعزّ حكاية من أطرف ما يسمع وألطف حديث يرفع، وإن كان فيه طول وخروج عن القصد فى تلخيص التاريخ فإنه كما قيل: (ص 152) إن كان طال فإنّه … ليل الوصال بأنسه قد قصرا (كذا) وذلك أنّ محمد بن هانى الأندلسى المذكور لما بلغه سماحة جعفر ملك الزاب واشتماله على الشعراء والفضلاء قصده وقطع إليه البحر، وصنع فى طريقه القصيدة التى لم تجد قصيدة جمعت <من> أوصاف النجوم ما جمعته، مع ارتفاع الطبقة وسعادة الطالع فى اطّراد النظم وحسن التأتّى. وها أنا أثبتها إلى أول بيت مخلصها وأردفه بما حسن من مديحها، وإنها إلى

هنالك كالبيت الواحد، حسن نسق وخفّة مؤنة على السمع واتصال غوص، وهى هذه: أليلتنا إذ أرسلت واردا وحفا … وبتنا نرى الجوزاء فى أذنها شنفا وبات لنا ساق يصول على الدجى … بشمعة صبح لا تقطّ ولا تطفا أغنّ غضيض خفّف اللّين قدّه … وأثقلت الصهباء أجفانه الوطفا ولم يبق إرعاش المدام له يدا … ولم يبق إعنات التثنّى له عطفا نزيف قضاه السكر إلاّ ارتجاجه … إذا كلّ عنها الخصر حمّلها الرّدفا يقولون حقف فوقه خيزرانة … أما يعرفون الخيزرانة والحقفا جعلنا حشايانا ثياب مدامنا … وقدّت لنا الظلماء من جلدها لحفا فمن كبد تدنى إلى كبد هوى … ومن شفة توحى إلى شفة رشفا بعيشك نبّه كأسه وجفونه … فقد نبّه الأبريق من بعد ما أغفى وقد فكّت الظلماء بعض قيودها … وقد قام جيش الفجر للّيل واصطفا وولت نجوم للثريّا كأنّها … خواتيم تبدو فى بنان يد تخفى

ومرّ على آثارها دبرانها … كصاحب ردء كمّنت خيله خلفا وأقبلت الشّعرى العبور ملبّة … بمرزمها اليعبوب تجنبه خلفا وقد بادرتها أختها من ورائها … لتخرق من ثنيى مجرّتها سجفا تخاف زئير اللّيث قدّم نثرة … وبربر فى الظلماء ينسفها نسفا كأن السّماكين اللّذين تظاهرا … على لبدتيه ضامنان له حتفا فذا رامح يهوى إليه سنانه … وذا أعزل قد عضّ أنمله لهفا كأنّ رقيب النجم أجدل مرقب … يقلّب تحت الليل فى ريشه طرفا كأنّ بنى نعش ونعشا مطافل … بوجرة قد أضللن فى مهمه خشفا كأن سهيلا فى مطالع أفقه … مفارق إلف لم يجد بعده إلفا كأنّ سهاها عاشق بين عوّد … فآونة يبدو وآونة يخفى كأنّ معلّى قطبها فارس له … لواآن مركوزان قد كره الزحفا كأنّ قداما النّسر والنسر واقع … قصصن فلم تسم الخوافى به ضعفا كأنّ أخاه حين دوّم طائرا … أتى دون نصف البدر فاختطف النصفا كأنّ الهزيع الآبنوسىّ وهنة … سرى بالنسيج الخسروانىّ ملتفّا

كأنّ ظلام الليل إذ مال ميلة … صريع مدام بات يكرعها صرفا كأنّ عمود الفجر خاقان معشر … من الترك نادى بالنجاشىّ فاستخفى كأنّ لواء الشمس غرّة جعفر … رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا ومن مليح مديحها الذى يهزّ الجماد قوله: إذا أصلدوا أورى وإن عجلوا ارتأى … وإن بخلوا أعطى وإن غدروا وفّا فللمجد ما أبقى وللجود ما أفتنى … وللناس ما أبدى ولله ما أخفى قلت: ولاشتهار هذه القصيدة واشتغال القلوب بحفظها والآذان بسماعها عمل الخفاجى قصيدة على وزنها ومعناها، فمن غزلها: (ص 154) وهاتفة فى البان تملى غرامها … علينا، وتتلو من صباباتها صحفا عجبت لها تشكو الفراق جهالة … وقد جاوبت من كلّ ناحية إلفا ومن مدحها: ولو صدقت فيما تقول من الجوى … لما لبست طوقا ولا خضبت كفّا وأبلج أحيا دارس العدل بعد ما … ثوى، وشفى المعروف من بعد ما أشفا جرى سابقا فى حلبة المجد وحده … وقال المعدّى كان الغمام له ردفا

ولنعود إلى حكاية ابن هانى مع جعفر ملك الزاب. وكان لجعفر وزير يحسد من يقرب منه من أهل الفضل البارع. فعلم ابن هانى أنه إن علم بمقدار فضله حجبه أو أبعده قبل الوصول إليه. فاحتال أن لبس ثياب البداة الجفاة والتفّ فى كسائه وأخذ فى يده كتف دابة باليا وكتب متمسخرا: الليل ليل والنهار نهار … والبغل بغل والحمار حمار والديك ديك والدجاجة زوجه … وكلاهما طير له منقار ووقف على باب الوزير واستأذن أحد الحجاب وقال: قل للوزير شاعر قد جاء بقصيدة للملك. فقال: وأين قصيدتك؟ قال: تراها فى هذا العظم. فضحك الخادم من زيّه، وأطرف بذلك الوزير فقال: ما نطرف الملك بشئ مثل هذا. وأحضره وسمع شعره. فكاد يغشى عليه من الضحك. وأعلم به جعفرا. فقال: أدركنا به. فأدخله ووقف لينشد ما فى العظم. فأنشد هذه القصيدة الفائيّة المقدّم ذكرها من صدره. فبهت جعفر وكلّ من حضر. وكان مجلس جعفر محشورا من ولد سام وحام، فإنّ المنهل العذب كثير الزحام. فلما وصل إلى أوّل بيت من مخلصها لم يصبر عليه جعفر حتى (ص 155) قال له: بحياتى

أنت ابن هانى؟ قال: نعم. قال: وما حملك على هذا؟ قال: هذا الوزير الذى لا يترك ذا أدب يقرب منك. فقال: والله لقد أحسنت فى التحيّل والتوصّل أضعاف إحسانك فى قصيدك. ثم خلع عليه من ملبوس نفسه وصيّره من أقرب جلسائه إليه. وقال له يوما: أريد منك غزلا ومدحا فى بيتين فقال: المدنفان من البريّة كلّها … جسدى وطرف بابلى أحور والمشرقات النيّرات ثلاثة … الشمس والقمر المنير وجعفر وأكثر من مدحه ومدح أخيه يحيى. وفيهما يقول هذه القصيدة المشهورة على ألسنة الناس التى منها: فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر … وأمدّكم فلق الصباح المسفر وجنيتم ثمر الوقائع يانعا … بالنصر من ورق الحديد الأخضر أبنى العوالى السّمهريّة والسيو … ف المشرفيّة والعديد الأكثر من منكم الملك المطاع كأنّه … بين الكتائب تبّع فى حمير جيش فوارسه الليوث وفوقها … كالفيل من قصب الوشيج الأسمر

فى فتية صدأ الحديد عليهم … وخلوقهم خلق النجيع الأحمر لا يأكل السّرحان شلو صريعهم … ممّا عليه من القنا المتكسّر فبلغ المعزّ عنه وهو يوم ذاك بالقيروان، فأمر بوصوله إليه. فوصّل، وامتدحه بمدائح جليلة غاص فيها كلّ الغوص وأبدع فيها أحسن إبداع. وقد تقدم من ذلك ما يؤيد القول فيه. ومن ذلك أيضا: وطفقت أسأل عن أغرّ محجّل … فإذا الأنام جبلّة دهماء حتى دفعت إلى المعزّ خليفة … فعلمت أنّ المطلب الخلفاء هو علّة الدنيا ومن خلقت له … ولعلة ما كانت الأشياء فاستيقظوا من غفلة وتنبهوا … ما بالصباح عن العيون خفاء ليست سماء الله ما ترونّها … لكنّ أرضا تحتويه سماء الشمس ترجع عن سناه جفونها … فكأنّها مطروفة مرهاء هذا الشفيع لأمة تأتى غدا … وجدوده لجدودها شفعاء للناس إجماع على تفضيله … حتى استوى اللؤماء والكرماء ضرّاب هام الروم منتقما وفى … أعناقهم من جوده أعباء لولا انبعاث السيف وهو مسلّط … فى قتلهم قتلتهم النعماء جهل البطارق أنّه الملك الذى … أوصى البنين بسلمه الآباء

فى الله يسرى جوده وجدوده … وعديده والعزم والآراء نزلت ملائكة السماء بنصره … وأطاعه الإصباح والإمساء ملك إذا نطقت علاه بمحفل … خرس الوفود وأفحم الخطباء والدهر والأيّام فى تصريفها … والناس والخضراء والغبراء أين المفرّ ولا مفرّ لهارب … ولك البسيطان الثّرى والماء قلت: وهذا من أجمع ما جاء فى معناه وأمدحه. والأصل الذى تفرع منه قول النابغة الذبيانى يخاطب النعمان: فإنك كالليل الذى هو مدركى … وإن خلت أنّ المنتأى عنك واسع ومن قول ابن هانى يمدح المعزّ أيضا: هذا ابن وحى الله يأخذ هديه … عنه الملائك بكرة وأصيلا والشمس حاسرة القناع وودّها … لو تستطيع لتربه تقبيلا وعلى أمير المؤمنين غمامة … نشأت تظلّل تاجه تظليلا أمديرها من حيث دار لشدّما … زاحمت تحت ركابه جبريلا ذعرت مواكبه الجبال فأعلمت … هضباتها التكبير والتهليلا وكأنّما الجرد الجنايب خرّد … سفرت تشوق متيّما متبولا

يبدو عليها للمعزّ جلالة … فيكون أكثر مشيها تختيلا ويجلّ عنها قدره حتى إذا … راقته كانت نائلا مبذولا الأصل فى هذا قوله تعالى ({وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً}). وهى الجرائم والرغايب ما التقت … إلاّ لتصفح قادرا وتنيلا قلت: لقد أحسن فى الحشو بقوله قادرا، وقد أجاد البحترى فى قوله: ولم ير يوما قادرا غير صافح … ولا صافحا عن زلّة غير قادر قد جدت حتى أمّلتك أميّة … لو أن وترا لم يضع تأميلا عجبا لمنصلك المقلّد كيف لم … تسل النفوس عليك منه مسيلا سماه جدّك ذا الفقار وإنّما … سمّاه من عاديت عزرائيلا وكأن به لم يبق وترا ضائعا … فى كربلاء ولا دما مطلولا لعلمت من مكنون علم الله ما … لم يؤت جبريلا وميكائيلا

ولقد براك فكنت موثقه الذى … أخذ الكتاب وعهده المسئولا حتى إذا استرعاك أمر عباده … أدنى إليه أباك إسماعيلا وورثته البرهان والتّبيان وال‍ … فرقان والتوراة والإنجيلا لو كنت آونة نبيّا مرسلا … نشرت لمبعثك القرون الأولى أو كنت نوحا منذرا فى قومه … ما زادهم بدعائه تضليلا لولا حجاب دون علمك حاجز … وجدوا إلى علم الغيوب سبيلا لولاك لم يكن التفكّر واعظا … والعقل رشدا والقياس دليلا لو لم تكن سبب النجاة لأهلها … لم يغن إيمان العباد فتيلا وقوله: لو لم تعرّفنا بذات نفوسنا … كانت لدينا عالما مجهولا وقوله: ألم تريا الروض الأريض كأنّما … أسرّة نور الشمس فيه سبائك وما تطلع الدنيا شموسا تريكها … ولا للرياض الزّهر أيد حوائك ولكنما ضاحكننا عن محاسن … جلتهنّ أيّام المعزّ الضواحك سقى الكوثر الخلدىّ روضة هاشم … وحيّت معزّ الدين عنّا الملائك

له نسب الزهراء دنيا يخصّه … وسالف ما ضمّت عليه العواتك العواتك: اللاتى ولدن سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أبيه وأمّه، وهنّ اثنتا عشرة عاتكة، اثنتان من قريش، وواحدة من بنى مخلد بن النضر، وثلاث من سليم، وأسديّة، وهذليّة، وقضاعيّة، وأزدية. وأسماء آبائهن فى كتب الأنساب فأضربت عن ذكرهم للتلخيص. إمام رأى الدنيا بمؤخر عينه … فمن كان منها آخذا فهو تارك ولم يحوه طول البلاد وعرضها … ولكنّه فى مسلك الشمس سالك وما كنه هذا النور نور جبينه … ولكنّ نور الله فيه مشارك لكم دولة الصدق التى لم يقم بها … فتيلة والأيّام هوج ركائك نتيلة بنت حباب بن كليب امرأة عبد المطلب. ولدت منه العباس، رضى الله عنه، وضرارا. ومات ضرار قبل الإسلام. فعرّض فى قصيدته ببنى العباس. تردّ إلى الفردوس منكم أرومة … يصلّى عليكم قدسها ويبارك وقوله: ثنائى على وحى الكتاب عليكم … فلا الوحى مأفوك ولا أنا آفك

وقوله: ولقد أتيت الأرض من أطرافها … ووطئتها بالعزم فهى ذلول واستشعرت أجبالها لك هيبة … حتى حسبنا أنّها ستزول نامت ملوك فى الحشايا وانثنت … كسلى وطرفك بالسّهاد كحيل لن ينصر الدين الحنيف وأهله … من بعضه عن بعضه مشغول لا تعدمنّك أمة أغنيتها … وهديتها تجلو العمى وتنيل وكأنّ دولتك المنيرة فيهم … ذهب على أيامهم محلول شهد البريّة كلّها لك بالعلى … إنّ البرية شاهد مقبول وقال من قصيدة طويلة أوّلها: تجهّز إلى بغداد قد فتحت مصر … وأنجز صرف الدهر ما وعد الدهر تقول بنو العبّاس قد بلغ المدى … فقل لبنى العبّاس قد قضى الأمر وقد جاوز الإسكندريّة جوهر … تطالعه البشرى ويقدمه النصر وقوله من أخرى: المدح فى ملك سواك مضيّع … والقول فى أحد سواك تقوّل والمليح فى هذا المعنى قول التونسى وهو على بن محمد الايادى:

كأنّ ملوك الأرض حول بساطه … كواكب فى ضوء النهار غوارق والسابق إلى هذا المعنى النابغة بقوله فى النعمان: فإنّك شمس والملوك كواكب … إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب قلت: ومدائح ابن هانى كثيرة جدا فى المعزّ متى استوعبناها خرجنا عن الغرض فى التاريخ. وسيأتى من شعره شيئا آخر فى باب المرقص آخر هذا الجزء. ومن أحسن ما وقع له فى النسيب وهو الذى أخلّ به حتى قتل: يا عاذلى لا تلمنى إنّنى … لم تصبنى هند ولا زينب لا كنّنى أصبو إلى شادن … فيه خصال جمّة ترغب لا يرهب الطمث ولا يشتكى … حملا ولا عن ناظر يحجب أراد بقوله غلام كان الأمير تميم يهواه، فتحيّل عليه حتى وجد فى بعض الأودية مخنوقا بتكته. وقيل: إنّه حسده لجودة شعره فقتله لذلك. والله أعلم بأمره.

المدائح العزيزيات

المدائح العزيزيّات مقداد بن حسن يقول: هذا الإمام وبغية الله التى … ما جلّها خلق ولا مقضوب حرب الجيوش وعاد يحرب ماله … بعطائه فكأنّه المحروب ومن هذا التركيب قول ابن شرف صاحب كتاب «أبكار الأفكار» (ص 160): ولقد نعمت بليلة جمد الحيا … بالأرض <فيها> والسماء تذوب والكأس كاسية القميص كأنّها … لونا وقدّا معصم مخضوب مشروبة للبّ شاربة وما … شئ سواها شارب مشروب ولمقداد بن حسن أيضا فى العزيز: إمام إذا ما قدّر الأمر أبرمت … سوابق علم الله ما كان قدّرا تردّى رداء النّصر حتى كأنّما … تكنّى أبا المنصور حتما لينصرا وقوله: إمام تتوّج تاج الفخا … ر فوافق مفرقه واعتدل يعزّ التراب إذا مشى … عليه فتكثر فيه القبل سلمان بن فلاح يقول فى العزيز: فلأنثرنّ فرائد الدهر التى … من حقّها فى وصفه أن تنثرا بل لا أزال مدى حياتى داعيا … أن لا يزال مملّكا ومعمّرا والله أهل أن يجيب دعاء من … لو أنّه يهديه كونا قصّرا

ذكر خلافة الحاكم بأمر الله ابن العزيز بالله وأخباره وما لخص منها

ذكر خلافة الحاكم بأمر الله ابن العزيز بالله وأخباره وما لخّص منها هو أبو على منصور الحاكم بأمر الله ابن نزار العزيز بالله بن معدّ المعزّ، وباقى نسبه قد تقدّم. أمّه:. . . . . . . . . ولد فى شهر ربيع الأوّل من سنة خمس وسبعين وثلاث مئة، أوّل ساعة من يوم الخميس لسبع بقين من الشهر المذكور، بالقاهرة المعزية. بويع له يوم وفاة أبيه، آخر شهر رمضان من هذه السنة. وقيل كانت بيعته يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من شهر رمضان المذكور. وله يوم ذاك أحد عشر سنة. وكان أمره راجع إلى الأستاذ أبى الفرج برجوان، وقيل إنه <إلى> ابن عمّار، وكان كبيرا فى المغاربة. وكان العزيز قد أوصى إليه بولده. فقام بالأمر (ص 161) ودبّر الأحوال، وساس أمور الجند من المصطنعين والمغاربة، وأنفق الأموال، وأرضى جميع الطائفتين

بعد أن كادت تكون فتنة بين الجند المصطنعين وبين المغاربة. فلما همّوا أن يتواقعوا أخرج الأستاذ برجوان الأموال وأرضى الجميع، وأصلح ذات البين، ورفع المغاربة وجعلهم فى ولايات الجند من الترك والعجم وغيرهم، وساس أيضا أمور الترك والعجم، ودبّر أحسن تدبير. ولم يزل الحاكم من صغره يشتغل بالآداب والدروس، والنظر فى دقائق العلوم: مثل علم النجوم والأرصاد والكيمياء والعزائم والطلسمات وسائر علوم الرياضيّات، حتى حصل له ما شاع وذاع. هذا فى ابتداء أمره، وأمّا فى نهايته وتمام أيامه فصدرت عنه أمور تلى إلى الجنون، لا بل هى الجنون بعينه، من خرافات دينيّة ودنياوية. فأمّا الدنياوية السيّئة التى صدرت عنه فتلخيص ذلك أنّه منع من بيع الزبيب، وأن لا يتّجر أحدا فيه. وجمع كلّ زبيب كان فى سائر ممالكه وأعماله وأمر بإحراقه فأحرق. قال المؤرّخون من الثقات المصريّين: حسب جملة ما أنفق على إحراق الزبيب فى ثمن الأحطاب التى أحرق بها فكانت ألف دينار عينا، ولم يبق للزبيب أثر فى سائر الأقاليم.

ومنها أنه أمر بقتل الكلاب، فلم يبق فى مدّة أيّامه كلب يرى. وقيل أحصى عدّتهم فكانوا ثلاثون ألف كلب الذين قتلوا. (كذا) ومنها أنه مرّ على حمام الذهب بمصر فسمع بها غوغاء النساء، فأمر ببابها فبنى عليهم فسدّ، وأمر أن يحمى عليهنّ، فلم يبرحوا حتى موّتن عن آخرهن من غير جرم فعلونه، وعاد كل من له أهل بتلك الحمام أتى وأخرجهن وغسلوهنّ، ودفنّ. (ص 162) ومنها أنّه حرّم بيع العنب فى سائر أعماله. وأمر بقطعه، وهو حصرم. ثم إنّه أمر بقطع سائر الكروم. فقطع ذلك من جميع أعمال مصر. ومنها أنه نهى عن طبخ الملوخيّة، ومن وجدت عنده قتل. وأمر أن لا تزرع بأرض مصر البتّة. وقتل على ذلك جماعة ممن وجدت عندهم. ومنها أنّه منع من بيع الكبب اللحم، ومن بيع الفقّاع. وأمر بشنق من يبيعه، وربما أنه شنق عليه.

ومنها أنه كان يحب مملوكا له يقال له عين. وهو صاحب جامع الجزيرة. فغضب عليه فأمر بقطع يده، فقطعت ثم ندم. ثم أمر بقطع رجله، فقطعت ثم ندم. ثم أمر بقطع اليد الأخرى ثم الرجل الأخرى، ثم سمل عينيه. وأشياء كثيرة من هذا النسق وضروبه. وأمّا الأمر الدينى فإنّه تمرّد وبغى، وادّعى دعوى فرعون لعنه الله. وسبب ذلك أنه صحبه إنسان يقال له الدرزى. فنبّهه على أشياء من دعاوى أسلافه الكاذبة، حتى عاد يسلّم عليه الخصّيصين به فيقولون: السلام عليك يا معطى يا مانع، يا محيى يا مميت! فلما شهر عنه هذا الأمر وقام الناس على ذلك الملعون الدرزى، جهّزه بالأموال إلى الجبال لإقامة الدعوة الخبيثة. فجميع الدرزيّة الآن من ذلك الدرزى الملعون داعى الحاكم. وله أشياء منكرة أعظم من جميع ذلك، أضربت عنها صيانة للكتاب، فنعوذ بالله من مكر الله. وأما ما يذكر من محاسن سيرته فى ابتداء أمره فإنه أقام شعائر الإسلام، ورفع منار الدين، وأمر أن يبنى على كلّ كنيسة من الكنائس مسجدا طويل البناء يعلو تلك الكنيسة. وكذلك سائر الديرة فى سائر أعمال مصر، ففعل وهو إلى الآن باق.

ومنها أنّه منع اليهود والنصارى (ص 163) من ركوب الخيل والبغال فاستمرّ ذلك. ومنها أنه أفرد للذمّة من اليهود والنصارى حمامات غير حمامات المسلمين، وجعل على أبواب حماماتهم الصلبان والقرابين، وجعل فى أعناقهم الأجراس والصلبان من الخشب الكبار. ومنها أنّه رفع المكوس والظلامات. ومنها <أنّه> منع كلّ مسكر وشدد فيه وغلّظ وقتل عليه. ومنها أنه منع النساء من الخروج، فلم تكن فى أيّامه امرأة تلوح. وكان متزهّدا متعبّدا، يلبس الصوف، ويركب الحمار، ويدور الشوارع بنفسه. ومن بنائه. . . . وجامع راشدة، والرصد، والجامع الكبير المعروف به. وكان سبب غيبته ما يأتى ذكره فى تاريخه إن شاء الله تعالى. وفى هذه السنة توفى الصاحب بن عبّاد رحمه الله، وكذلك توفى أبو طالب مكى صاحب كتاب «اعتلال القلوب» رحمه الله.

ذكر سنة سبع وثمانين وثلاث مئة

ذكر سنة سبع وثمانين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وإصبع واحل واحد. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنى بويه أرباب الأمور بالشرق كلّه، وكلمتهم على كلمة الخليفة. والحاكم خليفة مصر. والأستاذ برجوان مدبّر أمر المملكة. فإنّ ابن عمّار كان مدبّر المملكة فاستعفى فى هذه السنة. وعاد الأمر للأستاذ برجوان وهو الصحيح. وفيها كان بمصر غلاء. وبلغ التليس القمح أربعة دنانير عين مصرية. وأطلق الحاكم ألفى دينار لعمارة الجامع العتيق بمصر، وعمر المنارة الكبيرة التى به (ص 164).

ذكر سنة ثمان وثمانين وثلاث مئة

ذكر سنة ثمان وثمانين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وإثنا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمان أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنى بويه الحكّام على الأمر. والحاكم خليفة مصر وما معها. والأستاذ برجوان مدبّر دولته، والقاضى ابن النعمان بحاله. وفيها كانت ريح سوداء فى شهر صفر هالت الناس، وأظلمت لها الأقطار. وفيها نزل الحاكم إلى مصر وخطب يوم جمعة فى الجامع العتيق، وصلى بالناس، وبلّغ التكبير عنه القاضى أبو عبد الله محمد ابن النعمان.

وفيها توفى أبو عبد الله الجوهرىّ الواعظ رحمه الله. وفى سنة ثمان وثمانين توفى ابن حجّاج رحمه الله صاحب الديوان الهزلى. وفيها عمل النواح على الحسين عليه السلام على الرسم والعادة. واجتمع أهل باب البصرة وباب الكرخ ومضوا إلى قبر مصعب ابن الزبير وبدا منهم فى حقّ آل البيت ما لا يليق ذكره وقالوا: هذا. . . الشيعة. . . ويطبخون فيه كل الأطعمة، ويقولون هذا يوم واخى فيه النبى صلّى الله عليه وسلم لعلى عليه السلام. فيخرجون كل سنة فى ذلك اليوم ويفعلون كفعلهم ويقولون: يوم كان فيه النبى صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر رضى الله عنه فى الغار.

ذكر سنة تسع وثمانين وثلاث مئة

ذكر سنة تسع وثمانين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: (ص 165) الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. والحاكم خليفة مصر وما معها. والأستاذ برجوان بحاله. وتوفى القاضى ابن النعمان رابع شهر صفر، وصلى عليه الحاكم فى داره. وولّى الحاكم مكانه ابن أخيه الحسين بن علىّ بن النعمان فى الثالث والعشرين من صفر، وأسقط عدّة أربعة عشر عدلا منهم ابن الجوهرى وابن الطوسى.

ذكر سنة تسعين وثلاث مئة

ذكر سنة تسعين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: (ص 165) الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وإصبعان. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. والحاكم خليفة مصر، وأبو الفتوح برجوان إلى أن توفى فى هذه السنة، وقلّد الأمر مكانه أبو علىّ الحسين بن جوهر القائد، ولقب بالقائد الأجلّ، وقلّد عبد العزيز بن النعمان المظالم. وفيها تزوّج الحاكم جارية السيّدة بتاريخ رابع عشر جمادى الآخرة. وفيها كثر ركوب الحاكم. وقتل برجوان الخادم، ووجد له من جملة ما خلّف ألف سراويل دبيقى بألف تكّة حرير، وألف نافجة مسك، ومن الجواهر والأوانى والملابس والمتاع ما قيمته خمس مئة ألف دينار، وأربع آلاف دابة.

وفى سنة تسعين وقع بحلب بردا عظيما. قيل وزن منها حجرا واحدا فكان رطل بالدمشقى، وأهلك ناسا كثيرة ودوابّ ووحش وطير.

ذكرى سنة إحدى وتسعين وثلاث مئة

ذكرى سنة إحدى وتسعين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. الحاكم خليفة مصر. وقائد القوّاد الحسين بن جوهر. والقاضى بمصر الحسين بن علىّ بن النعمان. والمظالم لعبد العزيز ابن النعمان. وجلس الحاكم بنفسه للمظالم، وأمر أن لا تغلق الأسواق ليلا ولا نهارا. وحصل البيع والشراء فى الليل والنهار. وأكل الناس فى الأسواق، وسمعوا الغناء على الإجهار، وكثر ركوب الحاكم ليلا ونهارا واستمر الحال على ذلك.

ذكر سنة اثنين وتسعين وثلاث مئة

ذكر سنة اثنين وتسعين وثلاث مئة (ص 166) النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وسبعة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنى بويه الحكام. والأمر راجع فيهم إلى سلطان الدولة ابن عضد الدولة. والحاكم الخليفة بمصر وما معها. وكذلك قائد القوّاد الحسين بن جوهر مدبّر الممالك الحاكميّة، والقاضى الحسين بن على بن النعمان مستمرّا على محل قضائه. والحاكم يلى المظالم بنفسه. وفيها كان ابتدآء عمارة الجامع الكبير بباب الفتوح، وأنفق عليه أموالا جزيلة كما يأتى بيانه.

ذكر سنة ثلاث وتسعين وثلاث مئة

ذكر سنة ثلاث وتسعين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه، حسبما ذكرنا. والحاكم خليفة مصر. والحكّام حسبما ذكرنا، وأمر فى هذه السنة ببناء جامع راشدة. وكمل الجامع الكبير الذى بباب الفتوح. وحسب ما نفق عليه فكان أربعين ألف دينار. وذلك أصرف على تكملته. وفيها وقع بردا عظيما بمصر، حتى عاد على الأرض ارتفاع شبر وأزيد. وأبيع على الدواب كما يباع فى الشام. ولا كان يعرف البرد فى مصر قبل ذلك.

ذكر سنة أربع وتسعين وثلاث مئة

ذكر سنة أربع وتسعين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثلاث أصابع. <ما لخّص من الحوادث> (ص 167) الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنى بويه بحالهم. والحاكم خليفة مصر، وقائد القواد بحاله. وعزل القاضى الحسين ابن على بن النعمان فى سادس رمضان، وولى الحكم مكانه عبد العزيز ابن أبى عبد الله محمد بن النعمان. وفيها أمر بهدم كنيسة مرقص التى كانت بجوار جامع راشدة، فهدمت وبنيت مسجدا.

<ذكر دمشق>

<ذكر دمشق> وأمّا دمشق فكان المتولى عليها منجوتكين التركى حسبما سقناه من ذكره، فلم يزل عليها إلى سنة سبع وثمانين. فوليها علىّ بن فلاح فى حديث طويل ونفد بمنجوتكين إلى الحاكم فاصطفاه وعاد فى عدته. ثم استقرّ بدمشق سلمان بن جعفر بن فلاح. ثم عزل ووليها جيش بن الصمصامة المقدّم ذكره ففعل فى دمشق وأهلها ما لا تفعله الفرنج، حتى كانوا الناس يجتمعون فى سائر المساجد ويدعون عليه تصريحا. فلم يزل حتى أهلكه الله بالجذام فى سنة تسعين وثلاث مئة. ثم وليها رجل من المغاربة يقال له فحل بن تميم. فلبث شهورا ثم هلك. ثم وليها علىّ بن فلاح الولاية الثانية. فبقى إلى سنة اثنين وتسعين وثلاث مئة. ثم عزل ووليها رجل أسود بربرىّ يقال له طزملت بن بكّار. وكان عبدا لابن زيرى والى القيروان. فلم يزل واليا إلى هذه السنة، وهى سنة أربع وتسعين وثلاث مئة.

فوليها خادما أتى من مصر يقال له مفلح اللحيانى. وسار طزملت يريد مصر. فتوفى بداريّا. وذلك يوم الاثنين الثانى من شهر صفر من هذه السنة. قلت: وهذا آخر ما كان بخطّ الشيخ أبى القاسم علىّ بن محمد ابن يحيى السلمى السميساطى رحمه الله. فاستنسخته منه فى أخبار الشام. ومهما أتى بعد ذلك فمذيّل عليه من المسوّدات. والله الموفق بكرمه. وفى سنة خمس وتسعين ولد الظاهر ابن الحاكم كما يأتى فى تاريخه. وفيها كانت فتنة عظيمة بين الشيعة والسنّة ببغداد. وسبب ذلك أنّ أبا حارثة الواسطى أحضر مصحفا إلى دار الخلافة وزعم أنّه مصحف ابن مسعود. فقوبل به مصحف عثمان فخالفه. فأجمع القضاة والفقهاء على حريقه. فأمر بذلك. فبادر أهل الكرخ ووقعت الفتنة بين الشيعة والسنة. وصاح الشيعة: يا حاكم يا منصور! وبلغ القادر ذلك فأرسل الخيول التى على بابه لمعونة السنّة. فنزلت الأتراك، وأحرقوا الكرخ، ونهبوا الأسواق ثم عفا عنهم وسكنت الفتنة.

سنة خمس وتسعين وثلاث مئة

سنة خمس وتسعين وثلاث مئة (ص 168) النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وخمسة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه الحكّام. والأمر فى هذه السنة إلى شرف الدولة ابن عضد الدولة. والحاكم خليفة مصر. وقائد القواد بحاله. وكذلك القاضى وفيها سخط <الحاكم> على النساء، وأمر أن لا تلوح امرأة فى طريق فكان ذلك، وسخط على الكلاب وأمر بقتلهم (كذا)، فقتلوا حسبما تقدّم من ذكرهم. وفيها ولد له ولدين، فسمّى أحدهما الحارث والآخر علىّ. وكثر طلوعه إلى الجبل المقطم.

ذكر سنة ست وتسعين وثلاث مئة

ذكر سنة ست وتسعين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وشرف الدولة مدبّر الممالك الخليفية. والحاكم خليفة مصر. وقائد القواد الحسين بن جوهر مدبّر الدولة. والقاضى بحاله. ووقع فى هذه السنة بردا عظيما قدر بيض الحمام. ووزنت فكانت أوقيتين بالمصرى. وقتلت طير كثير وغنم ومعزى. وفى سنة ست وتسعين قذفت الريح برجل من يأجوج إلى أن رمته قدّام السدّ الذى تقدّم ذكره فى أول آخر 4 من هذا التاريخ. فأخذوه الحرّاس الذى هناك، ونفذوه إلى الخليفة القادر بالله. فأحضر القضاة والفقهاء، فنظروه ميتا، طوله ذراع وربع ذراع، ولحيته شبران، وله أذنان كالدرق.

ذكر سنة سبع وتسعين وثلاث مئة

ذكر سنة سبع وتسعين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وأربعة أصابع. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث (ص 169) الخليفة القادر أمير المؤمنين. وشرف الدولة بن بويه على حاله. وفيها الحاكم بحاله خليفة مصر وما معها. وقائد القوّاد بحاله، وكذلك القاضى. وفيها شهد فرس البحر بمنية القائد. وعرفت بذلك كونها كانت فى جملة إقطاع هذا القائد حسين بن جوهر، وكان يكثر الحلول بها. وفيها ارتفع سعر الدراهم، وصرف كلّ دينار بثمانية عشر درهم. وفيها كان خروج الوليد بن هشام من بنى أمية مروان (كذا) ملاّك الأندلس، المعروف بأبى ركوة المقدّم ذكره فى الجزء المختص ببنى

أميّة. وكان خروجه بالفيّوم. فقبض عليه وأحضر إلى القاهرة. وقتل بها بعد ما كان هرب من الفيّوم إلى بلاد النوبة. فمسك وأحضر، وجعل فى قفص من حديد، وقال له الحاكم: ما حملك على هذا؟ قال: سموّ همتى لو ساعدتنى الأقدار. قال: فلو ساعدتك ما كنت تفعل؟ قال: كنت أجعلك موضعى الآن. فأمر به فقتل وصلب بباب زويلة. وفيها كانت فتنة بين الشيعة والسنّة ببغداد. وفيها زادت دجلة زيادة ما عرفت من قبلها بحيث وصلت الأمياه إلى رؤوس النخل، وهربت الناس إلى غربىّ بغداد وأقام كذلك عشرين يوما.

ذكر سنة ثمان وتسعين وثلاث مئة

ذكر سنة ثمان وتسعين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وتسعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وشرف الدولة بن بويه على حالة. والحاكم خليفة مصر وما معها. وكذلك ولاة أموره بحالهم. وفيها كان غلاء عظيم. ولحق الناس مجاعة شديدة. وولى مسعود أمر ذلك فضرب قوما من الخزّانين بالسياط، وأخرج القمح، وصبّ فى العراص فانصلح الحال. ووقع بين القرويين والريحانيّة، وقتل من القرويين واحدا، فقتل الحاكم قاتله. وفيها عزل <الحاكم> القائد حسين بن جوهر عن ما كان عليه، وقلّد مكانه صالح بن على، وعزل عبد العزيز وولّى مكانه مالك ابن سعيد. وبلغ القمح ثلاثة دنانير التليس. (ص 170)

ذكر سنة تسع وتسعين وثلاث مئة

ذكر سنة تسع وتسعين وثلاث مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وستة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين، وبنى بويه الحكّام، والمتحدث فيهم فى هذه السنة شرف الدولة بن عضد الدولة. والحاكم خليفة مصر. وشيخ الشيوخ صالح بن علىّ مدبر الدولة الحاكمية. وفيها أمر الحاكم من وجد سكران يقتل بلا معاودة. وفيها نهى عن بيع الفقّاع، وأمر بصلاة التراويح فى شهر رمضان وصلاة الضحى. وقلّد شيخ الشيوخ صالح بن على السيف والقلم، ولقّبه ثقة الثقات، وأمر بهدم الكنيستين اللتين كانتا بالحمراء.

وفيها حصل بمصر وباء كثير، وارتفع سعر العطر، وأبيع كل أوقية دهن بنفسج بدينار عين. وكان قد أمر فى سنة خمس وتسعين بسبّ الصحابة رضوان الله عليهم وكتب بذلك على حيطان المساجد والجوامع والقياسر والشوارع. ثم إنه أمر فى هذه السنة أن يمحى جميع ما كتب، وتأديب من يسبّ الصحابة. وأمر أن لا تباع الملوخيّة ولا تطبخ، ولا يباع السمك الذى بغير قشر ولا يؤكل، ولا يباع الترمس والجرجير، ومن هذه الخرافات وأنظارها. وقد تقدم ذكر ذلك. وسيأتى أشياء غيرها متناقضة الأحوال فى تواريخها.

ذكر سنة أربع مئة

ذكر سنة أربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا. <ما لخّص من لحوادث> (ص 171) الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه ولاة الأمور. والحاكم خليفة مصر. وشيخ الشيوخ مدبّر الدولة، والأمور ومصالح الدولة إليه راجعة. وفيها أمر أنّ <كلّ> باب مفتوح لا يغلق، و <كلّ> باب مغلوق لا يفتح و <كلّ> شئ مغطّى لا يكشف. حكاية مستطرفة قيل لما أمر الحاكم بأنّ <كلّ> شئ مغطّى لا يكشف خرج إنسان سكران فى بعض تلك الليالى متوجّها من مكان كان به

إلى منزله. فصدف الطائف فأخذ عمامته وأسبلها على نفسه، ونام وهو قد تغطّى بالعمامة. فوكزه بعض الشرطيّة وقال: إيش أنت؟ فقال: أنا شئ مغطّى، وأمير المؤمنين الحاكم قد أمر أن لا يكشف شئ مغطّى قال: فاستطرف الطائف كلامه وتركه. وفيها صرف <الحاكم> شيخ الشيوخ صالح بن على وولّى أحمد ابن محمود المعروف بالقصورى بعض ما كان يتولاّه صالح بن على وهو النظر فى أمر الدولة.

ذكر سنة إحدى وأربع مئة

ذكر سنة إحدى وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وثمانية عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه متولين الأمور على ما هم عليه. والحاكم خليفة مصر. وفيها قبض الحاكم على عبد العزيز بن النعمان متولّى المظالم، وعلى قائد القوّاد ثم أطلقهما وعفا عنهما. ومنع من الركوب فى الخليج، وأمر بسدّ سائر طاقاته التى تشرف عليه.

وأضيف إلى القاضى مالك بن سعيد النّظر فى المظالم، وذلك ما كان يتولاّه عبد العزيز بن النعمان. وفى سنة إحدى وأربع مئة خطب معتمد الدولة أبو المنيع قرواش ابن مقلّد للحاكم بالموصل والأنبار وقصر ابن هبيرة والمدائن، وذلك فى خلافة القادر، وهو يومئذ ببغداد. وكان أبو المنيع المذكور فاضلا أديبا جيّد الشعر حسنه. فمن شعره يقول: من كان يحمد أن يذمّ مورّثا … للمال من آبائه وجدوده إنى امرؤ لله أشكر وحده … شكرا كثيرا طالبا لمزيده لى أشقر سمح العنان مغادر … يعطيك ما يرضيك من مجهوده ومهند عضب إذا جرّدته … خلت البروق تلوح فى تجريده ومثقف لدن السنان كأنّما … أمّ المنايا ركّبت فى عوده وبذا حويت المال إلاّ أننى … سلّطت جود يدى على تبديده ذكر ذلك صاحب كتاب «دمية القصر». وفى سنة إحدى وأربع مئة فتح محمود بن سبكتكين المولتان من بلاد الهند. وأنفذ إلى الخليفة القادر بالله صنما من ذهب زنته أربع مئة رطل بالبغدادى. ولعبة ياقوت أحمر زنتها ستون مثقالا تشتعل كالقنديل، لم ير مثلها أبدا.

ذكر سنة اثنين. وأربع مئة

ذكر سنة اثنين. وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرة أصابع ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم. والحاكم خليفة مصر. وسخط على قائد القوّاد، وعلى بن عبد العزيز بن النعمان وقتلهما ومعهما مسرور. وتوفى الشريف الرضى. وفيها نهى عن بيع العنب وأمر بقطعه، وحرثت جميع أراضى الكروم بالديار المصرية، وكذلك فيها كان إحراق الزبيب وإهراق العسل فى النيل، حتى عاد لو طلب وقية عسل بدينار لم يوجد.

ذكر سنة ثلاث وأربع مئة

ذكر سنة ثلاث وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وثلاثة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم. والحاكم خليفة مصر. وقيل فى هذه السنة كان سخطه على العسل فأهرق ما أحصى عدته ما بين ظروف وزير وخابية إحدى عشر ألف قطعة. وفيها حمل إلى الجامع العتيق بمصر ختمات كبار مذهبة عدة أربع مئة وأربعون ختمه، وربعات مذهبات بخطوط منسوبة، عدّة ذلك أربعة وسبعون ربعة، وتنور فضّة زنته مئة ألف درهم حجر.

وفيها كملت عمارة الجامع الحاكمى الكبير بباب الفتوح، وحمل إليه (ص 173) أربع تنانير (كذا) فضّة حجر، وقناديل فضّة مذهبة عدّة أربع مئة قنديل بسلاسل فضة. وعلّق على أبوابه الستور الدبيقى، وفرش أحسن فرش، وأقيمت الجمعة فيه ثالث عشر رمضان، وخطب فيه بنفسه، وهى أوّل خطبة خطبت فيه. وأمر أن تقطع الخطبة من جامع الأزهر، فقطعت من ذلك اليوم إلى حين ما استجدّت فيه فى تاريخ ما يأتى ذكره. وكذلك أقيمت الجمعة فى هذه السنة فى جامع راشدة وخطب فيه أيضا الحاكم بنفسه. وفيها ولّى النظر فى الأموال والدولة الحسن بن طاهر الوزّان. وفيها أمر برفع المكوس عن جميع الغلال الواردة إلى الساحل، ثم أمر برفع مكوس دار الضرب، وكذلك رفع مكوس دار الفاكهة. ثم أمر النصارى واليهود بلبس العمائم السود، وحملهم فى أعناقهم الصلبان الثّقال، ولا يركبوا شئ من الدوابّ غير الحمير، ولا يركبوا لمسلم حمار، وأن يكون طول الصليب فى عنق النصارى ذراعا من

الخشب، وزنته خمس أرطال. وقرامى اليهود كذلك. وأشياء من هذه الضروب. وفى سنة ثلاث وأربع مئة أخذ أهل الكوفة جدرى حتى عمى منهم ألف وخمس مئة نفر، والجميع من نسل من حضر قتلة الحسين صلوات الله عليه، وهذه آية عظيمة.

ذكر سنة أربع وأربع مئة

ذكر سنة أربع وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا فقط. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه ولاة الأمور بحالهم. والحاكم خليفة مصر، وهو متولّى الأمور بنفسه، ويركب الحمار ويطوف الأسواق ويأخذ القصص بنفسه. وفيها أعتق جميع ما كان فى ملكه من الرقيق بالقاهرة ومصر، مع سائر مماليكه من عبيد وإماء، وملّكهم (ص 174) ما كانوا يملكونه فى حال الرّق من الأموال. وفيها جعل الحاكم ولاية العهد إلى أبى القاسم عبد الرحيم بن إلياس ابن أحمد بن المهدى، ودعى له على جميع منابر الديار المصرية.

ذكر سنة خمس وأربع مئة

ذكر سنة خمس وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وإصبعان. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. والحاكم خليفة مصر. وفيها قتل القاضى مالك بن سعيد يوم السبت سادس عشرين ربيع الآخر. وفى الحادى والعشرين من شعبان تولّى الحكم بمصر والقاهرة وسائر الأعمال بالديار المصرية القاضى أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الله ابن <أبى> العوّام. وفى جمادى الآخرة ركب الحسن بن طاهر بن الوزّان مع الحاكم على عادته، فلما خرج من باب القاهرة ضربت رقبته ودفن فى موضعه. وولّى <الحاكم> النظر والتدبير الحسن وعبد الرحيم ولدى أبى السيّد، ثم قتلا فى الخامس عشر من شوّال.

ثم ولّى بعدهما أبو العباس الفضل بن جعفر بن الفرات فى ثانى ذى القعدة، فأقام خمسة أيام، وقتل سادس ذى القعدة. ثم ولّى بعده قطب الدولة أبى الحسن على بن جعفر بن فلاح المقدم ذكره فى أخبار دمشق.

ذكر سنة ست وأربع مئة

ذكر سنة ست وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراع وإحدى وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وتسعة أصابع. <ما لخّص من الحوادث> (ص 175) الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين وبنو بويه بحالهم. والحاكم خليفة مصر. وعرض عليه فى هذه السنة استيمارا باسم المتفقّهين والمؤذّنين والقرّاء بالقاهرة ومصر المحروستين، فكان جملة المقدّر لهم فى كلّ سنة أحد وسبعين ألف وسبع مئة وثلاثة وثلاثين ألف، وثلثى وربع دينار. فأمر بإطلاق جميع ذلك.

ذكر سنة سبع وأربع مئة

ذكر سنة سبع وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشرة ذراعا وأربعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم. والحاكم خليفة مصر. وفيها أضيف إلى القاضى أحمد بن <أبى> العوّام حكم الشام مع سائر الأعمام الحاكمية. وفيها شدّد فى أمر النساء وعدم خروجهم لا فى الليل ولا فى النهار، ومنع الإسكاف عن عمل سائر ما فى أرجلهن. وكان فى سنة أربع وأربع مئة قد أمر لا يتحدّث أحدا فى علم النجوم. وأمر أن ينفى المنجّمون فى إقليم مصر. فاجتمعوا ووقفوا للقاضى ابن <أبى> العوّام. فتحدّث لهم، فأعفوا من النفى لا غير.

ذكر سنة ثمان وأربع مئة

ذكر سنة ثمان وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم. والحاكم (ص 176) خليفة مصر. والوزير بها علىّ بن فلاح. وفيها أمر بهدم كنيسة قمامة، وجميع الكنائس بمصر وأعمالها، ونهب ما كان فيها من الآلات والمتاع. وفيها أمر أن لا تقبّل الأرض بين يديه، وأن يجعل عوض ذلك: السّلام على أمير المؤمنين. وفيها ظهر بدمياط سمكة عظيمة لم ير الناس أعظم منها فى طول الأعمار. قيل إنّ طولها مائتى وستون ذراع، وعرضها قريب من

مئة ذراع. وكانت حمير الملح تدخل فى جوفها موسقة فتفرّغ وتخرج موسقة شحما. وكان خمسة من الرجال وقوف فى قحفها مع عينها، بأيديهم المجارف يجرفون الشحم ويناولونه قوم أخر. وأقام أهل دمياط والبشمور وبلاد أشموم والشرقيّة يأكلون من لحمها وشحمها أياما عديدة. وفيها وقعت صاعقة بحصن فامية فأحرقت سائر من كان به إلاّ القليل منهم. وفيها ولد رجل خنتى من دبره بنتا ميتة، بمنية زفتى، من عمل الغربية، من ديار مصر، وأحضرت إلى الحاكم بالقاهرة، والرجل الخنتى الذى ولدها. وكانت دون الشبر، كاملة جميع الأعضاء. فأمر الحاكم بقتل الرجل الخنتى. فقتل. وكان الحاكم يركب حماره ويقف عند رجل مراوحى بزقاق القناديل، فيتحادثان طويلا، ولا يعلم أحدا ما بينهما إلاّ الله تعالى، ثم يدعه ويتوجّه إلى الجبل المقطّم فيغيب اليوم واليومين والجمعة، ولا يعلم أين يكون ثم يعود.

ذكر سنة تسع وأربع مئة

ذكر سنة تسع وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة. الماء القديم خمسة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث (ص 177) الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم. والحاكم خليفة مصر. وفيها ركب الوزير علىّ بن فلاح من داره، فلما صار فى قرب البرك التى تلى الخليج لقيه فارسان متنكّران، فطعنه أحدهما برمحه وأرماه، وهربا فلم يدركا. وعاد إلى داره مجروحا، فتوفى فى صبيحة يومه، يوم الثلاثاء تاسع شوّال من هذه السنة.

ثم ولّى الأمير الظهير صاعد بن عيسى بن نسطورس، ولقّب قسيم الخلافة، فقتل فى رابع ذى الحجّة. ثم ولّى الأمير شمس الملك مسعود بن طاهر الوزّان. وفيها تعاظم الحاكم فى نفسه وادّعى ما تقدم من ذكره عند ما صحبه الدرزى، وقيل إنّه ذلك الرجل المراوحى المقدّم ذكره.

ذكر سنة عشرة وأربع مئة

ذكر سنة عشرة وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا وثمانية أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه الحكام. والغالب فى هذه السنة على بغداد خاصّة جلال الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بعد وفاة مشرّف الدولة، و <على> باقى الأعمال كاليجار بن سلطان الدولة. ومشرّف الدولة أبو علىّ الذى توفى هو الملك الذى وزر له أبو القاسم الحسين بن علىّ المغربىّ، بغير لقب الوزارة ولا بفارعة (كذا) الدرّاعة. وفيها الحاكم خليفة مصر.

ونزل جماعة من القصريّة وعبيد الشرآء، والخاصّة من المغاربة فكسروا دكاكين البزّازين ونهبوا جميع ما فيها، مع سوق النحاسين، وأحرقوا قيسارية الخليع مع عدة دور (ص 178). وخرج النساء مهتّكات إلى الجامع العتيق ولم يتعرض لهم متعرض. وفيها فى شعبان منها أمر الحاكم أن يبنى جميع ما كان هدم من كنائس النصارى، وردّ ما كان قد أخذ لهم من كنائسهم. وتنصّر جماعة ممن كان أسلم منهم. وذكر ابن دحية فى «تاريخه» أن الحاكم لبس الصّوف سبع سنين، وامتنع من دخول الحمام. وأقام ثلاث سنين فى ضوء الشمع ليلا ونهارا يعبد المرّيخ سرّا وجهرا، ثم رجع إلى عبادة زحل. وكانت أحواله نكرة متناقضة لا يعبّرها القياس. والله أعلم.

ذكر سنة إحدى عشرة وأربع مئة

ذكر سنة إحدى عشرة وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثمانية أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثلاثة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم. وفيها كانت غيبة الحاكم فى الرابع عشر من شوال من هذه السنة. وقال صاحب «تاريخ القيروان»: إن الحاكم خرج ليلة الاثنين السابع والعشرين من شوّال-وهو الصحيح فى تاريخ ذكر غيبته- يطوف على حماره كجرى عادته، وأصبح عند قبر الفقّاعى، ثم توجّه إلى شرقى حلوان، ومعه ركابيّان عاد أحدهما ومعه تسعة نفر من عرب السويديين إلى بيت المال، فأمر لهم بجائزة، ثم حضر الركابى الآخر

وذكر أنّه تركه عند المقصبة والقبر، وأنه أمره بالانصراف. وصار الناس يخرجون فى كلّ يوم مع الموكب ينتظرونه يرجع. فلما كان يوم الأحد ثالث ذى القعدة خرج صاحب المظلّة ونسيم الخادم وابن يشكن التركى (ص 179) صاحب الرمح وجماعة من الأتراك والقاضى ابن <أبى> العوّام فلم يزالوا حتى بلغوا دير القصير وأمعنوا فى الجبل، فرأوا حماره على بعد، فأتوه فوجدوه وقد ضربت يداه بسيف، ثم وجدوا جباب الحاكم فى البركة التى هناك، ونظروا فى الأرض إلى أثر رجلين أحدهما أمام الحمار والآخر خلفه، ثم تتبّعوا آثار الأرجل إلى البركة ونزلوها، فوجدوا جبابه، وهى أربع جباب من صوف مزرّرة لم تفكّ أزرارها، وفيها آثار السكاكين. فتيقّنوا أنه قتل لا محالة. قلت: ورأيت فى مسوّداتى أنّ الذى تسبّب فى قتله أخته ستّ الملك. وكانت ذات أدب وعقل ودين وعقيدة حسنة فى الإسلام، على غير ما كانوا عليه أهاليها، وكانت كثيرة الصلاة والصوم وتلاوة القرآن والبرّ والصدقة على المساكين. فلما اشتهر لها أمر الحاكم بدعواه الملعونة أنكرت عليه ذلك ونصحته. فقال لها: ويلك يا فاجرة!

ما كفاك ما أنت عليه من صحبة الخدّام الذين تعوّضت بهم عن الرجال حتى تدخلى نفسك فيما لا يعنيك؟ فو الله لأفوزنّ بقتلك. فعلمت أنّه قاتلها لا محالة. فجرّدت له عبدين اسم أحدهما فلاح، والآخر رزين، وكانا عندها كأولادها تربية ومحبّة. ورتّبت لهما ما يفعلاه، فأكمنا له فى ذلك المكان الذى كان كثيرا ما يتعهده، فقتلاه كما ذكر، والله أعلم بأمره. وفى هذه السنة عزل ابن الوزّان وولى الأمر بعده الأمير المظفر على ابن عمّار فى جمادى الآخرة. ومن غريب حكايات الحاكم ما تضمّنه كتاب «حلّ الرموز فى علم الكنوز» وهو كتاب جليل القدر نادر الوقوع حسن الأخبار كثير الفائدة، (ص 180) منسوبا إلى محمد بن عبد الرزاق بن عبد الأعلى القيروانى. ذكر فيه مصر وقدمها فى العالم وما فيها من العجايب والحكم. وجمع فى هذا الكتاب أسماء أربعين كنزا من كنوز مصر مما اتخذوا ذلك ملوك القبط الأول بعد الطوفان، وما فتح منها

كنز الدب

وما لم يفتح. وذكر فى هذا الكتاب أشياء ملاح، تصل إلى العقل وتقبلها الطباع السالمة، تدلّ على تمكّن صاحبها من علوم كثيرة. ورمز فى كتابه هذا رموزا لا يصل إلى حلّها إلاّ كل ذهن رائق وفكرة قادحة، ولعلّ جميع ما ذكره صحيح والله أعلم. فمن جملة ما ذكر أنّ هذه الكنوز مختصة بصور، لا يفتح ذلك الكنز إلا تلك الصورة ولو اجتمع عليه أهل الأرض. فإذا حصل ذلك الشخص صاحب تلك الصورة إلى ذلك الكنز فتح له من غير كدّ ولا تعب. وذكر كلام كثير من الفلك وأحواله يؤيّد ما برهن عنه، أضربت عن جميع ذلك، إذ لا حاجة لنا فيه فى هذا التاريخ، وليس المقصود إلاّ بما يتعلّق بذكر الحاكم العبيدى وما فتح فى زمانه من هذه الكنوز. كنز الدبّ قال محمد بن عبد الرزاق فى كتابه المعرف «بحلّ الرموز فى علم الكنوز»: إنّه كان بمصر فى خلافة الحاكم العبيدى شخص يسمّى وردان جزارا، وكانت تأتيه فى كلّ يوم امرأة حسنة فتصبّحه وتعطيه

دينارين ذهب عدد، وتأخذ منه خروف وتأمره أن يشقّه شقتين، وتأتى بحمّال يحمله على قفصه وتنصرف. فأقامت على ذلك برهة من الزمان. فأفكر ذات يوم وردان فى حال تلك المره، وكشف ذلك الذهب الذى اجتمع عنده منها فوجده جميعه ضرب عتيق لا يفهم ما عليه. فاختلج فى باطنه منها أنها (ص 181) واصلة لا محالة. فاجتمع بذلك الحمّال الذى يحمل معها الخروف وسأله عن أمرها. فقال: والله يا معلم بأرى من هذه المرأة العجب، وذلك أنها لما تحمّلنى من عندك الخروف اللحم تأتى بى إلى إنسان راهب بقصر الشمع فتعطيه دينارين وتأخذ منه مروقتين خمر، وتعطيه دينارا آخر فيزن لها عشرين درهم، فتتحوّج بعشرة الدراهم <من> فاكهة ونقل وشمع وخبز قليل وحوايج طعام ما بين خضر وأبزار وحطب وتحمّلنى جميع ذلك إلى طرف بساتين الوزير من ناحية الجبل. فتشدّ عينىّ بعصابتين شد جيد وتقبض بيدى وتمشى بى تقدير ساعة فلكّية فى حوادث وعرة، وأضع القفص على صخرة

كبيرة وآخذ من هناك قفص فارغ، وتعود بى إلى المكان <الذى> شدّت فيه عينىّ. فتحلّ العصايب وتعطينى العشرة الدراهم وتقول لى: لا تقطع رزقك بيدك. فلما سمع وردان ذلك تحقّق عنده أنها واصلة بلا خلاف. فقال للحمّال: يا أخى والله لقد صدقتك بالله، لا تقطع رزقك بيدك، فنحن بنكسب عليها ما بنغرم. فأمسك ما معك. ثم إن وردان تجهّز لها إلى حين ما حضرت إليه وأخذت الخروف اللحم على عادتها وانصرفت. فأوقف وردان صبيّه مكانه وتبعها بحيث احترز كلّ الاحتراز من أن تشعر به إلى حيث قضت سائر حالها، وخرجت من مصر وهو يتبعها محترزا، حتى إذا شدّت عينى الحمال وقادته وهو يتبعهما، حتى وصلت به إلى تلك الصخرة. فتوارى وردان خلف صخرة أخرى حتى أوصلت الحمّال إلى مكانه، وعادت فنقلت جميع ما كان فى القفص وانقطع خبرها. فوثب وردان إلى (ص 182) تلك الصخرة التى كان عليها القفص فوجد إلى جانبها طابق بسرداب بدرج نازلة. فنزل فيهم إلى دهليز مظلم، وفى آخره ضوء ظاهر. فمشى حتى وصل إلى ذلك الضوء، فوجد على يمينه باب قاعة نيّرة، مليحة لا يعلم من أين يأتيها ذلك النور. فجلس فى حدّ الباب فى تلك الظلمة ينظر إلى صدر القاعة، فإذا فى صدر القاعة دبّ أسود كأنّه

بعير من عظم خلقه، والمرأة قد أخذت شقة ذلك الخروف قطعت منها أطايبها تقدير أربعة أرطال، وأرمت بقية الشقّة لذلك الدبّ. فبرك عليها حتى أتى على آخرها، وصار يكسر فى ذلك العظم بأنيابه كأنها أصاطير. ثم إن تلك المرأة علّقت قدرة وطبخت ذلك اللحم الذى قطعته من تلك الشقة التى أرمتها للدب، بعد ما علّقت الشقة الأخرى فى كلاّب معلّق تحت مكان تلعب فيه الريح، لا يعلم من أين تأتى. فلما استوى طعامها غرفته فى زبادى مينا لا يقدر على مثلها، ثم أكلت كفايتها ورفعت الباقى، ثم مدّت تلك الفاكهة والنقل، وصبّت من ذلك الخمر فى أوانى بلّور مجزّع وجوهر تأخذ بالبصر، ثم شربت وعادت تسقى ذلك الدبّ وهو يكرع كلّ ما تسقيه، حتى أتت على المروقة الواحدة. فنهضت ونزعت سراويلها وانقلبت، وقام إليها ذلك الدبّ ينكحها الواحد ثم يثب ويعلودها، ثم يثب ويعاودها عدة عشرة على طلق واحد، وعاد له ولها شخيرا حتى أقلب المكان ووقع من عليها كالميت، وكذلك هى أيضا. قال وردان: ما قعادى؟ ما هو إلا أن يستفيق هذا الدبّ ويرانى فيبضعنى بضعا. فجذب من وسطه سكين (ص 183) تبرى العظم قبل اللحم، و <هو> جزار عارف بالدبيحة، ومسك منحر الدّب، وجرّ عليه السكين، فخلّص رأسه عن بدنه، فشخر الدبّ كالرأس البقر

وأعظم. فاستيقظت المرأة على حسّ شخيره كالمجنونة، فنظرت وردان قايم على جثة الدبّ وفى يده السكين، ونظرت الدب وقد زالت رأسه عن بدنه. فصرخت صرخة كادت نفسها تفيض وقالت: وردان عملتها ولا بدّ؟ فقال لها وردان: يا عاهرة! وما حملك على هذا الحراف، فرغت الرجال من الدنيا؟ فقالت: يا وردان هذا هو المكتوب والكائن المقدّر. وقد انتهى أجلى فاذبحنى كما ذبحت هذا الدبّ، فما بقى لى بعدها حياة فى الدنيا. فقال وردان: خافى الله عزّ وجلّ وتوبى إليه، وأنا أتزوجك فى الحلال ونعيش بقية عمرنا فى هذا الكنز، ويردّ الله عاقبتك إلى خير. فقالت: يا وردان لا تتعب واذبحنى ولا تطيل (كذا)، فلو أنّ غيرك من ساير خلق الله تعالى لما قدر أن يصل إلى هاهنا، ومتى لم تفعل ما أمرتك به أتلفتك، وإن فعلت نجوت بنفسك وبجميع ما فى هذا الكنز. فقلت: وما فى قدرتك أن تفعليه بى؟ فنهضت إلى صحن فى وسط المكان فيه قليل ماء. قال: فتكلمت عليه، ففار الماء من ساير أجناب المكان، وصار فى لحظة إلى الخلخال. فقالت: وردان أدرك نفسك واذبحنى كما أمرتك وإلاّ هلكت بالغرق. فقال وردان: أمسكى أيتها المرأة فأنا فاعل ما تأمرين.

قال: فتكلّمت فعاد الماء إلى ما كان عليه. وقالت: هيه وردان. افعل بى كما فعلت بالدبّ. فعندها مسكت بذوآئبها وذبحتها وتركتها إلى جانب الدّب. ثم إنه أخذ من ذلك الدرّ والجوهر والذهب طاقة (ص 184) حمله، وجعله فى القفص الذى للحمّال، وغطّاه بخلقانه، وطلب الطريق. فلمّا صار بباب مصر إذ وثب له عشرة حرسيّة وقالوا له: وردان لا تروّع، بل أجب الحاكم. وأحضروه إلى بين يدى الحاكم، فلما رآه قال له: وردان ذبحت الدبّ والعاهرة؟ فبهت وردان لذلك وقال: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: أرينى قفصك. فنظره ثم غطّاه بما كان عليه، وقال: يا وردان هذا القفص نصيبك لا يعارضك فيه معارض، وإنما توجّه معى وسلّمنى الكنز. ثم إنه ركب حماره وتوجّه معه إلى الكنز. فقال: يا أمير المؤمنين! انزل لتراه وتنظر إلى هول خلقة هذا الدبّ. فقال الحاكم: هيهات يا وردان! إنّك لا عدت تنظر لا الدبّ ولا المرأة، وهما كانا قربان هذا الكنز حتى تسهّل عليك الأخذ منه، وهو كان فتحه على صورتك، ولا يطيق ينزل له غيرك. انزل الآن واطلع لى بجميع ما فيه، ولا تتعرّض لصاحب السرير. قال وردان: فنزلت فلم أجد لا للدبّ ولا للمرأة أثرا ولا دما.

ثم إنّ وردان نقل منه ما كان فيه من الذخاير والجواهر والأموال. فتسلّم جميع ذلك الحاكم، ونقله إلى رصده المطلّ على بركة الحبوش، وودعه هناك فى كنز صنعه الحاكم، وزير عليه بحكمته، وهو باق بالمرصد، والله أعلم. ثم إنّه أعطى وردان ذلك القفص، وأمر أن لا يعارضه فيه معارض. فبنى منه وردان جميع هذه الدكاكين المعروفة بسوق وردان بمصر. والله أعلم. انتهى القول فى أخبار الحاكم. ولنتبع ذلك بما قيل فيه من المدايح حسبما اشترطنا.

المدائح الحاكميات

المدائح الحاكميات حسين بن أحمد الواسطى: (ص 185). من مثلكم يا آل طه أنتم … سبب إلى البركات والغفران بكم عرفنا الله جلّ جلاله … وضمانكم للحقّ خير ضمان محمد القيسى يقول عند وفاة العزيز: إن كان قد غاب العزيز فلم يغب … حتى أقام لنا الإمام الحاكما إن سار سار الفخر تحت ركابه … والعزّ يعزم إن رآه عازما من لم يكن مستمسكا بلوائه … وبحبّه فى الحشر أصبح نادما وقوله: تألّق برق الحقّ فى سحب الهدى … فسحّ علينا منه غيثا وأمطرا وأشرقت الأحكام بالحاكم الذى … به عاد غصن الدّين ريّان أخضرا تكلّم هذا الدهر عنه بعدله … وأفصح بالقول الزمان وخبرّا وأصبحت الأيّام بيضا نواضرا … وعاد غنيّا كلّ من كل مقترا ووقف أبو القاسم الحسين بن على المغربى خطيبا بين يدى الحاكم فقال: السلام على أمير المؤمنين بقدر استحقاقه من ربّه لا بقدر مقال عبده، ولا زالت الدنيا بعزّه حالية الأجياد، والأعوام بسناء

دولته مصقولة الأطراف، حتى تعود الأعياد بين أيامه فى عموم المسرّة وإشراق نور الخلافة، وحتى أقف بين يديه خطيبا بنعمة الله جلّ وعزّ فى إنجاز ما وعده من ملك المشرقين والمغربين، وحتى أرى سيوف انتقامه تشكو الظماء وتتعلّل بالأمانى، لا عدوّا أبقت بتلهلها علقا (؟)، ولا عن باغ ذهلت، رويت برويها دما صبيبا. (كذا) هذا الطاغى ملك الروم بقسطنطينيّة قد كان خرق إزار السّلم، وهتك حجاب الأمن، وأطلق مقال الحرب، وظنّ أنّ ما أجرى من (ص 186) الحديد، وصوّب من مجارى الجنود، عاصما له من جند الله وملائكته المسوّمين، وسترا على ما أنزله الله من الفتح المبين، حتى ضعضعه زلزال الحروب، وأذابته نار الوقايع، فعاد يفتل حبل الهدنة، ويمدّ إليك أمير المؤمنين كفّ الرغبة، فلمّا أفرشته مراقد الإمهال، وأسكنته تحت ظلّ القرار، عاد يستسرى ويمترى، فهبّ يشغب قصد القنا، ويستنّ فلول القضب، فكيف بنبش الرسم وإحياء الموتى، ألا وإنى أقول لكم يا قومنا معشر أنصار أمير المؤمنين. كما قال أخو خزاعة: قاتلوا القوم يا خزاع ولا … يدخلكم من قتالهم فشل القوم أمثالكم لهم شعر … فى الرأس لا ينشرون إن قتلوا

({قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّهِ})، ({وَلا تَهِنُوا فِي اِبْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ}) و ({عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ}). هلمّوا رحمكم الله، هلمّوا نصركم الله، هذا باب الزّلفى مفتوح، هذا رواق الجنّة ممدود، هذا أمير المؤمنين لكم أمير، هذا جبريل وفئته لكم ظهير ونصير، ({وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ}) ({فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ}) وايم الله يا أمير المؤمنين، لو لم يكن لك إلا هيبتك جند، وإلاّ فرسك معقل، وإلاّ ذا الفقار سلّة، وإلاّ عدنتى (؟) لوائك ظلال، لدمغهم سلطان الحق، ورشقتهم سهام النصر، والتقت عليهم خيل الله بالظفر، ولكان الرعب فى القلوب خليفة سيفك فى قصر الهامات ({وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ}) و ({إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ}).

ثم إنى يا أمير المؤمنين عبدك (187 ص) ووليّك ابن أوليائك، إن شئت كنت جمرة تسعر فى صدورهم، أو سحابة تفيض على القتال، وأجلو عن بصائرهم بالمواعظ، وأحلل عقد صدورهم بسحر البيان، وإن شئت فأقمنى بحضرة سرير عزّك خطيبا بنعم الله عليك، وناظما بسيرة أيّامك، وسنانا تدرأ به نحر كلّ خطيب أشرق فى ملك غير ملكك. فو الذى أقامك بالحقّ إماما، ما سرّنى بنظرة نظرتها إليك ملء الأرض ذهبا. ولئن كنت نعم الإمام ونعم الراعى، لأنا بئس المؤتمّ وبئس الرعيّة، وإنّى لأصدق الناس قولا حيث أقول فيك يا أمير المؤمنين: أعطيتنى كتابا إلى رضوان حتى … أجزنى بخير الجزاء (؟) وسقتنى يداك من علل الكو … ثر كأسا شفت غليل ظمآئى أتمنّى لو راسلتك الأعادى … ببليغ يوفى على البلغاء لترى موقفى هناك وسهل … دون شأوى وواصل بن عطاء وهذه الخطبة لم تثبت فى رسائل أبى القاسم إلاّ أنها ثابتة فى سيرة الحاكم. والله أعلم.

ذكر خلافة الظاهر لإعزاز دين الله ابن الحاكم بأمر الله وما لخص من سيرته

ذكر خلافة الظاهر لإعزاز دين الله ابن الحاكم بأمر الله وما لخّص من سيرته هو أبو الحسن على بن منصور بن نزار بن معدّ، وباقى نسبه تقدّم. ولد ثالث ساعة من ليلة الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان سنة خمس وتسعين وثلاث مئة. أمّه أم ولد. . . بويع له يوم عيد الأضحى سنة إحدى عشرة وأربع مئة وهى هذه السنة. استوزر جماعة منهم: عمار الخطير، وشمس الملك علىّ بن أحمد الجرجرائى وكان أقطع اليدين من المرافق، قطعهما الحاكم فى أيّام خلافته بسبب (ص 188) خيانة ظهرت عليه، وكان يتولّى بعض الدواوين، ثم ولى بعد ذلك ديوان النفقات سنة تسع وأربع مئة، ثم وزر للظاهر فى سنة ثمانى عشرة وأربع مئة. وكان يكتب عنه العلاّمة القاضى أبو عبد الله القضاعى صاحب كتاب «الخطط المصرية» وكتاب «الشهاب». وكانت علامته: «الحمد لله شكرا لنعمته». واستعمل الأمانة الزائدة التى لا نظير لها. وفيه يقول جاسوس الفلك الشاعر:

يا أحمقا اسمع وقل … ودع الرقاعة والتحامق أأقمت نفسك فى الثقاة … وهبك فيما قلت صادق فمن الأمانة والتّقى … قطعت يداك من المرافق ووزر له أيضا ابن أبى العوّام، والقاسم بن عبد العزيز، وعبد الحاكم ابن بقية. وكان الظاهر ذو سيرة حميدة وأفعال مرضيّة، حسن المذهب، عفيفا تقيّا. وكان جميع ذلك بتدبير عمّته ست الملك له. وكان يجلس فى قصرها ويرجع فى سائر أموره إليها. وكانت من الخير إلى الغاية. رحمهما الله تعالى.

ذكر سنة اثنتى عشرة وأربع مئة

ذكر سنة اثنتى عشرة وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وستة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثلاثة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم. والظاهر خليفة مصر. وأخلع على خطير الملك للوزارة يوم السبت تاسع عشرين ربيع الأول. وقتل يوم السبت لعشر بقين من ذى القعدة. ونظر أبو الفتوح موسى بن الحسن. وقتل عبد الرحيم بن إلياس نفسه، وكان (ص 189) ولىّ عهد الحاكم. وفيها رسم لابن عمّار عن أمير المؤمنين أن يوقع علامته «الحمد لله ربّ العالمين» وفيها كسر الحجر الأسود رجل عجمى، وقتل هو وجميع من كان معه، ثم طيّب الحجر الأسود وأعيد مكانه.

ذكر سنة ثلاث عشرة وأربع مئة

ذكر سنة ثلاث عشرة وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم. والظاهر خليفة مصر. وفيها توفيت السيدة ستّ الملك رحمها الله تعالى. وفيها نظر القائد عزّ الدولة فى العساكر. وقتل موسى بن الحسن، وولى الوساطة داود بن إسحاق. وفيها قتل عزيز الدولة صاحب حلب، وتسلّمها سديد الدولة علىّ ابن أحمد، وحصل صفىّ الدولة فى البلد، ويمين الدولة فى القلعة واستقرّوا كذلك.

ذكر سنة أربع عشرة وأربع مئة

ذكر سنة أربع عشرة وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وثمانية أصابع مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم. والظاهر خليفة مصر. وفيها نظر شمس الملك مسعود بن طاهر فى الوساطة ثانية. وتقلّد أبو القاسم بن عبد العزيز بن النعمان الدعوة. ونظر أبو عبد الله بن المدبّر فى ديوان الخراج. قال ابن زولاق فى تاريخه: (ص 190) إن رجلا من أهل الجزيرة الخضرآء من أعمال الأندلس صاد جارية من بنات البحر لم يكن لها نظير فى الحسن، فكتفها وعاد ينكحها، فولدت منه ولدا لم ير أحسن منه، فوثق بها بعد ذلك، وفك كتافها لمحبّته لها وإشفاقا

عليها. ثم إنّه أراد سفرا فلما أراد أن يعدّى إلى مدينة سبتة والجارية بصحبته نشغفه بها، وولدها قد صار له من العمر أربع سنين، فلما توسّط البحر احتملت الجارية الولد وقذفت نفسها فيه. فكاد أن يرمى بنفسه ورآءها لو لم يمسكوه أهل المركب، وحزن عليها وعلى ولدها حزنا شديدا. فلما كان بعد ثلاثة أيام ظهرت له الجارية من من البحر، ورمت إليه عدة صدفا (كذا) فيه جوهر نفيس، وسلّمت عليه بإصبعه (كذا) وغطست، فكان آخر العهد بها وبولدها. وفيها انقضّ كوكبا عظيما له دوىّ كالرعد العاصف، حتى وجلت منه القلوب.

ذكر سنة خمس عشر وأربع مئة

ذكر سنة خمس عشر وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ذراعان وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا فقط. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم. والظاهر خليفة مصر. وفيها نهبت العرب مدينة الرملة وأكثر الشام. وكان ذلك فى شهر رجب من هذه السنة. وفيها مات باسل ملك الروم. وفيها كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الشيعة والسّنة، وقتل منهم؟ خلق كثير. ومنعوا السنة للشيعة من النوح على الحسين عليه السلام، كما كانت عادتهم، حسبما تقدّم من ذكر ذلك فى السنين المتقدّمة.

ذكر سنة ست عشرة وأربع مئة

ذكر سنة ست عشرة وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم. والظاهر خليفة مصر. وولى عميد الدولة الحسن بن على الوساطة. وفيها أخذ سديد الدولة قلعة حلب، وقتل عين الدولة الصقلى، واستقلّ سديد الدولة بملك حلب. وفيها أكل الفار زرع مصر حتى أتى عليه.

ذكر سنة سبع عشرة وأربع مئة

ذكر سنة سبع عشرة وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم. والظاهر خليفة مصر. ووزر [أبو] الحسن <علىّ> بن صالح الروذبارى. وحجّ بالناس فى هذه السنة ابن الجفّال بغير زيارة حصلت للناس. وفيها حصل لأهل واحات جدرىّ عظيم، فمات به خلق كثير من أهلها.

ذكر سنة ثمانى عشرة وأربع مئة

ذكر سنة ثمانى عشرة وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم. والظاهر (ص 192) خليفة مصر. ونظر صفىّ أمير المؤمنين، وقبض على حسنون بن صالح، ونظر داود بن إسحاق فى ديوان الخراج. وتوفى قاضى القضاة أبو العباس بن العوّام، وتقلّد القضاء قاسم بن عبد العزيز بن النعمان مع الدعوة، وذلك فى جمادى الأولى. وصرف أبو الحسن على بن صالح الروذبارى، وولى الأمر بالوزارة صفىّ أمير المؤمنين، وهو أبو القاسم علىّ بن أحمد الجرجرائى الأقطع من المرافق المقدم ذكره. وقيل فى هذه السنة كان دخول أبو طاهر جلال الدولة بن بويه

بغداد وتغلّبه على الأمر بعد وفاة شرف الدولة. وكان حكم جلال الدولة فى بغداد خاصة، و <فى> باقى الأعمال أبا كاليجار بن سلطان الدولة ابن عضد الدولة بن بويه. وفيها توفى أبو القاسم المغربى صاحب الرسائل، وتلك الخطبة، المقدم ذكره فى خلافة الحاكم رحمه الله تعالى.

ذكر سنة تسع عشرة وأربع مئة

ذكر سنة تسع عشرة وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم. والظاهر خليفة مصر. وكان قد ولّى حلب مرتضى الدولة لؤلؤ الجراحى غلام أبى الفضائل الحمدانى نيابة من قبل الظاهر بن الحاكم. فغلب عليه فى هذه السنة صالح بن مرداس الكلابى وانتزع حلب من يده، وهو أول ملوك بنى مرداس. وتغلّب أيضا حسّان بن مفرّج بن دغفل البدوى، وهو يومئذ صاحب الرملة، على أكثر بلاد الشام، وتضعضعت دولة الظاهر، وجرت أمور يطول شرحها.

وفيها ولد المستنصر (ص 193) بن الظاهر. وفيها مات عيسى بن علىّ النحوىّ. وفيها صرف قاسم بن عبد العزيز بن النعمان عن القضاء، ووليه أبو الفتح عبد الحاكم بن سعيد الفارقى، وهو أخو مالك بن سعيد الذى قتله الحاكم فى أيام خلافته. وفيها خرج قائد الجيوش لطرد العرب عن الشام وصحبته أبو نصر الفلاحى ناظر الأموال.

ذكر سنة عشرين وأربع مئة

ذكر سنة عشرين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعا. ملبغ الزيادة ستة عشر ذراعا فقط. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم. والظاهر خليفة مصر. وفيها غرق جماعة من أهل مصر على الجسر ليلة الغطاس. وفيها وصل أسارى من صيدا، فقتل منهم أربعة نفر وصلبوا. وفيها قتل صالح بن مرداس الكلابى ووصلت رأسه إلى القاهرة وطيف بها على عود. وفيها زلزلت دمشق زلزالا شديدا حتى خرب ما يزيد على نصفها، وهلك تحت الردم خلق كثير. وقيل فى هذه ولد المستنصر بن الظاهر. والله أعلم.

ذكر سنة إحدى وعشرين وأربع مئة

ذكر سنة إحدى وعشرين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة وأصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم. والظاهر (ص 194) خليفة مصر. ومدبرى دولته على ما تقدم من ذكرهم. وفيها كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الشيعة والسنة. وسبب ذلك أنّ الشيعة أرادوا يوم عاشوراء قيام النوح على الحسين عليه السّلام، كجارى عادتهم، فمنعوهم السنّة. فوقعت الفتنة بينهم. وكذلك بين الهاشمين والأتراك، ورفعوا الهاشمين المصاحف على رؤس الرماح،

ورفعوا الأتراك الصلبان على الرماح. وكانت الفتنة أوّلا بين أهل باب الكرخ وباب البصرة، وانتصرت الأتراك لأهل باب البصرة وانتصرت الهاشمين لأهل باب الكرخ، وقتل بينهم جماعة، وجرح خلق كثير من الفئتين. وقال صاحب «تاريخ بغداد»: إن فى هذه السنة بنى عين الدولة السلطان محمود ابن سبتكين قنطرة على جيحون أصرف عليها ألفى ألف دينار، فكانت من عجائب الدنيا.

ذكر سنة اثنين وعشرين وأربع مئة

ذكر سنة اثنين وعشرين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرين إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين. إلى أن توفى فى هذه السنة <فى> الحادى عشر من ذى الحجّة من هذه السنة. وله ست وثمانون سنة وأشهر. وكانت خلافته إحدى وأربعين سنة وثلاثة أشهر. صفته: ربعة، حسن الوجه، قصير العنق، أسمر اللون، شجاعا مقداما ناهظا. وزراؤه: محمد بن أحمد الشيرازى، ثم سعيد بن نصر، ثم أبو العلاء سعيد النصرانى (ص 195)، ثم على بن عبد العزير بن حاجب النعمان، ثم ابنه أبو الفضل محمد، ثم أبو طالب محمد بن أيوب. نقش خاتمه: الحمد لله على كلّ حال.

ذكر خلافة القائم بأمر الله بن القادر بالله وما لخص من سيرته

ذكر خلافة القائم بأمر الله بن القادر بالله وما لخّص من سيرته هو أبو جعفر عبد الله القائم بالله ابن أبى العباس أحمد القادر بالله ابن إسحاق المقتدر بالله. وباقى نسبه قد تقدّم. أمّه أمّ ولد تسمى بدر الدّجى. بويع له فى ذى الحجّة عند وفاة أبيه رحمه الله. والملك يومئذ ببغداد جلال الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة ابن بويه الديلمى. ولم يزل القائم بالله خليفة أربعة وأربعين سنة، وثمانية أشهر، وتوفى فى تاريخ ما يأتى من ذكره فى تاريخه. وهو الذى أخرجه البساسيرى حسبما يأتى من ذكره ملخّصا إن شاء الله تعالى. وكان للقادر ولد يسمّى ذخيرة الدين أبو العباس محمد، وقيل أبى القاسم محمد، وهو الصحيح. وكان يدعى له مع أبيه على المنابر. فتوفى فى حياة أبيه، فدعى لأبى جعفر عبد الله. وكان

حسن السيرة، جميل الأوصاف، مجتهدا فى إصلاح الدين، وكان فاضلا عالما أديبا شاعرا، فمن شعره ما ذكره صاحب كتاب دمية القصر»: القلب من خمر التصابى منتشى … من ذا عذيرى من شراب معطش والنفس من أسر الغرام قتيلة … ولكم قتيل فى الهوى لم ينعش جمعت علىّ من الغرام عجايب … خلّفن قلبى فى إسار موحش خلّ يصدّ وعاذل متنصّح … ومنازع فدم ونمّام يشى ودعى له بأفريقية، أقام بدعوته بها المعزّ بن باديس الصنهاجى. وكان المعزّ أبو تميم لما توجّه إلى الديار المصريّة، استخلف على أفريقية والقيروان باديس بن يعقوب الصنهاجى. فأقام باديس بدعوة المعزّ أبى تميم طول حياته. ثم توفى وولّى ولده المعزّ بن باديس، فرفض دعوة الفاطميّين، وأقام الدعوة للعباسيّين، وخطب ودعا للإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين أبى جعفر عبد الله بن أحمد القادر بالله خليفة بغداد. وكتب القائم بالله إلى المعزّ بن باديس من مدينة السلام يأمره بذلك. فكان يدعى بأفريقية للقائم بالله أمير المؤمنين، ثم يدعى للمعزّ بن باديس بعده. واستقرّت الدعوة لبنى العباس بأفريقية كما كانت أوّلا، ولم تزل كذلك حتى خرج بالمغرب محمد بن تومرت الملّقب بالمهدى، فقطع الدعوة عن بنى العباس. ثم استخلف بعده

عبد المؤمن الآتى ذكره فى تاريخه إن شاء الله تعالى. وكان فى خلافة المقتفى لأمر الله بن المسترشد بالله، فقطع الدعوة البتّة عن بنى العبّاس ودعا لنفسه، وتسمّى بأمير المؤمنين، واستقرّ عبد المؤمن المذكور خمسين سنة إلى سنة تسع وخمسين وخمس مئة؛ حسبما يأتى من ذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر سنة ثلاث وعشرين وأربع مئة

ذكر سنة ثلاث وعشرين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه على ما هم عليه. والظاهر خليفة مصر. وفيها كان النوح على الحسين عليه السّلام على عادة أهل باب الكرخ. وفيها تسلّمت الروم الرّها. وفيها توفى على بن هلال المعروف بابن البواب الكاتب الذى لم يأت الزمان بمثله رحمه الله تعالى. وكانت سنة شديدة على الناس من الغلاء والقحط.

ذكر سنة أربع وعشرين وأربع مئة

ذكر سنة أربع وعشرين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وإصبعان. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. والظاهر خليفة مصر. وفيها ظهرت الدرزيّة بجبل السمّاق، الذين أصلهم ذلك الرجل المراوحى الذى كان يقف عنده الحاكم المقدّم ذكره فى هذا الجزء. وكان قد جهزه الحاكم فى آخر أيّامه بالأموال والخزائن ونفذه إلى الجبال يدعو للحاكم ويفسد عقول هؤلاء الأقوام من أهل الجبال، كونهم ضعيفين العقول، بعيدين عن العلوم، أولى طباع قاسية لسكنهم الجبال <ك‍> قساوة الأحجار، فتمكّن من عقولهم الفاسدة، ولم يزل يدعوهم وهم ينجلبون إليه إلى هذه السنة فكان ظهورهم.

ذكر سنة خمس وعشرين وأربع مئة

ذكر سنة خمس وعشرين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وخمسة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وواحد وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. والظاهر خليفة مصر. وفيها خرج سلجوق إلى ماوراء النهر وإلى بخارى.

ذكر بنو سلجوق ونسبهم وبدو شأنهم

ذكر بنو سلجوق ونسبهم وبدو شأنهم (ص 198) قال صاحب «تاريخ بغداد»: إنّ آل سلجوق تركمان ينزلون الخراكى والبرارى من وراء النهر. فتزوج سلجوق ابنة رجل من ملوك التركمان يقال له يكرخان وقيل طقزدكين وهو الصحيح فى اسمه. وكان الملك يومئذ ملك البلاد محمود بن سبكتكين فأفسد عليه سلجوق نظام ملكه لما قوى أمره فى تلك الأراضى بمصاهرة طقزدكين، وعاد فى عالم كثير من التركمان شجعان أبطال. وإنّ سلجوق يرجع فى أصله إلى بيت ملك يقال إنّه من نسل الملوك الساسانيّة ملوك فارس. هذا ما ذكره صاحب «تاريخ بغداد» ولم يبرهن على الأصل أكثر من هذا الكلام، وسيأتى بيان صحة أنّ سلجوق من آل ساسان من وجه آخر. قال صاحب «تاريخ بغداد»: فلما قوى عزم سلجوق على أخذ البلاد وحرّكته الهمّة الملوكيّة وأفسد نظام الملك على ابن سبكتكين محمود، قصده محمود بن سبكتكين فتوفى، وأدركته المنية قبل أن يلقى سلجوق بحرب، ورجع الملك إلى مسعود بن محمود، وكان صبىّ

السنّ والرأى، وكان ذلك كلّه لما يريده الله عزّ وجلّ من سعادة آل سلجوق، وكانوا ينزلون فى أربعة آلاف خركاه، وانتشا طغريل بك وهو <ابن> ميكائيل بن سلجوق والتزق إليه عالم عظيم من التركمان وغيرهم، فنزل نيسابور وهو قاصد مسعود، وتفلّلت جموع مسعود لما عظم سلطان طغريل بك. فهرب مسعود وأخلى البلاد، فتسلّمها طغريل بك من غير حرب ولا قتال، وملك خراسان، وجلس على سرير الملك، وذلك فى سنة إحدى وثلاثين وأربع مئة حسبما يأتى من ذكرهم فى تاريخه إن شاء الله تعالى. فهذا طرفا كافيا من بدوّ شأن هؤلآء القوم، وسيأتى من ذكرهم فصلا جيدا من وجه آخر إن شاء الله تعالى. (ص 199) وفيها كانت وقعة سلجوق مع جيوش محمود، وهى وقعة داغان المعروفة، وانكسرت جيوش محمود بن سبكتكين، ثم تجهّز بنفسه فأدركته منيّته حسبما ذكرناه، وقوى سلطان سلجوق. وفيها كان بالشام زلازل، وانحطّ البحر ثلاث فراسخ، فنزل الناس يلتقطون السمك فعاد البحر عليهم فغرّقهم، وعاد لما كان عليه.

ذكر سنة ست وعشرين وأربع مئة

ذكر سنة ست وعشرين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. والظاهر خليفة مصر، وولاة أموره على ما تقدّم من أمرهم. وفيها توفى محمود بن سبكتكين، وجلس ولده مسعود، وسنّه ثلاث عشرة سنة. وفيها عظم سلطان سلجوق، وتكاثفت جموعه وقوى عزمه.

ذكر سنة سبع وعشرين وأربع مئة

ذكر سنة سبع وعشرين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. والظاهر خليفة مصر إلى أن توفى هذه السنة ليلة الأحد النصف من شعبان، وقيل من شوّال، من هذه السنة. وكانت خلافته خمس عشرة سنة وأحد عشر شهرا وخمسة أيام. وعمره يومئذ إحدى وثلاثون سنة. وزراؤه: عمار الخطير، شمس الملوك على بن أحمد الجرجرائى الأقطع، ابن أبى العوّام، القاسم بن عبد العزيز بن النعمان، عبد الحاكم، والله أعلم.

المدائح الظاهريات

المدائح الظاهريّات ابن أبى حصينة: ما قصره المعمور إلاّ كعبة … ويمينه ركن لنا ومقام تمحى ذنوب المذنبين إذا سعوا … من حوله وتمحّص الآثام يا آل أحمد ثبّتت أقدامكم … وتزلزلت بعداكم الأقدام لستم وغيركم سوآء، أنتم … للدّين أرواح وهم أجسام فجزيتم خير الجزآء فحبّنا … لكم أمان من لظى ودمام وقال محمد بن سلطان بن حيّوس جامعا بين التعزية عن الظاهر والتهنئة بالمستنصر: وليس يعلو قرا الغبراء من أحد … ولا يكون لأضياف المنون قرى قلت: والمنون مما اختلف فيه، فقوم يجعلونه جمعا لا واحد له وقوم يجعلونه واحدا لا جمع له. حوادث لم تميّز فى تصرّفها … من ضيّع الحزم ممّن أكثر الحذرا قضى وما إن قضى من لذّة وطرا … وكم قضت منه آمال الورى وطرا

وراغب عن سرير الملك فارقه … فعاضه الله من جنّاته سررا دمع ترقرق فى الأجفان حين رقا … ولو تأخّرت البشرى إذا لجرى لو لم يكن لدموع العين عاقلة … لأطلق الحزن دمعا طال ما أسرا فليرغم الدّهر أنفا إنّ حادثه … أرادنا بسهاد فاستحال كرى رزيّة جلبت نعمى وزند هدى … لم يكب إلاّ كرجع الطّرف ثمّ ورى وصارم حمت الدنيا مضاربه … ما قيل أغمد حتى قيل قد شهرا أئمة لم يغب فينا لهم قمر … إلاّ وأعقبنا من سنخه قمرا وإنّ آلآءهم ما لا يحيط بها … وصف، على أنها تستنطق الحجرا

ذكر خلافة المستنصر بالله ابن الظاهر لإعزاز دين الله وما لخص من سيرته

ذكر خلافة المستنصر بالله ابن الظاهر لإعزاز دين الله وما لخص من سيرته هو أبو عبد الله معدّ بن أبى الحسن علىّ الظاهر لإعزاز دين الله، وباقى نسبه قد تقدم. أمّه أمّ ولد تسمى. . . . ولد فى سنة عشرين وأربع مئة، يوم الثلاثاء السادس عشر من جمادى الآخرة بالقاهرة المحروسة. بويع له يوم الاثنين السابع عشر من شعبان من هذه السنة. وله من العمر يوم ولى الأمر سبع سنين وأشهر. دبّر الملك فى بداية أمره الوزير أبو القاسم على بن أحمد الجرجرائى الأقطع المقدّم ذكره. ثم استخدم من يأتى ذكره من الوزراء، حتى استقدم أمير الجيوش حسبما يأتى من ذكره فى تاريخه.

أقام المستنصر بالله خليفة ستين سنة وأربعة أشهر ويومان. وجرت فى أيامه أحوال وأمور ومكائد يأتى ذكرها فى سنيها. وأقيمت له الدعوة ببغداد فى سنة إحدى وخمسين وأربع مئة، وأخرج الإمام القائم من بغداد فى نوبة البساسيرى، كما يأتى من ذكر ذلك إن شاء الله تعالى.

ذكر سنة ثمان وعشرين وأربع مئة

ذكر سنة ثمان وعشرين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وثمانية عشر إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وتسعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. والمستنصر خليفة مصر، والوزير مدبّر الدولة أبو القاسم على ابن أحمد الجرجرائى، وهو الذى أخذ البيعة للمستنصر، وأقام بأموره فى مبتدأ أمره إلى أن وزر له بعده أبو البركات البابلى. (ص 202)

ذكر سنة تسع وعشرين وأربع مئة

ذكر سنة تسع وعشرين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. والمستنصر خليفة مصر، ووزيره الجرجرائى مدبّر دولته. وفيها استولوا بنو سلجوق على خراسان، وتوفى سلجوق وقام بأمر الملك ولده الأكبر ميكائيل <جدّ> طغريل بك الملك العادل. وجلس على كرسى مملكة خراسان، وتفرّق إخوته بممالك البلاد، وهرب مسعود بن محمود بن سبكتكين إلى غزنة. وفى هذه السنة كان أول مملكة آل سلجوق. وقيل بل كان جلوس طغريل بك على سرير مملكة خراسان فى سنة ثلاثين. وقيل فى سنة إحدى وثلاثين، والله أعلم.

ذكر سنة ثلاثين وأربع مئة

ذكر سنة ثلاثين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. والمستنصر خليفة مصر، والوزير بها الجرجرائى مدبّر الممالك المصرية وما معها. وقيل فيها جلس طغريل بك على سرير الملك بخراسان، وعظم سلطانه وقوى ملكه وكثرت جيوشه، وهادنوه سائر الملوك المجاورة له، وهادنه وهاداه الخان الكبير ملك الترك، وملك فى هذه السنة عدّة ممالك من (ص 203) الأعمال الخراسانيّة، واتصل ملكه بطبرستان والجبل والكرج وغير ذلك.

ذكر سنة إحدى وثلاثين وأربع مئة

ذكر سنة إحدى وثلاثين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. والمستنصر خليفة مصر، والوزير الجرجرائى بحاله. وفيها خطب لألب أرسلان السلجوقى على المنابر. وفيها قدم على طغريل بك رسل الخان الكبير وهدية حسنة، ومعهم رجل بغير رأس ولا عنق، ووجهه فى صدره، وعيناه كالسرح، وفمه فى صدره، وصحبته ترجمان يفهم كلامه. فأوقف بين يدى طغريل بك وسأله عن أصله، فقال على لسان الترجمان: إنه من بلاد قراطاغ، وإنه من قوم كثيرة ليس يحصى عددهم إلاّ الله، وإنّهم على شاطئ البحر المحيط، وليس لهم ملك ولا دين يرجعون

إليه، وإنهم كالوحش لا يعرفون شيئا مما يعرفونه الآدميين، وهم من نسل يافث بن نوح. ثم إنّ طغريل بك سأل من الرسول عن ذلك الشخص فقال: هؤلآء يسمون عندنا: باشى بق أغلى؛ معناه ابن بلا رأس. ويحكى أنّ أصلهم كان أبوهم ضربت رقبته مظلوما فى أول زمان فعاش‍ <ت> جثته ولم يمت، فكان يمشى ويروح، وإذا جاع ظهر وريده بين كتفيه فيعلم أنّه جاع، فيطعم ويسقى. ثم إن بنوه جميعهم أتوا على هذه الصفة. وبين بلاد الخان وبلادهم سنتين جدّ فى أراضى (كذا) وجبال وأودية ورمال (ص 504) وإن الملك المحاذى لمملكة الخان الذى يقال له كمش خان بن الطرخان الكبير سيّر هديّة إلى الخان وسيّر هذا الرجل مع هديته للتعجب، فسيّره الخان إليك للتعجّب فى عظيم قدرة الخالق.

ذكر سنة اثنتين وثلاثين وأربع مئة

ذكر سنة اثنتين وثلاثين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. والمستنصر خليفة مصر، والوزير الجرجرائى مستمرّا. وفيها كانت زلزلة عظيمة بأرض القيروان، ووصلت إلى إفريقية، وخسف ببعض قرى بأرض القيروان، وطلع من ذلك الخسف دخان عظيم متّصل بالعيان. وفيها نزل ميكائيل ملك الروم عن الملك، وولّى دربى؟؟؟ فى حديث طويل.

ذكر سنة ثلاث وثلاثين وأربع مئة

ذكر سنة ثلاث وثلاثين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. والمستنصر خليفة مصر، وكان بمصر وباء توفى فيه جماعة من الأشراف. وظهر بالقرافة شئ لا يعرف ما هو، حتى قيل إنه القطرب واختطف جماعة من أولاد سكان القرافة، وخافوه الناس على أولادهم، ورحل من كان يسكن القرافة. وقيل إنّه كان ينحدر من الجبل المقطّم، (ص 205) وكثرت فيه الأقوال. وذكر أن شخص من أهل كبار مصر يسمى حميد الفوّال كان

خرج من اطفيح على حمارة له وتحته خرج فيه فول قد أحضره معه للمعيشة. فأذّنت عليه المغرب عند حلوان، فوجد امرأة مبرقعة ملتفّة برداء مسّاق (كذا)، جالسة على قارعة الطريق. فلما قرب منها كلّمته بكلام ليّن، وقالت: إنى امرأة ضعيفة وأرملة، وعندى صغار أيتام، وخرجت أستعطى لهم من قرى اطفيح حتى لا أعرف بمصر فإنى من بيت، وقد أعييت هاهنا، وأمسى علىّ الليل وأخشى من ولد زنا أو وحش يفترسنى، وأسألك أن تردفنى على دابتك إلى طرف مصر. فرقّ لها الرجل وأردفها خلفه، وهو لا ينظر إليها حياء من الله عز وجلّ. فلم يشعر إلاّ ودابته تقمص من تحت. ثم إنها سقطت من تحته فنظرها فإذا بها قد أخرجت جوفها بمخالبها. فلما رآها الرجل كذلك لم يتمالك دون الهرب والنجاة بنفسه، واشتغلت فى الدابة عنه. ولم يزل الرجل على وجهه إلى أن دخل مصر، وهو لا يصدق بالنجاة. ثم بلغ خبره والى البلد فركب فى جمع له والرجل صحبته، وأتوا إلى المكان فوجدوا الدابة طريحة والخرج الفول إلى جانبها وقد أكل جميع جوفها. ثم إن الناس اختشوا ذلك، وصنعوا الدروب على حارات مصر، وأوثقوا أبوابهم، ونفروا أهل ضواحى مصر. ثم إنها عادت تتبع الموتى من الناس الطريّين فتنبش قبورهم وتمزّق أكفانهم وتأكل أجوافهم، ويأتوا أصحاب الميت فيجدون ميتهم

منبوشا موكولا (كذا) على شفير قبره. فامتنعوا الناس من الدفن بالقرافة لذلك، وعادوا يدفنون بصحراء الريدانية بظاهر باب النصر، ولم يكن قبل (ص 206) ذلك يعرف هناك مقابر. وكثرت فى أحوال هذا الشئ الأحاديث والخرافات والأقاويل من ساير الناس أضربت عن كثير منه. وهذا الكلام وقعت عليه من كتاب يسمى «تحفة القصر، فى عجايب مصر»، منسوبا إلى العاضد آخر الخلفاء الفاطميين، وقعت عليه فى جملة معه وهو محروق أكثره، أظنه من كتب الخزانة التى احترقت، وذكر فيه من العجايب بمصر شئ كثير غير أن أكثرها مخرومة بالحريق. وهو كتاب حسن بخط منسوب جيّد التذهيب، وهو تأليف خليفة مطّلع فاضل لا يجمع فيه غير ما ثبت عنده. وذكر فيه العروس التى كانوا أهل مصر يهدونها فى كل عام للنيل، وذلك فى الوقت الذى يرمون فيه إصبع الشهيد، وأن لم يزل ذلك مستمرّا عند القبط إلى حين ملكت المسلمين. فكتب بذلك عمرو ابن العاص إلى الإمام عمر بن الخطاب رضى الله عنه. فأنفذ الإمام عمر ورقة أو قال قطعة من أدم مكتوب فيها بخط يده أو قال بخط الإمام على بن أبى طالب كرّم الله وجهه.

هكذا ذكر صاحب هذا الكتاب أن الورقة كانت قطعة من أدم بخط الإمام علىّ عليه السلام يقول فيها: بسم الله الرّحمن الرحيم أمّا بعد: أيّها النيل المبارك. إن كنت تجرى بأمر الله فاجر لما أمرك الله، نفع الله بك. قال: ورميت هذه الورقة عوضا عن تلك العروس التى كانوا يزينوها ويلبسوها أفخر الملابس ويرمونها، قال: فكان النيل فى تلك السنة أعمّ من كلّ نيل كان من قبله. فاستمر ذلك. وذكر فى هذا الكتاب من عجايب مصر وكهنتها وسحرتها بصعيدها وبرابيها وعمايرها أشياء كثيرة، أكثرها مخرومة (ص 207) بالحريق الذى حصل فى الكتاب، وآمل أنى أذكر بعض شئ فى هذا التاريخ من عجايب هذا الكتاب ممّا له أول وآخر بغير خرم إن شاء الله تعالى. على أنى قد ذكرت فى أول جزء من هذا التاريخ من أحوال مصر ما فيه الكفاية، لما تضمنه ذلك الجزء الأول من العجايب التى لم تقع لأحد من قبل من أرباب التواريخ، وذلك لما كنت أيضا وقعت عليه من الكتاب القبطى الذى وجدته بالدير الأبيض بالوجه القبلى واستنسخت منه ما ضمنته لذلك الجزء، والواقف عليه يعلم صحة الدعوى إذا لم ينظر بعين الهوى.

ذكر سنة أربع وثلاثين وأربع مئة

ذكر سنة أربع وثلاثين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وسبعة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. والمستنصر خليفة مصر، والوزير الجرجرائى بحاله، وكذلك القاضى أبو الفتح عبد الكريم بن عبد الحاكم بن سعيد الفارقى. وفيها فتح معزّ الدولة ثمال بن صالح بن مرداس حلب وملكها، وهو الثانى من ملوك بنى مرداس بحلب. وفيها ولد بصنعاء اليمن مولود عن عشرين شهرا كأطول ما يكون من المولودين، وعيناه كالشرج وهلكت أمه. وفيها كانت الزلزلة العظيمة بتوريز فهدمت قلعتها وسورها ودورها، وأحصى عدة من هلك تحت الردم من الناس فكانوا نيف وخمسين ألفا. وإنّ أميرها لبس السواد و <جلس على> المسوح لعظم هذه النازلة. ذكر ذلك صاحب «تاريخ بغداد» وعدّها من النوازل العظام والنكت الغريبة والمصيبة العميمة (ص 208).

ذكر سنة خمس وثلاثين وأربع مئة

ذكر سنة خمس وثلاثين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع واثنان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وستة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. والمستنصر خليفة مصر، والوزير الجرجرائى بحاله. وفيها دخلت الأتراك الموصل ولم يكن قبل ذلك دخلوها. فكان ذلك أول دخولهم. ذكر سنة ست وثلاثين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثمانية أذرع وسبعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. والمستنصر خليفة مصر. وفيها توفى الوزير الجرجرائى المقدّم ذكره. وتولّى الوزارة تاج الرياسة أبو نصر صدقة بن يوسف الفلاحى، وكان يهوديا فهداه الله تعالى للإسلام، والقاضى عبد الكريم بحاله. وفيها ظهر بحمص رجل كذّاب وادّعى النبوة، وأنه من ولد مسيلمة الكذّاب. فقتله صاحب حمص وصلبه، وقتل جماعة كانوا قد تبعوه على الضلالة. ذكر سنة سبع وثلاثين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وسبعة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا عشرون إصبعا.

ما لخص من الحوادث (ص 209)

ما لخّص من الحوادث (ص 209) الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين. وبنو بويه بحالهم. والمستنصر خليفة مصر، وقبض على الوزير تاج الرياسة صدقة ثم قتل. وتولّى الوزارة بعده ظهير الأئمة أبو البركات الحسين بن عماد الدولة محمد، وهو أخو الوزير الجرجرائى. فأقام إلى سنة إحدى وأربعين وأربع مئة كما يأتى. ذكر سنتى ثمان وتسع وثلاثين وأربع مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لثمان ستة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وتسعة أصابع. الماء القديم لتسع سبعة أذرع وعشرة أصابع مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة أصابع.

ذكر سنة أربعين وأربع مئة

ذكر سنة أربعين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين. وفيها دخل البساسيرى بغداد وملكها من قبل المستنصر خليفة مصر، وأمر بنهب القصر ساعة، ثم كفّ عنه، وأخرج الإمام القائم بالله راكبا على فرس أدهم، وعليه حلّة سوداء وعمامة سوداء. فنزل ووقف بين يدى البساسيرى. ثم أمر بقتل الوزير وقاضى القضاة فقتلا. وخطب للمستنصر خليفة مصر فى بغداد. وكان ذلك فى شهر رجب من هذه السنة فى حديث طويل جدا هذا ملخصه. وقيل: إنما أقيمت دعوة المستنصر ببغداد فى سنة إحدى وخمسين وأربع مئة، وهذا فرط كثير بين التاريخين، والقريب من الصحيح أنّ ذلك كان فى هذه السنة والله أعلم. (ص 210)

ذكر سنة إحدى وأربعين وأربع مئة

ذكر سنة إحدى وأربعين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وتسعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. والمستنصر خليفة مصر. وقبض على الوزير أبى البركات فى شوّال. وكان قد كثر جوره وظلمه وعسفه، وتسلّط على أخذ أموال الناس بالجور والمصادرات. وفيها صرف القاضى أبو محمد القاسم ابن النعمان وتولّى القضاء مكانه أبو محمد الحسن بن على اليازورى، ثمّ تولّى النظر والتدبير فى مصالح الدولة أبو الفضل صاعد بن مسعود. وفيها كان مطر بتمّوز فى القيظ وبرد، ونزل مع المطر ضفادع ورمل أصفر، أقام كذلك يوم كامل، وأكثر ما كان كذلك بدمشق.

ذكر سنة اثنين وأربعين وأربع مئة

ذكر سنة اثنين وأربعين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشرة ذراعا وستة عشرة إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. والمستنصر خليفة مصر. وفى المحرّم من هذه السنة صرف أبو الفضل صاعد بن مسعود عن النظر. ووزر أبو محمد الحسن بن على اليازورى القاضى، وجمع له بين القضاء والوزارة. وهذا القاضى كان أبوه من أهل يازور، وهى ضيعة من عمل الرملة، فترقّى به الحال حتى ولى هاتين الرياستين، (ص 211) وكان

فاضلا، لا يستبدّ برأيه، ولا يأنف من مشاورة ثقاته. وكان إذا ركب يغمض عينه الواحدة فقط لفرط حيائه. هكذا ذكر القاضى ابن خلّكان. وولى الوزارة فى السابع من المحرم من هذه السنة، واستخلف ولده الأكبر فى الحكم، وهو أبو الحسن محمد، ولم يزل أمره مستمرّا حتى قبض عليه فى تاريخ ما يأتى من ذكره إن شاء الله.

ذكر سنة ثلاث وأربعين وأربع مئة

ذكر سنة ثلاث وأربعين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا. واثنا عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. والمستنصر خليفة مصر، والوزير أبو محمد الحسن بن على اليازورى القاضى. وفيها فتح السلطان ركن الدين طغريل بك بن سلجوق إصبهان وكرمان، واتصل سلطانه بتلك الديار إلى ما وراء النهر وغيره. ذكر سنة أربع وأربعين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. والمستنصر خليفة مصر، والوزير القاضى اليازورى مستمرّا. وفيها ولدت بغلة بنابلس بغل أبيض ومهرة، وهما فى بطن واحد. ذكر ذلك العاضد فى كتابه «تحفة القصر فى عجايب مصر» والله أعلم. (ص 212) ذكر سنة خمس وأربعين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا فقط. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. والمستنصر خليفة مصر، والوزير القاضى اليازورى مستمرا على الحكم والوزارة.

ذكر سنة ست وأربعين وأربع مئة

ذكر سنة ست وأربعين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو بويه بحالهم. المستنصر خليفة مصر، والوزير القاضى اليازورى بحاله. وفيها ظهر ناووسا بمدينة حمص، وفيه ميت، وفى رأسه ضربة ويده على رأسه. فإذا رفعوا يده عن رأسه يقطر الدم من تلك الضربة، وإذا أعادوا يده عليها انقطع الدم. فقال المسلمين: هذا منا. وقال النصارى: هذا منا. فحرّروا أمره فوجدوه من أصحاب الإمام عمر بن الخطّاب رضى الله عنه. فأخذوه المسلمين ليحفروا له

ويدفنوه ويبنوا عليه مسجدا، فسرقوه النصارى ورموه فى العاصى. وفيها دخل السلطان ركن الدين طغريل بك ابن سلجوق بغداد وقتل الملك العزيز بن بويه الديلمى، وهو آخر ملوك بنو بويه. وانقرضت دولتهم حتى كأنهم ما كانوا، واستولى على دار السلطنة ببغداد طغريل بك بن سلجوق، وهو أوّل ملوك آل سلجوق (ص 213) ببغداد، ثم استمرّ حكمهم على حكم الخلفاء بأعظم مما كانوا عليه بنو بويه.

ذكر عدة الملوك من بنى بويه الذين ملكوا بغداد

ذكر عدّة الملوك من بنى بويه الذين ملكوا بغداد فأولهم: معزّ الدولة أبو الحسن أحمد بن بويه. الثانى: عزّ الدولة أبو منصور بختيار ولده. الثالث: عضد الدولة أبو شجاع فنّاخسرو بن ركن الدولة. ثم ولده صمصام الدولة أبو كاليجار. الرابع: شرف الدولة أبو الفوارس شيرزيك ولد عضد الدولة أخوه. <صمصام الدولة> الخامس: بهاء الدولة أبو نصير فيروز خره أخوهما. السادس: سلطان الدولة أبو شجاع فناخسرو بن بهاء الدولة.

السابع: جلال الدولة أبو طاهر فيروز خره بن بهاء الدولة. الثامن: [عماد الدولة] الملك أبو كاليجار [المرزبان] ابن سلطان الدولة. التاسع: الملك الرحيم أبو نصر بن أبى كاليجار. العاشر: شرف الدولة أبو على الملك العادل تغلبك. الحادى عشر: الملك العزيز صمصام الدولة المورانى آخرهم وهو الذى قتله السلطان بركوب طغريل بك بن سلجوق حسبما ذكرناه والله أعلم.

ذكر سنة سبع وأربعين وأربع مئة

ذكر سنة سبع وأربعين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وستة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين. وسلطان بغداد طغريل بك بن سلجوق، وجلس ألب أرسلان ابن سلجوق على تخت الملك بخراسان. ذكر سنة ثمان وأربعين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وخمسة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وسلطان بغداد طغريل بك. وفيها كان الوباء والقحط ببغداد والشام ومصر وساير الدنيا، حتى كانوا الناس يأكلون الميتة. وهبط نيل مصر سريعا قبل الانتفاع به، وكان أول الغلاء العظيم بمصر كما يأتى من ذكره فى تاريخه. وكان مع الغلاء وباء عظيم لم يعهد بمثله، حتى كان يموت ببغداد فى كلّ يوم ما يزيد عن خمسين ألف نفس. ثم ارتفع من الشرق ووقع بديار مصر، كما يأتى من ذكر ذلك إن شاء الله تعالى. ذكر سنة تسع وأربعين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين. وسلطان بغداد طغريل بك بن سلجوق.

ذكر سنة خمسين وأربع مئة

وفيها بلغ الخبز ببغداد كلّ اثنى عشر رغيفا بدينارين، واشتد بالناس الغلاء والقحط حتى كادوا الناس يفنوا جميعا. وفيها توفى أبو العلاء [أحمد بن عبد الله] بن سليمان المعرّى الشاعر صاحب كتاب «سقط الزند»، وسيأتى ما استطرف من شعره الداخل فى طبقتى المرقص والمطرب آخر هذا الجزء إن شاء الله تعالى. ذكر سنة خمسين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وسبعة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق الحكام. والمستنصر خليفة مصر، وقبض على الوزير القاضى اليازورى ونفى إلى مدينة تنّيس وقتل بها.

وفيها اشتدّ الغلاء بمصر وكثر الوباء، وكان يموت فى كلّ يوم مما يحصيه ديوان المواريث نحو العشرة آلاف خارجا عمن لا يعرف من صعاليك الناس. وبلغ القمح بثمان الدنانير عين مصرية الأردبّ المصرى، وبلغ الشعير والفول خمسة دنانير والحمص تسع الدنانير. وروى أنّ بمصر درب فيه عدة دور مساكن يعرف بدرب طبق. وإنما يعرف بذلك لأنّه أبيع فى هذه السنة بطبق من خبز، والدور التى فيه تساوى ألوف عدة، وبمصر أيضا دارا تسمّى دار رغيف، أبيعت أيضا فى غلاء المستنصر، وهو فى هذه السنة المذكورة، برغيف خبز، وأكل الناس فى هذه الأيّام جلود الكتب، وعاد الكلاب يدخلون (كذا) بيوت الناس فيأكلون (كذا) الولد قدّام أبوه وأمه، وليس فيهم من المنعة أن يمنعوه (كذا) عن ذلك. وعاد الحمام والعصفور واليمام وما شاكل ذلك يتساقط ميتا من الجوع، ولا يجد ما يأكله. وإنّ المستنصر انحلّ أمره وضعف سلطانه وتقهقرت دولته، حتى إنه ترك القصر وخرج إلى الجامع

الأزهر، وجلس فى المقصورة التى على يمين المدخل من باب الأعمدة. ولم يزل أمره كذلك حتى أتاه (ص 216) بدر الجمالى المستنصرى المعروف بأمير الجيوش، وكان عبدا أرمنيا اشترى بثلاثة عشر دينارا، ولم تزل تترقى به الأحوال إلى أن نعت بأمير الجيوش حسبما يأتى من ذكره فى تاريخ دخوله مصر. وفى هذه السنة تولّى الوزارة بالديار المصرية عميد الخلافة عبد الله ابن محمد البابلى فى المحرّم منها، ثم صرف بعد مدّة شهرين وأربعة عشر يوما. ثم وليها أبو الفرج محمد بن جعفر المغربى فى شهر ربيع الآخر. وولى القضاء فى هذه السنة القاضى أبو على أحمد بن عبد الحاكم فى ثالث وعشرين صفر. ثم صرف فى تاسع ذى الحجة. وولى القضاء عبد الحاكم بن وهيب بن عبد الرحمان. وفيها عاد البساسيرى ودخل الموصل وخطب للمستنصر بها.

ذكر سنة إحدى وخمسين وأربع مئة

ذكر سنة إحدى وخمسين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع واثنا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين. وطغريل بك بن سلجوق سلطان بغداد والمشرق بكماله، مع خراسان إلى ما وراء النهر، إلى حدّ الصين الأعلى فى ممالكهم. والمستنصر خليفة مصر؛ والوزير [محمد] بن جعفر المغربى، والقاضى بحاله. وفيها قصد البساسيرى بغداد، وخرج إليه طغريل بك وضرب معه مصافا وكسره وانهزم البساسيرى.

ذكر سنة اثنين وخمسين وأربع مئة

ذكر سنة اثنين وخمسين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: (ص 217) الماء القديم خمسة أذرع واثنان وعشرين إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وتسعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وطغريل سلطان بغداد. والمستنصر خليفة مصر. وصرف الوزير ابن جعفر المغربىّ فى شهر رمضان. وكانت العادة أنّ الوزراء إذا صرفوا لم يتصرّفوا بعد الوزارة فى عمل ولا خدمة إلاّ إن أعيد (كذا) إلى الوزارة. فاقترح هذا الوزير المغربى عند صرفه وسأل أن يولّى بعض الدواوين. فولّى ديوان الإنشاء. ثم صارت عادة فى استخدام الوزراء بعد الصرف. وسئل عن سبب سؤاله فى توليته فقال: فعلت ذلك حقنا لدمى ودم جميع من سار هذا السير من الوزراء. ثم تولّى الوزارة بعده أبو الفرج [عبد الله بن محمد] البابلىّ المقدّم ذكره. وفى الحادى عشر من رجب صرف القاضى عبد الحاكم بن وهيب، وولّى القضاء مكانه أبو عبد الله أحمد بن محمد بن يحيى. وفيها كانت زلازل وخسف.

ذكر سنة ثلاث وخمسين وأربع مئة

ذكر سنة ثلاث وخمسين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة. الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين، وطغريل بك سلطان بغداد. والمستنصر خليفة مصر، وصرف الوزير البابلى. وولى الوزارة بعده بالديار المصريّة عز الدين عبد الله بن يحيى ابن مدبّر، وذلك فى شهر صفر من هذه السنة. ثم صرف فى شهر رمضان. وولى (ص 218) الوزارة فخر الوزراء قاضى القضاة عبد الكريم ابن عبد الحاكم ابن سعيد الفارقى فى شهر رمضان المذكور. وفيها توفى القاضى أبو عبد الله أحمد بن محمد بن يحيى سادس ربيع الأول. وولى القضاء أبو على أحمد بن عبد الحاكم فى الرابع والعشرين من الشهر المذكور.

ذكر سنة أربع وخمسين وأربع مئة

ثم صرف فى الرابع من رجب، وأعيد الحاكم بن وهيب ولايته الثانية. ثم صرف فى الحادى عشر من رمضان، وأضيف الحكم فى القضاء إلى الوزير عبد الكريم بن عبد الحاكم بن سعيد الفارقى. وفيها كسفت الشمس بعقدة الرأس، وظهرت النجوم، والله أعلم. ذكر سنة أربع وخمسين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا فقط. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وطغريل بك سلطان بغداد. والمستنصر خليفة مصر. وفى المحرّم منها ولى القضاء أبو على بن عبد الحاكم ولايته الثانية، ثم صرف فى الثانى والعشرين من صفر. وولى بعده عبد الحاكم بن وهيب الولاية الثالثة، فى شهر صفر.

ثم ولى الوزارة أبو على أحمد بن عبد الحاكم الذى كان قاضيا، فأقام فيها سبعة عشر يوما وعزل. وولى الوزارة مكانه معزّ الدين أبو عبد الله الحسين بن سديد الدولة الملقب بذى الكفايتين، فى الثانى من ربيع الأوّل. وكان فى وزارته وقعة القصر المعروفة بين العبيد والأتراك، وكانت فتنة عظيمة. ثم صرف فى شعبان. وولى الوزارة بعده جلال الملك أبو الفرج بن عبد الله البابلى وهى وزارته الثالثة. ثم طلب الإعفاء فأعفى. وولى بعده (ص 219) الوزارة أبو محمد عبد الكريم بن عبد الحاكم ولم يزل إلى السنة الأخرى.

ذكر سنة خمس وخمسين وأربع مئة

ذكر سنة خمس وخمسين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وخمسة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وطغريل بك بن سلجوق بحاله. والمستنصر خليفة مصر، وصرف الوزير ابن عبد الكريم. وولى الوزارة تاج الرياسة أبو غالب عبد الظاهر بن فضل المعروف بابن العجمى، وذلك فى جمادى الأولى، وصرف بعد ثلاثة أشهر. وولى بعده قاضى القضاة الحسن ابن القاضى ثقة الدولة المعروف بابن أبى ذكيّة فى شعبان، وصرف فى ذى الحجة. وفيها صرف القاضى ابن وهيب فى سادس عشر المحرّم. وولى وأعيد ابن عبد الكريم، وهى الولاية الرابعة. ولم يزل إلى أن قبض عليه فى السابع عشر من ربيع الأول. ثم أعيد عبد الحاكم بن وهيب ولايته الرابعة. وفيها توفى السلطان ركن الدين طغريل بك بن سلجوق إلى رحمة الله تعالى. وكانت قد زفت له ابنة الإمام القائم بالله، وكانت وفاته بالرىّ. وجلس بالمملكة السلجوقية ألب أرسلان بن سلجوق.

ذكر سنة ست وخمسين وأربع مئة

ذكر سنة ست وخمسين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع واثنا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والمستنصر (ص 220) خليفة مصر. وولّى الوزارة ذخيرة الملك أبو المكارم أسعد، وذلك فى صفر، وصرف فى ربيع الأوّل. ثم أعيد إلى الوزارة أبو غالب بن العجمى، وهى الوزارة الثانية، فى الشهر المذكور، ثم صرف بعد ثلاثة أشهر. وولى العميد علم الكفاة أبو على الحسين بن إبراهيم بن سهل التسترى. وكان يهوديّا فأسلم. فأقام فى الوزارة عشرة أيام واستعفى فأعفى.

ثم ولى الوزارة محمد بن هبة الله الرغبانى بقية هذه السنة. وجميع هذه الأحوال مع فتن وشرور وعدم تدبير وانحلال أمر مصر، فى أشدّ ما يكون من سوء الحال، وكلّ من قوى على صاحبه أكله، ولا يجد من يشتكى إليه، حتى كثير من المساتير نهبوا. وعادوا الناس فى بيوتهم لا يخرجون إلا لضرورة قادحة، لعدم من يشار إليه، هذا مع غلاء الأسعار وعدم الجالب من سائر الأصناف، وتأخرت التجّار، وانقطع الكارم.

ذكر سنة سبع وخمسين وأربع مئة

ذكر سنة سبع وخمسين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق الحكام. والمستنصر خليفة مصر، وعزل الوزير الرغيانى المقدم ذكره، وولى الوزارة الأثير كافى الكفاة أبو الحسن علىّ بن الأنبارى. وتزايد الأمر فى فساد الأحوال وقلّة الحرمة جدا، حتى إن ولاة الأعمال استبدّ كلّ أحد بما فى يده، ولا عاد يرجع بما يؤمر به من قبل الخلافة، وانحلّ نظام الملك إلى الغاية القصوى، والرعايا تحت لطف الله عزّ وجلّ (ص 221)

ذكر سنة ثمان وخمسين وأربع مئة

ذكر سنة ثمان وخمسين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق الحكام. والمستنصر خليفة مصر. وصرف الأنبارى، وولى الوزارة علم الدين أبو على الحسن الماشكى، وذلك عند استحكام فساد الدولة. وقلّت الهيبة واختلّ النظام إلى الغاية. فأقام أيام قلائل ثم صرف. وولى الوزارة بعده أبو شجاع محمد ابن فخر الملك أبى غالب محمد ابن الأشرف البغدادى. وكان قد وصل إلى مصر. فتقرّرت له الوزارة. وكان والده قد وزر لبهاء الدولة أبى نصر ابن عضد الدولة فناخسرو ابن بويه سلطان بغداد.

قلت: وهذا فخر الملك جرت له حكاية مستطرفة أيام وزارته لبهاء الدولة المذكور، وذلك أنه كان فاضلا أديبا يحب المديح ويجيز عليه. فقدم عليه أعرابى من البادية وامتدحه بأبيات، فلم يلتفت إليه فخر الملك ولا عبأ به، ولا أجازه بشئ. وكان فى عصره ابن نباته السعدى الشاعر المشهور وهو غير ابن نباتة صاحب الخطب البليغة. قال راوى هذه الحكاية: وكان ابن نباتة الشاعر المذكور ذو نباهة ورياسة، وهو أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن محمد بن أحمد ابن نباتة بضم النون التميمى السعدى. فلم يشعر وهو جالس على باب داره بين حفدته وجلسائه إلاّ وذلك الأعرابى وبصحبته رسول من جهة قاضى الحكم يطلب ابن نباتة إلى مجلس الحكم، أو يخرج من حق ذلك الأعرابى. فلما رآه ابن نباته لم يعرفه، وتعجّب من ذلك، فإنّه لم يكن قطّ رآه قبل تلك الساعة. فقال له: يا أخا العرب! مالى ولك؟ هل تعرفنى قط قبل اليوم؟ هل علىّ من طلب أو دين؟ فقال الأعرابىّ: أطالبك أصلحك الله بضمان لم تف به. فقال: وما هو؟ فقال ألست القائل: لكل فتى قرين حين يسمو … وفخر الملك ليس له قرين

أنخ بفنائه واحلل عليه … على حكم المنى وأنا الضمين فقال ابن نباته: بلى والله، أنا القائل ذلك. فقال الأعرابى: فإننى قطعت إليه من بادية أرض كذا، وسرت كذا ليلة، وامتدحته بكيت وكيت فلم يلتفت إلىّ، ولا أجازنى بشئ. وأنت الضامن وعليك الغرامة. قال: فأعجب ابن نباتة من الأعرابىّ ذلك. وقال: ارفع الرسول ولك الرضا. وركب لوقته بصحبة الأعرابى، وأتى إلى فخر الملك وقصّ عليه خبر الأعرابى فاستملحه ووصله فوق أمله. قلت: نسخت هذه الحكاية من مجموع. وابن نباتة هذا كان معاصر سيف الدولة ابن حمدان. وهو من الشعراء المعدودين فى الطراز المذهب من شعراء المئة الرابعة. وله فى سيف الدولة ابن حمدان نخب القصائد. فمن ذلك وقد أنعم عليه بفرس أدهم أغرّ محجّل فقال: يا أيّها الملك الذى أخلاقه … من خلقه ورواؤه من رأيه قد جاءنا الطرف الذى أهديته … هاديه يعقد أرضه بسمائه ومنها ولعله معنى مبتكر: فكأنّما لطم الصباح جبينه … فاقتصّ منه فخاض فى أحشائه متمهّلا والبرق من أسمائه … متبرقعا والحسن من أكفائه لا تعلق الألحاظ فى أعطافه … إلاّ إذا كفكفت من غلوائه ما كانت النيران تمكن حرّها … لو كانت النيران بعض ذكائه

ذكر سنة تسع وخمسين وأربع مئة

لا يكمل الطرف المحاسن كلّها … حتى يكون الطرف من أسرآئه ولعمرى لقد أجاد فى وصفه. وأحسن منه قول الآخر يصف فرسا: خير ما استطرف الفوارس طرف … كل طرف لحسنه مبهوت هو فى الجوّ عقاب وفى ال‍ … جبال وعل وفى المعابر حوت فوصفه بأعظم ما فى الأربعة حيوانات (كذا). وكلّ ذلك يقصر عن قول امرئ القيس: مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا … كجلمود صخر حطّه السيل من عل وهذا من التغالى والإعنات الذى لا يمكن أن يكون أبدا لقوله معا. فإنّ معا تكون فى وقت واحد لا يفرق بينهم شيئا. حتى لو كان بين الحالتين طرفة جفن لم يكن معا، فلذلك أنه لا يمكن ذلك. والله أعلم. ذكر سنة تسع وخمسين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة أصابع.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والمستنصر خليفة مصر، وصرف الوزير ابن فخر الملك البغدادى. وولّى الوزارة بعده أبو الحسن طاهر بن زبر من أهل طرابلس الشام، وصل إلى مصر وخدم كاتبا فى ديوان الإنشاء. فتقرّرت له الوزارة فأقام أيّاما وانصرف. وولى بعده العادل شمس الأمم أبو عبد الله محمد (ص 224) ابن أبى حامد التنّيسى. وصل إلى مصر زمن الفتن فاستقرّت له الوزارة يوما واحدا ثم قتل. وولى بعده عميد الخلافة أبو سعيد منصور المعروف بابن زنبور. فأقام فى الوزارة أيام قلايل، ثم طالبوه الجند بأرزاقهم فوعدهم وهرب مع اللواتين وبطل أمره. ثم ولى بعده مكين الدولة أبو العلاء عبد الغنى نصر بن سعيد الضيف. ونظر فى الأمور وساطة لا وزارة، إلى أن وصل بدر الجمالى أمير الجيوش. هذا والغلاء مستمرّا، والهيبة ساقطة والنظام محلول.

ذكر سنتى ستين وإحدى وستين وأربع مئة

ذكر سنتى ستين وإحدى وستين وأربع مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لستين أربعة أذرع وثلاثة أصابع. ملبغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وستة أصابع. الماء القديم لإحدى وستين ستة أذرع وأربعة وعشرون إصبعا مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث فى سنة ستين وأربع مئة زلزلت فلسطين زلزلة عظيمة. وتوفى أبو جعفر الطوسى فقيه الشيعة. والغلاء مستمرّا بمصر وعدم التدبير موجود. فى سنة إحدى وستين وأربع مئة كثر الوخم والوباء بمصر، وعاد الطير المعروف بالرخم كثيرا جدا، حتى عاد فى سائر دور مصر يطرد فلا يبرح. وعاد الناس يطلع فى حلوقهم صفة التخمة فيموتون بها. فقيل سنة الوخم والرخم والتخم. فنعوذ بالله من أنظارها.

ذكر سنة اثنين وستين وأربع مئة

ذكر سنة اثنين وستين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا فقط (ص 225) <ما لخّص من الحوادث> الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين. وبنو سلجوق بحالهم. والمستنصر خليفة مصر، وناظر الدولة أبو العلاء بحاله. وفيها أحرق جامع دمشق. وفتحت الروم منبج، وتسلّم اقسيس دمشق من المصريّين. وفيها أشار صاحب حلب بالخطبة لبنى العباس. فلّما كان يوم الجمعة خرج الخطيب والمؤذنون السواد عليهم، فلما رأوهم الناس

ارتاعوا لذلك، فإنّ عهدهم كان بعيدا من ذلك. فلما ذكر الإمام القائم نفروا وخرجوا من الجامع بغير صلاة. فلما كان الجمعة الأخرى رتّب محمود [بن صالح] صاحب حلب جماعة على أبواب الجامع، وقال لهم: من خرج من الجامع ولم يصلّ اقتلوه. ثم خطب الخطيب وصلّى الناس من تحت القهر. ثم إنّ العامة تعاونوا وأخذوا حصر الجامع وقالوا: هذه حصر علىّ بن أبى طالب فأحضروا لأبى بكر وعمر وعثمان حصر. وأقام الناس مدة طويلة يصلّون على الأرض بغير حصر، والله أعلم.

ذكر سنة ثلاث وستين وأربع مئة

ذكر سنة ثلاث وستين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق الحكام. والمستنصر خليفة مصر، وناظر دولته أبو العلاء عبد الغنى بحاله. فيها فتح تاج الدولة دمشق. وفتحت الروم صقلية وأخذوها من المسلمين. وفيها كانت الوقعة العظيمة بين السلطان ألب أرسلان السلجوقى وبين ملك الروم. وذلك أنّ ألب أرسلان لما توجّه من همدان فتح أرجيش وقصد (ص 226) مناز كرد إلى ميّا فارقين. فنزل بتلّ بغداد.

وكان يومئذ مدبّر الممالك الخليفية الوزير نظام الملك نصر بن مروان، فخرج إليه وهو خائف يترقّب. فلما حضر بين يديه قرّر عليه مئة ألف دينار يحملها وخلع عليه. ثم إنّ نظام الملك أخرج للسلطان من الإقامات والتقادم والعلوفات شئ كثير. وكان ذلك على ميّافارقين. فبلغ السلطان أنّ جميع ذلك إنما أخذه الوزير نظام الملك من أموال الرعّية. فردّ الجميع عليه، وقال: ما لنا فى أموال الرعيّة من حاجة. وأمره بردّه على أصحابه، فأعاده، حتى قيل إنه ردّ على فلاح بيضة كانت أخذت منه. ثم حمل نظام الملك الإقامات للسلطان من ماله وصلب حاله. ثم إنّ السلطان ألب أرسلان فتح السويدا وحصون كثيرة إلى حرّان، ثم نزل على الرّها، ونصب المناجيق، وردم خندقها. فبذلوا له خمسين ألف دينار على أن يعفيهم، فكفّ عنهم، ثم غدروا ولم يوفوا. ورحل السلطان طالبا للفرات، وتقاعدت عنه العساكر الذين كانوا من العراقين، وهو عسكر عمّه طغريل بك المقدّم ذكره، وخبثت نفوسهم لأجل تأخير أرزاقهم، ونزل على الفرات فى شرذمة يسيرة الخصّيصين به من عسكره. فلم يحفل به محمود صاحب حلب، ولا نزل إليه. فأضربت العساكر فى بلاد حلب تنهب، ووصلوا إلى القريتين من عمل دمشق أيضا. ثم نزل على حلب وحاصرها، فأرسل

إليه محمود يطلب الموادعة، ووعده أن يدوس البساط. ثم إنّه خرج إليه فى الليل ووالدته معه ومسكته بيده وقدّمته للسلطان ألب أرسلان الملك العادل. وقالت: يا خوند هذا ولدى ومهجة فؤادى قد سلمته إليك افعل فيه (ص 227) ما أحببت من جميل إحسانك. فرقّ لها وأكرمها وطيّب قلب ولدها. وقال: خد والدتك وعود إلى مكانك، وأخرج من الغد لترى ما أفعله معك. فعاد من الغد. فأمر الوزير نظام الملك والحجّاب أن يتلقوه، ودخل على السلطان فأكرمه وأجلسه وأخلع عليه بما يليق بمثله، وأنعم عليه بالخيول بالمراكب الذهب، وركّبه بالكوسات والصناجق. ثم وردت الأخبار على السلطان ألب أرسلان أنّ ملك الروم خرج فى جموع عظيمة، وورد إلى منبج وأرجيش ومناز كرد. فرجع السلطان. وعدّا الفرات. وبلغ ملك الروم أنّ السلطان فى عسكر خفيف. فطمع فى لقائه. ووصل الخبر إلى السلطان بما عزم عليه ملك الروم وطمعه فيه لقلّة جيوشه. وكان قد بقى فى أربعة آلاف فارس. فقال لوجوه عسكره: أنا صابر فى هذه الغزاة صبر المحتسبين، وصابر إلى مصير المخاطرين. فإن سلمت فذلك ظنّى بالله تعالى، وإن تكن الأخرى فأنا أعهد إليكم أن تسمعوا وتطيعوا لولدى ملك شاه، وتقيموه مقامى. فقالوا: سمعنا وأطعنا. وقصد الروم جريدة، مع كلّ غلام فرس يركبه وآخر يجنبه. وسار بنيّة خالصة لا يخالطها كدر لغزاة المشركين وقدّم قدّامه أحد حجّابه فى جماعة من الجند. فصادف عند

أخلاط مقدمة الروم فى عشرة آلاف من الروم، فالتقاهم ذلك الحاجب، وكان فى ثمان مئة فارس. فنصره الله عزّ وجل على تلك الجموع بمعونة الله تعالى، وأسر مقدّم الجيش وكان من الرءوس، وأخذ صليبهم وأنفذ الجميع إلى السلطان. فسرّه ذلك وعلم أنها علامة النصر. ووصل ملك الروم إلى مناز كرد فى تلك الجموع العظيمة مما يزيد (ص 228) عن مئة ألف فارس، ومئة ألف جرخى، وأربع مئة عجلة تجرّها ثمان مئة جاموسة، عليها نعال ومسامير برسم الخيول، وألف عجلة أخرى عليها السلاح والمناجيق وآلات الحصار. وكان فى خزائنه ألف ألف دينار، ومئة ألف ثوب إبريسم. وخرج فى نيّة أنه يطأ الأرض ويفتح مصر والشام. واقتطعها للبطارقة. وأوصى على بغداد وقال: لا يتعرّض أحد إلى دار الشيخ الصالح، يعنى الخليفة، فإنّه صديقنا. وكان قد اجتمع مع السلطان ألب أرسلان تقدير عشرة آلاف من الأكراد والمجتمعة من سائر الناس. فلما كان نهار الجمعة قال السلطان وقد جمع وجوه أصحابه: إلى متى هذا التأخير؟ أريد أن أطرح نفسى عليهم هذا اليوم وقت الصلاة الذى الناس جميعهم من المسلمين يدعون لنا بالنصر على المنابر. فإن نصرنا الله عزّ وجلّ عليهم وإلاّ متنا شهداء. فمن أحبّ أن يتّبعنى فليتّبع، ومن أحبّ الحياة فلينصرف ولا عتب عليه. فما هاهنا اليوم سلطان، وإنما أنا واحد منكم.

فقالوا جميعهم: لا حياة لنا بعدك، ومهما اخترته لنفسك اخترناه لأنفسنا. فلما كان وقت الصلاة اصطفت العسكرين. فعندها قام السلطان فى سرجه ورمى القوس من يده؛ وتناول لتّ حديد. وفعل جميع أصحابه كفعله. وصاح. الله أكبر فتح الله ونصر. وحمل على الروم حملة صادقة، وحملوا جميع أصحابه بقلوب موافقة، فلم يقفوا الروم قدّامهم ولا طرفة عين لتلك الحملة المنكرة. ونصر الله الإسلام وكسروا عبدة الصلبان والأشخاص والأصنام، وركبوا أكتافهم قتلا وأسرا، وتبعهم السلطان بقيّة يوم الجمعة مع ليلة السبت (ص 329) وهو يقتل ويأسر، فلم ينج منهم إلاّ القليل النادر. وغنم جميع ما كان معهم، ورجع إلى مكانه. فدخل عليه بعض الأمراء الذى له وقال: إنّ أحد مماليكى أسر ملك الرّوم. وكان هذا المملوك قد أعرض على نظام الملك فاحتقره ولم يجيز عرضه وأسقطه، وقال مستهزئا به: لعلّه يأتينا بملك الروم! فأسر الله ملك الروم على يده لكسر قلبه. فأمر السلطان بعض الخدّام الذين عنده ممن كان يعرف ملك الروم أن يتوجّه ويكشف عن حقيقة أمره فلما رآه عرفه. فعاد إلى السلطان وأخبره بذلك. فأمر له بخيمة فضربت له، ووكل به من يحفظه،

وأحضر السلطان الغلام الذى أسره وأخلع عليه وأعطاه وقدّمه، وأقطعه غزنة، وجعله من خاصّته. ثم إنّ السلطان أحضر ملك الروم يرفل بقيوده. فرفسه برجله. ثم قال له: ما الذى تريدنى أفعل بك؟ قال: إحدى من ثلاث: الأولى قتلى وإعدامى الحياة. والثانية إشهارى وسجنى، والثالثة: لا فائدة من ذكرها فإنّك لا تفعلها. قال السلطان: وما على؟ قال: تعفو عنى وتصطنعنى وتتّخذنى خادما ما بقيت من عمرى. فقال السلطان: إنى لم أنو إلاّ العفو عنك. فاشتر الآن نفسك. فقال: يقول السلطان ما شاء. فقال: ألف ألف دينار. ثم استقرّ بينهما الحال على ما أحبّ السلطان وهو ألف ألف دينار، وللهدنة ثلاث مئة ألف. وأن يسيّر فى كلّ سنة عشرين ألف دينار، وأن يتقدّم إلى عساكر الروم بجميع ما يحتاج إليه المسلمون من سائر ما فى بلاد الروم. ثم حلّ وثاقه وأخلع عليه ونصب له سرير إلى جانب سريره. فقال ملك الروم: عجّل بإنفاذى (ص 230) قبل أن تقيم الروم لهم ملكا غيرى. فقال له السلطان: أريد أن تعيد إلينا ما أخذته من بلادنا، وهو الرّها ومنبج، ومناز كرد، وتطلق سائر أسير عندك من المسلمين. فقال: أمّا البلاد فإذا وصلت سالما إلى بلدى أنفدت بتسليمها إليكم. فإنّ الآن لا يسمعون منى. وأمّا أسارى المسلمين فإنى فكنت عاهدت

الله عزّ وجل ونذرت من قبل أن تعفو عنى، أنى متى ردّيت إلى بلادى سالما أعتقت كلّ أسير عندى. وأنا فاعل ذلك. ثم إن السلطان ردّه إلى خيمته، ورتّب له ما يصلح لمثله من سائر ما يحتاج إليه. ثم إنه اقترض عشرة آلاف دينار وفرّقها على الحاشية. فلما كان بعد ثلاثة أيام أحضره السلطان وتلقاه وقام له قائما وأجلسه على سريره الذى كان له وكسب منه، وأخلع عليه ثانيا بأحسن من الأولى، وعقد له راية بيضاء مكتوب عليها بالسواد: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأنفذ معه حاجبين ومئة غلام، مع سائر ما يحتاج إليه الملوك من الآلات، وركب معه بنفسه وشيّعه مقدار فرسخ، وتعانقا وتودّعا وسار إلى القسطنطينية. ثم إنّ السلطان كتب إلى الخليفة الإمام القائم بالله أمير المؤمنين يشرح له جميع ما جرى. وزيّنت بغداد، وعملوا القباب وكان فرحا عاما عند سائر الناس بجميع الأقاليم. وأمّا ملك الروم فإنّه وصل إلى بلاده سالما، وأوفى بجميع ما أوعد به، وزاد فى هداياه أضعاف ما كان فى الظنّ، واستقرّ حال المسلمين معه طول أيام حياته.

ذكر سنتى أربع وخمس وستين وأربع مئة

ذكر سنتى أربع وخمس وستين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنتين (ص 231): الماء القديم لسنة أربع: أربعة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع. الماء القديم لسنة خمس: ثلاثة أذرع وسبعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة أصابع. الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين مستمرّا فيهما (كذا) وكذلك المستنصر. وفى سنه أربع كان زيادة الماء بكلّ أرض، حتى خيف منه، وظن أنه طوفانا. وقيل بل كان ذلك فى سنة ستّ التى غرقت فيها بغداد حسبما يأتى من ذكر ذلك فى سنة ست.

ذكر سنة ست وستين وأربع مئة

وفى سنة خمس توفى السلطان ألب أرسلان السلجوقى إلى رحمة الله تعالى، وجلس على تخت الملك السلطان ملك شاه أبو الفتح ابن السلطان ألب أرسلان ابن سلجوق، وكان ملكا شجاعا هماما جوادا، وسيأتى من خبره طرف فى مكان يليق به إن شاء الله تعالى. وفيها توفى محمود بن شبل الدولة صاحب حلب. وقام بأمر حلب ولده نصر بن محمود. وفيها استولى تاج الدولة على دمشق، وأخرج الأقسيس منها من رواية أخرى. ذكر سنة ست وستين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وتسعة أصابع.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة القائم بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق الملوك بحالهم. والمستنصر خليفة مصر. وفيها دخل أمير الجيوش إلى الديار المصرية. وهو أبو النجم بدر الجمالى المستنصرى، وكان قبل ذلك بصور (ص 232) وعكّا نايبا عن الظاهر بن الحاكم. فعقد يوم وصوله مجلسا عظيما عامّا اجتمع فيه أكثر الناس فاستفتح قارئا وقرأ (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ}) وقطع الآية. فقال المستنصر: لو أتم الآية أمرت بضرب عنقه. وممّا يعتد من مبادئ سعادة أمير الجيوش أنه حضر من بيروت فى البحر وأقلع منها فوصل منها إلى دمياط ثانى يوم، وصحت له هذه الصحوة حتى ضرب بها المثل، فقيل: صحوة أمير الجيوش. ونعت بالسيّد الأجلّ كافل أمير المؤمنين، وهادى قضاة المسلمين، وناصر دعاة الدين، أمتع الله ببقائه أمير المؤمنين. ثم إنّه دبر الأمور أحسن تدبير، وأرخص الأسعار بعد طول مدة غلائها فى تلك السنين الماضية. وذلك أنه نادى بإخراج الغلال وبيعها،

وعاد يهجم على كلّ من بلغه أنّ عنده غلة خزين. فإذا وجد ذلك طلبه وكشف عن ما يكفيه وجميع عائلته من تلك الغلّة مدة سنة كاملة، ويأمر بالفاضل عنه فيباع ويصب فى العراص. فرخص السعر، وطابت نفوس الناس، ومشى الحال، وقويت الهيبة، وارتدع المفسد، وأمنت الطرق، وسافرت التجار، وورد الجالب. وفيها قبض على أبى العلاء عبد الغنى المعروف بالضيف الذى كان ينظر فى الأمور، وأمر بنفيه إلى قيسارية ثم نقل إلى تنيّس وقتل بها. وفيها ولى القضاء أبو العلاء حمزة العرقى من قبل أمير الجيوش، وعاد من متولى الحكم والدعوة من هذا التاريخ نائبا عن أمير الجيوش، وتقليدهم من مجلس حكمه. فكان نوابه فى القضاء من يذكر: أبو يعلى حمزة العرقى وكان وليه أصلا. أبو الفضل القضاعى. أبو القاسم على بن أحمد بن عمار. أبو الفضل بن نباتة. أبو الفضل بن عتيق. أبو الحسن بن الكحّال. وفيها كانت غزقة بغداد.

قال القاضى ابن الأثير صاحب التاريخ: إن فى هذه السنة كانت غرقة بغداد. وذلك أنه جاءت أمطار وسيول، وجاء بأرض الموصل والجبال أمطار عظيمة، وزادت دجلة (ص 233) زيادة لم يعهد بمثلها، وعاد يأتى على وجه الماء من الأفاعى من الحيّات والحشرات شئ كثير، حتى نظروا الناس على تلّ فى وسط الماء سبع ويحمور واقفين مذهولين عن بعضهما بعضا. ودخل الماء دار الخلافة من باب النوبى وباب العامة، ودخل الجامع وخرج الماء على الخليفة من تحت سريره، فنهض إلى الباب فلم يجد طريقا، فحمله خادم على ظهره إلى التاج، ولبس الخليفة البردة وأخذ القضيب بيده ووقف بين يدى الله تعالى يتضرّع، ولم يطعم فى يومه وليلته، وغرقت مقبرة أبرز وخرجت الموتى فى توابيتهم على الماء، وتهدّم الحريم وباب الأزج، وخرج رجل وعلى كتفه ولد له، فاجتهد أن يتخلّص فلم يقدر فرمى بولده وخلص بنفسه. وغرق من العالم والبهائم ما لا يحصى كثرة. وفيها تسلطن السلطان سنجر شاه.

ذكر سنة سبع وستين وأربع مئة

ذكر سنة سبع وستين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثلاثة أذرع وتسعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين، إلى أن توفى فى هذه السنة يوم الخميس ثانى عشرين شعبان، وعمره سبعون سنة. وكانت خلافته أربعا وأربعين سنة وثمانية أشهر. وتولى الخلافة المقتدى. ذكر خلافة المقتدر بأمر الله بن محمد بن القائم بالله وما لخّص من سيرته هو أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد الله القائم بالله ابن أحمد القادر بالله. وباقى نسبه قد تقدم ذكره.

ذكر سنة ثمان وتسع وستين وأربع مئة

أمّه أمّ ولد تسمّى شراب. ومحمد والده يلقّب ذخيرة الدين. وكان ولى عهد أبيه القائم بالله فتوفى فى حياته (ص 234). والمستنصر خليفة مصر. وأمير الجيوش بدر الجمالى مدبّر الممالك المصرية بأحسن التدبير. وصلحت أحوال الناس، وزال جميع ما كان من الشرور والفتن والخوف، ورخصت الأسعار، ومشت أحوال العالم. وكثر الجالب من سائر الأصناف. ذكر سنة ثمان وتسع وستين وأربع مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لسنة ثمان: أربعة أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة أصابع. الماء القديم لسنة تسع: ثلاثة أذرع وسبعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة أصابع.

الحوادث

الحوادث الخليفة فيهما المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين. وبنو سلجوق الحكام. والمستنصر خليفة مصر، وأمير الجيوش بدر الجمالى مدبّر الممالك المصرية. وفى سنة ثمان قتل محمود بن نصر بن شبل الدولة صاحب حلب، وجلس أخوه سابق بن محمود. ولم يتجدّد شئ فى سنة تسع بحكم التلخيص. ذكر سنتى سبعين وإحدى وسبعين وأربع مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لسنة سبعين أربعة أذرع واثنان وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا.

الحوادث

الحوادث الخليفة فيهما المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم حسبما تقدم. والمستنصر خليفة مصر. وأمير الجيوش بدر الجمالى مدبر الممالك المصرية. وفى سنة سبعين حاصر تاج الدولة حلب، وطمع فى أخذها من سابق. وفيها ولد المستظهر. وفى سنة إحدى وسبعين توفى نصر بن مروان صاحب ديار بكر (ص 235). وفيها كانت عدة فتن بين الملوك يطول شرحها. ذكر سنتى اثنتى وثلاث وسبعين وأربع مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لسنة اثنتين: خمسة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع.

الحوادث

الماء القديم لسنة ثلاث: أربعة أذرع واحد وعشرون إصبع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية أصابع. الحوادث الخليفة فيهما المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين. وبنو سلجوق بحالهم. والمستنصر خليفة مصر، وأمير الجيوش بدر الجمالى مدبر ممالكه. وفى سنة اثنتى عاد تاج الدولة وحاصر دمشق وأخذها فى ربيع الآخر وقتل اتسز الذى كان تغلب عليها. وكانت مملكته بها ثلاث سنين وأربعة أشهر. وفى سنة ثلاث أخذ شرف الدولة حلب من سابق بن محمود. ذكر سنتى أربع وخمس وسبعين وأربع مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لسنة أربع: خمسة أذرع وثمانية عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثلاثة عشر إصبعا.

الحوادث

الماء القديم لسنة خمس: ثمانية أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع. الحوادث الخليفة فيهما المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والمستنصر خليفة مصر. وأمير الجيوش بها بدر الجمالى مدبّر ممالكه. وفى سنة أربع توفى محمد بن ثابت الجحدى صاحب آلة النجوم الرصدية. وفى سنة خمس فتح تاج الدولة أنطرطوس وبانياس من الفرنج. وفيها سار السلطان ملك شاه السلجوقى إلى محاربة أخيه نقش شاه (ص 236) وحصل بينهما الصلح من غير حرب ولا قتال.

ذكر سنتى ست وسبع وسبعين وأربع مئة

ذكر سنتى ست وسبع وسبعين وأربع مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لسنة ست خمسة أذرع وسبعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. الماء القديم لسنة سبع خمسة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. الحوادث الخليفة فيهما المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والمستنصر خليفة مصر، وأمير الجيوش بدر الجمالى بحاله. قال ابن واصل: فى سنة ست وسبعين وأربع مئة سيّر السلطان جلال الدولة السلجوقى سلطان بغداد فخر الدولة بن جهير إلى ديار بكر

ليتسلّمها، وأعطاه الكوسات و [سيّر معه] العساكر [فسار إليها ونزل بنواحى آمد]. [وفى سنة سبع وسبعين وأربعمائة] أردفه بجيش كثيف من جملتهم الأمير أرتق بن أكسب-أبو الملوك الأرتقيّة-وكان صاحب ديار بكر يومئذ ابن مروان الكردى لما بلغه توجه العساكر إليه، توجّه إلى الأمير شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران العقيلى صاحب الموصل راغبا أن ينصره ويساعده فأجابه إلى ذلك. فلما علم فخر الدولة ذلك مال إلى الصلح ولم ير بتشتيت العرب مصلحة. فلما علمت التركمان منه ذلك تركوه، وركبوا ليلا وأحاطوا بالعرب، وذلك فى ربيع الأول، [والتحم القتال واشتد]، فانهزمت العرب، ولم يحضر هذه الوقعة فخر الدولة ولا الأمير أرتق. وغنم التركمان حلل العرب ودوابهم، وانهزم شرف الدولة العقيلى وتحصّن بمدينة آمد، ونازله فخر الدولة ابن جهير والأمير أرتق بالعساكر. فراسل شرف الدولة الأمير [أرتق] وبذل له مالا كثيرا. وكان أرتق على حفظ الطريق. فمكّنه من الخروج فخرج لتسع بقين من ربيع الأول، وقصد الرقّة.

فلما بلغ جلال الدولة السلطان ببغداد [انهزام شرف الدولة وحصره بآمد، لم يشك فى أسره ف‍] خلع على عميد الدولة ابن فخر الدولة [بن جهير] وسيّره إلى أبيه فى جيش كثيف ومعه من الأمراء قسيم الدولة آقسنقر والد الأتابك محمود بن زنكى. وكان الأمير أرتق قد رجع إلى السلطان لمنافسة وقعت بينه وبين فخر الدولة ثم توجهت الجيوش إلى الموصل ونازلوها وفتحوها سلميّا. ثم حضر السلطان بنفسه وكانت [بلاده الموصل، وديار ربيعة أجمع، ومدينة حلب و] سائر تلك النواحى بالجزيرة والفرات ومنبج وغيرهما. قال ابن واصل: ثم إن شرف الدولة طلب الأمان من السلطان وحضر، وقدّم السلطان تقادم حسنة من جملتها فرسه المشهور المسمى بشّار، فسبق كلّ فرس كان عند السلطان فأعجبه، وأقبل على شرف الدولة وأعاده إلى ما كان عليه، وأعاد إليه الموصل. وكان صاحب قونية وأقصرا وما يتّصل بهما من البلاد الرومية للملك سليمان بن قطلمش، وهو ابن عم السلطان جلال الدولة ملكشاه. فقصد فى سنة سبع وسبعين وأربع مئة مدينة أنطاكية، وكانت يومئذ بيد الروم وكانوا ملكوها سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة. قلت: وسيأتى ذكر ذلك متفصّلا فى تاريخ ما يأتى ذكره، لما فتحها السلطان الملك الظاهر البندقدار آخر وقت إن شاء الله.

وملكها فى هذه السنة فى حديث طويل يأتى فى موضعه، ولما ملكها كتب إلى السلطان ملكشاه بذلك وعرّفه بما فتح الله على يديه. ثم إن شرف الدولة العقيلى صاحب الموصل كتب إلى سليمان يطالبه بالحمل إلى السلطان فأبى عليه. وقال: السلطان ابن عمى، وقد كتبت إليه بذلك. فأنت أيش بيننا؟ فركب شرف الدولة ونهب بلاد أنطاكية. فنهب سليمان بلاد حلب، وحصل بينهما وقعة وانهزم فيها شرف الدولة [ثم قتل فى نفس اليوم]. وسار سليمان إلى حلب وحصرها خامس ربيع الآخر، فلم يبلغ منها غرضا، فرحل عنها. وكان مع سليمان الأمير ارتق. فإنه خاف من فخر الدولة لما ينم عليه عند السلطان بما كان ما دار

من شرف الدولة. ثم انتقل إلى خدمة جلال الدولة ملكشاه ابن السلطان العادل عضد الدولة ألب أرسلان السلجوقى، وجلال الدولة تتش يومئذ صاحب دمشق. فلما وصل إليه الأمير أرتق أقطعه نابلس. وكان سليمان بن قطلمش قد ظفر بشرف الدولة وقتله وسيّر جيشه إلى حلب، وطلب تسليمها، فلم يحيبوا، والحاكم عليها يومئذ ابن الحتيتى العبّاسى. فكاتب لجلال الدولة صاحب دمشق وحسّن له ذلك الأمير أرتق. فركب والتقى سليمان. فانهزم أصحاب سليمان. قال فأخرج سكينا وقتل بها نفسه. واستولى جلال الدولة تتش على عسكره، ووصل إلى حلب وطلب تسلّمها فأبوا عليه أيضا، فخامر من أهلها أناس واطلعوا من عسكر جلال الدولة جماعة بالحبال، وشفع الأمير أرتق فى ابن الحتيتى حاكم حلب. وكان بالقلعة سالم بن مالك بن بدران العقيلى وهو ابن عم شرف الدولة

المذكور، فحوصرت القلعة مدة سبعة عشر يوما، ثم بلغه توجّه أخيه السلطان ملكشاه إلى نحوه، فنزل حلب وعاد إلى دمشق مملكته وحضر السلطان من إصبهان، وجعل طريقه على الموصل فوصلها فى رجب، وسار عنها إلى حرّان، وأقطعها إلى محمد بن شرف الدولة المقتول. ثم سار إلى الرّها وملكها من الروم، وفتح قلعة جعبر، وأخذ صاحبها جعبر، وهو شيخ ضرير. ثم وصل إلى حلب وتسلّمها وتسلّم قلعتها، وعوّض سالم عنها قلعة جعبر، فلم تزل فى أيدى العقيليّين إلى أن أخذها منهم نور الدين الشهيد حسبما يأتى من ذكر ذلك إن شاء الله. وفيها كانت قتلة الصليحى الناجم باليمن، ولنذكر الآن بدو شأنه ونسبه.

ذكر على الصليحى الناجم باليمن وما لخص من خبره

ذكر علىّ الصليحى الناجم باليمن وما لخّص من خبره هو أبو الحسن علىّ بن محمد بن علىّ الصّليحىّ القائم باليمن. وذلك ما رواه القاضى ابن خلّكان فى تاريخه عن الفقيه عمارة اليمنى الشاعر الآتى ذكره إن شاء الله تعالى عند ذكر السلطان صلاح الدين ابن أيّوب فى الجزء التالى لهذا الجزء، وهو المختصّ بذكر دولة بنى أيوب. قال القاضى شمس الدين ابن خلكان: قال الفقيه عمارة اليمنى فى ترجمة الصالح ابن رزّيك: كان الصّليحى المذكور أبوه قاضيا باليمن سنى المذهب. وكان أهل بيته وجماعته يطيعونه. وكان الداعى عامر ابن عبد الله الرواحى لم يزل يلاطفه ويركب إليه، لرئاسته وسؤدده وصلاحه وعلمه. ثم إن عامرا المذكور استمال قلب ولده علىّ المذكور، وهو يومئذ دون بلوغ الحلم، ولا حت لعامر من الغلام مخايل النجابة. وقيل كانت عند عامر حلية علىّ الصليحى فى كتاب [الصور]، ويقال إنّه من الكتب (ص 237) العظيمة والذخائر العظيمة. فأوقفه منه على تنقّل حاله وشرف مآله، وأطلعه على ذلك سرّا من أبيه وأهل بيته. ثم إنّ عامرا توفى إلى رحمة الله عن قريب وأوصى إلى علىّ

الصّليحى بكتبه وعلومه، ورسخ فى ذهن علىّ من كلامه ما رسخ، وعكف على الدرس والاشتغال. وكان ذكّيا حاذقا، فلم يبلغ الحلم حتى تضلّع من معارفه التى بلغ بها وبالجدّ السعيد غاية الأمل. فكان فقيها فى مذهب الدولة الإماميّة مستبصرا فى علم التأويل، ثم إنه صار يحجّ بالناس دليلا على طريق السّراة والطائف، فأقام كذلك خمس عشرة سنة. وكان الناس يقولون له: بلغنا أنك ستملك اليمن بأسره، ويكون لك شأن عظيم، فيكره ذلك وينكره على قائله، مع أنّه أمر قد شاع وذاع فى الناس وكثر على أفواه العالم. ولما كان فى سنة تسع وعشرين وأربع مئة ثار فى رأس مشار وهو أعلى ذروة تلك الجبال. وكان معه ستون رجلا قد حالفهم بمكّة فى موسم سنة ثمان وعشرين وأربع مئة على الموت، والقيام بالدعوة، وما منهم إلاّ من هو فى منعة من قومه وعشائره، وفى عدد جيّد. ولم يكن ثمّ برأس الجبل المذكور قلعة ولا ما يمنع. فلما ملك الذروة لم ينتصف النهار الذى ملكها فيه حتى أحاط به عشرون ألف ضارب سيف وحصروه وشتموه وسفّهوا عليه وسفهوا رأيه [وقالوا له]: تنزل طوعا وإلاّ قتلناك ومن معك جوعا وعطشا. فقال لهم: لم أفعل ذلك إلاّ خوفا علينا وعليكم أن يملكه غيرنا. فإنّ تركتمونى أحرسه وإلاّ نزلت. (ص 238) فانصرفوا عنه. ولم يمض شهران من ذلك

التاريخ حتى بناه وحصّنه وأتقنه، واستفحل أمره شيئا فشيئا. وكان يدعو للمستنصر خليفة مصر فى الخفية، ويخاف من صاحب تهامة المسمّى نجاح. فكان يلاطفه ويستكين لأمره. وفى الباطن يعمل الحيلة فى قتله. فلم يزل حتى قتله بالسم مع جارية جميلة كان أهداها له. وذلك فى سنة اثنتين وخمسين وأربع مئة بالكدراء. وفى سنة ثلاث وخمسين كتب الصّليحىّ إلى المستنصر بمصر يستأذنه فى إظهار الدعوة. فأذن له، فطوى البلاد طيّا، وفتح الحصون والتهائم، ولم تخرج سنة خمس وخمسين حتى ملك اليمن بأسره سهله ووعره، بره وبحره. وهذا أمر لم يعهد مثله فى جاهليّة ولا إسلام، حتى قال يوما وهو يخطب الناس فى جامع الجند: وفى مثل هذا اليوم نخطب على منبر عدن إن شاء الله تعالى. ولم يكن ملكها بعد. فقال رجل ممن حضر مستهترا: سبّوح قدّوس. فأمر بالحوطة عليه. وساعدت الصليحى المقادير فخطب تلك الجمعة بجامع عدن وهى الجمعة التى ذكرها. فقام ذلك الرجل وتغالى فى القول وأخذ البيعة على نفسه ودخل المذهب. ومن سنة خمس وخمسين استقرّ حاله فى صنعاء. وأخذ معه ملوك اليمن الذين أزال ممالكهم وأسكنهم معه فى صنعاء. وولّى فى الحصون غيرهم، واختطّ بمدينة صنعاء عدّة قصور، فوزنت له زوجته أسماء

عن أخيها سعد بن شهاب مئة ألف دينار. وكان أخوها من أمّها. فولاّه تهامة. وقال: مولاتنا ({أَنّى لَكِ هذا؟ قالَتْ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ} (ص 239) {إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}) فتبسم وعلم أنّ ذلك من خزائنه. فقبضه وقال: ({هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا}) [فقالت: ({وَنَمِيرُ أَهْلَنا] وَنَحْفَظُ أَخانا}). ولم يزل مستمر الملك نافذ الأمر إلى هذه السنة. فعزم على الحجّ. فاستصحب معه الملوك [الذين كان يخاف أن يثوروا عليه]، وكذلك زوجته، واستخلف مكانه ولده المكرم أحمد، وهو ولده أيضا منها. وتوجّه فى ألفى فارس فيهم من الصليحيين مئة وستون نفرا. حتى إذا كان بالمهجم ونزل بظاهرها بضيعة يقال لها: الدهيم وبئر أمّ معبد، وخيّمت عساكره والملوك الذين معه حوله لم يشعر الناس حتى قيل: قد قتل الصّليحىّ. فانذعر الناس وكشفوا عن الخبر. فكان سبب ذلك أنّ سعيد الأحوال بن نجاح صاحب تهامة الذى قتلته الجارية بالسّم بتدبير الصّليحىّ لما توفى أبوه واستولى الصليحىّ على ملك اليمن استتر فى زبيد. وكان أخوه جيّاش فى دهلك. فسيّر إليه وأعلمه أنّ الصليحىّ متوجه إلى مكة فتحّضر حتى تقطع عليه الطريق وتقتله إن شاء الله تعالى. فحضر جيّاش إلى زبيد، وخرج هو وأخوه سعيد ومعهما سبعون رجلا بلا مركب ولا سلاح، بل مع كل

واحد جريدة بآخرها مسمار من حديد، وتركوا جادة الطريق، وسلكوا طريق الساحل، وكان بينهم وبين المهجم مسيرة ثلاثة أيام للمجدّ. وكان الصليحىّ قد سمع بخروجهم، فسيّر خمسة آلاف حربة من الحبشة الذين فى ركابه لقتالهم، فاختلفوا فى الطريق. فوصل سعيد ومن معه إلى [طرف] المخيم، وقد أخذ منهم التعب والحفاء وقلّة المادة. وظن الناس أنّهم من جملة عبيد العسكر. ولم يشعر (ص 240) بهم إلاّ عبد الله أخو [علىّ] الصليحىّ. فقال لأخيه: يا مولانا اركب، فهذا والله سعيد بن نجاح. وركب عبد الله. فقال الصليحىّ لأخيه: إنّى لا أموت إلاّ ببئر أمّ معبد. معتقدا أنها بئر أم معبد التى نزل بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، لما هاجر إلى المدينة. فقال له رجل من أصحابه: قاتل عن نفسك، فهذه والله الدهيم وبئر أمّ معبد. فلما سمع ذلك الصليحىّ زمع اليأس من الحياة، وبال فى مكانه، ولم يبرح زامعا بمكانه حتى قطع رأسه بسيفه، وقتل أخوه معه وسائر الصليحيّين. وذلك فى الثانى عشر من ذى القعدة سنة ثلاث وسبعين وأربع مئة. وهو الصحيح، ليس فى هذه السنة. ثم جلس سعيد على فراش الصّليحىّ، وأرسل إلى الخمسة آلاف التى كان أرسلها الصّليحىّ إليه وقال لهم: إنّ الصّليحىّ قد قتل، وأنا رجل منكم. وقد أخذت بثأر أبى. فقدموا عليه ودخلوا تحت طاعته، واستعان بهم على قتال من تبقّى من الصليحيّين وجموعهم، واستظهر عليهم قتلا وأسرا، ثم رفع رأس الصليحى على عود المظلّة،

وقرأ القارئ ({قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ}) الآية. ورجع إلى مدينة زبيد، وقد حاز [من] الغنائم ملكا عظيما. ودخلها فى سادس عشر ذى القعدة من السنة المذكورة. وملكها وملك بلادها وبلاد تهامة. ولم يزل كذلك حتى قتل فى سنة إحدى وثمانين وأربع مئة، بتدبير الحرّة، وهى امرأة من الصليحيّين فى خبر طويل، لا يمكن استيعابه. ولما قتل الصليحىّ ورفع رأسه على عود المظلة كما تقدم، عمل فى ذلك القاضى العثمانى شعرا فمن ذلك: بكرت مظلته عليه فلم ترح … إلا على الملك الأجلّ سعيدها ما كان أقبح وجهه فى ظلّها … ما كان أحسن رأسه فى عودها سود الأراقم قاتلت أسد الشرى … وارحمة لأسودها من سودها قلت: وكان الصّليحىّ شجاعا بطلا مقداما عالما شاعرا فمن شعره: أنكحت بيض الهند سمر رماحهم … فرؤوسهم عرض النثار نثار وكذا العلا لا يستباح نكاحها … إلاّ بحيث تطلّق الأعمار وذكر العماد الإصبهانّى رحمه الله فى «الخريدة» من شعر الصليحىّ يقول:

وألذّ من قرع المثانى عنده … فى الحرب ألجم يا غلام وأسرج خيل بأقصى حضر موت أشدها … وزئيرها بين العراق ومنبج وذكر صاحب كتاب «دمية القصر» ممّا اختاره من شعر الصليحىّ: وسرجى فراشى والحسام مضاجعى … وعدة حربى، لا ذوات الخلاخل ورمحى يعاطينى البعيد لأننى … تناولت ما أعيا على المتناول ولى همة تسمو على كلّ همّة … ولى أمل أعيا على كل آمل ولى من بنى قحطان أنصار دولة … بطاريق من أنجاد كلّ القبائل ومما أجابه الحسين بن يحيى الحكّاك المكى فأحسن: رويدك ليس الحقّ ينفى بباطل … وليس مجدّ فى الأمور كهازل كزعمك أنّ الدرع لبسك فى الوغى … وذاك لجبن فيك غير مزايل وهل ينفعنّ السيف يوما ضجيعه … إذا لم يضاجعه بيقظة باسل فهلاّ اتخذت الصبر درعا وجنة … كما الصبر درعى فى الخطوب النوازل وتفخر أن أصبحت مأمول عصبة … فأخسس بمأمول وأخسس بآمل وهل هى إلاّ فى تراث جمعته … فهلاّ عدت فى بذل معروف ونائل كما همّنا فاعلم إجابة سائل … وإسعاف ملهوف وإغناء عائل وختمها: ولا تغترر باللّيث عند خدوره … فكم خادر فاجا بوثبة صائل

ذكر سنة ثمانى وسبعين وأربع مئة

ذكر سنة ثمانى وسبعين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وسبعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة القادر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والمستنصر خليفة مصر، وأمير الجيوش بدر الجمالى مدبّر الممالك المصرية. وفيها كان ابتدآء دولة بنى منقذ بشيزر. قال العماد الإصفهانى رحمه الله فى كتاب «السيل والذيل»: إن فى هذه السنة تسلّم أبو الحسن علىّ بن مقلّد بن نصر بن منقذ الكنانى الملقب بسديد الملك قلعة شيزر. وذلك أنّه كان شجاعا مقداما قوىّ النفس. وهو أول من ملك قلعة من بنى منقذ. وكان نازلا بجوار القلعة بالقرب من الجسر المعروف

اليوم بجسر بنى منقذ. وكانت القلعة يومئذ فى يد الروم، فحدثته نفسه بأخذها. فنازلها بقومه وعشيرته وتسلّمها بالأمان. وقيل كان ذلك فى سنة أربع وسبعين وأربع مئة. ولم تزل فى يد بنيه إلى أن كانت الزلزلة العظيمة، فهدمت القلعة ومات أكثرهم تحت الردم، وشغرت، فجاءها نور الدين محمود ابن الملك زنكى صاحب الشام فى بقية سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة. وكانت هذه الزلزلة يوم الاثنين ثالث رجب من السنة المذكورة. وتسلّم نور الدين القلعة وعمرها بعد ذلك. وذكر القاضى بهاء ابن شدّاد صاحب «سيرة السلطان صلاح الدين» -رحمهما الله-فى السيرة المذكورة أنه جاءت زلزلة عظيمة بحلب، وأخربت كثيرا من البلاد. وأرّخ ذلك فى ثانى عشر شوال سنة خمس وستين وخمس مئة (ص 243) وهذه زلزلة أخرى غيرها تيك، وسيأتى ذكرهما فى تاريخهما الآتى من الجزء التالى لهذا الجزء إن شاء الله تعالى. وكان سديد الملك بن منقذ المذكور مقصودا جوادا شجاعا، وخرج من بنيه جماعة نجباء أمراء فضلاء كرماء. ومدحه جماعة من الشعراء كابن الخيّاط، والخفاجىّ، وشرف الدين ابن الحلاوى شاعر الموصل،

وعبد المحسن الصّورى، وغيرهم. وسيأتى بعد ذكره شيئا من أشعارهم، وكان له شعر جيّد. فمنه قوله وقد غضب على مملوك له وضربه، وكان كثير الشغف به فقال: أسطو عليه وقلبى لو تمكّن من … كفّىّ غلّهما غيظا إلى العنق وأستطير إذا عاقبته حنقا … وأين ذلّ الهوى من عزّة الحنق وكان موصوفا بقوّة الفطنة. وتنقل عنه حكايات عجيبة. فمن ذلك ما ذكره الشيخ شمس الدين ابن خلكان رحمه الله فى تاريخه قال: كان يتردّد إلى حلب قبل تملّكه شيزر، وصاحب حلب يومئذ تاج الملوك محمود بن صالح بن مرداس، فجرى له أمر خاف سديد الملك على نفسه منه، فخرج من حلب إلى طرابلس الشام وصاحبها يومئذ جلال الملك ابن عمّار، فأقام عنده. فتقدّم صاحب حلب إلى كاتبه أبى نصر محمد بن على بن النحاس أن يكتب إلى سديد الملك كتابا يتشوّقه ويستعطفه ويستدعيه إليه. وفهم الكاتب أنّه يقصد له شرّا. وكان صديقا لسديد الملك فكتب الكتاب كما أمر إلى أن بلغ إلى إن شاء الله تعالى فشدّد النون وفتحها. فلما وصل الكتاب إلى سديد الملك عرضه على ابن عمّار صاحب

طرابلس ومن بمجلسه من خواصه، فاستحسنوا عبارة الكاتب واستعظموا ما فيه من رغبة محمود (ص 244) فيه وإيثار لقربه. فقال سديد الملك: إنى أرى فى الكتاب ما لا ترون. ثم إنّه أجابه عن الكتاب بما اقتضى الحال من جوابه، وكتب فى جملة الكتاب: أنا الخادم المقرّ بالإنعام وكسر الهمزة من أنا وشدّد النون. فلما وصل الكتاب إلى محمود وقف الكاتب عليه فسرّ بما فيه. وقال لأصدقائه: قد علمت أنّ الذى كتبته لا يخفى على سديد الملك. وقد أجاب بما طيّب به قلبى. وكان الكاتب قد قصد قوله تعالى ({إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ}) فأجاب سديد الملك ({إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها}) ولنذكر الآن قصيدة ابن الحلاوى الفريدة، ذى المعانى المجيدة: حكاه من الغصن الرطيب وريقه … وما الخمر إلاّ وجنتاه وريقه هلال ولكن أفق قلبى محلّه … غزال ولكن سفح عينى عقيقه وأسمر يحكى الأسمر اللّدن قدّه … غدا راشقا قلب المحب رشيقه على خده جمر من الحسن مضرم … يشبّ ولكن فى فؤادى حريقه

منها: من الترك لا يصبيه وجد إلى الحمى … ولا ذكر بانات الغوير يشوقه له مبسم ينسى المدام بريقه … ويخجل نوّار. الأقاحى بريقه تداويت من حرّ الغرام ببرده … فأضرم من ذاك الحريق رحيقه منها: حكا وجهه بدر السماء فلو بدا … مع البدر قال الناس: هذا شقيقه وأشبه زهر الروض حسنا وقد بدا … على عارضيه آسه وشقيقه على وجنتيه للعذار جديده … وفى شفتيه للعقار عتيقه فما فاز إلاّ من يكون صبوحه … شراب ثناياه ومنها غبوقه على مثله يستحسن الصب هتكه … وفى حبه يجفو الصديق صديقه أحبة قلبى جيرتى نحو أرضكم … يحنّ فؤادى ليس يخفى خفوقه وأشتاق هاتيك المنازل والحما … ومن ذا الذى ذكر الحمى لا يشوقه ومما يدلّ على علو طبقة هذا الرجل الفاضل قوله: كتبت فلولا أنّ ذاك محرّم … وهذا حلال قست لفظك بالدرّ فو الله ما أدرى أزهر خميلة … بطرسك أم درّ يلوح على نحر فإن كان زهرا فهو صنع سحابة … وإن كان درّا فهو من لجّة البحر وعلى معنى البيت الذى فى قصيدته القافية وهو: حكا وجهه بدر السماء فلو بدا … مع البدر قال الناس هذا شقيقه

قول: خليلىّ ما أحلا صبوحى بدجلة … وأطيب منها بالصراة غبوقى شربت من الماءين ماء وكرمة … فكانا كدرّ ذائب وعقيق على قمرى أفق وأرض تقابلا … فمن شائق حلو الهوى ومشوق فما زلت أسقيه وأشرب ريقه … وما زال يسقينى ويشرب ريقى فقلت لبدر التمّ: تعرف ذا الفتى؟ … فقال: نعم هذا أخى وشقيقى ومن القصايد البديعة الجارية كجرى السّلاف فى أعطاف اللطاف قصيدة عبد المحسن الصورى: عاد الفؤاد إلى قديم ضلاله … ورأى الرجوع إلى وداد غزاله وخفى عليه الرشد حين أراده … وتنافرا إذ ليس من أشكاله مطل العذول بصبره متوانيا … وأجاب داعى الحب قبل سؤاله شغفا بمرتجّ الروادف أهيف … كالغصن يثنيه نسيم شماله عظمت محاسنه فحين خبرته … صغرت محاسنه لحسن فعاله هجراته كالدهر فى إدباره … ووصاله كالسعد فى إقباله جمع الجمال فكلّ ما أبصرته … من غيره فهو اختصار جماله للحسن إلف تابع ومساير … من خلفه ويمينه وشماله لو أنّه يوما تمنّى حسنه … ما كان يخطر كلّ ذا فى باله انظر إلى ما شئت منه فكلّه … لمحبّه حجج على عذّاله يا من يقيس بوجهه البدر اعتذر … مما جنيت فليس من أمثاله

البدر يقصر عن حكاية كلّه … لم يحكه إلاّ ببعد مناله إنّ الشقيق رأى محاسن وجهه … فأراد أن يحكيه فى أحواله فأفاد حمرة لونه من خدّه … وأفاد لون سواده من خاله يا أيّها البدر البديع جماله … ارحم فتى أنت العليم بحاله لو سيل عن آماله من دهره … ما كان غير رضاك من آماله قلت: لا أعلم ما يشاكل رقّة الخمر فى رقة الزجاج حتى تشاكلا فى الليل الداج، فهنالك تشاكل الأمر، أن يفرق بين الزجاج والخمر، كرقة هذا القصيد، الذى عاد لاختراع المعانى وصيد، وليس لها نظير، إلا قصيدة الوزير، أبى الوليد ابن زيدون، التى لولا التغالى لكانت حقيقه بكلمة الكاف والنون، وستأتى أبياتها، فى مكان يستحق إثباتها.

ذكر سنة تسع وسبعين وأربع مئة

ذكر سنة تسع وسبعين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وتسعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. (ص 247). والمستنصر خليفة مصر، وأمير الجيوش بدر الجمالى بحاله. وفيها ملك سليمان بن قتلمش أنطاكية حسبما يأتى من ذكر ذلك عند فتوحها على يد السلطان الملك الظاهر البندقدارى أحد الملوك التركية، أدام الله أيّام سلطانها، وأعزّ نصره، وأعلا فى عليّين محله وقصره. وفيها تسلّم سكمان بن أرتق حصن ماردين. وفيها استولى الشريف حسن على حلب وغلب عليها والله أعلم.

ذكر سنتى ثمانين وإحدى وثمانين وأربع مئة

ذكر سنتى ثمانين وإحدى وثمانين وأربع مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لسنة ثمانين ستة أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا. الماء القديم لسنة إحدى خمسة أذرع وسبعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وخمسة أصابع. الحوادث الخليفة فيهما المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق الحكّام. والمستنصر خليفة مصر، وأمير الجيوش بها بدر الجمالى مدبّر الممالك المصرية. وفى سنة ثمانين تسلّم شرف الدولة خراسان، وقتل ابن حبلة (؟) بها وملك.

وفيها سلّم السلطان أبو الفتح حلب إلى قسيم الدولة آق سنقر. وفى سنة إحدى فتح السلطان ملك شاه سمرقند وملكها بالسيف عنوة. وفيها هلك تكفور ملك الروم صديق السلطان ملك شاه. قال ابن واصل: فى هذه السنة كان تسليم السلطان جلال الدولة ملكشاه حلب بالسبب المقدم ذكره المكتوب على الحاشية ولما تسلّمها لحاجبه قسيم الدولة آقسنقر، فاستولى عليها وعلى أعمالها وعلى منبج واللاذقيّة وكفر طاب. وأقطع السلطان مدينة الرّها مجاهد الدين بزان، وأقطع أنطاكية الأمير ياغى سيان. ثم ظهرت كفاية الأمير قسيم [الدولة] آقسنقر، وعظمت هيبته فى جميع بلاده. ثم إن السلطان استدعاه بعد ذلك إلى العراق، فقدم عليه فى تجمّل عظيم. ولم يكن فى عسكر السلطان من يقاومه. فاستحسن السلطان ذلك منه وعظم محلّه عنده. ثم أمره بالعود إلى حلب. فعاد إليها فى سنة ثمانين وأربع مئة، ورخصت الأسعار فى أيّامه، وأمنت السّبل، وأقيمت الحدود الشرعية، وقتل المتطرفين إلى الفساد.

وفى سنة إحدى وثمانين وأربع مئة جمع قسيم الدولة عسكره وقصد شيزر وحاصرها، وصاحبها يومئذ نصر بن على بن منقذ وضايقها ونهب ربضها ثم صالحه صاحبها وعاد إلى حلب. وفى سنة اثنتين وثمانين أسّس القاضى أبو الحسن الخشّاب منارة حلب. [وكان بحلب] معبد نار قديم [العمارة] وصار بعد ذلك أتون حمّام. فأخذ ابن الخشّاب حجارته، وبنى بها المنارة. فوشى به بعض حسّاده إلى الأمير قسيم الدولة فغضب على القاضى واستحضره وقال: هدمت معبدا هو لى وملكى. فقال: أيّها الأمير، هذا كان معبدا للنار قديما، وقد صار اليوم أتونا، فأخذت حجارته عمرت بها معبدا للإسلام يذكر فيه اسم الله وحده لا شريك له. وكتبت اسمك عليه، وجعلت الثواب لك. فإن رسمت غرمت ثمنه لك، ويكون الثواب لى، فعلت. قال: فأعجب الأمير كلامه واستصوب رأيه، وقال: بل الثواب لى وافعل ما شئت. وفى سنة أربع وثمانين تسلم قسيم الدولة حصن فامية. ثم سار وصحبته تاج الدولة إلى طرابلس فحاصرها، وبها صاحبها الأمير جلال الملك بن عمّار. فرأى جيشا لا يدفع إلاّ بالحيلة والسياسة. فراسل

ابن عمّار وزير قسيم الدولة، وأوعده بحمله مال. فسعى مع صاحبه فى إصلاح أمره، وحمل إليه ثلاثين ألف دينار وتحف (كذا) بمثلها، وأبرز من يده منشورا من وزير السلطان ملكشاه بالبلد. فأنعم قسيم الدولة بقبول المنشور، ورحل عن طرابلس على كره من تاج الدولة. وكان تاج الدولة فى ذلك الوقت فى خدمة أخيه السلطان. فلما توفى السلطان ملكشاه رحمه الله فى سنة خمس وثمانين حسبما ذكرناه فى الأصل، وبلغ ذلك تاج الدولة وهو بمملكته بدمشق حشد العساكر وخرج طالبا للسلطنة. فخرج إلى خدمة قسيم الدولة من حلب ودخل فى طاعته. وسيّر إلى ياغى سيان صاحب أنطاكية، وإلى بزان صاحب الرّها، وأشار عليهما بالدخول فى طاعة تاج الدولة حتى يروا ما يكون من الأمر. فأجابا إلى ذلك، واتفقوا على الخطبة له على منابر بلادهم. ثم إنّ تاج الدولة سار فى أبهة السلطنة ونزل الرحبة وملكها. ودخلت سنة ست وثمانين. ثم وصل إلى نصيبين وبها نواب العقيلى صاحب الموصل، فملكها بالسيف عنوة، وقتل من أهلها خلقا كثيرا، وفعل الأفعال القبيحة، ثم سلّمها لمحمد بن شرف الدولة [بن بدران] العقيلى، وسار

إلى الموصل. وانفع (كذا) مع صاحبها يومئذ إبراهيم بن قريش العقيلى، وكره ونهب العربيات من النساء وقتلن جماعة منهن خوفا من الفضيحة. وملك الموصل وولاها للأمير سعد الدولة علىّ ابن شرف الدولة. وكان ابن عمته، ثم إنه سيّر إلى بغداد يطلب أن يخطب له [الخليفة]. وكان ابن أخيه السلطان ركن الدين بركياروق ابن ملكشاه قد قوى سلطانه [وصارت بيده الرىّ وهمذان وما بينهما. فسار بالعساكر ليمنع عمه من البلاد]، فترك قسيم الدولة ورفقته تاج الدولة وانحازوا إلى السلطان ركن الدين، فعاد تاج الدولة إلى دمشق خائبا عن قصده، وحشد وقصد قسيم الدولة. فلما تصاففا خامر الحلبيّون على قسيم الدولة، وأخذ [قسيم الدولة آق سنقر] أسيرا، وقدّم بين يدى [تاج الدولة] فقال له: لو كنت ظفرت بى ما كنت تصنع؟ قال: كنت أقتلك. قال: فأنا أحكم عليك بذلك. فقتله صبرا. وتسلّم حلب وقلعتها. ولم يخلف ولدا غير زنكى. وكان عمره يومئذ عشر سنين.

ذكر سنتى اثنتى وثلاث وثمانين وأربع مئة

ذكر سنتى اثنتى وثلاث وثمانين وأربع مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لسنة اثنتى خمسة أذرع وثمانية عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. الماء القديم لسنة ثلاث خمسة أذرع وستة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة أصابع (ص 248). الحوادث الخليفة فيهما المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والمستنصر خليفة مصر، وأمير الجيوش بدر الجمالى المستنصرى بحاله. وفى سنة اثنتين بنيت منارة حلب، وكسرت الأتراك لبنى عقيل بالرملة.

ذكر سنتى أربع وخمس وثمانين وأربع مئة

وفيها تسلّمت المصريين صيدا من الأتراك. ومات ابن حمير والله أعلم. وفى سنة ثلاث وثمانين ولد أبو القاسم ابن المستنصر. ذكر سنتى أربع وخمس وثمانين وأربع مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لسنة أربع: أربع أذرع وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة فيهما المقتدى بأمر الله، وبنو سلجوق بحالهم. والمستنصر خليفة مصر، وأمير الجيوش بدر الجمالى مدبر الممالك المصرية.

وفى سنة أربع قتل كمشكين المقدم ذكره وفيها كان الفراغ من عمارة باب زويلة. وفى سنة خمس فتح تاج الدولة الرحبة. وفيها قتل الوزير نظام الملك المقدم ذكره. وفيها بنى السلطان ملك شاه ابن السلطان ألب أرسلان بن السلطان طغريل بك بن سلجوق من وراء النهر منارة من قرون الغزلان، وبنى أخرى مثلها بظاهر الكوفة. ثم قال: احصوا ما صدته أنا بنفسى من الصيد. فحصروه فكان عدة عشرة آلاف صيد، فتصدّق بعشرة آلاف دينار. وفيها توفى رحمه الله. وكان سلطانا جيدا كثير العدل والإنصاف، حسن السيرة، جميل الأوصاف. وأسقط المكوس فى جميع ممالكه فكان مبلغها ألفى دينار. وكان حسن الوجه، كريم الأخلاق. وخطب له فى بلاد الترك والصين، إلى أقصى اليمن. وكانت (ص 249) تقف له الأمراء والضعيف، فيقف بنفسه الكريمة ويسمع الكلام، ولا يبرح من مكانه حتى ينصف المظلوم من الظالم، وكانت له همة لم تكن لأحد من السلاطين قبله، وله النكت العجيبة

فى العدل. فمن جملة ما يحكى عنه ما ساقه صاحب كتاب «جنا النحل» ذكر أنه استنسخه من كتاب يسمى «مطالع الشروق فى محاسن بنى سلجوق». قال: إن السلطان ملك شاه افترد فى صيد بنفسه. فلقى سوادى وهو يبكى. فوقف وسأله عن حاله فظنه السوادى أنّه من بعض الأمراء فقال يا حملباشى (؟) كان معى حمل بطّيخ، وهو بضاعتى، فدخلت به إلى هذا العسكر لأبيعه فالتقانى ثلاث غلمان فأخذوه منى، ولم يعطونى له ثمن، وطالبتهم فضربونى. فقال له السلطان: امض إلى العسكر وأى خيمة رأيتها حمراء اجلس عندها ولا تبرح حتى أعطيك ثمن بطيخك. فمضى ذلك الرجل وجلس عند الخيمة الحمراء. وعاد السلطان فقال للشرابى: قد اشتهيت بطيخ. ففتش خيم العسكر. فمضى وعاد وأحضر البطيخ. فقال: أين وجدته؟ فقال فى مخيّم الحاجب فلان. فأمر بإحضاره. فقال: من أين لك هذا البطيخ؟ قال: أحضروه غلمانى. قال: أريدهم السّاعة. فتوجّه فوجد الغلمان قد هربوا لمّا تحققوا الأمر. فعاد وخبّر السلطان. فأمر بإحضار السوادى. فقال: هذا بطّيخك؟ قال: نعم. قال: خذه وخذ هذا

الحاجب مملوكك، فقد وهبته لك، والله لئن تركته أو خرج من يدك بغير رضاك لأضربن رقبتكما جميعا. فأخذ السوادى هذا الحاجب وأخرجه يقوده بين العساكر. فاشترى الحاجب نفسه من السوادى بثلاث مئة دينار (ص 250) وعاد السوادى إلى السلطان وعرّفه أنه أباعه نفسه بطيبة من قلبه، ثم إن السلطان طرد الحاجب ونفاه عنه. ومنها أنّه سار من جيحون إلى أنطاكية، ما قدر أحدا من عسكره يتعرّض لعلّيقة بغير ثمنها، ولا كفّ من تبن. وتوفى رحمه الله وهو على هذه السنّة من العدل. وسيأتى من خبره أيضا وبعض محاسنه ما يليق أن يذكر بموضعه. وفيها ركّب باب زويلة على بابه. وفيها نافق منير الدولة بصور، ووصل فى رجب أسير، وقتل وسائر من نافق معه.

ذكر سنة ست وثمانين وأربع مئة

ذكر سنة ست وثمانين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وثلاثة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المقتدى بأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والمستنصر خليفة مصر. وفيها توفى أمير الجيوش بدر الجمالى وأخلع على ولده الأفضل شاهنشاه، وكان يقوم بالأمر فى مدّة ضعف أبيه. فلما توفى أبوه خرجت إليه الخلع بالوزارة. وجمع له ما كان لأبيه من السيف والطيلسان، وقام بالأمر أحسن قيام. وأعظم مما قام به أبيه، وزاد عليه، وسيأتى من خبره طرف عند ذكر وفاته وما خلّفه من الأموال، وما ذكر عنه من وجود الكنز.

ذكر سنة سبع وثمانين وأربع مئة

ذكر سنة سبع وثمانين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السّنة: الماء القديم ستة أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المقتدى بالله أمير المؤمنين، إلى أن توفى غرّة المحرّم من هذه [السنة] (ص 251) وكانت خلافته عشرون سنة وأشهر والغالب على أيامه بنى سلجوق. صفته: كان آدم اللون، ربعة عريض المنكبين، أدعج، حسن السيرة، ذكيّا فاضلا. نقش خاتمه: المقتدى بالله يقتدى. وقيل: المقتدى بأحكام الله.

ذكر خلافة المستظهر بالله بن المقتدى بأمر الله وما لخص من سيرته

ذكر خلافة المستظهر بالله بن المقتدى بأمر الله وما لخّص من سيرته هو أبو العباس أحمد بن أبى القاسم عبد الله بن محمد بن القائم بالله، وباقى نسبه قد تقدّم. أمّه أم ولد أرمنيّة تسمى نور، ويقال تركية تسمى نوروز. بويع له بعد وفاة أبيه بثلاثة أيام فى شهر المحرم من هذه السنة وكان عمره يوم ولى الخلافة ست عشرة سنة [وشهرين]. مولده فى ذى الحجة سنة سبعين وأربع مئة. مدبّر ممالكه عميد الدولة أبو منصور محمد بن محمد بن جهير، ثم أخوه زعيم الدولة أبو القاسم علىّ. وبنو سلجوق الحكام فى أقاصى البلاد وأدانيها، وأمر الخلافة من تحت أمرهم. والمستنصر خليفة مصر إلى أن توفى أيضا فى هذه السنة سادس عشر ذى الحجة. فكانت مدة خلافته ستون سنة وأربعة أشهر. وقد تقدم ذكر جميع وزرائه وقضاته مما يغنى عن تكرار ذلك. وكان المستنصر لا يبقى فى وجهه شعرة تلوح للناظر إلاّ يحلق الجميع. وبلغ الأفضل أمير الجيوش أنّ رسول ملك الهند قادم عليهم، فبعث

إلى المستنصر بقول: إنّه قد توجّه إلينا رسول صاحب الهند، ولا بدّ من مثوله بين يدى مولانا أمير المؤمنين. فلو ترك مولانا هيئته بحالها لكان أهيب لنا عند الرسول. فكتب إليه: قد جعلنا لك الأموال والبلاد والإقطاع والولايات والتصرف فى جميع (ص 252) الأمور، تنظر فيها برأيك ولم نعارضك فى شئ منها، فلا أقلّ ما تهبنا هيئتنا والسلام. فلم يعاوده فى أمر بعدها.

ذكر خلافة المستعلى بالله وما لخص من سيرته

ذكر خلافة المستعلى بالله وما لخّص من سيرته هو أبو القاسم أحمد بن المستنصر بالله بن علىّ الظاهر بن الحاكم، وباقى نسبه قد تقدّم. ولد بالقاهرة المحروسة ليلة يسفر صباحها عن الثامن عشر من ذى الحجّة سنة سبع وستين وأربع مئة. بويع له يوم الخميس ثامن عشر ذى الحجة من هذه السنة. وتولّى أمره الأفضل شاهنشاه أمير الجيوش، وأجلسه على سرير الخلافة، وسلّم عليه بأمير المؤمنين، وجلس بين يديه، وعمره يومئذ سبع عشرة سنة. وسيّرت عمته إلى نزار وعبد الله وإسماعيل أعمامه فحضروا وشاهدوا المستعلى على سرير الخلافة، فلم يرضهم ذلك، فأمرهم الأفضل أن يسلّموا عليه بالخلافة فأبوا ذلك، وامتنعوا من مبايعته، وقال نزار: عندى الخطّ من المستنصر بولاية العهد لى، وأنا آتيكم به وخرج ليأتيهم بذلك فاستخفى، وطلب فلم يوجد، إلى أن ظهر أمره

بالإسكندرية وادّعى الخلافة، ولقّب نفسه الإمام المصطفى لدين الله، وركب بالمظلة. فلما بلغ الأفضل ذلك أمير الجيوش، وكان بالإسكندرية يومئذ الأفتكين واليا، وهو غلام أمير الجيوش بدر الجمالى، كان قد ولاّه الإسكندرية أيام حياته. فلما وصل إليه نزار قام معه فى الأمر ووزر له، وتلقّب ناصر الدولة، وجمع جمعا عظيما من المغاربة والعربان والجند والقبائل من العرب، ووصل إلى شابور (؟)، فخرج إليه الأفضل فى جموعه وكسره على شابور، وقتل جميع من كان معه، وبنى على رؤوسهم مسجدا وسماه مسجد النصر. (ص 253) وكانت هذه الوقعة فى سنة ثمان وثمانين وأربع مئة كما يأتى من ذلك. وفى هذه السنة وهى سنة سبع وثمانين دخل مؤيّد الدولة بن شرف الدولة الموصل وخطب فيها لتتش. وفى آخرها قتل تتش الملقّب تاج الدولة بإصبهان، وتسلّم دقاق ابن تتش دمشق بعد أبيه. وتسلّم أخوه رضوان حلب. وفيها جاءت الزلزلة فى يوم وليلة اثنتى عشرة دفعة، لم يسمع بمثلها وأخربت البلاد، وقتلت عالم عظيم.

ذكر سنة ثمان وثمانين وأربع مئة

وفيها كانت الدعوة للإمام المستظهر بالله أمير المؤمنين خليفة بغداد ببلاد الأندلس. قام بذلك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، ثم قام بها فى جميع المغرب، ولم تزل قائمة بالمغرب حتى ظهر ابن تومرت الملّقب بالمهدى فانقطعت. وفى أيّام المستظهر توفى أبو حامد الغزالى رحمه الله. وكان قد ألّف كتابا وسماه «المستظهر» وهو المشهور فى أيدى الناس من جملة تصانيف الغزالى. ذكر سنة ثمان وثمانين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأحد عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد والمستعلى خليفة مصر.

وكانت الوقعة بين الأفضل وأفتكين ونزار على شابور، وكسرهم الأفضل، وقتل منهم مقتلة عظيمة حسبما سقناه، ثم توجّه إلى الإسكندريّة وحاصرها، ولم يزل حتى افتتحها، وأخذ نزارا والأفتكين أسرى، ثم قتل فى الإسكندريّة جماعة من وجوه قومها ممن أقاموا بيعة نزار، ومن جملتهم القاضى ابن عمّار. وكان هذا القاضى (ص 254) ابن عمّار قاضى الإسكندرية ورئيسها، وكان بينه وبين قوم عدول من أهل الإسكندرية يعرفوا بينى هريسة منازعة فى الباطن. وكان بين بنى هريسة وبين الأفضل أمير الجيوش وصلة، وكانوا يكاتبونه بأخبار البلد عند ما كانت فى يد نزار والأفتكين. فلما دخل الأفضل إلى الإسكندريّة وشوا بنو هريسة بالقاضى ابن عمّار عند الأفضل، حتى قتله مع من قتل، بعد ما قبض عليه واعتقله. وكان هذا القاضى ابن عمّار حسن السيرة، ونادرة الوقت، ولما أخذ وسجن دخل عليه بعض العدول زائرا، وكان ذلك العدل خصيصا بالأفضل، فدفع إليه القاضى ابن عمّار رقعة فيها بيتين من الشعر لنفسه يقول: هل أنت منقذ شلوى من يدى زمن … أضحى يقدّ أديمى قدّ منتهس دعوتك الدعوة الأولى وبى رمق … وهذه دعوتى والدهر مفترسى

وقال لذلك العدل: أنا أعلم خاصتك بأمير الجيوش فإذا خلوت به فادفع هذه الرقعة إليه. فأخذها وتشاغل عنها للأجل المحتوم والأمر المقدّر. فلما قتله وفرط فيه الفرط ذكر ذلك العدل تلك الرقعة فأوصلها للأفضل. فلما قرأها قال له: أفّ لك! والله لو دفعتها إلىّ قبل قتله ما قتلته. ثم طلب ذريّته وأسدى لهم خيرا. ولم يزل الأفضل بالإسكندرية حتى وطّدها واستقرّت أحوالها وكرّ راجعا إلى القاهرة وصحبته نزار والأفتكين. فأشهر الأفتكين على جمل ثم قتل، وابتنى على نزار حيطين فهو بينهما والله أعلم. وفيها وصل أتابك طغتكين من خراسان إلى دمشق. وفيها توفى أبو يوسف القروى المعتزلى، وهو مصنف تفسير القرآن فى سبع مئة مجلد (ص 255). وفيها كسرت الفرنج أمير الجيوش الأفضل بالساحل ورجع إلى القاهرة فى نفر قليل. وفيها كانت زلزلة عظيمة عامّة والله أعلم.

ذكر سنة تسع وثمانين وأربع مئة

ذكر سنة تسع وثمانين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وسبعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد. والمستعلى خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالى. وفيها قتل سوتكين والى قلعة دمشق. وفيها كسر دقاق بن تتش على قنّسرين. وفيها توفى منصور بن قيصر بن مروان صاحب ديار بكر. وفيها ظهر نجم بذنب طويل تقدير عشرين رمح. وقيل إنّ فى هذه السنة كان خروج نزار والأفتكين من الإسكندرية حسبما سقناه والله أعلم.

ذكر سنتى تسعين وإحدى وتسعين وأربع مئة

ذكر سنتى تسعين وإحدى وتسعين وأربع مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم أربعة أذرع وأحد عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا واحد وعشرون إصبعا. الماء القديم لسنة إحدى أربعة أذرع وثلاثة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنا عشر أصبعا. الحوادث الخليفة فيهما المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد. والمستعلى خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل شاهنشاه مدبّر الممالك المصرية. وفى سنة تسعين نزلت الإفرنج خذلهم الله على أنطاكية وفتحوا سميساط.

ورأيت فى مسوّداتى أن فى سنة إحدى وتسعين ظهر بمصر ظلمة عظيمة غشيت الناس إلى أن ظنّوا أنّ القيامة قد قامت، ولم ير بعضهم بعضا، وأجمع الناس أنّهم لم يروا من عهد آدم عليه السلام إلى ذلك التاريخ مثل هذه الظلمة، وقوى الريح الأسود، حتى تاهت الناس فى تلك الظلمة عن منازلهم، وأقامت كذلك سبع ساعات من النهار، ثم سكن الريح وظهر النور بعد العصر، ولم يؤذّن أحدا فى ذلك اليوم لا ظهر ولا عصر لدهشة الناس وعدم معرفة الوقت. وفيها فتح أمير الجيوش الأفضل دمشق، وعادت فى ولايته، (ص 256) وتسلم بيت المقدس بالأمان. وفيها ملكت الفرنج الرّها ومرعش والحدث وكيسون وأنطاكية مع عدة قلاع بالشرق. وفى سنة إحدى كان بمصر وباء كثير وموت، وعدمت ناس كثيرة.

ذكر سنتى اثنتين وثلاث وتسعين وأربع مئة

ذكر سنتى اثنتين وثلاث وتسعين وأربع مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لسنة اثنتين ستة أذرع واثنا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وعشرة أصابع. الماء القديم لسنة ثلاث عشرة أذرع وستة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشرة ذراعا وخمسة عشر إصبعا. الحوادث الخليفة فيهما المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد. والمستعلى خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل مدبّر الممالك المصرية. وفيها، وهى سنة اثنتين، غلب الفرنج خذلهم الله على أكثر الشام ولم يبق غير دمشق، واستعادوا بيت المقدس من المسلمين، وكان

ذكر سنتى أربع وخمس وتسعين وأربع مئة

ذلك فى شهر رمضان. وكان أشدّ ما على المسلمين من أخذهم هذا البيت المقدس بعد استنفاده منهم وكذلك أخذوا المعرة، ونقلوا المسلمون مصحف عثمان من المعرّة إلى دمشق. وفى سنة ثلاث أخذوا الفرنج سروج. وفيها توفى عميد الدولة ابن جهير. وفيها ركب المستعلى بالله إلى مصلّى العيد، وناب عن أمير الجيوش الأفضل أخوه المظفّر بسبب ضعف الأفضل. وفيها توفى رجاء وولى القضاء ذكاء، والله أعلم. ذكر سنتى أربع وخمس وتسعين وأربع مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لسنة أربع سبعة أذرع وثمانية عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة أصابع (ص 257).

ما لخص من الحوادث

الماء القديم لسنة خمس سبعة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والمستعلى خليفة مصر إلى أن توفّى سنة خمس وتسعين وأربع مئة حسبما يأتى من ذكره فى تاريخه. وفى سنة أربع أحرقت الأجزاء من «كتاب إخوان الصفا» ببغداد ونهى الناس عن قراءتها، وقتل جماعة من الإسماعيلية. وتسلّم أتابك جبلة. وملكت الفرنج قيسارية. وقتل سعد الدولة على عسقلان. وفى سنة خمس توفى المستعلى بالله خليفة مصر ليلة السابع والعشرين من شهر صفر من هذه السنة، وله من العمر سبع وعشرون سنة وشهران وأحد عشر يوما.

المستنصريات

وقيل: وشهران غير يوم واحد. وهو الصحيح. وكانت خلافته مصر وتابعها سبع سنين وشهر واحد وعشرون يوما. مدبّر دولته طول أيّامه الأفضل أمير الجيوش شاهنشاه إلى حين وفاته. قضاته: ابن الكحال، ابن المليحى، ابن رجا، ابن دكا، النابلسى. قلت: قد تقدم الشرط من العبد أن يذكر آخر كلّ خلافة خليفة من هؤلآء القوم ما ذكر من مدائحه، وها نحن نذكر من المدائح المستنصريّات ما هو مستحسن لائق، من حرّ المديح الرائق، ونتبعه بالمدائح المستعليات، الشوائق المستحليات، جهد الطاقة، وحدّ الاستطاعة، وبالله التوفيق. المستنصريّات ولى الدين أحمد بن حران متولى الإنشاء: إنّ الحقائق قد تبلّج نورها … لمّا تتوّج بالهدى المستنصر هو ثمن الأملاك قام وثا … من الأفلاك أعلى فى النفوس وأكبر سادت معاليه كواكب سبعة … بضيائها تحيا النفوس وتبصر شرف الزمان بهم فصارت أرضه … فلكا هم فيها كواكب زهّر

تهنئة ببنت له من كلام الأشروسى

ابن أبى حصينة: هو حجة الله العلىّ فلا تكن … متعلّقا أبدا بغير حباله وعلا سرير الملك من آل الهدى … من لا تمرّ الفاحشات بباله أوفى البرية كلّها بعهوده … وأشدّها حنقا على أمواله لو رام تحويل الزمان ونقله … عن طبعه لأماله عن حاله تهنئة ببنت له من كلام الأشروسى صلوات الله العائدة البادية، الرائحة الغادية، وتحياته المستمرة، الزاهية، المستقرة، القاطنة، وسلامه المتعهّد بالعشىّ والإبكار، والمتجدّد آناء الليل وأطراف النهار، على مولانا وسيدنا الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين، وعلى آبائه الطاهرين الأبرار الراشدين، ما أخضرّ فى غصن ورقة، وناحت على شجر مطوّقة، وأسعد الله مولانا بطلوع شمس غدا نورها كاسفا للأقمار، وزاد ضياؤها فى إشراق النهار، وعظّم عليه يمن سيدة تقاصرت عن علاها الرتب، وتجملت بذكرها السّير والخطب، وما التأنيث منغصا للعطيّة الكريمة، ولا منقصا من العارفة الجسيمة، لأنّ الله تعالى جعل التأنيث فى أشرف ما صنع، وأعظم

ما اخترع، فالأرض مؤنّثة ومنها خلقت الأمم، والدنيا مؤنّثة والعالم لها خدم، والسماء مؤنّثة وهى محلّ الكواكب، والشمس مؤنثة ولها النور الثاقب، والنفس مؤنّثة وهى قوام الحيوان، (ص 259) والعين مونّثة وهى سراج الإنسان، والتقوى مؤنثة وهى خير زاد، والآخرة مؤنّثة وهى دار المعاد، والنبوّة مؤنثة وهى صراط الحقّ، والأمانة مؤنّثة وهى حجّة الله على الخلق، والدولة مؤنّثة والبريّة عبيدها، والدعوة مؤنّثة والهدى عمودها، والبركة مؤنّثة وهى أيمن طالع، والنعمة مؤنثة وهى أسعد قادم، فالحمد لله على جزيل عطيّته، وكريم عارفته، وإليه الرغبة فى تبليغ مولانا أبعد حدود الأمل، وأعلى درجات الغبطة والجذل، وأن يشفع هذه الموهبة بعدد من أنجاب نجله الطاهر، وفروع أصله الكريم العناصر، وهو بكرمه ولىّ الفضل، ومولى الامتنان والتطوّل، إن شاء الله. ولعبد الباقى التنوخى، ويذكر أخذ البساسيرى للإمام العباسى: أنت الذى نطق الكتاب وبشّرت … بقدومك العلماء والأحبار تمحى برؤياك الذنوب كأنّما … رؤياك عند المذنب استغفار هذا الإمام معدّ أفضل كلّ من … ولدت معدّ قبله ونزار سائل بنى العبّاس عنه فعندهم … خبر الذى هو عندنا استخبار لما طغى أنهم (؟) فلم يلبث إلى … أن حاط منك به قوى ودمار لم يكف أن دكّت أسرة ملكه … حتى حواه بعد ذلك أسار

المدائح المستعليات

من يعتقد فيمن سواك إمامة … فإمامه خزى له وشنار صغنا لك الأشعار يا من صيغت ال‍ … آيات فيه فضاعت الأشعار المدائح المستعليات عبد الباقى فى القصيدة التى رثى بها المستنصر (ص 260) وكان وفاة المستنصر ليلا، وجاءت فيه مطر فقال: وليس ردى المستنصر اليوم كالردى … ولا رزؤه أمرا يقاس به أمر لقد هاب ملك الموت إتيانه ضحى … ففاجأه ليلا وما طلع الفجر وأجرت عليه حين مات دموعها … السماء وقال الناس: لا بل هو القطر وقد بكت الخنساء صخرا وإنّه … ليبكيه من فرط المصاب به الصخر وقلّدها المستعلىّ الطّهر حسبما … عليه قديما نصّ والده الطهر وله فى مثل ذلك: إن كان قد أودى معدّ فانظروا ال‍ … مستعلى العالى ابنه وتبصّروا تجدوا الإمام أبا تميم نيّرا … ما غاب حتى لاح منه نيّر وكذا الإمامة كالحديقة لم تزل … غصن بها يذوى وآخر يثمر وقال أيضا: عاد عود العلياء غضّا طريّا … واستجدّ الزمان خلقا رضيّا ورأينا المستعلى العالى الجدّ (م) … كأنّا به رأينا النبيّا وشهدنا معه المعزّ مع القائم … يتلوا المنصور والمهديّا

وبه أرشد الإله البرايا … وهداهم به صراطا سويّا وحباهم وعدا بهم فأتاهم … إنّه كان وعده مأتيّا صلوات الإله تترى عليه … آخر الدهر بكرة وعشيّا وقال أيضا: لقد فضّل الخلاّق أحمد فى الورى … وفضّل فى البلدان من أجله مصرا تحذى رسول الله اسما وكنية … وطهرا فأضحى مثل آبائه طهرّا (ص 261) فيا ربّ هنينا به وأطل له … كوالده المنصور الباع والعمرا محمد بن محمد الحسنى يقول: سليل النبىّ وفرع الوصىّ … طال فخارا وطاب اختيارا وإرث الخلافة حقّ له … إذا ما سواه ادعىّ واستعارا فإن تميروا فيه بعد اليقين م … فحاميم أكرم من أن تمارى يعنى قوله تعالى ({قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}). حسن بن حيدرة يقول: ملك الّتى ما أن تنال بحيلة … بل مولد يقضى بها ونجار سرّ تنقّل كابرا عن كابر … حتى أتته بمحضها الأسرار

ولمحمد بن محمد الحسنى أيضا عند مولد الآمر: أهدى الزمان لنا بشائر سعده … ووفى لأبناء الرجاء بوعده واستلّ من جفن المعالى صارما … يفرى الخطوب القادحات بحدّه نور النبوة والإمامة أصبحا … يتألّقان على ضياء فرنده بتآمر البناء العظيم تشعبت (؟) … شعب الضلال تحاير عن قصده (؟) ولحسن بن حيدرة فى ذلك: ذخر الخلافة أبدته سعادتها … وكان فى عينها من قبل مكتتما سرّ من الله تخفيه إرادته … عن الجهول وتبديه لمن علما وله أيضا فيه: ورث الخلافة كابرا عن كابر … شهدت بذاك بواطن وظواهر شفع النبوّة بالخلافة إنّه … فيها بأحكام المهيمن آمر ولمحمد بن القاضى الموفق: (ص 262). يا عاشر الخلفاء والمحيى لهم … ذكرا روايتنا له عن طاها أخجلت بالكرم السحائب بعدما … كانت تفاخر بالندى وتباها وحسمت أدواء القنوط لأنفس … فجعلتها تقوى على تقواها فأسلم على رغم الليالى آمرا … فيها فأنت سناؤها وسناها وله أيضا فيه: إمام تذلّ الحادثات لعزّه … يعيد ويبدى والليالى رواغم تداركنا والمكرمات دوائر … يصمّ صداها والمعالى معالم

وله أيضا فيه: أذهبت بالجود ما بالناس من حسد … فأصبحوا فى دراك الرّحب إخوانا ما زلت أسمحهم نفسا وأسمعهم … همسا إذا سدّ وقر البخل آذانا وما يجود زمان أنت قاهره … ولا يروّعنا ما دمت ترعانا قلت: وهذا آخر ما وجدت من مدائح هؤلآء القوم فى «مسير التاريخ» اختصار الشيخ أبى القاسم علىّ بن منجب بن سليمان الكاتب رحمه الله تعالى. والآمر هذا هو آخر من ولى الخلافة على التلاوة من عنصر المهدى، وهو يعدّ عشرة جدود خلفاء إلى جدّه عبيد الله المهدى. وذلك أنه الآمر بن المستعلى، بن المستنصر، بن الظاهر، ابن الحاكم، بن العزيز، ابن المعز، ابن المنصور، ابن القائم، ابن المهدى.

ذكر خلافة الآمر المذكور وما لخص من أخباره وسيرته

ذكر خلافة الآمر المذكور وما لخّص من أخباره وسيرته هو أبو علىّ منصور بن أبى القاسم أحمد بن المستعلى بالله وباقى نسبه قد ذكرناه. ولد فى المحرم من سنة تسعين وأربع مئة. بويع له يوم الثلاثاء الثالث عشر من المحرّم، وقيل السابع عشر من صفر وهو الصحيح، من هذه السنة. وله خمس سنين وأشهر وأيام. قام بأمره أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالى المستنصرى، وكفله ودبّر (كذا)، وقام بأمره أحسن قيام، وساس الأمور أجمل سياسة. وحسنت حال الرعية فى أيّامه إلى الغاية. ولم يزل مستبدّا بالأمور من غير منازع ولا مشارك ولا معاند حتى كبر الآمر وعرف جيّده من رديّه، وحسّن له أن يعمل على قتل الأفضل ليخرج من تحت حجره، فأتقن أمره وباطن عليه، حتى قتل فى تاريخ ما يأتى من ذكره. ثم وزر له بعده جماعة تأتى أسماؤهم فى تواريخها إن شاء الله تعالى.

ذكر سنة ست وتسعين وأربع مئة

ذكر سنة ست وتسعين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا. وخمسة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والآمر خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل مدبّر الممالك المصرية. وفيها فتح دقاق بن تتش السلجوقى الرحبة. ودخل كمشتكين بعلبكّ، وحاصر شرف الدولة دمشق وفتحها عنوة بالسيف.

ذكر سنة سبع وتسعين وأربع مئة

ذكر سنة سبع وتسعين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع واثنا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث (ص 264) الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد. والآمر خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل مدبّر الممالك المصرية. وفيها ملكت الفرنج خذلهم الله عكّا من المسلمين، وقتلوا من كان بها بعد ما أمنوهم. وفيها توفى الملك دقاق بن تتش السلجوقىّ صاحب دمشق فى شهر جمادى الآخرة من هذه السنة. وفيها ظهر كوكب عظيم بالشرق أبيض كأنّه القمر، له ذؤآبة من شرقيّه، تقدير طولها مئة وخمسين ذراعا، وله شعاع وضوء كالقمر الزاهر، وأقام يتردّد مدّة أيّام وليال. وكان إذا كان مع القمر يظنّ الناس أنّهما قمران، لولا ما فضل القمر بذؤآبته، وكان من الأعاجيب السمائية (كذا).

ذكر سنة ثمان وتسعين وأربع مئة

ذكر سنة ثمان وتسعين وأربع مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وخمسة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين. وبنو سلجوق حكّام البلاد. والآمر خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الجمالى المستنصرىّ، والقاضى النابلسى بحاله. وفيها نزل أتابك طغتكين على دمشق خامس عشر جمادى الأولى فأقام محاصره إلى المغرب (كذا) من جمادى الآخرة. فملكها بالأمان ودخل إليها وصلّى تلك الجمعة بجامعها، فقفز عليه إسماعيل ليقتله فضربه مملوك كان خلفه بلتّ حديد فقتله، وسلم أتابك.

ذكر سنتى تسع وتسعين وخمس مئة

ذكر سنتى تسع وتسعين وخمس مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لسنة تسع وتسعين ثمانية أذرع فقط. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة عشر إصبعا. الماء القديم لسنة خمس مئة ثمانية واثنا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا. الحوادث الخليفة فيهما المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والآمر خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل شاهنشاه مدبّر الممالك المصرية. وفى سنة تسع وتسعين استولى الملك رضوان صاحب حلب على فامية، وكسر الفرنج على أرتاح، واستولى طغتكين أتابك على بصرى وصرخد. وفيها توفى يوسف بن تاشفين صاحب المغرب. وفى سنة خمس مئة قتل قلج أرسلان لسيف الدولة علىّ بن بسام صاحب الرقة. وفيها استعادوا الفرنج فامية من المسلمين.

ذكر سنة إحدى وخمس مئة

ذكر سنة إحدى وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكام البلاد. ووزير الخلافة ابن جهير عميد الدولة، إلى أن توفى فى هذه السنة. ووزر أخوه أبو القاسم علىّ ولقّب زعيم الدولة. والآمر خليفة مصر وأمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالى،

واستكمل دار الملك وجعلها دار إقامته، وهى دار الوكالة اليوم بمصر فى هذا التاريخ. ونقل إليها من الأموال والتحف والأمتعة ما يعجز عن بعض وصفه اللسان. قال الشيخ شمس الدين ابن خلّكان رحمه الله تعالى فى تاريخه: كان بهذه الدار عشرة مجالس مفروشة (ص 266) بأنواع الفرش الديباج والبسط الحرير. وكان فى كلّ باب من أبواب هذه المجالس العشرة مسمار ذهب بحلقة زنته مئة دينار، معلّق فيه منديل زركش يتناول منهم (كذا) ما شاء. وقيل إنّ الأفضل وقع له كنز يعرف بكنز الحمارة، ذكر ذلك صاحب كتاب «حلّ الرموز فى علم الكنوز». حكى أنه كان بمصر رجل أحدب إسكاف يرقّع العتيق من المداسات، فاجتمع له ثمانين درهم، ففكّر أنّه يشترى بها حمارا يكون يركبه إذا فرغ من شغله. فخرج إلى سوق الدوابّ، فوجد حمارة تباع بسائر عدتها بثمانين درهم. وهى من تركة إنسان توفى فشراها. فلما كان بكرة ذلك اليوم ركبها الأحدب وخرج نحو القرافة،

وهى تسرع به المشى من غير أن تكلّفه لضربها. فأعجبه منها ذلك، واستمر كذلك إلى بساتين الوزير، فعرّجت طالعة نحو الجبل وهى تسرع أشدّ إسراع، ولا عاد يقدر على منعها. فلم تزل به كذلك إلى أن وصلت به فى الجبل إلى مكان فيه مدود مبنى وبه أثر شعير وتبن وقصريّة وجرّة ومقود بهيمة مشدود إلى مكتوم. فوقفت على ذلك المدود. فتعجّب الأحدب ونزل من عليها، فوجد إلى جنب المدود طابق بدرج، فجعل البهيمة فى ذلك المقود ونزل فى تلك الدرج، فأوصلته إلى قاعة حسنة بأربع أواوين متقابلة، فيها من الأموال ما لا يحصره لسان. ووجد فى زاوية المكان شعير وتبن فأخذ منه كفاية الهيمة وطلع أرماه لها، ونزل وصار يرقص ويصفّق وقد خرج من عقله فرحا. ثم إنه نظر إلى زنبيل معلّق فحطّه فوجد فيه مأكول مشوى وخبز وحلوى. فأكل، وفى وسط تلك القاعة بركة ماء كأحلى ما يكون وأعذب، (ص 269) فشرب منه، وسقى البهيمة، وأخذ من ذلك الذهب فى خرجه شى تطيق البهيمة حمله، وركب وعاد إلى مصر مع عشى (كذا). ثم إنه اكترى قاعة حسنة فى

مكان لا يعلم به، وصرف من الذهب قليل، وعاد يكسى (كذا) تلك القاعة أوّل فأوّل، حتى أعادها كأحسن ما يكون من آدر الأمراء الكبار، وكذلك صنع لنفسه من كلّ ملبوس حتى يلبسه إذا خلا بنفسه فى تلك القاعة، وهو مع ذلك لا يفارق ما كان عليه من خلقانه وهو فى دكّانه على حاله، ويعاود المكان ينقل منه أوّل بأوّل. قال: وكن جوارى الأفضل إذا أردن الجواز إلى الحمّام عبرن من عليه، وكان فيهن جارية من حضاياه تعبث بالأحدب إذا مرّت به وتضحك عليه، فيقول لها: والله لو زرتنى لنظرتى (كذا) عندى ما لا نظرته عند الأفضل. فلما تكرّر عليها القول قالت: يا أحدب تقول هذا الكلام هزل أم جد؟ فقال: لا والله يا نور عينى ما أقوله إلاّ جد. فقالت: جهّز أمرك لمثل هذا اليوم أنا عندك. فلما كان ذلك اليوم حضرت إليه متنكّرة وحدها، فأخذها وأتى بها القاعة، فنظرت إلى زىّ حسن، ثم قدّم لها مأكل عنده ومشروب فى أوانى عجيبة، لم تنظر عند الأفضل مثلها. وقدّم لها كيس فيه ألف دينار. وأقامت عنده إلى آخر النهار، وخرجت إلى منزلها وقد

تعجّبت من أمر الأحدب. ثم إنها صارت تعاوده وكلّما انتهت إليه يعطيها كيس فيه ألف دينار. وامتحن الأحدب بها، فلما علمت الجارية أنّها أخذت بقلبه سألته عن أمره، ولم تزل به حتى اعترف. فقالت: أشتهى أتوجّه معك وأتفرّج فى هذا المكان. فأنعم لها بذلك. وأردفها خلفه على تلك البهيمة وأتى إلى المكان. فنظرت الجارية إلى ما أبهر عقلها. ثم إنها نظرت إلى بدنة لؤلؤ كبار مفصّلة بقضبان الزمرّد وقطع الياقوت البهرمان وقطع البلخش. فقالت: لابدّ لى من هذه البدنة. فقال الأحدب: وقد غلب عليه هواه لشقاه: هى لك. فأخذتها وافترقا. ثم إنه كان قد ولد للأفضل مولودا، فعمل له مهمّ كبير اجتمع فيه سائر نساء كبار الدولة. فلبست تلك الجارية تلك البدنة فوق سائر قماشها. فعادت تشتعل كالجمر. فلما رأوها بقية الحضايا عرّفوا الأفضل، فأمر بإحضارها، واستقرّها فاعترفت على الأحدب. فأحضر، وتوجّه الأفضل معه وتسلّم الكنز، ولم ير بعدها الأحدب. فكان هذا سبب سعادة الأفضل التى يخامر العقول ذكرها، كما يأتى بعض شئ من ذكر ذلك مما وجد فى تركته عند وفاته مما أثبت ذلك جماعة <من> المؤرخين منهم القاضى ابن خلّكان رحمهم الله.

وذكر أنّ بعض حاشية المستنصر اطّلع على أمر هذا الكنز فكتب إلى المستنصر رقعة يسأل المثول فى خلوة من الأفضل. فبينا هو يحدّث المستنصر عن الكنز وسببه ووصول الأفضل إليه لم يشعر إلاّ وهو قد دخل على المستنصر بغير إذن. وكان الأفضل إذا غضب على أحد قطع سائر أعضائه. فنظر إلى ذلك الرجل وهو يحدّث المستنصر عن الكنز، فأشار إليه أن لا بدّ ما أقطع أعضاءك. فلم يزل الرجل فى حديثه حتى انتهى. وقال: فإنى كذلك يا أمير المؤمنين، وإذا بحيّة عظيمة خرجت علىّ من ذلك الكنز فصرخت صرخة عظيمة أنبهتنى زوجتى، فانتبهت مرعوبا. فقال المستنصر: ما هذا ويلك؟ أكان ذلك رأيته فى منامك؟ قال: نعم يا مولانا. فقال قبّحك الله! اصفعوه. فقال الرجل: الحمد لله! بالتصفيع ولا بالتقطيع. (ص 271). وسيأتى من ذكر الأفضل عند وفاته شيئا آخر إن شاء الله.

ذكر سنة اثنتين وخمس مئة

ذكر سنة اثنتين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وثمانية عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والآمر خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل مدبّر الممالك المصرية. وفيها سلّمت الموصل لممدود. وملكت الفرنج طرابلس، وحلبا (؟) من العرب، وهو ابن عمار، بعد أن حوصر سبع سنين، كما يأتى من خبره عند ذكر فتح طرابلس إن شاء الله تعالى.

ذكر سنتى ثلاث وأربع وخمس مئة

وفيها أهدى الأفضل للآمر هدايا حسنة فى يوم خميس العدس، من جملتها قطعة مرجان عزيزة الوقوع خطرة المقدار، فحضر الجوهريّون وقالوا: هذه يعمل منها دواة قطعة واحدة، لم ير الناس أحسن منها. فجرّدوا العناية فى عملها فى أسرع وقت. فجاءت شئ عظيم القدر. فلم يحسن أحدا من الشعراء على أن يأتى بما يناسب ذلك فى القول، إلى أن حضر أحمد بن منصور فقال: ألين لداود الحديد تكرّما … يقدّره فى السرد وهو شديد ألين لك المرجان وهو حجارة … على أنّه صعب المراس بعيد فأمر له بجائزة سنّية وملبوس ومركوب، واستحسن ذلك منه. ذكر سنتى ثلاث وأربع وخمس مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لسنة ثلاث ستة أذرع وثلاثة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع. (ص 272)

الحوادث

الماء القديم لسنة أربع سبعة أذرع وثلاثة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع. الحوادث الخليفة فيها المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والآمر خليفة مصر، وأمير الجيوش والأفضل مدبّر الممالك المصريّة بحاله. وفى سنة ثلاث تسلّمت الفرنج خذلهم الله بيروت من المسلمين. وفى سنة أربع تسلّموا أيضا صيدا من المسلمين. وتوفى هبة الله بن الموصلى بحلب. وفيها هبّت ريح سودآء بمصر، وطلع سحاب أسود أخذ أنفاس العالم، وأظلمت منه الدنيا، وظنوا أنّ القيامة قد قامت، والريح تسفى الرمل فى أعين الناس، حتى يأست العالم من أرواحهم، ثم تجلّى ذلك الظلام وتقشّع إلى الحمرة، ثم إلى الصفرة، وظهر للناس الكواكب، وخرجت الناس من منازلهم يستغيثون إلى الله عزّ

ذكر سنتى وخمس وست وخمس مئة

وجلّ، ولم تزل كذلك من بعد العصر إلى أذان المغرب، وهذه أخرى غير الأوّلة التى سقناها فى سنة إحدى وتسعين وأربع مئة، فلا يظنّ أنها تلك، والله أعلم. ذكر سنتى وخمس وستّ وخمس مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لسنة خمس سبعة أذرع وثلاثة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأحد عشر إصبعا. الماء القديم لسنة ستّ ثمانية أذرع وخمسة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وإصبعان. الحوادث الخليفة فيها المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والآمر خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل مدبّر الممالك المصرية بحاله.

ذكر سنتى سبع وثمان وخمس مئة

وفى سنة خمس كان بمصر وباء عظيم وموت، إلى أن عجزت المواريث (273) عن إحصاء من مات. وفى سنة ست تسلّم أتابك صور من المصريّين. وفيها توفى على كرد صاحب حماة. وقتل مودود صاحب الموصل. قتلوه الإسماعيلية وهو راكب بالميدان وقتل قاتله. وفيها ملك عماد الدين قلاع الهكارية. ذكر سنتى سبع وثمان وخمس مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لسبع ثمانية أذرع وخمسة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وإصبعان.

الحوادث

الماء القديم لثمان سبعة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة أصابع. الحوادث الخليفة فيهما المستظهر أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والآمر خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل مدبّر الممالك المصرية. وفى سنة سبع توفى الملك رضوان صاحب حلب، وملكها تاج الدولة. وفى سنة ثمان كسر أتابك الفرنج، وتسلّم صور من المصريين، وعاد طنطاش إلى قلعة جعبر. وفيها كانت زلزلة بحلب، وخسف بسميصاط ومرعش، وهلك أناس كثير منهما. والله أعلم.

ذكر سنتى تسع وعشر وخمس مئة

ذكر سنتى تسع وعشر وخمس مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لتسع سبعة أذرع وستة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا فقط. الماء القديم لعشر سبعة أذرع وتسعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وستة أصابع. الحوادث الخليفة فيهما المستظهر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والآمر خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل شاهنشاه مدبّر الممالك المصرية (ص 274). وفى سنة تسع نزل أتابك على فامية وتسلّمها، ثم توجّه إلى بغداد فى آخر هذه السنة.

ذكر سنتى إحدى عشرة واثنتى عشرة

وفى سنة عشر احترقت المدرسة النظامية، وهى أوّل مدرسة بنيت فى الإسلام. وفيها قتل أحمد صاحب أذربيجان. وفيها اجتمع أتابك بالإمام الناصر وأخلع عليه، وطوّق. وعاد وهجم على حمص. وفيها قتل السلطان محمد بن طبر السلجوقى ببغداد وقام بالملك ابن عمه السلطان محمود بن محمد السلجوقى. ذكر سنتى إحدى عشرة واثنتى عشرة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لإحدى عشرة سبعة أذرع واثنا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا.

الحوادث

الماء القديم لسنة اثنتى عشرة سبعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وعشرة أصابع. الحوادث الخليفة فيهما المستظهر أمير المؤمنين، إلى أن توفى فى سنة اثنتى عشرة. والآمر خليفة مصر، وأمير الجيوش الأفضل مدبّر الممالك المصرية. وفى سنة إحدى عشرة قتل كامل بن منقذ صاحب شيزر. وفيها سار أتابك إلى عسقلان، وسيّر إليه خليفة مصر الخلع العظيمة. وفيها هلك الملك بردويل الفرنجى. وكان قد قصد الديار المصريّة فى جموع عظيمة، فسار حتى وصل الفرما فدخلها وأحرقها، وأحرق جامعها وسائر مساجدها، ورحل عنها، فمرض فى الطريق فمات قبل وصوله إلى العريش بالسبخة، فشقّوا أصحابه جوفه، ونكثوا حشوه

فى السبخة، وصبّروه وأتوا به قمامة فدفنوه بها. ولم يكن بالسبخة المعروفة به تحت ذلك الردم غير حشو جوفه. وكان بردويل هذا صاحب البيت المقدس وعكّا ويافا وعدة (ص 275) من بلاد بالساحل، وكان جبار عنيد وكافر شديد، هائل المنظر، شديد البأس. وهو استرجع جميع هذه البلاد من المسلمين. وكان موته لطف من الله عز وجل بأهل الديار المصرية. قال ابن واصل: وفى سنة إحدى عشرة ولد نور الدين محمود ابن عماد الدين زنكى بن قسيم الدولة آقسنقر المقدم ذكره. وفيها توفى السلطان محمد، وجلس ولده محمود بن محمد بالموصل. ثم ولاها لقسيم الدولة آق سنقر البرسقى، وهو غير آق سنقر والد عماد الدين أتابك زنكى، وذلك فى سنة خمس عشرة وخمس مئة. وأمره السلطان بحفظ عماد الدين رعاية لخدمة أبيه آق سنقر. فقام بذلك، وكان لا يقطع بأمر دونه. وفيها أخرب السيل سنجار. وفى سنة اثنتى عشرة تسلّم نجم الدين ألب غازى حلب.

ذكر وفاة الإمام المستظهر بالله

ذكر وفاة الإمام المستظهر بالله توفى ثانى عشر شهر ربيع الأول سنة اثنتى عشرة وخمس مئة. وله اثنان (كذا) وأربعون سنة. وكانت خلافته ستا وعشرون (كذا) سنة وأربعة أشهر. وزر له عميد الدولة أبو منصور محمد بن محمد بن جهير، إلى أن توفى فى تاريخ ما تقدم. ثم وزر له أخوه زعيم الدولة أبو القاسم. صفته: طويل جسيم، أبيض، أزرق، أشقر، حسن السيرة، جميل الذكر، الغالب على جميع أيّامه بنى سلجوق. نقش خاتمه: المستظهر بالله عبد الله.

ذكر خلافة المسترشد بالله بن المستظهر بالله وما لخص من سيرته

ذكر خلافة المسترشد بالله بن المستظهر بالله وما لخّص من سيرته هو أبو منصور الفضل بن أحمد المستظهر بالله، وباقى نسبه قد علم. أمّه أمّ ولد تدعى حبش. بويع له ثالث عشر ربيع الأول من هذه السنة. لم يزل خليفة سبع عشرة سنة وتسعة أشهر. ووزر له أبو على الحسين بن على بن صدقة، وبنى سلجوق الحكّام على الأمر.

ذكر سنتى ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس مئة

ذكر سنتى ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس مئة الماء القديم لسنة ثلاث عشرة: ستة أذرع واحد وعشرين إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وسبع أصابع. الماء القديم لسنة أربع عشرة: سبعة أذرع واثنا عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وإصبع. الحوادث [الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم]. [والآمر خليفة مصر]. وفى سنة ثلاث عشرة كسر سنجر شاه لمحمود ابن أخيه. وفيها كسر أتابك الإفرنج على جبل السمّاق كسرة عظيمة،

ذكر سنة خمس عشرة وخمس مئة

وكسرهم أيضا أيل غازى على البلاطة من أعمال حلب. وفيها تسلّم أتابك طغتكين تدمر والشقيف. ومضت سنة أربع عشرة لم يتجدد فيها شئ بحكم التلخيص. ذكر سنة خمس عشرة وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وأربعة أصابع. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثمانية أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والآمر خليفة مصر. وفيها قتل أمير الجيوش الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالى المستنصرى فى سلخ رمضان من هذه السنة.

وثب عليه على جسر مصر أقوام من المشارقة فجرحوه، ومسك بعضهم وهرب البعض، وحمل فى عشارى إلى بيته بدار الملك، وأخفى أمره. ثم نزل الخليفة الآمر إلى دار الملك وأمر أن لا يتحدّث أحدا بموته. ثم نقل منها أموالا لا تحصى وتحف وأمتعة ما يعجز عن حصرها. قال القاضى شمس الدين ابن خلّكان رحمه الله فى تاريخه: إنه لما مات وجد له من جملة ما وجد ست مئة ألف [ألف] دينار عين مصرية ومئتان وسبعون أردبا دراهم نقد مصر، [وخمسة وسبعون ألف ثوب ديباج أطلس، وثلاثون راحلة أحقاق ذهب عراقى، ودواة ذهب فيها جوهر قيمته اثنا عشر ألف دينار، ومئة مسمار من ذهب، وزن كل مسمار مئة مثقال] وخمس مئة صندوق قماش من دقّ تنّيس [ودمياط]، وشئ لا يحصيه إلاّ الله تعالى. . . ومن جملة ما وجد له صندوقين ملئا إبر ذهب برسم الجوارى. وكان ضمان ألبان مواشيه من أغنام وأبقار وجواميس فى السنة ثلاثين

ألف دينار، وأشياء لا يحملها العقل (ص 267) كثرة. وأما الجواهر والفصوص والأوانى المرصّعة فشئ عظيم. والله لقد أضربت عن ما نقله ابن واصل رحمه الله من عظيم ذلك، لأنّى رأيته لا يصدّقه من وقف عليه. وأمره فى ذلك إلى الله عزّ وجلّ. وكان مدة وزارته وأبوه ثمانية وعشرين سنة وستة أشهر، وأحد عشر يوما. وعمّر فى مدة حياته عدّة عماير منها: التاج والسبع وجوه، وذكر أنّ من التاج إلى السبع وجوه عقدا مبنيّا من تحت الأرض يمشى فيه الفارس برمحه، أزجّ معقودا، وقيل إنّ فيه له كنزا مدفونا إلى الآن، وإنّ فيه أكثر ذخائر الكنز الذى وجده. وعمّر بالروضة عدّة عماير ومناظر، وكذلك بظاهر مصر، والسوق الذى داخل باب القنطرة المعروف بسويقة أمير الجيوش، وبستان البقل مع عدة بساتين أخر، ومستنزهات عدّة. وأضربت عن كثير مما نقل عن أمواله وأحواله طلبا للايجاز وقصدا للاختصار. واستبد الآمر بالأمور بنفسه.

ثم وزر الأمير محمد بن فاتك البطايحى وأنعت بالمأمون. وهو أبو عبد الله محمد بن نور الدولة أبى شجاع فاتك، وطوّق بطوق ذهب مرصّع بجواهر، وتوّج بتاج مكلّل، وكتب له سجلّ بنعوته وأوصافه. فمن ذلك: السّيد، الأجلّ، المأمون، تاج الخلافة، وجيه الملك، فخر الصنائع، أمير الجيوش، ناصر الإمام، وسيف الإسلام، كامل قضاة الدين، هادى دعاة المؤمنين، نظام الوجود، خالصة أمير المؤمنين، أعانه الله على مصالح المسلمين، ووفّقه لخدمة أمير المؤمنين، وعضد بسموه ورثته (كذا) الدنيا والدين، وأدام قدرته وأعلا كلمته. وفيها كسر أتابك الفرنج على تل حورى. وفيها هبت ريح سودآء بمصر وأقامت ثلاثة أيّام، وهلكت أناس كثيرة وحيوان كثير (كذا). وفيها توفى أبو محمد القاسم بن علىّ الحريرى صاحب المقامات البديعة التى ما عمل مثلها إلى حين تسطير هذا التاريخ رحمه الله تعالى.

ذكر سنة ست عشرة وخمس مئة

وقفت على مقامات الشيخ الحافظ ابن الجوزى، وهى خمسون مقامة، ولعلهنّ مما يضاهين مقامات الحريرى، وإنما نفس الحريرى رحمه الله نفس فاضل أديب، ونفس ابن الجوزى رحمه الله نفس واعظ أريب، وكلّ منهما ففى معناه مصيب. وفيها أقطع أتابك زنكى شحنكية البصرة، وعظم شأنه وكبر سلطانه وهابه الأمير دبيس بن صدقة صاحب الحلّة حسبما ذكرنا من قبل. ذكر سنة ست عشرة وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستّة أذرع وستة عشر ذراعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة أصابع.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والآمر خليفة مصر. وأمير الجيوش محمد بن فاتك. وفيها مات ملك الخزر واسمه داود، وكان فتح تفليس، وكان له نظر عظيم فى الإسلام. وجرى له مناظرات مع القاضى الكنجى فى الكلمة هل هى مخلوقة أو قديمة. وفيها أكل القطا زرع الشام. وفيها كسر دبيس البرسقى، وتوفى الحاجب فيروز، وقبض المصريون على الأمير سعود والى صور عن أتابك طغتكين. وفيها توفى أيل غازى ابن أرتق صاحب ماردين، ونزلت الفرنج خذلهم الله على بالس وحاصروها، وزلزلت مدينة الحيرة المدعوة كنجة من بلاد تجاور الكرج، وانخسف طرف منها، وانهدم سورها. فسار إليها ملك الكرج ودخلها وعادت فى مملكته. والله أعلم. وفى سنة ست عشرة [وخمس مئة] أقطع عماد الدين شحنكيّة

البصرة [وواسط]، وعظم شأنه، وهابه الأمير دبيس بن صدقة صاحب الحلّة، وهمّ دبيس بقصد بغداد، فسار إليه آقسنقر البرسقى بنفسه، وتبعه الإمام المسترشد [بالله] فانهزم عسكر دبيس، وقتل وأسر منهم خلق كثير. وكان لعماد الدين أثر حسن فى هذه الوقعة. وذلك فى أوّل المحرّم سنة سبع عشرة وخمس مئة. ولحق دبيس بالسلطان طغرل ابن السلطان محمد وكان معه عاصيا على السلطان محمود، [وأمر السلطان لآق سنقر البرسقى أن يرجع إلى الموصل فعاد]. ثم إن عماد الدين ابن زنكى قال لأصحابه: قد ضجرنا مما نحن فيه، كلّ يوم فى مكان. وجمع رأيه وسار من البصرة إلى خدمة السلطان محمود. وأقام عنده فى منزله، وكان يقف إلى جانب الملك عن يمينه، لا يتقدّم عليه أحد، وهو مقام والده قسيم الدولة من قبله، [وبقى لعقبه من بعده]. ثم إنّه بلغ السلطان انحلال البصرة ونهبها. فأمر عماد الدين زنكى بالمسير إليها، وأقطعه إيّاها. فقام بأمرها أتمّ قيام، وعظم عند السلطان وزاد محله. وجرى بين برتقش شحنة بغداد وبين الخليفة المسترشد نفرة، فهدّده الخليفة، فسار عن بغداد شاكيا للسلطان من الخليفة. وقال: إنه قد جمع العساكر، وعزمه منعك من السلطنة ببغداد والعراق، فسار السلطان إلى بغداد، وجرت حروب

ذكر سنة سبع عشرة وخمس مئة

كثيرة ثم جعل عماد الدين زنكى على شحنكية بغداد والعراق مضافا إلى ما كان بيده من البلاد والإقطاع. وسار السلطان من بغداد. ذكر سنة سبع عشرة وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: (ص 277) الماء القديم ثمانية أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وتسعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والآمر خليفة مصر. وأمير الجيوش محمد بن فاتك إلى أن قبض عليه <فى> الرابع من شهر رمضان من هذه السنة. وكان قد أسآء السيرة، وظلم وعسف، وتعاظم فى نفسه، وأراق الدماء، وكسر العظم، وافترد برأيه.

ذكر سنة ثمان عشرة وخمس مئة

ويقال إنّه كان فرّاشا، ورأوه الناس وهو يرشّ الماء بين القصرين، والله أعلم. قبض عليه فى القصر الغربىّ بعد صلاة المغرب. ثم إنّ الخليفة الآمر استبدّ بالأمور، وقام بتدبير الدولة بنفسه، وأحسن عيار الذهب، ولم يسبقه إلى ذلك أحد غير الحجّاج بن يوسف الثقفى، وقد تقدّم ذلك. وفيها تسلم أتابك حماة وعادت فى مملكته والله أعلم. وفيها ولى أتابك زنكى شحنكيّة العراق من قبل السلطان محمود ابن محمد السلجوقى، وتزايدت هيبة أتابك حسبما تقدّم من ذكر ذلك. ذكر سنة ثمان عشرة وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وأربعة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية أصابع.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين. وبنو سلجوق بحالهم. والآمر خليفة مصر. مدبّر أمور مملكته بنفسه. وفيها ملك دبيس البرسقى حلب. وهبت ريح حملت من رمل الرصافة إلى قلعة جعبر، وفتحت الفرنج صور فى هذه السنة، وتوفى حسن الصبّاحى، وكان رئيس الإسماعيلية بعد سنان، وكان رفيق الإمام أبى حامد الغزالى فى قراءة بعض العلوم. وقتل القاضى الهروىّ (ص 278) وولده ببغداد. وفيها نزل دبيس البرسقى (كذا) الملقّب سيف الدولة وصحبته ملوك الفرنج على حلب فجاءهم كنجاك الرشيقى صاحب الموصل ورحّلهم عن حلب وتسلّمها. وكانت الفرنج قد أشرفوا على أخذها، لأنها كانت خلت من الرجال، ولم يبق فيها غير مئتى وستين رجلا.

ذكر سنة تسع عشرة وخمس مئة

وكانوا تخيّلوا بالنساء على الأسوار فى زىّ الرجال. فأقاموا الفرنج عليها تسعة أيّام. فلما كان اليوم العاشر تشاوروا أهل حلب على أنهم يخرجون ويطلبون الأمان من القتل. فلما كان بعد العصر أرسل الله عز وجل سيلا عظيما أخذ الفرنج ودوابهم وجميع مالهم، ووصل كنجاك الرشيقى (كذا) أوّل الليل وأصبح فكسرهم وتسلّم حلب. وفيها حاصروا الفرنج خذلهم الله صور وأخذوها. ذكر سنة تسع عشرة وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم تسعة أذرع وثلاثة أصابع. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وإصبع واحد. ما لخّص من الحوادث الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.

ذكر سنة عشرين وخمس مئة

والآمر خليفة مصر مدبّر أمور مملكته بنفسه. وقيل فى هذه السنة كان قتل الوزير فاتك وخمسة نفر من إخوته. وفيها أخذ ملك الخزر مدينة دون، وقتل منها عالم عظيم لا يحصى عددهم إلا الله عزّ وجلّ. وفيها مات ناصر الدولة ابن طرخان صاحب بالس. وفيها انكسرت المسلمين على مرج الصفّر على ضيعة (ص 279) تسمى شرخوب، وقتل من أهل دمشق خلق كثير. وكان الرشيقى (كذا) صاحب دمشق يومئذ. وقتل ذلك اليوم علىّ وصالح أولاد عامر النويرى، وكذلك قتل محمود بن قراجا وكان صاحب حماة. وقتل علىّ بن سلام النميرى، وكانت نوبة صعبة على المسلمين. ذكر سنة عشرين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثمانية أذرع وثلاثة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة الإمام المسترشد بالله، وبنو سلجوق بحالهم. والآمر خليفة مصر يدبّر أمور مملكته بنفسه. وفيها قتل البرسقى، قتله <الباطنية، ونهض> أتابك وتسلم تدمر والسخنة إلى ما معهما. وقيل فيها دخل محمد بن تومرت بغداد فى طلب العلم، فحصّل فى المدة القريبة ما لم يحصّله غيره فى الزمان الطويل. وفى سنة عشرين وخمس مئة قتل آقسنقر البرسقى، قتلوه (كذا) الباطنية. وكان بيده الموصل وحلب، ففوّض السلطان الأمر بعده لولده عزّ الدين مسعود، فلم تطل أيّامه، وتوفى سنة إحدى وعشرين، وولّى أخ له، وقام بتدبير أمره الجاولى. فكان من ولاية عماد الدين ما ذكرناه فيما يأتى إن شاء الله.

ذكر سنة إحدى وعشرين وخمس مئة

ذكر سنة إحدى وعشرين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ثمانية أذرع وسبعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين بحاله، وكذلك بنو سلجوق، والآمر خليفة مصر مدبّر أمور مملكته بنفسه. وفيها توفى القاضى الأندلسى. وتولّى القضاء مكانه أبو عبد الله محمد بن هبة الله بن ميسّر القيسرانى. وفيها دخل أتابك الموصل، وتوفى (ص 280) مسعود بن البرسقى وتسلم المختص الرحبة. وفيها كان أوّل:

مملكة أتابك زنكى

مملكة أتابك زنكى هو عماد الدين أتابك زنكى السلجوقىّ أبو نور الدين محمود، صاحب الشام. وهو أوّل من ملك بيت زنكى الموصل. وأتابك زنكى هو ابن قسيم الدولة آقسنقر الحاجب. [كان] مملوكا للسلطان العادل عضد الدولة ألب أرسلان ابن داود بن ميكاييل ابن سلجوق. ثم كان فى خدمة ولده جلال الدولة ملكشاه، وترقّت به الأحوال حتى ملك حلب وكثير من الشام والشرق، إلى أن قتل فى سنة سبع وأربعين وأربع مئة، فى معركة الحرب بينه وبين السلطان تاج الدولة السلجوقى، صاحب دمشق يومئذ. وكان قسيم الدولة المذكور قايم فى ذلك وفآء بابن أستاذه ركن الدولة بركياروق بن السلطان ملكشاه. ولما قتل قسيم الدولة آقسنقر كان زنكى يومئذ دون البلوغ، اجتمع عليه مماليك أبيه منهم زين الدين على كوجك صاحب إربل. وتنقّلت بزنكى الأحوال حتى صار منه ما يذكر. قال ابن واصل: إنه لما قتل آقسنقر البرسقى-وهو غير آقسنقر

أبى زنكى-وكان صاحب الموصل، قتلوه الباطنية سنة عشرين وخمس مئة-[فوّض السلطان الأمر بعده بالمحصل إلى ولده عز الدين مسعود بن آق سنقر. فلم تطل أيامه وتوفى سنة إحدى وعشرين وخمس مئة] وولى [بعده] أخ له، وقام بتدبير الملك مملوك لأبيه يقال له جاولى. فأرسل إلى السلطان محمود يطلب تقرير البلاد [على ولد آق سنقر البرسقى]، وبذل فى ذلك الأموال الجمة. وكان سيّئ السيرة. وسيّر الرسول فى ذلك القاضى بهاء الدين على بن القاسم [الشهرزورى]. فلما اجتمع بالديوان السلطانى حسّن الأمر، وسعى لزنكى بن آقسنقر قسيم الدولة، لما كان يعلم من شهامته وحسن سيرته، وبذل عنه الأموال الكثيرة، فأجيب إلى ذلك، وولى البلاد، وكتبت له المناشير السلطانية، وضم إليه ولد السلطان محمود ألب أرسلان -المعروف بالخفاجى-وجعل زنكى أتابكه، فمن ثمّ قيل أتابك زنكى. فلما وصل إليه المنشور قام بالأمر أتم قيام. ولما قرب من الموصل خرج إليه جاولى وتلقّاه، ونزل عن فرسه، وقبّل الأرض، وعلا فى خدمته إلى الموصل. فدخلها فى شهر رمضان، وأقطع جاولى الرحبة وولى نصير الدين دودارية الموصل، وجعل صلاح الدين محمدا بن أمير

حاجبه، وبهاء الدين قاضى القضاة [فى البلاد جميعها]، فإنهما كانا السبب فى ولايته. ثم لما استقرّت قواعده بالموصل توجّه إلى جزيرة ابن عمر وبها يومئذ مماليك آقسنقر البرسقى. فامتنعوا عليه، فحصرهم حتى أجابوه، ثم امتنعوا، فلم يزل عليها حتى فتحها عنوة بالسيف، ثم تنقّلت أحواله حسبما يأتى من ذكره. وفيها ملك حلب فى حديث طويل. واستوثق أمره وعلا ذكره، قال ابن واصل: لما قتل قسيم الدولة لم يكن له ولد غير زنكى، وخلّفه وعمره يومئذ عشر سنين. وكان تاج الدولة لما قتل أيضا فى اعتقاله أمير يقال له كربوقا، فخرج من الاعتقال، وملك الموصل، وأحضر زنكى إليه، وأحسن تربيته لأنه كان ابن خشداشه. وتوفى كربوقا، وملك الموصل موسى التركمانى. ثم وليها شمس الدين جكرمش أحد مماليك ملكشاه. فقرّب عماد الدين زنكى، وعاد كالوالد. وتوفى جكرمش فى سنة خمس مئة، فولى بعده جاولى. ثم كانت ولاية عماد الدين زنكى حسب ما ذكرناه من أول الكلام.

ذكر سنة اثنتين وعشرين وخمس مئة

ذكر سنة اثنتين وعشرين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وثمانية عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا فقط. ما لخّص من الحوادث الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين بحاله، وبنو سلجوق حكّام البلاد بحالهم. وتوفى أتابك طغتكين، وملك أتابك زنكى جزيرة ابن عمر وإربل، وعدّة بلاد وقلاع بالشرق، وقوى سلطانه، وكثفت جيوشه، وعلا شأنه فى سائر تلك البلاد، وهادنوه الملوك أرباب الممالك والقلاع، وخافوه على ما بأيديهم من ممالكهم.

ذكر سنة ثلاث وعشرين وخمس مئة

ذكر سنة ثلاث وعشرين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وستة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراع وإصبعان. ما لخّص من الحوادث الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد، والآمر خليفة مصر ومدبّر مملكته بنفسه. فيها قتل المزدقانى وقتل معه من الإسماعيلية عشرين ألف، ما بين برئ وسقيم (؟) فى حديث طويل. وفيها وصل سوار وأرسلان دغمش بالتركمان، واتفقوا مع الفرنج على دمشق وكسروهم كسرة عظيمة.

ذكر سنة أربع وعشرين وخمس مئة

وكذلك كسر أيل غازى الفرنج على المعلاّة بأرض حلب، وكانت سنة شديدة على الملاعين. وفى سنة ثلاث وعشرين وخمس مئة تزوج أتابك زنكى خاتون بنت الملك رضوان بن تاج الدولة تتش السلجوقى كان صاحب دمشق. ذكر سنة أربع وعشرين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وأربعة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والآمر خليفة مصر، حتى قتل فى هذه السنة. وذلك أنّه خرج يوم الثلاثآء الثالث من ذى القعدة ونزل مصر، وطلع الحرّاقة، وعدا إلى الجزيرة، فكمن له قوم اتفقوا على قتله. وكان ذلك بتدبير بنى عمّه. فغيّبوا تلك الأقوام أنفسهم فى فرن

هناك، فلما وصل الآمر إلى عندهم ومعه عدة يسيرة من حاشيته، وهو آمن من نوائب الدهر، راكن إلى غرّة الليالى وصفوها، فوثبوا عليه بأسيافهم ضربا (ص 382) فجرحوه جراحات قاتلة، ولم يمت فى ساعته الراهنة، بل حمل من ذلك المكان وأعيد إلى قصره، فمات من ليلته، ولم يعقب. وهو كان العاشر من صلب عبيد الله المهدى، أول خلفاء هؤلآء القوم، وقيل إنّ الذين دبّروا فى قتله بقية من عترة محمد بن فاتك المقدّم ذكره. عمره يوم قتل أغلاق أربعون سنة. وخلّف بعض حضاياه حامل فقال قوم: نبايع للحمل. وأبى آخرون. ثم اتّفق أمرهم على مبايعة أبى الميمون عبد المجيد. فبايعه قوم وامتنع آخرون. ثم اتفق الحال أن تكون البيعة بشرط أن يرى على الحمل. فإن وضعت ذكرا كان الأمر إليه، وإلاّ فله. فاستقرّت كذلك، ثمّ لم يظهر للحمل بعدها خبر. وكانت خلافته فى قول ثمان وعشرين سنة. وقيل: أربعة وعشرين سنة، وثمانية أشهر، وخمسة عشر يوما.

ذكر خلافة الحافظ أبو الميمون بن أبى القاسم وما لخص من سيرته

ذكر خلافة الحافظ أبو الميمون بن أبى القاسم وما لخّص من سيرته هو أبو الميمون عبد المجيد بن أبى القاسم بن المستنصر بالله، وباقى نسبه قد تقدّم. ولد فى سنة ستّ وستين وأربع مئة. بويع له يوم قتل الآمر، وفى غد ذلك اليوم نصب فى النظر لأمور المملكة أبو على أحمد بن الأفضل شاهنشاه أمير الجيوش، ثم إنه غلب على الأمر، واعتقل الحافظ عبد المجيد، وأقام متغلّبا على الأمر مستوليا مستبدّا بالأمور إلى النصف من شهر المحرّم سنة ستّ وعشرين وخمس مئة. فوثب عليه من صبيان الخاصّة من قتله على باب البستان ظاهر القاهرة. وأخذت رأسه فدخل بها إلى القصر، وأخرج ولىّ العهد الحافظ لدين الله من الاعتقال، وتقررت الوزارة ليانس، ولقّب بألقاب أمير الجيوش بدر الجمالى، وجدّدت البيعة للحافظ لدين الله، واستمرّ نظر يانس إلى أن توفى اليوم الثانى من ذى القعدة سنة ستّ (ص 283) ثم لم يستوزر بعده الحافظ أحد.

قلت: هذا القول الذى ذكرناه على ما سيّره الشيخ أبو القاسم علىّ بن منجب بن سليمان الكاتب رحمه الله. وأما نسخة الأصل من التاريخ الذى وضعته فإنّ الحافظ لما ولى واستوزر أبا علىّ بن الأفضل شاهنشاه أقام فى الوزارة ثمانى سنين، والحافظ تحت حجره حتى قتل حسبما ذكرناه. ثم وزر أخوه أبو الفتح. أقام سنتان وثمانية أشهر. يقال إنه سمّ فى ماء استنجى به فمات. ثم استوزر الحافظ بهرام الأرمنى. أقام سنة واحدة وعشرة أيام، ثم استعفى وترهّب ولبس الصوف، وبنى له فى القصر مكانا يتعبّد فيه حتى مات. ثم استوزر رضوان بن الوبحشى (كذا) سنتين وخمسة أشهر. ثم كان نجم الدين بن مصال يدبّر أمور المملكة، إلى أن توفى الحافظ، كما يأتى بيان ذلك فى تاريخه إن شاء الله تعالى. وفى سنة أربع وعشرين أخذ عماد الدين أتابك زنكى حماة من صاحبها، وهو يومئذ بهاء الدين سونج بن تاج الملوك بورى ابن طغتكين صاحب دمشق.

ذكر سنة خمس وعشرين وخمس مئة

ذكر سنة خمس وعشرين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والحافظ ولىّ العهد بالشرط المقدّم ذكره. والوزير الغالب على الأمر أبو علىّ أحمد بن الأفضل شاهنشاه، ونعت نفسه بنعوت أبيه وجدّه، واعتقل الحافظ عبد المجيد، وضرب السكة باسم القايم المنتظر، وذكره فى الخطبة، وردّ على التجار ما كان اغتصبه الراهب بهرام الأرمنىّ منهم من أموالهم ورباعهم، واستقر الحال كذلك. وفيها توفى السلطان محمود بن محمد السلجوقى لأربع عشرة ليلة بقيت من شوّال. وكان عند الملك زنكى ولدان للسلطان: أحدهما ألب

ذكر سنة ست وعشرين وخمس مئة

أرسلان الخفاجى، يكنى أبا طالب. فأرسل أتابك زنكى إلى الخليفة يسومه أن يخطب ببغداد لأبى طالب المذكور. فاعتذر الخليفة بأنّه صبىّ، وأن السلطان عهد بالسلطنة لولده داود بن محمود، وهو بإصبهان، وقد وردت رسل الأطراف بالخطبة له، ونحن منتظرون كتاب السلطان سنجر بن ملكشاه فإنّه عمّ القوم. ولما مات السلطان محمود خطب بهمذان وإصفهان وأذربيجان والجبال لولده داود، وجرى له حروب كثيرة مع عمه السلطان مسعود ابن محمد إلى سلخ المحرم من السنة الأخرى. ذكر سنة ست وعشرين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وسبعة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأحد عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم مستمرّون بالحكم.

والحافظ ولىّ العهد بخلافة مصر، وأمير الجيوش أبو على بن الأفضل. وفيها كسر شمس الملوك الفرنج وفتح بانياس عنوة بالسيف. وفى سنة ستّ وعشرين كانت الوقايع العظيمة بين ملوك السلجوقية، وانتصر أتابك زنكى الخفاجى، وضرب مع الخليفة مصافين انكسر فيهما جميعا. وكان قد وصل إلى الموصل هاربا وبها يومئذ-على ما قال ابن واصل -نجم الدين أيّوب. ثم قال: بل كان بتكريت فى النوبة الأولة. ووصل أتابك زنكى مهزوما من المسترشد، فأصلح له الطرقات والمعابر، ووفى أتمّ وفاء له. وفيها وصل السلطان سنجر وكانت الوقعة بينه وبين أولاد أخيه، ثم آل الأمر أن اصطلح الأخوان مسعود وسلجوق بناء على أن تكون السلطنة لمسعود، ويكون سلجوق ولىّ عهده. وكان ذلك فى جمادى الأولى من هذه السنة المذكورة. ثم لما حضر السلطان سنجر وكان بينهم ما كان من الحروب العظيمة، أجلس طغريل بن محمد وأمر بالخطبة له فى ساير الممالك. وفيها وصل الخليفة إلى الموصل وحاصرها أشدّ حصار، وعاد إلى بغداد ولم يحصل له غرض.

ذكر سنة سبع وعشرين وخمس مئة

ذكر سنة سبع وعشرين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وخمسة عشرون إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد، والحافظ ولىّ عهد الخلافة بمصر، حتى قتل أبو على بن الأفضل فى هذه السنة، فى رواية، بظاهر القاهرة، فى غرّة المحرّم. وسبب ذلك أنه كان لمّا أبطأ عليه أمر خبر الحمل طالب به، فلم يجد لصاحب الحمل خبرا، فعلم أنّ الحافظ كان سبب ذلك، فهدّد وتوعّد، فخيف من شرّه، فوثب عليه صبيان الخاصة فقتلوه، وقتل منهم عدّة. وولى الوزارة يانس، فأقام إلى آخر هذه السنة، ثم توفى مسموما حسب ما ذكرناه. وفيها صرح الحافظ بتوليته الخلافة، وخطب باسمه، وانقطع ذكر القايم المنتظر. ولم يكن ولى الخلافة أحد لم يكن أبوه خليفة قبل الحافظ.

ثم كان العاضد أيضا كذلك حسب ما (ص 285) سقناه من ذلك، واستقرّ الحافظ لدين الله خليفة مصر، ولقّب بأمير المؤمنين، وولى العهد ولده الأمير حيدرة. ولما توفى يانس وزر بهرام الأرمنى. فأقام إلى سنة تسع وعشرين، ثم ترهّب وانقطع بمكان بنى له فى القصر حسب ما يأتى. وفيها كانت الوقعة بين الملك زنكى وبين ولدى أرتق، وهما داود وأخوه، وكسرهما كسرة شنيعة، وأسر من رجالهم خلقا كثيرا، وأباع كلّ واحد منهما بكلب صيد، فى كلام طويل هذا ملخصه. قال ابن واصل: كان سبب وقعة عماد الدين مع ابن أرتق داود بن سقمان صاحب حصن كيفا، أنّ الأمير حسام الدين تمرتاش ابن ايلغازى بن أرتق قصد عماد الدين واتفق معه، وقصدا مدينة آمد وحصراها. فأرسل صاحبها إبراهيم بن كيكدى إلى الأمير ركن الدين داود المذكور يستنجد به فأنجده، والتقوا على باب آمد فحاصراها، ثم عادا منها من غير بلوغ غرض. ثم قصد عماد الدين قلعة الصور من ديار بكر فحاصرها وملكها فى رجب.

ذكر سنة ثمان وعشرين وخمس مئة

ذكر سنة ثمان وعشرين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وخمسة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكام البلاد. والحافظ خليفة مصر مستقلاّ، والوزير بهرام الأرمنى. وكان قد ولى القضاء بعد النابلسى أبو الفخر بن مبشّر صالح ابن عبد الله بن رجا، ثم القاضى سراج الدين أبو الثريّا نجم بن جعفر. فقتل فى هذه السنة. وولى مكانه سناء الملك بن مبشّر. وفى هذه السنة توفى محمد بن تومرت المهدىّ صاحب القيام بأمر المغرب. وقام بالأمر عبد المؤمن بن على الآتى ذكره إن شاء الله تعالى.

وفيها توفى الشيخ أبو على الحسن شيخ ابن عصرون. وفيها ولد السلطان صلاح يوسف بن أيوب بن شادى بن مروان بمدينة تكريت. وفيها سألت الأجناد المصريون الحافظ أن يجعل ولده حيدرة المسمّى بحسن واسطة بينهم (ص 286) وبينه، وأخرجوا الأمير حسن من القصر الغربى بغير رضى الحافظ وألزموه أن يوليه. فقال لهم: رضيتموه. فقالوا: نعم. وظلّ يراوغ بهم الأمر تسعة أشهر، فلما غلب سلّط عليهم السودان. وكان لهم زعيما يعرف بالأحاوى. فقتلوا من الجند خلقا كثيرا، وكانت فتنة كبيرة، وأبدعوا (كذا) السودان فيهم وأخرجوهم من مواطنهم وبيوتهم، وحشروهم فى طرف القاهرة بالحارة المعروفة بالبرقية أيّاما، واستولى السودان على القاهرة. فخرج بعض الجند إلى المحلّة مستصرخا بالوالى. وكان واليها يومئذ رجلا أرمنيّا وهو بهرام الأرمنى المقدّم ذكره. وكان رجلا سليم الباطن جيدا فى نفسه. وكان نصرانيّا على دينه، باقيا على ملّته، فانضوى إليه جماعة من الجند والعساكر مع جند الأرياف، وسار طالبا للقاهرة. فوصل إليها، فغلّقت الأبواب فى وجهه، فأحرق باب القنطرة، وباب الخوخة، وباب سعادة، وباب زويلة، وباب البرقيّة، ودخل ووضع السيف

على السودان. فقتل خلقا كثيرا. وأمّا الأمير حسن فإنّه ساعد السّودان على الأجناد، وقتل من الجند جماعة. فقالوا للحافظ: سلّم لنا ولدك حسن وأنت آمن. فتمنّع وعظم عليه تسليم ولده، وعلم أنّه إن لم يسلّمه قتلوه معه. فسقاه سمّا فمات. ودخل الأجناد فوجدوه ميتا. فقنعوا بذلك. وتولّى الوزارة بهرام الأرمنى. فهذا كان سبب وزارته والله أعلم. قال ابن واصل فى هذه السنة، أعنى سنة ثمان وعشرين قتل الخليفة المسترشد بالله ومنيته قال: لما أراد الخروج لقتال السلجوقيّة، والسلطان يومئذ مسعود بن محمد، دخل عليه الوزير شرف الدين علىّ ابن طراد الزينبى وكمال الدين صاحب المخزن. قال ابن واصل: وأنا معهما. فقال له الوزير شرف الدين: يا مولانا، فى نفس المملوك شئ، فهل تأذن لى فى المقال. فقال: قل. فقال: إلى أين تمضى؟ وبمن تعتضد؟ وإلى من تلتجئ؟ وبمن تستنصر؟ ومقامنا ببغداد [أمكن لنا، ولا يقصدنا أحد، والعراق] فيه لنا الكفاية. مع كلام كثير.

فقال لى الخليفة: [ما تقول يا كاتب؟. فقلت: يا مولانا، الصواب المقام. وما رآه الوزير فهو الرأى. ولا يقدم علينا أحد، وليت العراق يبقى لنا. فقال لصاحب المخزن: يا وكيل، ما تقول؟ فقال: فى نفسى ما فى نفس مولانا. فأنشد الخليفة] قول المتنبى: وإذا لم يكن الموت بدّ … فمن العجز أن تموت جبانا ثم إنه [تجهّز وجمع] خدم جماعة من الأمراء الأتراك وغيرهم، ووقع المصاف بينه وبين السلطان مسعود بمكان يسمى دامرك من أرض همذان. فلما اصطفت العساكر تركه جميع الأتراك ومالوا إلى السلطان مسعود. ثم وقع القتال فانهزم الخليفة ثم أسر وقبض عليه، وقتل جلّ أصحابه، وسار مع السلطان تحت الاحتياط إلى بلاد أذربيجان، فلما وصلوا إلى مراغة هجم عليه ثلاثة نفر من الملاحدة الباطنية فقتلوه وقتلوا معه ابن سكينة، وكان يصلّى [به]، وذلك يوم الخميس لأربع بقين من شهر ذى القعدة [سنة تسع وعشرين وخمس مئة] والله أعلم.

ذكر سنة تسع وعشرين وخمس مئة

ذكر سنة تسع وعشرين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثلاثة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة الإمام المسترشد بالله أمير المؤمنين إلى أن قتل فى هذه السنة، قتلوه الباطنيّة سابع عشر ذى القعدة. وكانت خلافته سبع عشرة سنة وتسعة أشهر: الغالب فى أيامه على الأمر بنو سلجوق. وزيره أبو على الحسين بن على بن صدقة. صفته: أسمر، ربعة، أسود الشعر، سبطه. نقش خاتمه. . . لقبه. . . والله أعلم.

ذكر خلافة الراشد بالله بن المسترشد بالله وما لخص من سيرته

ذكر خلافة الراشد بالله بن المسترشد بالله وما لخّص من سيرته هو أبو جعفر المنصور بن أبى المنصور الفضل بن أحمد المستظهر بالله، وباقى نسبه قد علم. أمه أمّ ولد يقال لها صبا. مولده سنة خمس مئة. ولّى بعهد من أبيه فى حياته له، وجلس للأمر يوم وفاة والده. والحافظ خليفة مصر، والوزير تاج الدولة بهرام الأرمنى، إلى أن استعفى وترهّب ولبس الصوف حسب ما سقناه، وأقام كذلك إلى أن توفى سنة خمس وثلاثين وخمس مئة، وكان لبهرام أخ يسمى باسك، وبه سميت منية الباسك فإنها كانت من إقطاعه. وفيها قتلت ياقوت خاتون ولدها شمس الدولة قدامها وهى قائمة على رأسه حتى مات فجعلته فى ناحية من المكان، وأمرت الجند فدخلوا فنظروه ميتا، ثم أجلست أخا له صغيرا يسمى محمود، وأنفذت إلى الحاجب يوسف بن فيروز فأحضرته وسلّمت إليه دمشق. وأقام مدّة يسيرة فاعترضه إنسان يقال له بزاوش، وهو فى الميدان،

فضربه بخنجر فقتله. وتفرّقت الجند. فقوم اجتمعوا على بزاوش، وقوم توجّهوا إلى منازلهم. وكان أمين الدولة صاحب بصرى حاضرا. فأرادت قتله فهرب إلى بصرى. ثم حضر أتابك زنكى ونزل على دمشق يحاصرها، ثم تقرّر بينهم الصلح. قال ابن واصل: وكان سبب قتل أمّ شمس الدولة، وقيل شمس الملوك-واسمه إسماعيل بن بورى بن طغتكين-ولدها المذكور أنه كان سىّء السيرة إلى الغاية القصوى [مع بخل زائد ودناءة نفس] فكرهه أصحابه وأهله ورعيته، [فلما استشعر بغض أصحابه له وخاف منهم راسل] عماد الدين وقال: إن لم تسرع بالحضور سلّمت المدينة للفرنج. أعنى دمشق. فلما تحقّقت أمّه من أهل الدولة بكمالهم خافت على زوال الملك من بيتها، جمعت كبار القوم وقررت معهم أنها تقتله وتقيم أخوه (كذا)، فكان ما ذكرناه.

نكتة [ولدت الجارية غلاما فسر به المسترشد وسماه أمير الجيوش.]

نكتة [ولدت الجارية غلاما فسرّ به المسترشد وسماه أمير الجيوش.] قال ابن واصل: إن الخليفة المسترشد بالله كان قد أعطى لولده الراشد، وعمره أقلّ من تسع سنين، عدة جوار وأمرهن أن يلاعبنه ويمكّنّه من أنفسهنّ. وكانت فيهنّ جارية صفرآء حبشيّة، فحملت من الراشد بالله، فلما ظهر الحمل وبلغ ذلك المسترشد أنكره، وأحضر الجارية وتهدّدها. فقالت. والله ما تقدّم إلىّ سواه. وإنّه قد بلغ الحلم. فسأل عن ذلك بقية الجوارى، فقلن مثل ذلك. فأمر أن تحمّل الجارية قطنا ثم وطئها الراشد. فنظروا القطن والمنىّ عليه. وهذا من غرايب الأحوال. ولم يسمع بمثل هذا. إلاّ قيل إنّ نساء تهامة من الحجاز يحضن لتسع سنين ويبلغ صبيانها لتسع. ثم ولدت الجارية غلاما فسرّ به المسترشد وسماه أمير الجيوش.

ذكر سنة ثلاثين وخمس مئة

ذكر سنة ثلاثين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وستة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة الراشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد. والحافظ خليفة مصر. ووزر أبو الفتح رضوان ولقّب بالأفضل، وجرت له أمور يطول شرحها، ملخصها أنّه هرب من مصر إلى الشام بعد فتن كثيرة، ثم عاد إلى مصر، ثم خرج إلى الشام يستجيش على الحافظ، فلم يزل يرسل إليه ويداهيه ويطمعه ويرغّبه حتى استقدمه. فسجنه فى قصره، فأقام مدّة، ثم نقب القصر وخرج، فعلم به فاتّطلبه الحافظ حتى وقع عليه فقتله. ثم لم يستوزر الحافظ بعدها أحدا غير ابن مصال نجم الدين، فإنّه أقامه ناظرا فى الأمور من غير أن يطلق عليه اسم الوزارة. والله أعلم.

وفيها توفى شهاب الدين صاحب قلعة جعبر، وتولّى ولده شرف الدولة. وفيها تسلّم أتابك زنكى الرقّة من زعيم الدولة. وفيها طلع سحاب أسود أظلمت الدنيا منه، حتى صار الوقت كالليل المظلم، طلع بعده سحاب أحمر، فاحمرّت الدنيا منه، حتى عاد الجو كأنّه نار تشتعل، وكان قد هبّ قبل ذلك ريحا عاصفا وأهلكت شئ كثير من الشجر. ولم يزل كذلك إلى الليل، فمطرت مطرا عظيما إلى أن زادت منه الأنهر، وكادت دمشق تغرق، وكان ذلك فى الرابع والعشرين من أيّار. والله أعلم. قال ابن واصل: فى هذه السنة-[أعنى سنة ثلاثين وخمس مئة]- كانت البيعة للمقتفى لأمر الله ببغداد. وذلك أن المسترشد قتل وبويع الراشد ببغداد، فلم يوافق على ذلك السلطان مسعود وقال: هذا يكون كاينة فى معاندتنا. وأجمع رأيه مع كبار الدولة على المقتفى. وكان الراشد قد أرسل إلى أتابك زنكى يستقدمه، وجعل له الشحنكية ببغداد، والملك والسلطنة لألب أرسلان الذى عنده. فلما قدم أتابك زنكى واتقع (كذا) مع السلطان مسعود وانكسر ورجع هاربا. فلما كان ذلك خرج الراشد من بغداد هاربا ولحق بأتابك زنكى بالموصل

واستقرّ بها إلى سنة اثنتين وثلاثين، والخطبة له ببلاد الموصل وما والاها. وأما بغداد وساير الأعمال للمقتفى بحكم إجماع الناس على خلعه. ثم سيّر إلى الأتابك زنكى ما أرضاه به من جهة المقتفى من الإقطاعات وغيرها فوافق، وخطب للمقتفى بالموصل. وفارقه الراشد بالله وتوجّه نحو همذان، فوثب عليه الباطنيّة فقتلوه. وكان ذلك يوم الثلاثاء سادس رمضان المعظم سنة اثنتين وثلاثين وخمس مئة.

ذكر خلافة المقتفى لأمر الله ابن المستظهر بالله وما لخص من سيرته

ذكر خلافة المقتفى لأمر الله ابن المستظهر بالله وما لخّص من سيرته هو أبو عبد الله محمد بن أبى العبّاس أحمد المستظهر بالله، وباقى نسبه قد علم. أمه أمّ ولد لم أقف على اسمها. بويع بعد قتلة الراشد بيومين. هكذا ذكر أبو المظفر عن بيعة المقتفى أنها بعد قتلة الراشد وليس كذلك، والصحيح ما ذكره القاضى جمال الدين بن واصل من ذلك، وقد ذكرنا بتلخيصه فى الحاشية التى قبل هذه الحاشية. وكلّ ما حشيّته فى جميع هذا التاريخ وفى أجزائه مقابلا (كذا) على نسخ المؤرّخين يحقق الضبط، فزاد هذا التاريخ إحسان، ولم يشنه بل له زان. أقام خليفة أربعا وعشرين سنة. وقيل خمس (كذا) وعشرين وثلاثة أشهر ونصف شهر. وكان شيخا أبيض الرأس واللحية. وقبض على كثير من أفراد بطانته وأمرائه. وكان يحبّ المال وتحصيله وجمعه، ولم يزل كذلك إلى أن توفى فى تاريخ ما يأتى ذكره.

ذكر سنة إحدى وثلاثين وخمس مئة

قال الفقيه أبو محمد أحمد بن عبد الوهاب بن محمد بن عمر صاحب «التاريخ»: كانت دعوة المقتفى لأمر الله <فى> العراق والشام والحجاز وحرّان. ذكر سنة إحدى وثلاثين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: (ص 289) الماء القديم ستة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة الراشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد. والحافظ خليفة مصر، والوزير رضوان مدبّر الممالك المصرية. وفيها استولى الصوفىّ على دمشق وملكها من ياقوت خاتون. وفيها نزل ملك الروم على أنطاكية وحاصرها وشدّد عليها ذلك. وفيها نفى القاضى سناء الملك إلى تنّيس، وولى الحكم القاضى ابن أبى عقيل. وفيها فتح أتابك زنكى المعرّة وكفر طاب بعد فتح بارين من

ذكر سنة اثنتين وثلاثين وخمس مئة

الفرنج، وأعاد كلّ ملك إلى صاحبه من المسلمين. وهذا ما يحكى من جملة عدله رحمه الله. قال ابن واصل: وفى هذه السنة، أعنى سنة إحدى وثلاثين، تزوّج أتابك زنكى بصاحبة دمشق وسماها زمرد خاتون. وهى أمّ الذى قتلته شمس الملوك ولدها، ظنّا منه أنها تسلّمه دمشق فلم توافق. وقال ابن واصل أيضا: وفى هذه السنة ملك ملك الروم بزاعة بالأمان من أهلها، ثم غدر وقتل جميع أهلها عدّة خمسة آلاف ومات نفر. قال: وتنصّر قاضيها وجماعة من أعيانها نحو أربع مئة نفس، واختفى جماعة فى مغارة فدخّن عليهم فماتوا أجمعهم. ذكر سنة اثنتين وثلاثين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وإصبع واحد. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثلاثة أصابع.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة الراشد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد بحالهم. والحافظ خليفة مصر، والوزير رضوان. وفيها هرب إلى الشام الهربة الأولى حسبما ذكرناه. وفيها دخل أتابك زنكى دمشق، واستقرّ ملكه بها بعد ما كسر الفرنج كسرة عظيمة، وقتل بزواش الذى كان متغلّبا على دمشق. ثم إنه انتقل إلى حمص وملكها فى هذه السنة، وولده نور الدين محمود بالشرق فى ممالك أبيه زنكى، واستقرّ الملك زنكى بدمشق. وفيها قتل الإمام الراشد بالله أمير المؤمنين غرّة رمضان من هذه السنة. وكانت خلافته سنتين وعشرة أشهر. وكان جبارا قوىّ النفس جريثا على سفك الدماء بحقّ وبغير حق. صفته عفا الله عنه: أشقر، كبير العينين، بيّن الزرقة والشهولة، ربعة. نقش خاتمه. . . . لقبه. . . والله أعلم.

ذكر سنة ثلاث وثلاثين وخمس مئة

ذكر سنة ثلاث وثلاثين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وخمسة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق ملوك البلاد. واستبدّ الحافظ بالأمور وقام فيها بنفسه. وفيها توفى القاضى ابن أبى عقيل رحمه الله، وأقامت القاهرة ومصر بغير قاض ثمانية شهور. ثم تولّى الحكم القاضى هبة الله بن خير الأنصارى. وفيها خرج ملك الروم إلى الشام وفتح بزاعة، وأسر خلق كثير عدة عشرة آلاف نفر، وجعلهم فى خندق الآثارات يخرجون كل يوم يرعون الفول الأخضر ثم يعودون إلى الخندق، مع موكّلين بهم، ثم

رحل طالبا شيزر، ونزل عليها، فخرج عليه سيف الدين سوار ابن ألدكز فى خيل من عسكر حلب، فخلّص الأسرى جميعهم ما خلا ولده وكان فى جملة الأسرى، وكانوا ثلاث مئة وخمسين نفرا. ثم رحل ونزل بزاعة وتسلّمها من الفرنج. وفيها زلزلت الحيرة عشر فراسخ فى مثلها وأهلكت ألف إنسان، وخسف بها وصار مكانه ماء أسود، وقدموا الغايبين من أهلها ولازموا البلد يبكون على أهاليهم وأموالهم التى عدمت لهم فى ذلك الخسف. وذكر أبو العلاء القلانسى أنّها كانت عامة، وأنها كانت فى حلب أقوى وأعظم، فإنها تواترت ثمانين مرة فى يوم وليلة، ورمت أبراج القلعة وأسوار البلد، وهرب جميع أهلها إلى ظاهرها. فهذه الزلزلة التى ذكرناها فيما تقدم ونبهنا على أمرها فإنها غير زلزلة شيزر المقدّم ذكرها أيضا. وفيها قتل الأمير شهاب الدين محمود بن بورى بن طغتكين صاحب دمشق ليلة الجمعة لثلاث بقين من شوّال، قتله غلامه البقش ويوسف الخادم والفرّاش الخركاوى، وصبيحة قتله وصل أخوه جمال الدين محمد بن بورى وملك دمشق، وقام بتدبير دولته الأمير معين الدين

أنر مملوك جده طغتكين، ووصل أتابك زنكى إلى دمشق، وكانت الحرب بينه وبين الدماشقة، ولم يزل الحصار عليها إلى شعبان من هذه السنة. فتوفى جمال الدين صاحبها وهو كان آخر ملوك دمشق. وملك بعده مجير الدين آبق آخر من ملك دمشق من بيت الأتابك طغتكين، وقام بتدبير الملك معين الدين أنر، إلى أن ملكها أتابك زنكى. قال ابن واصل: وفى هذه السنة تسلم أتابك زنكى دمشق، وذلك لما قتل شهاب الدين محمود بدمشق حزنت عليه أمّه زمرّد خاتون فكاتبت أتابك على طلب دمشق. وكان بها معين الدين أنر، وكان قد خرج عن طاعة زمرّد خاتون. فحضر جمال الدين من بعلبك بقصد دمشق، واستنجد معين الدين بالفرنج، وجرت حروب كثيرة، وعاود دمشق عدة دفوع حتى دخلها على حين غفلة من أهلها فملكها. ثم قال ابن واصل فى مكان آخر: إنه لم يملكها فى هذه السنة. والله أعلم.

ذكر سنة أربع وثلاثين وخمس مئة

ذكر سنة أربع وثلاثين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وثمانية عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد. والحافظ خليفة مصر قائم بأمور نفسه وتدبير ممالكه. وعزل القاضى عبد الله وتولّى الحكم أبو الطاهر إسماعيل بن أبى سلامة الأنصارى. وفيها كانت وقعة الزيتون مع أتابك زنكى، وكسرهم أتابك زنكى كسرة عظيمة، وقتل من الفرنج عشرين ألف نفر على تلّ الثعالب، وكان قبل ذلك وصلوا (كذا) الملاعين إلى بانياس، ووصلوا إلى داريّا ظاهر دمشق.

ذكر سنة خمس وثلاثين وخمس مئة

قال ابن واصل رحمه الله: ولما رجع ملك الروم خائبا امتدح عماد الدين أتابك زنكى مسلم بن خضر بن قسيم الحموى بقصيدة منها يقول: بعزمك أيّها الملك الرحيم … تذلّ لك الصّعاب وتستقيم ألم تر أنّ كلب الروم لمّا … تبيّن أنّك الملك الرحيم فولّى يطبق الفلوات جبنا … كأنّ الجحفل الليل البهيم منها: كأنّك فى العجاج شهاب نور … توقّد وهو شيطان رجيم ومنها: أراد بقاء بهجته فولّى … وليس سوى الحمام له حميم (ص 292) وفيها قتل أتابك زنكى من أهل العريش ألف رجل كانوا اتفقوا مع الفرنج أن يسلّموهم بلاد المسلمين فقتلهم بسبب ذلك. ذكر سنة خمس وثلاثين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة الإمام المقتفى بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والحافظ خليفة مصر يدبّر أموره بنفسه. فيها وصل أتابك زنكى بمرج الزّبدانى ووصل البقاع، وخطب له بدمشق وحمص وغيرهما. وفيها قتل سنجر شاه صاحب أذربيجان. وفيها كانت الزلزلة بشيزر، وأخرجت القلعة، وتسلّم أتابك الموزر. وفيها توفى بهرام بن أسد الأرمنى المترهّب المقدّم ذكره فى ذكر وزارة مصر. ذكر سنة ستّ وثلاثين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم أربعة أذرع وخمسة أصابع مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وأحد عشر إصبعا.

ما لخص من الحوادث

ما لخّص من الحوادث الخليفة الإمام المقتفى بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والحافظ خليفة مصر مدبّر أموره بنفسه. وفيها توفى كند أسطيل (كذا) ملك الروم. وفيها كانت وقعة بين سنجر سلطان [الشرق] وكافر ترك [الواصل من ناحية الصين] وسبب ذلك أنه كان مما وراء النهر طائفة من الملوك يقال لهم العمرة ينزلون بنواحى سمرقند فى مروجها، ولهم أموال كثيرة ومواشى (كذا) كثيرة، وأهل تلك النواحى ينتفعون بهم، وهم قوم يعفّون عن مال غيرهم ولا يؤذون أحدا، فبلغ خبرهم سنجر سلطان فنفذ إليهم العساكر فأوقعوا بهم، ونهبوا أموالهم، وهتكوا حريمهم، وسبوا بناتهم، وقتلوا منهم خلق كثير. فانزاحوا إلى ناحية أورجيد. ثم نفدوا مشايخهم وكبراءهم بتقادم حسنة من أموالهم إلى سنجر سلطان وقالوا: نحن قوم أهل برارى وصحارى وخراب من الأرض، ولا لنا أذية إلى مخلوق، ونحن نسأل السلطان أن يكفّ عنا، ونجعل له علينا فى كلّ سنة خمسة آلاف فرس، وثلاثين ألف رأس من الغنم، ومن المال كذا وكذا. فلم يلتفت إليهم ولا أجابهم ولا إلى شئ من ذلك. فلما عادوا مشايخهم بالخيبة أجمعوا رأيهم

وتوجّهوا إلى خاقان ملك الخطا مستصرخين به ومستجيرين بسلطانه. فحشد خاقان جموعه وجيوشه فى سبع مئة ألف مقاتل، وانضمّ خوارزم شاه إليه لمصاهرة كانت بينهما ومعاداة بين سنجر سلطان وبين خوارزم شاه. وكان عدّة عسكره خمسين ألف مقاتل، فلما بلغ سنجر سلطان ذلك حشد وجمع جموعه وقطع النهر فى ثلاث مئة ألف مقاتل، والتقوا فى صحراء سمرقند، وكان يوما عظيما لم ير مثله فى جاهلية ولا إسلام، واقتتلوا ثلاثة أيّام ليل نهار، فانكسر سنجر سلطان وانهزم، وهرب فى ستة نفر، وأسروا زوجته وأولاده، وهتكوا حريمه، وقتل عامة أمرائه، وقتل من أعيان دولته نحو المئة ألف. ودخل خوارزم شاه إلى بلخ، ونهب وقتل وسار. ومضى سنجر سلطان إلى فرهد (كذا) فلما دخلها لم يجد بها أحد (كذا) فسأل عن ذلك فقالوا: قتلوا جميعا. (ص 294) وأخذت خزائنه وأمواله وذخائره، وأقام أيّاما لا يأكل ولا يشرب. فهذه وقعة سمرقند المشهورة. والله أعلم. قال ابن واصل: إن فى سنة ست وثلاثين تسلم أتابك زنكى إربل، وكانت إربل وجميع أعمالها لأبى الهيجاء الكردى الهذبانى ولورثته من بعده، ثم تغلّبت دولة الأتراك السلجوقية عليها وعلى غيرها، وتنقلت إلى أن صارت للسلطان مسعود بن ملكشاه، وهو يومئذ

صاحب بزاعة قبل أن تصير إليه السلطنة. وكان <فيها> نائب من قبله، فسار إليها عماد الدين أتابك زنكى ونازلها فى هذه السنة المذكورة، أعنى سنة ست وعشرين وخمس مئة، فسار إليه السلطان محمود من مراغة، فرحل عنها عماد الدين فترك الزاب وترددّت الرسل بينهم إلى أن استقرّ أن يسير عماد الدين فى خدمة السلطان مسعود ليجلسه فى السلطنة، ويكلّف الإمام المسترشد أن يخطب له، ويسلّم إليه السلطان إربل. فتسلّمها على ذلك الشرط. فسلّمها عماد الذين لزين الدين كوجك، ثم سار عماد الدين إلى بغداد غربىّ الماء، وسار السلطان مسعود شرقىّ الماء، وتواعدا أن يلتقيا ببغداد. فوصل من بغداد قراجا الساقى وكبس عماد الدين، فكسر العسكر وأسر كلّ من فيه، ولم ينج سوى عماد الدين فإنه قطع الشطّ فى زورق وهو مجروح، فوصل إلى الموصل. واستقرّت حلب فى يد زين الدين كوجك وولده بعده إلى آخر أيّام الملك المعظّم مظفر الدين كوكبورى حسب ما يأتى من ذكره. قال ابن واصل: فى هذه السنة، أعنى سنة ست وثلاثين وخمس مئة، ملك عماد الدين أتابك زنكى الحديثة، ونقل من كان بها [من آل مهراش] إلى الموصل. وفيها خطب لعماد الدين بمدينة آمد، ودخل صاحبها فى جماعته،

ذكر سنتى سبع وثمان وثلاثين وخمس مئة

وكان قبل ذلك موافقا للأمير ركن الدين داود الأرتقى صاحب حصن كيفا. فلما رأى قوّة الملك زنكى رجع إلى طاعته. وفيها أغار عسكر حلب من جهة أتابك على الفرنج وقتلوا منهم خلقا كثيرا. ذكر سنتى سبع وثمان وثلاثين وخمس مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لسنة سبع ثلاثة أذرع وستة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا فقط. الماء القديم لسنة ثمان خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة فيهما الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم.

والحافظ خليفة مصر مدبّر أمور ممالكه بنفسه. ومضت سنة سبع بغير حادث بحكم التلخيص. وفى سنة ثمان ظهر قوم يقال لهم بنو لام ومعهم جماعة من أهل الشرق فتوجهوا إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وأحرقوا قبر عثمان بن عفّان رضى الله عنه، وأحرقوا معه قبور كثيرة. وكان هؤلاء القوم علويون ثم إنهم عادوا إلى بلادهم. وفيها غلب سيف الدين غازى بن أتابك على ملك الموصل من مملكة نور الدين محمود بن أتابك زنكى وأخرجه عنها فى شرح طويل هذا ملخصه: قلت: هذا غلط من أبى المظفر، وإنما الصحيح ما ذكره ابن واصل من ذلك المكتوب على الحاشية فى أمر بنى أتابك زنكى. وفيها فتح أتابك الرّها عنوة بالسيف وكذلك سروج أيضا. وفيها ملك نور الدين محمود بن زنكى سنجار وعادت فى ملكه والله أعلم. وقيل إن هذه الحوادث كانوا فى سنة تسع وثلاثين والله وأعلم.

ذكر سنتى تسع وثلاثين وأربعين وخمس مئة

قال ابن واصل: وفيها فتح الرها. كان الفرنج-لعنهم الله-كثر شرّهم بالبلاد الجزريّة، وكانت لهم الرّها وسروج وألبيرة وغير ذلك. وكانت جميع هذه البلاد والأعمال لجوسلين. وكان أتابك زنكى يعلم أنه متى قصد الرّها اجتمع بها الفرنج ومنعوه منها. فاشتغل بقصد ديار بكر ليوهم الفرنج أنّه غير قاصد نحوهم. ثم إنه نادى على حين غفلة من الفرنج بالركوب. ومدّ خوان وقال: لا يأكل معى على مائدتى إلاّ من يطعن غدا معى باب الرها. فلم يتقدم إليه غير أمير واحد وصبى لا يعرف، وذلك لما يعرفون من شجاعته وقوة جسارته. . فقال ذلك الأمير للصبى: ما أنت وهذا [المقام] فقال له [عماد الدين]: دعه، فإنى والله أرى منه وجها لا يتخلّف عنى. فكان كذلك حتى فتح الله عليه. ذكر سنتى تسع وثلاثين وأربعين وخمس مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لسنة تسع ستة أذرع وأربعة عشر إصبعا.

ما لخص من الحوادث

مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع. الماء القديم لسنة أربعين أربعة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وستة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة فيهما الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والحافظ خليفة مصر مدبّر أمور ممالكه بنفسه، وابن مصال ناظر فى المصالح. ومضت سنة تسع ولم يكن بها غير ما تقدم فى ذكر سنة ثمان، وفى سنة أربعين فتح عبد المؤمن مدينة مرّاكش. وفيها نزل أتابك زنكى على قلعة جعبر، وولده نور الدين دخل دمشق فأقام مدة يسيرة ثم عاد. ذكر سنتى إحدى واثنتين وأربعين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم لسنة إحدى ستة أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.

ما لخص من الحوادث

الماء القديم لسنة اثنتين خمسة أذرع وثلاثة أصابع. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثلاثة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة فيهما الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد. والحافظ خليفة مصر مدبر أمور ممالكه بنفسه، ونجم الدين ابن مصال بحاله. وفى سنة إحدى بنى حسام الدين أرتق جسر قرمان فى أرض ميّافارقين. وفى سنة اثنتين قتل عبد المؤمن صاحب المغرب جميع من كان فى مرّاكش من المقاتلة، وأحضر اليهود والنصارى وقال لهم: إنّ الإمام المهدى أمرنى أن لا أقرّ الناس إلاّ على ملّة الإسلام، وأنتم تزعمون أنّ بعد الخمس مئة يظهر من يعضد شريعتكم، وقد انقضت المدة. فإمّا أن تسلموا وإمّا أن تلحقوا بدار الحرب. فأسلم منهم خلق كثير. ثم إنه أخرب الكنائس (ص 296) وردها مساجد. ثم دخل بيت المال ففرّقه جميعه وكنسه وصلّى فيه، كما فعل الإمام علىّ بن أبى طالب

كرّم الله وجهه، وأقام معالم الإسلام والحدود والأحكام على الوجه المرضىّ من الشرع، مع السياسة الكاملة، وأمر من ترك الصلاة ثلاثة أيّام أن يقتل، وأزال ساير المعسكرات، ونهى عن جميع المنكرات، وكان يصلّى بنفسه بالناس الصلوات الخمس، ويقرأ فى كلّ يوم سبعا من القرآن، ويصوم الخميس والاثنين، ويلبس الصوف. وسيأتى ذكر مبتدإ أمره ونسبه وما لخّص من أخباره فى الجزء الذى يتلو هذا الجزء، عند ذكر وفاته إن شاء الله تعالى. ورأيت فى بعض مسوداتى أنّ عبد المؤمن هذا الذى دخلت عليه حفصة بنت الحاج الشاعرة فقال لها: أنت حفصة الشاعرة؟ قالت: نعم، أصلحك الله. قال: أرينا شيئا من شعرك. فارتجلت تقول: امنن علىّ بطرس … يكون للدهر عدّه تخطّ يمناك فيه … والحمد لله وحده وكانت علامته على المناشير والتوقيع: الحمد لله وحده. فحسن ذلك الموقع منها. فكتب لها توقيعا بضيعتها وأكرمها. ومن ذلك فى ذكر حفصة الشاعرة المذكورة أن اتفق أنّه بات معها فى محاضرة وأدب أبو جعفر بن عبد الملك فى حور مؤمل، وهو أحسن أماكن النزهة بمدينة غرناطة.

فقال أبو جعفر: رعى الله يوما لم يرح بمذمّم … عشيّة وارانا بحور مؤمل وغرّد قمرىّ على الدوح وانثنى … قضيب من الريحان من فوق جدول ترى الروض مسرورا بما قد بدا له … عناق وضمّ وارتشاف مقبّل فأجابته بما لا يخفى إحسانها فيه على كل حاذق تقول: (ص 297) لعمرك ما سرّ الرياض بوصلنا … ولكنّه أبدى لنا الغلّ والحسد ولا صفّق النهر ارتياحا لقربنا … ولا صدح القمرىّ إلاّ لما وجد فلا تحسن الظنّ الذى أنت أهله … فما هو فى كلّ المواطن بالرّشد فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه … لأمر سوى كيما يكون لنا رصد وكانت أيضا بغرناطه نزهون الشاعرة. فهى ذات يوم تصحّح شئ (كذا) من اللفاظ العربية (كذا) على الشيخ أبو الحسن ابن أصحا الأعمى المخزومىّ، وكان أوحد أهل المئة السادسة فى علم العربية، وشاعرا مطبقا هجّاء فاضحا. فدخل عليه أبو بكر الكتندىّ ونزهون بين يديه، وكانت من الجمال بالموضع الوافر، فقال أبو بكر مستنطقا للأستاذ أبى الحسن: لو كنت تبصر من تكلّمه

فأفحم الأستاذ ولم يقدر أن يجيزه. فقالت نزهون ارتجالا: لغدوت أخرس من خلاخله … البدر يطلع من أزرّته والغصن يمرح فى غلائله ونزهون هذه التى استأذن عليها ابن قزمان المشهور بالإجادة فى الأرجال، فقالت له الجارية: من أنت حتى أستأذن لك: فقال قولى لستّك رجل من أخصّ أصحابك. فلما أعلمتها قالت: ارجعى إليه وقولى له: بالسين أو بالصاد؟ فأعادت عليه. فقال قولى لها: بصاد مثل كسّك. وكان فى غرناطة أيضا فى المئة السادسة حمدة بنت زياد القائلة وقد خرجت إلى بسيط غرناطة مع نساء، فيهن من تميل إليها. فلعبن وسبحن فى تلك الأنهار المتفرّقة. فقالت حمدة فى ذلك: أباح الدمع أسرارى بواد … له فى الحسن آثار بوادى فمن نهر يطيف بكلّ روض … ومن روض يرفّ بكلّ واد ومن بين الظباء مهاة أنس … لها لبّى وقد سلبت فؤادى لها لحظ ترقّده لأمر … وذاك الأمر يمنعنى رقادى إذا سدلت ذوائبها عليها … رأيت البدر فى أفق السواد كأنّ البدر مات له شقيق … فمن حزن تسربل بالحداد

ومن شعرها: ولما أبى الواشون إلاّ فراقنا … وما لهم عندى وعندك من ثار وشنّوا على أسماعنا كلّ غارة … وقلّ حماتى عند ذاك وأنصارى لقيناهم من ناظريك وأدمعى … ومن نفسى بالسيف والسّيل والنار قال ابن واصل: ولما كان فى سنة إحدى وأربعين قصد عماد الدين قلعة جعبر، وصاحبها يومئذ [مالك بن] سالم بن مالك العقيلى، وحاصرها، وسيّر إلى صاحبها رسولا يقول له فى جملة رسالة: من يمنعك عنى؟ وكان الرسول الأمير حسّان صاحب منبج لمودّة كانت بينهما. فلما أدّى الرسالة وقال له: يقول لك من يمنعك منى، فقال يمنعنى منه الذى يمنعك من الأمير بلك. قصد بقوله أنه لما نازل بلك بن بهرام بن أرتق منبج، بعد أن أسر حسّان هذا وهو صاحبها يومئذ، ولم يبق إلا أخذها، فجآءه سهم فوقع فى نحره فأهلكه وخلص حسّان منه. فكانت واقعة عماد الدين على قلعة جعبر كذلك، فإنّه أقبل عليها وخلصت من حصاره حسبما يأتى من ذكر ذلك فى الحاشية الأخرى من الوجه الآخر.

قلت: وقد ورد عن الله تعالى حكاية يقول: أنا الله ربّ مكّة، وعزّتى لا أقمت لمقدّر أمرا. وقيل: إنه كان فى أتابك فى أوّل مبدإه ظلم، فسمع ليلة وهو نازل بحماة شخصا يغنى على شاطئ العاصى: اعدلوا ما دام أمركم … نافذا فى النفع والضرر واحفظوا أيّام دولتكم … إنكم منها على خطر قال: فبكى، فتبدلت نيته. قال ابن واصل: وفى سنة إحدى وأربعين قتل أتابك زنكى وهو محاصر لقلعة جعبر. دخل عليه صبى من غلمانه إفرنجى اسمه برتقش مع جماعة من مماليكه فقتلوه على فراشه وهربوا فى الوقت إلى قلعة جعبر. وكان ذلك ليلة الأحد لستّ مضين من ربيع الآخر، واستولى على الأمر بعد قتله ألب أرسلان السلجوقى الذى كان يدّعى أتابك زنكى أنه أتابكه. فدبّر عليه الوزير جمال الدين [الاصفهانى] مع صلاح الدين الياغسيائى وأحضروا سيف الدين غازى، وهو أكبر أولاد أتابك زنكى، وسلّموه الموصل، وملّكوه عوضا عن أبيه، وأعملوا

الحيلة على ألب أرسلان حتى دخل الموصل فقبض عليه وكان آخر العهد به. وملك نور الدين محمود حلب، وهو نور الدين أبو القاسم محمود الشهيد حسبما يأتى من ذكره. [ولما قتل عماد الدين أتابك زنكى رحمه الله قال الأمير مؤيد ابن منقذ: وكأنّ الشاعر المتنبى رثاه بقوله: وقد قاتل الأتراك حتى قتلنه … بأضعف قرن فى أذلّ مكان ومن بعض ما يحكى عنه من قوة منطوية أنه مما امتحن به بعض علمائه أعطاه يوما فى تسليمه خشكنانكه وقال له: احفظ هذه. فبقيت نحوا من سنة وهى لا تفارقه سفرا وحضرا، خوفا أن يطلبها منه. فلما كان بعد ذلك قال له: أين الخشكنانكه؟ قال: فأخرجها له من منديل ثم قدّمها بين يديه. فاستحسن ذلك منه. وقال: مثلك ينبعى أن يكون مستحفظا بحصن. وأمره حينئذ بدزدارية قلعة كواشى. فبقى فيها ذلك الطشتدار إلى أن قتل عماد الدين. ومن جملة حزمه أنه تفرّس فى الأمير بهاء الدين ياروق التركمانى الشجاعة فجعل له ولاية حلب. فكان ياروق وأصحابه حصن حلب المانع حتى ضربت بشجاعته الأمثال.

ذكر سنة ثلاث وأربعين وخمس مئة

ذكر سنة ثلاث وأربعين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم سبعة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد. والحافظ خليفة مصر، مستبد بالأمور بنفسه، وابن مصال ناظر بحاله. وفى تاسع صفر من هذه السنة عزل القاضى أبو طاهر، وتولّى مكانه يونس بن محمد المقدسى. وفيها أخذت الفرنج عسقلان، سلّمها لهم عبّاس وزير مصر. وهذا غلط من صاحب هذا التاريخ الذى منه ننقل ذلك. فإنّ

عباس لم يتوزّر للحافظ قطّ، ولعله غلط فى السنين، أو من ناسخ الجزء وقع السهو والله أعلم. ونحن نذكر الواقعة، ولعلّها كانت فيما يأتى من خلافة الظافر فنقول: كان سبب تسلم الفرنج عسقلان أنّ رأس الإمام الحسين بن على ابن أبى طالب عليهما السلام كان قد طيف به البلاد عند قتله، ودفن بعسقلان قريبا من حيط الجامع القبلى بين العمودين. فأقام من ذلك التاريخ إلى (ص 299) هذه المدّة. فذكر لعباس المذكور فى حال وزارته للظافر وصحّ عنده الخبر وثبت ذلك إثباتا جيدا، فكاتب الفرنج واتفق الحال بينهم أن يسلّمهم عسقلان ويتسلّم الرأس الشريفة، فأحضرت (كذا) الرأس إلى القاهرة المعزية ودفن بالمشهد الحسينى فى شهر ربيع الأول، وقيل ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وخمس مئة وهو الصحيح، وأحضر صحبة تميم المعروف بالأمين. وقيل فى هذه السنة كانت وفاة الحافظ خليفة مصر، وولاية الظافر والصحيح أنّ ذلك فى سنة أربع وأربعين والله أعلم. وفيها نزل ملك الألمان على دمشق وخيّم من جهة باب الجابية،

وكان فى خلق عظيم ما مقداره أحد عشر ألف مقاتل، وكان بدمشق أناس قليلة من الجند وكانوا شجعان. منهم: الحبق، وطرعق، وبلق، ومجاهد الدين بزان، وعين الخواص المسمى الزّىّ، وإسرائيل، والبصّارو، والسليمانى، وغيرهم من الأمراء الشجعان، فتحالفوا بالطلاقات أنهم لا يرجعوا عن الملاعين ولا يغلقون لدمشق باب ليلا ونهارا، ولا يحمل أحد منهم إلا ويواصل الضرب. ثم إنّ الفرنج ثانى يوم شربوا وطابوا وصلّوا صلاة الموت وقدّموا قدّامهم الأقسسة بالإنجيل، والذى حامله راكب حمار (كذا) وفى يده صليب الصّلبوت. ولم يزالوا كذلك إلى أن وصلوا القنوات قدّام باب الجابية. فرمى رجل من المسلمين يقال له كبك القسّيس الذى على رأسه الإنجيل بفردة ياشج فى صدره مرقت من ظهره، فوقع، وحمل آخر يقال له ابن جمّار، وضرب صاحب العلم الكبير فجدّله، فولّوا (كذا) الملاعين على أعقابهم مدبرين، وقتل أهل دمشق منهم خلقا كثيرا، وقتل (ص 300) فى هذه النوبة الفقيه الفندلاوى المالكى، وكان يحمل على الفرنج ويقول: قد بعت نفسى عسى تشترى.

قال ابن واصل: فى هذه النوبة قتل شاهنشاه بن [نجم الدين] أيوب شهيدا ولم يدرك ملك إخوته بنى أيوب، وهو جدّ الملوك بحماة والملوك ببعلبكّ. وقيل فى هذه السنة زاد النيل إلى أن بلغ تغليق تسعة عشر ذراعا وأربعة أصابع من العشرين، وغرقت سائر ضواحى مصر والقاهرة، وخشى الناس الغرق. وهذا لم أجده فى نسخة المسير، وإنما ذكره ابن واصل فى «تاريخه» فذكرته. والله أعلم. وفى هذه السنة حاصروا (كذا) الفرنج دمشق حصارا شديدا، وسيّر مدبّر الدولة بها يستنجد بسيف الدين غازى ابن أتابك زنكى صاحب الموصل وحضر فى جيوشه، ونزل إليه أخوه نور الدين محمود من حلب وتعانقا، واتّفقا. ولما سمعت الفرنج بحضور سيف الدين غازى خافوا ورحلوا عن دمشق. وفيها قتل شاهنشاه بن أيوب جدّ الملوك أصحاب حماة. قتلوه (كذا) الفرنج على دمشق فى هذه النوبة، وخلّف ولدين وهما الملك المظفر تقى الدين عمر والملك المنصور عز الدين فرّخشاه أبو الملك الأمجد بهرام شاه صاحب بعلبك، ودفن بالشرف ظاهر دمشق.

ذكر سنة أربع وأربعين وخمس مئة

ذكر سنة أربع وأربعين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وأربعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وستة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق حكّام البلاد. والحافظ خليفة مصر إلى أن توفى يوم الأحد الخامس من جمادى الآخرة، ومدبّر دولته نجم الدين بن سليم بن مصال. ووصل علىّ بن السلاّر من ثغر الإسكندرية طالبا للوزارة فى جموع من المغاربة والقبايل، فلما سمع به نجم الدين خرج من القاهرة فى جماعة الريحانية والمغاربة المصريّين، ونزل بأرض دلاص من طرف صعيد مصر الأسفل. ودخل ابن السلاّر القاهرة فى جمع كثيف. وكان خروج ابن مصال من القاهرة فى ليلة يسفر صباحها عن يوم الثلاثاء

الرابع من شهر رمضان، وقيل شعبان وهو الصحيح، ودخل ابن السلاّر خامس الشهر المذكور. فتولّى تدبير الأمور، ونعت بالسيّد الأجلّ الأفضل، ثم نعت نفسه بالعادل بن أسبا سلار، ثم جمع نجم الدين ابن مصال جمعا كثيرا، فخرج له عباس، وكان يومئذ والى الأعمال الشرقية، والتقى مع نجم الدين، وكسره وقتله، وقتل من جمعه تقدير عشرة آلاف نفر، (ص 301) وأخذ رأسه ودخل به على عود عال إلى القاهرة، وذلك يوم الخميس ثالث عشرين ذى القعدة من هذه السنة. واستمرّ العادل ابن السلار فى تدبير المصالح، وتزوج بامرأة حسناء مفرطة فى الجمال كان عبّاس متولّى الشرقية قد ملك عليها، ولم يعبر بها. فبلغ ابن السلار ما هى عليه من الجمال فغلب عباس عليها وتزوّجها. وكان لها ولد يضاهيها فى الجمال يسمّى نصرا، فحصل بين <ابن> السلاّر وبين عباس الوحشة والتنافس، وخرج عباس إلى محل ولايته بالشرقيّة، وعاد كالعاصى على ابن السلاّر، وكلّ منهما يداهن الآخر ومحترز منه، وجرى بينهما أحوال كثيرة، فشرع عباس يراسل نصرا ابن زوجة ابن السلاّر ويداهنه ويوعده ويمنيه حتى استماله، وعمل الحيلة على زوج أمّه ابن السلار حتى قتله، وذلك يوم الخميس سنة ثمان وأربعين

وخمس مئة، ووصل عباس يوم الجمعة صبيحة قتله ابن السلار، وخرجت له خلع الوزارة، ولقّب بالمظفّر عباس أمير الجيوش ولم يزل كذلك، وتزّوج أمّ نصر، وعاد لا يقطع أمرا دون ذلك الصبىّ نصر، إلى أن قتلا الظافر وقتلا بعده حسب ما يأتى: وفيها كسر نور الدين محمود بن الملك زنكى من الفرنج، كسروه على ريحه (؟) ثم جمع وحشد واهتمّ وخرج إليهم، وكان ملكهم يومئذ صاحب أنطاكية، فكسرهم كسرة شنيعة وأسر ملوكهم. وقتل فى هذه النوبة ملكهم البرنس، وقام مكانه ولده بيمند. وكان طفلا، فتزوّجت أمّه كبيرا من كبرائهم لتدبّر حال الطفل، فغزاهم أيضا نور الدين وكسرهم، واستأسر ذلك الكبير الذى تزوجته الملكة، فامتدحه محمد بن صغير القيسرانى: هذى العزائم لا ما تدّعى القضب … وذى المكارم لا ما قالت الكتب وهذه الهمم اللاّتى إذا خطبت … تعثّرت خلفها الأشعار والخطب صافحت يابن عماد الدين ذروتها … براحة للمساعى دونها التعب وهى طويلة وهذا ملخصها. وفيها نزل مسعود بن قليج أرسلان على مرعش، وأخذها بالسيف عنوة.

وفيها استقر (كذا) مملكة نور الدين محمود بن أتابك زنكى بدمشق بعد وفاة أبيه أتابك رحمه الله، وملك أيضا حمص وفامية، واتّسع سلطانه. (ص 302). وكان الجوسلين صاحب تلّ باشر وإعزاز وعينتاب والراوندان ورعتات وغيرهم من الحصون على المسلمين منه ضرر كبير مما يغار (كذا) عليهم، وكان شديد البأس، شجاعا فى الحروب، مقداما جسورا، وكان مولعا بحبّ النساء الحسان. فجهّز إليه الملك العادل نور الدين محمود جيشا كثيفا فكسره الجوسلين، ولم يفيد (كذا) فيه شئ. فعظم على نور الدين، فاحتال عليه ودسّ جماعة من التركمان وقال لهم: من أتانى به أو برأسه فله حكمه علىّ. فتجهز عليه طائفة من التركمان فنزلوا عينتاب وفيهم امرأة لم يكن أجمل منها، فجعلوها فى طريق الملعون جوسلين لعلمهم بولعه بالنساء الحسان، كأنها تحتطب، وكمنوا (كذا) له الرجال من التركمان. فلما بلغ جوسلين نزول التركمان بعينتاب خرج بنفسه وقد سكر بالخمر، ولم يستصحب معه أحدا لظنه بنفسه وشجاعته. فمر بطريقه إلى تلك الامرأة، فلما رآها ذهل عقله، فراودها فأنعمت له، وأتت به إلى تحت شجرة بالقرب من كمين التركمان. فلما صار عليها ضمّت رجليها عليه ويديها، وخرجوا عليه

فأخذوه أخذا بالكفّ، وأتوا به إلى نور الدين وهو نازل على حمص، فأعطى التركمان عشرة آلاف دينار والمرأة ألف دينار. ثم إنّ نور الدين أخذ منه سائر ما كان بيده من القلاع والحصون، ثم قتله بعد ذلك وأراح الله المسلمين منه ومن شره. وفيها تسلّم نور الدين شيزر لمّا هدمتها الزلزلة، وانقطع ملك بنى منقذ، ووهب لأخيه نصرة الدولة حرّان وضياعها. وفيها مطرت باليمن مطرا كلّه دم عبيط، وانصبغت الأرض منه وكان آية عظيمة. وفيها أطلق الفرنج ابن أخت ملك الفرس، وكان أسيرا عند المسلمين، فحملوا (ص 302) للمسلمين أشياء عظيمة القدر من جملتها خمس فروش لؤلؤ، وأفدوه بألفى وسبع مئة أسير وخمس مئة ثوب أطلس.

ذكر خلافة الظافر ابن الحافظ وما لخص من سيرته

ذكر خلافة الظافر ابن الحافظ وما لخّص من سيرته هو أبو المنصور إسماعيل بن أبى الميمون عبد المجيد الحافظ، وباقى نسبه قد تقدم ذكره. أمّه أمّ ولد تدعى ست الوفا. مولده فى المحرّم سنة سبع وعشرين وخمس مئة. بويع له يوم الأحد الخامس من جمادى الآخرة من هذه السنة، وله يومئذ سبع عشرة سنة وخمسة أشهر، وكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر. ومدبّر دولته عبّاس المظفر، وابن زوجته نصر، وكاتبه الشيخ الموفق. كان شغوفا بمحبّة نصر ابن امرأة عباس المظفّر، فلم يكن له عنه صبر ليلا ولا نهارا. ودفع إليه من الأموال وخوّله من النّعم ما لا يحصى كثرة. ومن جملة ذلك ما ذكره الشيخ شمس الدين ابن خلكان رحمه الله فى تاريخه: أنّه دخل عليه فى يوم خميس العدس فوهبه قليوب بجميع وجوه أموالها وأصناف غيطانها وخراجها، وقال: هذه وهبة الخميس، وقليلة فى حقّك يا نصر. وزادت المحبة حتى سمع عنهما

أمور قباح. وكان الظافر يقول دائبا فى الملأ والخلا: عباس ونصر من أهل البيت. وهو يعنى عن التقرّب. فشنع عنه أنه من أهل البيت حقا، حتى لعب الشيطان بعقولهما، فقتلاه حسب ما يأتى من ذكر ذلك فى تاريخه. وفى سنة أربع وأربعين توفى سيف الدين غازى بن أتابك زنكى صاحب الموصل على فراشه فى جمادى الآخرة، وقام بمملكة الموصل أخوه مودود بن أتابك زنكى. وكانت مدة ولاية غازى ثلاث سنين وشهرا وعشرين يوما. وكان جميل الصورة. وكان عمره نحو أربع وأربعين سنة، لأنّ مولده فى سنة خمس، وتزوّج بابنة حسام الدين تمرتاش بن إيلغازى بن أرتق صاحب ماردين، ولم يدخل بها، فأخذها أخوه مودود لمّا ملك الموصل، واستولدها ولدين أحدهما سيف الدين غازى، والآخر عماد الدين مسعود وغيرهما. وكانت هذه الأمراء يحلّ لها أن تظهر بخمسة عشر ملكا من آبائها وأجدادها وأقاربها. وقام بتدبير ملك الموصل الوزير جمال الدين بن علىّ الإصبهانى والأمير زين الدين على كوجك أحسن قيام. وأقطع زين الدين على كوجك سنجار إلى ما بيده. وكان نور الدين محمود قد تحرّك لطلب الملك بالموصل لأنه أكبر من أخيه مودود، فلم يقدر على ذلك من هذين الأميرين مدبرى الدولة جمال الدين وزين الدين المذكورين.

ذكر سنة خمس وأربعين وخمس مئة

ذكر سنة خمس وأربعين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ستة أذرع وأربعة وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث (ص 304) الخليفة الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والظافر خليفة مصر، ومدبّر دولته المظفّر عباس، وابن مرته نصر. وفيها أحضر إلى نور الدين الشهيد من بلاد صرخد ذئبة ولدت جروا صفتة صفة الفهد، لكنه على صغره يقفز فى الهوا تقدير عشرين ذراعا. وقيل إنّه السّمعمع، وهو ولد الضبع من الديبة، وهو أخبث الوحوش وأعظمها قوّة وخفة. والعرب تقول إنه لا يموت حتف أنفه وإنما بآفة تعرض له. وقد تقدم ذكر ذلك فى الجزء الثالث من هذا التاريخ عندما ذكرنا بشّار بن برد الشاعر والله أعلم.

ذكر سنتى ست وسبع وأربعين وخمس مئة

ذكر سنتى ست وسبع وأربعين وخمس مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لستّ ستة أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وإصبع واحد. الماء القديم لسنة سبع ستة أذرع وسبعة أصابع. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخّص من الحوادث الخليفة فيهما الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والظافر خليفة مصر، وعبّاس ونصر بحالهما، ومضت سنة ست لم يكن بها ما يذكر بحكم التلخيص. وفى سنة سبع كان ابتدآء الجراد العظيم بالموصل وبلاد الجزيرة، وأقام متتابعا سبع سنين حتى قحطت ديار بكر. وفيها عزل القاضى يونس وولى الحكم الفقيه مجلى.

ذكر سنتى ثمان وتسع وأربعين وخمس مئة

قال ابن واصل: وفى سنة سبع وأربعين كان تملك نور الدين دمشق وأخذها من صاحبها مجير الدين بن جمال الدين محمد بن تاج الملوك بورى بن طغتكين، وانقطع ملك بيت آل طغتكين. وكان مدبر أموره معين الدين قد توفى قبل ذلك، فهيّأ لنور الدين الأمر بعد موت معين الدين. والله أعلم. ذكر سنتى ثمان وتسع وأربعين وخمس مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لسنة ثمان خمسة أذرع وخمسة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وستة أصابع. الماء القديم لسنة تسع ستة أذرع وسبعة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.

الحوادث (ص 305)

الحوادث (ص 305) الخليفة فيهما الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والظافر خليفة مصر حتى قتل سنة تسع حسب ما يأتى من ذكر ذلك. وفى سنة ثمان غيّروا (كذا) الإسماعيلية دين الإسلام، وشربوا الخمور، وفجروا ببناتهم وأمهاتهم وخواتهم، وفعلوا كلّ محرّم فى شهر رمضان ليلا ونهارا، وأحرقوا الجامع وجميع المشاهد التى كانت عندهم والمنابر. وقيل فى هذه السنة ملكت الفرنج عسقلان، بعد قتال شديد وحرب أكيد، قتل فيه بين الفريقين خلق كثير. وطلبوا (كذا) المسلمين من الفرنج الأمان، وكان سبب ذلك أنّ المسلمين الذين كانوا بعسقلان عادوا لما عجزوا عن الفرنج وطالعوا إلى مصر عدة مطالعات يستصرخون ويطلبون النجدة، وهم فى أشدّ الأحوال منتظرين النجدة تأتيهم من مصر. وقد صبروا الصبر العظيم. فبينما هم كذلك وإذا بمركب صغير قد أقبل إليهم من قبل مصر، فاستبشروا وظنّوا النجدة تكون خلفه. فلما وصل إليهم طلع من المركب راجل واحد وعلى يده كتاب، فسلمه للنايب بعسقلان، فإذا فيه مكتوب: ساعة وقوفك عليه وقبل وضعه من يدك تسيّر إلينا جرزة قصب فارسى من مقصبة عسقلان

يكونوا غلاظ (كذا) لأجل الشبّابات. فقال النايب: السمع والطاعة. وصبر إلى الليل، وخرج إلى الفرنج وطلب منهم الأمان لنفسه ولأهل البلد. فأعطوه ذلك. فلما كان من الغد فتح الباب وسلّم البلد للفرنج، وقال للقاصد الذى أتى بالكتاب: دعهم يطلبوا الشبّابات من من الفرنج أصحاب البلد. ثم إن الفرنج أيضا فى هذه السنة هجموا تنّيس فى خمسين مركبا وأخذوا جميع ما كان فيها، واستأسروا الأقوية (كذا)، وقتلوا الضعفاء، وغنموا من الأموال ما لا يحصى كثرة. قال ابن واصل: إن فى هذه السنة، أعنى سنة تسع وأربعين، كانت الزلزلة التى أخرجت شيزر وانقطعت فيها مملكة بنى منقذ، <وكانوا> قد اجتمعوا جميعهم فى ذلك اليوم فى مكان واحد، وبين أيديهم قرد يرقّصونه. فوقع عليهم البناء أجمع، فأهلكهم كلّهم، ولم يسلم سوى القرد، هرب إلى بستان هناك من بساتين القصر دخل إليه من شباك فسلم (ص 306). وفى سنة تسع قتل الظافر خليفة مصر. وذلك لما لعب الشيطان بعقل عبّاس ونصر المقدّم ذكرهما، وزيّن لهما ما بعد شأوه، خلا عباس بابن زوجته نصر وقال له: قد علمت

ما قيل وما قد ثبت فى ذهن الناس من أمرنا، وأننا نحن من أهل البيت. والرأى أن نحتال على قتلة هذا الخليفة، فإنّه صبىّ العقل والرأى والتدبير، ونملك نحن الخلافة. وإنما الأشياء همم. فأجابه نصر إلى ذلك. واتفقا عليه. فاهتمّ فى عمل دعوة سنيّة، ثم إنّه استأذن الظافر وسأله الحضور إلى منزله سرّا، ولا يعلم به أحد. فأجابه لغلبة الهوى وحلول الأجل. فلما حضر الظافر متنكّرا تحت أذيال الدجى، خرج عليه عباس وبيده سيف مشهر وقال له: ويلك! خليفة تقبل من أمر الصبيان! ثم قبض عليه وذبحه ودفنه فى البادنهج بدار المأمونى بالسيوفيّين. ثم ركب عباس من فوره إلى القصر مسرعا وقال: استأذنوا لى على مولانا الظافر فى أمر مهمّ. فالتمس الأستاذون والحجّاب الظافر فلم يجدوه. فقال العبّاس: علىّ بأولاد الحافظ، وهما أبو الأمانة جبريل وأبو الحجاج يوسف. فلما حضرا قال: أنتما قتلتما مولانا. ثم أمر بهما فقتلا بالسيف. وقتل جماعة كبيرة منهم أبو التقى صالح بن حسن، وزمام القصر، مع جماعة يخشى شرهم. من أعيان الدولة ورؤساء المملكة، ثم أحضروا قاضى القضاة وهو يومئذ يونس الأطفيحى والقاضى مجلّى صاحب كتاب «الذخائر»، وبايع للفائز كما يأتى ذكره بعد ذلك.

وكان قتل الظافر ليلة الخميس سلخ المحرم من هذه السنة. وكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر. قضاة الظافر بالله: أبو الفضايل يونس الأطفيحى، الفقيه مجلّى، أبو المعالى بن جميع، ابن نجا المخزومى. ولى الخلافة وله سبع عشرة سنة وخمسة أشهر. وقتل وله اثنتان وعشرون سنة. والله أعلم.

ذكر خلافة الفايز بنصر الله ابن الظافر بالله وما لخص من سيرته

ذكر خلافة الفايز بنصر الله ابن الظافر بالله وما لخّص من سيرته هو أبو القاسم عيسى بن إسماعيل الظافر بن عبد المجيد الحافظ، وباقى نسبه قد تقدّم ذكره. أمّه أم ولد تدعى إحسان، وقيل زين الكمال. مولده فى شهر ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وخمس مئة. بويع له فى سلخ المحرم صبيحة قتلة أبيه الظافر، وله من العمر أربع سنين وعشرة أيام. مدة خلافته ست سنين وستة أشهر وسبعة عشر يوما. كاتبه الأجلّ الموفّق كاتب أبيه. ثم لم يزل أهل القصر يتتبّعون آثار غيبة الظافر إلى أن شاع أنّه خرج متنكّرا إلى دار نصر بن مرة (كذا) عبّاس، ولم يخرج منها. فلما تحقق أهل القصر أنّ عباس وولده نصر (كذا) قاتلا الظافر نفذوا إلى طلائع بن رزّيك الملقب بالصالح الآتى ذكره فى الجزء الذى يليه وهم يستصرخونه، ونفذوا له بشعور المقتولين ظلما من أولاد الخلفاء، واستنجدوا به على عبّاس وولده. فحشد حشدا كثيرا وأتى إلى القاهرة حسب ما يأتى من ذكره فى تاريخه إن شاء الله تعالى. وفيها صرف القاضى مجلّى وأعيد القاضى يونس الولاية الثانية.

ذكر سنة خمسين وخمس مئة

ذكر سنة خمسين وخمس مئة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم خمسة أذرع وتسعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا. ما لخّص من الحوادث الخليفة الإمام المقتفى لأمر بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق الحكام والفايز خليفة مصر. وفيها هرب عبّاس وابن زوجته نصر لما تحقّقوا خروج طلايع بن رزّيك بحشوده وطلبا الشام. فخرج (ص 308) عليهما الفرنج فأخذوهما، وقتل عبّاس عند العقبة، وأسر نصر. وذلك فى الرابع والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة. ونفذ طلائع خلفهما العساكر فأدركوهما، فوجدوا الفرنج قد قتلوا عبّاسا وأسروا نصرا. كان نصر جميلا كما ذكرنا، فاستخلصته الملكة لنفسها. فأفسد عليها المملكة وأراد المبايعة لنفسه، وأطاعه جماعة من قومها من الفرنج. فقبضت عليه وأباعته للمسلمين بخمسة وعشرين ألف دينار.

ذكر سنتى إحدى واثنتين وخمسين وخمس مئة

ودخل به إلى القاهرة على بغل مكتوف اليدين، وخلفه رجل ماسكه، يصحبه الخادم جوهر. ثم جعل فى قفص حديد، وعذّب بالمكاوى حتى اعترف بقتله الظافر ودلّهم على مكان دفنه. ثم ذبح من قفاه، وحمل رأسه إلى القصر، وصلبت جثته على باب زويلة. وقيل إنّ الصالح لم يدخل القاهرة إلى يوم خروج تابوت الظافر حسب ما يأتى من ذكر ذلك فى الجزء الذى يتلو هذا الجزء إن شاء الله تعالى. ذكر سنتى إحدى واثنتين وخمسين وخمس مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لسنة إحدى ستة أذرع وتسعة عشر إصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية أصابع. الماء القديم لسنة اثنتين ستة أذرع واحد وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وعشر أصابع.

الحوادث

الحوادث الخليفة فيهما المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والفايز خليفة مصر، والصالح بن رزّيك وزيره ومدبّر الممالك المصرية. وفى سنة إحدى وقع الحريق بدار الخلافة ببغداد بصاعقة. وقيل فى هذه السنة كانت الزلزلة بشيزر، وتسلّمها نور الدين الشهيد. وفيها (ص 309) خطب لسليمان شاه ببغداد، وكسرت الفرنج لنور الدين الشهيد على ما حوجه (؟) قال ابن واصل فى هذه السنة: أعنى سنة إحدى وخمسين، ملك نور الدين مدينتى بصرى وصرخد. كانت صرخد فى يد الأمير أمين الدولة كمشتكين فتوفى فى ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين، وكانت بصرى لغلامه التون طاش فملكهما نور الدين فى هذه السنة. وفى سنة اثنتين وخمسين مرض نور الدين بحلب وأرجف بموته، وكان-على ما ذكر ابن واصل-أسد الدين شير كوه بحمص، وهى يومئذ إقطاعه، ونجم الدين أيوب بدمشق ازدادارا. فلما سمع بموت نور الدين حضر شير كوه إلى عند أيوب وقصد الاستبداد بالممالك

ذكر سنتى ثلاث وأربع وخمسين وخمس مئة

المذكورة، فلم يوافقه نجم الدين أيوب وأشار عليه أن يتوجّه إلى حلب ويستوضح الخبر. فتوجّه شير كوه إلى حلب فوجد نور الدين حيّا. فأقام فى خدمته. وفى سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة كانت الزلزلة العظيمة بالشام جميعه إلى حدود أنطاكية، وهلك فيها خلق كثير، حتى إنّ معلم كتّاب كان يعلّم الصبيان بحماة فقام الفقيه لقضاء حاجته ثم عاد فوجد المكتب قد تطبق على جميع الصغار ممن كان فيه. فأهلكهم بأسرهم. ومن العجيب أنّه لم يأت أحد من أهاليهم ولا سأل عنهم. ووقعت الأبراج بالقلاع، وانشقّ باللاذقيّة موضع وظهر منه صنم قائم فى الماء. وفيها فتح عبد المؤمن صاحب الغرب مهديّة والله أعلم. ذكر سنتى ثلاث وأربع وخمسين وخمس مئة النيل المبارك فى هاتين السنتين: الماء القديم لسنة ثلاث سبعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثمانية أصابع.

الحوادث

الماء القديم لسنة أربع سبعة أذرع وثمانية عشر إصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وإصبع واحد. الحوادث الخليفة فيهما الإمام المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق بحالهم. والفايز خليفة مصر، حتى توفى سنة أربع، حسب ما يأتى من ذكره فى تاريخه. والصالح طلايع بن رزّيك مدبّر الممالك المصرية. وفى سنة ثلاث تسلّم نور الدين مدينة حارم، وخرج ملك الروم إلى الشام. وفيها خرج الأمير تميم المغربىّ على الصالح بن رزّيك من مدينة أسيوط فأنفد إليه عسكرا فقتلوه وأحضرت (كذا) رأسه على عود. وفى سنة أربع وقع برد ببغداد قيل: إنّ زنة كلّ حجر تسعة أرطال بالبغدادى. فأهلكت عالما عظيما، وأخرجت عدة منازل حتى عادت بلال (؟) والله أعلم.

قال ابن واصل: إنّ فى سنة أربع توفى السلطان محمد شاه ابن محمود رحمه الله المعروف بالملك المسعود، وكان ملكا عادلا كثير الخير بعيدا من الشرّ. (ص 310). قلت قد انتهى بنا القول فى هذا الجزء المسمى: بالدرة المضية فى أخبار الدولة الفاطمية إلى آخر هذه السنة بحكم التلخيص، وليكون أول الجزء السادس مبتدئا من أول سنة خمس وخمسين وخمس مئة. ولنتلو (كذا) الآن هذا الكلام بذكر الشعراء المختصين بهذا الجزء الكائنين فى جميع سنيه، وهم شعراء بقيّة المئة الرابعة من أهل المشرق، وشعراء هذه المئة هذه المئة الرابعة من أهل المغرب، وكون أنه لم يكن بالمغرب شعراء يدركون بما قصدناه من ذكر أشعارهم فى طبقتى المرقص والمطرب إلا فى هذه المئة الرابعة. فلذلك لم نتعرض لذكرهم فيما مضى من جميع أجزاء هذا التاريخ إلى حين بلغ بنا القول إلى هذا الجزء الخامس، وكون هذه المئة الرابعة وما بعدها من السنين منهم من الشعراء ما هو المقصود من ذكرهم وذكر أشعارهم فى هاتين الطبقتين المدكورتين. وبالله أعتضد فيما أعتمد، وبه التوسّل وعليه التوكّل.

ذكر شعراء المئة الرابعة من أهل المغرب والمختار من أشعارهم فى طبقتى المرقص والمطرب

ذكر شعراء المئة الرابعة من أهل المغرب والمختار من أشعارهم فى طبقتى المرقص والمطرب من أول الديار المصرية إلى البحر المحيط من جهة المغرب فى الجاهلية وما بعدها إلى المئة الرابعة عاطلة مما شرطنا فى هذا الباب. 1 - محمد بن عبد ربه: إمام أنداده، وراغم حسّاده، وقبلة أهل الأدب بالأندلس وما يليها، وفارس شعرائها ومصنّفيها، وهو صاحب كتاب «العقد»، المشتمل على نوادر الغزل وفرائد الجدّ. فمن شعره فى هذا الباب: يا ذا الذى خطّ العذار بخدّه … خطّين هاجا لوعة وبلابلا ما كنت أقطع أنّ لحظك صارم … حتى رأيت من العذار حمائلا وقوله الذى إذ سمعه المتنبى حكم <له> أنّه شاعر الأندلس وهو: يا لؤلؤا يسبى العقول أنيقا … ورشا بتعذيب القلوب رفيقا ما إن رأيت ولا سمعت بمثله … درّا يعود من الحياء عقيقا

2 - ابن هذيل الأعمى

وإذا نظرت إلى محاسن وجهه … أبصرت وجهك فى سناه غريقا يا من تقطّع خصره من رقّة … ما بال قلبك لا يكون رقيقا 2 - ابن هذيل الأعمى: له فى المرقص: لما وضعت على قلبى يدى بيدى … وصحت فى الليلة الظلماء وا كبدى ضجّت كواكب ليلى فى مطالعها … وذابت الصخرة الصّماء من كمدى وليس لى جلد فى الحب ينصرنى … فكيف أبقى بلا قلب ولا كبد وكيف أشرح ما ذاب الجماد له … لمن غدا خائفا إشارتى بيدى لمّا رآنى مشيرا بالسلام له … ألقى على خدّه مضاعف الزّرد 3 - يوسف بن هارون الرّمادى: له فى المرقص: ولم أر أحلى من تبسّم أعين … غداة النوى عن لؤلؤ كان كامنا وقوله الذى لم يقل-فى وصف سحابة انسحبت على الرّبا ونقّطت وجوه الغدران-أحسن منه: هوت مثل ما يهوى العقاب كأنّما … تخاف فوات المحل فهى تبادر

4 - الشريف المروانى الطليق

تشمّ دوانيها الرّبا فتثيرها … كما شمّ أذيال العروس الضفائر كأنّ انتشار القطر منها ضوابط … تدور على الغدران منها دوائر قلت: اسم البيكار عند أهل الأندلس ضوابط، فحسن القول فى ذلك. 4 - الشريف المروانى الطّليق: له فى المرقص يصف غلاما أشقر: غصن يهتزّ فى دعص نقا … يجتنى منه فؤادى حرقا سال لام الصّدغ فى وجنته … سيلان التّبر وافى الورقا فتناهى الحسن فيه إنما … يحسن الغصن إذا ما أورقا وكأنّ الكأس فى أنمله … شفق أصبح يعلو فلقا أصبحت شمسا وفوه مغربا … ويد الساقى المحيّى مشرقا فإذا ما غربت فى فمه … تركت فى الخدّ منه شفقا قلت: ولعلّ من هاهنا أخذ قائل هذين البيتين: حمراء إذا ما نديمى بات يكرعها … أخشى عليه من الآلآء يحترق لو جاء يحلف أنّ الشمس ما غربت … فى فيه كذّبه فى وجهه الشفق وقول الشريف <المروانى>: وعلى الأصائل رقّة من بعده … فكأنما تلقى الذى ألقاه

5 - جعفر بن عثمان المصحفى

وغدا النسيم مبلّغا ما بيننا … فلذاك رقّ هوى وطاب شذاه الروض مبسمه ونكهته الصّبا … والورد أخضله الندى خدّاه فلذاك أولع بالرياض لأنّها … أبدا تذكّرنى الذى أهواه 5 - جعفر بن عثمان المصحفى: له فى المرقص: كلّمتنى فقلت درّ سقيط … وتأملت عقدها هل تنائر فازدهاها تبسّم فأرتنى … نظم درّ من التبسّم آخر وله فى المطرب: خفيت على شرّابها فكأنما … يجدون ريّا من إناء فارغ 6 - ابن فرج [الجيّانى] صاحب كتاب «الحدائق»: له فى المرقص: بدت فى الليل سافرة فباتت … دياجى الليل سافرة القناع فملّكت النّهى حجاب شوقى … لأجرى فى العفاف على طباعى كذاك الروض ما فيه لمثلى … سوى نظر وشمّ من متاع ولست من السوائم مهملات … فأتّخذ الرياض من المراعى 7 - ابن هانى: المقدم ذكره، وله فى المرقص: وكأن حمرة خدّه وعذاره … تفاحة رميت لتقتل عقربا

8 - الأمير تميم ابن المعز

8 - الأمير تميم ابن المعزّ: له فى المرقص: أطلع الحسن من جبينك شمسا … فوق ورد من وجنتيك أطلاّ فكأن العذار خاف على الور … د ذبولا-فمدّ بالشعر عليه ظلاّ وقوله: كأن بقايا الليل والصبح طالع … بقية لطخ الكحل فى الأعين الزّرق 9 - المقداد المصرى: له فى المرقص: يقول من لا منى عليه أرى فيه … جفاء وذاك يغرينى فى خدّه آية الرضى أوما … أضحى بورد الحياء يحيّينى 10 - أبو الحسين العقيلى: له فى المرقص: وللأقاحى قصور كلّها ذهب … من حولها شرف كلّها درر 11 - منصور الفقيه: له فى المرقص: قالوا العمى منظر قبيح … قلت بفقدى لكم يهون تالله ما فى الأنام شئ … تأسى على فقده العيون

12 - ابن وكيع التنيسى

12 - ابن وكيع التنّيسى: له فى المرقص: قم فاسقنى والخليج مضطرب … والريح تثنى ذوائب القضب كأنّها والرياح تعطفها … صفّ قنا سندسيّة العذب والجوّ فى حلّة ممسّكة … قد طرّزتها البروق بالذهب

ذكر شعراء المئة الخامسة من أهل المغرب أيضا

ذكر شعراء المئة الخامسة من أهل المغرب أيضا 13 - أبو عمرو بن الدرّاج القسطلى: له فى المرقص: ومعاقل من سوسن قد شيّدت … أيدى الربيع بناءها فوق القضب شرفاتها من فضّة وحملتها … حول الأمير لهم سيوف من ذهب 14 - إدريس بن اليمانى: له فى المرقص: ثقلت زجاجات أتتنا فرّغا … حتى إذا ملئت بصرف الرّاح خفّت فكادت تستطير بما حوت … إنّ الجسوم تخفّ بالأرواح 15 - أبو عامر بن شهيد: له فى المرقص: ولما تملّأ من سكره … ونام، ونامت عيون العسس دنوت إليه على قربه … دنوّ رفيق درى ما التمس أدبّ إليه دبيب الكرى … وأسمو إليه سموّ النفس فبتّ به ليلتى ناعما … إلى-أن تبسّم ثغر الغلس

16 - أبو جعفر بن اللمائى

16 - أبو جعفر بن اللمائى: له فى المرقص: عارض أقبل فى جنح الدّجى … يتهادى كتهادى ذى الوجا بدّدت ريح الصّبا لؤلؤه … فانبرى-يوقد عنها سرجا 17 - أبو حفص بن [برد] الأصغر: له فى المرقص: وكأنّ الليل حين لوى … ذاهبا والصبح قد لاحا كلّة سوداء أحرقها … عابد أسرج مصباحا 18 - الوزير [أبو محمد] ابن حزم: له فى المرقص: لا تلحنى فى حبّه إن بدا … شاحب لون قد عراه النحول فإنّ غصنا أبدا لم تزل … عليه شمس لحرىّ بالذّبول 19 - ابن عبّاد ملك إشبيلية المعروف بالمعتمد: له فى المرقص: سميدع يهب الآلاف مبتدئا … وبعد ذلك يلفى وهو معتذر

20 - ابنه الراضى ابن المعتمد

له يد كلّ جبّار يقبّلها … لولا نداها لقلنا إنّها الحجر وقوله: وليل بعطف النهر أنسا قطعته … بذات سوار مثل منعطف النهر نضت بردها عن غصن بان منعّم … فيا حسن ما انشق الكمام عن الزهر 20 - ابنه الراضى ابن المعتمد: له فى المرقص: مرّوا بنا أصلا من غير ميعاد … فأوقدوا نار قلبى أىّ إيقاد لا غرو إن زاد فى وجدى مرورهم … فرؤية الماء تروى غلّة الصادى 21 - أخوه المأمون بن المعتمد: له فى المرقص: قومى لخم وهم ما هم … أهل النّدى والبأس يوم الكفاح كم كحّلوه من عيون القنا … وورّدوه من خدود الصّفاح 22 - أبو بكر بن عمّار وزير المعتمد: يمتدحه بهذه القصيدة المجيدة: أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى … والنجم قد صرف العنان عن السّرى والصبح قد أهدى لنا كافوره … لما استردّ الليل منا العنبرا والروض كالحسنا كساه زهره … وشيا وقلّده نداه جوهرا

أو كالغلام زها بورد رياضه … خجلا وتاه بآسهن معذرا روض كأنّ النهر فيه معصم … صاف أطلّ على رداء أخضرا وتهزّه ريح الصبا فتخاله … سيف ابن عبّاد يبدّد عسكرا ملك إذا ازدحم الملوك لمورد … ونحاه (؟) لا يردون حتى يصدرا أندى على الأكباد من قطر الندى … وألذّ فى الأجفان من سنة الكرى من لا توازيه الجبال إذا اجتبى … من لا تسابقه الرياح إذا جرى ملك يروقك خلقه أو خلقه … كالروض يحسن منظرا أو مخبرا أقسمت باسم الفضل حتى جئته … فنظرته فى بردتيه مصوّرا وجهلت معنى الجود حتى زرته … فقرأته فى راحتيه مفسّرا فاح الثرى متعطّرا بثنائه … حتى حسبنا كلّ ترب عنبرا منها: أثمرت رمحك من رؤوس ملوكهم … لما رأيت الغصن يعشق مثمرا ومنها: من ذا ينافحنى وذكرك مندل … أوردته من نار فكرى مجمرا آخرها: فلئن وجدت نسيم حمدى عاطرا … فلقد وجدت نسيم برّك أعطرا

23 - أبو الوليد ابن زيدون وزيره

23 - أبو الوليد ابن زيدون وزيره: له القصيدة الفريدة النونيّه التى لم يعمل فى باب الرثاء مثلها وسبق وعدنا بإثباتها: بنتم وبنّا فما ابتلّت جوانحنا … شوقا إليكم ولا جفّت مآقينا نكاد حين تناجيكم ضمائرنا … يقضى علينا الأسى لولا تأسّينا حالت لفقدكم أيامنا فغدت … سودا وكانت بكم بيضا ليالينا إذ جانب العيش طلق من تألّفنا … ومورد الأنس صاف من تصافينا وإذ هصرنا غصون الوصل دانية … قطوفها فجنيناها كما شينا ليسق عهدكم عهد السرور فما … كنتم لأرواحنا إلاّ رياحينا من مبلغ الملبسينا بانتراحهم … حزنا مع الدّهر لا يبلى ويبلينا إنّ الزمان الذى ما زال يضحكنا … أنسا بقربهم قد عاد يبكينا غيظ العدى من تساقينا الهوى فدعوا … بأن نغصّ فقال الدهر: آمينا فانحلّ ما كان معقودا بأنفسنا … وانبتّ ما كان موصولا بأيدينا وقد نكون ولا يخشى تفرّقنا … فاليوم نحن، ولا يرجى تلاقينا

لم نعتقد بعدكم إلاّ الوفاء لكم … رأيا، ولم نتقلّد غيره دينا لا تحسبوا بعدكم عنّا يغيّرنا … إن طال ما غيّر البعد المحبّينا والله ما طلبت أهواؤنا بدلا … منكم، ولا انصرفت عنكم أمانينا ولا اعتقدنا خليلا عنك يشغلنا … ولا اتخذنا بديلا منك يسلينا يا سارى البرق غاد القصر فاسق به … من كان صرف الهوى والودّ يسقينا ويا نسيم الصّبا بلّغ تحيّتنا … من لو على البعد حيّى كان يحيينا يا روضة طالما أجنت لواحظنا … وردا جناه الصّبا غضّا ونسرينا ويا نعيما خطرنا من غضارته … فى وشى نعمى، سحبنا ذيلها حينا لسنا نسمّيك إجلالا وتكرمة … وقدرك المعتلى عن ذاك يغنينا يا جنّة الخلد بدّلنا بسلسلها … والكوثر العذب زقّوما وغسلينا كأنّنا لم نبت والوصل ثالثنا … والسّعد قد غضّ من أجفان واشينا سرّان فى خاطر الظلماء يكتمنا … حتى يكاد لسان الصبح يفشينا لم نجف أفق جمال أنت كوكبه … سالين عنه، ولم نهجره قالينا ولا اختيارا تجنّبناك عن كثب … لكن عدتنا على كره عوادينا نأسى عليك إذا حثّت مشعشعة … فينا الشمول وغنّانا مغنينا لا أكؤس الرّاح تبدى من شمائلنا … سيما ارتياح، ولا الأوتار تلهينا دومى على العهد ما دمنا محافظة … فالحرّ من دان إنصافا كما دينا فلو صبا نحونا من علو مطلعه … بدر الدّجا لم يكن حاشاك يصبينا

24 - حبيب الأندلسى وزير ابن عباد أيضا

وفى الجواب متاع لو شفعت به … بيض الأيادى التى ما زلت تولينا عليك منّا سلام الله ما بقيت … صبابة بك نخفيها فتخفينا وهذا الشعر وإن طال فإنه مملوء بكل طائل، وفى مثله يجب أن يقال: إن كان طال فإنّه ليل ال‍ … وصال بأنسه قصرا 24 - حبيب الأندلسى وزير ابن عباد أيضا: له فى المرقص: إذا ما أديرت كؤوس الهوى … ففى شربها لست بالمؤتلى مدام تعتّق بالناظرين … وتلك تعتّق بالأرجل 25 - ابن حصن كاتب ابن عباد: له فى المرقص: وما هاجنى إلاّ ابن ورقاء هاتف … على فنن بين الجزيرة والنهر مفستق طوق لا زوردىّ كلكل … موشّى الطّلا أحوى القوادم والظهر أدار على الياقوت أجفان لؤلؤ … وصاغ على الأشفار طوقا من التبر حديد شبا المنقار داج كأنّه … شبا قلم من فضّة مدّ فى حبر توسّد من فرع الأراك أريكة … ومال على طىّ الجناح مع النحر ولمّا رأى دمعى مراقا أرابه … بكائى فاستوى على الغصن النّضر

26 - ابن عبدوس الوزير

وحثّ جناحيه وصفّق طائرا … وطار بقلبى حيث طار ولم يدر 26 - ابن عبدوس الوزير: له فى المرقص فى فرس أشهب فى عرفه لمعة حمراء: يا حسن هذا الجواد حين بدا … فى شية لم تكن لذى بلق قام عليه النهار مدّعيا … فاغترفت غرفة يد الشفق 27 - ابن وهبون المرسى: له فى المرقص: ذنبى إلى الدهر فلتكره سجيته … ذنب الحسام إذا ما أحجم البطل وقوله للمعتمد ابن عباد وقد روى بيتا من شعر المتنبى فأعجبه: تنبّأ عجبا بالقريض ولو درى … بأنّك تروى شعره لتألّها 28 - البجلىّ: له فى المرقص: رقّت ورقّ أديمها من حسنها … فتكاد تبصر باطنا من ظاهر يندى بماء الورد مسبل شعرها … كالطلّ يسقط من جناح الطائر

29 - أبو الفضل بن شرف

29 - أبو الفضل بن شرف: هو صاحب كتاب «أبكار الأفكار» له فى المرقص: لم يبق للجور فى أيامكم أثر … إلا الذى فى عيون الغيد من حور وقوله: تقلّدتنى الليالى وهى مدبرة … كأننى صارم فى كفّ منهزم 30 - ابن القابلة السّبتى: له فى المرقص: ووجه هلال رقّ حسنا أديمه … يرى الصبّ فيه وجهه حين ينظر تعرّض لى عند اللقاء به رشا … تكاد الحميّا من محيّاه تقطر ولم يتعرّض كى أراه وإنّما … أراد يرينى أنّ وجهى أصفر 31 - ابن رشيق صاحب العمدة: له فى المرقص: وقد غاب المعز ابن باديس عن حضوره فى العيد وكان العيد ماطرا: تجهّم العيد وانهلّت بوادره … وكنت أعهد منه البشر والضحكا كأنّه جاء يطوى الأرض من بعد … شوقا إليك فلما لم يجدك بكى

32 - عبد الله بن محمد العطار

وقوله: خطّ العذار له لاما بصفحته … من أجلها يستغيث الناس باللام 32 - عبد الله بن محمّد العطّار: له فى المرقص: وكأس ترينا آية الصّبح والدّجى … فأوّلها شمس وآخرها بدر مقطّبة ما لم يزرها مزاجها … فإن زارها جاء التبسّم والبشر فيا عجبا للدهر لم يخل مهجة … من العشق حتى الماء يعشقه الخمر 33 - عبد الرحمن بن حبيب: له فى المرقص: مجرى جفونى دماء وهو ناظرها … ومتلف القلب وجدا وهو مربعه إذا بدا حال دمعى دون رؤيته … يغار منّى عليه فهو برقعه 34 - أبو عبد الله بن شرف: له فى المرقص: تحت الظلام الذى مثل الظّليم جثا … والبدر بيضته والجوّ أدحىّ وقوله: أفنى دموعى وجسمى طول هجركم … فانظر إلى ملتقى طلّ على طلل

15 - على بن يوسف التونسى

15 - علىّ بن يوسف التونسى: له فى المرقص: حين اعتلت أنواره وجنت … كفّ الغزالة وردة الشّفق 36 - عتيق الورّاق: له فى المرقص، يرثى الفقيه ابن خلدون وقد دفنوه بليل: دفنوا صبحهم بليل وجاؤوا … حين لا صبح يطلبون الصباحا 37 - عمران بن القاضى المسيلى: له فى المرقص: إن يخترم خلقا حمام فابنه … منه لنا خلف وحظّ أوفر نور تساقط حين أصبح مثمرا … والنّور يسقط نفسه إذ يثمر 38 - ثقة الدولة جعفر ملك صقلية: فى المرقص؛ له فى غلامين أحدهما بثوب أحمر والآخر بثوب أسود: أرى ثوبين قد صبغا … صباغ الخدّ والحدق فهذا البدر فى شفق … وهذا البدر فى غسق

39 - عبد الوهاب المقال (؟)

39 - عبد الوهاب المقال (؟): له فى المرقص. انظر إلى الشامة فى خدّ من … أجفانه باللّحظ جرّاحه كأنّها من حسنها إذ بدت … نقطة مسك فوق تفّاحه 40 - ابن الغطّاس: يصف الخيار فى المرقص: جسم لجين يكاد يجرى … لولا تردّيه ثوب سآم ما عارضته العيون إلاّ … خالت به مقبض الحسام 41 - ابن أبى مغنوج (؟) له فى المرقص: لحية ميمون إذا حصّلت … لم تبلغ المعشار من ذرّه تطّلعت فاستقبلت وجهه … فأقسمت لا أنبتت شعره 42 - القائد ابن شكور: له فى المرقص فى النيلوفر: كؤوس من يواقيت … تفتّح عن دنانير وفى أحشائها زهر … كألسنة العصافير (ص 321)

43 - على بن الطبرى

43 - علىّ بن الطبرى: له فى المرقص: وأحور مائل اللحظات عنى … دسست إليه من يشفى وسيطا فجاء به على مهل وستر … كما يستدرج اللهب السليطا 44 - ابن عتيق الصفّار: له فى المرقص: واضطرمت فى القلب نار الجوى … فبادر الأدمع منا شرر 45 - عبد العزيز بن الحاكم: له فى المرقص: كأن البدر والمرّيخ إذ وافى إليه … ملك توقد ليلا شمعة بين يديه 46 - محمد بن الحسن الكاتب: له فى المرقص: لا تصل من صدّ تيها أبدا واستغن عنه … كن كمثل الكرم يعلق بالذى يقرب منه

47 - أبو الحسن الودانى

47 - أبو الحسن الودانى: له فى المرقص: وأتى الصباح فلا أتى فكأنّه … شيب أطلّ على سواد شباب وكأنما شفق السما وخضابه … يبدو كنعمان بأرض سراب 48 - القاضى الجليس المصرى: له فى المرقص: ومن عجب أنّ الصوارم فى الوغى … تحيض دما والسيوف ذكور وأعجب من ذا أنّها فى أكفّهم … تؤجج نارا والأكفّ بحور 49 - صنّاجة الروح: له فى المرقص وقد زلزلت مصر فى أيّام الحاكم: بالحاكم العدل أضحى الدين معتليا … نجل الهدى وسليل السادة الصلحا ما زلزلت مصر من كيد يراد بها … وإنّما رقصت من عدله فرحا 50 - هاشم بن الياس المصرى: له فى المرقص: (ص 322) كأنّ بياض البدر من خلف نخلة … بياض بنان فى اخضرار نقوش وقوله: وكأنما المرّيخ بين نجومه … ياقوتة فى لؤلؤ متبدّد

51 - ابن مكنسة

51 - ابن مكنسة: له فى المرقص: والسكر فى وجنته وطرفه … يفتح وردا ويفضّ نرجسا وقوله: إبريقنا عاكف على قدح … تخاله الأمّ ترضع الولدا أو عابدا من بنى المجوس إذا … توهّم الكأس شعلة سجدا 52 - أبو طاهر [جعفر] بن دوّاس القنا: له فى المرقص: لما رأيت البياض فى الشعر الأسود … قد لاح صحت واحزنى هذا وحقّ الإله أحسبه … أوّل خيط سدّى من الكفن 53 - يعقوب بن كلّس الوزير: له فى المرقص، وقد سبق طيره طير العزيز: يا أيّها المولى الذى جدّه … لكلّ جدّ قاهر غالب طيرك السابق لكنّه … لم يأت إلا وله حاجب

54 - الموفق صاحب ديوان المكاتبات.

54 - الموفق صاحب ديوان المكاتبات. له فى المرقص فى شمعة: وصعدة لدنة كالتّبر تفتق فى … جنح الظلام إذا ما أبرزت فلقا تدنو فيخرق برد اللّيل لهزمها … فإن تأت رتق الإظلام ما فتقا وتستهلّ بماء عند وقدتها … كما تألّق برق الغيث واندفقا كالصّب لونا ودمعا والتظا وضنى … وطاعة وسهادا دائما وشقا والحبّ حسنا ولينا واستوا وشذا … وبهجة وطروقا واجتنا ولقا قلت: ومن المليح فى وصف شمعة أيضا قول قاضى العجم الأرّجانى وهو: نمّت بأسرار ليل كان يخفيها … وأطلعت رأسها للناس من فيها قلب لها لم يرعها وهو مكتمن … ألا ترى فيه نارا من تراقيها سفيهة لم يزل طول اللسان لها … فى الحىّ يجنى عليها ضرب هاديها غريقة فى دموع وهى تحرقها … أنفاسها بدوام من تلظّيها تنفّست نفس المهجور إذ ذكرت … عهد الخليط فبات الوجد يبكيها بدت كنجم هوى فى إثر مسترق … للسمع فاشتعلت منه نواصيها

وحيدة بشباة الرمح هازمة … عساكر الليل إن حلّت بواديها ما طنّبت قطّ فى أرض مخيّمة … إلا وأقمر للأبصار راجيها لها غرايب تبدو من محاسنها … إذا تفكّرت يوما فى معانيها فالوجنة الورد إلاّ فى تناولها … والقامة الغصن إلاّ فى تثنّيها قد أثمرت وردة حمراء طالعة … تجنى على الكفّ إن أهويت تجنيها صفر غلائلها حمر عمائمها … سود ذوائبها بيض لياليها كصعدة فى حشا الظلماء طاعنة … تسقى أسافلها ريّا أعاليها وصيفة لست منها قاضيا وطرا … إن أنت لم تكسها تاحا يحلّيها ما إن تزال بطول الليل لاهية … وما بها غلّة فى الصدر تظميها تحيى الليالى نورا وهى تقتلها … بئس الجزاء لعمر الله يجزيها بيضاء غرّاء ما تنفكّ ساهرة … تقصّ لمّتها طورا وتعليها لولا اختلاف طباعينا بواحدة … وللطباع اختلاف فى مبانيها بأنّها فى سواد الليل مظهرة … تلك التى فى سواد الليل أخفيها لو أنها علمت فى قرب من نصبت … من الورى لثنت أعطافها تيها وقوله الذى يشهد له لا عليه، ويميل كلّ ذو (كذا) لبّ إليه. ولقد شربت مع الحبيب مدامة … عذراء إلاّ أنها شمطاء والروض بين تكبّر وتواضع … شمخ القضيب به وخرّ الماء

55 - (ص 324) أبو على الأنصارى

55 - (ص 324) أبو علىّ الأنصارى له فى المرقص فى خيمة نصبها الأفضل: ما كان يخطر فى الأفكار قبلك أن … تسمو علوّا على أفق السماء الخيم حتى أتيت بها شمّاء شاهقة … فى مارن الدهر من تيه بها شمم والطير قد لزمت فيها مواضعها … لما تحقّق منها أنها حرم إخالها خيلك اللاّتى يغير بها … فليس ينزع عنها السرج واللّجم كأنها جنّة والساكنون بها … لا يستطيل على أعمارهم هرم إن أنبتت أرضها زهرا فلا عجب … وقد همت فوقها من كفّك الدّيم 56 - القاضى ابن قادوس: له فى المطرب: وكلّما دام نطقا فى معاتبتى … سددت فاه بنظم اللّثم والقبل وبات بدر تمام الحسن معتنقى … والشمس فى فلك الكاسات لم تفل فبتّ منها أرى النار التى سجدت … لها المجوس من الإبريق تسجد لى

57 - أحمد بن مفرج

57 - أحمد بن مفرّج: له فى المرقص فى صفة العيث: ومن العجائب أن أتى من نسجه … وخيوطه بيض، بساط أخضر أرض وأفق وكّلا ببلاغة … فالزهر ينظم والسحائب تنثر 58 - ابن عياد الاسكندرى: له فى المرقص فى أقحوانة: كأنّما شمسه من فضّة حرست … خوف الوقوع بمسمار من الذّهب 59 - ابن شعيب المصرى: له فى المرقص: يا ذا الذى يدخر أمواله … عن مثل هذا الأسمر الفائق ما الذهب الصامت مستكثر … إنفاقه فى الذهب الناطق 60 - عبد الله بن الطباخ: له فى المرقص: فى أحدب: قصرت أخادعه وغاض قذاله … فكأنّه مترقّب أن يصفعا (ص 325)

61 - ظافر الحداد الإسكندرى

وكأنّه قد ذاق أوّل صفعة … وأحسّ ثانية بها فتجمّعا 61 - ظافر الحداد الإسكندرى: له فى المرقص: ونفّر صبح الليل ليل شبيبتى … كذا عادتى فى الصبح مع من أحبّه وقوله: وكأنما الدولاب يزمر كلّما … غنّت، وأصوات الضفادع شيز وكأنّما القمرىّ ينشد مصرعا … من كلّ بيت والحمام يجيز 62 - على بن حبيب التميمى المصرى: له فى المرقص: أقمت بالبركة الغرّاء مدهقة … والماء مجتمع فيها ومسفوح إذا النسيم جرى فى مائها اضطربت … كأنّما ريحه فى جسمها روح 63 - الجليس بن الحباب، وهو آخر من ذكرنا من شعراء المئة الخامسة من المغرب. له فى المرقص: والعود أجمل بالكريم وقلما … يغنى الحيا إلاّ على تكراره

ذكر شعراء المئة الخامسة من أهل المشرق

ذكر شعراء المئة الخامسة من أهل المشرق لما تقدم القول من العبد بذكر شعراء المئة الرابعة من أهل المشرق فى الجزء الذى قبل هذا الجزء، وذكرنا فى هذا ما اختصّ به من ذكر شعرآء المئة الرابعة والمئة الخامسة من أهل المغرب، أردفناهم أيضا بذكر شعراء المئة الخامسة من أهل المشرق ليكون كلّ جزء مختصّا بذكر شعرآء ما اشتمل عليه من مئين (كذا) سنيّه، وبالله التوفيق. 64 - أبو منصور الثعالبى: هو من شعراء المئة الرابعة، وطعن فى الخامسة فحسب منها على اصطلاح الكتاب. له فى المرقص: إنسانة تيّاهة … بدر الدجى منها خجل إذا زنا طرفى بها … بدمع عينى يغتسل 65 - مهيار الديلمى: له فى المرقص: ضربوا بمدرجة الطريق فبابهم … يتقارعون على قرى الضّيفان ويكاد موقدها يجود بنفسه … حب القرى حطبا على النيران

66 - أبو الحسن التهامى

66 - أبو الحسن التهامى: له فى المرقص؛ وهو من المقدّمين لقوله: والصبح قد أخذت أنامل كفّه … فى حلّ جيب بالظلام مزرّر ولقوله: علا فما يستقرّ المال فى يده … وكيف يمسك ماء فتّه الجبل ولقوله: بيضاء تسحب ليلا حسنه أبدا … فى الطول منه، وحسن اللّيل فى القصر 67 - أبو العلاء بن سليمان المعرى: له فى المرقص: والخلّ كالماء يبدى لى ضمائره … مع الصفاء ويخفيها مع الكدر وقوله: وصبح قد فلونا الليل عنه … كما يفلى عن النار الرماد 68 - أخوه أبو الهيثم: له فى المرقص: متلهّب الأحشاء يحسب ليله … أبدا دخانا والنجوم شرار

69 - القاضى عبد الوهاب المعرى

69 - القاضى عبد الوهاب المعرى: له فى المرقص: زرع وردا ناظرا ناظرى … فى وجنة كالقمر الطالع فلم منعتم شفتى قطفه … والحكم أنّ الزّرع للزّارع 70 - أبو محمد الخفاجى: له فى المرقص: ملك الزمان بأسره فنهاره … فى وجهه وظلامه فى شعره 71 - ابن الدويدة المعرى: له فى المرقص: جنبوا الجياد إلى المطى فغادروا … بالتبر سطرا من حروف المعجم فترى به عينا بوطأة حافر … وترى به هاء بوطأة ميسم قلت: والمليح من هذا المعنى قول الآخر، وهو قديم: كأنّ مواطئ الخيل فيها أهلّة … وآثار أخفاف المطىّ بدور 72 - السابق المعرى: له فى المرقص: كأن الشقائق والأقحوا … ن خدود تقبلهنّ الثغور

73 - الواثق المعرى

فهاتيك أخجلهنّ الحيا … ء وهاتيك أضحكهنّ السرور 73 - الواثق المعرّى: له فى المرقص: انظر إلى منظر يسبيك محضره … بحسنه فى البرايا يضرب المثل نارا تلوح من النارنج فى شجر … لا النار تخبو ولا الأغصان تشتعل 74 - الأمير أبو الفتح المعرى: له فى المرقص: أبا صالح أشكو إليك نوائبا … عرتنى كما يشكو النبات إلى القطر لتنظر نحوى نظرة لو نظرتها … إلى الصخر فجّرت العيون من الصخر وفى الدار خلفى صبية قد تركتهم … يطلّون إطلال الفراخ من الوكر جنيت على روحى بروحى جناية … فأثقلت ظهرى بالذى خفّ من ظهرى 75 - أبو الفتيان بن حيّوس: له فى المرقص: إن ترد خبر حالهم عن يقين … فأتهم يوم نائل أو نزال تلق بيض الوجوه سود مثار النقع خضر الأكناف حمر النضال وقوله: فعل المدام ولونها إذ ذاقها … فى مقلتيه ووجنتيه تنتقل

76 - الوزير أبو الفرج المنازى

76 - الوزير أبو الفرج المنازى: له فى المرقص ولا يوجد فى معناه مثله: وقانا لفحة الرمضاء واد … وقاه مضاعف النبت العظيم نزلنا دوحه فحنا علينا … حنوّ الوالدات على الفطيم وأرشفنا على ماء زلال … ألذ من المدامة للنديم يصدّ الشمس أنّى واجهتنا … فيحجبها ويأذن للنسيم تروع حصاه حالية العذارى … فتلمس جانب العقد النظيم 77 - ابن الشحنا العسقلانى: له فى المرقص: ومهفهف عاق السقام بطرفه … وسرى فخيّم فى معاقد خصره مزقت أثواب الظلام بثغره … ثم أتيت أحوكها من شعره 87 - الماهر الحلبى: له فى المرقص فى الرثاء فأجاد: برغمى أن ألوم عليك دهرا … قليل نكره بمعنّفيه وأن أرعى النجوم ولست فيها … وأن أطأ التراب وأنت فيه 79 - ابن السراج الصّورى: له فى المرقص وهو آخر من ذكرنا من هذه الطبقة؛ وله فى فهد:

وأهرت الشدق فى فيه وفى يده … ما فى القواضب والعسالة الذّبل تنافس الليل فيه والنهار معا … فقمّصاه جلابيبا من الحلل والشمس مذ لقّبوها بالغزالة لم … تطلع على وجهه إلاّ على وجل ونقطته حياء كى نسالمها (؟) … على المتون نعاج الرمل بالمقل انتهى الكلام فى ذكر الشعراء المذكورين المختصين بهذا الجزء وبتمامهم نجز ولله الحمد والمنة والطول، وبه القوة والحول، بخط يد واضعه ومصنفه، وجامعه ومؤلفه أضعف خلق الله وأفقرهم إلى رحمته، أبو (كذا) بكر عبد الله الدودارى المقدم ذكر نسبته فى أولّه، غفر الله له ولوالديه ولمن قرأه وتجاوز عن كلّ خطأ يراه ولكافة المسلمين أجمعين. وكان الفراغ من نسخه آخر يوم الأحد العشرين من شهر جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وسبع مئة الهجرية على صاحبها السلام. أحسن الله نقصها بخير إنّه ولىّ ذلك وقادر عليه، والأمور مبتدؤها منه ومصيرها إليه. وهو حسبى ونعم الوكيل. بلغ نظرا من المصنّف عفا الله عنه

يتلو ذلك فى أول الجزء السابع منه. ما مثاله ذكر أول دولة بنى أيوب. ملوك الإسلام، والقادة الأعلام. ونستقبل التاريخ من أول سنة خمس. وخمسين وخمس مئة إن شاء الله تعالى. والحمد لله رب العالمين وصلواته. على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

7 - الدر المطلوب فى أخبار ملوك بنى أيوب

الجزء السّابع من تاريخ كنز الدّرر تأليف أبى بكر بن عبد الله بن ايبك

[مقدمة التحقيق]

فهرس المحتويات مقدمة المحقق ج مقدمة المؤلف 3 ذكر ابتداء دولة الملوك بنى أيوب ونسبهم وبدء شأنهم 5 ذكر سنة خمس وخمسين وخمسمائة 11 ذكر خلافة المستنجد بالله بن المقتفى لأمر الله 11 ذكر خلافة العاضد لدين الله 12 ذكر سنة ست وخمسين وخمسمائة 15 ذكر سنة سبع وخمسين وخمسمائة 16 ذكر نبذ من أخبار الصالح بن رزيك 16 ذكر شاور ونسبه وبدء شأنه 18 ذكر سنة ثمان وخمسين وخمسمائة 20 ذكر طرف من أخبار السلجوقية وملوكهم 20 ذكر عدة ملوك بنى سلجوق 21 ذكر عبد المؤمن ونسبه وبدء شأنه 22 ذكر سنة تسع وخمسين وخمسمائة 26 ذكر سنة ستين وخمسمائة 34 ذكر سنة إحدى وستين وخمسمائة 37 ذكر سنتى اثنتين وثلاث وستين وخمسمائة 38 ذكر سنة أربع وستين وخمسمائة 39

ذكر سنة خمس وستين وخمسمائة 41 الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل محمود نور الدين الشهيد بن أتابك زنكى 43 ذكر سنة ست وستين وخمسمائة 46 ذكر خلافة المستضئ بنور الله بن المستنجد بالله 46 السلطان الأجل صلاح الدنيا والدين يوسف الملك الناصر 47 ذكر سنة سبع وستين وخمسمائة 48 ذكر سنة ثمان وستين وخمسمائة 50 ذكر منازلة الكرك وسببه 50 ذكر سنة تسع وستين وخمسمائة 56 ذكر سنة سبعين وخمسمائة 58 ذكر سنة إحدى وسبعين وخمسمائة 60 ذكر سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة 61 ذكر سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة 63 ذكر سنة أربع وسبعين وخمسمائة 64 ذكر سنة خمس وسبعين وخمسمائة 66 ذكر خلافة الإمام الناصر لدين الله بن المستضئ بنور الله 66 ذكر سنة ست وسبعين وخمسمائة 68 ذكر سنة سبع وسبعين وخمسمائة 70 ذكر سنة ثمان وسبعين وخمسمائة 73 ذكر سنة تسع وسبعين وخمسمائة 75 ذكر سنة ثمانين وخمسمائة 78

ذكر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة 80 ذكر سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة 82 ذكر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة 84 ذكر فتح القدس الشريف 84 ذكر خطبة القاضى محيى الدين 87 ذكر سنة أربع وثمانين وخمسمائة 94 ذكر سنة خمس وثمانين وخمسمائة 98 ذكر الواقعة الكبرى على عكا 98 ذكر سنة ست وثمانين وخمسمائة 104 ذكر سنة سبع وثمانين وخمسمائة 106 ذكر سنة ثمان وثمانين وخمسمائة 111 ذكر سنة تسع وثمانين وخمسمائة 113 ذكر وفاة السلطان صلاح الدين 113 ذكر عدة أولاده الملوك 115 ذكر بعض محاسنه رضى الله عنه 116 ذكر سنة تسعين وخمسمائة 123 ذكر سبب انتقاض ملك الأفضل صاحب دمشق 124 ذكر سنة إحدى وتسعين وخمسمائة 126 ذكر سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة 128 ذكر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة 131 ذكر سنة أربع وتسعين وخمسمائة 133

ذكر سنة خمس وتسعين وخمسمائة 136 ذكر تملك المنصور بن الملك العزيز 136 ذكر سنة ست وتسعين وخمسمائة 140 ذكر القاضى الفاضل وفقر من ترسله 142 ذكر سنة سبع وتسعين وخمسمائة 148 ذكر سنة ثمان وتسعين وخمسمائة 153 ذكر سنة تسع وتسعين وخمسمائة 154 ذكر سنة ستمائة هجرية 155 ذكر سنة إحدى وستمائة 158 ذكر سنة اثنتين وستمائة 159 ذكر سنة ثلاث وستمائة 160 ذكر سنة أربع وستمائة 161 ذكر سنة خمس وستمائة 165 ذكر سنة ست وستمائة 167 ذكر سنة سبع وستمائة 169 ذكر سنة ثمان وستمائة 170 ذكر سنة تسع وستمائة 172 ذكر سنة عشر وستمائة 175 ذكر سنة إحدى عشرة وستمائة 177 ذكر سنة اثنتى عشرة وستمائة 181 ذكر سنة ثلاث عشرة وستمائة 183

ذكر سنة أربع عشرة وستمائة 187 ذكر توجه السلطان خوارزم شاه إلى نحو بغداد 188 ذكر أولاد الشيخ وأصلهم 193 ذكر سنة خمس عشرة وستمائة 195 ذكر الوقعة العظمى على ثغر دمياط وابتدائها 195 ذكر وفاة السلطان الملك العادل 197 ذكر سنة ست عشرة وستمائة 202 آل السلطان صلاح الدين بن أيوب 205 آل السلطان الملك العادل بن أيوب 205 آل سيف الإسلام صاحب اليمن ابن أيوب 205 آل المعظم شاهان شاه الكبير بن أيوب 206 ذكر سنة سبع عشرة وستمائة 208 ذكر سنة ثمان عشرة وستمائة 209 ذكر ليلة طيبة جرت بين ملوك الإسلام 215 ذكر السلطان علاء الدين خوارزم شاه 217 ذكر بدء شأن الترك الأول حسبما ذكره صاحب الكتاب التركى 219 ذكر سبب تغلب التتار على ملك ألطن خان وما كان من حيل الحروب 232 ذكر ما جرى بين الملكين السلطان علاء الدين خوارزم شاه وجكزخان 239 ذكر دخول التتار بلاد الإسلام 241 ذكر سنة تسع عشرة وستمائة 243

ذكر سنة عشرين وستمائة 252 ذكر تملك السلطان جلال الدين منكبرتى بن السلطان علاء الدين خوارزم شاه 257 ذكر سنة إحدى وعشرين وستمائة 261 ذكر سنة اثنتين وعشرين وستمائة 271 ذكر بعض شئ من سيرة الإمام الناصر 271 ذكر خلافة الإمام الظاهر بأمر الله 272 ذكر سنة ثلاث وعشرين وستمائة 279 ذكر خلافة الإمام المستنصر بالله بن الإمام الظاهر بأمر الله 281 ذكر سنة أربع وعشرين وستمائة 283 ذكر سنة خمس وعشرين وستمائة 289 ذكر سنة ست وعشرين وستمائة 292 ذكر سنة سبع وعشرين وستمائة 299 ذكر سنة ثمان وعشرين وستمائة 302 ذكر سنة تسع وعشرين وستمائة 305 ذكر سنة ثلاثين وستمائة 309 ذكر سنة إحدى وثلاثين وستمائة 311 ذكر سنة اثنتين وثلاثين وستمائة 313 ذكر سنة ثلاث وثلاثين وستمائة 315 ذكر سنة أربع وثلاثين وستمائة 317 ذكر سنة خمس وثلاثين وستمائة 320 ذكر وفاة الملك الأشرف موسى رحمه الله 320

ذكر سنة ست وثلاثين وستمائة 326 ذكر وفاة الملك الكامل 326 ذكر تملك الملك الجواد مظفر الدين يونس لدمشق 328 ذكر سنة سبع وثلاثين وستمائة 335 ذكر سلطنة السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب 339 ذكر سنة ثمان وثلاثين وستمائة 341 ذكر عجائب مما ذكر رسول التتار 342 ذكر سنة تسع وثلاثين وستمائة 347 ذكر سنة أربعين وستمائة 348 ذكر خلافة الإمام المستعصم بالله وأخباره وما لخص من سيرته 348 ذكر سنة إحدى وأربعين وستمائة 352 ذكر سنتى اثنتين وثلاث وأربعين وستمائة 356 ذكر سنة أربع وأربعين وستمائة 358 ذكر سنة خمس وأربعين وستمائة 362 ذكر سنة ست وأربعين وستمائة 364 ذكر سنة سبع وأربعين وستمائة 365 ذكر سبب مجئ الفرنسيس وما تم فى هذه الوقعة 365 ذكر وفاة السلطان الملك الصالح 370 ذكر بيعة الملك المعظم توران شاه بن الملك الصالح 374 ذكر سنة ثمان وأربعين وستمائة 379 ذكر الليلة الغراء المسفرة عن الصباح الأزهر بالنصر والظفر 379 ذكر قتلة الملك المعظم وتمليك أم خليل شجر الدر 381

ذكر الشعراء بالمائة السادسة من أهل المشرق، والمختار من أشعارهم فى طبقتى المرقص والمطرب 386 ذكر شعراء المائة السادسة من أهل المغرب، والمختار من أشعارهم فى طبقتى المرقص والمطرب 392 ذكر شعراء المائة السابعة من أهل المشرق، والمختار من أشعارهم فى طبقتى المرقص والمطرب 394 ذكر شعراء المائة السابعة من أهل المغرب، والمختار من أشعارهم فى طبقتى المرقض والمطرب 400 الفهارس أولا-فهرس الأعلام 409 ثانيا-فهرس الأماكن والبلدان 436 ثالثا-فهرس المصطلحات 449

مقدمة المحقق

مقدّمة المحقّق بسم الله الرّحمن الرّحيم وبه نستعين (1) وبعد، فهذا هو الجزء السابع من تاريخ كنز الدرر وجامع الغرر لأبى بكر بن عبد الله بن أيبك الدوادارى؛ وهو الجزء الذى أسماه مؤلفه «الدر المطلوب فى أخبار ملوك بنى أيوب»، تمشيا مع طريقته فى تسمية كل جزء من أجزاء مؤلفه الكبير باسم فرعى خاص يوضح العصر ويحدد الدولة التى خصص هذا الجزء أو ذاك لعلاج تاريخها. ولا تخفى على المشتغلين بدراسة تاريخ الشرق الأدنى فى العصور الوسطى أهمية عصر الأيوبيين بالذات، بوصفه العصر الذى عاين حلقة من أخطر حلقات الحركة الصليبية. ففى ذلك العصر أخذت الصحوة الإسلامية تنطلق لتأخذ شكل موجة جهاد كبرى ضد الوجود الصليبى الغربى فى بلاد الشام، وهو الأمر الذى ساعد عليه وأدى إلى نجاحه تحقيق الوحدة بين مصر والشام فى ظل ملوك بنى أيوب. وبعبارة أخرى فإن جانبا هاما من جوانب أهمية العصر الأيوبى يبدو فى أنه شهد تحول الصليبيين من الهجوم إلى الدفاع، وتحول المسلمين-وخاصة فى بلاد الشام-من الدفاع إلى الهجوم؛ الأمر الذى جعل دعاة الحروب الصليبية، وأصحاب مشاريعها فى الغرب الأوربى يؤكدون حقيقة هامة لم تغب تماما عن أنظار الصليبيين الأوائل، وهى أن مصر بموقعها وإمكانياتها ومواردها مصدر خطر كبير على الصليبيين بالشام، وأنه إذا أراد الصليبيون إقامة آمنة هادئة فى بلاد الشام فعليهم بتأمين جبهتهم الجنوبية من ناحية

مصر أولا. وهكذا تعرضت مصر فى أواخر العصر الأيوبى-أعنى فى النصف الأول من القرن الثالث عشر للميلاد-لحملتين صليبيتين كبيرتين، ارتبط بهما كثير من الأحداث التى ميزت تاريخ الشرق الأدنى فى عصر الأيوبيين. فإذا أضفنا إلى ذلك التيارات الأخرى الخارجية التى أثرت فى تاريخ المنطقة فى ذلك العصر، مثل تفكك الدولة الخوارزمية، وظهور خطر المغول أو التتار فى المشرق، وما صحب هذا وذاك من ردود فعل حضارية وسياسية واسعة الأصداء-وخاصة فى مصر والشام-أدركنا بعض الأهمية التى لعصر الأيوبيين فى تاريخ الشرق الأدنى. ففى ذلك العصر انسابت كثير من العناصر-وخاصة من الأكراد والأتراك والتركمان- داخل المحيط العربى الكبير فى مصر والشام، لتترك آثار بصماتها واضحة فى التركيب الاجتماعى والتكوين البشرى والجنسى والبناء الحضارى، وخاصة ما يرتبط بالنظم واللغة والعادات والتقاليد. وحسب عصر الأيوبيين أن مصر والشام شهدتا فيه انتشار النظام الإقطاعى الحربى، والتوسع فى استخدام الرقيق الأبيض الذين عرفوا باسم المماليك، ثم ظهور كثير من الألفاظ والمصطلحات غير العربية لتصبح شائعة الاستعمال، لا عند العامة فحسب، بل أيضا عند الخاصة من العلماء والكتاب والمؤلفين، فضلا عن الحكام. وهذه كلها ظواهر أخذت تنمو ويشتد خطرها طوال العصر الأيوبى، حتى اكتملت صورتها مع قيام دولة المماليك، التى خلفت دولة الأيوبيين فى حكم مصر والشام. (2) ومن داخل إطار هذه الصورة المبسطة تبدو الأهمية الخطيرة للحقبة التى يعالجها هذا الجزء السابع من تاريخ كنز الدرر لابن أيبك. ويزيد من هذه الأهمية أن ابن أيبك لم يكن مؤرخا عاديا، اقتصر فى كتابه على الجمع والتلخيص والنقل عمن سبقه من المؤرخين؛ وإنما انتمى ابن أيبك إلى أسرة كان لها من مسؤلية المشاركة فى صنع الأحداث المعاصرة نصيب مرموق. فإذا أضفنا إلى السنوات التى عاشها مؤلف هذا

الكتاب وشهد أحداثها، تلك التى عاشها أبوه وجده-وكان لهما قسط واضح فى المشاركة فى الأحداث المعاصرة-لخرجنا بحقبة زمنية تمتد على وجه التقريب من أوائل القرن السابع حتى قرابة منتصف القرن الثامن للهجرة-وهى حقبة لها أهميتها التاريخية البالغة بوصفها تمثل عصر الانتقال من دولة الأيوبيين إلى دولة المماليك؛ أو بعبارة أخرى الانتقال من العصر الذى اكتمل فيه بناء دولة الأيوبيين وبدأت تنخر فى جسمها العوامل الداخلية والخارجية التى أدت إلى سقوطها من ناحية، إلى العصر الذى نضجت فيه ملامح ومقومات دولة سلاطين المماليك لتصبح قوة فعالة، تمثل دولة من أغرب الدول التى عرفها التاريخ سواء من ناحية تكوينها أو من ناحية نظمها أو من ناحية الدور الحربى والسياسى والحضارى الذى قدر لها أن تلعبه على مسرح الشرق الأدنى أواخر العصور الوسطى. فمؤلف هذا الكتاب الذى عاصر فترة نشطة حافلة بالأحداث فى صدر دولة سلاطين المماليك، ربطته ببعض بقايا ملوك بنى أيوب صلات قوية مما جعله يقف على تفصيلات عديدة عن الأيوبيين وحياتهم الخاصة ودقائق ما كان يجرى بين بعضهم وبعض من أحداث وأحاديث تلقى أضواء جديدة على روح العصر من ناحية وعلى حياة ملوك بنى أيوب الخاصة والعامة من ناحية أخرى. بل إن المؤلف يقول فى صراحة عند كلامه عن ابتداء دولة ملوك بنى أيوب فى بداية هذا الجزء السابع من كتابه كنز الدرر، إنه صاحب الملك الكامل بن الصالح إسماعيل الأيوبى، وأن الصداقة بينهما اشتدت إلى درجة أنه «كان يطلعنى على كثير من أسراره». وعند ما يشير المؤلف إلى جده عز الدين أيبك صاحب صرخد (ت 645) يبدو لنا بوضوح مدى مشاركة هذا الجد-الذى نسب إليه المؤلف-فى صنع الأحداث التى كانت تجرى على مسرح بلاد الشام فى النصف الأول من القرن السابع للميلاد.

ثم إن الأمير عز الدين أيبك-جد المؤلف-لم يكن مجرد أمير من أرباب السيوف الذين لا شغل لهم فى الحياة إلا المساهمة فى تبعات الحكم، وإنما يبدو مما كتبه حفيده -صاحب هذا الكتاب-أن الأمير الجد عرف بشدة التدين والحرص على تلاوة القرآن الكريم، والاشتغال بالكتابة، فكانت له كتابات بخط يده كما كانت له خزانة كتب عامرة. وهنا يكشف المؤلف عند إشارته إلى جده فى هذا الجزء عن حقيقة جديدة هامة هى أن أسرة ابن أيبك تنحدر من نسل بنى سلجوق، وأن عز الدين أيبك اسمه الحقيقى ميكائيل بن بهرام، أسره الخوارزمية، وباعوه للملك المعظم الأيوبى، فنسب إليه وصار يعرف بالمعظمى. ويلقى المؤلف أضواء جديدة على أسرته-فى هذا الجزء السابع من كتابه-فيروى أن السلطان الصالح نجم الدين أيوب هو الذى كاد لجده الأمير عز الدين أيبك ودسّ له السم ليتخلص منه ويستولى على أمواله وممتلكاته. فلما أحس الأمير أيبك بالسم يسرى فى جسده، وتحقق من مؤامرة السلطان الصالح، دبر للسلطان مؤامرة أدت إلى إصابته بمرض السقية الذى مات به بعد ذلك. وكانت من جملة جوارى الأمير أيبك-اللائى استولى عليهن السلطان الصالح-أم عبد الله والد المؤلف، وهى امرأة خطائية الجنس، فباعها الصالح-وهى حامل بوالد المؤلف من الأمير عز الدين-إلى رجل من كبار أهل صرخد، فولدت عنده. ونشأ عبد الله-أبو المؤلف-عند ذلك الرجل، حتى بلغ السابعة عشر من عمره وعندئذ انتقل إلى السلطان الظاهر بيبرس فى قصة طويلة، فأنعم عليه بإقطاع عبرته ألفى وأربعمائة دينار، وسلمه للأمير سيف الدين بلبان الرومى الدوادار، وقال له «علمه وخليه يمشى معك» فعرف عبد الله-أبو المؤلف- بالدوادارى. ويفهم من سياق هذه القصة أن عبد الله بن أيبك-أبا المؤلف-نشأ هو الآخر

نشأة قويمة، حيث أن الرجل الذى اشترى أم عبد الله «كان دينا. . . وكان رجلا فقيها صوفيا فاضلا محققا، له عندى كتاب تأليفه بخطه فى التصوف». مما يشير إلى أن والد المؤلف نفسه شب فى بيت علم وأدب. هذا إلى أن عبد الله والد المؤلف كان مقربا من السلطان الأشرف خليل بن قلاون ثم من السلطان الناصر محمد بن قلاون، الذى أمّره وولاه بلبيس والعربان سنة 703 هـ‍، فأقام إلى سنة 710 هـ‍، فنقله إلى الشام بسؤاله، وجعله مهمندارا، ثم ألزم بشد الدواوين بدمشق. . . وهكذا ظل والد المؤلف يشارك فى شئون الحكم حتى وفاته سنة 713 هـ‍. وهكذا ولد أبوبكر-مؤلف كنز الدرر-وشب فى بيت عرف قيمة العلم وقدره. وإذا كانت المصادر المعاصرة قد صمتت صمتا غريبا عن ذكر شئ عن حياة أبى بكر ابن عبد الله بن أيبك، إلا أن مؤلفاته العديدة تشهد على تمرسه فى حياة العلم وسعة معلوماته وأفقه. ومن جملة هذه المؤلفات التى ألفها صاحب كنز الدرر كتاب فى خطط القاهرة، أسماه «اللقط الباهرة فى خطط القاهرة» ومعروف عن موضوع الخطط أنه ليس بالموضوع السهل، وأنه لا يجرؤ على الخوض فيه إلا عالم متمكن واسع المعرفة. كذلك يشير المؤلف فى هذا الجزء السابع إلى أنه كان يرجع إلى مسوداته بين حين وآخر ليتحقق من حدث أو نبأ، مما يوضح أنه كان حريصا على تدوين ما يتوصل إليه من معلومات فى مسودات يرجع إليها وقت الحاجة، وهذا أسلوب لا يأخذ به إلا صاحب منهج علمى منظم. (3) أما عن كتاب كنز الدرر لابن أيبك فإن الصفة الغالبة عليه هى الإيجاز الشديد، والاكتفاء بالإشارة إلى الأحداث الكبرى الرئيسية دون الدخول فى التفاصيل،

والبعد عن ذكر التفريعات الثانوية التى تتصف بها حوليات العصور الوسطى بوجه عام. وقد توخى المؤلف هذا النهج فى كتابة التاريخ متعمدا، فيقول عن بعض الأحداث «أضربت عنه لطوله، وكون تاريخنا تاريخ تلخيص». كذلك نراه يحرص على عدم تكرار بعض الأحداث فيقول «. . . بعد عدة وقائع قد تقدمت أخبارها بحكم التلخيص». على أننا لا يمكن أن ننزع ابن أيبك من العصر الذى عاش فيه فعلا، وهو عصر اتصفت عقليته بحب الاستطراد فى الكلام والكتابة. وكان المعاصرون يرون فى هذا الاستطراد نوعا من التنويع لزيادة الفائدة من ناحية والترويح عن المستمع والقارئ ودفع السأم عنهما من ناحية أخرى. ولذا نجد المؤلف فى بعض أجزاء كتابه يجنح أحيانا إلى الاستطراد، بل ربما انتقل من فن التاريخ إلى فن الأدب، مثلما حدث فى ترجمته للقاضى الفاضل فى حوادث سنة 596 هـ‍، إذا لم يكتف بذكر فقرات من بليغ أدبه، وإنما ساقته المعانى إلى ذكر بعض محفوظاته-محفوظات المؤلف نفسه-من الشعر الرقيق. وعند ما يتنبه المؤلف إلى أنه خرج عن الموضوع واستسلم للاستطراد، يبرر سلوكه بأنه فعل ذلك متعمدا «لتنشيط القارئ، ولا يمل ويسأم من فن واحد، فإذا خرج به شجون الحديث من فن إلى فن كان لزناد فكرته أقدح، ولطير نظرته أصدح. . .»!!. على أن ابن أيبك لم يستسغ فى قرارة نفسه هذا الاستطراد الذى وقع فيه أحيانا، فكان يعلن بسرعة عودته «إلى سياقة التاريخ بمعونة الله وحسن توفيقه». وربما أحسّ أنه باستطراده قد وقع فى خطأ فعلا، فيعترف بالخطأ الذى وقع فيه، ويستغفر الله منه، ويقولها فى صراحة «وقد خرج بنا الكلام وشجونه عن شرط الاختصار، وأنا أقول استغفر الله من ذلك!!».

ومع روح الإيجاز الشديد التى سادت كتاب كنز الدرر، ينبغى أن نعترف بأن ابن أيبك استطاع أن يأتى فى كتابه هذا بجديد فعلا. ويبدو هذا الجانب الجديد فى بعض المعلومات والآراء والحقائق التى يشير إليها ابن أيبك إشارات قد تكون موجزة، ولكننا لا نعثر عليها فى مصدر آخر من المصادر التى تعرضت لتاريخ نفس الفترة. ويبدو السر فى هذه الحقيقة فى أن بعض المصادر التى أخذ عنها ابن أيبك واستقى منها معلوماته قد اندثرت ولم تصل إليها أيدى غيره من المؤرخين الذين عالجوا تاريخ نفس الحقبة الزمنية التى عالجها. من ذلك ما نجده فى كتابة ابن أيبك من تلميحات طريفة عن أصل التتار وأخبارهم. كذلك نراه يشير فى هذا الجزء إلى أن رسل الصليبيين إلى المسلمين كانوا يدعون أنهم لا يعرفون العربية وهم يعرفونها. وإلى سياسة صلاح الدين فى مصانعة الفرنج-وخاصة أرناط صاحب الكرك-وكيف أنه كان يبذل لهم الأموال فى الدور الأول الذى شغل فيه صلاح الدين بإعادة بناء الجبهة الإسلامية، وتعبئة جهود المسلمين فى مصر والشام استعدادا لمرحلة الجهاد، «وكان يعطى الإفرنج شيئا كثيرا لا يعلم له قيمة، ويصانعهم فيما بينه وبينهم، ويجتهد بكتمان ذلك، لا يسمع عنه أنه يصانع عن نفسه وبلاده». . . إلى غير ذلك من الإشارات السريعة الخاطفة التى لا نجد لكثير منها أثرا فى بقية المصادر المعاصرة، والتى تلقى أضواء لها أهميتها على روح العصر. هذا فضلا عن أن ابن أيبك نفسه-بالإضافة إلى أبيه وجده-شاركوا فى كثير من أحداث الفترة التى عاشوها-كما سبق أن أشرنا-مما جعله فى كتابته عن هذه الفترة بالذات يحيط بما لم يحط به غيره علما. ومع هذا فقد تحلى ابن أيبك فى كتابته

بالتواضع الشديد، وعدم الاستبداد بالرأى، والاعتراف بعدم تثبته أحيانا من بعض البيانات. فهو مثلا فى حوادث سنة 591 هـ‍ يقول إن العادل عاد إلى دمشق «وخلف بعض أولاده بالشرق، لا أعلم أيهم كان». وهو عندما يشير إلى واقعة حطين يفعل ذلك ضمن أحداث سنة 568 هـ‍، ولكنه يذكر أن ابن واصل قال إن هذه الواقعة حدثت سنة 583 هـ‍، ويؤيد رأى ابن واصل قائلا «وأقول إنه الصحيح». ويعلل ابن أيبك ذلك بأن المصدر الذى نقل عنه أخبار تلك الواقعة-وهو أبو المظفر جمال الدين يوسف-اتبع طريقة رواية الأحداث والوقائع متكاملة لا مجزأة وفق السنوات التى استغرقتها، بحيث يذكر الواقعة «واستمر على ذكرها هل يكون فى سنيها أو غير سنيها». أما ابن واصل فقد اتبع أسلوب تتابع السنين، بحيث لا يذكر فى السنة الواحدة إلا ماتم فيها من أحداث، ولذا «فالرجوع إليه فى وقائع السنين أولى من غيره. . .». وهكذا يبدو لنا أنه إذا كان البعض قد أخذ على كتاب كنز الدرر لابن أيبك بعض المآخذ، كالاستطراد حينا، والإيجاز الشديد أحيانا؛ فضلا عن ركاكة الأسلوب وكثرة الأخطاء اللغوية. . . فإن هذا كله لا ينبغى أن يصرفنا عن مزايا هذا الكتاب ومحاسنه، بوصفه مصدرا هاما من مصادر الحقبة الزمنية التى تصدى لعلاجها. هذا إلى أننا فى حكمنا على أى عمل تاريخى ينبغى ألا ننظر إليه بأعين العصر الذى نعيش نحن فيه، ولا نحكم عليه بمقاييسنا ومثلنا ومستوياتنا نحن؛ وإنما تتطلب العدالة أن تقيّم هذا العمل أو ذاك فى ضوء المثل والمقاييس والمستويات التى سادت العصر الذى تم فيه إنجاز ذلك العمل فعلا. ولا يخفى علينا أن ابن أيبك عاش وكتب فى عصر شهد زحف الأعاجم على الوطن العربى فى الشرق الأدنى وتغلغلهم فيه وبسط سيادتهم عليه. . . ونجم عن هذا كله زحف كثير من عادات الترك والتتار وغيرهم من شعوب المشرق، وانتشار عديد من نظمهم وتقاليدهم فى العراق والشام ومصر بوجه خاص، وانسياب كثير من ألفاظهم المستغربة فى هذه البلاد، حتى غدت مألوفة الاستعمال فى الحياة اليومية عند العامة والخاصة سواء، بحيث صار

لا يخلو منها كتاب أو مصدر أو موسوعة مما تم تأليفه بالعربية فى ذلك العصر. وعلى هذا فإن ابن أيبك-فيما ظنه البعض مخطئا-لم يكن فى حقيقة أمره إلا قطعة من العصر الذى عاش فيه، وكتب بروحه، وتأثر بأوضاعه واتجاهاته. وحسب ابن أيبك أنه استطاع أن يقدم لنا فى كتابه كنز الدرر الكثير من المعلومات الجيدة الحبك التى لا تخلو من جديد وطريف. (4) وإذا كان لى أن أختار صفة نصف بها ابن أيبك فى الأجزاء الأخيرة من كتابه «كنز الدرر وجامع الغرر»؛ فإننى لا أجد أفضل من أن أصفه بأنه «مؤرخ النيل». قد يقول البعض بأن هذه الصفة ليست من خصائص ابن أيبك وحده فى كتابه كنز الدرر، وإنما يشاركه فيها ابن تغرى بردى، المؤرخ الذى عاش فى القرن التاسع الهجرى (ت 874 هـ‍) والذى عنى هو الآخر عناية فائقة بذكر أمر النيل فى كل سنة من سنوات حوليته الشهيرة «النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة». ولكن علينا هنا أن نضع أمام أعيننا اعتبارين هامين: أولهما أن ابن أيبك عاش وكتب فى عصر يتقدم من الناحية الزمنية العصر الذى عاش وكتب فيه المؤرخ ابن تغرى بردى، مما يجعل ابن أيبك فى هذه الناحية مبتكرا ورائدا لا مقلدا ومحاكيا. هذا مع عدم استطاعتنا أن ننفى أن يكون هناك من المؤرخين والمؤلفين من سبق ابن أيبك زمنيا فى العناية بذكر أمر النيل فى كل سنة من السنوات التى تصدى لعلاج تاريخها. ولكننا فيما نعلمه-وفوق كل ذى علم عليم-لم نتوصل إلى أحد قبل ابن أيبك استن هذه القاعدة فى العناية بذكر أمر نهر النيل سنة بعد أخرى. أما الاعتبار الثانى الذى يميز ابن أيبك عن ابن تغرى بردى فى هذا الصدد فهو أن ابن أيبك جعل للنيل مكان الصدارة فى أحداث كل سنة من حولياته، فى حين جعل ابن تغرى بردى للنيل مكان الخاتمة أو الذيل. ويبدو لنا فى هذا الجزء السابع من كتاب كنز الدرر كيف حرص ابن أيبك على أن يستهل أحداث كل سنة بعنوان ثابت لا يحيد عنه، هو: «النيل المبارك فى هذه السنة». فى حين ينهى ابن تغرى بردى فى حولياته «النجوم

الزاهرة» حوادث كل سنة بذكر من توفى فيها من الأعيان ثم يختتمها بعنوان جانبى نصه «أمر النيل فى هذه السنة». وهكذا أدرك ابن أيبك أن نهر النيل «مبارك» وأن الوقوف على حال فيضانه هو المفتاح لدراسة أحوال مصر وأهلها، ولذا يبدأ بذكر أمر الفيضان. وفى ضوء وضع النيل والفيضان يمكن تفسير ما ألمّ بالبلاد والعباد فى هذه السنة أو تلك من أحداث اقتصادية واجتماعية وسياسية. حقيقة إنه قد يؤخذ على ابن أيبك عدم دقته أحيانا عند تسجيل مدى الماء القديم فى النيل، ومقدار زيادة ماء الفيضان؛ ولكننا مرة أخرى نكرر ما سبق أن ذكرناه من أنه علينا قبل أن نحكم على عمل من أعمال التاريخ أن نقدر ظروف العصر الذى تم فيه ذلك العمل، ومدى إمكانيات المؤلف، والمصادر التى كان عليه أن يستقى منها معلوماته. . . إلى غير ذلك من الاعتبارات العديدة التى لا يقدرها حق قدرها إلا المؤرخ الذى يتمتع بحاسة تاريخية نفّاذة. (5) وأخيرا، فإنه لا يسعنى بالنيابة عن جميع المشتغلين فى حقل تاريخ العصور الوسطى سوى أن أشكر المعهد الألمانى للآثار بالقاهرة لعنايته-وعناية القائمين على أمره-بنشر هذا الكتاب، كتاب كنز الدرر وجامع الغرر لأبى بكر بن عبد الله بن أيبك الدوادارى، والحرص على إخراجه فى هذه الصورة السليمة المتكاملة التى تم إخراجه فيها فعلا. وأرجو أن أكون قد وفقت فى النهوض بنصيبى فى هذا العمل العلمى الجليل، بتحقيق الجزء السابع من هذا الكتاب، وهو الجزء الذى أتشرف بتقديمه اليوم للباحثين، لنضيف به لبنة جديدة إلى صرح بناء حركة إحياء التراث العربى. والله ولى التوفيق. سعيد عبد الفتاح عاشور أستاذ كرسى تاريخ العصور الوسطى كلية الآداب-جامعة القاهرة ضاحية المعادى بالقاهرة فى ذى الحجة سنة 1391 فبراير سنة 1972

مقدمة المؤلف

مقدّمة المؤلّف {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} ربّ اختم بخير الحمد لله الذى أنشأ الجنين فى الأحشاء، ثم أبرزه فدبره، إلى أن ترعرع ومشى، ودبّ ونشا. يفعل فى ملكه ما يريد، ويحكم فى خلقه ما يشاء، {قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»}. وصلى الله على سيدنا محمد الذى نسخت ملته سائر الملل، ورسخت هيبته فى قلوب تلك الملوك الأول، من الأكاسرة والقياصرة، أرباب الدول والحول. لم يزل صلى الله عليه منصورا بالرعب والرهب، حتى بلغ الإيمان أقصى نهاية الأرب، وأصبحت نواصى ملوك الكفر من العجم بأيدى سادات الإسلام من العرب. صلى الله عليه وعلى آله، الذين ما خاب من توسل بهم، وأضحى بجنابهم مستجيرا، وأنزل فى حقهم {إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»} وعلى أصحابه خلفاء الدنيا، سادات الآخرة الذين أنزل فى حقهم {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ»}. وبعد، فإن هذا الجزء السابع، المشنف المسامع، بدرره اللوامع، المسمى «بالدر المطلوب فى أخبار ملوك بنى أيوب»، السادة الأعلام، وقادة الإسلام، ملوك مصر والشرق والشام، الذين شفوا صدور أهل الإيمان، من عبدة الأوثان

والصلبان. وكفاهم بالسلطان صلاح الدين شرفا إلى يوم الدين. فاتح الأمصار، من أيدى الكفار، بالصارم البتّار. السيد الفاضل، والأسد الباسل، السلطان الملك الناصر، أبو المعالى والمفاخر، الذى ليس له من قبله من الملوك الإسلامية مناظر، المستمد النصر من الناصر الآخر، الذى وضع جميع هذا التاريخ توطئة لذكر بعض محاسن سيرته، منبها على آثار مآثر علانيته وسريرته. الخاتم بمحاسنه محاسن سائر ملوك الدنيا، كما ختم سميه صلى الله عليه جميع الأنبياء. لا زالت معانيه من الخواطر مخترعة، وأبكار أفكار محاسنه من القلوب مفترعة. فلذلك أسهرت ناظرى، وشغلت فكرى وخاطرى، وأنشأت هذا التاريخ الغريب المثال، الجامع نبذ الحكم إلى زبد الأمثال، المشتمل على ما شئت من النوادر. وبان وغير على ذلك تصاريف الأزمان، فأحييت ذلك فى أيام دولته القاهرة، بمدينة القاهرة، فى سنين عشر الأربعين والسبعمائة، إلى أن بلغت فى ذلك إلى ذكر سيرته الشريفة، فكانت النهاية، وبالله أعتضد فيما أعتمد.

ذكر ابتداء دولة الملوك بنى أيوب ونسبهم وبدء شأنهم

ذكر ابتداء دولة الملوك بنى أيوب ونسبهم وبدء شأنهم قال العبد الفقير، المعترف بالتقصير، واللسان القصير، مؤلف هذا التاريخ وجامعه، غفر الله له ولوالديه ولقارئه وسامعه: حدثنى الجناب العالى المرحوم ناصر الدين محمد الملقب بالملك الكامل، من ولد الملك الصالح إسماعيل المعروف بأبى الجيش، صاحب الشام، رحمه الله تعالى، وسائر ملوك المسلمين، مع كافة أمة محمد أجمعين. وكان الحديث فى سنة عشرة وسبع مائة بمدينة دمشق المحروسة، والملك الكامل المذكور يومئذ بها أمير مائة فارس مقدم ألف. وكان حصل بينى وبينه من الصحبة ما كان يطلعنى على كثير من أسراره. وكان الملك الكامل المذكور ملك النفس والكرم والسماحة، فاضل، راو من كل فن حسن. وكان مع ذلك كثير المزح والخلاعة، طيب المحاضرة، لذيذ المفاكهة، لا يمل حديثه. لم يزل يروى المضاحكات والنوادر الحسنة، كثير التنديب على نفسه وعلى أقاربه من أولاد الملوك من بنى أيوب، حيّهم وميّتهم. وسيأتى طرف من ذكره وخلاعته وحكاياته فى تاريخه، إن شاء الله تعالى. سألت منه-رحمه الله-ذات يوم عن جدهم أيوب، ابن من؟. فقال: أيوب بن شاذى ابن مروان، أكراد من جبل نهاوند. قال: وكان مروان فى جيش السلجوقية، وكان مشهورا بينهم بقوة وشجاعة، حتى قيل إنه كان يركض الفرس ويدعه فى قوة جريه، فيطبق عليه وركيه مع ساقيه، فيقف الجواد من ساعته، ولا يعود يتنفس. وكان يمسك ذنب الفرس ويقول للراكب: «حرّك فرسك» فلا ينقل خطوة. وكان يركب ولده شاذى أعفى فرس عنده، ويأمره أن يحرّك عليه، ويعارضه فى

الميدان، والفرس فى قوة جريه، فيصدمه بصدره فيوقفه. وكان ستين رطلا بالبغدادى رمحه. وكان إذا تقابلت الصفوف فى وقت المصافات يبرز إلى الميدان ويطلب المبارزة، فلا يجسر أحد أن يخرج إليه. وله أحوال كثيرة لا يمكنى ذكرها، تخامر العقول لا تصدق. يقول هكذا الملك الكامل. ثم إن ولده شاذى كان يقاربه فى بعض شجاعته، فصار فى جملة جيش أتابك زنكى أبو نور الدين محمود، وتقرّب بشجاعته حتى صار أمير علم عند أتابك زنكى، وحظى عنده، وتربى أيوب ولده مع محمود بن أتابك. قال ابن واصل صاحب تاريخ حماة فى نسب آل أيوب: لا خلاف فى أن الملك الأفضل نجم الدين أيوب، والد الملوك الأيوبية، وأخاه الملك المجاهد أسد الدين شيركوه، هما ابنا شاذى بن مروان. ثم قيل إن مروان هو ابن محمد بن يعقوب. واختلف الناس فى أصلهم، فذكر عز الدين بن الأثير أن أصلهم من الأكراد الروادية وهم فخذ الهذبانية. وأنكر ذلك جماعة من بنى أيوب، النسبة إلى الأكراد، وقالوا إنما نحن عرب، نزلنا عند الأكراد، وتزوجنا منهم. وادعى بعضهم النسب إلى بنى أمية. وكان الملك إسماعيل بن سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب -صاحب اليمن بعد أبيه [سيف الإسلام ظهير الدين]-يدعى ذلك، ولقب نفسه المعز لدين الله، وخطب لنفسه بالخلافة باليمن، وذلك فى أيام عمه الملك العادل [سيف الدين أبى بكر] بن أيوب. فلما بلغه ذلك صعب عليه، وقال: كذب والله، ما نحن من بنى أمية أصلا. والذين ادعوا هذا النسب قالوا: أيوب بن شاذى، بن مروان، بن الحكم، ابن عبد الرحمن، بن محمد، بن عبد الله، بن محمد، [بن محمد]، بن عبد الرحمن،

ابن الحكم، بن هشام، [بن عبد الرحمن الداخل، بن معاوية، بن هشام، بن عبد الملك، بن مروان، بن الحكم، بن أبى العاص، بن أمية، بن عبد شمس، ابن عبد مناف. وفى عبد مناف يجتمع نسب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ونسب بنى أمية. فهذا قول من جعل نسبهم فى بنى أمية. وجماعة آخرون أثبتوا نسبهم فى بنى مرة بن عوف. وممن أثبت نسبهم فى بنى مرة الحسن بن غريب الحرسى، فإنه أوصل نسبهم إلى على بن أحمد المرّى، ممدوح المتنبى حين يقول: شرق الجو بالغبار إذا سا … ر على بن أحمد القمقام وأحضر هذا النسب إلى الملك المعظم صاحب دمشق فسمع النسب عليه، وأسمعه ولده الناصر داود فى سنة تسع عشرة وستمائة. وكان فى أيوب تغفّل الأكراد وبلههم. وكان [نور الدين] محمود يحبه لا يكاد يفارقه، ويستظرف حديثه. وكان دينا خيرا صادقا. وكان محمود من صغره دينا فاضلا ورعا، يحب الفقراء ويبر المساكين. وكان لا يرى مجالسا إلا فقيرا. وله دار برسم الورّاد من الفقراء المتجردين. وكان جميع ذلك فى تكريت، قبل تمليك أتابك الشام. فلما كان نور الدين ملك الشام مع الشرق، جعل أسد الدين شير كوه -وهو أخو أيوب-أميرا وحاجبا على الأكراد من جيشه، وسلم لأيوب قصره، فكان صاحب الإذن عليه. قلت: هكذا يقول الملك الكامل-رحمه الله-ولعله كان كما قيل برددارا لنور الدين، فحسّن الملك الكامل العبارة فى ذلك. قال: وكان نور الدين-رحمه الله- له نصيب وافر من الفقراء جدا. وكان قد صار لأيوب عدة أولاد-يوسف وأبوبكر-والباقى تأتى أسماؤهم فى

أماكنها. وكان يوسف يعوض لأبيه بباب القصر إذا عرض له عارض. وكان للملك العادل نور الدين ولده إسماعيل. قال أبو المظفر: كان لنور الدين محمود، هذا الولد إسماعيل، ولد له بتكريت، وتوفى بدمشق فى حياة والده. وولده الذى ملك بعده، ولد بدمشق، وسماه باسم أخيه إسماعيل، ولقبه الملك الصالح. وكان فيه لعب واستهتار بالفقراء، وينكر على أبيه خفية، إذا خلا بين ندمائه وأصحابه. وكان يوسف بن أيوب من أكبر الخصيصين بمنادمة إسماعيل الملك الصالح، فكان يقول له: «يا خوند اشتهى منك لا تتعرض لهذا القول، فالسلطان أخبر بأموره منا». قال: وجاءت ليلة النصف من شعبان، وكان الملك العادل [نور الدين محمود] يحتفل بمواسم المسلمين، ويفعل فى كل موسم ما ينبغى فيه. فخرج إلى باب القصر بعد عشاء الآخرة، فطلب أيوب فلم يجده، وكان قد حصل له وجع فى بطنه أعاقه تلك الليلة، ووجد يوسف مكانه، فقال: «يا يوسف خذ إسماعيل-يعنى ولده-واطلع أنت وهو، ولا يكن معكما ثالث، إلى مغارة الجوع وباتا على بابها، وأحييا قيام هذه الليلة العظيمة القدر. فإذا كان وقت الفجر الأول اصنتا، ومهما سمعتاه احفظاه وعرفانى به». فطلعنا وقد أخذنى لكلام السلطان هيبة عظيمة أرعدتنى. يقول يوسف: فلما صرنا على باب المغارة المعروفة بمغارة الجوع بجبل الصالحية، قال لى الملك الصالح «يا يوسف! افعل ما أمرك به السلطان من إحياء الليلة، وأما أنا فإنى بانام» ثم إنه انضجع على ما فرش له ونام. قال يوسف: فقمت فأحييت تلك الليلة، وقد داخلنى لكلام السلطان وجل عظيم. فلما كان أول الفجر عند شعشعة العمود، سمعت حس هفيف كأجنحة طائر كبير، وأسمع من تلقائه قائلا يقول: «الناصر للصليب كاسر، وللفرنج خاسر، وللقدس طاهر. الظاهر للشام طاهر، وللكفر قاهر، قاتل كل كافر عاهر. الناصر بالشرق ظافر، يطؤها بالخف والحافر، بعد ثلاث تواتر». قال الملك الكامل-رحمه الله-فكان من السلطان صلاح الدين رحمه الله

-وهو الملك الناصر-أن فتح البلاد من الفرنج، وطهر بيت المقدس منهم، وكان من أمره ما كان. ثم إن صلاح الدين الملك الناصر لقب ولده بالظاهر، طمعا أن يكون ذلك الظاهر، فأبى الله إلا حيث يشاء، فكان بيبرس البندقدارى صاحب ذلك الرمز المذكور. ثم لقب داود بالناصر ويوسف بالناصر، طمعا أن يكونا ذلك الناصر المذكور، فأبى الله إلا أن يكون حيث يشاء، وهو مولانا وسيدنا ومالك رقنا، السلطان الأعظم الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين، محمد بن مولانا السلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاون الألفى الصالحى. وذلك أن بنى أيوب تحيروا فى قوله: «بعد ثلاث تواتر» ما هن؟. فلما تردد مولانا السلطان-عز نصره-إلى الملك ثلاث مرار، علم أنه صاحب ذلك الرمز المقدم ذكره. وأما منام أيوب فى حال صباه، وهو يوم ذاك بتكريت، فإنه من غريب ما يسمع، وذلك أنه رأى كأنه قعد للبول، فعادت إراقته تطلع من إحليله كالفوارة، إلى أن تعلقت بالسحاب، ثم انعقدت سحابة وكأنها على بيت المقدس، ثم مطرت تلك السحابة مطرا عاما حتى غسلت القدس، مع سائر تلك الأرض. ثم ظهر فى تلك السحابة قمر مع نجوم كثيرة، حتى أضاءت الأرض كلها من نوره. ثم نبتت تلك الأراضى أنواع الحشائش. وكان فى تلك الأراضى أبقار ترعى، عدتهم دون المائة. ثم ظهرت من جهة البحر المالح خنازير حتى ملأت تلك الأرض. ثم عادوا يقتلون تلك الأبقار إلا بقرة واحدة، هربت منهم إلى ناحية الشام. ثم ظهرت من جهة مصر أسود كالبخاتى، فقتلوا جميع تلك الخنازير، حتى لم يبق منهم إلا من هرب وقطع البحر. ثم عاد ذلك الحشيش، وحسن نضارته. هذا ما نقله الملك الكامل-رحمه الله-قال: وكان بتكريت فى ذلك الوقت إنسان يعرف بابن المرزبان يعبّر الرؤيا، موصوف بحذاقته، فقص عليه أيوب تلك الرؤيا،

فتعجب لذلك، وقال: ما يجب أن تكون هذه الرؤيا إلا لملك، ولكن الله يعطى ملكه من يشاء. ثم قال: «سيكون من نسلك أيها الرجل ملوك بعدد تلك النجوم، ويكون منهم ملك عظيم يظهر على الفرنج، ويطهر بيت المقدس من أرجاسهم وأنجاسهم، وتشرق الدنيا بملكه، ثم يكون مدة تمليك تلك الملوك بعدة تلك الأبقار سنين. ثم يخرج عليهم الفرنج-وهم الخنازير-فيظهرون عليهم، حتى يخرج من جهة مصر جيش كالسباع، فيكون هلاك الخنازير على أيديهم. فهذا تأويل رؤياك، والله أعلم». قلت: وإنما قدمت هذه المقدمة لفوائد فيها. أحدها أن يعلم أصول بنى أيوب على الصحيح. والأخرى لما فيها من البشارة لكافة المسلمين بما هو مخبأ فى الغيب من ملك مولانا السلطان الملك الناصر-عز نصره-لبلاد الشرق إن شاء الله تعالى. والثالثة لغروبة هذا المنام الذى ما أخرم دقة. فلله الأمر من قبل ومن بعد. ولنعود إلى سياقة التاريخ بعون الله وحسن توفيقه. وذلك لما انتهى القول من العبد فى آخر الجزء السادس إلى آخر سنة أربع وخمسين وخمسمائة. وذكرنا جميع ما وصلت إليه القدرة جهد الطاقة وحد الاستطاعة، ما كان فى جميع تلك السنين الماضية من أخبار الأمم الخالية، والرمم البالية. فلنستفتح الآن هذا الجزء بذكر سنة خمس وخمسين وخمسمائة، موفقا لذلك، إن شاء الله تعالى.

ذكر سنة خمس وخمسين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة خمس وخمسين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم سبعة أذرع وخمسة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة تسعة عشر ذراعا واثنى عشر إصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة المقتفى لأمر الله أمير المؤمنين، إلى أن توفى ثانى ربيع الأول من هذه السنة، وله ست وستون سنة، مدة خلافته أربع وعشرون سنة. وزيره شرف الدين على، ثم كان شديد الدولة إلى أن توفى. صفته نقش خاتمه ربع القامة، مدور الوجه نقش خاتمه واللحية، معتدل الجسم: لقبه، والله أعلم. ذكر خلافة المستنجد بالله بن المقتفى لأمر الله وما لخص من سيرته هو أبو المظفر يوسف المستنجد بالله بن المقتفى لأمر الله محمد، وباقى نسبه تقدم وقد علم. أمه أم ولد، تسمى طاووس. مولده فى ربيع الأول سنة ثمان عشرة وخمسمائة. بويع يوم وفاة والده، فأقام خليفة إحدى عشرة سنة. قتل ثامن ربيع الأول سنة ست وستين وخمسمائة، وله ثمان وأربعون سنة. كان حسن السيرة قطع

ذكر خلافة العاضد لدين الله-آخرهم- وما لخص من سيرته

المكوس ببغداد، ونظر فى المظالم وأزاحها. وقيل إنه مات بالنقرس، والله أعلم. وفيها توفى الفائز بالله، وهو أبو القسم عيسى الفائز بنصر الله، ابن الظافر، ابن الحافظ، المقدم ذكره فى الجزء الذى قبله. وكان له من العمر يوم توفى عشر سنين. وكانت ولايته عند قتلة أبيه الظافر، حسبما سقناه من ذكر ذلك. وكان الفائز طفلا هلعا لما عاين من قتل أعمامه، فكان ربما يقع ويخبط، فلم يزل كذلك حتى توفى فى هذه السنة. ودخل الصالح بن رزّيك-واسمه طلائع-القاهرة، يوم خروج تابوت الظافر من دار نصر بن إمرأة عباس المقدم ذكره، فمشى الصالح بن رزيك تحت التابوت حافيا، ثم خلع عليه الفائز خلع الوزارة. واستقل الصالح بن رزيك-حسبما سقنا من أمره-فى الجزء الذى قبله، إلى أن قتل، حسبما يأتى من ذكره فى تاريخه إن شاء الله. قضاة الفائز بنصر الله فى مدة أيامه: الفقيه مجلّى؛ القاضى يونس الأطفيحى، الولاية الثانية؛ المفضل ضياء الدين أبو القاسم هبة الله بن كامل. وتولى الخلافة العاضد لدين الله، وهو آخر العبيديين، والله أعلم. ذكر خلافة العاضد لدين الله-آخرهم- وما لخص من سيرته هو أبو محمد عبد الله بن الأمير أبى الحجاج يوسف بن الحافظ أبى الميمون عبد المجيد. وباقى نسبه قد تقدم فيما قبله. أمه أم ولد، تدعى ست المنى. بويع بخلافة مصر والشام وما معهما فى تاريخ موت الفائز بنصر الله، وذلك لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رجب الفرد من هذه السنة. مولده سنة أربع

نكتة

وأربعين وخمس مائة. وجلس للأمر وله يوم ذلك عشرة سنين وأشهر. وكانت خلافته إسما له، وجسما ورسما للصالح بن رزيك. ثم إنه أخرج المسجونين، وسامح بالأموال والبواقى، فكانت جملة ذلك أحد عشر ألف ألف وستمائة ألف وثمانين ألف وأربعة عشر دينارا. واستمر الصالح، وقويت حرمته، وزادت هيبته، وعظم، وتزوج العاضد ابنته، فاغتر بطول السلامة. وكان العاضد تحت قبضته وفى أسره، فلما طال عليه ذلك عمل على قتله، فقتل كما يأتى ذكر ذلك فى تاريخه إن شاء الله تعالى. نكتة قيل إن هؤلاء القوم فى أوائل دولتهم، قالوا لبعض العلماء فى ذلك الوقت: «اكتب لنا ورقة تذكر فيها ألقابا تصلح لألقاب الخلفاء، حتى إذا ولى منا أحد لقب ببعض تلك الألقاب». فكتب لهم ألقابا كثيرة، وآخر ما كتب فى الورقة «العاضد»، فاتفق أن آخر من ولى منهم الملقب بالعاضد. وهذا من عجيب الاتفاق. والعاضد فى اللغة القاطع، يقال عضدت الشئ فأنا عاضد له إذا قطعته، فكأنه قاطع لدولتهم. وكان العاضد شديد الرفض، متغاليا فى سب الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين، وإذا رأى سنيا أو سمع به أراق دمه. نكتة أخرى روى أن العاضد فى آخر دولته رأى فى منامه أن قد خرجت عليه عقرب من مسجد من مساجد مصر معروفا، فلدغته. فلما استيقظ-وهو مرتاع لذلك-فطلب

معبرى الرؤيا، وقص عليهم المنام، فقيل: «ينالك مكروها من شخص هو مقيم فى هذا المسجد». وطلب متولى مصر فقال: «يكشف عن من هو مقيم بمسجد كذا وكذا -وكان العاضد يعرف كل مسجد بمصر-فإذا رأيت به أحد فاحضره إلى عندى». فمضى الوالى وأحضر رجلا صوفيا. فلما رآه العاضد سأله، من أين هو ومتى قدم. وهو يجيب عن كل سؤال. فلما ظهر له منه الضعف والصدق والعجز عن إيصال مكروه إليه، أطلق سراحه، وعاد الرجل إلى مسجده. فلما استولى السلطان صلاح الدين، وعزم على القبض على العاضد، واستفتى فيه الفقهاء، وأفتوه بجواز ذلك، لما كان عليه من انحلال العقيدة، وفساد الاعتقاد، وكثرة الوقوع فى حق الصحابة، والإشهار بذلك، فكان أكثرهم مبالغة فى الفتيا والتصميم على زوال أمر العاضد ذلك الشخص الصوفى الذى كان فى ذلك المسجد، وهو الشيخ نجم الدين الخبوشانى، فإنه عدد مساوئ القوم، وسلب عنهم الإيمان جملة، وأطال فى ذلك. وبنى الأمر على قوله وفتياه. فصحت بذلك رؤيا العاضد، والله أعلم.

ذكر سنة ست وخمسين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ست وخمسين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين. والعاضد خليفة مصر اسما، والأمور راجعة إلى تصرف الصالح بن رزيك. وفيها خرج الإفرنج، ووصلوا إلى فاقوس. وحشد الصالح لهم سائر الأجناد، وخرج إلى ظاهر بلبيس، فعادوا إلى بلادهم. وفيها هلك أبو الطاهر متولى ديوان الجيوش المنصورة، وقلد مكانه ابن جراح. وفيها أخذ طرخان-المنعوت بعز الدين-لما خرج بالإسكندرية طالبا للوزارة، وأحضر إلى القاهرة، وطيف به على جمل، وعلى رأسه طرطور من رصاص. ثم سمر بظاهر باب زويلة. وقتل أخوه فى اليوم الثانى وصلب. وقبض الصالح، على، ابن شاهان شاه، وعلى الأسد غازى والحلواص، وسجنهم فى داره.

ذكر سنة سبع وخمسين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة سبع وخمسين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع، وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا، وثمانية عشر أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين. والعاضد خليفة مصر. وفيها قتل الصالح بن رزيك. وسبب ذلك أنه لما طال الحجر على العاضد من جهته، اتفق مع قوم يقال لهم أولاد الراعى على قتله، وتقرر بينهم ذلك، وعين لهم موضعا فى القصر يجلسون فيه مستخفين، فإذا مرّ بهم الصالح ليلا أو نهارا قفزوا عليه فقتلوه. فقعدوا له ليلة، وخرج من القصر، فقاموا ليخرجوا إليه، فأراد أحدهم أن يفتح القفل، فغلقه، ولم يعلم. فلم يحصل لهم تلك الليلة مقصودهم، لأمر أراده الله، لتأخير الأجل. ثم إنهم جلسوا له يوما آخر، فدخل القصر نهارا، فوثبوا عليه، وجرحوه جراحات عدة، ووقع الصوت. وعاد أصحابه إليه، فقتلوا الذين جرحوه، وحمل إلى داره مجروحا، فأقام بعض يوم، ومات يوم الاثنين تاسع عشر رمضان من هذه السنة، رحمه الله تعالى. ذكر نبذ من أخباره وزبد من أشعاره كان الصالح بن رزيك-رحمه الله-رجلا ملكا جوادا، فاضلا، سمحا فى العطاء، سهلا فى اللقاء، محبا لأهل العلم، مقرّبا لأرباب الفضل. وكان جيد الشعر، وقفت على شئ من شعره، فمن ذلك قوله:

كم داير بنا الدهر من أحداثه … عبرا وفينا الصّد والإعراض ننسى الممات وليس نجرى ذكره … فينا فتذكرنا به الأمراض ومن قوله فى الغزل: ومهفهف ثمل القوام سرت إلى … أعطافه النشوات من عينيه ماضى اللحاظ كأنما سلت يدى … سيفى غداة الروع من جفنيه قد قلت إذ خط العذار بمسكه … فى خده ألفيه لا لاميه ما الشعر دب بعارضيه وإنما … أصداغه نفضت على خديه الناس طوع يدى وأمرى نافذ … فيهم وقلبى الآن طوع يديه فاعجب لسلطان يعم بعدله … ويجور سلطان الغرام عليه والله لولا اسم الفرار وأنه … مستقبح لفررت منه إليه ومن شعره أيضا ما رواه القاضى ابن خلكان-فى تاريخه-من رواية ابن نجية الواعظ الدمشقى، قال: أنشدنى الصالح لنفسه يقول: مشيبك قد نضى صبغ الشباب … وحل الباز فى وكر الغراب تنام ومقلة الحدثان تقضى … وما ناب النوائب عنك ناب وكيف بقاء عمرك وهو كنز … وقد أنفقت منه بلا حساب قلت: لو قال مكان «أنفقت» «أسرفت» لكان أحسن فى باب التورية. وكان المهذب عبد الله بن أسعد الموصلى المعروف بنزيل حمص قد قصد الصالح ومدحه بقصيدة حسنة، وهى الكافية التى أولها يقول: أما كفاك تلافى فى تلاقيكا … ولست تنقم إلا فرط حبيكا وهى من نخب القصائد، وفيها طول، ولذلك لم أثبتها بجملتها، ومخلصها يقول: وفيم تغضب إن قال الوشاة سلا … وأنت تعلم أنى لست أسلوكا لا نلت وصلك إن كان الذى نقلوا … ولا شفى ظمئى جود ابن رزيكا

ذكر شاور ونسبه وبدء شأنه

ولما مات رثاه الفقيه عمارة اليمنى بقصيدته اللامية التى أولها يقول: أفى أهل ذا النادى عليم أسائله … فإنى لما بى ذاهب اللب ذاهله دعونى فما هذا أوان بكائه … سيأتيكم طل البكاء ووابله فلا تنكروا حزنى عليه فإننى … تقشّع عنى وابل كنت آمله ولم لا نبكيه ونندب فقده … وأولادنا أيتامه وأرامله فيا ليت شعرى بعد حسن فعاله … وقد غاب عنا ما بنا الله فاعله ولما حمل على نعشه قال فيه الفقيه عمارة أيضا: وكأنه تابوت موسى أودعت … فى جانبيه سكينة ووقار وله فيه مراث كثيرة، أضربت عنها. وهذا الصالح الذى بنى هذا الجامع الذى ظاهر باب زويلة، وقد ذكرته فى كتابى المسمى «اللقط الباهرة، فى خطط القاهرة». ثم إن الخلع خرجت لولده رزيك بن طلائع بن رزيك، ولقب بالعادل. واستقر بما كان لأبيه من ولاية الأمر، لكن الأمور راجعة للعاضد، بخلاف ما كان فى أيام الصالح من استبداده بالأمر. ذكر شاور ونسبه وبدء شأنه كان الصالح بن رزيك قد ولّى فى أيام وزارته أبا شجاع شاور الصعيد بكماله. وهو شاور بن مجير بن نزار بن عشائر بن شاس بن مغيث بن حبيب بن الحارث ابن ربيعة بن مخيس بن أبى ذؤيب، وهو الحارث بن عبد الله بن شحنة بن جابر

ابن ناصرة، [وهو والد حليمة مرضع رسول الله صلى الله عليه وسلم] أرضعته بلبن ابنتها الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان، وهى التى حضنت سيدنا رسول الله-صلى الله عليه وسلم-لما كان عند حليمة السعدية، ظئر النبى صلى الله عليه وسلم. والشيماء المذكورة كانت تحمل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعضها حين تحمله. فلما وفدت عليه صلى الله عليه وسلم، أرته الأثر، فعرفها وأكرمها. فلما ولاه الصعيد عاد ندم على ذلك. وكان الصالح يعد لنفسه-وهو فى جراحه- ثلاث غلطات، أحدها استهتاره بأمر العاضد، وقلة اكتراثه به، حتى حصل له ما حصل. والأخرى الذى ما كان قبض عليه، وعلى جميع الفاطميين، ورد الدعوة عباسية، إذ كان قادرا على ذلك. والثالثة توليته شاور المذكور الصعيد. وكان شاور ذا شهامة، ونجابة، وفروسية، وشجاعة. وكان الصالح قد أوصى ولده العادل رزيك أن لا يتعرض لشاور بمساءة قط، ولا يغير عليه، وأن يتلافاه جهده، فإنه لا يأمن عصيانه وخروجه. وكان الأمر كذلك كما يأتى فى تاريخه. وفيها قتل العادل رزيك أخته زوجة العاضد-وقيل عمته-لما توهم أنها باطنت على قتل أبيه. وقتل الأستاذ سعيد السعداء صاحب هذه الخانقاه التى بالقاهرة المعروفة به. وقتل رفيقه الوجيه، وابن قوام الدولة؛ وقيل إن هؤلاء الذين كانوا متفقين على قتل أبيه. وأخرج ابن شاهان شاه، وأسد الغازى، والخلواص، وأعادهم مكانهم.

ذكر سنة ثمان وخمسين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثمان وخمسين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين نافذ الحكم. وقد كانت الأمور راجعة لبنى سلجوق، فإنهم كانوا استولوا على جميع ممالك الشرق، وعلت كلمتهم على كلمة الخلفاء، كأعظم مما كان بنو بويه. ذكر طرف من أخبار السلجوقية وملوكهم أعظم هؤلاء القوم تاريخا، وأشدهم سلطانا، وأول من ظهرت كلمته على كلمة الخلفاء العباسيين، عضد الدولة أبو شجاع ألب رسلان، فإنه فتح البلاد، واستولى على العجم والشرق كله مع العراق، ووصل ملكه إلى الصين والترك، وإلى بلاد بلغار والروس واللّكز واللان، وكذلك إلى بلاد الخطا، وهما المدينتان العظيمتان كاشغور وبلاصغون وهما بالسند الأعلى. وملك إلى ما وراء النهر،

ذكر عدة ملوك بنى سلجوق

واستولى على الخلفاء العباسيين، وعمل له ببغداد دار سلطنة، ونقض كلمة الخلفاء. وهؤلاء القوم نسبهم فيه قولان، وإن كان تقدم من ذكرهم طرف. فمن الناس من يدعى أنهم تركمان، وأن سلجوق جدّهم كان فى جملة عسكر بنى بويه الديالمة. والصحيح أنهم من السامانية، أصلهم يرجعون إلى الفرس من ملوك العجم. ولهم تاريخ مستقل بذاته، إذ لو شرحناه لكان جزءا كاملا، وإنما نذكر عدة ملوكهم الذين ملكوا الدنيا، ونؤخر من ذلك كلاما يأتى فى موضعه، إن شاء الله تعالى. ذكر عدة ملوك بنى سلجوق أولهم ميكائيل بن سلجوق وهو أجل ملوك السلجوقية، كما كان إسماعيل أجل ملوك السامانية. ثم محمد بن ميكائيل بن سلجوق، ثم أبو الحرب سنجر سلطان، ثم أبو القاسم محمد طبر، ثم أبو عبد الله بن محمد بن محمد طبر، ثم طغريل ملكشاه، ثم غياث الدين أبو الفتح، ثم السلطان مسعود بن محمد طبر، ثم ملكشاه ابن محمد بن محمد طبر، ثم عضد الدولة أبو شجاع ألب رسلان صاحب دار الملك والسلطنة ببغداد. ثم كان السلطان علاء الدين بن تكش خوارزم شاه، وهو ابن مملوك طغريل بك السلجوقى، ثم ولده السلطان جلال الدين منكبرتى خوارزم شاه، وسيأتى ذكر هذين الملكين وأخبارهم مع التتار فى تاريخهم إن شاء الله تعالى. فهؤلاء عدة ملوك بنى سلجوق رحمهم الله. وهم الذين فتحوا البلاد، وقادوا الجيوش، ونصروا الملة المحمدية لما ظهروا، وامتحنت بدولتهم سائر الدول، وأعلوا منار هذه الملة المحمدية على جميع الملل. وعلى ما كانوا عليه من اللغة التركية

ذكر عبد المؤمن ونسبه وبدء شأنه

والألسنة الأعجمية كانوا فضلاء، عقلاء، أدباء، نجباء، يحبون أهل العلم والفضل، ويسمعون المديح، ويجيزون عليه الجوائز السنية. وكانت تلك الأيام مدة كالأحلام لذة. فى هذه السنة توفى عبد المؤمن سلطان المغرب. ولنذكر ها هنا لمعا من أخباره، ونسبه، وآثاره. ذكر عبد المؤمن ونسبه وبدء شأنه هو أبو محمد عبد المؤمن بن على القيسى الكومى، ليس من أهل بيت ملك. كان أبوه وسطا فى قومه، وكان صانعا فى الطين، يعمل منه الآنية، فيبيعها. وكان عاقلا، وقورا فى أهل بيته، دينا صالحا. فيحكى أن عبد المؤمن فى صناعة أبيه إذ كان صبيا، فنام إلى جانب أبيه ذات يوم، وأبوه مشتغل بعمله فى الطين، فسمع أبوه حسّا له دوى، نازلا من السماء إلى أعلى الدار، فرفع رأسه، فرأى سحابة سوداء من النحل قد هوت مطبقة على الدار، فنزلت مجتمعة على عبد المؤمن وهو نائم، فغطته حتى لم يظهر منه شئ، ولا استيقظ لها. فلما رأته أمه على ذلك الحال صاحت خوفا على ولدها، فسكتها أبوه. ثم إنه غسل يده، ولبس أثوابه، ووقف ينظر إليه، وإلى ما يكون من ذلك النحل معه. ثم إن النحل طار عنه بأجمعه، واستيقظ الفتى فرأته أمه وليس به أثر. وكان بالقرب منهم رجل معروف بالزجر، فمضى أبوه إليه، فأخبره بما رآه من النحل مع ولده، فقال الزاجر: «يوشك أن يكون له شأن، تجتمع على طاعته خلق عظيم». فكان من أمره ما كان. ويقال إن محمد بن تومرت-المعروف بالمهدى-كان قد ظفر بكتاب الجفر،

ووجد فيه ما يكون على يده، وقصة عبد المؤمن وحليته واسمه. وأن ابن تومرت أقام مدة يتطلبه، حتى وجده وصحبه، وهو إذ ذاك غلام. وكان يكرمه ويقدمه على أصحابه، وأفضى إليه بسرّه، وانتهى به إلى مراكش-وصاحبها يومئذ أبو الحسن على بن يوسف بن تاشفين ملك الملثمين-وجرى له معه فصول يطول شرحها. وأخرجه منها، وتوجه إلى الجبال، وحشدوا واستمال المصامدة فى حديث طويل، آخره أنه لم يملك شيئا من البلاد فى حياة ابن تومرت، بل عبد المؤمن ملك بعده بالجيوش التى جهزها ابن تومرت، والترتيب الذى رتبه له. وكان ابن تومرت أبدا يتفرس فيه النجابة، وينشد إذا أبصره دائبا: تكاملت فيك أوصاف خصصت بها … فكلنا بك مسرور ومغتبط فالسنّ ضاحكة، والكف ما نحة … والنفس سامحة، والوجه منبسط وكان يقول: «صاحبكم هذا غلاب الدول». ولم يصح عنه أنه استخلفه، بل راعى أصحابه فى تقديمه إشارته لهم فيه، فتم له الأمر وكمل. وأول ما أخذ من البلاد وهران وتلمسان ثم فاس ثم سبته. وانتقل بعد ذلك إلى مراكش وحاصرها أحد عشر شهرا، ثم ملكها. وكان أخذه لها فى أوائل سنة اثنين وأربعين وخمسمائة. واستوثق له الأمر، وامتد ملكه إلى المغرب الأقصى والأدنى، وبلاد إفريقية، وكثير من جزيرة الأندلس. وتسمى أمير المؤمنين، وقصدته الشعراء وامتدحوه بأحسن المدائح. ذكر العماد الأصفهانى فى الخريدة، أن الفقيه أبا عبد الله محمد بن أبى العباس التيفاشى لما أنشده يقول: ما هزّ عطفيه بين البيض والأسل … مثل الخليفة عبد المؤمن بن على

فأشار إليه أن اقتصر على هذا البيت، وأمر له بألف دينار. ولما تمهدت له القواعد وانتهت أيامه، خرج من مدينة مراكش إلى مدينة سلا، فأصابه بها مرض شديد، وتوفى فى العشر الأخير من جمادى الآخرة من هذه السنة، وهى سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. وقيل: بل كانت وفاته سنة ستين وخمسمائة، والله أعلم. وقيل: كانت ولادته سنة تسعين وأربعمائة، وقيل غير ذلك. وإنما نسبته بالكومى، فهى نسبة إلى كومية وهى قبيلة صغيرة تنزل البحر من أعمال تلمسان. ومولده بقرية هناك يقال لها تاجرة. هذا ما ذكره القاضى شمس الدين بن خلكان فى تاريخه من نسبة عبد المؤمن. وذكر كتاب الجفر فقال: ذكره ابن قتيبة فى أوائل كتاب الاختلاف فى الحديث، فقال بعد كلام طويل: وأعجب من هذا التفسير تفسير الروافض القرآن الكريم، وما يدعونه من علم باطنه بما وقع إليهم من كتاب الجفر الذى ذكره سعد بن هارون العجلى، وكان رأس الزيدية، فقال: ألم تر أن الرافضين تفرقوا … فكلهم فى جعفر قال منكرا فطائفة قالوا إمام ومنهم … طوائف سمته النبى المطهرا ومن عجب لم أقضه جلد جفرهم … بريب إلى الرحمن ممن تجفرا والأبيات كثيرة، وإنما المقصود ذكر كتاب الجفر. قال القاضى ابن خلكان: قال ابن قتيبة، وهو جلد جفر، ادّعوا أنه كتب لهم فيه الإمام كل ما يحتاجون إليه وإلى علمه إلى يوم القيامة. قال: وقولهم الإمام يريدون به جعفر الصادق، رضى [الله] عنه. وإلى هذا الجفر أشار أبو العلاء المعرى أيضا فى قوله:

لقد عجبوا لأهل البيت لما … أتاهم علمهم فى مسك جفر ومرآة المنجم وهى صغرى … أرته كل عامرة وقفر ومسك جفر تقال بفتح الميم من مسك، وفتح الجيم من جفر، وهو من أولاد المعز، ما بلغ أربعة أشهر وجفر جنباه، وفصل عن أمه. وكانت عادتهم-فى ذلك الزمان-يكتبون فى الجلود والعظام والخرق وما شاكل ذلك، والله أعلم. ... ولنعود إلى سياقة التاريخ بمعونة الله وحسن توفيقه. وفى هذه السنة وهى سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، خرج شاور المقدم ذكره من الصعيد بجموع كثيرة، فعبر واحات، واخترق تلك البرارى، إلى أن خرج من عند تروجه، وتوجه إلى القاهرة فى شرح طويل آخره أنه قهر العادل رزيك بن الصالح طلائع، وقتله فى العشر الأول من صفر من هذه السنة، وأخذ موضعه من الوزارة، واستولى على الأمر، ونعت نفسه بأمير الجيوش، وقتل عليا زمام القصر، وولى لؤلؤ الصقلبى عوضه، وأعاد الحكم إلى يونس القاضى. واحتوى على أموال بنى رزيك. ولم يزل أمره مستقرا إلى العشر الأخير من رمضان من هذه السنة، فخرج عليه أبو الأشبال ضرغام بن عامر بن سوار، الملقب فارس المسلمين، اللخمى المنذرى، نائب الباب، بجموع كثيرة، وغلبه، وأخرجه من القاهرة. وقتل ولده طيا، وولى الوزارة، كعادة المصريين. وتوجه شاور طالبا للشام، مستجيرا بنور الدين الملك العادل محمود بن أتابك زنكى. وأقام ضرغام وزيرا بالديار المصرية، ولقب بالمنصور إلى جمادى الآخرة من سنة تسع وخمسين وخمسمائة، حسبما يأتى من ذلك.

ذكر سنة تسع وخمسين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة تسع وخمسين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ثمانية أذرع وسبعة عشر أصبعا، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثمانية أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين. والسلطان ببغداد عضد الدولة ألب رسلان السلجوقى. والعاضد بمصر، وضرغام الوزير بها، إلى شهر جمادى الآخرة، قدم شاور بجيوش الشام يقدمهم أسد الدين شير كوه، وابن أخيه صلاح الدين يوسف، من قبل الملك العادل نور الدين محمود بن أتابك زنكى. وخرج إليهم همام بن سوار أخو ضرغام -الملقب ناصر المسلمين -فى جيوش كثيرة، فكانت الوقعة بينهما على بلبيس، فانكسرت جيوش همام، وقتل همام ومعه أخوين له، وقتل أيضا ضرغام. وكان مقتله عند مشهد السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب، صلوات الله عليهم، فكانت مدة وزارة ضرغام مصر تسعة أشهر وعشرة أيام. وعاد شاور إلى وزارته الثانية سلخ جمادى الآخرة من هذه السنة. ودخل أسد الدين شيركوه وصلاح الدين يوسف، وأنزلوهما ظاهر القاهرة فى المخيم. وخرجت لهما الإقامات، والعلوفات، والخلع. وتأخر عنهما ما كان أشرطه لهما شاور من الأموال ونفقات الجيوش، فسير إليه أسد الدين يحثه على المال وإنفاذه، فسوّف وماطل. ثم إنه نكث جميع ما كان بينه وبين أسد الدين من العهود والمواثيق.

وأنفذ شاور إلى ملك الروم بالشام مستنصرا به على أسد الدين، وطمّعه فى أخذه، فجاءه الملك مرى -لعنه الله-فى عالم عظيم. ولما تحقق أسد الدين ذلك من غدر شاور، انتقل إلى بلبيس وتحصن بها. واجتمع شاور وملك الروم على قتال أسد الدين، وكانت بينها وقائع عظيمة. وبنى الفرنج خذلهم الله برجا عظيما. وعاد أسد الدين فى قبضتهم لولا لطف [الله] تعالى وحسن سياسة أسد الدين، فإنه كتب إلى مرى ملك الروم يقول له: «ليس لك فينا غرض، ولا معنا مال يقنعك، فإن شاور غدر بنا، ولم يوفنا ما شرطه لنا من المال. ونحن قوم غرباء من هذه الديار، أتينا لنصرة هذا الغادر، والبغى له مصرع. وأنت تعلم أن وراءنا مثل الملك العادل نور الدين. وكأنك به وقد أطل عليك بجيوش تعرفها ولا تنكرها. وأنت قصدك مال، ومصر قدامك، وهى أحب إليك من مطاولتنا بغير فائدة لك. وليس بمصر مانع يمنعك عنها. فإن تركت البغى، وقنعت بما فى أيدينا من فضلات نفقاتنا نفذناها إليك، وتدعنا نرجع إلى بلادنا. وإن أبيت فنحن والله ما يقتل الواحد منا حتى يقتل عدة منكم. وبعد ذلك، المدد واصل إلينا، والسلام». قال ابن واصل رحمه الله: بينما الفرنج يجدون فى حصار أسد الدين ببلبيس، إذ ورد عليهم الخبر بكسرة الفرنج من نور الدين على حارم، فخافوا على بلادهم، فهذا كان سبب صلحهم مع أسد الدين. ولما خرج من بلبيس، جعلوا له فى الطريق من يعارضه ليأخذوه، فعرج عن الطريق إلى طريق المدرية، وفى ذلك يقول عمارة

اليمنى يمتدح أسد الدين من قصيدة منها: أخذتم على الإفرنج كل ثنيّة … وقلتم لأيدى الخيل مرّى على مرى لئن نصبوا فى البر جسرا فإنكم … عبرتم بجسر من حديد على الجسر ثم اتفقا على مال أخذه ملك الروم من أسد الدين، وفسّح لهم الطريق، فتوجهوا إلى الشام، وفى قلب أسد الدين نار لا تطفئ من فعل شاور. ثم إنه قص على نور الدين جميع ما جرى، وعرفه أن مصر ليس بها من يمنع عنها. ثم جهزه نور الدين بالجيوش، وعاد ودخل الديار المصرية من الطريق البدرية، فلم يعلم به إلا وهو بناحية أطفيح. ثم عدى إلى بر الجيزة، وأقام بها، وغاراته تضرب فى سائر تلك النواحى. فلما علم شاور أن لا قبل له بأسد الدين، أنفذ إلى الملك مرى-لعنه الله-وأبذل له الأموال، فوافاه الملعون بخيله ورجله، وجرت بينهم وقائع وأهوال تشيّب الرءوس. واندفع أسد الدين إلى نحو الصعيد، فلحقوه [عند] منية بنى خصيب، بمكان يعرف بالبابين، فوقعت أيضا بينهما هناك وقائع عظيمة ثلاثة أيام. فلما كان ثالث يوم، كان أول النهار لشاور وملك الروم على أسد الدين، حتى ظن أنه سيؤخذ. ثم أتاه النصر من عند الله آخر ذلك اليوم،

بقوم وافوه من عرب الصعيد، كان قد نفذ إليهم أموالا، فأتوه فى تلك الساعة. فانهزم الروم وشاور، وكسرهم أسد الدين كسرة عظيمة، وأخذ صاحب قيسارية أسيرا مع جماعة من أصحابهم. وعاد شاور والملك مرى إلى القاهرة فى أنحس الأحوال. وسار أسد الدين إلى إسكندرية، فأقام بها مدة يسيرة. فجيّش الملعون مرى الجيوش، وحزّب الأحزاب، وجاءوا إلى الإسكندرية. وكان أسد الدين قد ترك صلاح الدين بإسكندرية، فى شرذمة يسيرة من الجيش، وأصعد هو وعساكره إلى الصعيد الأعلى، فجبى منه الأموال، واستخدم الرجال، واستجلب العربان. وحضر شاور والملك مرى بجيوشهما، فنزلا على حصار صلاح الدين بالإسكندرية برّا وبحرا. وضيقوا عليه ضيقة عظيمة، وأقاموا محاصرينه سبعة وخمسين يوما. وأعان الله صلاح الدين ومن معه على تلك الجموع العظيمة، وصبروا لهم مع ما كان البلد فيه من قلة القوت والسلاح. فلما كان بعد ذلك، وصل أسد الدين من الصعيد، ونازل القاهرة وحاصرها، وضيق على من بها وعلى العاضد صاحب القصر. فاتفق رأى كبار البلد مع رأى العاضد أن يصالحوه، على أن يسلم لهم صاحب قيسارية المأسور معه وجميع الأسارى الذين معه، ويرجع عن حصارهم وقتالهم، ويأخذ ابن أخيه صلاح الدين ويتوجه إلى بلاده بدمشق، ويرتفع شاور والملك مرى عنهم. فاتفق الحال على ذلك، وعاد كل أحد إلى بلاده، وأقام شاور بعد ذلك أياما يسيرة. فما كان بعد قليل حتى عاد الملك مرّى-لعنه الله-على بدء، لما حدثته نفسه بأخذ ديار مصر، وصحبته الإسبتار، فنزل على بلبيس وفتحها، وقتل جميع من كان بها، وسبى النساء والأطفال، وأبدع كل الإبداع. فلما سمع شاور ذلك نهب مصر لنفسه، وهتك أهلها، وجمع أموالا عظيمة من أموال الناس، وقتل عدة من أهلها،

ممن منع عن نفسه وماله. ووصل الملك مرّى-لعنه الله-وجيوشه إلى باب القاهرة، وعوّل على فتحها، فبذل له أهلها مالا جزيلا. وقويت شوكة الفرنج-خذلهم الله- بالقاهرة، وعادوا يمدوا أيديهم، ويأخذون الحريم والأولاد والأموال، لا يمنعهم من ذلك مانع. وجرت على أهل مصر من الفرنج العظائم، وحوصر الناس فى بيوتهم، ولا عاد أحد يقدر على الخروج من بيته. وتمت أحوال تقشعر لسماعها الأبدان، وانتشر الملاعين فى سائر الأعمال، وعادوا يأخذون حريم أهل مصر، وينزلون فى الزوارق ما بين مصر والجزيرة، ويشربون عليهم الخمور، ويفسقون فيهم. وقتلت عالم كثير من كبار البيوت، ونهبت أموالهم. هذا كله يجرى وشاور يصانعهم، ويركب إلى كبارهم وملوكهم، وأظهر النصيحة لهم. فلما علم الفرنج أن لا دافع لهم عن تمليكهم مصر، كتبوا إلى ملكهم الكبير يحثونه على الحضور ليملك مصر. فلما علم العاضد ذلك أيقن الهلاك، وكذلك كبار البلد، فأجمعوا رأيهم، وكتب العاضد إلى نور الدين الشهيد، الملك العادل صاحب الشام، وهو يخبره فيه بما جرى على الإسلام. ثم قال فى كتابه: «متى أنجدتنا وخلصت الإسلام، كان لك مع ثواب الله-عز وجل-ثلث خراج مصر، يحمل إلى خزانتك فى كل سنة، بعهد من الله وميثاقه، خارجا عن نفقة جيوشك فى هذه الكرة». ثم إن العاضد دخل إلى قصره، وقطع شعور النساء والبنات والصبيان، وحمله فى مخالى، وسيره إلى نور الدين الشهيد، وذلك لعظم ما جرى على الإسلام من الملاعين الفرنج. ثم كتب فى أثناء كتابه يقول: «وا غوثاه! وا غوثاه! وا غوثاه! إلحق دين الإسلام! أدرك أمة محمد عليه السلام! يا نور الدين! يا نور الدين! يا نور الدين!» قلت: هكذا رأيت نسخة هذا الكتاب إلى نور الدين، لم أزد فيه حرفا.

فلما وصل الكتاب إلى نور الدين بكى، وكان عظيم النخوة للإسلام، رحمه الله. وأرسل إلى أسد الدين شير كوه-وكان مقيما بحمص-وفتح له الخزائن، وأطلق له الأموال، وأمره بسرعة المسير. وتوجه [أسد الدين] إلى الديار المصرية، وعبر من البرية على طريق البدرية إلى مصر، وعدة جيشه عشرة آلاف فارس شجعان، أقيال، معتادين للحرب والطعن والنزال. قال صاحب التاريخ: وأمره نور الدين أن يصحب معه صلاح الدين، فكره صلاح الدين التوجه. قال صاحب التاريخ: قال صلاح الدين «لقد كان أمرنى نور الدين بالمسير إلى الديار المصرية، وكنت كارها لذلك. فلما فتح الله علىّ بالبلاد، قلت صدق الله العظيم {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ»}. فلما قرب أسد الدين السويس، بلغ الفرنج مجيئهم، فرحلوا عن القاهرة. وقيل بل كانوا على بلبيس، فرحل الملك مرّى، ونزل على سمنود. وكانت ليلة رحيله ليلة وصول أسد الدين شيركوه إلى القاهرة، فدقت لهم البشائر. وكان عند المسلمين يوما عظيما كونهم فكّوا من الأسر. وأما الملك مرى-لعنه الله-فإنه جهز مائتى قنطارية وخمسين قنطارية، وألفى رجل، ليأخذ قليوب، فحشد المسلمون، وخرجوا إليهم، والتقوا بهم على دجوة، فكشوهم من غير أن يجرى بينهم قتال. ثم إن الملعون جرد ثلاثمائة قنطارية وثلاثة آلاف رجل إلى جزيرة إبيار، فنهبوا وسبوا وقتلوا. وجاءت

المسلمون إلى الطرانة، وعملوا جسرا من الطرانة إلى الجزيرة، وعدوا إليهم، فانكسرت المسلمون. فلما كان بعد الظهر جاءت عرب من البحيرة وجماعة من القبائل وعرب من الفيوم، ومن الصعيد، وقالوا: «وا إسلاماه» وحملوا حملة واحدة، فانكسرت الملاعين، وأخذهم السيف من الظهر إلى ثانى يوم الظهر، وقتلت سائر خيالاتهم. ولم يعد منهم إلى الملك مرّى غير اثنى عشر نفرا من الخيالة؛ والرجالة قتلوا عن بكرة أبيهم. ثم إن الملعون مرّى رحل من على سمنود، ونزل اسكندرية، وقال لأهلها: «سلموا إلىّ هذا البلد وأنا أحط عنكم المكوس، وأوسعكم عدلا». فقالوا: «معاذ الله أن نسلم الإسلام للكفر». هذا وشاور يراسل مرّى ويهاديه، ويظهر له الود والنصح، ويقول: «الفرنج ولا أسد الدين شير كوه». وعاد الملك مرّى نازل على الإسكندرية من الجانب الغربى، والمراكب تحمل إليه جميع ما يحتاجه. وكان الوالى يوم ذاك بالإسكندرية نجم الدين ابن فضل، والقاضى بها ابن الخشاب، والمحتسب الضياء بن عوف، والناظر الرشيد ابن الزبير، فجمعوا القبائل، وحصنوا البلد. ثم إن أسد الدين شيركوه تجهز وطلب الإسكندرية، ونزل عليها من الجانب الشرقى. ثم التقى الجمعان على الإسكندرية، ولم يجر بينهما قتال. ومشى الرسل بينهم فى الصلح، فاصطلحوا. ورحل الملك مرّى إلى الشام فى البر. وتوجه أسد الدين إلى القاهرة، فأخلع عليه العاضد، وعلى سائر من معه، ونزل على ظاهر القاهرة بمسجد التبن. وفيها كانت الوقعة بين نور الدين الشهيد وبين الفرنج على حارم، وكسرهم

نور الدين كسرة عظيمة، وقتل منهم ما لا يحصى كثرة، وأسر منهم ثلاثين ألف نفرا، وأخذ جميع ملوكهم، وتسلّم حارم وبانياس. وكانت الفرنج فى خلق عظيم، فيهم القمص صاحب أنطاكية، والبرنس صاحب طرابلس، وابن جوسلين. فلما التقى الجمعان، صعد نور الدين على تل عال، وشاهد من الفرنج ما هاله وأذهله من كثرتهم، فترك القتال وانفرد عن العسكر، وصلى ركعتين، ومرّغ وجهه على الأرض وهو يقول: «يا سيدى! الجيش جيشك! والدين دينك! ومن هو محمود! افعل أنت ما تريد». هذا والفرنج قد حملوا على المسلمين حملة منكرة. وكانت الحملة على الميمنة، وفيها عسكر حلب، فاندفعوا بين أيديهم، فنزل إليهم نور الدين وقد كشف رأسه، وصاح: «وا إسلاماه! العودة! العودة! بارك الله فيكم». فكأنما أوقع الله تعالى صوته فى آذان سائر الجيش، فكرّوا على الفرنج كرة رجل واحد، فتقهقرت الفرنج لها الخيالة منهم، فوقع السيف فى الرجالة، فحصدوهم حصدا. فلما رأى الخيالة ذلك، ولوا منهزمين، فأخذهم السيف من كل مكان، ولم ينج منهم إلا صاحب الفرس السابق. واستأسر منهم عدة ما قد ذكرناه، فأخذ عنهم الفداء، فكان جملته ستمائة ألف وستون ألف ذهب عين. فكان نور الدين بعد ذلك يحلف أن جميع ما بناه من البيمارستان والمدارس وجميع وقوفاتهم من ذلك الفداء.

ذكر سنة ستين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ستين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وخمسة عشر أصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة عشر أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين. وبنو سلجوق الحكام، وأمرهم فى هذه السنة راجع منهم إلى السلطان ألب رسلان السلجوقى. والعاضد صاحب مصر، والوزير شاور إلى أن قتل فى هذه السنة، على ما ذكر صاحب تاريخ سير النيل المصرى. وذلك أن أسد الدين شير كوه كان فى قلبه من شاور دخول عظيمة، لما كان قد أسلفه من الإساءات، حسبما تقدم من ذكر ذلك. ونظر إلى ديار مصر فوجدها ليس بها مانع ولا دافع غير شاور، فاستشار صلاح الدين واتفقا على تدبير الحيلة على قتل شاور. وكان أسد الدين مبرزا على مسجد التبن، وادعى أنه مريض وشارف على الموت، وأنه يقصد الاجتماع بشاور ليتفق معه على عود العساكر إلى الشام، ويستوثق منه بالأيمان أن لا يغدر بجيوش الإسلام ويكاتب عليهم الفرنج كما فعل من قبل. فلم يثق شاور حتى نفذ حكيما يثق به لينظر صحة ما ادعاه أسد الدين. فلما أتى الحكيم خلا به صلاح الدين، وقال له: «يا حكيم! أنت تعلم أن أهل مصر عادوا فى قبضة الفرنج متى شاءوا، مادام هذا الوزير شاور. وقد رأيتم يا أهل مصر ما حل بكم من الفرنج، ونحن إن عدنا إلى الشام بعيد علينا أن نرجع إليكم، والمصلحة أن تتفق معنا على صلاح أحوال أهل بلدك. وهذه ألف دينار استعن بها. وعهد الله وميثاقه أن تكون عندنا العزيز المكرم،

بخلاف ما أنت عليه الآن، وتحتال معنا على حضور شاور إلينا. وههنا شخص من أصحابنا على خطة الموت، انظره وخبر عنه إذا حلفت». قال: فلما عاد الحكيم، وعرّف شاور بأنه عاينه على التلف، وثق شاور، وطمع فى جيشه، وركب وأتى إليه، فوثب عليه جرديك وبرغش -موليا نور الدين-فقتلاه بإشارة صلاح الدين لهما فى ذلك. وقيل إن أول من بسط يده بالقبض عليه صلاح الدين، وأن شاور لم يقتل فى الساعة الراهنة حتى حضر توقيع من العاضد على يد خادم خاص بقتل شاور، وإنفاذ رأسه، ففعل به. ثم خرجت الخلع بالوزارة لأسد الدين شيركوه، ونعته العاضد بالملك المنصور. فكانت مدة وزارته ثمانية أشهر، وتوفى إلى رحمة الله تعالى. وولى صلاح الدين الوزارة، ونعته العاضد بالملك الناصر. وكان سبب موت أسد الدين أنه كان يحب أكل اللحوم الغليظة، مثل لحوم البقر والخيل والنعام وما أشبه ذلك، فلحقه من ذلك خانوق حتى قتله. وكان صلاح الدين فى مبتداه قليل المال والرجال، صاحب أكل وشرب وطرب، فلما فتح الله عليه بالملك تاب عن جميع ذلك. وظن العاضد أن الأمر لا يستقيم له بعد أسد الدين، لما كان يعلمه منه، فأبى الله إلا أن يملكه الأرض، ويفتح على يديه الفتوحات. وكان ذلك فى سنة أربع وستين وخمسمائة، وإنما ذكر تلاوة على النسق.

وتوفى أسد الدين شيركوه يوم الأربعاء الثانى والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة، كما يأتى من ذكر تمليك صلاح الدين فى تاريخه إن شاء الله تعالى. وفيها توفى الوزير عون الدين بن هبيرة، رحمه الله.

ذكر سنة إحدى وستين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة إحدى وستين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ستة أذرع ونصف أصبع، ومبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنان وعشرون أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين، وبنو سلجوق قد زال ملكهم من العراق، والعاضد خليفة مصر، وشاور الوزير. وفيها كانت عودة أسد الدين شير كوه إلى مصر، وخرج من طريق البدرية، ونزل أطفيح بجيوشه سادس ربيع الآخر. ورحل من أطفيح وعدى، وخيّم بالجيزة نيفا وخمسين يوما. واستنجد شاور بالفرنج حسبما ذكرناه. وتوجه أسد الدين عائدا إلى الشام. وقيل إن هذا جميعه كان فى سنة اثنين وستين وخمسمائة؛ وهو الصحيح.

ذكر سنتى اثنى وثلاث وستين وخمسمائة النيل المبارك فى هاتين السنتين

ذكر سنتى اثنى وثلاث وستين وخمسمائة النيل المبارك فى هاتين السنتين الماء القديم-سنة اثنى-أربعة أذرع وأربعة وعشرون أصبعا، والزيادة سبعة عشر ذراعا واثنان وعشرون أصبعا. وفى سنة ثلاث-خمسة أذرع ونصف أصبع، الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون أصبعا. وفى سنة ثلاث وستين خرج زين الدين على كوجك من نيابة الموصل. وكان هو صاحب الأمر بها من قبل سيف الدين غازى بن أتابك زنكى. وكانت مدينة إربل قاعدة بيته وأولاده وكانت أيضا بيده شهرزور وجميع القلاع التى بها، مثل العمادية، وتكريت وسنجار وحران، فأصابه طرش فى أذنيه، وكف بصره، ففارق الموصل، وسلم جميع الممالك لقطب الدين مودود بن زنكى، وانتقل إلى إربل، فتوفى بها فى بقية هذه السنة. وقام بالبيت ولده زين الدين، حسبما يأتى من ذكره، إن شاء الله تعالى. ثم لم تزل مع زين الدين إلى أيام السلطان صلاح الدين، فتوفى زين الدين، وقام بالأمر مظفر الدين كوكبورى أخوه إلى سنة ثلاثين وستمائة.

ذكر سنة أربع وستين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة أربع وستين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا فقط. ما لخص من الحوادث الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين. وبنو سلجوق الحكام على بلاد العجم والروم. والعاضد صاحب القصر [فى مصر]. وشاور الوزير، إلى أن قتل فى هذه السنة على يد صلاح الدين بإشارة أسد الدين، يوم الأربعاء سابع ربيع الآخر. ووزر أسد الدين الديار المصرية، حسبما تقدم من ذكر ذلك. قلت: وللفقيه عمارة اليمنى -الشاعر الموصوف-فى شاور عدة مدائح، فمن جملتها يقول: ضجر الحديد من الحديد وشاور … من نصر دين محمد لم يضجر حلف الزمان ليأتين بمثله … حنثت يمينك يا زمان فكفر وفى هذه السنة كان الحريق بمصر، وأحرق الجامع العتيق. وكان سببه النصارى، لما أنكى فيهم الحاكم من منعهم ركوب الخيل والبغال، وتعليق الصلبان الخشب الثقال فى حلوقهم، وبناية المساجد والمآذن على كنائسهم، وهدم منها عدة. فتجمعوا فى الباطن، واتفقوا على حريق الجامع، والآدر الكبار المتعينة، والأرباع، فكان حريق عظيم ما شهد مثله. وقيل إن سبب تذكر النصارى هذا الأمر بعد طول هذه المدة، أنه تولى عليهم فى هذه السنة بطركا يعظمونه عندهم، فحثّهم على ذلك ففعلوه، حتى مسك منهم جماعة، وقطعت أيديهم وأرجلهم. وقصد صلاح الدين استئصال النصارى واليهود جملة كافية، فلم يقدر على ذلك كونه كان فى أول مبتدأ

أمره ووزارته، ولكل قادم دهشة. وذلك أن أسد الدين لم يقم فى الوزارة غير أربعة أشهر، وقيل ثمانية أشهر على اختلاف الرواة فى ذلك، وتوفى إلى رحمة الله تعالى فى تاريخ ما تقدم، ووزر صلاح الدين، حسبما تقدم أيضا، واستمر حاله. ولما توفى أسد الدين وقام بالأمر صلاح الدين عمل عماد الدين الكاتب [قصيدة] رثى فيها أسد الدين، وهنأ بصلاح الدين، أولها منها: ما بعد يومك للمعنّى المدنف … غير العويل وحسرة المتأسّف ما أجرأ الحدثان كيف عدا على الأ … سد الهصور عدا، ولم يتوقف لا نستطيع سوى الدعاء فكلنا … إلا بما فى الوسع غير مكلّف وفى سنة أربع وستين ملك نور الدين قلعة جعبر أخذها من صاحبها شهاب الدين مالك العقيلى. وكانت بنو كلب قد استأسروه، وأتوا به نور الدين، فلم يزل يلطف به وعوضه عنها عدة بلاد، حتى سلمها لنور الدين. وكانت قلعة جعبر لم تزل فى يد هؤلاء القوم من حين سلمها لهم جلال الدولة ملكشاه، لما أخذها من صاحبها جعبر، وكان شيخا أعمى [من بنى قشير يقال له جعبر بن مالك]، وله ولدان كانا يقطعان الطريق ويخيفان السبيل فقتلهما وسلم القلعة للعقيليين فلم تزل فى أيديهم إلى هذه السنة، فأخذها نور الدين من صاحبها المذكور حسبما ذكر.

ذكر سنة خمس وستين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة خمس وستين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وثمانية عشر إصبعا، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة أصابع. [ما لخص من الحوادث] الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين، ونوابه ووزراء الحكام فى الأرض بالممالك الخليفتية. والعاضد صاحب القصر. والملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب مدبر الممالك بالديار المصرية وما معها. وفيها وصلت الفرنج-خذلهم الله-إلى ثغر دمياط، مستهل صفر، فى عدد عظيم، فبادر إليهم صلاح الدين بتقى الدين عمر ابن أخيه، وشهاب [الدين] خاله، فى جماعة من الأمراء والجند والعساكر. وكانت الفرنج-لعنهم الله-قد ضايقوا الثغر مضايقة عظيمة، حتى أشرفوا على أخذه، فخذلهم الله عز وجل، ووقع فيهم وباء ومرض، حتى لا عاد منهم من يطيق يقف على قدميه. وبادرتهم العساكر مع الأمراء والملوك المذكورين، فرحل الملاعين صاغرين عن الثغر، فى الحادى والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة. وفيها بنى صلاح الدين السور الدائر بالقاهرة ومصر المحروستين، وذلك خوفا من نور الدين الشهيد. ودور هذا السور تسعة عشر ألف ذراع وثلاثمائة ذراع وذراعين بالعمل؛ فما هو بالساحل وقلعة المقسم التى كانت على شاطئ النيل إلى الكوم الأحمر الذى بساحل مصر طول عشرة آلاف ذراع وخمسمائة ذراع؛

وما هو بين القلعة والمقسم وحائط القلعة بالجبل مجاور مسجد سعد الدولة ثمانية آلاف ذراعا وثلاثمائة واثنان وتسعون ذراعا؛ ومن جانب القلعة من مسجد سعد الدولة مقبل إلى الكوم الأحمر سبعة آلاف ذراع ومائتا وعشرة أذرع. وذلك بشاد بهاء الدين قراقوش، وهو الذى راك الديار المصرية، وهو أول روك كان بها. وسميت الدنانير القراقوشية كل دينار ثلاثة عشر وثلث. وذلك أنه قطع سعر القمح والشعير والفول فى غالب الأزمان وجمعه، فكانت جملة ثمن كل أردب ثلاثة عشر درهم وثلث، فسمى ذلك دينار جيشى. وأقطع البلاد على هذه الدنانير، فاستمرت إلى الآن. وفى أول هذه السنة جهز صلاح الدين أخاه الملك المعظم عيسى إلى اليمن، ففتحها وحصل على أموالها وحواصلها. وسبب ذلك أن صلاح الدين وأخاه المعظم كانا خائفين من الملك العادل نور الدين الشهيد، فاتفقا على أن يفتحا اليمن، فتكون لهما معقلا وحصنا، إن قوى عليهما نور الدين. وكانت إرادة الله لهما غير ذلك، حتى ملّكهما الأرض كلها. وكان صاحب اليمن قد قطع الخطبة عن ذكر الخلفاء وخطب لنفسه، ففتحها المعظم فى أول هذه السنة، وأقام بها شهورا يسيرة. واشتاق إلى أخيه صلاح الدين، فنفّذ رجلا من عقلاء قومه، وقال: «إن وجدت السلطان صلاح الدين يوما منشرحا فاطلب لى دستوره لزيارته». فلما وصل الرسول ومعه هدايا اليمن وطرفها عرف صلاح الدين ما قال أخوه، فأعجبه منه ذلك، وأنعم على الرسول، ونفذ يطلب المعظم، فحضر إليه. وفيها أبطل نور الدين الشهيد سائر المكوس بالشام، فكانت جملته خمسمائة

الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل محمود نور الدين الشهيد بن أتابك زنكى

ألف دينار وستة وثمانين ألف دينار. وكان نور الدين قد بنى البيمارستان بدمشق فى سنة اثنين وستين وخمسمائة. وكان فى سنة ثلاث قد قطع الفرات، واستولى على الجزيرة والرها، وعاد إلى منبج. وفى هذه السنة أوصى نور الدين-رحمه الله وبرّد ضريحه، وجعل الجنة مأواه-وعهد إلى ولده الملك الصالح إسماعيل. الملك الصالح إسماعيل بن الملك العادل محمود نور الدين الشهيد بن أتابك زنكى وباقى نسبه قد تقدم. ولما مات نور الدين-رحمه الله-تحركت الفرنج بكل أرض، وأقام الملك الصالح إسماعيل أياما قلائل، ثم رحل طالبا لحلب، فدخلها وقبض على أولاد الداية. وكان أولاد الداية أجلّ أصحاب الملك الناصر صلاح الدين. ونفذ قبل ذلك الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين إلى صلاح الدين يعزيه فى والده الملك العادل، ويأمره بالخطبة والسكة له، فامتثل ذلك على رغم منه. فلما قبض الصالح إسماعيل على أولاد الداية، وجد صلاح الدين للشر بينهما سبيلا، فجيش وخرج طالبا للشام بسبب الفرنج وتحريكهم. فلما بلغ الفرنج خروج صلاح الدين فى تلك العساكر الكثيفة، سكنوا عما هموا عليه. ثم إن صلاح الدين نزل على دمشق وأخذها-والملك الصالح بحلب-وسلمها لأخيه الملك المعظم عيسى. ثم توجه إلى حلب فحاصر الصالح أياما. ثم وقع الصلح أن تكون حلب خاصة وأعمالها للملك الصالح إسماعيل بن نور الدين، ويخرج عن سائر الشام. فلما تقرر ذلك عاد صلاح الدين إلى الديار المصرية. وكان قد جعل أخاه الملك العادل سيف الدين أبو بكر نائبا بها، فخرج وتلقاه بأهل مصر من خلف سويس، على طريق قلعة صدر، خوفا من الفرنج.

وفيها كانت زلزلة عظيمة بحلب وبعلبك ونواحيهما، وهلك فيها عالم عظيم. وانشق جبل لبنان المطل على بعلبك شقا لا يعرف له انتهاء. ودامت الزلازل شهرا، وربما كانت تزلزل فى اليوم والليلة عدة دفعات. وقيل إن جميع ما ذكرناه فى هذه السنة من وفاة نور الدين، وتمليك ولده الملك الصالح إسماعيل، وخروج السلطان صلاح الدين، وأخذه الشام من الملك الصالح إسماعيل، كان فى سنة سبع وستين، وهو الصحيح. وذلك أن نور الدين لم يمت حتى توفى العاضد صاحب القصر، ووفاة العاضد كانت فى سنة سبع وستين يوم عاشوراء، متفق على صحته. وفيها كانت فتنة السودان، وكانت فتنة عظيمة. وكان كبيرهم يسمى مؤتمن الدولة خصى. وكان متحكما فى القصر. ولما ثقلت وطأة صلاح الدين أجمع أهل القصر على مكاتبة الفرنج، فسيروا إليهم صحبة رجل جاء وجعلوه مخروزا فى نعله، فقبض عليه وأتى به إلى صلاح الدين، فعمل الحيلة حتى قتل ذلك الخصى فى قصر كان له. ثم ثاروا السودان وكان عدتهم نيف وخمسة آلاف نفر واصطلى بحربهم الأمير ابن أبى الهيجاء. وكانت الحرب بينهم فى بين القصرين يومين. وكانت لهم محلة عظيمة على باب زويلة تعرف بالمنصورية، فأرسل صلاح الدين إليها من أوقع فيها النار والحريق فى أموالهم وأولادهم. فلما بلغهم ذلك ولوا منهزمين، ثم أمّنوا بعد أن قتل منهم جماعة كثيرة. وفيها توفى قطب الدين [مودود] بن [زنكى] صاحب الموصل إلى رحمة الله تعالى. أوصى بالملك بعده لولده عماد الدين زنكى، سماه على اسم جده، فلم يتم أمره، واستقام الأمر لسيف الدين غازى أخوه، بتدبير فخر الدين عبد المسيح، فإنه كان قام بأمر النيابة بعد [زين الدين] على كوجك، فاتفق مع الخاتون ابنة حسام الدين

تمرتاش جدته، وقرر الأمر لغازى. وتوجه زنكى إلى عمه نور الدين مستنصرا به. وكان عمر قطب الدين لما توفى نحوا من أربعين سنة. ومدة ملكه الموصل إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر. ولما بلغ نور الدين استيلاء عبد المسيح على الأمور كره ذلك لكره منه له، فتوجه فى سنة ست [وستين وخمسمائة] إلى نحو الرقة، ثم نزل على سنجار وأخذها بعد حصار، وأعطاها لابن أخيه عماد الدين زنكى الذى حضر إليه منتظرا مستنصرا به. ثم توجه ودخل الموصل، واستقر غازى فيها نائبا عنه، وجعل بالقلعة سعد الدين كمشتكين، وقسم تركة قطب الدين بين يديه على الوجه الشرعى.

ذكر سنة ست وستين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ست وستين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم سبعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وتسعة عشر أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة المستنجد بالله أمير المؤمنين، إلى أن توفى فى هذه السنة. قتل ثامن ربيع الأول سنة ست وستين وخمسمائة-وهى هذه السنة-وله ثمان وأربعون سنة. وقيل إنه مات بالنقرس. وكان حسن السيرة، رفع المكوس فى أيامه ببغداد. وزيره شرف الدين أحمد بن محمد. والغالب على الأمور بنو سلجوق، حسبما تقدم من ذكرهم. نقش خاتمه لقبه. ذكر خلافة المستضئ بنور الله بن المستنجد بالله، وما لخص من سيرته هو أبو محمد الحسن بن يوسف بن محمد المقتفى لأمر الله، وباقى نسبه قد تقدم. أمه أم ولد، يقال لها بدور. مولده [فى] المحرم سنة ست وثلاثين وخمسمائة. بويع له عند موت أبيه، وأقام خليفة تسع سنين وثمانية أشهر، إلى أن توفى فى تاريخ ما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى.

السلطان الأجل صلاح الدنيا والدين يوسف الملك الناصر

وفيها والعاضد صاحب القصر لم يكن له أمر، وقد خلعه السلطان صلاح الدين بفتاوى الأئمة والفقهاء، حسبما تقدم من ذكر سببه. وفيها ولّى السلطان صلاح الدين القاضى صدر الدين أبو القاسم عبد الملك بن عيسى ابن درباس الحكم والقضاء بالديار المصرية وسائر أعمالها، وخلع عليه بما يليق بمثله. وفيها كان أول تملك: السلطان الأجلّ صلاح الدنيا والدين يوسف الملك الناصر هو أبو المعالى السلطان الملك الناصر صلاح الدنيا والدين، يوسف بن نجم الدين أيوب بن شاذى بن مروان، فاتح الفتوح، وقاتل كل كافر لحوح، معلى منار الإسلام، وحامى أمة النبى عليه السلام، مذل عبدة الأوثان، وخامد جمرة الكفر والطغيان، ومطهر البيت المقدس من رجس الشيطان، كاسر الصلبان، وراغم البطرك والقسيس والرهبان. متعه الله بالحور والولدان، فى عرصات الجنان، بكرمك يا رحمن! يا رحمن! يا رحمن! وفيها خرج السلطان صلاح الدين إلى الغزاة، وغار على الرملة وعسقلان، وعاد إلى القاهرة. وفيها خرج والتقى أهله لما قدموا من الشام، خوفا عليهم من العدو المخذول، ودخلوا إلى القاهرة سالمين. وفيها أخذ الأيلة وقلعتها، ثم خرج إلى الإسكندرية لتدبير أحوالها.

ذكر سنة سبع وستين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة سبع وستين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وسبعة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرون أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة المستضئ بنور الله أمير المؤمنين. وبنو سلجوق قد اختل نظامهم ببغداد، وعاد أمر الخلافة على ما كان عليه. وفيها توفى العاضد صاحب القصر، واختلف فى سبب وفاته اختلاف كثير؛ فمنهم من ذكر أنه مات حتف أنفه، ومنهم من ذكر أن السلطان صلاح الدين ضيّق عليه حتى سم نفسه فمات. ورأيت فى مسوداتى أن العاضد كانت عنده جلية السلطان صلاح، وأنه سبب زوال ملكهم. وكان عادة صلاح الدين أنه يأتى كل يوم إلى باب القصر، ويقبل العتبة، ويستأذن الزمام، فيأذن له. فقال العاضد للزمام: «إذا رأيته قد حضر ولم يقبل العتبة وجاز بغير إذن فعرفنى سرعة». فلما خلع صلاح الدين العاضد أتى ذلك اليوم ولم يقبل العتبة، وجاز بغير استئذان، فدخل الزمام وعرف العاضد ذلك. وكان فى يده خاتم بفص فامتصه، فغاصت نفسه، والله أعلم. وكان السلطان صلاح الدين-لما خلعه بمقتضى الفتاوى الشرعية المقدم ذكرها- خطب لبنى العباس فى أول جمعة من هذه السنة، بمصر. وفى الجمعة الثانية فى القاهرة وسائر الأعمال المصرية. ثم نفذ بذلك إلى سائر البلاد الشامية، والخليفة يومئذ المستضئ بنور الله. وفيها خطب أيضا لنور الدين محمود صاحب دمشق. واستولى السلطان صلاح الدين على جميع ما فى القصر من الذخائر والأموال، وحمل لنور الدين صاحب الشام حملا من أموال القصر وذخائره وجواهره وتحفه، فكان ذلك بجملة كبيرة. وفى جملة الهدية الحمارة العتّابيّة والفيل والزرافة.

وفيها بطل الأذان بحى على خير العمل، وعاد إلى ما كان عليه أولا، واستمر إلى الآن، أدامه الله إلى يوم الدين. وفى ذلك يقول عرقلة الدمشقى: أصبح الملك بعد آل علىّ … مشرقا بالملوك من آل شاذى وغدا الشرق يحسد الغرب للقو … م، ومصر تزهو على بغداد وما حووها إلا بعزم وحزم … وصليل الفولاذ فى الفولاذ لا كفرعون والعزيز، ومن كا … ن بها كالخصيب والأستاذ وفيها وصل الريدكور صاحب صقلية إلى الإسكندرية وقصد أخذ الديار المصرية. وكان معه جمع عظيم، وصحبته ستين طريدة تحمل الخيول، ومائتى وخمسين شينى، فى كل شينى ثلاثمائة مقاتل. وكان السلطان صلاح الدين قد خرج إلى الشام، وهو على غزة، فأخذ من غزة إلى الإسكندرية فى أربعة عشر مرحلة، مغدى ومعشى؟؟؟. والتقى الجمعان على الإسكندرية، وجاءت الأمداد من كل جهة. وكانت وقعة عظيمة، نصر الله فيها الإسلام، وأيد أمة النبى عليه السلام. وهرب الفرنج وملكهم الريدكور، وفى أرقابهم سيف كل بطل من المسلمين مذكور. وغنم المسلمون غنيمة جليلة. وهذه الوقعة تعرف بوقعة الريدكور. وفيها اختلاف بين سنتى سبع وتسع، والله أعلم أيهما كانت. والذى يقارب الصحيح أن ذلك فى سنة تسع وستين وخمسمائة.

ذكر سنة ثمان وستين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثمان وستين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة المستضئ بنور الله أمير المؤمنين، والخطبة يومئذ له بسائر بلاد الإسلام. وانقطعت الدولة الفاطمية إلى الآن، وعاد الحق إلى نصابه، والأمر إلى صوابه. وقيل إن نور الدين الشهيد فى هذه السنة صاحب دمشق بحاله، وأن وفاته فى سنة تسع وستين. وفيها أمر السلطان بقتل جميع السودان بالديار المصرية وسائر أعمالها. وفيها توفى نجم الدين أيوب، والد السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى، ثامن عشر ذى الحجة من هذه السنة. وفيها وجه السلطان أخاه فخر الدين توران شاه إلى بلاد النوبة، وفتح قلعة يقال لها بريم، وعاد ومعه جماعة من أهلها. وفيها خرج السلطان صلاح الدين إلى غزاة الكرك. ذكر منازلة الكرك وسببه كان السلطان صلاح الدين-رحمه الله-قد اصطلح مع الإبرنز صاحب الكرك. وكان يعطى الإفرنج شيئا كثيرا لا يعلم له قيمة، ويصانعهم فيما بينه وبينهم، ويجتهد بكتمان ذلك، لا يسمع عنه أنه يصانع عن نفسه وبلاده.

ووقع الصلح بينهم إلى وقت معين، بشرط أن المسافرين يسافروا والقفول لا تنقطع، والتجار لا تتعوق من الشام إلى مصر، والخفر على الإفرنج. فاتفق أن صاحب الكرك شرب ذات ليلة وسكر، وأمر الخيالة أن تنزل تقطع الطريق على المسافرين من المسلمين، فركبت الخيالة ومعهم الرجالة، ونزلوا، فأخذوا خلقا كثيرا من التجار والتركمان والفقراء والمسافرين. فلما بلغ السلطان صلاح الدين ذلك عظم عليه، وأنذر لله-عز وجل-إن ظفره الله تعالى بصاحب الكرك ذبحه بيده، تقربا إلى الله بدمه، وأن يجعل حجارة قلعته على الأرض. ثم نفذ إلى سائر ملوك الإسلام، يحثهم على الغزاة، فجاءه الناس من كل فج عميق. وقدح زند الحرب، وانتدب للطعن والضرب. وخرج بنية صادقة، وقلوب على النزاة موافقة. ثم إنه نزل على الكرك، وأمر بقطع الأشجار، وأقام عليها شهرين متتابعين، ورتب عليها النقوب والزحوف، ونصب المناجنيق. وعبرت الناس تحت النقوب، وخاسفهم الفرنج، وقتل فى ذلك اليوم خلق كثير من الفئتين. وكان الملك المعظم عيسى بدمشق، حسبما سقناه من أخباره، فحضر بعساكر الشام. وكذلك قدمت الجيوش من عند صاحب الموصل سيف الدين غازى بن مودود. وجاءت سائر ملوك الإسلام. ثم إن السلطان صلاح الدين جدد من الجيوش على طبرية مع أخيه فخر الدين توران شاه. ثم قدم بنفسه، وفتحها الله تعالى على يديه، بعد ذلك مع قلعة حطين، التى مجاورة الطور. فلما بلغ ملوك الفرنج اجتماع كلمة ملوك الإسلام، انتحوا للدين الذى لهم، وقالوا: «لا بد من الموت، فموتنا فى هذه الأرض المقدسة خير لنا من غيرها». وتكاتبوا، وأتتهم النجدة من كل أرض وجزيرة، واجتمعوا مائة ألف واثنى عشر ألف،

ما بين فارس وراجل، ورفعوا صليب الصلبوت يزعمهم؛ وهى قطعة خشب يدعون أنها من الخشبة التى صلب عليها المشبه بعيسى بن مريم، صلوات الله على عيسى وسلامه. ثم توجهوا بجموعهم إلى نحو السلطان صلاح الدين ليمنعونه عن طبرية وأخذها. فلما بلغ السلطان صلاح الدين ذلك جد فى سيره، وقحم خيله، حتى سبقهم إليها بيوم واحد، ونزل عليها. ثم التقى الجمعان على السطح بطبرية، وذلك يوم الجمعة الرابع والعشرين من جمادى الآخر. وحاز بينهم الليل، فباتوا على مصافهم فى سلاحهم، متوجهين إلى الله عز وجل، مستهلين له بالدعاء والتضرع، يسألوه-جل وعز-أن ينصرهم على أعدائه. فلما كان عند الصباح التقى الفريقان بأرض لوبيه. ولم يزل السيف يعمل، والرجال تقتل، ونار الحرب تشعل، إلى الليل. ولم يحجز بينهم إلا الليل. وقد حازت المسلمون الماء بأرض الجزيرة إلى الصباح. وثار الحرب بينهم، وقد اشتد بالملاعين العطش، وقوى عليهم الحر، وأوقع الله فى قلوبهم الرعب، فاشتد خوفهم. فلما كان وقت الظهر انهزمت منهم طائفة ثم تبعتها أخرى. وركب المسلمون ظهورهم قتلا وأسرا، فلم ينج منهم إلا من تعلق بجبل أو أدرك حصنا من حصونهم. وهرب القمص ونجا، واحتاط المسلمون ببقية ملوكهم، وهم صاحب الكرك المقدم ذكره، وأرناط صاحب القدس الشريف،

وجفرى صاحب صقلية، وأولى صاحب جبيل، وابن صاحب اسكندرونه، وامجل صاحب مرقيّة، وفروخ صاحب بيروت. وهؤلاء الذين ذكرناهم كان كل واحد منهم عسكره نظير عسكر السلطان صلاح الدين وأزيد، وإنما نصره الله تعالى عليهم، لما علم صدق نيته فى محبة جهاد أعدائه. وأسر من الديوية والاسبتار والبنادقة والبارومية خلق عظيم. وقتل من الفرنج ما لا يحصى كثرة. وهذه الوقعة التى ذلت بها ملوك الفرنج لصلاح الدين. قال ابن واصل وهو القاضى جمال الدين قاضى قضاة حماه فى تاريخه، المسمى «مفرج الكروب فى أخبار ملوك بنى أيوب»: إن هذه الواقعة كانت فى سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة، بعد رجوع السلطان من بلاد الشرق. وأقول إنه الصحيح؛ فإن صاحب التاريخ-أعنى أبو المظفر جمال الدين يوسف-الذى نقلت منه هذا التاريخ فى أخبار بنى أيوب، كان إذا ذكر واقعة، استمر على ذكرها هل يكون فى سنيها أو غير سنيها. والقاضى جمال الدين بن واصل حرر تاريخ السنين، فالرجوع إليه فى وقائع السنين أولى من غيره. والعهدة فى جميع ما أذكره على نسخ الأصل. ولعل ما آفة الأخبار إلا رواتها. ثم ضرب الدهليز السلطانى الصلاحى، وجلس السلطان صلاح الدين، وأجلس بين يديه ملوك الفرنج على مراتبهم وأقدارهم، وأجلس صاحب الكرك أسفلهم، وكان أكبرهم قدرا. وسبب إهانته غدره ونكثه، حسبما تقدم من ذكر ذلك. ثم قال له السلطان صلاح الدين: «كيف رأيت صنع الله تعالى وعاقبة الغدر والنكث؟»

فأطرق إلى الأرض. ثم أمر به فكبل، ووثب السلطان فنحره بيده بين الملوك لوفاء نذره، فصلّب الجميع بأيديهم على وجوههم. ثم إنه أنفذهم إلى دمشق فى قيودهم، فاعتقلهم بها. قال ابن واصل فى تاريخه: سبب قتل البرنس صاحب الكرك وكيفيته أنه لما منّ الله تعالى بالنصر على الإسلام، أمر السلطان بالملوك، فأجلسهم فى الدهليز السلطانى، وجلس السلطان فى سرادقه، وأمر بإحضار البرنس، وأوقفه على غدره وقوله. وكان الملعون لما غدر بالقافلة التى أخذها، قال لهم: «قولوا لمحمدكم يخلصكم». فقال له السلطان: «ها أنا أنتصر لمحمد صلى الله عليه وسلم». ثم عرض عليه الإسلام، فأبى، فسلّ السلطان النمجاه وضربه فحل كتفه، وتمم عليه من حضر من المماليك، وسحب. فلما رآه الملك هنفرى ارتاع، وظن أنه سيكون ثانيه، فأحضره السلطان، وطيب قلبه، وقال: «إنما فعلت بهذا ما تراه لأنه تعدى طوره. وإنما الملوك لا تقتل الملوك». ثم إن السلطان أمر بقتل سائر الداوية والاسبتار، فقتلوا عن آخرهم. ثم إنه رحل إلى عسقلان، لما كان على المسلمين منها من الأذى ومنع الطرق بسببها، فإذا أخذت أمنت الطرق، وسافرت القوافل والتجار. وكانت هذه عسقلان أم تلك الديار، ومعقل عظيم من معاقل الفرنج. واجتمعت الفرنج عليها، وحاصرهم السلطان صلاح الدين، فلم يلتفتوا إلى ذلك لحصانة المكان، وكثرة رجاله، والمراكب تأتيهم بما يمتارون، فسير صلاح الدين أحضر ملوك الفرنج من دمشق، ونفذ إلى من بعسقلان يقول: «متى لم تسلمونا الحصن قتلت ملوككم». فلم يسمعوا ذلك، ولا رجعوا إليه، وردوا أنحس جواب. فاتكل على الله-عز وجل-وجدّ فى حصارهم، ونصب المناجنيق. فلما تحقق الملاعين أن لا بد له من الحصن وفتحه،

أرسلوا يقولوا: «سلّم إلينا ملوكنا ونحن نسلم الحصن إليك». فاتفق الحال على ذلك، وأن يسلموا إليه عسقلان وجميع حصونها، وهى: الزعقة، والعريش، والداروم، وغزة، والرملة، والنطرون، وبيت جبريل. فسلموا جميع ذلك بالأمان، وأطلق السلطان ملوكهم. وقيل إن فى هذه السنة كانت وقعة الريدكور صاحب صقلية المقدم ذكرها، والله أعلم. وفيها كسفت الشمس بعقدة الرأس، واستعرف منها النصف والثمن. وفيها قبض على جماعة من كبار المصريين، وهم: زين الدولة شبرام، والأعز العوريس، وضياء الدين بن كامل، والقاضى عبد الصمد، وعمارة اليمنى الشاعر، ومصطنع الملك، وقاضى القضاة ابن عبد القوى. وفيهم منجم نصرانى قال لهم: «أنتم تملكون من صلاح الدين بعد تسعين يوما». ونقل للسلطان ما اتفقوا عليه من مكاتبة الفرنج بالحضور، وأن يعيدوها فاطمية. فشنقوا بأجمعهم فى سوق الخيل. وفيها توفى فخر الدين داود صاحب حصن كيفا، وولى ولده نور الدين محمود.

ذكر سنة تسع وستين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة تسع وستين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة المستضئ بنور الله أمير المؤمنين. والسلطان صلاح الدين بالديار المصرية. ويقال إن فى هذه السنة مات نور الدين الشهيد، وأخذ السلطان صلاح الدين الشام، وملّكها لأخيه الملك المعظم عيسى، حسبما سقناه. وأن فيها كان القبض على الجماعة المذكورين وشنقهم. وفيها وصل أسطول صقلية إلى ثغر الإسكندرية، وأقاموا عليه أربعة أيام، وأقلعوا عنه مستهل المحرم سنة سبعين وخمسمائة. وفيها ظهر رجل مغربى بضيعة من أعمال دمشق-يقال لها مشغرى -ادعى النبوة-لعنه الله-وقلب رءوس خلق من الناس، وعصوا على أهل دمشق، فأرسل إليهم المعظم عسكرا، فلم يقدروا عليه-لوعارة بلدهم-وعادوا مجروحين. وفيها خرج السلطان صلاح الدين، وكسر عساكر الموصل على تل السلطان. وكان المواصلة أحد وعشرين ألف مقاتل. وفيها نزل الملك المظفر تقى الدين [عمر] بن شاهنشاه على طرابلس، والتقى مع البرنز صاحب طرابلس، وكانت وقعة عظيمة، قتل فيها من المسلمين شمس الدين ابن المقدم، وسيف الدين غازى بن المشطوب، وكانا من كبار الأمراء الناصرية.

قال ابن واصل: إن توجه الملك المعظم شمس الدولة أخو السلطان صلاح الدين إلى اليمن وفتحها، كان فى هذه السنة، أعنى سنة تسع وستين. وكان صاحب مدينة زبيد يسمى عبد النبى، فاستأسره المعظم، ومات فى أسره. وكذلك صاحب عدن، يسمى ياسر فأخذ أيضا ومات فى الأسر. واستناب بعدن الأمير عز الدين عثمان، وبزبيد سيف الدولة مبارك بن منقذ. وحصل المعظم على أموال عظيمة، ودفائن جليلة أظهرها لهم صاحبها عبد النبى بن محمد. وفيها توفى نور الدين-رحمه الله-يوم الأربعاء حادى عشر شوال من هذه السنة وهو الصحيح، بمرض الخوانيق فى مدة سبعة أيام. وكان عمره ثمان وخمسون سنة، مولده سنة أحد عشر وخمسمائة، حليته أسمر طويل، فى وجهه شعرات يسيرة، سيرته لا يدرك لها غاية فى الجودة.

ذكر سنة سبعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة سبعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وأحد وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا، وسبعة عشر أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة المستضئ بنور الله أمير المؤمنين. والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام بالديار المصرية والبلاد الشامية، والحجاز، واليمن، وبعض أطراف المغرب. وأخوه المعظم بدمشق. والصالح إسماعيل بن نور الدين الشهيد يومئذ صاحب حلب. والعادل سيف الدين أبو بكر ينوب عن أخيه السلطان بالديار المصرية، إذا غاب السلطان فى أسفاره. وفيها نافق الكنز بالصعيد، وقتل بعض أمراء السلطان، فتوجه الملك العادل نحوه إلى أسوان، وصحبته الأمير عز الدين موسك، والأمير حسام الدين أبو الهيجاء المعروف بالسمين مع جماعة من الأمراء، فلحقوه وقتلوه مع جماعة من أتباعه السودان. وفيها خرج السلطان إلى الشام، ونزل على حلب، وحاصرها، ورحل عنها، ولم يتسلمها. ووصل إلى السلطان الخلع من الإمام المستضئ بنور الله، وتقليد عظيم بمصر والشام. وفيها كان جراد عظيم، وغلاء ووباء، وهلك فيه عالم عظيم فى الشرق وأعماله. وفيها ادعى رجل النبوة، فطلبه السلطان، فهرب منه. وفى هذه السنة-أعنى سنة سبعين وخمسمائة-كانت الوقعة بين السلطان صلاح الدين وبين عسكر الموصل والحلبيين، وكسرهم كسرة شنيعة. وفيها ملك حماة

وولاها لخاله شهاب الدين محمود بن تكش الحارمى. وكذلك ملك حمص، وملّكها لابن عمه الملك القاهر ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه. وكانت قبل ذلك إقطاعا لأبيه شير كوه من أيام نور الدين رحمه الله، فملكها ناصر الدين [محمد] ثم ذريته من بعده، حسب ما نذكر منهم.

ذكر سنة إحدى وسبعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة إحدى وسبعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وستة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة المستضئ بنور الله أمير المؤمنين. والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام بالديار المصرية، وما معها. وفيها وقعت الهدنة بينه وبين الفرنج-خذلهم الله تعالى-مدة؛ وكانوا قبل ذلك قد وصلوا إلى داريا بظاهر دمشق، وأحرقوا الجامع، ورحلوا من يومهم. ثم وقعت الهدنة بعد ذلك. وفيها كسر السلطان صلاح الدين سيف الدين غازى بن مودود-صاحب الموصل-كسرة ثانية، ونهب عسكره. وفيها خرج صاحب خراسان الملقب بالمؤيد يريد خوارزم ليحاصرها، فظفر به وقتل، وطيف برأسه على رمح فى سائر تلك الأقاليم. وفيها فتح السلطان صلاح الدين حصن أعزاز، وحصن بزاعة. وفيها قفزت عليه وهو راكب الفداوية، وجرحوه، وسلم. فلما عوفى عاود النزول على حلب، فإنه بلغه أن صاحبها [هو] الذى أرسل إليه الفداوية. وفيها فتح صيدا.

ذكر سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وإحدى وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإحدى وعشرون أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة المستضئ بنور الله أمير المؤمنين. والسلطان صلاح الدين على حلب يحاصر صاحبها. ووقع فى هذه السنة الصلح مع صاحبها الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين الشهيد، وكذلك مع جماعة ملوك الموصل وديار بكر. وكان الصلح عاما. وعاد السلطان إلى ديار مصر، ودخل القاهرة يوم السبت السادس والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة. ثم خرج إلى ثغر الإسكندرية. وفيها توفى ألدكز أتابك سلطان. وتوفى السلطان أرسلان شاه بن طغرل بن محمد ابن ملكشاه. وفيها نزل الفرنج على حارم وحاصروها، وأقاموا عليها أربعة أشهر. فلما بلغ السلطان صلاح الدين، خرج إليهم، فاعترضه نهر الصافية، فازدحمت عليه العساكر والجمال والأثقال، فلم يشعروا إلا وقد دارت بهم الفرنج بالخيل والرجل. وكان الجيش متفرقا فلم يلو أحد على أحد، وقتل من المسلمين خلق كثير، وأسر خلق، وتفرقوا فى الضياع. وكان مقدّم الفرنج البرنز أرناط [صاحب الكرك]،

وكان قبل ذلك أسيرا عند المسلمين فى حلب، فأطلقه الحلبيون غيظا منهم على صلاح الدين. [ولم] ينكسر المسلمون قط كسرة أنحس من هذه الكسرة. وانهزم السلطان صلاح الدين على طريق البرية إلى مصر فى نفر قليل. قال ابن واصل: فى هذه السنة كان قدوم الملك المعظم شمس الدولة فخر الدين توران شاه من اليمن. واجتمع بالسلطان صلاح الدين على حماه وهو عائد إلى دمشق من حصار حلب. وأنه ملكه دمشق فى هذه السنة، أعنى سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة. وعاد السلطان إلى مصر.

ذكر سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأحد عشر أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة المستضئ بنور الله أمير المؤمنين. والسلطان صلاح الدين بمصر وقد خيم بفاقوس، ثم عاد من المخيم إلى القاهرة، ثم خرج طالبا للغزاة. وفيها كانت نوبة الرملة، وكسر السلطان، ورجع مكسورا. وفقد من العسكر خلق كثير، وقتل [شهاب الدين أحمد] ولد الملك المظفر تقى الدين، وفقد الفقيه عيسى وأخوه الظهير. ثم خرج السلطان بعد مدة شهرين إلى الشام. وترك العادل سيف الدين أبو بكر نائبا عنه بمصر. وفيها هبت ريح سوداء شديدة ببلاد القفجق، ووصلت إلى بلاد تفليس، ثم إلى همذان وأصبهان وأكثر بلاد كرمان، فأخربت البيوت، وقتلت البقر والغنم والخيل. وروى رجل فى دهستان زعم أنه كان بارحة ذلك اليوم فى بلاد الخزر، ومعه خيل يرعاها، فهبت الريح واحتملته، ورمت به فى دهستان، ولا يعلم أمره. ومن المسافتين خمسة عشر يوما. ذكر ذلك صاحب تاريخ بغداد.

ذكر سنة أربع وسبعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة أربع وسبعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وتسعة عشر أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة المستضئ بنور الله أمير المؤمنين. والسلطان صلاح الدين بمصر. وقيل فى هذه السنة كانت نوبة الرملة المقدم ذكرها. وفيها كان قران زحل والمريخ فى السرطان، وكانت فتن عظيمة بالشرق بين الملوك. وفيها فتح قصر يعقوب بالسيف عنوة. وفيها انكسرت الفرنج كسرة عظيمة، وأخذت أبطالهم أسرى. وقيل بل فى سنة خمس وسبعين وخمسمائة كانت كسرة الفرنج. وفيها توفى [سيف الدين] غازى بن مودود بن زنكى صاحب الموصل. وكانت مدته فى ملك الموصل ثلاث عشرة سنة.

وفيها بنى باب البحر الذى بالمقسم والسور المحاذى له.

ذكر سنة خمس وسبعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة خمس وسبعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وسبعة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة المستضئ بنور الله أمير المؤمنين، إلى أن توفى فى هذه السنة، مستهل شهر ذى القعدة. وزيره عضد الدين أبو الفرج. مدة خلافته تسع سنين وثمانية أشهر. صفته أسمر بحمرة، تام القامة. ذكر خلافة الإمام الناصر لدين الله ابن المستضئ بنور الله، وخبره هو أبو العباس بن أحمد الناصر لدين الله بن أبى محمد الحسن المستضئ بنور الله، وباقى نسبه قد تقدم. أمه أم ولد تدعى نرجس. بويع له يوم وفاة أبيه، رحمه الله. ولم يزل نافذ الأمر فى خلافته، مطاعا فى جميع أقطار الأرض بالممالك الإسلامية. وفى أيامه كان بدء خروج التتار على بلاد العجم. وجرى لهم مع السلجوقية ملوك العجم حروب ووقائع، وأهوال وعجائب، يشيب لهولها الأطفال. وسأذكر أول بدء شأن هؤلاء القوم وأصولهم الأصلية، وبلادهم الأولية. وأذكر أول أب لهم، المتولدين عنه، المسمى بقرا جكون برجكى باللسان المغلى، معناه بالعربى «فرخ السبع الأسود». وهو جد جد، جكزكان ترجى، ولعله لم يذكر فى تاريخ غيره.

وسأذكر الكتاب الذى نسخته منه وسبب تحصيله. وجميع ذلك أذكره عند أخذهم لبغداد، واستيلائهم على البلاد، ليكون الكلام سياقه يتلو بعضه بعضا، إن شاء الله تعالى. وكانت مدة خلافة الإمام الناصر سبع وأربعون سنة وأشهر. وهو الذى امتدحه كمال الدين بن النبيه بقصيدته، التى هى أول ديوانه، وأولها: بغداد مكتنا وأحمد أحمد … حجوا إلى تلك المناسك واسجدوا وهذا من التغالى الذى يخرج إلى الكفر. وكمال الدين-عفا الله عنه-من الشعراء المجدين، لو سلم فى شعره من التجاسر الذى لا يليق أن يذكر، كقوله أيضا فى قصيدته التى أولها: قمت ليل الصدود إلا قليلا … ثم رتلت ذكركم ترتيلا فهذا فيه إقدام على القرآن العظيم، ولا يجوز البتة، لما فيه من المعارضة. وابن النبيه المذكور مادح الملك الأشرف موسى، وله فيه نخب القصائد، فلو سلم مما ذكرناه لذكرناه. وديوانه أشهر من أن يذكر. وفى هذه السنة أنعم السلطان صلاح الدين ببعلبك على ابن أخيه عز الدين فرخشاه ابن شاهنشاه بن أيوب، ولقب الملك المنصور. ولم يزل مالكها إلى أن توفى فى حياة السلطان صلاح الدين، فصارت لولده الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه. فلم يزل مالكها حتى أخذها منه الملك الأشرف [مظفر الدين] موسى بن العادل الكبير سنة سبع وعشرين وستمائة. وفيها توجه الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بمرسوم السلطان من دمشق إلى الديار المصرية، وأنعم عليه السلطان بإسكندرية، فأقام بمصر إلى أن توفى فى تاريخ ما نذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر سنة ست وسبعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ست وسبعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة عشر أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، مدبر الأمور بنفسه، والأمور راجعة إلى حكمه، ليس عليه حجر من ملك من الملوك، ولا وزير من الوزراء. وبنو سلجوق يومئذ ملوك الشرق بكماله، وملكهم قد اتصل بالهند والصين وصحراء القفجاق، كما يأتى ذكرهم فى مكانه، مع ما تقدم من ذكر بدء شأنهم فى الجزء الذى قبله. والسلطان صلاح الدين ملك الديار المصرية، والحجازية، واليمنية، والشامية، وبلاد برقة. وبنو عبد المؤمن ملاك المغرب بكماله. وجزيرة الأندلس متفرقة الأجزاء والممالك، مع عدة ملوك، من حين انقطعت دولة الأمويين، حسبما ذكرناه فى الجزء المختص بذكر بنى أمية، وهو الجزء الثالث من هذا التاريخ. وفيها خرج السلطان صلاح الدين من الديار المصرية بنية الغزاة، وخلف أخاه الملك العادل نائبا عنه بالديار المصرية، وتوجه إلى ديار بكر وبلاد الأرمن، وفتح حصن المناقير من بلادهم. وفيها توفى الملك المعظم [شمس الدين توران شاه] أخو السلطان بثغر الإسكندرية، رحمه الله تعالى. وفيها وصلت رسل الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين من بغداد، وهما الإمام صدر الدين بن شيخ الشيوخ أبو القاسم عبد الرحيم، والأمير شهاب الدين

ابن بشير الخادم الناصرى، بالخلع والتقليد بمصر والشام، وما معهما؛ وذلك فى شعبان من هذه السنة. وفيها عاد السلطان صلاح الدين إلى الديار المصرية، وسلم الشام لابن أخيه الملك المنصور عز الدين فرخشاه. وفيها نافقت عرب سليم بالبحيرة، فخرج إليهم الأمير أبو الهيجاء، فكسرهم. وكان العرب فى ستين ألفا، وأبو الهيجاء فى ألفى فارس. وغنموا أموالهم وجمالهم، حتى أبيع كل خمس جمال بدينار، وكل خمسين رأس غنم بدينار. وفيها بنيت قلعة الجبل بالقاهرة المعزية. وفيها توفى الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين الشهيد. وفيها ولدت امرأة بمصر غرابا، وأحضر بين يدى السلطان صلاح الدين بحضرة القضاة. وكان من عجائب الدنيا، والله أعلم. قال ابن واصل: فى هذه السنة كانت وفاة سيف الدين غازى بن مودود بن زنكى. واستولى على ملك الموصل أخوه عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكى بن آقسنقر. وكانت وفاة غازى ثالث صفر من سنة ست وسبعين وخمسمائة.

ذكر سنة سبع وسبعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة سبع وسبعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة ثمانية عشرة ذراعا وخمسة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين. والسلطان صلاح الدين قد توجه إلى ثغر الإسكندرية. وفيها بلغ السلطان عن نواب الملك المعظم باليمن، وهما ابن الزنجبيلى والى عدن، وحطّان بن منقذ والى زبيد، أن وقع بينهما اختلاف كبير، أحدث إلى حرب، فخشى أن يفسد الأمر بينهما، فتخرج المملكة. فسيّر نائبا عنه إلى اليمن، وهو الأمير صارم الدين خطلبا، وكان والى مصر. ثم توجه سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب إلى بلاد اليمن، بعد سير الصارم والى مصر لقطع الفتن التى حدثت باليمن. وكان توجهه فى سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. ووصل إلى زبيد وملكها، وقبض على حطان، وأخذ منه أموالا عظيمة. وقال ابن واصل: إن من جملة ما أخذ له سبعين غلافا من غلف الزرد مملوءة ذهبا، وقوّم المأخوذ منه بألف ألف دينار عين مصرية.

وفيها تسلم عز الدين مسعود بن مودود قلعة حلب، بوصية من [الملك الصالح إسماعيل] بن نور الدين له. وفيها خرج الملك محمد الغورى إلى الهند، وعدة عسكره ثلاثمائة ألف وتسعون ألف سوى الرجالة، وكان فى صحبته أربعمائة فيل، ففتح الهند من الكفر. قال ابن واصل: لما خرج السلطان إلى الشام، وبرز من القاهرة، وخرجت الناس إلى وداعه، بينما هو فى سرادقه، والعلماء والفضلاء بين يديه، وكل منهم ينشد بيتا أو بيتين فى الوداع، إذ أخرج أحد مؤدبى أولاده رأسه، وأنشد مظهرا بذلك فضيلته لهذا البيت: تمتع من شميم عرار نجد … فما بعد العشيّة من عرار قال: فحمد نشاط السلطان، وانقبض انبساطه، وجعل الجماعة ينظرون بعضهم إلى بعض متعجبين، من سوء أدب المؤدب. وكأنه والله نطق بما هو كائن فى الغيب، فإن السلطان فارق الديار المصرية هذه النوبة، واشتغل بما سنذكره من الفتوحات والغزوات، وتمادى الحال إلى أن قضيت منيته بدمشق، ولم يعد بعدها إلى الديار المصرية. فكان الفال موكل بالمنطق. ثم سار السلطان متوجها إلى الشام لخمس مضين من المحرم سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. وفيها طلع الفرنج إلى أيلة، وعمروا مراكب وشوانى، وركبوا بحر القلزم، وقطعوا البحر، ونزلوا على عيذاب، وأخذوا عدة مراكب الكارم، وهى موسوقة بهارا وبضائع، وقتلوا من أهل عيذاب جماعة كثيرة، فإنهم لم يتحققوا أنهم فرنج، لأنهم لم يعهدوا هذا قط، ولا دخلت إليهم فرنج من طول الأعمار، سوى هذه النوبة. والفرنج الذين فعلوا هذه الفعلة من أصحاب البرنز [أرناط] صاحب الكرك. فلما بلغ السلطان ذلك أحضر أسطول المراكب من السويس، وعمر بها مراكب حربية فى أسرع وقت وأقربه، وشحنها بالرجال والعدد، وجعل المقدم عليهم

حسام الدين لؤلؤ. ثم رموا المراكب البحر من السويس، وقصدوا الملاعين الفرنج، فصادفوهم فى أرض الحوراء، فاقتتلوا قتالا شديدا، واحتاطت بهم المسلمون، وأخذوهم، وعادوا بأموالهم إلى عيذاب، ودخلوا بهم قوص، ثم إلى مصر. وكان دخولهم يوما عظيما. وفيها ظهر بالغربية من عمل المحلة بالديار المصرية، بقرية تسمى الكنيسة، عين ماء. وذكر بعض النصارى أنه رأى فى المنام أن هذه العين تبرئ من سائر العلل، فقصدها الناس من جميع الأقطار، وأقاموا عليها أياما، ولم يظهر لهم من ذلك أثر. وفيها سير السلطان صلاح الدين إلى اليمن سيف الإسلام طغتكين، وأن يكون نائبا بها، فاستقر بها حتى توفى، رحمه الله تعالى، فيما يأتى من خبره، إن شاء الله تعالى.

ذكر سنة ثمان وسبعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثمان وسبعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وأحد وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأصبعان. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، قائم الأمر، مستمر السلطان، نافذ الحكم فى أقطار الأرض. والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام بالديار المصرية وما معها. وفيها غزا السلطان طبرية، وبيسان، ثم توجه إلى الفرات، واجتمع بمظفر الدين. ودخل مظفر الدين تحت الطاعة. وكذلك وصل إليه رسول صاحب حصن كيفا -وهو نور الدين محمود بن قرا أرسلان-يسأل أن يكون تحت الطاعة، ويصير من الحاشية. وفيها توجه السلطان صلاح الدين إلى الرها وحران والرقة والخابور ونصيبين، وملكهم. وتوجه إلى الموصل وحاصرها، ولم يزل عليها حتى وصل إليه رسل الخليفة شافعين إليه بالإعفاء عنهم، فرحل عنهم. ثم توجه إلى سنجار وملكها. وفيها ملك سيف الإسلام [ظهير الدين طغتكين] اليمن، وقتل حطان ابن منقذ وأخذ جميع ماله، فكان من جملة ما وجد فى سلاح خاناته أربعمائة زردية ذهب عين أبريز. وهرب ابن الزنجبيلى بجميع ماله، ولحق بالسلطان صلاح الدين.

وفيها عدى أبو يعقوب بن عبد المؤمن ملك المغرب إلى جزيرة الأندلس، فنزل على شنترين يحاصرها، وكان عدة عسكره مائتى ألف وستين ألف، فخامر عليه وزيره ابن المالقى، فرحل عنها، ولم يبلغ أربا منها.

ذكر سنة تسع وسبعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة تسع وسبعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم سنة أذرع، وأحد وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأحد وعشرون أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين مستمر الملك، نافذ الأحكام. والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام بالديار المصرية وما معها، وهو بلاد الشرق. فيها فتح [السلطان صلاح الدين] آمد وملّكها لنور الدين محمد بن قرا أرسلان صاحب حصن كيفا. ثم عاود [صلاح الدين] النزول على حلب، وفتحها، وملكها فى صفر. وكان القاضى محيى الدين بن زكى الدين قاضى القضاة بدمشق، فكتب إلى السلطان صلاح الدين يهنيه بالفتح، بقصيدة من جملتها يقول: وفتحكم حلبا بالسيف فى صفر … مبشر بفتوح القدس فى رجب فكان الأمر كذلك. ومدح السلطان صلاح الدين القاضى السعيد بن سناء الملك، بقصيدة يقول فى أولها: بدولة الترك عزّت ملّة العرب … وبابن أيوب ذلّت شيعة الصلب وفى زمان ابن أيوب غدت حلب … من أرض مصر وعادت مصر من حلب ولابن أيوب دانت كل مملكة … بالصفح والصّلح أو بالحرب والحرب مظفّر النصر مبعوث بهمته … إلى العزائم مدلول على الغلب والدهر بالقدر المحتوم يخدمه … والأرض بالخلق والأفلاك بالشّهب وتجتلى الخلق من راياته همما … مبيضّة النصر مصفرّة العذب

ومنها: بك العواصم طابت بعد ما خبثت … بمالكيها ولولا أنت لم تطب فليت كل صباح در شارقة … فذا ليل فتى الفتيان فى حلب ولما فتح السلطان حلب طلبها منه أخوه الملك العادل، فأحضره من ديار مصر، وسلمها له، فلم تزل فى يده إلى سنة ثمانين، فخرج عنها وسلمها للملك الظاهر، حسبما نذكر. وملك السلطان فى هذه السنة حارم، وعاد إلى دمشق مؤيدا بالنصر، وقد عاد ملك العصر. واستدعى الملك العادل سيف الدين أبو بكر من الديار المصرية، وملكه حلب. ونفذ الملك المظفر تقى الدين عمر ابن أخيه إلى مصر نائبها بها عنه. وفيها ظهر بقرية من قرى ديار مصر تعرف ببوصير السدر بيت هرمس الثانى، ووجدوا فيه أشياء كثيرة، من جملتها كباش وضفادع معادن مصنوعة، وقوارير دهنج، وفلوس نحاس فيها فضة، وأصنام من نحاس، وموتى عدة خمسة آلاف نفر-رجال ونساء-وأكفانهم سالمة لم تبل. وسفى السافى على الباقى فلم يصلوا إليه. وفيها عزم السلطان على فتح القدس الشريف، فإنه لم يبق بالوجه القبلى من البلاد بأيدى الفرنج غيره وعكا وصيدا، وقليل من بلاد الساحل، فاهتم لفتحهم غاية الاهتمام، كما يأتى من شرح ذلك.

وفيها توفى تاج الملوك بورى بن أيوب، أخى السلطان صلاح الدين. وكان جرى على حلب فتوفى منه فى ثالث وعشرين صفر من هذه السنة، رحمه الله تعالى. وكان عمره اثنتين وعشرين سنة. وكان فاضلا، أديبا، شاعرا، وله ديوان شعر، فمن ذلك فى ذكر الصوم على سبيل المداعبة، يقول: رمضان بل مرضان، إلا أنهم … أخطوا إذا فى قولهم وأساءوا مرضان فيه تخالفا، فنهاره … سلّ، ولكن ليله استسقاء

ذكر سنة ثمانين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثمانين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم سبعة أذرع وثلاثة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثلاثة عشر أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، نافذ الأحكام، مطاع الأوامر. والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام بالديار المصرية وما معها. وفيها غزا السلطان الكرك من دمشق. وخرج إلى خدمته الملك المظفر تقى الدين بالعساكر المصرية. وعاد إلى دمشق، ثم رجع المظفر إلى مصر بجيوشه. وفيها فتح سيف الإسلام أكثر معاقل اليمن، وقوى بها سلطانه. وفيها وقع خلاف بين الأتراك والأكراد، وقتل بينهم خلق كثير. وفيها عدى السلطان صلاح الدين الفرات، ونزل الموصل وحاصرها، ووقع الصلح بينه وبين عز الدين صاحبها. وفيها توفى شاه أرمن صاحب أخلاط، ولم يخلف غير بنت واحدة، فقام بمملكة أخلاط مملوكه سيف الدين بكتمر. وتوفى قطب الدين صاحب ماردين، وكذلك توفى نور الدين بن فخر الدين صاحب آمد، رحمهم الله أجمعين. وفيها كان الخلاف من أهل ديار بكر والجزيرة. وكذلك كان الخلاف بين كثير من ملوك الدنيا فى هذه السنة من سائر الأجناس، وقتل خلائق لا تحصى. وفيها فتح السلطان صلاح الدين ميافارقين، وقتل عليها خلق كثير.

وفيها حكم المنجمون بأن يأتى هواء عظيم، ويهلك منه عالم عظيم، إلا من دخل المغائر، حتى أن قليج أرسلان صنع مغائر وسروب تحت الأرض، وسقفها بالأخشاب، وجعل فيها ما يحتاج إليه. وخرج هو وعياله وأهله وباتوا تلك الليلة التى زعم المنجمون أن يكون فيها ذلك الريح، فلم يجر شئ من ذلك. وفيها تسلم السلطان صلاح الدين شهرزور. وفيها خرج الملك العادل سيف الدين أبو بكر عن حلب، وتسلمها الملك الظاهر ابن أخيه، وتوجه العادل إلى مصر. وفيها فتح السلطان صلاح الدين صفد فى مدة أحد عشر يوما، ودكها دكا إلى الأرض، وامتدح بهذه القصيدة التى منها يقول: بجدك أعطاف القنا تتعطّف … وطرف الأعادى دون مجدك تطرف شهاب غدا فى ظلمة الشرك ثاقب … وسيف إذا ما هزه الله مرهف وقفت على حصن المخاض وإنه … لموقف صدق لا يوازيه موقف وما أشرقت أعلامك الصفر سحرة … إلى أن عادت أعلامها السود تكسف ولا ضربت كوسات نصرك ساعة … إلى أن غدت أكباد أعدائك ترجف كبا من أعاليها صليب وبيعة … وساد بها دين حنيف ومصحف نصحتكم يا أمة الكفر فاسمعوا … نصيحة من قد جاء بالله يحلف لقد قلت أنا ما لكم لا سمعتموا … دعوا بيت يعقوب فقد جاء يوسف

ذكر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم سبعة أذرع وتسعة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا فقط. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، بحاله. والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام بالديار المصرية وما معها. وفيها توجه إلى الموصل ووصل إليه معين الدين سنجر شاه صاحب الجزيرة، ودخل تحت الطاعة. ثم توجه إلى دياربكر، وتمكن من ذلك الجانب، ثم عاد إلى الموصل. وحصل الصلح بينه وبين المواصلة، وخطبوا له بالموصل. وفيها مرض السلطان مرضة خطرة، وعوفى ولله الحمد. وفيها وصل إليه رسل الخلافة بالخلع العظيمة، وتوقيع بإضافة ماردين مع حصن كيفا إليه. وأزيد فى التوقيع ألقابا تليق بمثل سلطانه. وفيها توفى الملك القاهر ناصر الدين محمد بن شير كوه صاحب حمص، ليلة عيد الأضحى من سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. وقام بمملكة حمص الملك المجاهد أسد الدين شير كوه ولد ناصر الدين محمد المتوفى، وذلك بإنعام السلطان صلاح الدين عليه بذلك. وعمره يومئذ اثنى عشر سنة. فلم يزل مالكا حمص وأعمالها إلى أن مات فى سنة سبع وثلاثين وستمائة. وكانت مدة ملكه نحوا من ست وخمسين سنة. وملك بعده ولده الملك المنصور إبراهيم، وتوفى فى دمشق سنة أربع وأربعين وستمائة. وملك بعده الملك الأشرف موسى بن إبراهيم، فأخذها منه الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غازى-صاحب حلب-فى سنة ست وأربعين

وستمائة. ولم يزل مالكها حتى [وطئت التتر البلاد وملكوها سنة ثمان وخمسين وستمائة، فأعادوا حمص إلى الملك الأشرف موسى بن الملك المنصور. ثم لما رجعت البلاد إلى المسلمين أقره عليها الملك الظاهر ركن الدين بيبرس. ثم توفى الملك الأشرف فى سنة اثنتين وستين وستمائة، وهو آخر من ملك حمص منهم].

ذكر سنة اثنين وثمانين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة اثنين وثمانين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ستة أذرع واثنى عشر أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأحد وعشرين أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام بالديار المصرية وما معها. وقد رجع إلى دمشق مظفرا منصورا. واستدعى ولده الأفضل-وهو الأكبر من ولده-وملّكه دمشق. واستدعى تقى الدين الملك المظفر من مصر. وملّك مصر لولده الملك العزيز، ونفذ معه عمه العادل لتدبير أحواله بها. وملّك حلب لولده الظاهر. قال ابن الأثير فى تاريخه: إن السبب الذى فعله السلطان فى سنة اثنتى وثمانين وخمسمائة من نقل الملك العادل أخيه عن حلب وتوليتها لولده الملك الظاهر، ونقل الملك المظفر عن مصر وتوليتها لولده الملك العزيز، أن السلطان لما مرض وعوفى، وسار إلى الشام، سايره يوما علم الدين سليمان بن جندر، فجرى بينهما حديث، فقال له سليمان: «يا خوند بأى رأى كنت تظن أن وصيتك تمضى وأن أمرك يقبل، كأنك كنت تظن أنك تمضى إلى الصيد، وترجع فلا يخالفوك. بالله أما تستحى أن يكون الطائر أهدى منك إلى المصلحة». فقال صلاح الدين وهو يتبسم من كلامه: «كيف ذلك؟». قال: «إذا أراد الطائر يعمل عشّا لفراخه قصد أعالى الشجر ليحمى فراخه. وأنت سلمت الحصون إلى أهلك، وجعلت أولادك على الأرض. هذه حلب مع أخيك العادل، وحماه بيد المظفر، وحمص بيد المجاهد. وأحد بنيك بمصر تحت حجر تقى الدين، يخرجه منها متى أحب». فقال: «والله صدقت فاكتم ما معك». ثم اهتم فى تمليك بيته، وكان أمر الله غير إرادته.

وفيها توجه قراقوش-مملوك تقى الدين-إلى بلاد المغرب، واستولى على بلاد القيروان، فالتقاه أبو يعقوب بن عبد المؤمن بظاهر مدينة تونس، فكسره قراقوش فى يوم الجمعة سادس عشر ربيع الأول، واستولى على البلاد، وخطب فى تونس مع سائر تلك النواحى للسلطان صلاح الدين. ثم إن أبا يعقوب حشد عالما عظيما وكرّ على قراقوش فكسره، ومضى هاربا إلى أشبيلية.

ذكر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثلاثة عشر أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام. وفيها كان فتح القدس الشريف وغيره. ذكر فتح القدس الشريف وذلك أن السلطان صلاح الدين لما تفرغ وجهه من بلاد الشرق كله، وأطاعته سائر ملوكه، أفرغ همته العلية، وفكرته الصالحة، إلى تطهير البيت المقدس من أرجاس الكفر، وخبث الفرنج. وكان ذلك إلهاما من الله عز وجل، وتأييدا للإسلام. وكان يومئذ بالقدس الشريف البطرك الكبير، الذى جميع أهل الصليب يعظمونه ويعتقدونه. وكان بها الباب ابن بارزان صاحب الرملة. وكان فيه خلق عظيم، لا يحصيهم إلا الله تعالى. فلما بلغهم قصد السلطان إليهم حشدوا وتجمعوا من كل فج عميق. وسيّر البطرك يستصرخ بملوك الإفرنج، ويحرم عليهم، ويقول لهم: «الموت عليكم بهذه الأرض المقدسة أخير لكم مما تسلمون بيت معبودكم». وبلغ السلطان ذلك فقال: «نعم نأخذه منهم بحول الله وقوته، ونخرب بيوتهم، ونكسر لاهوتهم، ونهدم القمامة التى يدعون أنها القيامة، محل صلاتهم وقبلة ضلالهم».

ثم نزل السلطان صلاح الدين بجيوشه، والنصر قد حفّه، والملائكة ترفرف بأجنحتها عليه، فى العشر الأول من شهر رجب الفرد من هذه السنة. ونصب عليها المناجنيق والعرادات، ووقع الزحف والقتال، واقتتلوا قتالا شديدا لم يعهد بمثله من قبله. فلما تعين للفرنج قلة النجاح، وأن المسلمين مستظهرين بالنصر والفلاح، وأن لا بد أن يكون عوض ناقوسهم «حىّ على الصلاة حىّ على الفلاح»، وأن أمائر النصر قد لاحت، وروائح الفتح قد فاحت، أجمعوا رأيهم فى طلب الأمان، ونفذوا بذلك رسولا إلى السلطان صلاح الدين، فامتنع من ذلك. وكان الفرنج لما ملكوا القدس الشريف من المسلمين قتلوا جميع من كان فيه من المسلمين، ولم يبقوا على رجل منهم، وكان ذلك فى سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، ونحروا أولاد المسلمين ونساءهم، ولم يبقوا فى حق المسلمين مجهودا من كل شر. فقال السلطان صلاح الدين: «ما نفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله لما ملكتموه». فأيقن الفرنج بالهلاك، فاجتمعوا وضربوا بينهم رأيا أجمعوا عليه. ثم إن الباب ابن بارزان سيّر طلب من السلطان أمانا لنفسه، وطلب الحضور بين يدى السلطان، فأنعم له بذلك، وأحضره، وأكرمه، وأجلسه بين يديه. فلما رأى الملعون إكرام السلطان له، طمّعته نفسه فى طلب الأمان لأهل الحصن، فصعب على السلطان ذلك، وقال: «ما بقى أمان لا لك ولا لهم-ونهره- ولا عدت أفعل بكم جميعكم إلا كما فعلتموه بأهله عند فتحكم له». فقال الباب: «حفظ الله السلطان، عندى جواب إن أمنتنى من العطب ذكرته بين يديك». فقال: «قل وأنت آمن». قال: «إن السلطان يعلم أن فى هذا الحصن خلق عظيم. وإنا لا نطلب الأمان خوفا من الموت، فإن الموت لنا فى هذه الأرض المقدسة خير من الحياة. وإنما شفقة منا على الأطفال والعيال. وقد اتفقنا على رأى، فعن إذن السلطان أقوله». قال:

«قل». قال: «يعلم السلطان-حفظه الله-إن اجتمع فى هذا الحصن من الفرسان والأبطال ما لم يجتمع فى غيره، وأنهم لا يفرون من الموت، ولا يرغبون فى الحياة. وأنا إذا حققنا الموت والله والله والله-كذا يحلف الملعون-لنقتلن كل أسير عندنا من المسلمين، ويكون ذلك فى ذمة السلطان. ثم نقتل بعد ذلك أولادنا ونساءنا، ونحرق جميع أموالنا وأمتعتنا، ولا نترك لنا درهم ولا دينار، ولا ندعكم تأسروا منا رجلا واحدا، ولا صبى واحد، ولا امرأة واحدة. وإذا فرغنا من ذلك أحرقنا الصخرة والمسجد الأقصى وغيرهما من الأماكن الشريفة عندكم. ولا نترك لنا دابة ولا مركوبا إلا أتلفناه. ثم نخرج إليكم عن يد واحدة، فنقاتلكم قتال الموت، وهو من يموت كريما، فلا يقتل الرجل منا حتى يقتل أمثاله. ولا نزال كذلك حتى نموت عن آخرنا، أو يفعل الله فينا حكمه. وأما قول السلطان إن الذين أخذوا القدس من الفرنج من قديم فعلوا ما فعلوا بالإسلام، فالقاتل والمقتول، والظالم والمظلوم، لهم إله يختصمون بين يديه. ولا يحل للسلطان أن يأخذنا نحن بذنوب غيرنا ممن سلف. وإن الذين كانوا فيه من المسلمين لو صبروا لكان خيرا لهم. وأما نحن فكما أنهيت من الحال بين يدى السلطان حفظه الله». فأمر السلطان صلاح الدين بخيمة فضربت له، وأنزل فيها، ثم طلب أكابر دولته، واستشارهم فيما قاله الباب، فقالوا: «بل الرأى أن يعطيهم السلطان الأمان، فهو خير مما ذكروه». فأمنهم السلطان، وتسلم البيت المقدس يوم الجمعة لثلاث بقين من شهر رجب من هذه السنة. وكان يوما مشهودا. ودخل السلطان صلاح الدين إلى الصخرة الشريفة المقدسة وهو فى غاية الفرح والسرور، إذ جعله الله تعالى فى هذا الفتح ثانى عمر بن الخطاب رضى الله عنه. وسيرت البشائر إلى سائر البلاد الإسلامية. وفى ذلك اليوم طلع القاضى محيى الدين بن القاضى زكى الدين، وخطب.

ذكر خطبة القاضى محيى الدين

ذكر خطبة القاضى محيى الدين {الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}». {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماااتِ وَالْأَرْضَ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ، ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}». {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً}». {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً، قَيِّماً}. . . الآية». {قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ، وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اِصْطَفى»}. {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماااتِ وَما فِي الْأَرْضِ}» الآية. {الْحَمْدُ لِلّهِ فاطِرِ السَّماااتِ وَالْأَرْضِ}» الآية. الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بكفره، ومصرف الأمور بأمره، ومديم النعم بشكره، ومستدرج الكافر بكفره. الذى قدر الأيام دولا، وجعل العاقبة للمتقين تفضلا، ورفض عبادة من ضله، وأظهر دينه على الدين كله. القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع. أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه، ونصرته لأنصاره، وتطهيره لبيت المقدس من أنجاس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره، وظاهر شكره.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، الواحد الأحد الفرد الصمد، الذى {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}، شهادة من طهّر بالتوحيد قلبه، ورضى به ربه. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، دافع الشرك، ورافع الإفك، الذى أسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر وما طغى. صلى الله عليه وعلى خليفته أبى بكر الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى عمر ابن الخطاب الذى أول من رفع عن هذا البيت شعائر الصلبان، وعلى عثمان بن عفان ذى النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين على بن أبى طالب مزيل الشرك ومكسر الأوثان، وعلى آله والتابعين لهم بإحسان. . .». ثم ذكر الإمام الناصر لدين الله، ودعا له وللسلطان صلاح الدين. وكانت صلاة جمعة ما رأى الناس مثلها، لما حصل للناس فيها من الخشوع الزائد، والسرور المتزايد. ومما لخص من الخطبة فصل فى الدعاء للسلطان: «اللهم وأدم سلطان عبدك الخاضع لهيبتك، الشاكر لنعمتك، المعترف بموهبتك، سيفك القاطع، وشهابك اللامع، والمحامى عن دينك الدافع، والذاب عن حرمك وحرم رسولك الممانع، السيد الأجل، والكهف الأظل، الملك الناصر، جامع كلمة الإيمان، وقامع عبدة الصلبان، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، مطهّر بيت المقدس، أبى المظفر يوسف صلاح الدين بن أيوب، محيى دولة أمير المؤمنين. اللهم عمّ بدوامه البسيطة، واجعل ملائكتك المقربين براياته محيطة، وأحسن عن الدين الحنيفى جزاءه، واشكر عن الملة المحمدية عزمه ومضاءه. اللهم أبق للإسلام والمسلمين مهجته، ووف للإيمان حوزته، وانشر فى المشارق والمغارب دعوته. اللهم كما فتحت به البيت المقدس، بعد ما ظنت به الظنون، وابتلى المؤمنون، فافتح على يديه دانى الأرض وأقاصيها، وملكه بكرمك وفضلك صياصى الكفر

ونواصيها، ولا يلقى منهم كتيبة بقوتك إلا مزقها، ولا جماعة بعزتك إلا فرقها، ولا طائفة بقهرك إلا ألحقها بمن سبقها. اللهم اشكر له عن محمد-صلى الله عليه وسلم-سعيه، وأنفذ فى المشارق والمغارب أمره ونهيه، وأصلح به اللهم برحمتك أوساط البلاد وأطرافها، وأرجاء الممالك وأكنافها. اللهم ذل به معاطس آناف الكفار، وأرغم به أنوف الفجار، وانشر ذوائب ملكه برحمتك على الأمصار، وأثبت سرايا جنوده فى سبيل الأقطار. اللهم ثبّت الملك فيه وفى عقبه إلى يوم الدين، واحفظه فى بنيه وبنى أبيه الملوك الكرام الميامين، واشدد عضده ببقائهم، واقض بإعزاز أوليائه وأوليائهم. اللهم وكما أجريت على يديه فى الإسلام هذه الحسنة التى تبقى على الأيام، وتتخلد على مرور الشهور والأعوام، فارزقه الملك الأبدى الذى لا ينفد فى دار المتقين، وأجب دعوته ودعاءه فى قوله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى االِدَيَّ، وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ، وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ»}. ونقل السلطان إلى البيت المقدس المنبر من حلب. وكان هذا المنبر قد أمر بعمله الملك العادل نور الدين الشهيد، لما كانت نفسه الزكية تحدثه أنه سيفتح القدس الشريف، فعمل هذا المنبر قبل فتح القدس الشريف بنيف وعشرين سنة. قال صاحب هذا النقل: وكانت الفرنج-لعنهم الله-قد بنوا على الصخرة المقدسة كنيسة، وقطعوا منها جملة كبيرة، وغيروا أوضاعها، وبنوا على حيطانها أشباه الخنازير، وعملوا بها مذبحا، وعينوا بها مواضع الرهبان، ومحط الإنجيل، وأفردوا فيها لموضع القدم قبة صغيرة، مدهونة، ما بين الأعمدة الرخام. فلما نظر السلطان صلاح الدين إلى ذلك عظم عليه، وأمر أن تمحى جميع تلك الآثار. وأزال عن الصخرة ذلك البناء، وأبرزها حتى ينظر إليها. ولم تكن قبل ذلك يظهر منها إلا قطعة يسيرة. وكان الفرنج قد قطعوا من الصخرة قطعة كبيرة، وسيروها إلى القسطنطينية،

وكذلك إلى صقلية، فكانوا يبيعون منها ملوك الفرنج وزنا بوزن من الذهب. وقيل إن بعض ملوك الفرنج خرج عن ملكه، وتولى خدمة ستارة الصخرة، إشفاقا عليها. وكان كل ملك يأتى إلى زيارة القدس يتقصد أن يأخذ منها قطعة، بحسب البركة. فلما بلغ السلطان صلاح الدين ذلك أمر الفقيه ضياء الدين الهكارى أن يكون أمينا عليها. ثم أدار عليها صفائح من حديد. ثم حضر الملك المظفر تقى الدين عمر، وأحضر صحبته أحمالا من دمشق مملوءة ماء ورد، وتولى غسل قبة الصخرة بنفسه. ثم أتى الملك الأفضل، وفعل كذلك. ثم رتب السلطان صلاح الدين فى جامع الأقصى من يقوم بوظائفه، ورتب فى قبة الصخرة إماما حسنا، وأوقف عليه وقفا جيدا. وحمل إلى الجامع الأقصى مصاحف وختمات وربعات منصوبة على كراسى، ورتب له أوقافا جليلة، وعمل دار البطرك رباطا للفقراء. وكانت قبور الفرنج من الديوية وغيرها مجاورة للصخرة، ونحو باب الرحمة، ولهم قباب معقودة، فأزالها السلطان صلاح الدين، ومحا آثارها، وأمر بغلق كنيسة قمامة. ثم إن بعض الملوك قال: «نعم الرأى هدمها، ونخرب القبور التى بجوارها». فقال بعض سراة الناس من العلماء-أظنه ابن شداد أو العماد الأصفهانى-: «إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب-رضى الله عنه-لما فتح بيت المقدس استقر بهذه الأماكن على ما كانت عليه، ولو شاء لفعل ذلك». فقال السلطان: «نحن متبعين لا مبتدعين». واستقر بالأشياء على حالها. وأن لا يغير إلا ما كان مستجدّا. فلما استقر الأمر كذلك، وردت عليه اللطائف التهانى بالقصائد من الفضلاء والأدباء والشعراء. فكان أول ذلك قصيدة الملك المظفر تقى الدين عمر:

دع مهجة المشتاق مع أهوائها … يا لائمى ما أنت من نصحائها جاءتك أرض القدس تخطب ناكحا … يا كفؤها ما العذر من عذرائها زفت إليك عروس خدر تنجلى … ما بين أعبدها وبين إمائها إيه فخذها عاتق بكر فقد … أضحت ملوك الأرض من رقبائها كم طالب لجمالها قد ردّه … عن نيلها أن ليس من أكفائها وهى طويلة، وهذا ملخصها. ومن شعر المظفر أيضا يخاطب عمه: أصلاح دين الله أمرك طاعة … فمر الزمان بما تشاء فيفعلا فكأنما الدنيا ببهجة حسنها … تحلا علىّ إذا رأيتك مقبلا وكان-رحمه الله-فاضلا، متأدبا، حسن الشعر. وكان أخوه عز الدين فرخشاه نظيره فى ذلك. وأتى بيت الملك المظفر جميعهم كذلك. وناهيك بولده الملك المنصور، وسيأتى من ذكره ما يؤيد القول إنشاء الله تعالى. وكان السلطان صلاح الدين يحب الملك المظفر تقى الدين أكثر من محبته لسائر أهله، لما كان قد خص به من الشهامة والنجابة والإقدام العظيم، ولفرط طاعته لعمه صلاح الدين. ولأنه كان ألصقهم إليه قرابة، لأن والد المظفر، ركن الدين شاهنشاه-رحمه الله-كان أخا صلاح الدين لأمه وأبيه؛ والملك العادل، وتاج الملوك، وسيف الإسلام، كانوا إخوته لأبيه فقط. وقتل ركن الدين شاهنشاه شهيدا على باب دمشق لما حاصرها الفرنج، ولم يدرك الدولة الأيوبية. ثم وردت قصيدة القاضى هبة الله بن سناء الملك، يقول: لست أدرى بأى فتح تهنّا … يا منيل الإسلام ما قد تمنّا أنهنّيك إذ تملكت شاما … أم نهنيك إذ تملّكت عدنا قد ملكت الجنان قصرا فقصرا … إذ فتحت الشآم حصنا فحصنا قمت فى ظلمة الكريهة شمسا … فالبدر لا شك يطلع وهنا

لم تقف قطّ فى المعارك إلا … كنت يا يوسف كيوسف حسنا قصدوا نحوك الأعادى فردّ … الله ما أملوه عنك وعنّا حملوا كالجبال عظما ولكن … جعلتها حملات خيلك عهنا جمعوا كيدهم وجاءوك أركانا … فمن هدّ فارسا هدّ ركنا فكل من يجعل الحديد له ثو … با وتاجا وطيلسانا وردنا خانهم ذلك السلاح فلا الرم‍ … -ح تثنى ولا المهند ظنا وتولت تلك الخيول ولم … يتأنى عليها أنها لا تتأنى وتصيّدتهم بحلقة صيد … تجمع الليث والغزال الأغنّا صنعت فيهم وليمة عرس … لعب المشرفىّ فيها وغنّى وحوى الأسر كل ملك يظن … الدهر يفنى وملكه ليس يفنى والمليك العظيم فيهم أسير … يتثنى فى أدهم يتثنى كم تمنّى الليالى حتى رآها … فتمنى أنه لا تمنى ظن ظنّا وكنت أصدق فى … الله يقينا وكان أكذب ظنا رقّ من رحمة له القيد … والغل عليه فكلما إن أنّ أنّا واللعين الإبرنز أصبح مذبوحا … يهنى أنه مات منا وتهادت عرائس المدن نخلا … وثمار الآمال منهن تجنى لا يخص الشآم منك سرور … كل ربع وكل أرض تهنا قد ملكت البلاد شرقا وغربا … وحويت الآفاق سهلا وحزنا وتفرّدت بالذى هو أسمى … وتوحدت بالذى هو أسنى فاغتدى الوصف فى علاك حسيرا … أى لفظ يقال أو أى معنى هذا ربنا الإله قال أطيعوه سمعنا لربنا وأطعنا

وفيه وصل إليه رسل الخليفة يهنئونه بما فتح الله على يديه. وفيها فتح عدة حصون، وهى: طبرية، والناصرة، وقيسارية، وصفورية، والطور، ونابلس، وحيفا، وصيدا، وبيروت، وعسقلان. ولم يبق فى هذه السنة بالساحل من حصون الفرنج غير عكا، فأخذها فى سنة أربع وثمانين وخمسمائة، كما يأتى من ذكرها فى تاريخها.

ذكر سنة أربع وثمانين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة أربع وثمانين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ستة أذرع واثنى عشر أصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين. والسلطان صلاح الدين، مشمر الذيل فى إخماد جمرة الكفر، وقد نازل عكا. فلما وصل إلى تل الفضول مضمرا على الزحف عليها، إذ خرج إليه كبير من كبرائهم، وطلب الأمان من السلطان، وتضرع بين يديه، والناس قيام ينظرون. فرقّ السلطان ورحمهم، وأمنهم على أنفسهم وأهاليهم وجميع أموالهم. وخيرهم بين الإقامة فيها تحت أمانه وسلطانه أو الخروج عنها، فاختاروا الرحيل عنها، فخرجوا. ودخل المسلمون إلى عكا يوم الجمعة ثانى جمادى الأولى من هذه السنة. وأخرج الأسرى من المسلمين، فكان عدتهم أربعة آلاف أسير. وسلم عكا لولده الملك الأفضل، وأنعم عليه بجميع ما فيها من أموال الفرنج وغلالهم، وحواصلهم. وكتب له بذلك توقيعا متوجا بعلامته الكريمة، يتضمن تملكها لولده بجميع نواحيها. وجعل الفقيه الهكارى أمينا بها من قبل الملك الأفضل. وكتب السلطان إلى أخيه الملك العادل بمصر يبشره بما فتح الله عز وجل عليه، ويأمره أن يخرج بالعساكر المصرية إلى بلاد الفرنج بالساحل من جهة الديار المصرية. فخرج الملك العادل، ونزل على مجد ليابا، وفتحها، وغنم ما فيها. وأحضر السلطان بهاء الدين قراقوش، وسلمه عكا نيابة عن ولده الملك الأفضل. وخرج السلطان صلاح الدين وتوجه إلى حصن كوكب.

وفيها فتح البلاد الشمالية، وهى: جبلة، واللاذقية، وصهيون، وحصن بكاس، وسرمانية، وحصن برزية، ودرب ساك، وبغراس. وفيها هادن السلطان لصاحب أنطاكية. وفيها فتح الكرك، وصفد، وكوكب، وسبسطية، ونابلس، وصفورية. وكان بنابلس خلق كثير فسألوا الإقامة بها فى مملكة السلطان، فأقرهم على أماكنهم وأملاكهم. ثم إنه كتب إلى الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، يبشره بما فتح الله عز وجل على الإسلام، كتابا أوله يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم {(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ}. . .) الآية {(أَنَّ الْأَرْضَ}. .) الآية». ثم كتب: «الحمد لله الذى أنجز لنا هذا الوعد، وعلى نصرته لهذا الدين من قبل ومن بعد، فجعل من بعد ذلك العسر يسرا، وقد أحدث الله من بعد ذلك أمرا، وهو الأمر الذى ما كان الإسلام يستطيع عليه صبرا، فآتانى الله ما جرى فى زمن الصحابة والأخرى، وأعتق الله ما كان من الأسارى بأيدى الكفار الأشرار، وأصبح جوار الإسلام وقد استدار، ورد من الكفر ما كان قد أشار. والحمد لله الذى أعاد ثوب الإسلام جديدا أبيضا نظره مخضرّا، بعد ما كان قد غلب عليه الكفر بهذه الديار حتى أعاده مغبرا. والحمد لله كما هو أهله، على اتساع ملك الإسلام واجتماع شمله. والمملوك يشرح من نبأ هذا الفتح العظيم، للنظر الكريم، ما يشرح به صدور المسلمين، وينتج الحبور لأمير المؤمنين. ويورد البشرى على ما أنعم الله به يوم الخميس الثالث والعشرين من ربيع الآخر إلى يوم الخميس الآخر، فذلك سبع ليال وثمانية أيام حسوما، سخرها الله على الكافرين، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، فهل ترى لهم من باقية، فإذا رأيت ثم رأيت والبلاد

خاوية على عروشها، ورايات الكفر خاشعة، ورايات الإسلام طالعة، وسناجق المؤمنين ببركات أميرهم عالية كاسية، وقد كانت من الكفر ناكية باكية. وأخذ الله أعداءه بأيدى أوليائه أخذ القرى وهى ظالمة. وفى ذلك اليوم فتحت عكا بالأمان، ورفعت عليها أعلام الإيمان. وهى أمّ البلاد، وأحب إلى الكفر من {إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ}. وقد أصدر المملوك هذه المطالعة وصليب الصلبوت مكسور، وقلب البرنز مرجوف مكسور، والفارس مجدول، والراجل مقتول، والملوك ممسوكة، والدماء مسفوكة. والذى كان يظن أن عكا حصينة، فقد خيب الله عز وجل ظنه، والذى كان بماء المعمودية معمودا يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا. وعاد كل من كان فى الحرب منهم ذا همة ويقظة، لا يقبل منه عن نفسه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة. وطبرية فقد هدمت أعلام الشرك من عليها، وعكا فقد خاب وخسر من التجأ إليها، وقد سبيت نساؤها الأحرار، وعادوا لنساء الإسلام خداما وجوار، وكذلك عادوا مماليكا أولادهم الصغار؛ بعد من قتل من آبائهم من كل فاجر وكافر، وصارت الكنائس مساجدا يعمرها من كان يؤمن بالله واليوم الآخر. وعادت البيع مواقفا لخطباء الإسلام على المنابر. وعمرها الله بالتوحيد وأهله، مكان كل مشرك وكافر. وأما فرسان الديوية والإسبتار، فقد عجل الله تعالى بأرواحهم إلى النار، وقد نزل بهم إلى أسفل الجحيم، مصفدين مقرنين مع الشيطان الرجيم، فليأخذ حظه من هذه البشرى مولانا أمير المؤمنين، فقد قطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين». وفيها وردت قصيدة الشريف النسابة محمد بن أسعد بن على بن معمر الحسينى نقيب الأشراف على السلطان صلاح الدين، يهنيه بما فتح الله على يديه يقول: أترى مناما ما بعينى أبصر … والقدس يفتح والصليب يكسّر وقمامة قمّت من الرجس الذى … بزواله وزوالها يتطهّر

ومليكه فى القيد مأسورا ولم … يرى قبل ذلك ملوك تؤسر قد جاء نصر الله والفتح الذى … وعد الرسول فسبحوا واستغفروا فتح الشآم وطهر القدس الذى … هو فى القيامة حيث قام المحشر من كان فتحه لنصرة أحمد … ماذا يقال له وماذا يذكر يا يوسف الصديق أنت لفتحها … فاروقها عمر الإمام الأطهر ولأنت عثمان الشريعة بعده … ولأنت فى نصر النبوة حيدر

ذكر سنة خمس وثمانين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة خمس وثمانين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وخمسة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنان وعشرون أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين. والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام بالديار المصرية وما معها. وفيها خطب لولى العهد-عدة الدنيا والدين-أبى نصر محمد بن الإمام الناصر لدين الله، بأمر والده، فخطب له فى سائر الممالك الإسلامية. وفيها كانت الوقعة العظمى مع الفرنج، وأخذت عكا، وقتل من كان بها فى سبيل الله تعالى. وهذه الوقعة التى لم يعهد بمثلها فى جاهلية ولاإسلام. ذكر الوقعة الكبرى على عكا وذلك أن السلطان صلاح الدين، لما فتح هذه الفتوحات العظام، وأذل الكفرة اللئام، وطهّر القدس من الأرجاس والآثام، وفتح عكا وهى كرسى مملكة الملاعين، وأخلاها من كل كافر لعين، أمر بتجديد سورها، وبناء ما تشعث من ديورها، وعمارة قصورها ودورها. وأمر الملك المظفر أن ينظف الساحل من جميع الفرنج، ففعل ذلك، ولم يبق فى الساحل حصن ولا معقل إلا وقد علاه الأذان، وسكنته حملة القرآن، وخلا من عبدة الصلبان. فعند ذلك تكاتبت ملوك الفرنج فيما بينهم، لما قد جرى على الكفر وأهله، والصليب وذله، فانتخوا لدينهم، وأجمعوا ذات بينهم، على اجتماع كلمتهم، والقيام فى نصرة ملتهم، فاجتمعوا برّا وبحرا، وسهلا ووعرا، واستصحبوا القساوسة والرهبان، والبطرك الكبير والديان، بعد ما طاف جميع

الجزائر والبلدان، على عبدة الصلبان، وصوروا بكفرهم صورة على أنها صورة المسيح عليه السلام، وأسالوا على وجه الصورة الدماء، وأقاموا صورة إعرابى، وقالوا هذا نبى المسلمين قد جرح المسيح، وأجرى دمه على وجهه، فانهضوا لنصرته، وخذوا بثأره. فلم يبق منهم ملك من الملوك، ولا غنى فيهم ولا صعلوك، إلا انتخى لمصابهم، وسمع لهم وأجابهم. أجمع أهل التاريخ ممن عنى بجمع أخبار العالم-رحمة الله عليهم-أن هذه الوقعة لم يسمع بمثلها من أول زمان وإلى ذلك التاريخ، فإن بلاد الروم خرجت عن بكرة أبيها، من سائر قلاعها ومدنها وحصونها، وأبذلوا الأموال للفرسان والرجال، وباعوا أنفسهم للمسيح. ووردوا من البر والبحر بالخيل والرجل، يقدمهم القسوس والرهبان، وقد لبسوا السواد. والبطرك قد حرم عليهم، وقالوا موتوا فى هذه الأرض المقدسة، فهو خير لكم. وكان السلطان صلاح الدين مخيما على شقيف أرنون، فلما بلغه ذلك من قصد الفرنج عكا فى هذه الجموع العظيمة، خشى عليها، وتوجه يقحم خيله ليسبق بالنزول عليها، وتبعته العساكر أولا فأولا، فلم يدرك عكا حتى سبقته الفرنج، ونزلوا عليها برّا وبحرا فى عدد لا يحصى، كأنهم الجراد المنتشر، وذلك لما أراده الله تعالى من سعادة المحصورين بها، وأن يكونوا من الشهداء الفائزين بجنات النعيم، وهو النعيم المقيم. وكان وصول الفرنج إلى عكا ونزولهم عليها رابع عشر شهر رجب من هذه السنة. ووصل السلطان خامس عشرة، فسبقوه بيوم واحد، لما يريده الله عز وجل. وتلاحق به العساكر ونزلوا يوم الجمعة على الخروبة. ونزلت الفرنج على عكا من كل جهة برا وبحرا. ونزل جيش السلطان صلاح الدين أول ميمنته بالنواقير بالبحر، وآخر ميسرته القيمون. وأمر الناس أن يثبوا للقتال وإشغال الفرنج عن لجاجة الحصار على عكا، فتقدمت الميسرة إلى طريق النهر الحلو، وآخر الميمنة مقابل تل العياضية، واحتاطت

عساكر الإسلام بالعدو المخذول، والفرنج الملاعين لا يشغلهم عن حصار عكا شاغل، بل مجتهدين غاية الاجتهاد. والمسلمون بعكا لم يغلقوا لها بابا، والسلطان صلاح الدين يناوشهم القتال من جهة القلب. ووصلت ملوك الإسلام، ووصل من الشرق مظفر الدين [كوكبورى] ابن زين الدين على كوجك. ووصل حسام الدين سنقر الأخلاطى. ولم يزل القتال كذلك بين الفئتين مناوشة إلى يوم الأربعاء، لتسع بقين من شهر شعبان، خرجوا الفرنج-خذلهم الله-فارسهم وراجلهم، وتحركوا حركة عظيمة، ارتجت لها الأرض، وبين أيديهم الإنجيل محمولا على يد البطرك، مستورا بثياب الأطلس. وركب السلطان صلاح الدين، فى جيوش الموحدين، ونادى مناديهم: «هيا يا أمة محمد المختار! عليكم بالكفرة الفجار! فهذا يوم وعد الله فيه الصابرين بالحور العين. أما ترضوا أن تبيعوا أنفسكم بالجنان، ومجاورة الرحمن، فى دار لا يحزن مقيمها، ولا يفنى نعيمها، ولا ينفد سرورها، ولا يبرح حبورها. يا خيل الله اركبى، وبالجنة أبشرى». قال: فركب الناس وقد أباعوا أنفسهم لله، وقد وثقوا بما وعدهم به الله فى كتابه العزيز العظيم، على لسان نبيه الكريم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وكان السلطان صلاح الدين فى القلب، وولده الملك الأفضل فى الميمنة، وولده الظافر فى الميسرة. وكان مما يلى القلب سيف الدين على بن أحمد المشطوب ملك الأكراد، فى خلق عظيم من المهرانية والهكارية وغيرهم. ومحاذيه مجاهد الدين برنقش مقدم عساكر سنجار، وخلق كثير من المماليك الترك. ولم يكن عليهم مقدما، فيذكر عن الفقيه الهكارى-أمين القدس المقدم ذكره-قال: «إن السلطان صلاح الدين شاهدته بعينى وهو يدور بنفسه على جيوش المسلمين، ويحرضهم على القتال، ويقول لهم إنى كأحدكم، فلا يطلب اليوم أحد منكم غير رضى ربه».

ثم التقى الجمعان، فبدرهم الملك المظفر بالجاليش، فتكاثروا عليه، وكان فى طرف الميمنة على البحر. فلما رأى السلطان ذلك خاف عليه، فحرك بنفسه نحوه. وكان المظفر قد تقهقر إلى ورائه قليلا، لما رأى من كثرتهم عليه. فلما رأى السلطان صلاح الدين ذلك حرك نحوه. فلما عاين الجيوش تأخر المظفر وتحريك صلاح الدين شوقا إليه، ظنوا أنها كسرة، فانهزم المسلمون. وكانت أهل الديار البكرية ليس لهم خبرة بقتال الفرنج، فولوا هاربين لا يلووا على شئ. ووصلت طائفة من الفرنج إلى مخيم السلطان، وجالوا حوله ساعة. وأما ميسرة المسلمين، فإنها ثبتت قليلا، وصار السلطان دائر بين العسكرين، ومعه القضاة، والفقهاء، والخطباء، وأكابر الأشراف، وهو يستوقف الناس، ويحضهم وهم لا يلوون. قال الفقيه الهكارى يحلف بالله أنه لم يبق مع السلطان سوى خمس نفر. وأما المنهزمون من المسلمين فإنهم وصلوا دمشق، وهم الميمنة. والميسرة وصلت طبرية. ثم اجتمع على السلطان الناس أرباب المروءات، فحمل على العدو بنفسه فى شرذمة يسيرة، فطرحوا من الفرنج جماعة جيدة. وجاء نصر الله والفتح، وأيّد الله الإسلام على عوائده الجميلة، فكان كما قال عز وجل: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصّابِرِينَ»}. فولى الفرنج منهزمين، فظنوا أن الجيوش تراجعت عليهم. وركبت تلك الفئة القليلة أكتافهم قتلا بالسيف، وضربا بالدبوس. وعاد الملك المظفر وكذلك جناح الميسرة. وتداعت الناس، وتراجعوا من كل مكان.

قال الفقيه الهكارى: إن السلطان لما رد على الفرنج، لم يكن معه من الناس ما يلحق الألفين فارس، وكان الفرنج فى أربعمائة ألف أو يزيدون. ولقد ذكر جماعة من المسلمين الكبار، ممن كان مع السلطان عند رجوعه على الفرنج؛ منهم الأمير سيف الدين غازى، وعز الدين القيمرى، وحسام الدين المهرانى المعروف بابن كردم قالوا وحلفوا-وهم أمناء القول صادقين اللهجة-أن كل واحد ممن كان مع السلطان قتل من الفرنج الثلاثين والأربعين والخمسين وأكثر، وأن الواحد منا كان إذا قرب مع مطلوبه من خيالة الفرنج ويرفع يده بسيفه ويريد ضرب عنقه ينظر إلى رأسه وقد طارت عن بدنه من قبل أن يصل إليه السيف. وهذا تأييد من الله عز وجل، ومما يدل على صحة القول أن الملائكة تقاتل مع الإسلام. قال: ولم يزل المسلمون فى أكتاف المشركين إلى أن تحصنوا بالأسوار التى كانوا صنعوها لهم، وعادوا يقاتلون من ورائها، فعند ذلك قال السلطان صلاح الدين: «الحمد لله الذى نصرنا حتى عادوا متحصنين بالأسوار». ثم رجع إلى دهليزه ومخيمه، ووقف أصحابه بين يديه وهم بالدماء مخضبين، فرحين بما من الله عز وجل عليهم، وبما يسره من نصرهم، وتذاكروا من استشهد منهم، وأخرجوهم من بين قتلى الفرنج، وصلوا عليهم، وواروهم بدمائهم التراب. ثم أمر السلطان بالانتقال من تلك المنزلة إلى منزلة تعرف بالخروبة، وكان ليس برأى جيد، فلو كان أقام مع مشيئة الله -عز وجل-لكان أصلح. وحسب السلطان حساب أن جيشه ضعف حاله، لما نهب لهم عند هزيمتهم، وأنهم تشتتوا فى البلاد. وخشى لأن تكبسهم الفرنج، فلا تقوم لهم بعدها قائمة، فتحول لهذا السبب، ليجتمع إليه العساكر ويعود المنهزم، ويتكامل الجيش. وكان ملك الفرنج الكبير يسمى الأنكتير مريضا على حظه، واشتغل الفرنج بمرضه، واشتغل السلطان صلاح الدين بتدبير أحوال جيوشه. هذا، والرسل تتردد منهم طول بقية هذه السنة.

وفيها توفى زين الدين يوسف بن زين الدين على كوجك صاحب إربل، فى الثامن والعشرين من شهر رمضان. وسير أخوه مظفر الدين يسأل السلطان أن يكون عوضا عن أخيه فى الخدمة، وأنه ينزل عن حران والرها وسميساط والموزر، وخدم بخمسين ألف دينار نقدا، فأجيب إلى ذلك، وأضيفت هذه البلاد-التى استرجعت-إلى الملك المظفر تقى الدين عمر صاحب حماه. وكتب لمظفر الدين بما سأل، وكتب إلى صاحب الموصل كتاب الوصية بمظفر الدين. واستقرت بيد الملك [المظفر] تقى الدين من البلاد ما نزل عنها مظفر الدين، مع ما بيده من ميافارقين. هذا ببلاد الشرق. وأما [ما كان بيد الملك المظفر فى] بلاد الشام، فحماه والمعرة وسلمية ومنبج وقلعة نجم وجبلة واللاذقية وبلا طنس وغيرها. وفى هذه السنة ولد الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين. ووصل إلى السلطان كتاب فاضلى بالبشارة ضمنه: «يقبل الأرض بين يدى مولانا الملك الناصر، دام رشاده وإرشاده، وزاد سعده وإسعاده، وكثرت أولياؤه وعبيده وأعداده، واشتد بأعضاده فيهم إعتضاده، وأنمى الله عدده حتى يقال هذا آدم الملوك وهذه أولاده. وينهى أن الله-وله الحمد-رزق الملك العزيز عز نصره ولدا، ذكرا، برّا، مباركا، زكيا، سويا، تقيا، نقيا، ذرية كريمة بعضها من بعض، من بيت شريف كادت ولاته تكون ولاة فى السماء، ومماليكه تكون ملوكا فى الأرض. وكان مقدمه الميمون ليلة الأحد، وهى من الجمعة أولى العدد، وبه وبآله يعز الله أهل الجمعة، ويذل أهل الأحد».

ذكر سنة ست وثمانين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ست وثمانين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وخمسة وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين مستمر الحكم، مطاع الأمر فى أقطار الأرض. والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام بالديار المصرية وما معها، وهو فى حرب الفرنج على عكا حسبما تقدم من الكلام فى السنة الخالية. وحصار عكا باق من جهة الملاعين. وكانوا قد بنوا أبرجة عظيمة بظاهر عكا، وعادوا يقاتلون أهلها من عليها. فلما كان ظهر يوم السبت ثامن عشر ربيع الأول من هذه السنة أحرقت أهل عكا تلك الأبرجة بالنفط. وعظم ذلك على الفرنج، كأنهم كانوا استظهروا عليهم بها. وفيها وصل إلى خدمة السلطان صلاح الدين جماعة من ملوك الإسلام، وهم: الملك العادل عماد الدين زنكى بن مودود، وابن أخيه معين الدين سنجر شاه، والملك السعيد علاء الدين صاحب الموصل، [وزين الدين يوسف] صاحب إربل. وكان فى ذلك حروب ومناوشات بين الفريقين، وقتل من الطائفتين خلق عظيم. هذا والرسل تتردد بينهم، وكل من الجمعين خائف من الآخر. وكان السلطان صلاح الدين رجلا مسلما، ساذج الباطن، مستسلم النية، كثير الدين، خال من المكر والخداع، صادق القول، عديم الكذب والسفه. وكان الفرنج يتحققون منه ذلك، فعادوا يشغلونه بالمراسلات والمواعيد الكاذبة، ويسوفوا به الأوقات إلى حين تعافى

ملكهم من علته، فعادوا وغدروا فى جميع ما قرروه بينهم، وجدّوا فى حصار عكا. وكان ذلك بعد مضى سنة ست وثمانين، ودخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة. وفيها وصل إلى أنطاكية ابن ملك ألمان نجدة للفرنج. وكان أبوه قد خرج من بلاده فى مائتى ألف مقاتل من أول سنة ست وثمانين. ووصلت الأخبار إلى السلطان بذلك، فضاق صدره لذلك. وعبروا على قسطنطينية، ولم يقدر ملك الروم على دفعهم. وكذلك دخلوا فى بلاد الروم بقونية، وحصل بين صاحب الروم وبينهم مصافا، فكسروه، وقتلوا شجعانه، وقالوا له: «لسنا نريد بلادك»، فهادنهم. وآخر الأمر، أن الله تعالى كفى شرهم، ورمى فيهم المرض والموت، وهلك طاغيتهم. وأوصى لولده، ولم يصل إلى أنطاكية إلا فى دون الخمسة آلاف من مائتى ألف، فهذا تأييد إلهى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.

ذكر سنة سبع وثمانين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة سبع وثمانين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأربعة عشر أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين. وبنو سلجوق بحالهم ببلاد العجم. والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام بالديار المصرية وما معها، وهو فى قتال الفرنج على عكا. والحصار باق، وقد ضعف حال المسلمين الذين بعكا، وقل جلدهم، ونفد صبرهم. فلما كان يوم الثلاثاء سابع جمادى الآخرة من هذه السنة نفّذ أهل عكا من المسلمين يقولون للسلطان: «نحن والله قد عجزنا عن القتال، وقد بلغنا غاية لا بعدها غاية، ولم يكن بقى لنا غير التسليم. ونحن نهار الغد نسلّم إليهم ونطلب الأمان إذا لم تفعلوا معنا شيئا يخلصنا مما نحن فيه». فكان ذلك أصعب شئ جرى على السلطان. قال الفقيه الهكارى راوى هذا الحديث: «والله لم يستطعم السلطان بطعام ذلك اليوم مع تلك الليلة». فلما كان صبيحة ذلك اليوم، ركب السلطان صلاح الدين فى سائر الجيوش، وقصد الفرنج، ووصل إلى حيث وقف بخنادقهم، وزحف حتى دخل بعضها، وهو كالوالدة الثكلى على ولدها، ويسير بين العساكر ويحثهم على القتال، وينادى: «يا للإسلام! يا لدين محمد عليه السلام!» وعينيه تذرفان بالدموع. ودام ذلك اليوم ولم يقدر المسلمون على شئ يفعلوه مع الفرنج. وسبب ذلك أن الرجال من الفرنج لبسوا العدد، ووقفوا فى سائر السور من خارجه ومن داخله، بالشروخ والزنارات، والنشاب. ثم إن الملاعين جدوا فى الحصار، وتمكنوا من الخنادق

فملكوها، ونقبوا أسوار البلد وحشوه خشبا وأحرقوه، فوقعت الباشورة وهى بدنة السور، فدخل الفرنج إليها وقتلوا من المسلمين جماعة، وقتل المسلمون من الفرنج خلقا عظيما من جملتهم ست ملوك، وقبضوا على أحد ملوكهم الكبار فى بعض الثقوب، فقال لهم: «لا تقتلونى وأبقونى أرحل عنكم الفرنج». فلم يرجعوا له وقتلوه. فلما بلغ الملاعين قتل ملكهم التزموا أنهم لا يبقوا فى عكا من يقول «لا إله إلا الله». ثم جدوا فى الزحف ثلاثة أيام جدا عظيما. كل ذلك حزنا على ملكهم. ثم إن السلطان صلاح الدين بعث إليهم سيف الدين المشطوب يطلب الصلح منهم. وفى جملة كلامه: «إنا نحن أخذنا منكم بلادا كثيرة وحصونا كثيرة وإنا لم ننزل على بلد ولا قلعة وطلبوا منا الأمان والصلح إلا أجبناهم لذلك. فافعلوا أنتم أيضا كذلك». فما كروا السلطان، وسيروا يطلبوا منه القاضى نجيب الدين المالكى ليقرروا أمر الصلح بينهم، وكان ذلك كله مكر منهم وخديعة، حتى يشغلوا السلطان عنهم، ويتمكنوا من أخذ البلد. فلما كان يوم الجمعة، وصل عوام من البلد بكتاب من أهل عكا يقولون: «أن قد ضاق الأمر، ولا بقى لنا خلاص، وقد طلب منا الفرنج مائتى ألف دينار، وألفى وخمسمائة أسير، وثلاثة آلاف ثوب أطلس، وصليب الصلبوت، على أننا نخرج بنفوسنا، لا سواها». فلما وقف السلطان على ذلك أنكره، وعظم عليه. فبينما هو كذلك إذ وقعت الضجة، ورفعت أعلام الشرك على أبراج البلد، وصرخ الملاعين صرخة واحدة تزلزلت لها الأرض. وكان ذلك يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة من هذه السنة. فعظم ذلك على المسلمين، وكثر قول: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم». وعن القاضى بهاء الدين بن شداد-صاحب سيرة السلطان صلاح الدين-قال: وصلت إلى السلطان صلاح الدين فى ذلك الوقت الذى أخذت فيه عكا، فوجدته يبكى بكاء عظيما، فجلست إليه، ثم ذكرته بما فتح الله عز وجل على يديه من بلاد

الكفر، وما قتل من رجالهم، فنظر إلىّ وهو مخنوق بعبرته، وقال: «كيف لى بخلاص المأسورين من أيدى المشركين؟». ثم أمر بالرحيل من تلك المنزلة إلى المنزلة الأولى [بشفرعم]. وجرد ألفى فارس فى مكانه لينظروا ما يكون من أمر البلد والمسلمين المأسورين. وكان فى جملة المأسورين بهاء الدين قراقوش الأسدى، الذى بنى سور القاهرة، وعمل الروك بالديار المصرية، فأفدى نفسه بجملة كبيرة. ثم إن الملاعين قتلوا سائر من كان بها من المسلمين، إلا من كان فى أجله تأخير. فلما كان نهار الخميس سلخ جمادى الآخرة، ركبوا الملاعين، خيلا ورجلا، واصطفوا ميمنة وميسرة، وتواقعوا مع يزك المسلمين، فأردف السلطان اليزك بعشرة آلاف فارس، فكسروا الملاعين، وتبعوهم إلى خندقهم. فلما كان ثامن رجب الفرد، حضر صحبة حسام الدين حسين بن باريك المهرانى فارسان من الفرنج من عند الملك الكبير ملك الفرنج، فقدموا بين يدى السلطان، وسألوه عن صليب الصلبوت الذى أخذه من بيت المقدس، وقالوا: «إن وجدناه تحدثنا فيما يعود نفعه على الطائفتين، ويكون فيه المصلحة» فأمر السلطان بإحضاره. فلما عاينوه، خروا له ساجدين على وجوههم، ومرغوا خدودهم على الأرض، ثم عادوا إلى ملكهم. ولما كان الحادى والعشرين من رجب، خرج الملك الأنكتير-لعنه الله-ومعه جماعة من الخيالة، وساروا نحو تل العياضية، ثم أحضروا جماعة من أسرى المسلمين، ممن كانوا بعكا وسلموا ذلك اليوم من القتل. فأراد الله لهم بالشهادة، وختم لهم بالسعادة، وأوقفوهم، وأرموا فيهم السيف. فلما نظر المسلمون بوارق السيوف، ساقوا نحوهم، ثم أعلموا السلطان بذلك، فركب، وركبت العساكر، وركب الفرنج بأجمعهم من عكا. والتقى الجمعان، وقتل بينهم خلق كثير. وكانت وقعة شديدة،

انكسرت الفرنج فيها كسرة عظيمة. وذكر أن عدة من كان بعكا من المسلمين ممن قتل سوى من نجا خمسة آلاف نفر وسبعمائة نفر. ولما كان نهار الأحد ثالث ذى القعدة رحل الفرنج إلى الرملة، وتوجهوا لبيت المقدس. ثم كان بينهم وبين المسلمين وقائع وحروب يشيب لهولها الطفل الوليد. ودخل الشتاء وقويت الأمطار إلى سبع بقين من ذى الحجة وصل السلطان صلاح الدين إلى القدس الشريف. ونزل بدار الأقساء مجاور كنيسة قمامة. وكان قد وصل فى ثالث ذى الحجة عسكر مصر مع أبى الهيجاء. فلما بلغ الفرنج ذلك تحولوا إلى النطرون. ثم كان بينهم وبين المسلمين-وهم اليزكية-وقعة. ثم كان بينهم وبين الأمير سابق الدين صاحب شيزر وقعة عظيمة، انكسرت فيها الفرنج كسرة شنيعة، وتسلقوا فى الجبال، وأخذت خيولهم. وحاصرهم المسلمون فى قلعة النطرون. ثم وصل عدة من الحجارين من عند صاحب الموصل بسبب تحصين خندق بيت المقدس. وعمل السلطان صلاح الدين بنفسه فيه، وكذلك سائر الملوك مع كافة الجيوش. وفى هذه السنة توفى القاضى شرف الدين بن عصرون قاضى القضاة بدمشق، وكان أوحد أهل زمانه فى الأربع مذاهب. وفيها ظهر بمصر رجل منجم يقال له ابن السنباطى، فأقلب رءوس السودان وقوم من المغاربة يقال لهم «المصامدة»، وقال لهم: «أنتم تملكوا الديار المصرية فى الليلة الفلانية بعد المغرب». فاستعدوا بقوارير نقط، واجتمعوا بحارة بر المدينة، وهى الهلالية، وشربوا المزور إلى بعد العشاء، دخلوا حمية واحدة من باب زويلة، وأخذوا ما قدروا عليه من العدد، وأتوا إلى خزانة البنود ليخرجوا من كان بها من المسجونين، وهم مع ذلك يصيحون: «يا آل على». وأتوا إلى السيوفيين، وكسروا الدكاكين،

وأخذوا السيوف والعدد. ثم ركب الأمير بدر الدين بن موسك بعسكره، فمسك الجميع، والمنجم، وقتلوا عن آخرهم. وفيها أخرب السلطان صلاح الدين عسقلان. وفيها توفى الملك المظفر تقى الدين عمر، وهو محاصر لملاذكرد، وذلك يوم الجمعة لإحدى عشر ليلة بقيت من شهر رمضان المعظم. وكان ولده الملك المنصور فى صحبته، فأخفى موته، وعاد به إلى مدينة حماه، فدفن بها. واستقر [الملك المنصور] بملكه-حماه وما معها. وخرج عنه ما كان بيد أبيه من بلاد الشرق، واستقر بها الملك العادل سيف الدين أبو بكر، حسبما نذكر من ذلك. وفيها توفى الشيخ نجم الدين الخبوشانى الشافعى، رحمة الله عليهما.

ذكر سنة ثمان وثمانين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثمان وثمانين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وثلاثة وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأحد عشر أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين نافذ الحكم، مطاع الأمر. والسلطان صلاح الدين سلطان الإسلام. واستولت الفرنج-خذلهم الله-على قلعة الداروم وهدموها، ورحلوا عنها. وفيها حصلت المهادنة والصلح بين السلطان صلاح الدين وبين الفرنج على شروط اشترطوها بينهم، وقطعوا المدة ثلاثة أشهر بعد ثلاث سنين، وقيل ثمانية أشهر. وفيها توفى الفقيه نجم الدين بن شرف الإسلام رحمه الله تعالى، وكان أوحد أهل زمانه فى الفتيا والفقه، وكان حنبلى المذهب. وتوفى موفق الدين خاله ابن القيسرانى وزير نور الدين بحلب. وتوفى قطب الدين بن العجمى بحلب، رحمهما الله تعالى. وفيها توفى السلطان عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان بن سليمان ابن قطلمش بن أرسلان السلجوقى سلطان الروم، وكان له نحو عشر بنين. وقد ولّى كل واحد منهم قطرا، وأكبرهم قطب الدين ملكشاه، وكانت له سيواس، فعمل على أبيه حتى خلعه من ملك قونية وملكها لنفسه، واعتقل أباه. ثم خلص من الاعتقال وتوصل إلى ابنه نور الدين سلطان شاه، فأكرمه، وعاد إلى ملكه، وتوفى فى هذا التاريخ. وملك بعده ولده غياث كيخسرو فى حديث طويل. ثم [غلب على غياث الدين أخوه] ركن الدين سليمان، وهرب غياث الدين إلى الشام مستجيرا

بالملك الظاهر صاحب حلب. ثم مات ركن الدين سنة ستمائة وملك ولده قلج أرسلان. ورجع غياث الدين فملك قونية، واستقرت السلطنة له حتى توفى، وملك بعده ابنه عز الدين كيكاوس، وكانت له حروب مع الملك الأشرف موسى بن العادل. ثم توفى [كيكاوس] وولى أخوه علاء الدين كيقباذ. ثم توفى [كيقباذ] سنة أربع وثلاثين وستمائة، وولى بعده ولده غياث الدين كيخسرو الذى كسره التتار كسرة عظيمة سنة إحدى وأربعين وستمائة، وتضعضع حينئذ ملك السلاطين السلجوقية ببلاد الروم وأعمالها، حسبما نذكر بعد ذلك إن شاء الله.

ذكر سنة تسع وثمانين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة تسع وثمانين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وثلاثة وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثمانية أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين مستمر الأحكام، مطاع الأوامر، فى سائر أقطار الأرض. والسلطان صلاح الدين إلى أن توفى فى هذه السنة إلى رحمة الله، ورحيب جنانه، بكرة يوم الأربعاء سابع عشرين شهر صفر من هذه السنة، بمدينة دمشق المحروسة. ذكر وفاة السلطان صلاح الدين رحمه الله كان السلطان صلاح الدين لما تفرغ قلبه من جهة الفرنج-خذلهم الله تعالى- قد عاد إلى دمشق وهو فى أسر الأحوال وأحسن الأمور، ورسل الملوك واردة عليه من كل جهة بالهدايا والتحف والمراسلات الحسان، وهو يجلس كل يوم للمظالم، وإسداء المكارم، وإنصاف المظلوم من الظالم. ثم خرج إلى الصيد شرقى دمشق فغاب خمسة أيام. وكان معه أخوه الملك العادل، فودعه من البرية وأمره بالمسير إلى الديار المصرية، وأوصاه بالملك العزيز. وعاد السلطان إلى دمشق، فحصل له توعك، ثم قوى. وعن القاضى بهاء الدين بن شداد قال: حضرت من القدس لما طلبنى السلطان على البريد. فلما مثلت بين يديه قربنى وأجلسنى، ثم قال لى: «من بالباب

جالسا؟». قلت: «الملك الأفضل ولدك، والناس وقوف بين يديه». فنهت ودمعت عيناه وقال: «أف للدنيا ماذا تغير من الأحباب على الأحباب». ثم قال: «اخرج إليهم وعرفهم بعض ما أنا فيه». وعن القاضى الفاضل قال: حضرت عند السلطان صلاح الدين فى مرضه، فأمر بطعام، فقدم وقد جلس الملك الأفضل فى دست أبيه، فقال لى: «يا قاضى اخرج وانظر الناس كيف هم بعدى». قال، فخرجت، فلما رأيت ولده مكانه، رجعت وقد عميت من البكاء، وكذلك بكى كل من حضر. وكان أشد يوم على الناس. ثم إن السلطان صلاح الدين ثقل فى المرض. وعن إمام الكلاسة قال: حضرت عند السلطان صلاح الدين لما أمرنى ولده الملك الأفضل أن ألقنه الشهادة، فوجدته قد غاب ذهنه، فقرأت {هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ}». قال فسمعته يقول: «نعم هو كذلك». قال الشيخ: فقلت فى نفسى هذه عناية من الله تعالى بهذا الرجل فى دنياه وآخرته. قال الشيخ: ثم قرأت -وقد غاب ذهنه أيضا-إلى أن انتهيت إلى قوله تعالى {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}». قال الشيخ: فرأيته وقد تبسم وتهلل وجهه، وفاضت نفسه، رحمه الله تعالى. وعن القاضى الفاضل قال: لما مات السلطان صلاح الدين-رحمه الله تعالى- حصرنا تركته، فوجدنا فى خزائنه أحد وأربعين درهم، ودينار واحد صورى. هذا كان ملكيته لنفسه فى ذلك الوقت. وتوفى وله من العمر سبع وخمسين سنة. وكان مولده سنة اثنين وثلاثين وخمسمائة بتكريت. وكانت مدة مملكته بالديار المصرية نحو أربع وعشرين سنة. وملك الشام بعد نور الدين وولده الصالح نحوا من تسع عشرة سنة.

ذكر عدة أولاده الملوك

أجمع الرواة أنهم لم يسمعوا ولا رووا عن ملك أسمح ولا أجود من السلطان صلاح الدين-رحمه الله-ولا أشجع نفسا، ولا أنصر لملة محمد صلى الله عليه وسلم. وفى ذلك يقول ابن أسعد الفقيه الشافعى من قصيدة امتدح بها السلطان صلاح الدين رحمه الله: وأبلج يستهين الموت يلقى … بصفحة وجهه بيض الصفاح جواد بالبلاد وما حوته … إذا جادوا بربّات اللقاح من النفر الذين إذا تجلوا … أعادوا الليل أجلى من صباح فمن حاتم وكعب وابن سعدى … رعاة الشاة والنعم المراح فللاّحين والراجين منه … أعز حمى وأكرم مستباح يفيض بطون راحهم نوالا … وتستلم الملوك ظهور راح ذكر عدة أولاده الملوك خلف سبع عشر ولدا ذكرا وبنت واحدة، وهم: الملك الأفضل نور الدين على، وكان أكبر ولده، وولىّ عهده، مولده بمصر يوم عيد الفطر سنة خمس وستين وخمسمائة. وكان يوم مات أبوه وولى الملك بدمشق عمره أربع وعشرين سنة وأشهر، والله أعلم. الملك العزيز عماد الدين عثمان صاحب مصر، مولده بالقاهرة، ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستين، وكان أصغر من أخيه الأفضل بسنتين وشهرين. الملك الظاهر غياث الدين غازى صاحب حلب، مولده بالقاهرة نصف شهر رمضان سنة ثمان وستين وخمسمائة. وكان أصغر من العزيز بسنة وأشهر.

ذكر بعض محاسنه رضى الله عنه

والملك المفضل قطب الدين موسى. والملك الزاهر مجير الدين داود. والملك الظافر مظفر الدين خضر. والملك المؤيد نجم الدين مسعود. والملك الأغر شرف الدين يعقوب. والملك المعز فتح الدين إسحاق. والملك الجواد ركن الدين أيوب. والملك الموفق نصرة الدين إبراهيم. والملك الأشرف نصير الدين محمد. والملك المعظم توران شاه. والملك الغالب ملكشاه. والملك المحسن يمين الدين أحمد. والملك المنصور سيف الدين أبو بكر. والملك الأمجد عماد الدين شاذى. ومات-رحمه الله-عن اثنين صغار ذكور. والبنت تزوجها بعد ذلك السلطان الملك الكامل ابن عمها، حسبما يأتى من ذكر ذلك فى موضعه. وعن القاضى بهاء الدين بن شداد قال: والله مات السلطان صلاح الدين -رحمه الله-ولم يترك دارا ولا عقارا ولا ملكا ولا ضيعة ولا فضة ولا ذهبا إلا ما ذكر أنه وجد بخزانته، ولا رغب فى زخرف الدنيا ولا فى أعراضها -رحمه الله عليه-وعوّضه النعيم المقيم، بجوار الرحمن الرحيم. ذكر بعض محاسنه رضى الله عنه قال العبد المؤلف لهذا التاريخ أبو بكر بن عبد الله الدوادارى-عفا الله عنه-: أما ذكر محاسن السلطان الشهيد صلاح الدين وبعض مناقبه، فقد افترد بذلك مصنف سيرته، والمطلع على أخباره، والحاضر لمآثره وآثاره، القاضى المرحوم بهاء الدين ابن شداد، وذكر ذلك بلسان أنطقه فرح العطاء، فأخرس بنطقه فصيح القطاء، حتى لم يترك لقائل مقال، ولا لحصّار قريحة من مجال. وأما ما ذكره أبو المظفر

الذى هذا التاريخ من أساس تاريخه نشئ، ومن حشو حلاوة لوزينجه حشى، فقال: كان السلطان صلاح الدين ملكا شجاعا مقداما، سمحا معطاء، كريما جوادا، حسن الملتقى، صاحب بشاشة وهمة ويقظة وتفكر فى مصالح المسلمين، شريف النفس، عالى الهمة، عزيز المروءة، واسع الصدر، كثير الحياء، قليل السفه، عظيم الحرمة، شديد الهيبة، متزهدا عن أعراض الدنيا، غير متطلع لما فى أيدى الناس، يحبّ أهل الفضل والعلم والأدب، متواضع لأهل العلم والشرع، حسن التدبير، ليس له همة فى لذّات الدنيا وزخارفها، مشتغل لما استعمله الله-عز وجلّ-فيه من سائر الأمور الدينية، أكبر همه الجهاد فى سبيل الله، وقيام منار الإسلام، وإخماد جمرة الكفر. يرى نفسه كأحد من الناس. ورأيت فى مسوداتى أن لما فتح السلطان صلاح الدين بيت المقدس، واستنقذه من يد الكفر، فى شهر رجب-حسبما تقدم من تاريخه-كان هذا الفتح خامس وعشرين مرة له قد استنقذ من يد المشركين بأيدى المسلمين. قال ابن واصل: حدثنى بعض من أثق به أنه كان جالسا بحضرة السلطان صلاح الدين-رحمه الله-وقد دخل عليه ولده عثمان الملك العزيز-وهو إذ ذاك صغير- فطلب من أبيه السلطان دينارا، فقال لمملوك قائم بين يديه: «أعطه» -أظنه خزنداره-فقال: «ما هو عندى». فأطرق إلى الأرض ساعة، وإذا بحمل من الإسكندرية وقد دخل عليه، وحمل آخر من الصعيد، وآخر من الغربية، فأمر بإفراغ المال بين يديه، ثم قسمه وفرقه [على] الجميع، حتى لم يبق منه شئ. قال الراوى كذلك: فداخلنى حنق، وكنت ممن أدّلّ عليه، فقلت: «يا مولانا كل الأمور

صبرت عليها إلا هذه». قال: «وما هى؟»، قلت: «ولدك يطلب منك دينارا فلم تجده مع خازنك تعطيه، وتفرق هذه الأموال العظيمة ولا تبقى منها لولدك ما طلبه منك». فقال: «يا فلان ترى هذه الأموال والله إنما شريت بها رءوسهم ومهجهم». قال الراوى: فو الله لقد شاهدت تلك الرءوس تتطاير بين يديه فى مواقف الحروب كالأكر، فعلمت عند ذلك جميل مقاصده، رحمه الله. وروى أن السلطان صلاح الدين لما كان بدمشق-بعد مهادنة الفرنج-حضرت إليه عدة من الرسل، ومنهم رسول الفنش الكبير صاحب رومية، وكان السلطان فى طارمة له تطل على اصطبله، وخيله قدامه ما لا تبلغ ثلاثين فرسا، فنظر الرسول إلى ذلك فاستقله، فقال للترجمان: «قل للسلطان أنت ملك الأرض، وصاحب العصر، وهذه جميع خيلك؟. فنحن أى فارس مسكنة منا كان عنده أضعاف هؤلاء». فأعاد الترجمان على السلطان، فقال: «قل له جوابك غدا إن شاء الله تعالى». ثم إن السلطان رسم للحجاب أن يكون الجيش جميعه بكرة النهار مطلب، ويدخل طلبا طلبا بجميع خيولهم وجنائبهم وأثقالهم، من تحت تلك الطارمة. فلما أصبح، وجلس السلطان، وكذلك الرسول، ودخلت الأطلاب فى أحسن زى، وأعظم هيئة، رأى الرسول ما أذهله، فقال السلطان للترجمان: «قل له هؤلاء هم خيلى وعدتى». فقال الرسول: «والله مليح. لكن يجب أن يكون للسلطان مال حاصل، فإن المال مثل العسل، والرجال مثل الذباب، متى رأى العسل اجتمع عليه». فأعاد الترجمان على السلطان ذلك، فقال قل له: «جوابك الليلة إن شاء الله تعالى». ثم أمر السلطان أن يمد الخوان جميعه عسل فى زبادى على المخافى، وأوقد الشموع. وأحضر

الرسول، فمد يده إلى جميع ما رآه فوجده عسلا، فسأل من الترجمان فقال: «قل للسلطان هذا جميعه عسل إيش سببه؟». فقال السلطان: «قل له هذا جوابك، وهذا العسل، أين الذباب الذى أتى إليه؟». فقال الرسول: «هذا ليل ما فيه ذباب» فقال السلطان: «فإذا طرأ لى شغل فى ليل، والأموال فى الخزائن، أين أجد الرجال؟». قال: فصلب الرسول على وجهه، وقال باللسان العربى: «أنت صاحب الوقت، وفاتح الأرض». وقد كان قبل ذلك لا يتكلم إلا بترجمان، ويدعى أنه لا يعرف اللسان العربى. قال ابن واصل صاحب التاريخ: إن الحصون التى فتحها السلطان صلاح الدين رحمه الله؛ عن القاضى الإمام بهاء الدين أبى المحاسن يوسف بن رافع، وهم: طبرية، عكا، حيفا، قيسارية، الناصرة، أرسوف، يافا، عسقلان، غزة، الدارون، صيدا، بيروت، جبيل، هونين، جبلية، تبنين، أنطرطوس، جبلة، اللاذقية، السّرفند، القدس، نابلس، البشير، بيت لحم، بيت جبريل، صفورية، الطور، حصن دبّورية، جينين، سبسطية، كوكب، حصن عفرا، الصافية، مجدليابا، لدّ، الجب الفوقانى، الجب التحتانى، القطرون، الرملة، حصن العازرة، عرا وعرعرا، البرج الأحمر، حصن الجليل، بيت حبرون، قلنسوه، قاقون، قلعة الطفيلة، قلعة الهرمز، صفد، حصن يازور، شقيق، أرنون، شقيف تيرون، حصن سكندرونة، بانياس، صهيون، بلاطنس، حصن الحاضرية، قلعة العندقر، قصور عكا، قلعة أبو الحسن، صيدا الصغيرة، حصن بلدة، الرقيم، الكهف، حصن

يحمود، السّرمانية، درب ساك، بغراس، الدانور الشرقية، بكاس، الشغر، بكسرائيل. عدة أربعة وسبعون فتوحا استنقذه من أيدى المشركين. وأما ما اقتلعه من الممالك الإسلامية فمثلها أو ينقص عن ذلك قليلا، والله أعلم. قال ابن واصل: ما استقر عليه الحال بعد وفاة السلطان صلاح الدين-رحمه الله. استقر بدمشق وما معها الملك الأفضل نور الدين على، وبالديار المصرية وما معها الملك العزيز عماد الدين عثمان، وبحلب وما ينسب إليها الملك الظاهر غياث الدين غازى، وباليمن وأعمالها عمهم الملك العزيز ظهير الدين طغتكين بن أيوب، وبالكرك والشوبك والبلاد الشرقية عمهم الملك العادل سيف الدين أبو بكر، وبحماه وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقى الدين عمر، وبحمص والرحبة وتدمر الملك المجاهد أسد الدين شير كوه بن محمد بن شير كوه، وببعلبك وأعمالها الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن أيوب. وبيد الملك الظافر [خضر] حصن بصرى، وهو فى خدمة أخيه الأفضل صاحب دمشق. وبيد جماعة من أمراء دولته بلاد وحصون، منهم: سابق الدين عثمان بن الداية، بيده شيزر وقلعة أبى قبيس؛ وناصر الدين منكورس بن خمارتكين بيده صهيون وحصن برزية؛ وكذلك بدر الدين دلدرم بن بهاء الدين ياروق بيده تل باشر؛ وعز الدين أسامة بيده كوكب وعجلون؛ وعز الدين إبراهيم بن شمس الدين بن المقدم بيده بعرين وكفر طاب وحصن أفامية؛ والملك الأفضل مرجوع الكل إليه، لكونه كان ولى العهد والأكبر من أولاد السلطان، وبقية إخوته فى خدمته. وفيها توفى سنان رئيس الإسماعيلية-صاحب التمويهات والخزعبلات العجيبة، حتى أخذ بعقول أهل تلك الديار وملك بواطنهم وظواهرهم. فمن جملة ذلك أنه حفر فى مجلسه حفيرة يكون مقدارها إذا جلس الإنسان فيها جاءت إلى رقبته، وجعل عليها

طابق من خشب، ونقب فيه بمقدار ما يطلع منه رأس الإنسان. ثم صنع طبق نحاس، ونقب فيه بمقدار رقبة الرجل، وجعله بمصراعين ملتقيات متداخلات فى بعضها البعض، لا يميزه أحد، ولا اطلع عليه أحد. فكان إذا أراد أن يفعل تمويها يأخذ رجلا يختار عدمه، ويقربه أولا، ويحسن إليه، ولا يعلمه ما المراد به، ثم يجزل صلته ويوصيه بما يريد أن يقوله، ويتقن أمره معه. ثم ينزله تلك الحفيرة، ويخرج رأسه من ذلك الخرق الذى فى الطابق الخشب، ثم يطبق على عنقه ذلك الطبق النحاس المصنوع، ويضع فى الطبق حول عنق ذلك الإنسان دما غبيطا، ثم يغطيه بمنديل، ويوهم أصحابه أنه ضرب رقبته، وأنه نقله من الدار الفانية إلى الدار الباقية، مع الحور والولدان، فى جنات نعيم. ويجلس ويأمر بحضور أصحابه، فإذا استقر بهم الجلوس، يأمر من يكشف عن تلك الرأس، فلا يشك من رآها أنها رأسا مقطوعة موضوعة فى الطبق، فيقول له: «تحدث يا فلان بما أنت فيه من الخير لأصحابك، وما وصلت إليه من النعيم». فيحدثهم بما قرره معه من الوصية له، فيقول له: «أيما أحبّ إليك ترجع إلى أهلك إلى ما كنت فيه، أو تسكن الجنة حسبما رأيت». فيقول: «وما حاجتى بالرجوع إلى الدنيا، والله إن خردلة مما رأيت خير لى من تلك الدنيا سبع مرار. وأنتم يا أصحابى عليكم سلام الله، وأوصيكم، الله! الله! الحذر! الحذر! من مخالفة هذا الصاحب الإمام، فهو حجة الله فى أرضه، والسلام». وفيها ظهر بحمص من داخلها عيون ماء، حتى امتلأ الخندق، فشرب أهل حمص منه، فوخموا جميعهم، وظهر عقيب ذلك طاعون أهلك خلقا كثيرا من أهلها. وفيها ورد الخبر أن ذئبا كلب، فهجم مدينة دنيسر، فأتلف اثنين وسبعين نفرا من الناس حتى قتل.

وفيها خرج السلطان ملك شاه من همذان قاصدا الرّىّ، فهدمها حجرا حجرا، وقتل جماعة من أمرائها. وفيها-فى سابع صفر-ظهر بظاهر بغداد عمود نار من الأرض إلى السماء، عرضه تقدير ثلاثة أرماح، ونظره الخليفة الإمام الناصر لدين الله، وجميع أهل بغداد. وفيها وقع بنابلس برد، زنة كل حجر منها مائة وخمسين درهم. وفيها نزلت صاعقة بسيخ الحديد من عمل حلب، فقتلت جماعة، وبقى مكانها خلو أربعين ذراعا. وكذلك سقط بجبل الملوان من عمل حلب برد تقدير كوز الفقاع. ونزلت صاعقة بالياروقية من حلب، وسقطت فى اصطبل الحاجب، فقتلت له تسع أروس خيل.

ذكر سنة تسعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة تسعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وخمسة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا واثنان وعشرون أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، نافذ الأمر، ومستمر الأحكام، مطاع فى سائر الأرض. والملك العزيز بمصر حسبما تقرر. والملك الأفضل بدمشق، وسائر الملوك من إخوته فى خدمته، خلا الملك الظاهر بحلب. وفيها عزل القاضى صدر الدين أبو القاسم عبد الملك المقدم ذكره. وكان فى طول أيام السلطان صلاح الدين مستمر القضاء بمصر، فعزل فى هذه السنة. وولى القاضى زين الدين أبو الحسن على بن الشيخ شرف الدين يوسف الدمشقى. وكان المذكور نائبا عن القاضى صدر الدين بالقاهرة سنين كثيرة، فاستقر بالقضاء. وكان السلطان صلاح الدين قد جعل لأولاده لكل واحد إقليم ملكه فى أيامه. وجعل من الفرات إلى الشرق كله داخلا فى سلطان أخيه الملك العادل سيف الدين أبو بكر، وذلك خوفا على أولاده منه. فكان الملك الأفضل بدمشق، والملك الظاهر بحلب، والملك المنصور بحماه والمعرة وقلعة نجم، والملك الأمجد بعلبك، والملك المجاهد حمص والرحبة وتدمر، والملك العزيز مصر، وباقى الملوك فى خدمة الأفضل بدمشق. والشرق جميعه للعادل.

ذكر سبب انتقاض ملك الأفضل صاحب دمشق

ذكر سبب انتقاض ملك الأفضل صاحب دمشق وذلك أنه استوزر الصاحب ضياء الدين بن الأثير صاحب الترسل والفضيلة الحسنة. وكان له أيضا صاحبان؛ أحدهما عز الدين ابن الأثير صاحب التاريخ المشهور، والآخر مجد الدين أبو السعادات صاحب كتاب جامع الأصول فى علم الحديث. وكان هذا الرجل فاضلا، متقدما عند الملوك أصحاب الموصل من بنى زنكى. وكانوا هؤلاء الثلاث أصحاب حلّه وعقده، فأشاروا عليه أن يبعد مماليك أبيه، وينشئ مماليكا من جهته. وأوحوا إليه أن مماليك أبيه لا يرونه إلا بعين الصغر، ففعل الأفضل ذلك، وكان من سوء التدبير. فلما تباين للأمراء ذلك مالوا إلى الملك العزيز بمصر، ورحلوا إليه، فتلقاهم العزيز أحسن ملتقى، وأكرمهم، وأحسن إليهم. ورأى أمره أنه قد قوى بهم، فأشاروا عليه أن يتحرك إلى الشام، ويأخذ دمشق من أخيه الأفضل. فأراد أن يقيم له ذنبا يأخذه به فطلب منه بيت المقدس-وكان مضافا إلى مملكة دمشق-فاستشار هؤلاء، فقالوا: «لا تفعل يطمع فى سلطانك»، فامتنع. وتجهز العزيز إلى الشام. وكانت أسماء الأمراء الذين حضروا من الشام إلى خدمة العزيز: ميمون القصرى وسنقر الكبير، مع جماعة من ملوك الأكراد، والأمير فخر الدين جهاركس. ثم تبعهم بعد ذلك الأمير صارم الدين قايماز النجمى، وكان من أكبر الأمراء الأيوبية؛ فإنه مملوك نجم الدين أيوب بن شاذى والد الملوك بنى أيوب فحضر إلى الملك العزيز بمصر. فلما علم الأفضل بتحريك العزيز إلى الشام، كتب كتابا إلى عمه الملك العادل يستنجده ويستجير به، فعندها توجه العادل من الشرق إلى نحو الشام، فوصل إلى دمشق فى اثنى عشر يوما، ووجد العزيز أيضا قد وصل دمشق،

فمشى بينهما بالصلح، فاصطلحا صلح العامرية، على فساد. ولما رأى العادل اختلاف الإخوة، طمع فى الملك بالشام ومصر وغيرهما. وكان لما بلغ سيف الدين بكتمر صاحب خلاط موت السلطان صلاح الدين فرح فرحا عظيما، وأمر أن تضرب البشائر فى سائر قلاعه وحصونه، ولقب نفسه الملك الناصر، وكتب كتبا إلى سائر ملوك الشرق، مثل عز الدين مسعود بن مودود بن زنكى ابن اقسنقر صاحب الموصل وحسام الدين [يولق] أرسلان بن إيلغازى، وكذلك إلى صاحب سنجار، وصاحب ماردين، وغيرهم، يستدعيهم إلى قتال الملك العادل، وأن يأخذ البلاد منه، فأجابوه إلى ذلك. وكان أول من قدم منهم صاحب ماردين وصاحب الموصل، إلا عماد الدين زنكى فإنه لم يوافقهم على ذلك. وكان اجتماعهم فى سنة إحدى وتسعين وخمسمائة. وأمّا ما جرى للعزيز فإنه لما خرج إلى الشام جعل ولده المنصور ولى عهده -وكان صغيرا-فأقام بهاء الدين قراقوش نائبا عنه بالديار المصرية. ولما أصلح العادل بينه وبين أخيه الأفضل حصل الخلف بين العزيز وبين أمرائه الأسدية والأكراد، ففارقوا خدمته، ومضوا إلى عمه العادل وأخيه الأفضل. وانقلب الدست عليه، فتوجه من دمشق هاربا لا يلوى على شئ. وركبوا خلفه ولحقوه ببلبيس، وحاصروه بها أياما. ثم اصطلح مع عمه العادل وأخيه الأفضل على مال دفعه. وعاد الأفضل إلى الشام ودخل العادل إلى القاهرة، وأخلى له العزيز القصر الكبير. وفيها عزل القاضى زين الدين. وفيها ولى القاضى محيى الدين بن عصرون.

ذكر سنة إحدى وتسعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة إحدى وتسعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وأصبعان. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، نافذ الحكم، مستمر السلطان. والملك العزيز بمصر [ومعه] عمه العادل. وفيها توجه العزيز والعادل عمه إلى دمشق وحاصروا الأفضل، واقتلعوا دمشق منه، وملّكها العزيز لعمه الملك العادل، وذلك فى شعبان. وعاد العزيز إلى مصر. وتوجه العادل إلى الشرق، فبلغه أخبار بكتمر صاحب خلاط، فكتب [العادل] إلى أولاد أخيه يستنجدهم، فكان أول من وصل إليه العزيز صاحب مصر، وجدّ فى سيره حتى وافاه. وركب طريق المفازة. ثم وصل إليه الملوك أولا فأولا. فلما تكاملوا رحل الملك العادل إلى حران، ونزل بها. ثم إن عز الدين صاحب الموصل توفى. وتفللت جموع بكتمر، ورجع كل عسكر إلى بلاده. وأرسل عز الدين صاحب ماردين يعتذر من فعله للملك العادل. ثم إن بكتمر صاحب

هذه الفتنة وثب عليه فداوى فقتله، وسلّم الفداوى لبعض حاشيته له. وتمكن الملك العادل من الشرق، وملك الخابور ونصيبين وسائر تلك الأعمال. وعادت الملوك إلى بلادهم. وعاد العادل إلى دمشق، وخلف بعض أولاده بالشرق، لا أعلم أيهم كان. وفيها وردت الأخبار أن [يعقوب بن يوسف بن] عبد المؤمن صاحب الغرب كسر ألفنش ملك الفرنج على مدينة طليطلة بالأندلس، وأسر من الفرنج ستين ألف أسير، وقتل مائتى ألف وستة عشر ألف، وكسب من السلاح والعدد ما لا يحصى كثرة، من جملتها ستين ألف زردية. وكان عدة خيام الملاعين أربع مائة ألف خيمة وستة عشر ألف خيمة، وعدد البغال التى كسبتهم عسكر [ابن] عبد المؤمن مائة ألف وخمسة وعشرون ألف بغل، وعدد الخيل ستون ألف حصان، ومائة ألف حجرة. وأن ألفنش بعد هذه الكسرة دخل طليطلة فى سبع نفر. قال ابن واصل: فى هذه السنة كان دخول العادل إلى الديار المصرية ورجوع الأفضل إلى دمشق. وفيها-أعنى سنة إحدى وتسعين وخمس مائة-عزل القاضى ابن عصرون. وولى القضاء بالديار المصرية القاضى زين الدين يوسف الدمشقى.

ذكر سنة اثنين وتسعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة اثنين وتسعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وسبعة وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية عشر أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، نافذ الأمر، مستمر الأحكام فى أقطار ممالك الإسلام، خلا الغرب فإن [يعقوب بن يوسف بن] عبد المؤمن فيه، يدعى بأمير المؤمنين. وفى أول هذه السنة عزل القاضى ابن عصرون. وفيها استعلت كلمة الملك العزيز، واجتمعت عليه الأمراء الكبار. وقيل فى هذه السنة كان أخذ دمشق من الملك الأفضل، وتسليمها للملك العادل، وهو الصحيح. وذلك أن الأمراء لما قووا عزم العزيز على أخذ دمشق، وتوجه لأخذها من الأفضل، وعلم الأفضل أن لا قبل له بالعزيز، سير إليه يبذل له الأموال، ويقول: «أنا أخطب باسمك، وكذلك السكة، وأكون نائبك». فلم يقبل العزيز شيئا من ذلك. فكتب الأفضل إلى عمه العادل وإلى إخوته الملوك يستجير بهم من العزيز. وتوجه الأفضل ونزل القصير لما بلغه قدوم العزيز. ثم ضاق ذرعه عن الملتقى، فولى هاربا إلى رأس العين فلم يشعر إلا بالعساكر المصرية وقد أدركوه،

فانهزم، ودخل دمشق، وتبعه العزيز. وكان ذلك يوم الجمعة لخمس بقين من جمادى الآخر. ولم يزل حتى حصره [العزيز] فى دمشق يوم وليلة، فعندها وصل الملك العادل من الشرق فى اثنى عشر يوما، ودخل دمشق، وكذلك الملك الظاهر صاحب حلب، والملك المنصور صاحب حماه، والملك المجاهد صاحب حمص، والملك الأمجد صاحب بعلبك. ثم دخل الجميع دمشق إلى الأفضل. ثم كتبوا إلى العزيز يقصدوا الاجتماع به، فاجتمعوا على سطح المزة وشفع العادل فى الأفضل عند العزيز فقبل ذلك، وقال: «يا عم أنت الوالد بعد الوالد، ولا نخرج عن ما ترسم به». فلما رأى العادل حسن سياسة العزيز وغزارة عقله خطبه لا بنته، وقدمها له، فكان الملك العادل الخاطب والملك العزيز المخطوب. ثم أصلحوا بين الملكين الأخوين، وعاد كل ملك إلى بلاده. ثم تحرك أيضا الملك العزيز على الأفضل، وعاد إليه قبل دخوله إلى الديار المصرية، فإنه بلغه ممن يثق به أنه جهز عليه فداوية لقتله، فبلغ الأفضل عودة العزيز إليه فخافه، فركب بنفسه، ولحق عمه العادل، وسأله أن يقيم عنده بدمشق، فعاد معه، ونزل بدمشق. فلما بلغ الأمراء الكبار استقرار العادل بدمشق -وكان قد حصل لهم وحشة من العزيز-مالوا بأجمعهم إلى العادل. فلما حصل ذلك خشى العزيز على نفسه، فعاد إلى مصر، وأخذ بقلوب من بقى من الأمراء الأسدية، وأحسن إلى الجند، وأنعم إنعاما كثيرا، واستقر حاله. واتفق العادل والأفضل على طلب العزيز، فتوجهوا، وإلى مصر قصدوا، فلقيهم الأمير حسام الدين بن أبى الهيجاء، وقال: «حثوا المسير فإن الأمراء المصريين كلها معكما». ثم ورد من العادل رسول على العزيز يستدعى القاضى الفاضل. وكان القاضى الفاضل قد انفرد بنفسه ذلك الوقت، وانقطع فى داره، لما رأى ما حصل من الخلف بين الإخوة. فلما وصل القاضى الفاضل تلقاه الملك العادل ملتقى حسنا، وقال: «يا قاضى إنما جئت لأوفق بين الإخوة». ثم وفّق بينهما فى حديث طويل، آخره أنه أخذ الأفضل وعاد إلى دمشق.

وقيل إنه دخل مصر، ونزل فى القصر عند العزيز، حتى اتفق معه، وخرجا جميعا، واستقلعا دمشق من الأفضل، وأنعما عليه بصرخد. وملّك العزيز لعمه العادل دمشق، حسبما تقدم من الكلام فى هذا المعنى؛ والله أعلم. قال ابن واصل إن فى هذه السنة-أعنى سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة-كان أخذ دمشق من الملك الأفضل بسوء تدبير وزيره ضياء الدين بن الأثير الجزرى. ولما وصل الملكان العادل والعزيز لحصار دمشق، كتب إليهما جميع الأمراء الذين كانوا بها بالتسليم كرها للوزير المذكور، فلم يحتاجا لمدة حصار. ولم يقاتل فى ذلك اليوم غير الملك الظافر مع عسكر بعثهم نجدة الملك الظاهر صاحب حلب. وجرح فى ذلك اليوم الظافر جراحا كثيرة. ولم تقم البلد إلا ساعة من نهار، ودخلها الملكان المذكوران، وخرج الملك الأفضل صبيحة ذلك اليوم بأهله وأمواله، وكانت ليست بشئ. واختفى الوزير ضياء الدين فى بعض صناديق الأفضل، ثم هرب إلى الموصل بأموال جمة. وتوجه الأفضل وصحبته أخوه الملك المفضل قطب الدين إلى صرخد، واستقرا بها. وكان دخول العزيز إلى دمشق رابع شعبان. وأخذت أيضا بصرى من الظافر، وتوجه إلى أخيه الظاهر بحلب. وسلم الملك العزيز دمشق لعمه الملك العادل، ورحل من دمشق عشية الاثنين تاسع عشر شعبان، فكانت مدة إقامته بها أربع عشر يوما. وكانت مدة ملك الملك الأفضل دمشق ثلاث سنين وأشهرا. واستقرت الخطبة والسكة بدمشق وأعمالها للملك العزيز، والملك العادل يظهر أنه نائب له بها إلى أن استقام له الأمر، حسبما ما يأتى من ذلك.

ذكر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وخمسة وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وأصبعان. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، نافذ الأوامر، مستمر الأحكام، مطاع فى سائر الممالك الخليفتيه الناصرية بالأرض. والملك العزيز بمصر. وفيها سيّر [العزيز] إلى جميع الملوك من إخوته، بالممالك الشامية، القاضى ناصح الدين الطالقانى-قاضى العساكر-وصحبته الأمير علم الدين-غلامه-وأمرهم أن يخطبوا له فى منابر ممالكهم وبلادهم، وأن ينقش اسمه على الدينار والدرهم، فامتثلوا ذلك. وسير عسكر مصر إلى خدمة عمه الملك العادل. وفتح قلعة يافا واستعادها من الفرنج. وفيها أنشأ الأمير فخر الدين أياز جهاركس الناصرى الصلاحى القيسارية بالشرابشيين بالقاهرة المعزية. قال ابن واصل: وفى سنة ثلاث وتسعين توفى سيف الإسلام صاحب اليمن، فى شهر شوال منها. وكان يلقب بالملك العزيز، ومدحه فى حياته [شرف الدين] ابن عنين بقصيدة منها: دمشق وبى شوق إليها مبّرح … وإن لام واش أو ألحّ عذول بلاد بها الحصباء درّ وتربها … عبير وأنفاس الشمال شمول تسلسل منها ماؤها وهو مطلق … وصح نسيم الروض وهو عليل

ومنها: وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى … ورأى ظهير الدين فىّ جميل؟ بنى المجد أمّا جاره فمنّع … عزيز، وأما جنده فذليل وأما عطايا ماله فمباحة … عذاب، وأما ظلّه فظليل وقام بعده بمملكة اليمن ولده إسماعيل، ولقب المعز لدين الله، آخر وقت، وخطب لنفسه بالخلافة، وادعى أنهم من بنى أميّة. وكان فى عقله ضعف، وقد تقدم ذكر ذلك. وفيها توفى عماد الدين [زنكى بن مودود] صاحب سنجار، وقام ولده قطب الدين محمد مكانه.

ذكر سنة أربع وتسعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة أربع وتسعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة عشر أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، مستمر الأحكام، مطاع الأمر، والملك العزيز صاحب مصر، وكذلك بقية الملوك. وفيها نزلت الفرنج-خذلهم الله تعالى-على تبنين، وحاصروها. فلما بلغ الملك العزيز ذلك، خرج بالجيوش لدفعهم عنها. فعند ما أطلت أعلامه عليهم رحلوا عن البلد صاغرين. وكان الملك العادل عنده، قد أتاه زائرا لابنته زوجة العزيز. وفى هذه السنة كانت الوقعة العظيمة بين السلطان غياث الدين محمد بن سام وأخوه شهاب الدين الغورى، وبين ملك الهند. وذلك أن شهاب الدين الغورى كان قد كسر قبل ذلك من ملك الهند. ثم إنه اتفق مع أخيه صاحب الغور وسارا طالبين ملك الهند، فلما قاربا، قال رجل شيخ لشهاب الدين الغورى: «لا ينبغى أن تقدم عليهم فى بلادهم مع كثرتهم؛ وقد جرى لك معهم ما جرى». فقال: «والله إنى منذ كسرونى ما نمت مع زوجتى، ولا غيرت ثياب البياض، وها أنا سائر إليهم ومعتمدا على الله عز وجل، وإن نصرنى نصر دينه، وكان ذلك من فضله، وإن هزمونى فلا تطلبونى فإنى لا أنهزم بل أموت كريما». فلما قاربهم خرجوا إليه، فأظهر الهزيمة، وهم فى أثره إلى أن قاربوا بلاد الإسلام. ثم عبأ أصحابه فى بعض الليالى،

وكبسهم بغتة، فقتلهم قتلا ذريعا، إلا من هرب منهم. وكانت نصرة عظيمة. وهذه الوقعة لم يكن ملك الهند فيها. فلما بلغه ما جرى على أصحابه جمع جيوشه، وكان فى جملتها سبع مائة فيل حربية، وعدة جيشه ألف ألف مقاتل. وقصد بلاد الإسلام، فسار شهاب الدين الغورى من غزنة لملتقاه، وكان فى مائة ألف وعشرين ألفا، والتقيا. وصبر المسلمون على قتال المشركين، ونصر الله دينه، وخذل الكفرة عبّاد النار والأحجار. وكثر القتل فيهم حتى امتلأت تلك الصحارى والفلوات. وأما الأفيلة فقتل بعضها، وانهزم بعضها. وقتل ملك الهند فى تلك الوقعة. ثم إن شهاب الدين دخل إلى عظيم بلاد الهند وملكها، وحمل من خزائنها ألف وأربع مائة حملا ذهبا، وعاد إلى غزنة وصحبته الأفيلة برجالها، وفيهم فيل أبيض. وحكى ابن واصل فى تاريخه عن الشيخ تاج الدين بن الساعى أن هذا الفتح كان فى سنة تسعين وخمسمائة. ولما اتفق الملك العزيز والملك العادل على إخراج الملك الأفضل من دمشق، ونفيه إلى صرخد، كتب [الأفضل] إلى الإمام الناصر يتظلم منهما، ويقول: مولاى: إن أبا بكر وصاحبه … عثمان أحاطا بالسيف إرث على فانظر لصاحب هذا الاسم كيف لقى … من الأواخر ما لاقى من الأولى وهذان البيتان ضمنهما آخر مطالعته للإمام الناصر فأجابه فى آخر مكاتبته: وافى كتابك يا بن يوسف معلنا … بالودّ يخبر أن أصلك طاهر

غصبوا عليّا حقه إذا لم يكن … بعد النبىّ له بيثرب ناصر فاصبر فإن غدا عليه حسابهم … وابشر فناصرك الإمام النّاصر ثم لم يزل الأفضل مهجّجا من كل مكان حتى ملك فى آخر وقت مدينة سميساط. ومات بها فى تاريخ ما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر سنة خمس وتسعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة خمس وتسعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة اثنا عشر ذراعا وأحد وعشرون أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، نافذ الأمر، مستمر الحكم. وفيها توفى الملك العزيز-رحمه الله-ليلة الحادى والعشرين من المحرم. ذكر تملك المنصور بن الملك العزيز هو ناصر الدين محمد الملك المنصور بن عماد الدين عثمان الملك العزيز بن السلطان صلاح الدين. وباقى نسبه قد تقدم. كان ولى عهد أبيه فى حياته. فلما توفى والده، جلس بمملكة الديار المصرية فى تاريخ وفاة أبيه، وعمره يومئذ تسع سنين وشهورا. وكان سبب وفاة الملك العزيز أنه خرج إلى الصيد بناحية الإسكندرية، وأمعن فى البرية لصيد الغزال، فساق، فتقنطر من على جواده. ثم عاد إلى منزلة الأهرام، فأقام بها ثلاثة أيام، وتوفى إلى رحمة الله تعالى. وكان ملكا جوادا، سمحا، شجاعا، مقداما، صاحب رياسة وسياسة وعقل وافر، وتدبير حسن، كثير الحياء والعدل، والإنصاف والرفق، والإحسان إلى الرعية. وكانت الرعايا يحبونه محبة عظيمة. وكان قبل وفاته قد تحركت الفرنج حركة عظيمة، وعزموا على أخذ الساحل من المسلمين، مع الشام كله. وخرج الملك العادل إلى مقابلتهم. ونفّذ يطلب النجدة من العزيز، فسير إليه العساكر فى جمع كبير. ووصل إلى خدمته سنقر الكبير صاحب القدس، وميمون القصرى صاحب نابلس، وعدة أمراء ملوك. واجتمعوا ونزلوا

على تل العجول. ثم إن العادل نزل على يافا وحاصرها، وأخذها بالسيف عنوة، وقتل كل من كان بها، وغنم منها غنائم كثيرة. ثم إن الفرنج-خذلهم الله-نزلوا على تبنين فبادرهم حسام الدين سامه وتبعتهم الجيوش الإسلامية. فلما كان نصف الليل هربت الملاعين. ثم لم يزل الملك العادل يغزو فيهم حتى أقلقهم، وسألوا المهادنة، ووقعت الهدنة بينهم إلى مدة ثلاثة شهور بعد ثلاث سنين. ثم رحل العادل إلى الشرق، ونزل على ماردين، وأخذ ربضها، وكان بها نائبا يقال له نظام الدين. وكان قد كتب إلى العادل يستدعيه لأخذها بعد موت عز الدين صاحبها، كما تقدم من الكلام فى ذلك. ثم إنه ندم على مكاتبة العادل، وسوّف، وظهر محاله وكذبه. وسير العادل، وطلب العساكر من الملوك أولاد أخيه، فحضروا إليه وجدّ فى حصار ماردين. ثم وقع فى الخيل مرض الطابق. ولم يزل يجد فى أمر الحصار حتى فتحها وعاد إلى الشام. وفيها توفى الملك العزيز سيف الإسلام [ظهير الدين] طغتكين صاحب اليمن. وفيها توفى الأمير نجم الدين النورى صاحب شغربكاس والشقيف، وهذه الحصون كان أنعم عليه بها السلطان صلاح الدين-أستاذه-فى حال حياته.

ولما استقر الملك المنصور بن العزيز بالمملكة-وهو إذ ذاك طفل-نفذ إلى عمه الملك الأفضل فأحضره من صرخد، وجعله أتابك جيوشه، خوفا من العادل عم أبيه. وقيل إن ذلك كان بوصية من العزيز له. وكان دخول الأفضل القاهرة فى شهر ربيع الأول. وفى يوم وصوله إلى بلبيس ورحيله متوجها إلى القاهرة انفصل أياز جهاركس، وسرا سنقر، وقراجا الكبير، من الخدمة بديار مصر، وتوجهوا إلى القدس، وأقاموا به عاصين على الأفضل، وكاتبوا الملك العادل. وفيها عزل القاضى زين الدين عن الحكم. وفيها توجه ألطنبا الجحاف مع جماعة من الأمراء المصريين إلى الشام، ولحقوا بمن تقدمهم. وفيها تجهز الأفضل، وخرج بالعساكر المصرية إلى الشام، لمحاصرة عمه العادل. وفيها قبض [الأفضل] على أخيه المؤيد [مسعود] مع جماعة من الأمراء المصريين، وأودعهم الاعتقال. وقيل إن العادل كان بالشرق، وولده الكامل بدمشق. فلما بلغ العادل توجّه الأفضل من الديار المصرية إلى نحو الشام، خشى على ولده، وأن تؤخذ دمشق، فساق فى خيل يسيرة جريدة، فوصل فى إحدى عشر يوما. ودخل دمشق قبل وصول أحد إليها، وأمر الكامل أن يتوجه إلى الشرق، ويكون على يقظة من أمره، وذلك فى ثالث شعبان من هذه السنة. ثم إن الأفضل زحف إلى دمشق، وجرى بينهما قتال عظيم، وحرب شديد، وقتل من الفئتين خلق كثير. واستظهر الأفضل، ولم يبق إلا أخذ دمشق، وتحصّن العادل بالقلعة. ثم إن عسكر الأفضل تفرق، ودخلوا دمشق من عدة أماكن، وتفرقوا للنهب، فنزلت الأمراء العادلية،

والملك العادل بنفسه، وغلقوا أبواب دمشق. ووقع السيف فى جماعة عسكر الأفضل ممن دخل دمشق، فقتل جماعة كبيرة، وعرّوا الباقى وأطلقوهم، فعند ذلك تأخر الأفضل ونزل الكسوة، وعاد العادل محصورا طول بقية هذه السنة. وفيها كان بمصر غلاء شديد، بلغ القمح فيها ثمانين درهما الأردب، والشعير والفول أربعين درهما.

ذكر سنة ست وتسعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ست وتسعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة اثنا عشر ذراعا وعشرون أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، مستمر الأمر، نافذ الحكم. والملك المنصور بن العزيز صاحب مصر. وأتابك جيوشه الأفضل عمه. والملوك من أولاد السلطان صلاح الدين على ممالكهم، وهم فى معونة الأفضل على حصار العادل عمهم بدمشق. وفيها وصل الملك الكامل من الشرق بجيوش كثيفة، لنجدة أبيه العادل. وكان سبب وصوله وقدومه مكاتبة أبيه له، يحثه على حشد الجيوش، وسرعة قدومه إليه، ليستنقذه مما هو فيه من الأفضل وإخوته. وذلك أن العادل ضاق ذرعه من الحصّار وعدم القوت بدمشق، وفارقه جماعة من أصحابه. فلما ضاق به الأمر طلب الأسرى الذين كانوا عنده من الفرنج، وقال: «أسلم إليكم هذه البلد وتعطونى الكرك بجميع ما فيها»، فلم يوافقوه على ذلك. ثم شاور كبار خاصته، فقالوا: «ابعث إلى ولدك يأتيك بالأموال والرجال». فكتب إلى ولده الكامل أن يحصّل جميع ما أمكنه من الأموال والرجال، ويسرع فى الحضور. وكتب إلى النائب بقلعة جعبر أن يسلم للكامل جميع ما فى الحصن من الأموال والسلاح. ولما وصل الكامل بتلك الأموال والجيوش، اطمأن قلب الملك العادل، وعلم أنه قد استقر حاله. ثم حصل الخلف بين الأفضل وأخيه الظاهر صاحب حلب،

وانفسد الحال على الأفضل، ورحلت الملوك من عنده، وطلب كل أحد بلاده. ورحل الأفضل خائبا، هاربا، طالبا للديار المصرية. وخرج العادل فى أثره بالجيوش. وكان الأفضل قد وصل إلى القاهرة وأصلح حاله، وخرج لملتقى العادل، فالتقيا على الصالحية، وانكسر الأفضل كسرة عظيمة لا جبر لها. ودخل القاهرة فى نفر قليل. وأقام العادل على الصالحية، وسير إلى الأفضل رسول يقول له: «أنت تعلم أن مصر إقليم عظيم، وله فى أنفس الناس ناموسا عظيما، فالله الله لا تحوجنى أخذها منك بالسيف، فيكون ذلك نقصا فى حق هذا الإقليم، فارحل عنها إلى مكانك بصرخد، وأنت آمن على نفسك ومالك وحريمك». فقبل الأفضل ذلك، ورحل إلى صرخد، بالرغم منه. وكان [أن] أعطاه العادل فى الصلح ميافارقين وعدة بلاد، وقع اليمين عليها. ثم انتقض الحال فى أمر البلاد المذكورة، ولم يستقر للأفضل غير صرخد فقط. ودخل الملك العادل إلى مصر سلطانا مستقلاّ، وهو السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب، وباقى نسبه قد علم. استبد بالملك بالديار المصرية والبلاد الشامية بدمشق وأعمالها، وممالك الشرق التى كانت فى يده قبل ذلك من حياة أخيه السلطان صلاح الدين، رحمه الله. وملك جميع ذلك فى هذه السنة المذكورة، وقام بالملك أحسن قيام، ونظم الأحوال أحسن نظام، ومشى على ما كان عليه أخوه السلطان صلاح الدين، رحمه الله. وأقام بالديار المصرية بقية هذه السنة، ثم أقام بها الملك الكامل، وتوجه [العادل] إلى بلاد الشرق حسبما يأتى من ذكره. قال ابن واصل: إنما كان دخول العادل إلى الديار المصرية أولا أتابكا للملك المنصور. ثم استقبح ذلك فاستبد بالأمر، وقام بأمر السلطنة، فلذلك حصلت الوحشة من الأمراء الصلاحية، وخرجوا عن طاعة الملك العادل خيفا من ذلك. وفيها توفى القاضى الفاضل، رحمه الله تعالى.

ذكر القاضى الفاضل وفقر من ترسله

ذكر القاضى الفاضل وفقر من ترسّله هو القاضى الفاضل عند اسمه، الآخذ من درجة السبق فى الفضيلة بأوفر من نصيبه وقسمه، عبد الرحيم بن على البيسانى. قال: «أنفذنى والدى من عسقلان إلى الديار المصرية أيام الفتنة بوزارة شاور، وكتب على يدى كتاب إلى صاحب ديوان الترسل، وكان يعرف بابن الخلال. فلما مثلت بين يديه، وقرأ الكتاب، وفهم أنى من طلبة علمه قال لى: «يا ولدى ما الذى اعتدته وحصلته لهذه الصناعة؟» قلت: «حفظ كتاب الله العزيز وكتاب الحماسة». قال: «إن فيهما لكفاية، مع ما أرى من نجابتك». ثم ترقت به الأحوال إلى أن صار منه ما شاع وذاع، وشنف بذكر محاسنه الأسماع. وإن كان آخر فقد تقدم بفضله على الأوائل، وعبر على وجه قس وسحبان وائل. لا أعلم بالمشرق والمغرب مثله، وعنوان عجائبه مثل قوله: ووافينا قلعة نجم وهى نجم فى سحاب، وعقاب فى عقاب، وهامة لها الغمامة عمامة، وأنملة إذا خضبها الأصيل. كان الهلال لها قلامة. قلت: ما أحسن هذا الحل بالمعنى. وبعض اللفظ من قول ابن المعتز: ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا … مثل القلامة قد قدت من الظفر فإن جل المنظوم على ثلاثة أضرب؛ الأول-وهو أقلهم رتبة-وذلك أن تحلّه بمعناه ولفظه؛ والثانى أعلى منه رتبة أن تحل ببعض لفظه وبمعناه؛ والثالث أن تحل بالمعنى دون اللفظ، وهو أفضل الثلاث، والله أعلم. نقلت من حظ القاضى محيى الدين بن عبد الظاهر-رحمه الله-يقول: نقلت من خط الأشرف بن الفاضل-رحمه الله-قال: اختار الله لجدى-رحمه الله-جواره ليلة الأحد الحادى عشر من شهر ربيع الأول، سنة ست وأربعين وخمسمائة. واختار الله

لعمى السعيد أبى الحسن جواره ليلة الجمعة الثانى والعشرين من جمادى الآخرة، سنة تسع وخمسين وخمسمائة بالقاهرة، ودفن بسارية. واختار الله لعمى الفتح جواره بالإسكندرية ليلة الثلاثاء تاسع وعشرين شعبان سنة أربع وتسعين وخمسمائة. واختار الله لسيدى والدى رحمه الله-يعنى الفاضل-جواره ليلة الأربعاء السابع من شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين بالقاهرة، ودفن بسارية. ومن فقر القاضى الفاضل رحمه الله-وهو من باب المرقص فى النثر- «لبد الماء فى اللبابيد فثقل وزنها، وانعكس فيها التشبيه فصار كالجبال عهنها». وقوله فى فتح طبرية: فلما نظر إليها مالكها، وقد جعلنا عاليها سافلها، وأيقظنا بصياح السيف نائمها، وأنبهنا غافلها. . . وقوله: وافى الأصطول الميمون فى خمسين غرابا طائرا من القلوع بأجنحته، كاسرا بمخاليب أسلحته، فما وافى شملا إلا دعاه إلى الحسين، وحقق ما يعزى إلى غراب البين. وقوله: وأخذنا بالحزم، فسرنا إليهم سرى الطيف، واختطفناهم قبل بكور الغراب بمنشر الرمح، وخناج السيف. وقوله: من حمل السنين ثقلت على ظهره، ومن قصرت خطاه اتسعت إلى قبره. وقوله: وقد أثر هذا البيكار فى استطاعتهم لا فى طاعتهم. وقوله فى التوسط بين الإخوة الملوك-وهما العزيز والأفضل-حسبما تقدم من ذكرهم: وما أدخل بينكم إلا كدخول الميل بين الأجفان يرد إليها ما ذهب من الغمض، وكالنسيم بين الأغصان يميلها ويعطف بعضها على بعض. وقوله فى ملك الاسبتار: جهول، عجول، ما أدبه الوالدان، ولا أخلقته

الجديدان، أرعن من سكر الحداثة، مقسم الرأى، وكيف لا يكون مقسمه وهو عابد الثلاثة. وقوله فى الدعاء للسلطان: جعل الله الأرض التى يملكها منقلة، والأرض التى يطؤها مقبلة، والأرض التى يجر عليها عسكره مثقلة، والأرض التى يلقى فيها أعداءه مقتلة. وقوله فى أمثاله: عضة المحبّ ولا قبلة الجانى! وقوله: الركوب على الخنافس، ولا المشى على الطنافس! وكتب إلى السلطان صلاح الدين من مصر فى أثناء مكاتبة، وذكر النيل، وعرض بما أظهره الملك العزيز ولده من تأمين السبل فقال: وأما النيل، فكما قال جميل، قد امتدت أصابعه، وتكسرت بالموج أضالعه، واحمرّ صفحه الحاكى مذاقه جنى النحل، فكأنه سيف ظل به دم المحل. وحيثما توجه المسافر يلقاه، وليس بمصر قاطع طريق سواه. وكتب إلى عامل تشكّى منه: وقد وصل أهل عملك، يشكون سوء عملك، فإن كان الاختيار صدفك فإن الاختبار صرفك. وله فى جملة رسالة يقول: ولو كاتبت سيدنا بمقدار شوقى إليه لأضجرته، ولو أغيبته بقدر ثقتى به لهجرته. ومن مليح شعره وقد أعرقته الحمى يقول: لا تنكروا عرق المريض فإنه … لضرورة أمست إليه داعية فلكل عضو مقلة من حقها … طول البكاء على فراق العافية

وقوله فى الغزل: ولما بدا خط بخد معذبى … كظلمة ليل فى ضياء نهار خلعت عذارى فى هواه ولم أزل … خليع عذار فى جديد عذار قلت: وقفت على ترسل ابن الصيرفى المصرى-وكان إمام الكتاب بالديار المصرية فى المائة الخامسة-ولعل الحاذق الفطن إذا أمعن النظر فى ترسّل هذا الرجل المذكور، يجد القاضى الفاضل مستمدّا منه. ومن ملح ترسله قوله: وجاءت غربان الماء تحكى قطع السحاب فى أديم السماء، يحسب الناظر أنها ركائب قد طفت فى بحر السراب، أو جفون محدقة والمجاديف لها أهداب. ونظرت فى مجموع بيتين فى غاية الرقة. يقول جامعه: هو لابن الصيرفى-فما أعلم هو هذا ابن الصيرفى أم غيره-وهما: توهمه قلبى فأصبح خده … وفيه مكان الوهم من نظرى أثر ومرّ بقلبى خاطرا فجرحته … ولم أر جسما قط يجرحه الفكر ومن المحفوظ فى المعنى: نظرت إليه نظرة فتحيّرت … دقائق فكرى فى بديع صفاته فأوحى إليه القلب أنى أحبه … فأثر ذاك الوهم فى وجناته ومن المحفوظ أيضا: دعوت بماء فى إناء فجاءنى … غلام به خمر فأوسعته زجرا فقال هو الماء القراح وإنما … تجلّى له خدى فأوهمك الخمرا ومن المحفوظ أيضا: وقد كنت مستعن بلحظك وحده … فكيف وفيه سبعة خيرها شرّ سقام وأسد ضاريات وأسهم … وسمر القنى والسحر والسيف والخمر

فماذا تقل فيمن حوى فيك أربع … بواحدة منهنّ ينفطر الصخر فأيامه سود وبيض لحاظه … وأضلعه صفر وأدمعه حمر ومن المحفوظ أيضا: كأن فى فيه خمّارا ولأّلا … وبين جفنيه نفاثا ونبّالا منوّع الحسن يبدى من محاسنه … لأعين الناس أصنافا وأشكالا فلاح بدرا ووافى دمية ورنا … سيفا وماج نقا واهتز عبيالا وافترّ درّا وغنّى بلبلا وذكا … مسكا وعنّ طلا وازورّ ريبالا ومن المحفوظ أيضا فى ساق لسيف الدين المشدّ: ساق تجلى كأنه قمر … على قوام أفديه من ساق لما رآنى وقد فتنت به … من عظم وجدى وفرط أشواقى شمّر عن ساقه غلائله … فقلت مهلا واكفف عن الباقى غنى وكاس المدام فى يده … قامت حروب الهوى على ساق ومن ذلك فى المعنى: لم أنسه إذ قام يكشف عامدا … عن ساقه كالجوهر البرّاق لا تعجبوا أن قام فيه قيامتى … إن القيامة يوم كشف الساق ولنعود الآن إلى سياقة التاريخ بعون الله تعالى، وحسن توفيقه. وإنما قصدنا بإثبات هذه المقطعات لتنشيط القارئ، ولا يمل ويسأم من فنّ واحد، فإذا خرج به شجون الحديث من فنّ إلى فنّ، كان لزناد فكرته أقدح، ولطير نظرته أصدح.

قال الإمام علىّ-كرّم الله وجهه-: «إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، فابتغوا لجلائها طرائف الحكم». وقال سيدنا رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: «إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحرا». وفى هذه السنة اشتد الغلاء بمصر، وبلغ الأردب القمح مائة درهم، والشعير والفول من خمسين إلى ستين، فنعوذ بالله من أمثالها. وفيها خطب باسم الملك الكامل ناصر الدين محمد مع اسم أبيه الملك العادل سيف الدين أبو بكر بالديار المصرية؛ ونقش ذلك على الدينار والدرهم. وفيها عزل القاضى زين الدين، وأعيد إلى الحكم القاضى صدر الدين المقدم ذكره، وكان وجيها عند الملك الكامل.

ذكر سنة سبع وتسعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة سبع وتسعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ذراعان فقط. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وستة عشر أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، مستمر الأمر، نافذ الحكم. والسلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر وولده الملك الكامل، ملوك مصر والشام بأعمال دمشق وما معها مع الشرق، وما بأيديهما منه. وبقية الملوك أولاد السلطان صلاح الدين فى بلادهم مستمرين الممالك بها. والغلاء مستمر بمصر. وفيها احترق البحر احتراقا عظيما، حتى نشف قدّام المقياس، وحفر قدامه، وارتدمت طاقات الماء، وجدد حفره، وكان ارتدم من بحر مصر شرقى الجزيرة. وفيها قبض السلطان الملك العادل على أولاد أخيه؛ المؤيد والمعز، واعتقلهما فى دار بهاء الدين قراقوش. وفيها كثرت الفقراء والصعاليك بمصر والقاهرة؛ وخلت الأرياف والضّياع، واشتد بالناس الجوع، وأكل بعضهم بعضا، وأكلوا الميتة، وفرق بعضهم على الأغنياء. والتزم الملك العادل بمؤنة ستة آلاف نفر. وكان يموت بمصر والقاهرة كل يوم ما يزيد عن الستمائة والسبعمائة من الجوع. وفيها لحق الملك الكامل جدرى، وعوفى منه. وفيها خرج السلطان الملك العادل إلى البركة وخيّم بها، لما بلغه خروج الملك الظاهر صاحب حلب إلى منبج وملكها. وتوجه إلى قلعة نجم وحاصرها. واختلفت الناصرية على الملك العادل. وبلغه أن الظاهر نزل على دمشق، فتوجّه العادل من البركة، ووصل نابلس، وخيم بها. فلما بلغ الظاهر ذلك عاد إلى حلب. فنفّذ السلطان ولده الملك المعظم عيسى وقلده مملكة دمشق. ثم توجه العادل ودخل الشرق، واستولى على عدة ممالك، وهم: حرّان، والرها، وسروج، وجبل عوف، وميافارقين،

وسميساط. وملّك ميافارقين لولده الملك الأوحد نجم الدين، وعاد السلطان إلى مصر. وفيها اشتد بالناس الغلاء، وهرب أكثر أهل مصر إلى الغرب وإلى الحجاز واليمن والشام وتفرقوا أيدى سبا. وكان ذلك أعظم مما جرى فى زمان المستنصر فى سنة عشر السبعين والأربعمائة حسبما ذكرناه فى سنيه. وروى الناس من الثقاة، أن فى هذه السنة كان يقوم الرجل فيذبح ولده الصغير، وتساعده أمّه على طبخه، ويأكلونه. ولما اطلع السلطان على ذلك، مسك منهم جماعة فعلوه، فأمر بحرقهم، فأحرقوا بمشاهدة جميع الناس. وعادوا يفعلون ذلك، مع من يقدرون عليه وعلى تحصيله، مثل طبيب يدعى لينظر إلى مريض، فعندما يحصل فى الدار يثبوا عليه فيقتلونه ويأكلونه. وكذلك مثل مزين، وجرائحى، وسائر أرباب الصنائع، الذين يستدعون إلى المنازل ليصنعوا شيئا من صنائعهم، فيفعلون به كذلك، وعادوا يختطفون الصغار والصبيان من الحارات والأزقة. وحصر من كفّنه السلطان فى مدة عشرة أيام فكانوا مائة ألف وعشرين ألف. وصلى خطيب الإسكندرية فى يوم واحد على سبعمائة جنازة من أعيان الناس، خارج عمن لا يعبأ به. وكان أشد الغلاء والوباء بالديار المصرية فى شهر رمضان، بلغ فيه القمح سبعة دنانير مصرية الأردب، والشعير والفول خمسة. ولا عاد يوجد شئ من سائر الحبوب، وآلت مصر إلى الخراب الكلى، لولا لطف الله بعباده. وطلع نيلها فاطمأنت نفوس الناس قليلا. وفيها كانت الزلزلة العظيمة فى شهر شعبان، أتت من نحو الصعيد، فعمت الدنيا فى ساعة واحدة، وهدمت بنيان مصر، حتى عدم تحت الهدم عالم عظيم. ثم وصلت بالشام والساحل، وهدمت نابلس، حتى لم يبق بها جدار قائم إلاّ حارة السّمرة. (11 - 7)

وهلك تحت الردم ثلاثون ألف إنسان. وكذلك هدمت عكا وصور، مع قلاع الساحل. وامتدت إلى دمشق، فهدمت بعض المنارة بجامع بنى أمية، وأكثر الكلاسة، والبيمارستان النورى. وهرب الناس إلى الميادين. وسقط من الجامع ستة عشر شرافة، وانشقت قبة النسر. وامتدت إلى بانياس وهونين. وخرج قوم من أهل بعلبك سائرين فى طريقهم، فسقط عليهم جبلا، فهلكوا تحته. وهدمت أكثر قلعة بعلبك مع عظيم بنائها. وامتدت إلى حمص وحماة وحلب. وقطعت البحر إلى قبرص، وانفرق البحر فصار أطوادا، وقذف بالمراكب إلى الساحل، وتكسرت منه عدة مراكب. ثم وصلت إلى أخلاط وأرمينية وأذربيجان والجزيرة. ووصلت إلى العجم، فأحصى من هلك فى بلادها تحت الردوم، فقيل كان ألف ألف ومائة ألف. وكان قوة الزلزلة فى مبتدأ أمرها أقامت بقدر ما يقرأ الإنسان سورة الكهف، ثم عاودت بعد ذلك أياما. وفيها توفى الشيخ جمال الدين أبى الفرج عبد الرحمن بن على بن عبد الله بن حماد ابن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزى بن عبد الله بن القاسم بن النظر بن القاسم بن محمد ابن عبد الله بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبى بكر الصديق، رضى الله عنه. وهو ابن الجوزى الواعظ المشهور. وقيل إن أباه توفى وتركه وهو ابن ثلاث سنين. وكان له عمة صالحة، وكان أهله تجارا فى النحاس. فلما كبر، حملته عمته إلى مسجد أبى الفضل، وأسمعته الحديث. وقرأ القرآن، وعنى بأمره شيتم ابن الزعفرانى، وعلمه الوعظ. واشتغل بفنون العلم، وأخذ اللغة عن أبى منصور الجواليقى. وصنف الكتب فى فنون شتى، وقيل بلغت مصنفاته نحوا من ثلثمائة كتاب. وحضر مجلسه الخلفاء والوزراء والعلماء والأئمة والملوك والأمراء. وأقل ما كان يحضر مجلسه عشرة آلاف نفر. وأوقع الله له فى قلوب الناس المحبة والقبول

والهيبة. وكان زاهدا فى الدنيا. وقال صاحب هذا النقل عنه أنه سمعه يقول: «كتبت بأصبعى هاتين ألفى مجلد». وتاب على يده ما يزيد عن مائة ألف إنسان. وأسلم على يده نيف وعشرة آلاف يهودى ونصرانى. وكان يختم القرآن فى كل سبعة أيام. ولا يخرج من بيته إلا إلى الجامع الجمعة، أو عند ما يحضر مجلسه للوعظ. ولا رآه أحدا مازحا قط، ولا رئى فى صباه يلعب قط. وهو صاحب كتاب التاريخ الكبير المسمى بمرآة الزمان، جمع فيه من العجائب والغرائب ما نثرت منه جملة فى هذا التاريخ. رحمه الله تعالى، وسائر علماء المسلمين. وفيها توفى الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدى، وكان خادم أسد الدين شير كوه، عم السلطان صلاح الدين. وجعله السلطان صلاح الدين زمام قصره. وكان رجلا مسعودا ذو همة، وهو الذى بنى السّور المحيط بمصر والقاهرة، حسبما تقدم من ذكر ذلك. وبنى القناطر بالجيزة التى على طريق الأهرام. وعمّر بالمقسم رباط، وبظاهر باب الفتوح خان سبيل. وله وقف كثير لا يعرف الآن. وكان حسن المقاصد، جميل النية. وكان كما تقدم من الكلام أنه أخذ أسيرا من عكا لما أخذها الفرنج، فاشترى نفسه منهم بعشرة آلاف دينار. وقال القاضى بهاء الدين بن شداد فى سيرة السلطان صلاح الدين: أنه انفك من الأسر يوم الثلاثاء حادى عشر شوال سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. قلت: والناس ينسبون إليه أحكاما عجيبة فى ولايته، وهى بالعكس مما يروونه عنه، حتى أن الأسعد بن مماتى صنع جزءا لطيفا وسمّاه «الفاشوش فى أحكام قراقوش». وفيها توفى سقمان الملقب قطب الدين بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان؛ صاحب آمد وحصن كيفا. سقط من سطح جوسق فمات. وملك أخوه محمود، وكان شديد الكراهية له والنفور منه، فملكه الله مكانه.

وفيها توفى القاضى عماد الدين الكاتب رحمه الله. وكان جامعا لفنون كثيرة من الأدب والفقه والخلاف والتاريخ. وله النظم البديع والنثر الفائق. وكتب لنور الدين الشهيد وللملك الناصر صلاح الدين، ونال عندهما المنزلة العالية. وله التصانيف البديعة كالبرق الشامى، وخريدة القصر، والتبصرة فى أخبار وزراء الدولة السلجوقية، وغير ذلك. وكان مولده سنة تسع عشرة وخمسمائة، فكان عمره تسع وسبعين سنة.

ذكر سنة ثمان وتسعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثمان وتسعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ذراع واحد وأربعة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، مستمر الأمر، نافذ الحكم. والسلطان الملك العادل سلطان الإسلام بالديار المصرية، والبلاد الشامية، وما بيده من بلاد الشرق. والملك الكامل ولى عهده. والغلاء بمصر موجود، لم يتناقص إلى جمادى الآخرة لما ظهرت زيادة النيل المبارك. وفى شعبان منها عادت الزلزلة، وهدمت ما كان تبقى من نابلس، وشقت قلعة حمص، وأخربت حصن الأكراد، وامتدت إلى قبرص. وفى هذه السنة انتظم الملك بسائر الممالك الأيوبية للسلطان الملك العادل، وضربت له السكة وأقيمت له الخطبة. وفيها-أعنى سنة ثمان وتسعين-توفى القاضى محيى الدين بن زكى الدين قاضى القضاة بدمشق وأعمالها. وكان إليه قضاء حلب وبلادها من الإمام الناصر. وكان-رحمه الله- فاضلا مترسلا، وله النظم والنثر البديعان. ولما توفى ولى السلطان الملك العادل قضاء دمشق لولده زكى الدين، وهو الذى لما أراد الملك المعظم عزله والإخراق به بعث إليه قباء وكمة، وتقدم إليه بلبس ذلك، فلبسه فلحقه غم وهم بسبب ذلك، فمات بعد أيام قلائل. وفيها أخرج الملك العادل المنصور بن العزيز من الديار المصرية، لما خيف من الأمراء الصلاحية، وذلك فى الخامس والعشرين من ربيع الآخر، ومعه والدته وإخوته. وسيروا إلى الرّها، ثم انتقلوا إلى حلب فأقاموا عند الملك الظاهر، وأحسن إليهم.

ذكر سنة تسع وتسعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة تسع وتسعين وخمسمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ذراعان وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنى عشر أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك. وولده الملك الكامل، وبقية الملوك على ما هم عليه. وفيها وردت الأخبار أن الفرنج وصلت إلى عكا فى عالم عظيم، لا يحصى عدتهم إلا الله عز وجل، وأنهم طالبين الديار المصرية، وسيروا أصطولهم إلى ثغر الإسكندرية. وفيها ماجت الكواكب والنجوم فى السماء شرقا وغربا، وتطايرت كالجراد المنتشر يمينا وشمالا، ولم يعهد بمثل ذلك إلاّ عند مبعث النبى صلى الله عليه وسلم.

ذكر سنة ستمائة هجرية النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ستمائة هجرية النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأحد وعشرون أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك. ودخل أصطول الفرنج-خذلهم الله-إلى فوّة يوم عيد الفطر، من فم رشيد، ونهبوها، وقتلوا من كان بها، وأقاموا يومين. وكانوا عشرين قطعة. ولم يكن قبل ذلك جسرت الفرنج على مثل هذا. والفرنج على عكا، والملك العادل مرابط لهم، والرسل تتردد بينهم فى أمر الصلح. ثم اتفقوا على رأى بينهم. وفيها نزل الملك العادل دار الوزارة بالقاهرة المعزية، ونزل الكامل ولده بالقلعة، وهو أول من نزل بها من الملوك. وفيها غارت الفرنج-خذلهم الله-وهم طائفة الاسبتار، على حماة، ونهبوا وقتلوا من التركمان خلقا كثيرا، ووصلوا إلى باب حماة. وخرج إليهم عامة حماة، فقتل منهم خلق عظيم والذى تبقى عادوا هاربين إلى حماة، فازدحموا فى الباب، فمات منهم أناس عدة، ورمى منهم جماعة بأنفسهم إلى الخندق. ورجعت الفرنج وقد أسروا جماعة كبيرة، وفيهم رجل يعرف بالشهاب بن التلاعى كان واليا

بحماة. وكان قد حمل على الفرنج وأرمى من فرسانهم جماعة، ثم تقنطر به جواده، فمسكوه وأتوا به إلى طرابلس. ثم إنه بعد ذلك هرب منهم، ورمى نفسه إلى البحر المالح، وتسلق فى جبال بعلبك، ووصل إلى أهله. وكتب صاحب حماة إلى عمه الملك المعظم-وهو بدمشق-فأنجده. ولم تفده النجدة لكثرة الفرنج، قللهم الله، وخذلهم. وفيها توفى أبو القاسم هبة الله بن أبى الرداد، متولى مقياس النيل المبارك بمصر، وكان يومئذ خطيب الجامع بالجزيرة. قال ابن واصل: إن فى سنة تسع وتسعين قتل الملك المعز إسماعيل بن الملك العزيز ظهير الدين طغتكين بن أيوب، صاحب اليمن. وسبب قتله قلة عقله، وما كان ادعاه من الدعاوى الكاذبة. وقيل إنه ادعى أيضا الربوبية، وأمر كاتبه أن يكتب: «من مقر الإلهية»، إلى غير ذلك. فاجتمعت عليه مماليك أبيه وغيرهم، وضربوا معه مصافا. وآخر الأمر أنه قتل فى حديث طويل، ونصبوا رأسه على رمح، وداروا به. ورتبوا فى الملك أخ له صغير يلقب بالناصر، فجعلوا [له] اسم الملك. وأقاموا [أتابكا له] مملوك لجده يسمى سنقر، وتزوج أم الناصر، ثم توفى بعد حروب كثيرة. وعصت زوجته بالقلعة، وقالت: «لا أسلمها إلا لرجل من بنى أيوب». ثم تزوجها آخر، يقال له غازى بن جبريل. ثم سمّ [الملك الناصر] ومات، [وقتل غازى بعد ذلك]. ثم حضر إليها بعد مدة سليمان شاه بن سعد الدين شاهنشاه بن الملك المظفر تقى الدين عمر، وكان لابسا بالفقيرى [لباس الفقراء] فتزوجته، وملك اليمن، واستمر إلى حين توجه الملك المسعود بن الملك الكامل إلى اليمن وملكها. وسير سليمان شاه إلى الديار المصرية، فأقام بها مكرما، وقتل شهيدا على المنصورة نوبة الفرنج. واستمر الملك المسعود ملك اليمن والحجاز، حسبما يأتى من خبره.

وفيها أعنى سنة ستمائة كان المصاف بين الملك الأشرف مظفر الدين موسى ابن السلطان الملك العادل وبين عسكر الموصل، وكسرهم كسرة شنيعة. وكان ذلك أول ما ظهر من ميامنة حروبه. وعاد بعدها ما حارب جيشا قط إلا كسره، فإنه كان ميمون الحروب، سعيد الحركة، ما كسرت له راية قط. وفيها ولد الملك الناصر قليج أرسلان بن الملك المنصور صاحب حماه، وهو شقيق الملك المظفر، أمهما ملكة خاتون، ابنة السلطان الملك العادل. قال ابن واصل: وفى هذه السنة كانت الزلزلة العظيمة التى عمّت مصر والشام وبلاد الروم إلى صقلية، ووصلت إلى سبتة من الغرب.

ذكر سنة إحدى وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة إحدى وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثمانية أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، مستمر الأوامر، نافذ الأحكام فى سائر الممالك الإسلامية، كثرها الله تعالى، وأعلى كلمة سلطانها. والسلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر بحاله، وولى عهده الملك الكامل. وبقية الملوك الإسلامية على ما هم عليه. وفيها فتح الفرنج-خذلهم الله تعالى-قسطنطينية العظمى، استقلعوها من الرّوم، ونهبوا أموالها. ووصلوا إلى الإسكندرية بأموالها وجواهرها، وما كان فى كنيستها من عجائب المصاغات وغرائب الصناعات. وأبيع عليهم-فى هذه السنة-الشب بعشرة دنانير القنطار. وفيها غاروا الملاعين أيضا على مدينة حماة، وأخذوا النساء الغسالات من على نهر العاصى. وخرج إليهم الملك المنصور تقى الدين وقاتلهم بنفسه أشد قتال، وكشفهم، واستردّ النساء وجميع ما أخذوه. قال ابن واصل: وفى هذه السنة-أعنى سنة إحدى وستمائة-خلع الإمام الناصر ولده عمدة الدين أبا نصر محمد من ولاية العهد، وولى ذلك أخاه الصغير أبى الحسن ولقبه الملك المعظم، لميله إليه دون ولده الكبير محمد. وكان الوزير يومئذ الشريف نصير الدين بن ناصر الدين مهدى الحسنى، فأخرج خطّا ذكر أنه خط عمدة الدين يذكر فيه أنه عاجز عن ولاية العهد، وشهد [عدلان] بصحته، فقطعت السكة والخطبة باسمه فى سائر الآفاق.

ذكر سنة اثنين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة اثنين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم سبعة أذرع وأربعة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنا عشرة أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك. وبقية الملوك حسبما سقناه من ذكرهم. وفيها كان السلطان بثغر الإسكندرية وعاد إلى القاهرة المحروسة. وكان قد جهز أصطول عدتهم خمسة عشر شينيا وشحنهم بالرجال، وخرجوا، فلحقهم هواء مزعج رمى بهم فى طرف بلاد العدو قريبا من مدينة طرابلس الشام، فكسر أكثرهم، وعدم خلق كثير من الأصطول والمقاتلة ما بين أسرى وغرقى. ولم يسلم من الشوانى غير ستة. وفيها خرجت الأرمن ومعهم ملكهم ابن لاون وغاروا على تركمان كانوا نزولا على النهر الأسود، فأخذوا منهم خلقا كثيرا، وساقوا دوابهم إلى درب ساك، وأحرقوا ربضها، وغاروا على بعض ضياع حلب. ثم إنه تقرر الصلح بين الملك الظاهر صاحب حلب وبينهم. وفيها وصل الملك المعظم عيسى من دمشق إلى مصر لزيارة السلطان العادل.

ذكر سنة ثلاث وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثلاث وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك. وقد خرج بجميع العساكر المصرية بنية الغزاة، وجعل الملك الكامل بالديار المصرية. وكان سبب حركة السلطان أنه بلغه أن الملاعين-أهل حصن الأكراد-خرجوا وغاروا على البلاد الإسلامية من الشامية، ونهبوا وقتلوا، فحلف [العادل] أنه لا يبقى بالساحل من الفرنج رجلا يكفر بالله، إن شاء الله تعالى. ووصل إلى دمشق. وكانت الملوك قدمت عليه بالعساكر من كل فج عميق على كل ضامر. ونزل على بحيرة قدس. ثم صام شهر رمضان حتى تكملت العساكر من جميع النواحى، وسار إلى حصن الأكراد. واتقع مع الفرنج وقعة عظيمة، قتل بينهما خلق كثير. ثم كسرهم وضيق عليهم، وفتح حيفا وأعزاز، وهو حصن قريب من المرقب. ثم نزل على طرابلس، ونصب عليها المناجيق، وضيّق على أهلها. وغارت العساكر على ضياعها، وأخذوا أهلها من النساء والرجال، وقطعوا أشجارها، والعين الواصلة إليها. ولم يزل الأمر كذلك إلا أيام فى هذه السنة. ثم رحل السلطان وعاد، ونزل على منزلته الأولى فى ذى الحجة من هذه السنة. وبعث صاحب طرابلس يسأل الصلح، وسيّر هدايا جيدة، وثلثمائة أسير من المسلمين، فتقرر الصلح بينهم. وكان الرسول الريدكور أخو صاحب طرابلس.

ذكر سنة أربع وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة أربع وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وسبعة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك. وكان له ثلاثة عشر ولدا ذكورا تأتى أسماؤهم فى مكانها، إن شاء الله. وكان منهم الملك الأوحد نجم الدين، وكان قصيرا دميما، حقيرا فى العين، فخرج مع والده وإخوته إلى الصيد، فأرسل السلطان بازا على طائر، فحط الباز على رأس الملك الأوحد، فضحك السلطان وقال: «قد اصطاد بازنا اليوم بومة». فانكسر قلب الأوحد. وقيل: إن الباز كان أهداه للسلطان صاحب أخلاط، فى جملة هدايا. وهذه الواقعة تعد من النكت الغريبة. فلما صار الأوحد صاحب ميافارقين، وقدر الله تعالى أنه ملك أخلاط-لما استدعوه أهلها، وسلموه البلد من غير كدّ ولا تعب- فكتب إلى أبيه يبشره، ويقول له فى جملة مكاتبته: «يا مولانا؛ البومة التى صادها باز مولانا السلطان فى اليوم الأول من شهر كذا فتحت مدينة أخلاط، وإنما كان الباز من صاحب أخلاط، فبشر المملوك بأن يكون ملكها». فلما قرأ السلطان كتابه تعجب منه كيف أسرّها فى نفسه، وعظم أمره فى قلبه.

وفيها على ما ذكر ابن الأثير-رحمه الله-صاحب التاريخ الكبير الجامع، إن خوارزم شاه عبر بلاد الخطا بجميع عساكره، وذلك باتفاق من صاحب سمرقند وبخارى وهم الخطا الذين يلقبون ملوكهم «خان الخان» يعنى ملك الملوك، وأنهم حشدوا والتقوا معه، وجرى بينهم قتال عظيم فى عدة وقعات، فتارة له وتارة عليه. فلما كان فى هذه السنة، اقتتلوا أشدّ قتال، فوقعت الكسرة على خوارزم شاه، وانهزم جيشه هزيمة قبيحة، وأسر كثير من المسلمين، وأسر خوارزم شاه، وأسر معه بعض أمرائه الكبار-يقال له شهاب الدين بن مسعود -، أسرهم جميعا رجل من الخطائيين وهو لا يعرفهما. ووصل المنهزمون من جيوش السلطان، وفقدوا خوارزم شاه، فعظم عليهم، واشتاشت العساكر، واختبطت البلاد. ثم إن شهاب الدين بن مسعود قال للسلطان: «يجب عليك فى هذا الوقت أن تدع السلطنة ونقش الملك، وتصير خادما لى، لعلى أحتال فى خلاصك». فشرع خوارزم شاه يخدمه، ويقدم له الطعام، ويقوم فى قضاء حوائجه. فقال الرجل الخطائى الذى

أسرهما لابن مسعود: «إن هذا الرجل يكثر من تعظيمك». فقال له ابن مسعود: «أنا رجل كبير فى قومى، وهذا غلامى». فعاد ذاك الرجل الخطائى يكرر لابن مسعود، ويقوم بحقه، وقال له: «لولا إن قومى عرفوا مكانك عندى وإلا كنت أطلقتك». ثم تركه أياما، فقال له ابن مسعود: «إن المنهزمين يرجعون ولا رأونى، فيظنون أهلى أنى قد قتلت، فيعملون مأتمى، ويتفرقون أموالى ويقتسمونها، فأهلك ولا أعود أجد ما أستفكّ به نفسى. فلعلك أن تقرر علىّ شئ من المال فأحمله إليك». فقرر عليه مالا جيدا، وقال: «أريد أن تأمر رجلا عاقلا يذهب بكتابى إلى أهلى، ويأتيك بما طلبت، وإن كنت تأمر أن تنفذ غلامى هذا فهم يعرفونه ويثقون به، فإن أصحابكم لا يعرفون أهلى». فأذن له ذلك الرجل فى إنفاذ غلامه. فعندها سيّر ابن مسعود السلطان خوارزم شاه، والخطائى يظن أنه غلامه. ثم جهزه الخطائى بفرس وجنيب، وأنفذ معه جماعة من أهله وأقاربه، ووصّلوه إلى قريب من خوارزم، وعادوا وتركوه. ثم وصل السلطان إلى قريب من محل ملكه، فعرّف بنفسه، والتأمت عليه نواب بلاده، واستبشروا به أهل مملكته، وضربت البشائر بسائر ممالكه، وزينوا المدن والحصون. وأما ابن مسعود فإنه أقام عند ذلك الرجل، فدخل عليه يوما فقال لابن مسعود: «قد وردت الأخبار على ملكنا أن السلطان خوارزم شاه قد عدم فإيش عندك من خبره». فقال ابن مسعود: «أو ما تعرف خوارزم شاه؟». قال: «لا، والله». قال: «هو والله أسيرك الذى سفرته وجعلته غلامى». فبهت الرجل وقال: «ولم لا عرفتنى حتى كنت خدمته وسرت بين يديه؟». فقال ابن مسعود: «قم الآن بنا نسير إليه، فإنه يحسن مكافأتك أضعاف ما أمّلته عندى». فسارا إليه، وقدما عليه، فجعل ابن مسعود حاجبا كبيرا، وجعل ذلك الخطائى أميرا، وأحسن إليهما غاية الإحسان، والله أعلم.

وفيها وصلت رسل الخليفة الإمام الناصر لدين الله، بالخلع العظيمة، وتقليد بجميع البلاد الشامية والديار المصرية والممالك بالشرق، والخلع إلى سائر الملوك أولاده، صحبة شهاب الدين شيخ الشيوخ السهروردى، والأمير نور الدين السلحدار الناصرى. قلت: وهذا الشيخ شهاب الدين السهروردى القائل هذين البيتين، وذلك لما أشفق من طول العمر، فقال: يا رب لا تبقنى إلى زمن … أكون فيه كلاّ على أحد خذ بيدى قبل أقول لمن ألقاه … عند القيام خذ بيدى وقيل فى هذه السنة سكن الملك الكامل القلعة، وجدد بها الآدر والمناظر والمستنزهات والحمامات وغير ذلك. قال ابن واصل: فى هذه السنة عزل الخليفة [الناصر لدين الله] وزيره نصير الدين ناصر بن مهدى العلوى الحسنى، وذلك لما خيلوه منه الأعداء، وأغروه به، فمن ذلك ما قيل: ألا مبلغ عنى الخليفة أحمدا … توقّ-وقيت السوء-ما أنت صانع وزيرك هذا بين أمرين فيهما … فعالك-يا خير البرية-ضائع فإن كان حقّا من سلالة أحمد … فهذا وزير فى الخلافة طامع وإن كان فيما يدّعى غير صادق … فأضيع ما كانت إليه الصنائع

ذكر سنة خمس وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة خمس وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا ونصف أصبع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك، وهو بدمشق. وتوجه إلى خدمته الملك الكامل ولده، وأقامت مصر والقاهرة خاليتان من سلطان إلى حين عودته. وفيها وصل إلى السلطان الملك العادل، وإلى جميع أولاده، سراويلات الفتوة، صحبة رسل الخلافة، وصحبتها خلع عظيمة. فلبسوا، ولبس كل أحد من يلوذ به من أمرائه وخاصته. وشاع لبس ذلك فى الناس. وفى شهر رجب توفى القاضى صدر الدين عبد الملك بن عيسى، وكان صالحا. وولى الحكم بعده القاضى عماد الدين عبد الرحمن بن عبد العلى. وجمع له ما لم يجمع لغيره من تدريس وخطابة وغيرهما. وكان السلطان العادل قد نزل على عكا فى سنة أربع، وهى السنة الخالية، وأقام عليها ثلاثة أيام. ثم اتفق الحال على [إطلاق] ألف وثمانمائة أسير من المسلمين، فاستنقذوا من الأسر، ورحل عنها. (12 - 7)

وفى سنة خمس خرجت الكرج إلى ولاية أخلاط، وقصدوا مدينة أرجيش فحاصروها، وملكوها عنوة بالسيف، ونهبوا جميع ما فيها، وأسروا وسبوا جميع أهلها، وأصبحت خاوية على عروشها. وفى آخر هذه السنة عاد الشيخ شهاب الدين السهروردى من عند الإمام الناصر إلى السلطان الملك العادل، وصحبته خلعة عظيمة مكللة، وطوق ذهب مرصع بالجواهر، وتقليدا عظيما يتضمن نعوتا لم ينعت بها إلا الملوك من بنى بويه وبنى سلجوق، لما كان الحكم لهم فى البلاد. ويتضمن التقليد مصر، والشام، والشرق كله، والعراق، وبعض العجم الذى لم يكن داخل فى ملك خوارزم شاه. وكذلك الخلع العظيمة إلى سائر الملوك أولاده. وكان ذلك يوما مشهودا. وفيها كانت الزلزلة بنيسابور، فدامت عشرة أيام وهى تعاودهم. وهلك تحت الردم عالم عظيم، والله أعلم.

ذكر سنة ست وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ست وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة لم يتحرر فى هذه السنة، كونه أخذ القاع من الماء القديم فى شهر ذى الحجة. وكانت الزيادة فى سنة سبع وستمائة ستة عشر ذراعا فقط. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل قد توجه إلى غزاة الكرج، لما بلغه ما فعلوه، وخروجهم على ولده الملك الأوحد صاحب أخلاط. فعندما سمع الكرج بتوجه السلطان إليهم، ولوا منهزمين. فنزل السلطان على سنجار محاصرا لها، لينزعها من يد مالكها، فوصل إليه رسول الإمام الناصر، وهو ابن الضحاك استادار الخلافة المعظمة، وفى خدمته أربعمائة فارس. ولم يسمع بمثله أنه سير إلى ملك من الملوك من جهة الخلافة. وشفع فى صاحب سنجار، فامتثل ذلك، ورحل عنها. وفيها توفى سنجر شاه صاحب الجزيرة. وكان هذا الملك سيئ الأخلاق، قبيح السيرة، ظلوما، غشوما، سفاكا للدماء بحقّ وبغير حقّ. وكان له عدة أولاد، فحبس كل واحد فى قلعة، وذلك خوفا على نفسه منهم. ثم إنه اعتقل ولدين منهم فى قلعة تعرف بقلعة فرح وهى قلعة عظيمة لا ترام. وكان أحدهما يسمى محمود والآخر مودود. واعتقل ولدا آخرا-يسمى غازى-بالمدينة، ووكل به من يمنعه من الخروج والدخول. وكان فى جانب تلك المدينة-محاذى الدار التى فيها غازى-

بستان خراب، فتحيّل الصبى حتى مسك ثعبانا عظيما، وسيّره إلى أبيه، وقال له: «ارحمنى، والله مالى مجاور غير هذا وأنظاره». وظن أنه يرق له، فلم يزدد عليه إلا قساوة. فاحتال الصبىّ وهرب من تلك الدار واختفى. فلما بلغ أبوه، شنق البواب على باب الدار، ثم نفذ البريد يتطلب الصبى فى سائر ممالكه، فلم يخبره أحد به. وكان الصبى يمشى فى الأسواق وتحت قلعة أبيه، والناس يعرفونه ويدعون له ويحسنون إليه، محبة فيه وبغضا فى أبيه. وكان الصبى متولعا بإحدى حظايا أبيه، فكان يكاتبها وتكاتبه. فكتبت إليه أن يأتيها الليلة. فأتاها، وأقام معها فى القصر. ثم إن الملك شرب تلك الليلة، وأحضرت الملاهى والأغانى، فأمعن فى شربه، ورسم أنه يغنوا له فى الفراق وما أشبه ذلك. ثم ذكر ذنوبا فعلها مع الناس، وظلمه لأولاده. هذا وغازى ولده على أعلى القصر يسمع وينتظر غفلته ليقتله. فلما ثمل من الشرب، وخرج الأغانى، وخلا بنفسه، قام إلى الخلاء، فوثب عليه غازى فقتله، وضربه بالسكين أحد عشر ضربا، ثم لم يقنعه حتى ذبحه. ولو كان-مع مشيئة الله عز وجل-جلس فى ذلك الوقت كان استقر أمره فى الملك، وإنما التهى مع تلك الجارية بالأكل والشرب، ورأس أبيه بين يديه، فخرجت جارية صغيرة إلى الدهليز، وعرّفت لأستادار أبيه الصورة، فسير ذلك الأستادار من وقته، وأخرج بقية الأولاد المحبسين، وأخبرهم بقتل أبيهم، فجلسوا على الباب، وأحضروا الحجاب وكبراء الدولة، ومسكوا غازى واعتقلوه. وجلس ابنه مودود فى دست الملك، والله أعلم. وفيها وصل إلى بورة أربعة عشر مركبا من مراكب الفرنج، فنهبوها وأسروا من فيها، فخرج إليهم الملك الكامل فى الشوانى الإسلامية. فلما بلغهم ذلك هربوا. وبورة هذه بالقرب من دمياط. قال ابن واصل: فى هذه السنة كانت وفاة الملك المؤيد نجم الدين مسعود ابن السلطان صلاح الدين، بالسبب الآتى ذكره فى تاريخه.

ذكر سنة سبع وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة سبع وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم لم يؤخذ له فى هذه السنة قاع جملة كافية، وسببه أن زيادة سنة ست فى سنة سبع، وقد تقدم ذكر الزيادة فى سنة ست. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك. وفيها كانت وقعة الكرج مع الملك الأوحد. وذلك لما اتفقت الملوك فى هذه السنة على السلطان الملك العادل، وهم صاحب الروم خسرو شاه بن قليج أرسلان، وصاحب الموصل، وصاحب إربل، وصاحب الجزيرة، وصاحب ماردين، وصاحب سنجار. واتفقوا أن تكون السكة والخطبة لصاحب الروم خسرو شاه. وخرج كل واحد من صوبه، وقصدوا أن يدهموا الملك العادل بكثرتهم، وكان يومئذ نازلا على حران، وعنده صهره صاحب آمد. ونزل الكرج على أخلاط سابع عشر ربيع الآخر وحاصروها، فسيّر الملك العادل وطلب الملوك أولاده وأولاد أخيه. ثم إن الله تعالى نصر الملك الأوحد على الكرج، وتفرقت كلمة الملوك المجتمعة على السلطان الملك العادل. وحضرت إليه الملوك بعساكرهم، وقصد الكرج. ثم جهز الملك الأشرف والملك المنصور ففتحوا نصيبين وسنجار. واستقرت السكة والخطبة باسم السلطان الملك العادل على عادته، والله أعلم. قال ابن واصل: فى هذه السنة كانت وفاة نور الدين صاحب الموصل، بالسبب الآتى ذكره فى تاريخ أبى المظفر. والخلف فى هذه الأحوال فى مدد السنين على صاحب النسخة الأصل عهدته، وإنما العبد ذكر كل من التاريخين وما اختلفا فيه. وقال ابن واصل: إن فى هذه السنة توفى الملك الأوحد صاحب أخلاط، وهو غلط منه، وإنما الصحيح ما ذكرناه فى سنة عشرة وستمائة.

ذكر سنة ثمان وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثمان وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع أخذ تقديره فى سادس المحرم. مبلغ الزيادة فى هذه السنة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك، وقد عاد من بلاد الشرق فى هذه السنة، ودخل الديار المصرية، ونزل دار الوزارة. وفيها توفيت والدة الملك الكامل، ودفنت بجوار ضريح الإمام الشافعى، رضى الله عنه. وبنى عليها القبة العظيمة التى أجمعت الناس أنهم لم يروا مثلها. وحمل الماء إليها من بركة الحبش على قناطر معقودة إلى التربة. وعمرت القرافة الصغرى بسبب ذلك. واستجدت الناس فى القرافة الآثار الحسنة. وفيها توفى أبو الحسن على بن محمد أبو سعد، الملقب بتاج الدين بن حمدان، صاحب كتاب التذكرة الحمدونية، الذى سقنا فى هذا التاريخ جملة منها، لما وجدنا صحة ما أثبته هذا الفاضل فيها من الأخبار، ونثره من جواهر الآثار، رحمه الله تعالى، وسائر علماء المسلمين، مع كافة أمة محمد أجمعين. وفيها توفى فخر الدين إياز جهاركس، صاحب القيسارية بالقاهرة المحروسة، رحمه الله. وفيها توفى الملك المؤيد مسعود بن السلطان صلاح الدين، رحمهما الله تعالى. وكان لما قدم إلى رأس العين تلقاه الوالى بها، وأحضر له فاكهة، فأكل منها هو

وجماعة من خواصه. فلم تستقر الفاكهة فى معاه سوى ربع ساعة، وصاح: «النار». وتوفى بعد ثلاث ساعات من تلك الساعة، بعد الظهر، وكذلك سائر من أكل معه منها. ثم حملوه إلى حلب إلى عند أخيه الملك الظاهر، ودفن بها. ولما بلغ العادل موت المؤيّد لبس عليه الأزرق. قال ابن واصل: وفيها كانت الفتنة بالحجاز، ونهب الركب العراقى. ولولا التجأ الباقون إلى الركب الشامى-وكان فيه ربيعة خاتون بنت أيوب أخت السلطان الملك العادل-لكان الحجازيون قد أتوا عليهم. وسبب ذلك أن باطنيا وثب على الشريف أبى عزيز قتادة صاحب مكة فقتله. وكانت أم صاحب [حصن] «الألموت» قد قدمت حاجّة، فادعوا أن الباطنى من جهتهم.

ذكر سنة تسع وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة تسع وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك، وقد توجه من مصر إلى دمشق. وهرب عز الدين أسامة، ولحقه الملك المعظم بنفسه، وقبض عليه [واعتقله بالكرك]، وتسلم من نوابه ما كان بيدهم من القلاع، بعد حصار كوكب، وأخذ وخرب. ونقلت ذخائره إلى الطّور. واستقر السلطان بدمشق. وفيها كانت الوقعة العظيمة المعروفة بالعقاب، بين الأمين محمد بن يعقوب ابن عبد المؤمن صاحب المغرب، وبين الفرنج، على مدينة طليطلة من الأندلس. وكان النصر للمسلمين على المشركين. وفيها نزل صاحب الكرج على أخلاط وحاصرها، وأشرف على أخذها. ثم إنه شرب خمرا وثمل سكرا، فحدثه سكره أن يركب ويأخذ البلد، فركب [فى عشرين فارسا] وساق، فتقنطر به الفرس، فأخذ أسيرا مع عدة من أصحابه، وأحضروا للملك الأوحد. وفيها تحركت الفرنج حركة عظيمة، وخرج لهم السلطان، ثم وقع الصلح والهدنة. وفيها توفى نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكى بن آق سنقر صاحب الموصل. وكان مدة ملكه بالموصل سبع عشرة سنة وأحد عشر شهرا. وكان

لما قوى مرضه، تولى الأمور وتدبير الأحوال بدر الدين لؤلؤ-وكان أستاداره والحاكم فى مملكته. فلما مات الملك قال الأكابر من الدولة: «لا يفوه أحد بموته». وخرج بدر الدين لؤلؤ وجلس للناس، وقضى حوائجهم. ثم طلب الأمراء والناس، وأشاع بموته، بعد أن أتقن أمره. وأخرج الملك ودفنه فى مدرسته التى كان أنشأها مقابل داره. وكان نور الدين صاحب الموصل-رحمه الله-ملكا جميلا، جوادا، شجاعا، حسن الوجه، كريم المحيا، كثير البشاشة، كثير الهيبة على أهل مملكته، زائد العدل، لا يستحسن الظلم، يكون مع الضعيف بخلاف القوى، جيد الحيلة والتصرف فى أمور المملكة. وحكى عنه أنه لما توجه إلى نجدة صاحب ماردين حين حاصره الملك الكامل بن العادل وملك الربض منه، فحضر نور الدين إلى نجدته، وضرب مصافا مع الملك الكامل، وكسره. واستقرت قلعة ماردين شاغرة بلا ملك ولا مانع، فقيل له: «املك القلعة، فإنه لم يكن بها من يمنعك». فقال: «أعوذ بالله أن أغدر بصاحبها، وأكون قد أنجدته من عدوه وأخونه فى ملكه، فيكون مثلى كمثل الرجل مع أبى زريق، وذلك أن رجلا حاز بشعراء فسمع قائلا يقول: بالله عليك أدركنى وخلص فراخى. فنظر وإذا هو الطائر المعروف بأبى زريق، وحيّة التفّت على شجرة، طالعة إلى عشّ له فى تلك الشجرة، تريد فراخه، فرمى الرجل الحية بسهم فقتلها. ثم قال: والله إنك طائر حسن ذكى، لآخذنّ فراخه. فتسلق فى الشجرة يريد أخذ الفراخ. فلما نظر إليه ذلك الطائر وعلم أنه يريد أخذ فراخه. قال له: يا إنسان قد عملت خيرا فتمه. فتعجب منه، ورجع على نفسه بالملامة. وأنا كذلك إن أخذت هذه القلعة فأكون عملت خيرا وما تميته». ثم إنه نفذ كتابا إلى صاحبها يبشره بالفتح والنصرة على الملك الكامل، ويستقدمه، فقدم، وسلمه قلعته.

ومن مناقبه-رحمه الله-عن مجد الدين ابن الأثير كاتبه قال: «كنت مع نور الدين صاحب الموصل، وكان له سرّادار، وكانت مفاتيح القلعة مع ولد السرادار، ففتح وسرق دراهم لها صورة، فبلغ السلطان ذلك، فسير إلىّ ليلا مع الدوادار أن أكتب كتابا بأن تقطع يد ابن السرادار». قال القاضى مجد الدين بن الأثير: «فقلت للدوادار إننى لا أكتب كتابا إلا بين يديه. فراددنى، فامتنعت واعتذرت. فأحضرنى بين يديه وقال: لم لا كتبت بقطع يد ابن السرادار؟. فقلت: ياخوند، ولم ذلك؟. قال: لأنه سارق. فقلت: مولانا-أحسن الله إليه-عودنى أنى لا أكتب إلاّ بما يجوز فى الشرع. فقال: فكيف السارق ما تقطع يده فى الشرع؟. قلت: هذا سرق من غير حرز. قال: وكيف؟. قلت لأن المفاتيح معه. قال: فإن كان هكذا فجزاك الله عن صحبتك خيرا، منعتنا عن الإثم». ثم لم يذكره بعدها. قال ابن واصل: وفى هذه السنة قبض السلطان كيكاوس على أخيه كيقباذ. وكان قد ذكر استيلاء السلطان غياث الدين كيخسرو بن قليج أرسلان السلجوقى على بلاد الروم. ثم هلك غياث الدين، فقام بالملك بعده ولده الملك الغالب كيكاوس. وفى هذه السنة قصده عمه طغرل شاه وحاصره، فاستنجد بالملك الأشرف، فخاف طغرل شاه، ورحل عن سيواس إلى بلاده. واستقر كيكاوس.

ذكر سنة عشرة وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة عشرة وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وعشرة أصابع. مبلغ الزيادة ست عشر ذراعا وثلاثة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك، وهو بدمشق. وفيها استقرّ ملك الموصل لعز الدين مسعود بن نور الدين المقدم ذكره. ومدبر مملكته بدر الدين لؤلؤ، أستادار أبيه. وفيها وردت كتب الخليفة الإمام الناصر لسائر ملوك الإسلام، بأن يشربوا له كأس الفتوة ويلبسوا السراويلات. وسيّر لكل ملك خلعة تليق به، وتقليدا بممالكه، فامتثل جميع الملوك ما رسم لهم به. وفيها عاد السلطان الملك العادل من الشام إلى ديار مصر. وفيها توفى الملك الأوحد نجم الدين صاحب أخلاط، واستولى على ممالكه الملك الأشرف مظفر الدين موسى. ثم إنه قدم إلى خدمة السلطان بالديار المصرية. ثم إن السلطان أنعم على ولده الملك المنصور شهاب الدين غازى بتمليك الرّها وأعمالها. وفيها هدم السلطان حصن كوكب، وأبقى عجلون. وفيها ظفر السلطان علاء الدين كيكاوس-صاحب الروم-بعمه طغرل شاه، وأخذ بلاده، وقتله، وذبح أكثر الأمراء. وأراد قتل أخيه، فشفع فيه، فعفى عنه، واعتقله. قلت: وهذه رذيلة فى البيت السلجوقى، وإن كانوا غير رذيلين. لكن أنفسهم أنفس قوية ملوكية، لا يروا الضيم من بعضهم بعض، والملك لا شك عقيم.

وفيها أظهر جلال الدين حسن-ملك الإسماعيلية -الإسلام، وكان قبل ذلك زنديقا، هو وجميع طوائفه. وهم أيضا فرقة من فرق القرامطة المقدم ذكرهم. فأظهر فى هذه السنة الإسلام والتوحيد، وقام بجميع الشعائر الإسلامية، وأمر رعيته بذلك، ولم يكونوا يعرفون ذلك من قبل هذا. واستمسك بمذهب الإمام الشافعى-رضى الله عنه-واستقر كذلك حالهم إلى الآن. وفيها وصل القاضى بهاء الدين بن شداد، من عند الملك الظاهر بن السلطان صلاح الدين صاحب حلب، رسولا من أمّه إلى ابن عمها الملك العادل، تستعطفه، وتطلب منه ضيفة خاتون شقيقة الملك الكامل-وكانت آخر بنات الملك العادل- وخطبتها لولدها الملك الظاهر، فأنعم لها بذلك، وحصل الاتفاق. قال ابن واصل: إن فى سنة عشرة كان مولد الملك العزيز بن الظاهر صاحب حلب. وأرخ ذلك بيوم الخميس خامس ذى الحجة من هذه السنة المذكورة. وقال أبو المظفر بل فى سنة إحدى عشر. وكانت ضيفة خاتون توجهت إليه فى أول السنة، وولدت له الملك العزيز آخرها. وقد ذكرنا ذلك. والتفاوت بين النقلين سنة كاملة، والله أعلم بالصحيح فى ذلك. ولم يذكر ابن واصل توجه ضيفة خاتون إلى الملك الظاهر. وذكر ذلك الشيخ جمال الدين أبو المظفر يوسف بن الجوزى، رحمه الله.

ذكر سنة إحدى عشرة وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة إحدى عشرة وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية عشر أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك. وفيها جهز الملك الكامل جيشا ثقيلا، ووجهه إلى اليمن صحبة ولده الملك المسعود صلاح الدين يوسف أقسيس. وجعل أتابكه الفارس فليت. وذلك أن سيف الإسلام صاحب اليمن كان قد توفى إلى رحمة الله عز وجل، واستولى على اليمن سليمان شاه ابن تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، باتفاق من أجنادها. وتزوج أم سيف الإسلام المتوفى. ووصل الخبر إلى الملك الكامل، فاستأذن والده السلطان الملك العادل فى إنفاذ ولده أقسيس، فأذن له فى ذلك، فنفذه فى هذا العسكر الثقيل، فملكها الملك المسعود المذكور سلما من غير حرب ولا قتال. وكان ملكا جبارا فاتكا، قتل خلقا كثيرا من الأشراف من نسل الهادى المقدم ذكره، وخلقا من أكابر أهلها. وفيها كانت المعاملة بالقراطيس السوداء العادلية بدمشق، نسبة الدراهم السّود بمصر. وفيها أعطى وأنعم الملك المعظم على مملوكه وأستاداره جدّنا الأمير عز الدين أيبك العظمى صرخد وسائر أعمالها، وملّكها له تمليكا. فلم تزل فى يده إلى أن استعادها الملك الصالح نجم الدين أيوب فى سنة أربع وأربعين وستمائة، حسبما يأتى من ذكر ذلك فى تاريخه إن شاء الله تعالى.

وفيها ملك السلطان علاء الدين خوارزم شاه بن تكش كرمان ومكران. ثم ملك فى هذه السنة السند واتصل ملكه إلى أطراف الصين. وفيها سيّر الملك الظاهر صاحب حلب يطلب زوجته ضيفة خاتون من عمه الملك العادل، وتقرير العقد. وسير فى قبول ذلك القاضى بهاء الدين بن شداد. وسيّر معه أشياء كثيرة من الخلع والإنعامات على سائر الأمراء والأعيان. ولما وصل إلى دمشق خرج إليه الأمراء الكبار وحكام الدولة، وتلقوه مع جميع العساكر، وأحضره إلى القلعة. وكان يوما عظيما ما شهد مثله. وكان النائب عن الملك العادل فى قبول العقد شمس الدين التيتى، وعقد العقد على مهر مبلغه خمسون ألف دينار ولحوقاتها. ثم نثر الذهب على رءوس الناس. وجهز السلطان بعد ذلك ضيفة خاتون. ثم وصلت إلى زوجها الملك الظاهر، وخرج تلقاها بنفسه-من أول أعمال حلب-بسائر جيشه. وكان عبورها إلى قلعة حلب يوما مشهودا. قال ابن الأثير فى تاريخه: إن من جملة ما وصل معها من التحف والقماش والمصاغ ما حمله مائة وخمسون بغلا. وقال أبو المظفر صاحب التاريخ: كان فى جملة الجهاز ثمانون هاون ذهب برسم المطبخ، ومائة هجين قماش ملبوس وغيره، وثلاثمائة حمل جمل فرش وطرح، وأنظاره زركش وغيرها. ومن الجوار الصغار أربعمائة وصيفة ترك وقفجاق، ومن الجوار الكبار فى المحامل والكجاوات ما يحمله ألف جمل. وكان فى خدمتها مائة جارية مطربة، يلعبون بأنواع الملاهى، ومائة جارية للتطريز. ولمّا دخلت على الملك الظاهر قام لها قائما إحدى عشر دفعة. ثم قدّم لها خمسة عقود جوهر ليس لها قيمة فنذكرها، خارجا عن قلائد العنبر المفصلة باللؤلؤ الكبار، والياقوت البهرمان، ومائتى وسبعون ثوب أطلس معدنى قرمزى، ومثلها

من المعاجر المكللة، ومائتى قطعة من الذهب والفضة من صناعة الفرنج العجيبة، وعشرين هجينا موسّقة من الثياب المختلفة الألوان. وكان وصولها إليه أول شهر ربيع الأول من هذه السنة. وفى آخرها ولدت له الملك العزيز، واحتفل له الملك الظاهر فى ولادته احتفالا عظيما. ثم أمر الصناع أن يقترحوا من سائر الأنواع والصنوف، فعملوا من ذلك أشياء بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة. وكذلك تماثيل من سائر الأنواع، مثل فهود من عود وعنبر وصندل، ووحوش من جميع الأجناس مطعمة بالذهب والفضة. وفتح للمولود بيتا، وعبر الناس، وأرموا عليه من الجواهر واليواقيت والبلخش واللؤلؤ والأموال ما حسبت قيمته مائة ألف دينار عين. ثم صنعوا له درعين فى كل درع أربعين جوهرة كقدر بيض الحمام، مفصلا بالياقوت البهرمان. وصنعوا له بركستوان جميعه لؤلؤ كبار، وستة سروج مجوهرة، وستة سيوف محلاة مرصعة بعلائق ذهب مكللة، ورماح ذهب وأسنتها بلخش. وفى يوم سبوعه ختن الملك الظاهر ولده الملك الصالح صلاح الدين أحمد، وكان يوما عظيما ما شهد مثله. وختن معه أربعمائة غلام من أولاد كبار الدولة. وختن ألف يتيم وأكساهم أفخر ملبوس. وعملت وليمة ما شاهد الناس مثلها، والله أعلم. وقال ابن واصل: لما ولد الملك العزيز امتدحت الشعراء وصنعوا القصائد المنتخبة فى التهانى. فمن ذلك قول راجح الحلّى من قصيدة مطلعها، يخاطب الملك الظاهر: نعم جادت الدنيا بما أنت آمله … فحسبك من آمالها ما تقابله إذا ماهناء قال قوم: قد انقضت … أواخره كرّت عليه أوائله فيا حبذا دهرا بملكك أشرقت … على أهله أسحاره وأصائله فلسنا نرى إلا نعيما يديمه … صنيعك فينا أو سرورا يواصله

ومنها: فلله مولود أنار به الهدى … وأسفر وجه الملك واشتد كاهله تباشرت الدنيا بغرّة وجهه … فبورك من نجل وبورك ناجله ومنها: وتحمد منه سيرة ظاهرية … بها تشمل الآفاق طرّا شمائله عليه خلال من أبيه وجدّه … تدل على أن البلاد معاقله ومنها فى تطهير ولد الآخر [يعنى ولده الصالح]: ورثت خليل الله منصبه الذى … سما والنجوم الزاهرات تطاوله فأحييت بالتطهير سنّته وكم … تبعت نبيّا فى الذى هو فاعله آخرها يقول: فدم يا غياث الدين للخلق رحمة … تعمّهم كالغيث طبّق وابله

ذكر سنة اثنتى عشرة وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة اثنتى عشرة وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع فقط. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا، وثمانية أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك، وقد توجه من دمشق، ودخل القاهرة المحروسة فى شوال من هذه السنة. وفيها كان ابتداء النيابة فى المدرسة العادلية بدمشق المحروسة. وفى النصف من شعبان توفى سيدى الشيخ نور الدين أبى الحسن على بن حميد المعروف بالصباغ رضى الله عنه، ودفن بجبانة ناحية قنا، من عمل صعيد مصر، بجوار قبر شيخه سيدى الشيخ عبد الرحيم العمارى الحسينى، رضى الله عنه. وصحب الشيخ أبا الحسن-رضى الله عنه-جماعة من الأولياء والصديقين والنجباء والصالحين، فكان يقول رضى الله عنه: «أصحابى ستمائة رجل، وما نال أحد بالديار المصرية ما ناله أصحابى، سوى رجلين الشيخ مفرج بدمامن، والشيخ أبو كريم، بكورة البهنساوية، رحمة الله عليهم أجمعين». وفيها توفى الشيخ الهروى، وكان له عند الملك الظاهر صاحب حلب صورة كبيرة. وكان من كبار الصالحين، رحمة الله عليه.

قال ابن واصل: فى هذه السنة كان استيلاء الملك المسعود أقسيس بن الملك الكامل محمد بن السلطان الملك العادل أبو بكر على اليمن. وقبض على سليمان شاه وزوجته، وسيرهما مكرمين إلى الديار المصرية، حسبما ذكرناه. وفيها كانت وفاة على بن الإمام الناصر، الذى كان نقل إليه العهد من أخيه واستقر العهد فيه. قال ابن واصل أيضا: إن فى هذه السنة ملك الرّوم من الإفرنج مدينة أنطاليا، وصاحبها السلطان عز الدين كيكاوس، وقتلوا من بها من المسلمين، ثم استنقذها واستعادها منهم. قال: وفيها ملك ابن لاون الأرمنى مدينة أنطاكية من الشام، وأحسن إلى أهلها، فأحبه أهلها لظلم صاحبها الابرنس، وأطلق جماعة من أسرى المسلمين كانوا بها.

ذكر سنة ثلاث عشرة وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثلاث عشرة وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وأربعة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك. والملك الكامل-ولده-ملك الديار المصرية. وفيها عزل القاضى عماد الدين بن عبد العلى من الحكم والخطابة، وتولى الحكم بالقاهرة-مع الجانب الغربى والبحرى-القاضى شرف الدين محمد بن عز الدولة. وتولى مصر مع الوجه القبلى القاضى تاج الدين عبد السلام الدمياطى، المعروف بابن الخياط. وتولى الخطابة بالقاهرة الفقيه بهاء الدين بن الحميدى، وبمصر الفقيه طاهر الحلى. وفيها تحركت الملكة صاحبة عكا، لما قدم عليها أخوها فى البحر، يسمى الملك نفرى، وكان فى خلق عظيم، ونزل بعكا. وصار يركب ويسير إلى القيمون وغيره. فخشيه الملك العادل، فجرد له إسماعيلى فضربه خمسة سكاكين، فمات، وقتل الإسماعيلى. وفيها توفى الملك المعظم أبو الحسن على بن الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين. وفيها وقع بالبصرة برد كثير-قدر كوز الفقاع-حتى كسر رءوس النخل، وقتل كثيرا من الناس والحيوان.

وفيها اتفق الملك الغلاب عز الدين كيكاوس بن كيخسرو السلجوقى مع الملك الظاهر صاحب حلب، على لاون ملك الأرمن. ودخل عز الدين كيكاوس من مرعش ودخل الملك الظاهر من درب ساك، فأحرقوا سيس ونهبوا منها شيئا كثيرا. قال ابن واصل: إنه لم ينتظم للملك الظاهر وصاحب الروم أمر ولا كان بينهما اتفاق. وإن الملك الظاهر سير استشار السلطان فى ذلك فمنعه. وأن ابن لاون هادى الملك الظاهر وراسله، فحصل الصلح بينهما. ولم يتوجه الظاهر ولا [أرسل] جيشا من حلب إلى معونة كيكاوس صاحب الروم. وذكر ما ذكرناه فى التوجه أبو المظفر، والله أعلم كيف كان. وفيها أرسل الملك الظاهر القاضى بهاء الدين بن شداد إلى السلطان الملك العادل يسأله أن يكون الملك بعده لولده الملك العزيز ابن بنت السلطان، ولا يغير عليه شيئا بعد وفاته. وطلب بنت الملك الكامل لولده الملك العزيز. فلما قدم بهذه الرسالة قال السلطان: «أما الملك فهو لولده ولا أغير عليه حسبما سأله. وأما الزواج فما هو لى، ولكن امض إلى أبيها الملك الكامل». فمضى إلى الملك الكامل وتحدث معه، فتبسم معه وقال: «من لى بابن عمى وابن أختى، لحمى ودمى». وأنعم له بذلك. وفى آخر هذه السنة توفى الملك الظاهر صاحب حلب، رحمه الله تعالى. واستقر الملك العزيز صاحب حلب مكان أبيه، ولم يغير عليه شيئا. قال ابن واصل: كانت وفاة الملك الظاهر ليلة الثلاثاء التاسع والعشرين من جمادى الآخرة من سنة ثلاث عشرة وستمائة. وكان كتب وصية أن يكون ولده

الملك العزيز بعده، ثم يكون ولده الملك الصالح أحمد بعد العزيز، ثم يكون الملك المنصور بن العزيز بن السلطان صلاح الدين بعده؛ وهو الذى أخرجه الملك العادل من ملك مصر. قال: وزوج الملك المنصور المذكور بابنته قبل وفاته بيوم واحد، وأوصى له بشئ كثير، وجعل أتابكية ولده للأمير شهاب الدين طغريل، فقام بخدمة هذا البيت أتم قيام، ووفى من الأمانة ما لا وفّى به غيره. ولم يعتمد ما اعتمده بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل فى حق بيت مخدومه من إزالة الأمر عنهم، وتخصيصه إياه. فكان لؤلؤ بالضد من الأتابك شهاب الدين، رحمه الله. وأحضر الملك الظاهر-قبل وفاته- الريس جمال الدين على بن صفى الدين بن الطريرة، وأخلع عليه، وقلده رياسة حلب، وكانت لأبيه من قبله. قال: وبعث فى ذلك اليوم لكل واحد من إخوته جملة مال، وأعتق مائة مملوك ومائة جارية، وأزوجهم بهن، ورتب لهم كفايتهم، وفعل من الخير ما يضيق عنه الوصف، رحمه الله تعالى. بقية ذكر الظاهر: وكان الملك الظاهر صاحب حلب، رحمه الله، ملكا جوادا سمحا أديبا فاضلا. قيل إن أبا المحاسن ماجد بن محمد كتب إليه أبياتا منها: أما وضجيج قهقهة القنانى … وأصوات المثالث والمثانى لقد أضحى الشآم يتيه عجبا … بملك ما له فى الأرض ثانى فكتب جوابه يقول: طلبنا الدّرّ من بحر المعانى … وعذب اللفظ من عضب اللسان وهل تجنى ثمار الفضل إلا … فروع أصلها حلو المجانى فلا عجب أن استسقيت غيثا … أو استسقيت منطلق العنان وأنت السابق الغايات فضلا … إذا ما قصّرت خيل الرّهان

فأهلا، ثم أهلا، ثم أهلا … بما أرسلت من سحر البيان قلت: لعل هذا الشعر يعتد به فى طبقة المطرب من طبقات الشعر، لجودته، وسلاسته، وحسن توصيفه، وبراعة معانيه، رحم الله قائله. وكان عمر الملك العزيز بن الظاهر-لما جلس فى الملك عند وفاة أبيه-سنتين وأشهر، وعمر أخيه الملك الصالح أحمد ولى عهده نحو اثنتى عشرة سنة. ووقع فى ذلك منازعات كثيرة من أعمامه أولاد السلطان صلاح الدين، مثل الملك الزاهر، والملك الظافر وغيرهم. وآخر الأمر استقر الحال خشية من جده الملك العادل الكبير. ولما مات الملك الظاهر المذكور رثاه شرف الدين بن راجح الحلى يقول: سل الخطب إن أصغى إلى من يخاطبه … بمن علقت أنيابه ومخالبه أرى اليوم دست الملك أصبح خاليا … أما فيكم من مخبر أين صاحبه؟ ومنها: فإن يك نور من شهابك قد خفا … فيا طالما جلّى دجى الليل ثاقبه وقد لاح بالملك العزيز محمد … صباح هدى كنّا قديما نراقبه فتى لم يفته من أبيه وجدّه … أب ثم جدّ غالب من يغالبه ومنها يخاطب الملك العزيز وأخاه الملك الصالح بقوله: أيمكث بالشهباء عبد أبيكم … ومادحه أم تستقل ركائبه فلما سمع شهاب الدين أتابك هذا البيت قال: «قولوا له يرحل فلا حاجة بنا إليه، فإنا لا نعطى الشعراء شيئا». قال: ثم امتدح شهاب الدين-بعد عدة مراثى عملها فى الظاهر-فلم يجزه عليها شيئا. وأمر شهاب الدين بقطع ما كان له مرتبا، ففارق حلب، وصار إلى الملك الأشرف، فحظى عنده. وبقية ما لخصناه فى الصفحة الأخرى.

ذكر سنة أربع عشرة وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة أربع عشرة وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا، واثنان وعشرون أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك العادل كذلك. وبقية الملوك فى محل ممالكهم على ما هم عليه. وفيها توجه السلطان الملك العادل من الديار المصرية إلى الشام، وخيم بنابلس، وانتقل إلى بيسان. وكان الفرنج-خذلهم الله-محاصرين الطور، فلما بلغهم توجه السلطان إليهم رحلوا عنها خاسرين، بعد ما قتل من كبارهم عدة. ثم إنهم تجمعوا وخرجوا على العساكر السلطانية بمنزلة بيسان، فرحل السلطان عنها، ونزل على مرج الصفر. ثم غاروا على تبنين وبانياس، ولم يحصلوا على شئ ورجعوا خائبين خاسرين. وأخذ ابن ملكهم أسيرا، مع عدة جيدة من خيالتهم. وفيها وردت على السلطان عيونه أن الفرنج-خذلهم الله-فى تجهيز عظيم، وأنهم طالبين جميع بلاد الإسلام، فاهتم السلطان الملك العادل فى تحصين سائر الثغور الإسلامية وعمائرها، وإزاحة جميع أعدارها. وفيها زادت دجلة زيادة عظيمة، وغرقت بغداد بأسرها، وانهدمت قصورها ودورها. وركب الإمام المسترشد بالله فى شبارية وخاطب الناس، واعتذر لهم، وجعل يتأوه ويقول: «لو كان هذا الماء يرد بمال أو برجال لدفعته عنكم، ولكن أمر الله لا مرد له». وزاد الماء أمرا عظيما إلى أن وصل السور، وأيقن الناس

ذكر توجه السلطان خوارزم شاه إلى نحو بغداد

بالهلاك. ودامت كذلك سبعة أيام، ثم نقص الماء، وعادت بغداد تلال خراب من الجانبين. وهذه غرقة أخرى غير الأولى المقدم ذكرها. ذكر توجه السلطان خوارزم شاه إلى نحو بغداد فى هذه السنة قدم السلطان خوارزم شاه محمد بن تكش السلجوقى إلى همذان طالبا بغداد، فى أربعمائة ألف عنان-وقيل فى خمسمائة ألف عنان-واستعد له الإمام الناصر لدين الله، وفرّق الأموال والسلاح. وسير إليه الشيخ شهاب الدين السهروردى -المقدم ذكره-رسولا، فأهانه، واستدعاه، وأوقفه إلى جانب تخته، ولم يأمره بالجلوس. وعن أبى المظفر قال: حدثنى الشيخ شهاب الدين السهروردى قال: استدعانى السلطان علاء الدين خوارزم شاه، فأتيت، فدخلت إلى خيمة عظيمة، فيها دهليز لم أر فى الدنيا مثله. وتلك الخيمة والشقة والدهليز أطلس معدنى قرمزى. والأطناب حرير أبريسم. وفى ذلك الدهليز ملوك عراق العجم على اختلاف طبقاتهم، مثل صاحب همذان، وصاحب أصفهان، وصاحب الرى، وغيرهم. ثم دخلت إلى خيمة أخرى أعظم من الأولى أطلس معدنى قرمزى، بنوارات زركش، وأطناب حرير. وفى دهليزها ملوك خراسان مثل صاحب مرو، وصاحب نيسابور، وصاحب بلخ، وغيرهم. ثم دخلت إلى خيمة أعظم من الأولتين، وملوك ما وراء النهر فى دهليزها. ثم دخلت إلى خركاة عظيمة، أضلاعها ذهب عين، وعليها سجاف مرصع بالجواهر، يأخذ بالبصر. ثم دخلنا عليه، فوجدناه فى خركاة حسب العادة، مغشية بلبد أبيض، وهو جالس على تخت ساذج. وهو شاب بوجه كالترس، ورأسه

كرأس البغل، وله شعرات يسيرة فى وجهه، وعليه قباء بخارى يساوى خمس دراهم، وعلى رأسه قطعة من جلد تساوى درهمين. قال الشيخ شهاب الدين: فسلمت عليه، فلم يرد علىّ، ولا أمرنى بالجلوس. فشرعت، فحمدت الله عز وجل، وخطبت خطبة بليغة، ذكرت فيها فضل بنى العباس، ووصفت الخليفة بالزهد والورع والدين، والترجمان يردّ عليه قولى. فلما فرغت من كلامى قال للترجمان: «قول له هذا الذى تصفه ما هو هذا الذى فى بغداد، وإنما أنا أجئ إن شاء الله تعالى إلى بغداد، وأقيم خليفة يكون بهذه الأوصاف». ثم ردّنا بغير جواب. ثم رحل ونزل بلخ، فأرسل الله عز وجلّ على جيشه ثلجا عظيما، ما نظروا مثله، أهلك دوابهم، ووقع كثير من أطارف قومه من قوة الثلج الذى نزل بهم. ثم إن خوارزم شاه ركب يوما فرسه، فعثر به أطاحه من سرجه، فتطيّر من ذلك، ووقع فى عسكره الفساد. وكان معه سبعين ألف من الخطاء، فاختلفوا عليه، فعاد إلى بلاده فى تلك السنة. هذا ما ذكره أبو المظفر. وأمّا ما ذكره الشيخ شهاب الدين أبو شامة قال: نسخت من كتاب محمد بن محمد ابن أحمد النسوى، الجامع لأخبار التتار مع السلطان علاء الدين خوارزم شاه ومع ولده السلطان جلال الدين منكبرتى، وقد اختصرت ما أمكن تلخيصه. حكى القاضى مجير الدين الخوارزمى أن السلطان علاء الدين سير مرارا إلى بغداد، آخرها بمطالبة الديوان بما كان لبنى سلجوق من الحكم، والنزول ببغداد، فأبوا عليه ذلك، وأنفذوا إليه الشيخ شهاب الدين السهروردى رسولا، مدافعا لما طلب من الديوان العزيز. وكان عند السلطان علاء الدين من حسن الاعتقاد ما أوجب تخصيص الشيخ برفيع المنزلة، ومزيد الاحترام، ما يميّز به عن سائر الرسل الواردة عليه من سائر الأقطار. وأنه لما دخل إليه الشيخ، أقبل عليه وأكرمه وأجلسه.

فقال الشيخ: «من سنّة الداعى لهذه الدولة القاهرة أن يقدم على أداء الرسالة حديثا من أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم». فأذن له السلطان فى ذلك، وجلس على ركبتيه تأديبا لسماع الحديث. فذكر الشيخ حديثا فيه تحذير من أذيّة أقاربه. فلما فرغ الشيخ من رواية الحديث، قال السلطان: «أنا ما أذيت أحدا من أقاربه، ولا من آل العباس، ولا قصدتهم بسوء. وقد بلغنى أن فى مجلس أمير المؤمنين منهم خلق كثير مخلدين، يتناسلون فى الحبوس. فلو أورد الشيخ هذا الحديث بعينه على مسامع أمير المؤمنين كان أولى وأنفع». فعاد الشيخ والوحشة قائمة. ثم عزم السلطان علاء الدين على طلب بغداد، وقسم نواحيها إقطاعات لعمال من قبله. وسار حتى علا عقبة أسداد فنزلت عليه الثلوج حتى ملأت عليه الأباطح وغطت الخراكى والخيام. ودام كذلك أسبوعين، فشمل الهلاك خلقا من عساكره، ولم ينج شئ من الجمال، وتلفت أيدى أناس كثيرة، فرجع عن وجهه، وسيأتى تتمة أخباره فى مكانها. وفيها كان جفل السلطان الملك العادل من الفرنج لما خرجوا عليه بجموعهم، ووصلوا إلى عين جالوت فأحرقوها. وطلع السلطان إلى قلعة عجلون، وقطع الفرنج خلفه الأردن، وأوقعوا باليزك، وغاروا على البلاد. وورد المرسوم إلى المعتمد والى دمشق بالاهتمام والاستعداد، واستخدام الرجال، وتدريب الدّروب على قصر حجاج والشاغور وطرق البساتين. ونقلت غلة داريا إلى القلعة بدمشق. وغرقوا الأراضى بالمياه لأجل الفرنج الملاعين، وقصدهم إلى دمشق. وأرسل السلطان

إلى ملوك الشرق يستحثهم. ثم نزل السلطان على مرج الصفار ليجتمع العساكر فيه. ووقع عند ذلك الجفل العظيم، وعزم الناس على النزوح عن أوطانهم بدمشق. وعاد للناس ضجيج وبكاء وتضرع إلى الله عز وجل فى أوقات الصلوات بالجامع. ثم إن الفرنج-خذلهم الله-عادوا إلى عكا بجميع ما احتووا عليه من الأسارى وكانت غارتهم وصلت إلى زحر وإلى فيق وغيرهما. ثم وصل الملك المجاهد أسد الدين صاحب حمص بمن اجتمع إليه من العساكر لنجدة الناس، ودخل من باب الفرج بعد جهد جهيد لازدحام الناس. ومضى من فوره إلى دار ست الشام-أخت السلطان الملك العادل- فسلم عليها. ثم عاد إلى داره وبات بها. وأصبح متوجها إلى خدمة السلطان، فعند ذلك سكنت نفوس الناس. وكان الملعون ملك الفرنج فى ذلك الوقت وجامع حشودهم يقال له الملك العنكر، وكان فى خمسة عشر ألف قنطارية فرسان، خارجا عن الرجالة. وكان هذا الملعون شجاعا مقداما. قال أبو المظفر: لما رجع هذا الملعون بمن معه من خربة اللصوص، ووصلوا إلى تل الفرس. ثم رحلوا ونزلوا تحت الطور يوم الأربعاء ثامن عشر شعبان، وأقاموا إلى يوم الأحد ثانى رمضان، وكان يوما كثير الضباب. فما شعروا بهم أهل الطور إلا وهم عند الباب، وقد ألزقوا رماحهم السور. فعند ذلك فتح المسلمون الباب، وخرج إليهم الفارس والراجل، وقاتلوهم أشدّ قتال، حتى رموهم إلى أسفل

الطور. فلما كان يوم الثلاثاء رابع الشهر المذكور، طلعوا بأسرهم، وصحبتهم سلم عظيم، فزحفوا من ناحية المرامى من نحو باب دمشق. ولم يزالوا حتى ألزقوا السلم السور، فقاتلهم المسلمون قتالا لم يعهد فى جاهلية ولا إسلام مثله، لشدته. ودخلت رماح الملاعين من المرامى من كل ناحية، فضرب بعض الزراقين السلم بقارورة نفط أحرقه، وقتل عنده جماعة كبيرة من أعيان الفرنج، وقتل كند كبير من كبارهم. فلما رأوه صاحوا صيحة عظيمة، وكسروا رماحهم عليه. واستشهد فى ذلك اليوم من المسلمين من الأمراء بدر الدين محمد بن أبى القاسم، وسيف الدين مرزبان، وكانا من الأمراء الأجواد الصلحاء، رحمهما الله تعالى. وغلقوا الأبواب، وباتوا يداوون الجرحى، واتفقوا أنهم يقاتلون قتال الموت ولا يسلمون أنفسهم، فيجرى عليهم كما جرى على أهل عكا. وكان فى الطور أبطال المسلمين. وأوقد الفرنج حول الطور النيران. فلما كان يوم الخميس سادس رمضان وقت السحر رحل الفرنج طالبين عكا، ولم يعلم لذلك سبب. ثم إن الملك المعظم وصل الطور، وأطلق الأموال، وأخلع على سائر من كان بها، وشكر لهم ما صنعوه. وفيها جلس الملك العزيز بن الملك الظاهر بن السلطان صلاح الدين على كرسى مملكة حلب. وفيها تتابعت إمداد الفرنج وملوكها فى البحر من المرقية والبنادقة، وهما كرسى مملكة الرومانية، وهى التى فيها الباب الكبير، الذى يزعمون أنه الخليفة عندهم. ثم تتابعت ملوكهم أولا فأولا، وحلفوا أن لا بد لهم من البيت المقدس والشام والساحل بكماله. فلما بلغ السلطان الملك العادل ذلك-وكان بالديار المصرية-

ذكر أولاد الشيخ وأصلهم

جمع العساكر، وخرج بنية الغزاة وحمى بلاد الإسلام. وقصد الشام، وبث العساكر من الداروم إلى الرملة. ولما بلغ الفرنج ذلك قصدوه بخيلهم ورجلهم. ولم تكن العساكر تكملت بعد عند السلطان. وكان حذورا، فرحل من مرج الصفار، وطلب دمشق، وجعلها ظهره. فعند ذلك غارت الفرنج على البلاد الإسلامية، وأخذوا من بيسان وأعمالها خلقا كثيرا، وسفكوا وقتلوا ونهبوا وأحرقوا. ووصلت غاراتهم إلى جينين. ثم أقاموا على بانياس ثلاثة أيام، ثم رجعوا بالأموال والغنائم والأسرى إلى عكا. ثم عادوا إلى صيدا والشقيف، ثم رجعوا إلى عكا. ولم يزالوا كذلك إلى النصف من رمضان المعظم. ثم إن السلطان عيّد بدمشق عيد الفطر، وخرج طالبا للعدو، وحلف لا بد له منهم. فبينما هو راكب إذ رأى شيخا كبيرا، وعلى رأسه حملة كبيرة ثقيلة، وهو يعدو بها، فقال له السلطان: «لا تعجل يا شيخ، وتمهّل على نفسك»، فالتفت إليه الشيخ وقال: «ما تستحى من الله يا سلطان الإسلام، إنك قد أسلمتنا لعدونا، وتقول على مهلك». فكانت هذه الكلمة أشد ما يكون عليه وخنقته العبرة. ثم أمر ولده الملك المعظم عيسى أن يأخذ العساكر ويسير إلى الفرنج، ويردهم عن البيت المقدس. ومضت سنة أربعة عشر وستمائة والحروب بينهما سجال. ذكر أولاد الشيخ وأصلهم قال ابن واصل: فى هذه السنة-أعنى سنة أربع عشرة وستمائة-عاد الشيخ صدر الدين بن حمويه من بغداد، وكان قد توجه إليها رسولا من الملك العادل إلى الديوان العزيز. قال: وكان صدر الدين هذا جليلا معظما عند الملك العادل. وكان أبوه الشيخ عماد الدين قدم إلى الشام فى الأيام النورية، ففوّض إليه السلطان الشهيد

نور الدين محمود بن زنكى مشيخة الصوفية بالشام، وجعل إليه نظر الخانقاه بدمشق وغيرها، إلى أن مات. صار بعد ذلك النظر لولده الشيخ صدر الدين. وولد لصدر الدين أولاد نجباء من ابنة شهاب الدين بن شرف الدين بن أبى عصرون، وهم فخر الدين وعماد الدين وكمال الدين ومعين الدين، فتقدموا فى الأيام الكاملية غاية التقديم، وسيأتى من أخبارهم ما يليق بمواضعها.

ذكر سنة خمس عشرة وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة خمس عشرة وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ستة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، مستمر الملك، قائم السلطان. والسلطان الملك العادل سلطان الإسلام. وبقية الملوك على ما هم عليه. ذكر الوقعة العظمى على ثغر دمياط وابتدائها لمّا كان فى ثانى شهر ربيع الأول من هذه السنة، وصلت الفرنج-خذلهم الله-إلى ثغر دمياط المحروس، وعبروا بمراكبهم كلها من الفم، وخيموا ونصبوا المناجنيق الغريبة والشيطانية، ورموا الثغر. ووقع الحصار والجدّ والقتال. وكان السلطان الملك العادل نازلا على مرج الصفّار، وبعث بالعساكر إلى ولده الملك الكامل. وأقام الملك المعظم بساحل الشام مقابل الفرنج خوفا على الساحل منهم. هذا والملك العادل مريض عاجز عن الحركة والركوب. ونزل الملك الكامل ليلة الثلاثاء سابع عشر شهر جمادى الآخرة بثغر دمياط، ووصل مخيم عساكره إلى أشموم. وفيها أخربوا الطور لما رأوه وبالا على المسلمين ويشغلهم عما سواه. وكان فى يد الملك المعظم، فعوض عنه أموالا جزيلة. ونقلوا جميع ذخائر القلعة إلى القدس وعجلون والكرك. وكان الطور قد أنشأوه فى سنة سبع وستمائة.

وفيها-فى يوم الجمعة ثانى عشر ربيع الآخر-كسر الملك الأشرف موسى ابن السلطان الملك العادل لملك الروم كيكاوس السلجوقى. وسبب ذلك أن الملك الأشرف جمع عساكر الشرق وعسكر حلب، ودخل بلاد الفرنج وأشغلهم عن دمياط، ونزل على صافيتا وحصن الأكراد. وكان السلطان [العادل] بمرج الصفار مريضا، حسبما تقدم من القول، فاستغنم صاحب الروم غيبة الأشرف بالعساكر، واشتغاله بالفرنج، وخرج إلى رعبان يريد يتسلم حلب لخلوها من العساكر. وأخذ رعبان وتل باشر، فبلغ الملك الأشرف ذلك، فعاد من صافيتا إلى حلب وقد سبقه صاحب الروم إلى منبج، وتقدم بعض عسكره إلى بزاعة. وكان الملك الأشرف بظاهر حلب. وتقدم بين يديه المبارز بن خطلخ وسنقر الكبير والحلبيون مع جماعة من مشاهير الجيش. ونزل الملك الأشرف بعدهم على تل بزاعة. وقدم العرب بين يديه، والتقى بعسكر الروم. وكان الملك الأشرف مؤيدا فى سائر حروبه، فكسر صاحب الروم كسرة شنيعة. وكانت العرب أكثر نكاية فيهم. ثم استرد الملك الأشرف رعبان وتل باشر، وأعطاهما للملك العزيز صاحب حلب. ثم بعث الأشرف سيف الدين ابن كهدان والمبارز بن خطلخ فى عسكر كثيف إلى خدمة أخيه الملك الكامل، وهو على ثغر دمياط. وفى آخر جمادى الأولى أخذ الفرنج-خذلهم الله-المنازل على دمياط، وملكوا برج السلسلة. وكان هذا البرج قفل الديار المصرية. فنفذ الملك الكامل إلى أبيه السلطان العادل صدر الدين شيخ الشيوخ، يخبره بذلك، ويستصرخه ويستنجده. فلما اجتمع به وكان على حطة من المرض فعرفه، فدق بيده على صدره، وكان سبب وفاته، رحمه الله، كما يأتى بيان ذلك فى موضعه، إن شاء الله تعالى. قال الشيخ علم الدين السنجارى: إن هذا البرج كان قفل الديار المصرية، وذلك أنه كان برجا عاليا بنى فى وسط النيل، وفى ناحيتيه سلسلة وسلسلة، تمتد إحداهما على النيل

ذكر وفاة السلطان الملك العادل

إلى دمياط، وتمتد الأخرى على النيل إلى الجزيرة، يمنعا من عبور المراكب إلى بحر النيل من المالح. فملكوه الملاعين فى التاريخ المقدم. وفيها توفى السلطان الملك العادل-رحمه الله-حسبما يأتى من ذكره فى موضعه، إن شاء الله تعالى. وفيها توفى الملك القاهر عز الدين صاحب الموصل، وهو عز الدين مسعود ابن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكى بن آقسنقر. وكانت وفاته لثلاث بقين من شهر جمادى الأولى. وكانت مدة ملكه سبع سنين وتسعة أشهر. وانقرض بانقراضه البيت الأتابكى، رحمهم الله تعالى. ذكر وفاة السلطان الملك العادل توفى إلى رحمة الله تعالى سابع جمادى الآخرة من هذه السنة، وله من العمر ست وسبعون سنة وأشهر. وملك دمشق فى سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، فكانت مدة ملكه دمشق ثلاث وعشرون سنة. وملك مصر سنة ست وتسعين وخمسمائة، فكانت مدة ملكه بمصر والشام والشرق تسع عشرة سنة. وخلف من الأموال والفصوص والجواهر ما قيمته سبعمائة ألف دينار، خارجا عن الضياع والكراع. وخلف فى الكرك مثلى ذلك، لكن احتوى عليه الملك الحافظ ولده، فإنه كان نائبا للسلطان والده بالكرك. وكان للسلطان الملك العادل خمس عشر ولدا وقيل سبعة عشر ذكرا، خارجا عن البنات وهم: الملك الأوحد [أيوب] نجم الدين صاحب أخلاط، والملك الفائز شمس الدين إبراهيم، والملك المغيث تقى الدين عمر، والملك المعظم شرف الدين عيسى صاحب دمشق، والملك العزيز عماد الدين عثمان، والملك الأمجد مجد الدين حسن، والملك الأشرف مظفر الدين موسى، والملك المعز

مجير الدين يعقوب، والملك الصالح عماد الدين إسماعيل أبو الجيش، والملك المفضل قطب الدين أحمد، والملك الأمجد تقى الدين عباس-وهو أصغرهم مولدا وآخرهم موتا-توفى سنة تسع وستين وستمائة، والملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه، صاحب قلعة جعبر. وتاج الملوك إسحاق، والملك المظفر صاحب ميافارقين شهاب الدين غازى، أدرك هلاوون وفتحه بغداد. والملك الجواد شمس الدين داود -توفى فى حياة أبيه-وخلف ولده الملك الجواد أيضا الذى ملك دمشق. والسلطان الملك الكامل ناصر الدنيا والدين محمد صاحب مصر أعلاهم ملكا وأسماهم رتبة، وصاحب السكة والخطبة. وفيها التقى الملك المعظم الفرنج فى جمادى الآخرة على القيمون، فنصر الله الإسلام على عبدة الصلبان، ببركات النبى عليه السلام. وقتل من الفرنج خلق كثير، وأسر من فرسان الديوية مائة فارس، وعبر بهم إلى القدس وأعلامهم منكسة. وفيها اجتمعت سائر ملوك الفرنج ونازلوا ثغر دمياط. وعادت الأمداد تمدهم أولا فأولا. أجمعت الرواة من أرباب التواريخ أن الحرب لم تزل بين الفريقين، ليلا ونهارا، وصباحا ومساءا، مدة أربع سنين متوالية، حتى عادوا أولاد المسلمين وأولاد الفرنج الصغار يخرجون ويتصاففون، ويأسرون بعضهم البعض، ثم يتفادون فيما بينهم. فبينما الملك الكامل فى أشد الأمر من حرب الفرنج، إذ ورد عليه الخبر بموت السلطان والده الملك العادل. وكان من جملة الأمراء الكبار أمير يقال له عماد الدين ابن المشطوب، وكان ملك الأكراد. فلما بلغه موت السلطان أفسد قلوب جماعة

من الأمراء على الملك الكامل، وقال: «هذا صبى خفيف، ولا يأتينا منه خير». فلما بلغ الكامل ذلك خشى على نفسه، وهرب من ليلته مع جماعة يلوذون به من خاصته، ونزل المنصورة. وأصبحت العساكر فلم يجدوا السلطان بالدهليز، فتسحبوا أولا فأولا، وكانت كسرة عظيمة، لولا لطف الله عز وجل وعنايته بهذه الأمة. وأن الافرنج-خذلهم الله-لما لم يجدوا من يقاتلهم، ولا من يمانعهم، تقدموا إلى وطاقات المسلمين، ونهبوا الأموال والعدد والسلاح. وقد كان كل أحد من المسلمين قد أخذ ما خف حمله عليه، وترك ما ثقل. وكان الملك الكامل نوى أن يقصد اليمن، ويترك ديار مصر للعدو، فأبى الله إلا عوائده الجميلة على هذه الأمة المنصورة، وأن يكون الأعداء هم العصابة المكسورة. فلم يصبح الصباح إلاّ والملك المعظم صاحب الشام بجيوشه، وقد صبّحه. فخرج الملك الكامل وتلقاه، واعتنقا وبكيا. ثم إنه شكا إليه ابن المشطوب، وما فعله ونواه، فحلف المعظم أنه لا ينزل عن فرسه حتى ينفيه من الديار المصرية. وكان عسكر الديار المصرية فى ذلك الوقت أكثره أكراد، وابن المشطوب ملكهم. ثم إن المعظم لم يزل راكبا حتى مرّ بخيمة ابن المشطوب، فقام إليه وتلقاه. فقال له المعظم: «اركب والحقنى، حتى نتفق على أمر تكون فيه المصلحة، فرأيك المبارك». فتوهم ابن المشطوب أن المعظم مائل إلى ملك مصر، وأنه طلبه ليتفق معه على نزع الكامل من الملك. فركب ابن المشطوب حافيا بغير خفّ لعجلته، ولا سيف. فلما لحق به قال: «أريد نخرج ونبعد ونتحالف على أمر يكون فيه صلاح المسلمين». فقوى ظن ابن المشطوب، ولم يزل يحادثه إلى أن بعد عن وطاقه. ثم إن المعظم أمر أن يركب خمسين مملوكا من أجلاد مماليكه، وجعل عليهم عشرة من بنى أيوب، ويلحقون به. فلما لحقوا به، التفت إلى ابن المشطوب، وقال: «يا عماد الدين! هذه الديار المصرية لنا أو لك؟». فقال ابن المشطوب: «الله! الله! يا خوند! أنا مملوك بنى أيوب». فقال المعظم: «نحن ما عدنا نريدك تبلى

بغيرنا ولا تبلى بنا». ثم أمرهم أن يأخذوه من ساعته، ويوصلوه إلى غزة. ثم رجع المعظم إلى خيمته، وكذلك الملك الكامل، وقوى أمره، وثبت ملكه. وأمّا الفرنج فإنهم فى تلك الليلة أشرفوا على أخذ ثغر دمياط، وأحاطوا بها، وجدوا فى حصارها. وانقطع عن أهل دمياط من كان يدخل إليهم من جواسيس المسلمين، وقلّ عندهم القوت، وذلك بسبب حركة ابن المشطوب. وتمكن الفرنج تمكنا عظيما فى حفرهم الخنادق بينهم وبين المسلمين، وبنوا الأسوار، وعملوا الستائر بالأخشاب، وأقاموا فيها الرّماة بالجروخ. وأما من كان من المسلمين بدمياط، فإنهم ضعفت أحوالهم، وضاقت حيلتهم، واشتد خوفهم، وصبروا صبر الكرام. وأراد الملك الكامل أن يسيّر إليهم رسولا، فلم يقدر على ذلك لحفظهم الملاعين البر والبحر. وكان عند الملك الكامل جندارا من قرية من ضياع حماه، يقال لها معرذفتين، اسمه شمائل، فتوصل إلى أن صار جندارا فى الركاب. فحضر بين يدى السلطان الملك الكامل، وسأل أن يكون رسولا إلى أهل دمياط، فكان يغطس فى البحر، ويطلع من البر الآخر، ويخاطر بنفسه، ويعبر دمياط، ويدخل بين مراكب الفرنج. ويجتهدوا كل الاجتهاد على أخذه، فلم يقدروا على ذلك. ودخل دمياط عدة طرق فى تلك الأيام التى لا كان الطير يطيق العبور بها؛ لاحتياط الملاعين بها، فأحسن السلطان إليه، وجعله برددارا. ثم أعطاه إقطاعا وجعله جنديا فى العدة. ثم جعله مقدما فى الحلقة السلطانية وهو مع ذلك واقف على قدم الاجتهاد فى الخدمة والمناصحة. فأوعده السلطان وقال: «متى فتح الله تعالى علينا بكسر هذا العدو ورجعنا إلى القاهرة جعلتك من الناس». فلما فتح الله على المسلمين، واستعادوا دمياط -بعد [أن] أقامت بأيدى الفرنج ثلاث سنين-ورجع السلطان إلى القاهرة،

أمّر شمائل طبلخاناه بأربعين طواشيا، وولاه القاهرة. وهو الذى بنى الخزانة التى [عند] سور باب زويلة، المعروفة به، كفى الله شرها. وكان بين المسلمين وبين المشركين فى طول بقية هذه السنة وقائع متعددة إلى أن دخلت سنة ست عشرة وستمائة.

ذكر سنة ست عشرة وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ست عشرة وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع ونصف أصبع. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وأصبعان. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين مستمر الأحكام، مطاع الأوامر. والسلطان علاء الدين محمد خوارزم شاه بن تكش سلطان الدنيا بالشرق جميعه، إلى ممالك الصين وبلاد الخطا وغير ذلك. والسلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب سلطان الديار المصرية، وما معها. وبقية الملوك إخوته بحالهم. والحرب قائمة على ساق بين المسلمين والفرنج-خذلهم الله- على ثغر دمياط. وفى السادس من المحرم من هذه السنة هدم سور بيت المقدس وقلاعه وأبراجه وصهاريجه. ولم تزل العمارة فى هذا البيت من عهد البخت نصر إلى ذلك التاريخ، وسبب ذلك أن الملك المعظم صاحب الشام لما توجه إلى أخيه الملك الكامل، بلغه أن طائفة من الفرنج عزمهم إلى نحو البيت المقدس وأخذه، فاتفق مع الأمراء على خرابه، ليؤمن شرّه، ولا يكن لهم إلى نحوه التفات، فيشغلهم عما هم عليه. وخشوا أن يملكونه فيحصل لهم التعب فى إعادته منهم، فشرعوا فى هدمه فى التاريخ المذكور. وكان يومئذ بالقدس الملك العزيز فخر الدين عثمان، والأمير عز الدين أيبك المعظمى -جدنا-صاحب صرخد. وكان فى البلد ضجّة وصراخ وبكاء وعويل، وخرجت البنات والصبيان والشيوخ والعجائز إلى الصخرة والأقصى، وقطعوا شعورهم عليهما، بحيث امتلأت تلك البقعة. وخرجوا هاربين، وتركوا أموالهم، وما شكّوا أن الفرنج تصبّحهم. فطلب بعضهم مصر، وبعضهم الكرك، والبعض دمشق. ومات خلق كثير من الجوع والعطش. وكان يوم لم ير الناس أصعب منه، ونهبت أموالهم. وبلغ القنطار الزيت عشرة الدراهم، والنحاس رطل نصف الدرهم.

ولمّا كان فى شهر شعبان، أخذت الفرنج ثغر دمياط. وكان قبل ذلك قد جهزوا إليها ابن الجرخى-المعروف بالناهض-فى خمسمائة رجل، فهجموا على الفرنج بالخنادق، فقتل ابن الجرخى وجميع من كان معه، وصف الفرنج رؤوسهم على الخنادق. ثم إنهم طمّوا الخندق الذى لدمياط. وضعف حال أهلها، وأكلوا الميتات، وعجز الملك الكامل عن نصرتهم. ووقع فيهم الوباء والمرض والفناء، فراسلوا الملك الكامل، فتمادى عليهم الجواب، فراسلوا الفرنج أن يسلموا إليهم البلد، ويخرجوا بأنفسهم وأهاليهم وأموالهم، فأجابوهم إلى ذلك. ثم ركبوا فى البر والبحر وزحفوا وفتحوا لهم البلد فدخلوا ورفعوا أعلامهم على الأبراج والأسوار. ثم إنهم غدروا بأهل البلد، ووضعوا فيهم السيف قتلا وأسرا ونهبا. وباتوا تلك الليلة فى الجامع يفجرون بالنساء، ويفضحون البنات. وأخذوا المنبر والمصاحف، وبعثوهم إلى الجزائر. وجعلوا الجامع كنيسة. وكان أبو الحسن بن فضل يومئذ بدمياط، فسألوا عنه، فقيل لهم هذا رجل صالح من مشايخ المسلمين، تأوى إليه الفقراء، فما تعرضوا له. ووقع على الإسلام كآبة وحزن، وبكى السلطان الكامل، والملك المعظّم. وتأخرت العساكر من تلك المنزلة. وقال المعظم: «لو كان الدعاء يستجاب، لاستجاب لأهل دمياط». قال أبو المظفر: فقلت: «لا تقل كذلك يا خوند فإن الله تعالى أخبرنا أنه يستجيب دعاءنا فى عدة مواضع من كتابه العزيز، وإنّما أهل دمياط لما كثر فسقهم، وفشا فجورهم، سلّط عليهم من انتقم منهم، لقوله تعالى: {وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً}. . . .» الآية. قال أبو المظفر: وكان الملك المعظم قد كتب إلىّ كتابا وأنا بدمشق بخط يده، يقول فيه: «أخو عيسى الكاملى.

قد علم الأخ العزيز ما جرى على دمياط، وأريدك تحرّض الناس على الجهاد، وتعرّفهم ما جرى على إخوانهم المسلمين أهل دمياط، من الكفرة أهل العناد. وأنى كشفت عن ضياع الشام فوجدتها ألفى ضيعة، ألف وستمائة أملاك لأهلها، وأربعمائة سلطانية. وكم مقدار ما تقوم [به] هذه الأربعمائة ضيعة من العساكر. والقصد أن يخرج أهل الأملاك يذبّوا عن أملاكهم، الأصاغر منهم والأكابر». قال أبو المظفر: فجلست فى الجامع بدمشق، وقرأت كتابه عليهم، فأجابوا بالسمع والطاعة، وقابلوا أمره بالامتثال. وقالوا: «نتجهز جهدنا». فلما حلّ ركابه بالساحل، وقع التقاعد من العامة، فكان ذلك سببا لأخذ الخمس من أموالهم. وتوجهت إليه فلحقته بقيسارية، ففتحها بالسيف عنوة، ثم فتح النقير، وانتقل فدخل دمشق، ووقعت جباية الخمس. وفيها توفّيت الست ست الشام بنت أيوب، أخت السلطان صلاح الدين، وشقيقة الملك المعظم شمس الدولة توران شاه، وسيف الإسلام، ابنى أيوب. وهى التى تنسب إليها المدرستان اللتان بدمشق، الواحدة قبلى البيمارستان النورى، والأخرى ظاهر دمشق بالغوطة، وتعرف أيضا بالحسامية، نسبة إلى ابنها حسام الدين، وكانت دفنته بها. وهو إحدى القبور الثلاث، والقبلى هو قبر توران شاه، والأوسط قبر ابن عمها ناصر الدين محمد بن شير كوه. ولم يكن لأسد الدين شير كوه ولد غيره. وكان تزوجها، وولدت له حسام الدين المدفون بالمدرسة المعروفة به. وكانت ست الشام من كرماء الناس الجيدات. وكانت تعمل فى بيتها كل سنة من الأشربة والمعاجين والعقاقير بألوف دنانير، وتفرقها على الناس للثواب. وكان بابها ملجأ القاصدين، ومفزع المكروبين. وكان وفاتها فى ذى القعدة من هذه السنة. وإخوتها أربع ملوك عظماء بنى أيوب؛ وهم السلطان صلاح الدين، والملك العادل سيف الدين

آل السلطان صلاح الدين بن أيوب

أبو بكر، والمعظم الكبير شاهان شاه، وسيف الإسلام طغتكين الملك العزيز صاحب اليمن. فمن بنى هؤلاء الملوك الأربع المذكورين: آل السلطان صلاح الدين بن أيوب العزيز صاحب مصر عثمان وولده المنصور محمد، والأفضل، والظاهر صاحب حلب، وابنه العزيز، وابن ابنه الناصر يوسف، والزاهر، والظافر. وقد تقدم ذكر بقيتهم فيما سقناه عند وفاة السلطان صلاح الدين. آل السلطان الملك العادل بن أيوب السلطان الملك الكامل محمد، وأولاده الثلاثة الملك المسعود أقسيس صاحب اليمن وولده الأشرف موسى الذى ملك مصر فى أيام البحرية. وولد الملك الصالح المعظم توران شاه الذى قتلوه البحرية. والعادل الصغير أبو بكر صاحب مصر. والملك الصالح نجم الدين أيوب صاحب مصر أستاذ الترك. وابن العادل الملك المغيث صاحب الكرك، والملك المعظم بن الصالح توران شاه المقتول بمصر، الآتى ذكره. والملك المعظم عيسى بن السلطان الملك العادل، وولده الملك الناصر داود، والملك الأشرف موسى بن السلطان الملك العادل، وليس من عقبه ملك فيذكر. والملك الأوحد بن السلطان الملك العادل-وهو صاحب أخلاط-وليس من عقبه ملك، والملك الصالح إسماعيل بن السلطان الملك العادل وهو المعروف بأبى الجيش وأخوه شهاب الدين غازى صاحب الرّها، والملك العزيز عثمان شقيق المعظم. وقد تقدم أيضا ذكر أسماء بقيتهم عند ذكر وفاة السلطان العادل. آل سيف الإسلام صاحب اليمن ابن أيوب الملك المعز إسماعيل، وهو الذى ملك اليمن بعد والده، وادعى الدّعاوى الباطلة، وقتل باليمن. وخلف ولده الملقب بالملك الناصر، وملك أيضا اليمن أياما قلائل.

آل المعظم شاهان شاه الكبير بن أيوب

آل المعظم شاهان شاه الكبير بن أيوب فرخ شاه وولده الأمجد، والناصر قليج أرسلان، وتقى الدين وابنه المنصور وولده المظفر أصحاب حماه. وذريتهم المتصلة إلى آخر وقت بحماة، حسبما نذكرهم فى تواريخهم إن شاء الله تعالى. والظافر، والمغيث عمر، والمنصور، والمسعود، والسعيد، والأمجد أولاد الصالح إسماعيل، ومجير الدين يعقوب، وتقى الدين عباس. ومن ذريّة الأمجد بهرام شاه، ولده الملك المنصور إبراهيم؛ وولد إبراهيم الملك الأشرف موسى. هؤلاء أصحاب بعلبك. ولم يزل موسى إلى أيام الملك الظاهر البندقدارى، حسبما يأتى من ذكرهم. وأمّا أصحاب حمص فمن ذرية أسد الدين شيركوه عم السلطان صلاح الدين تأتى أيضا أسماؤهم فى تواريخها إن شاء الله تعالى. قلت: ولهؤلاء السادة أولاد أيوب شجرة تجمع سائرهم متصلة الأنساب إلى آخر وقت. وإنما ذكرت فى هذا الفصل الملوك الذين ملكوا نصيبا من الدنيا. ... وفيها، والسلطان الملك الكامل فى قتال الفرنج بدمياط وقد ضعف حاله وقل القوت عندهم ولا بقى لهم صبر على القتال. وأراد أن يسلم البلاد إلى العدو. كل هذا وكتبه ورسله تتردد إلى ملوك الشرق وإلى إخوته الملوك. ومن جملة قوله فى الحث على طلب النجدة: «وا إخوتاه! وا غوثاه! وا إسلاماه! أدركوا الإسلام! أغيثوا أمة محمد عليه السلام!». فلما قويت شوكة الافرنج وظنوا أنهم سيملكون البلاد، ويهلكون العباد، تواردت العساكر الإسلامية، تتلو بعضها بعضا، فأول من قدم الملك المعظم عيسى صاحب الشام، ثم الملك الأشرف موسى شاه أرمن. وجاءت عساكر الشرق.

ثم إن الأشرف ترك جيوشه عند الملك الكامل، وعاد إلى بلاده فى نفر قليل، خوفا عليها. وعظمت جيوش الإسلام، واطمأنت النفوس. فلما رأوا الفرنج المخذولين ذلك، كاتبوا بقية ملوكهم، وأتّهم الأمداد فى البحر، ودخلوا إلى دمياط، وحصنوا أسوارها، وبنوا ما كان أخربوه منها. وكان نزول السلطان الملك الكامل على المنصورة-وهى طلخا-وبنى بها قصرا وأسواقا وحماما. وبلغ فى الحمام أجرة غسل الرأس جملة. وعادت مدينة. ونزلت الفرنج قبالهم. واستمرت بينهم الحروب. وفشا القتل فى الطائفتين. وكان الحرفوش من المصريين يجعل على رأسه قشرة بطيخة خضراء، ويعوم فى البحر محاذيا للبر، فيراها الفرنجى، فيظن أنها بطيخة، فيمد يده ليأخذها، فيجذبه الحرفوش، فيأخذه أسيرا، حتى عادوا إذا رأوا شيئا عائما على الماء يصلبوا على وجوههم ولا يقربوه. قال أبو المظفر: فبينماهم كذلك إذ قدم الملك المنصور وعساكره، وكذلك الملك الناصر صلاح الدين قليج أرسلان، ثم تلوهم بقية الملوك إخوة السلطان الملك الكامل وأولاد عمه، وكان ذلك فى سنة ثمان عشرة وستمائة، حسبما يأتى. وفيها-وهى سنة ست عشرة-استدعى الصاحب صفى الدين بن شكر من القاهرة، ووصل إلى المخيم مستهل شوال، وخلع عليه وعلى أولاده، ووزّر ونظر فى الدولة، واستخرج من الناس أجر أملاكهم شهرين، وكذلك التبرع. واستخدم الرجال، والحرب مستمر. وفى سنة ست عشر كان أول بدء خروج التتار من بلادهم الأصلية المسماة -بلسان التركية لغتهم-قراطاغ، معناه الجبل الأسود. وفى مبتدأ خروجهم، وفى ذكر أصلهم أشياء عجيبة غريبة الوقوع وقعت للعبد من كتاب يأتى اسمه وسبب تحصيله عند ذكرهم، إن شاء الله تعالى.

ذكر سنة سبع عشرة وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة سبع عشرة وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع ونصف أصبع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا، وأربعة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين مستمر الحكم، مطاع الأمر. وملوك الشرق بحالهم. وكذلك السلطان علاء الدين خوارزم شاه، والسلطان الملك الكامل سلطان مصر، وما معها. والحرب بينه وبين الفرنج على ثغر دمياط. وفى شهر رمضان ورد الخبر بوفاة الملك الفائز. ووفاة الشيخ صدر الدين بن شيخ الشيوخ، ودفن بالموصل. وفيها صرف القاضى تاج الدين بن الخراط، وأضيف حكم مصر والوجه القبلى للقاضى ابن عين الدولة، مضافا لما بيده من القاهرة وأعمالها. وفيها كان غلاء، وبلغ القمح دينارين ونصف مصرية الأردب. وفيها [كان] قتل حسن بن قتادة صاحب مكة لأمير الحاج [العراقى] ونهب الحاج. [وفيها] توفى نصير الدين ناصر الدين بن مهدى الشريف العلوى، الذى كان وزير الخليفة الناصر لدين الله، رحمه الله.

ذكر سنة ثمان عشرة وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثمان عشرة وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا، وعشرة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين مستمر الأمر، مطاع فى أقطار الأرض. والسلطان علاء الدين خوارزم شاه سلطان الدنيا بالممالك الشرقية. والسلطان الملك الكامل ملك الديار المصرية وما معها. وبقية الملوك بممالكهم، وقد قدموا فى هذه السّنة-لنصرة الإسلام-إلى خدمة السلطان الملك الكامل، حسبما سقناه أولا. ثم إن شوانى المسلمين اقتتلوا مع مراكب الفرنج، فغلبهم المسلمون، وأخذوا من مراكبهم ثلاث [قطع]، بما فيها من الرجال والعدد والسلاح. وفرح المسلمون بذلك، واشتموا روائح النصر. هذا والرسل تتردد بينهم فى أمر الصلح. والملك الكامل يقصد ذلك، ومجتهد على الصّلح، خوفا من إخوته الملوك، حتى إنه دخل تحت كل ما اشترطوه عليه، وهو أن يسلم لهم القدس، وعسقلان، وطبرية، وجبلة، واللاذقية، مع جميع فتوحات السلطان صلاح الدين، ما خلا الكرك والشوبك. ورضى الملك الكامل بذلك جميعه، حتى ثلثمائة ألف دينار [يدفعها] لعمارة القدس وغيره. ثم قالوا: «ولا بدّ لنا من الكرك والشوبك»، وتعنتوا فى الشروط تعنتا عظيما. وكان فى ذلك خير عظيم، لما يريده الله عز وجلّ من نصرة دينه، ويريهم معجزات قدرته، وأن النصر إلا من عنده. فبينما الرسل تتردد فى ذلك كله، والملك الكامل يحث فى طلب الصلح، ويذعن

بالإجابة لكل ما طلبوه. وكان النيل قد عمّ البلاد، وكان عاليا، لما يريده الله عز وجل من خذلان أعدائه؛ إذ عبر جماعة من عسكر المسلمين فى الخليج وقطعوه، وعدوا إلى جزيرة الفرنج، وقطعوا عليهم جسرا من تلك الجسور المحيطة بهم. ولم يكن للفرنج خبرة بذلك، ولا يعلمون زيادة النيل، فساح عليهم، وغرق خيلهم ودوابهم، ودار بهم الماء من كل جانب ومكان. وعادوا يتأخرون إلى نحو الثغر ولا يجدون سبيلا. وإن طلبوا نحو البحر لا يجدون سبيلا، ولا مراكبا تطيق العبور إليهم لعظمها. وضايقهم النيل، ولم يبق لهم غير طريق واحدة، وهى أضيق الطرق، وأى طريق قصدوها غرقوا فيها. فلمّا علم السلطان بما قد وقعوا فيه من البلاء الذى قد عمهم وطمّهم، أمر بالمراكب، وركبت الجيوش، وأخذوا عليهم سائر المذاهب والطرق، وحازوا بينهم وبين دمياط. وفى ذلك النهار وصل للفرنج مركب عظيم يسمى مرمة، وفيه خلق عظيم، وسلاح كثير، وحوله عدة مراكب يحفظونه، وهو موسوق مأكول وسلاح وغير ذلك. فخرجت عليه شوانى المسلمين، وقاتلوهم أشد قتال، ونصر الله الإسلام، وأخذوا ذلك المركب العظيم بكل ما فيه. فلما رأوا الفرنج ذلك، انقطعت قلوبهم، وأيقنوا بالهلاك والدّمار. ثم أحاطت بهم عساكر الإسلام من كل وجه بالنشاب والرماح، وقلّ نشاطهم لما نالهم من الغرق الذى لم يكن لهم فى حساب. وأخذتهم الحجارة والنبل، وأحاط بهم البلاء، وصب عليهم الخذلان صبّا. فعندها أرموا خيامهم وأثقالهم، وأرادوا الزحف على المسلمين، لعلهم يقدرون على الوصول إلى ثغر دمياط، فحيل بينهم وبين ما يشتهون، وذلك لكثرة المياه التى عمتهم. فلما عجزوا عن ذلك، ذلت نفوسهم الخنزيرية، ونكست صلبانهم، وقهر شيطانهم، وذل سلطانهم،

فرجعوا إلى مراسلة السلطان الملك الكامل وسألوا الصلح، وطلبوا الأمان لأنفسهم، وأن يسلموه دمياط، ولا يريدون غير خلاص نفوسهم لا غيرها. فاستشار إخوته الملوك فى ذلك، فقال الملك الأشرف-وكان قوى النفس، شديد البأس-: «لا نقبل منهم، ونقتل هؤلاء الملاعين أجمعهم، فإن هؤلاء هم دين النصرانية كله، وهم الصليب بكماله، ونريح الأرض منهم، ولا نبقى على أحد منهم. وقد أمكننا الله عزّ وجل بقدرته من نواصيهم». وكذلك قال المعظم فقال الملك الكامل-وكان فيه سياسة ونظر فى العواقب-: «ليس هذا برأى ولا مصلحة. وهؤلاء كبار دين الصليب، وملوك الأرض، والفرنج كثير. وإلى الآن دمياط فى أيديهم. ومتى قتلناهم لا بد أن يأتوا برا وبحرا، وفارسا وراجلا، وأصحابنا فى هذا الوقت قد سئمت نفوسهم من القتال، وكلّوا. وأنهم والله لمعاذير فى ذلك. وقد أنعم الله علينا بهذا الفتح العظيم، الذى ما كان لنا فى خلد. والرأى أن ننعم عليهم بنفوسهم. لكن على ما نريد نحن، لا ما على ما يريدون هم». قال ابن الأثير-رحمه الله-فى تاريخه: كانت مدة الحصار والحرب على ثغر دمياط ثلاث سنين، وثلاثة أشهر. وقال غيره: ثلاث سنين وسبعة أشهر. ثم حصل الصلح بينهم فى حادى عشر الشهر، واتفق الحال بينهم على أن يأخذوا منهم رهائن، حتى تعود رهائنهم. فكان عدة رهائن الفرنج أربعة عشر ملكا وهم: كرموك بن الباب يعنى خليفتهم، وكرمريك صاحب صقلية، وبندارك ملك النوباردية، وسربار ملك الجزيرة الورانية، والريدكور صاحب المساوى وهو إقليم كبير بالمغرب، وكندفور صاحب جزيرة النمسون، وطرباط صاحب البندقية، وابن الأنبرون، وفرنسيس، وأدورد، والملك أخوزنتون، والملكة صاحبة عكا بنفسها، ورومان ابن صاحب رومية الكبرى وهو المعروف بالكاف، وكندريس الكبير، وهؤلاء أعظم ملوك دين الصليب. ثم رهن عندهم السلطان الملك الكامل ولده الملك الصّالح، وجماعة من الأمراء الكبار المصريين. وكان عمر الملك الصالح فى ذلك الوقت خمس عشرة سنة، فإن مولده فى سنة ثلاث وستمائة، فكان مراهق البلوغ، أو بالغ.

فلما حضروا الملوك من الفرنج-خذلهم الله تعالى-بين يدى السلطان الملك الكامل، أقعدهم بين يديه، بعد ما جلس فى دست مملكته، وأوقف الملوك إخوته بين يديه، وفى خدمته عن يمينه ويساره. فنظر الفرنج ناموسا عظيما، وهيبة وافرة، وجلله الله تعالى بالسكينة والوقار. ثم إنهم أنفذوا قسوسهم ورهبانهم، وسلموا المسلمين الثغر على رغم منهم. وكان ذلك يوم الخميس تاسع عشر من شهر رجب الفرد من هذه السنة. وقيل تاسع الشهر، والله أعلم. وتسلم المسلمون الثغر فى ذلك اليوم، بعد أذان الظهر. فما استقرت الأحوال فى تسليمها إلا بعد أذان العصر، حتى وصلت للفرنج ألف مركب موسوقة، رجال وعدد وسلاح ومأكول، فلو علموا الملاعين بذلك، لما سلموا، لكن كانت إرادة الله عز وجل أغلب، وقدرته أعجب. وكانت الفرنج قد حصنوا دمياط تحصينا عظيما، ثم عادت كل رهائن إلى أهلها. ورسم السلطان بمبايعتهم. وكان يحمل إليهم فى كل يوم خمسين ألف رغيف من الخبز، ومائتى إردب شعير. ثم توجهوا إلى بلادهم، قيل فى بقية شهر رجب، وقيل استهلوا شعبان، وسافروا. ولما توجهوا، واطمأنت نفوس الملوك الإسلامية، وردت بشائر السّادة الفضلاء بالتهانى فى قصائدهم المبدعة، ذوو الألفاظ المخترعة. فمن ذلك قصيدة الشيخ شرف الدين ابن عنين، التى أولها يقول: سلوا صهوات الخيل يوم الوغى عنّا … إذا جهلت آياتنا والقنا اللّدنا غداة لقينا دون دمياط جحفلا … من الرّوم لا يحصى يقينا ولا ظنّا قد اتفقوا رأيا وعزما وهمة … ودينا، وإن كانوا قد اختلفوا لسنا

تداعوا بأنصار الصليب وأقبلت … جموع كأن الموج كان لهم سفنا وأطمعهم فينا غرور فأرفلوا … إلينا سراعا بالجياد فأرفلنا فما برحت سمر الرماح تنوشهم … بأطرافها حتى استجاروا بنا منّا سقيناهم كأسا نفت عنهم الكرى … وكيف ينام الليل من عدم الأمنا لقد صبروا صبرا جميلا ودافعوا … طويلا فما أجدى دفاعا ولا أغنى بدا الموت من زرق الأسنة أحمرا … فألقوا بأيديهم إلينا فأحسنا وما برح الإحسان منّا سجية … توارثها عن جد آبائنا الأبنا وقد جربونا قبلها فى وقائع … تعلم غمر القوم منا بها الطّعنا أسود وغى لولا وقائع سمرنا … لما لبسوا قيدا ولا سكنوا سجنا وكم يوم حرّ ما وقينا هجيره … بستر وقرّ ما طلبنا له كنا فإن نعيم الملك فى وسط الشقا … ينال وحلو العيش من مرّه يجنى يسير بنا من آل أيوب ماجد … أبى عزمه أن يستقر بنا معنا كريم الثنا عار من العار باسل … جميل المحيّا كامل الحسن والحسنى سرى نحو دمياط بكل سميذع … إمام يرى حسن الثنا المغنم الأسنى مآثر مجد خلدتها سيوفه … طوال المدى يفنى الزمان وما تفنى وقد عرفت أسيافنا ورقابهم … مواقعها فإن عاودوا عدنا منحناهم منا حياة جديدة … فعاشوا بأعناق مقلدة منّا ولو ملكونا لاستباحوا دماءنا … ولوغا ولكنا ملكنا فأحسنا ثم وردت قصيدة القاضى بهاء الدين بن زهير بن على القوصى، رحمه الله، التى أولها يقول: بك اهتزّ عطف الدين فى حلل النصر … وردّت على أعقابها ملة الكفر (15 - 7)

ومنها: وما فرحت مصر بهذا الفتح وحدها … لقد فرحت بغداد أكثر من مصر ولو لم تقم فى الله حق قيامه … لما سلمت دار السلام من الذعر ومنها: وأقسم لولا عزمة كاملية … أخافت بالمقام وبالحجر وأقسم إن ذاقت بنو الأصفر الكرى … لما حلمت إلاّ بأعلامك الصّفر ثلاثة أعوام أقبلوا وأشهرا … تجاهد فيهم لا بزيد ولا عمرو ومنها: وليلة فرّ العدوّ وأنها … بكثرة من أرديته ليلة النحر أيا ليلة شرف الله قدرها … فلا غرو أن سميتها ليلة القدر سددت سبيل البر والبحر عنهم … فسابحه بر وسانحه بحر أساطير ليست فى أساطير من مضى … فكل غراب راح أقنص من صقر وجيش كمثل الليل هولا وهيبة … وإن زانه ما فيه من أنجم زهر وباتت جنود الله فوق ضوامر … بأوضاحها تغنى السّراة عن الفجر فما زلت حتى أيّد الله حزبه … وأشرق وجه الدين جذلان بالنصر فرويت منهم ظامئ البيض والقنا … وأشبعت منهم طاوى الذئب والنسر وجاءت ملوك الروم نحوك خضّعا … تجرجر أذيال المذلة والصّغر أتوا ملكا فوق السّماك محله … فمن جوده ذاك السحاب الذى يسرى فمنّ عليهم بالأمان تكرّما … على الرغم من بيض الصوارم والحمر كفى الله دمياط المخافة إنها … غدت قبلة الإسلام من موضع البحر وما طاب ماء النيل إلاّ لأنه … يحلّ محل الريق فى ذلك الثغر

ذكر ليلة طيبة جرت بين ملوك الإسلام

منها: لك الله كم من فارس قد أجرته … من الموت إذ أطلقته خيفة الأسر يقصّر عنك المدح من كل مادح … ولو جاء بالشمس المنيرة والبدر ... ذكر ليلة طيبة جرت بين ملوك الإسلام وذلك لما رحلت الفرنج-خذلهم الله-وطابت نفوس الملوك، واطمأنت قلوبهم، اجتمعوا فى القصر الذى بناه السلطان الملك الكامل بالمنصورة. وجلس السلطان الملك الكامل محمد، والملك الأشرف موسى، والملك المعظم عيسى فى مجلس شراب وأنس ولذة وطرب. وكان يوم رقت غلائل صحوه، وغنجت شمائل جوه، وضحكت ثغور رياضه، واطرد زرد النسيم فوق حياضه، وفاحت مجامر الأزهار، وانتشرت قلائد الأغصان عن فرائد الأنوار، وقام خطباء الأطيار، على منابر الأشجار، ودارت أفلاك الأيدى بشموس الرّاح فى بروج الأقداح، بمجلس قد تفتحت فيه عيون النرجس، ومالت أعناق البنفسج، وفاحت مجامر الأترج، وفتقت فازات النارنج، وانطلقت ألسن العيدان، وقام خطباء الأوتار، وهبّت رياح الأقداح، ونفقت سوق الأنس، وقام منادى الطرب، وطلعت كواكب الندمان، وامتدّت سماء الند على بساط الورد، وقد سبوا العقل فى مرح الجنون، وخلعوا العذار بأيدى المجون، فأمر الملك الأشرف موسى لجاريته أن تغنى، فنهضت وقبلت الأرض، وتناولت العود وأصلحته، وجسته وغنت تقول: ولما طغى فرعون عكا وقومه … وجاء إلى مصر ليفسد فى الأرض أتى نحوهم موسى وفى يده العصا … فغرقهم فى اليمّ بعضا على بعض قال: فأعجب بذلك الأشرف، وطرب لقولها، وشرب، وطاب. فأمر السلطان الملك الكامل لجاريته أن تغنى، فنهضت، وقبلت الأرض، وتناولت العود، وساوته-وكانت حاذقة-وغنت تقول:

أيا أهل دين الكفر قوموا وانظروا … لما قد جرى فى عصرنا وتجددا أعباد عيسى إن عيسى أتاكم … وموسى جميعا ينصران محمدا قال: فأعجب ذلك الثلاث ملوك. وأمر السلطان الملك الكامل لكل واحدة بخمس مائة دينار. ثم إن الملوك تودعوا وسافر كل ملك إلى بلاده ومحلّ ملكه. والذى أجمع عليه أرباب التاريخ أن كان مدة إقامة الفرنج على ثغر دمياط أربعين شهرا وسبعة عشر يوما. {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ}. ودخل السلطان الملك الكامل إلى القاهرة فى شهر شوال من هذه السنة، ثم خرج إلى العباسة، ومضى إلى قلعة صدر وأمر بعمارتها، ورجع إلى القاهرة المحروسة. وفيها استولى عماد الدين زنكى على البلاد الهكارية بالموصل، وأخذ قلاعهم. فلما عاد الملك الأشرف من دمياط، استجار به بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل -وهو يومئذ أتابكها من قبل أستاذه-فأجاره، وأنجده، وانهزم زنكى منهما، واستعاد [بدر الدين لؤلؤ] ما أخذه [زنكى]. وفيها توفيت الملكة عصمة الدين خاتون بنت العادل الكبير، أخت السلطان الملك الكامل، زوجة الملك المنصور صاحب حماة. وفيها توفى قطب الدين محمد شاهنشاه بن عماد الدين زنكى صاحب سنجار. وفيها كان ظهور التتار من بلادهم وخروجهم إلى بلاد الإسلام.

ذكر السلطان علاء الدين خوارزم شاه

ذكر السلطان علاء الدين خوارزم شاه وسلطان الإسلام يومئذ بسائر الممالك الشرقية السلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش بن إيل أرسلان اتسز بن محمد بن أنوشتكين، ونسبته تنتهى إلى ههنا. هكذا ذكره ابن الأثير فى تاريخه. وكان أبوه أو جده أحد مماليك الملك العادل عضد الدولة أبو شجاع ألب أرسلان داود بن سلجوق. وهكذا ذكره أيضا ابن واصل صاحب تاريخ بغداد. وكان لأيامه ملك خوارزم من جهة السلطان المشار إليه ابن سلجوق. فلما انتقضت دولة بنى سلجوق من العجم قوى سلطان علاء الدين خوارزم شاه، وملك العجم وخراسان وعراق العجم، واستولى على ما وراء النهر، وطمع فى أخذ بغداد، وأن يعيد أمر الخلافة على ما كان عليه فى أيام دولتى بنى بويه الديالمة وبنى سلجوق-وقد تقدم القول فى ذلك. وهذا كله لأمر كان كامنا فى الغيب، لما يريده الله عز وجل من تملك التتار الأرض، فلا راد لحكمه، ولا مفر من قضائه. قال ابن واصل صاحب تاريخ بغداد: شهدت على جماعة من سراة الناس من أرباب دولة بغداد-كل يذكر ويتقلد فى ذمته-أن الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين كتب إلى التتار يستدعيهم إلى البلاد، ويهون عليهم العبور إلى الأقاليم، ويصغّر عندهم أمر السلطان علاء الدين خوارزم شاه. كل ذلك خوفا منه لئلا يحضر إلى بغداد، وتعود الخلافة كما كانت فى أيام بنى سلجوق. ولذلك لوّح ابن الأثير فى تاريخه عند ذكره لخروج التتار كما يأتى بيانه فى موضعه، إن شاء الله تعالى. قلت: وأما هؤلاء القوم، وبدء خلقهم، وأول شأنهم، فإنه من الحديث العجيب، والأمر الغريب، ولعله لم يذكره أحد من المؤرخين، لعدم إحاطة علمهم به. وقد وقع

العبد عليه من كتاب عجيب له عند الترك مزية عظيمة، يسمى باللغة التركية «الواى أطام بتكى» معناه «كتاب الأب الكبير». وهذا الكتاب وقفت عليه سنة عشرة وسبعمائة، أحضره إلىّ شخص كان يسمى أمين الدين الحموى، كاتب الأمير بدر الدين بيسرى، رحمهما الله تعالى. وكان الوالد-سقى الله عهده-فى ذلك التاريخ، متولى الأعمال الشرقية، وما معها. وكان هذا الرجل أمين الدين له بالأعمال راتب مقرر، فكان كثير التردد إلى بلبيس، وكنت من حال الصبى متولعا بالفضل وأهله، والأدب ونبله. وكان أمين الدين-رحمه الله-من أحسن الناس محاضرة، وألذهم مسامرة، وأغزرهم مروءة، وأكثرهم أدبا. وكان ممن يتردد إلى المملوك من السادة الفضلاء فى ذلك العهد، مثل الشيخ جمال الدين السملوطى، والحكيم شمس الدين ابن دانيال، وجمال الدين البلاليقى المعروف بابن زيتون، وجماعة أخر من أهل الفضل والأدب. فكنا ننهب العيش بالآداب، ونستخرج لباب اللباب من ذوى الألباب، فى كل فن وباب. فتجارينا ذات يوم ذكر التاريخ، وبدء التتار، فذكر أمين الدين المذكور أن عنده كتاب لم يقع لأحد مثله، وأنه كان عند الأمير بدر الدين بيسرى من أعظم ذخائره وأعزها عليه، وكان إذا أحضره قام له قائما، وجعله على رأسه، ويعظمه كما يعظم كتاب الله تعالى. فسألناه أن يحضره إلينا. فلما عاد أحضره، فنظرناه كتابا حسنا ذى شأوة جليلة، بخطّ منسوب ربما يقال إنه خط تلميذ ابن البواب، فى ورق بغدادى، مجلد بأطلس أحمر ظاهر وأصفر باطن. وله قفل ذهب، يدل على عناية كبيرة به. فاجتمعنا عليه، وقرأه علينا أمين الدين، فوجدناه تاريخا للترك الأول وأول خلقهم-بزعمهم-وذلك مما يخالف الشرع المطهّر. فاستنسخت منه بدء خلق التتار والترك الأول، لما رأيت فيه من العجائب الغريبة، ليكون ذلك من باب التعجب، لا من باب التصديق، إذ هو غير موافق للشريعة،

ذكر بدء شأن الترك الأول حسبما ذكره صاحب الكتاب التركى

وإنما هو شئ وضعوه الحكماء المتفلسفين، يصيدون به عقول من يخدموه من الملوك الراغبين فى طول الحياة الدنياوية، مما يؤيد زعمهم أن العمر الطبيعى مائة وعشرون سنة، فمن مات قبل ذلك كان من وجوه التفريط بنفسه، مع شروط وضعوها. ونحن نعوذ بالله من زعمهم، وزخارف أقوالهم. ونعلم ونتحقق أن العمر محتوم، ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها، فهذا هو الاعتقاد الصحيح، والعقل الرجيح. وها أنا أضع وأثبت-فى هذا الفصل-جميع ما استنسخته من ذلك الكتاب، لضرورة بدء خلق هؤلاء القوم التتار بزعمهم. وليظهر أيضا نقصان عقولهم، فيما وضعوه من خرافاتهم. ذكر بدء شأن الترك الأول حسبما ذكره صاحب الكتاب التركى هذا كتاب عنى بحلّه من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية، كما عنى بحله من اللغة التركية إلى اللغة الفارسية، عبد الله المتوكل على ربه الغفور المسامح، جبريل ابن بختيشوع المتطبب، فى سنة إحدى عشرة ومائتين للهجرة النبوية المحمدية، على صاحبها السلام. وتركت فيه ألفاظا بحالها باللسان التركى، كما تركها الذى حلها من التركية إلى الفارسية، وهو أبو مسلم عبد الرحمن صاحب الدعوة العباسية. قال جبريل: ووصل إلىّ هذا الكتاب من ذخائر أبى مسلم المذكور. وذكر أنه من كتب جده برزجمهير بن البختكان الفارسى. وكان أبو مسلم ينتسب إلى برزجمهير المذكور، وليس ببعيد فيما ذكره، لما كان عليه من العقل الوافر، وحسن السياسة والتدبير، مع ما اجتمع فيه من فنون العلم. وقتله المنصور لما خيف من دهائه وتدبيره. وسمعت المأمون-رضى الله عنه-يقول: الملوك ثلاث الذين ساسوا البلاد وأتقنوا الأمور وأقلبوا الدول؛ وهم الإسكندر، وأزدشير، وأبو مسلم. ثم إن جبريل أطنب فى ذكر أبى مسلم إطنابا كثيرا، أضربت عنه ولم أنسخه، إذ ليس فيه لنا غرض. ثم قال بعد ذلك: إن الله جلت قدرته وتعاظمت حكمته خلق جبلا عظيما آخر

الصين الأعلى من جهة مشرق الشمس، سمت علوه فى الجو أربع فراسخ، صاعدا فى فلك الهوى، حجرا أسودا أصمّا، ليس به نبات. وأن من حكمة الله جل وعزّ، التى لا تدرك لها غاية، ولا يحصر لها نهاية، جعله حاجزا للبحر الأسود المحيط، وحاجزا لعين الشمس فى أول طلوعها، فإنها تطلع من ذلك البحر من غامض علمه، الذى لا يعلمه سواه، فيحجبها هذا الجبل أن تدرك الأرض فى أول طلوعها، ويمنع حرارتها فى مبتدأ طلوعها؛ لطف من الله تعالى، وتدبير من الحكمة الإلهية. فلو أدركت الأرض فى أول مبتدأ إشراقها، ما تركت عليها من دابة، ولا نبتت فيها خضراء. وليس تدرك الأرض إلا بعد ما تصير فى اثنى عشر دقيقة من سمت رأس المشرق، فعند ذلك تخف حرارتها، لارتفاعها، ويدرك بها الانتفاع. واسم هذا الجبل باللغة التركية قراطاغ، تفسير ذلك الجبل الأسود. ثم إن هذا الجبل تتفجر منه-من سفحه الموازى إلى جهة المغرب-عيون ماء عذبة، أحلى من الشهد، وأبرد من الثلج، وأعطر من المسك. تفرش تلك العيون فى بحيرة مسافة دورها سبعون فرسخا كاملا، يجرى منها نهر فى طول سفح ذلك الجبل، مسافة مائة وثمانين فرسخا. قد بنى فى وسط هذا المجرى مدينتان عظيمتان ذاتا أسوار دائرة، بحجارة سود، ونحتا ذكر فى أنثى، وأنثى فى ذكر، لا تكاد تبين مداخله إلا للمتأمل الحاذق. دور كل سور سبعة عشر فرسخا كاملا، لكل مدينة أربعون بابا من الحديد الصينى، كالفضة المحلية. على كل باب برج مشيد من تلك البناية. وذلك النهر يجرى فى تلك المدينتين. وبين المدينة والمدينة مسافة سبع عشر فراسخ. وقد صنع ذلك النهر بمقاسم قد رتبت، وتدبير قد أحكم، حتى ليس يخلو منه منزل من منازل تلك المدن. ثم يخرج وينقسم عدة أنهر إلى سائر بقاع تلك الأراضى، وعليه

ضياع ومزدرعات وأشجار، ذات ثمار عجيبة، وفواكه لذيذة، ما لا يعلمها إلا الله تعالى. ويعمّ ذلك النهر أراضى ذات أعمال، وعمائر تقدير سنة طول، فى سنة عرض، عليها أمم وخلق، ذوو صور مختلفة، يرجعون جميعهم إلى سلطان تلك المدينتين. وهاتان المدينتان تسميان باللغة التركية أيدرماق وأشرماق. ويقال لكل من يملكهما من نسل واحد وعظم واحد باللغة التركية ألطن خان، تفسيره ملك الذهب. ولم يكن للقوم عدو يخشونه، ولا منازع يخافونه، أهل عيش خضل، ولذة وفكاهة، وأكل وشرب وتناسل، من أحسن خلق الله وجوها، وأرطبهم أبدانا، وأنعمهم عيشا. يأكلون من أطيب اللحومات، وألذ الفواكه، لتلك الأراضى الحسنة، والمراعى اللذيذة، ذات الحشائش المختلفة، النابتة فى تلك الأماكن الخصبة، الصحيحة الهواء، العذبة الماء. فليس يرى فيهم مرض من الأمراض، ولا عاهة من العاهات، الفرح غالب على قلوبهم، حتى إذا ما مات عندهم الميت لا يعرفون البكاء عليه ولا الحزن، طوال الأعمار. لا يكاد الشخص منهم يموت إلا بعد المائة وما فوقها. قال جبريل: ولهم فى ذلك معنى دقيقا، جل بحثنا عليه، وذلك أن صاحب هذا الكتاب برزجمهير بن البختكان قال-وإن لم يكن ذلك موافقا للشرع المطهر، فنحن إنما نذكره للتعجب لا للتصديق، فما على ناقل خبر من عتب-قال برزجمهير: إن أول خلق هؤلاء القوم المذكورين أن بهذا الجبل المسمّى بقراطاغ مغار، مسافة علوها فيه من أسفله إلى حين يرقى إليها الراجل الشبق-بعد المشقة العظيمة والتعب والكلال-ثلاثة أيام، بطريق وعراء كثيرة التعاريج، متسلقة فى الجو. وأن

على فم تلك المغار باب عظيم من الذهب الأحمر، مرصّع بأنواع الجواهر العظيمة القدر، وله سدنة وخدام. وهذه المغار فهى معبود أهل تلك الديار، فإذا أراد الإنسان منهم يحلف، يقول: «أيّما قراطاغ»، تفسير ذلك «وحق الجبل الأسود». وإشارته إلى تلك المغار. قال جبريل: قال برزجمهير: وأصل دعواهم فيه. قلت: ونحن لا نصدق هذه الدعوى الضعيفة، وإنما نورد ما قالوه، ونرد عليهم من الشرع والعقل الذى احتجاجهم به. قال: إنه لما كان أول زمان، جرّت السيول من الأمطار ماء إلى تلك المغار، وسحّب ذلك الماء بقوته ترابا من مجر السيول، فاحتبس فى تلك المغار فى أخدود شبيه بقالب هذه الخلقة الآدمية. وكانت الشمس فى ذلك الوقت فى برج أفنون-على ما نقول نحن برج السرطان-فقصده بذلك أن الشمس كانت فى أوجها وقوة حرارتها، بما يقتضيه عرض أرضهم، إذ كل إقليم خص بعرض وسمت. وكانت تلك الصبابة التى تحدرت من تلك السيول إلى المغار، قد تجمعت فى ذلك الأخدود. فلما استقرت، طبختها الشمس، فكانت المغار بمنزلة جوف المرأة. والمستقر فى ذلك الأخدود عنصران: الماء والتراب، وطبختهما الشمس فى أوجها فكانت كعنصر النار. واعتدلت له الرياح فى مدة تسعة أشهر، وتكملت الأربع استقصاءات. فلما كانت الشمس ببرج حيتان-وهو كقولنا برج الحمل-فقصده أنه مضى تسعة أشهر، فإن كل ثلاثة أشهر فصل. فلما كان ابتداء أمره، والشمس فى أوجها، فيكون أول الصيف. فلما مضت التسعة أشهر، مضى فصل الصيف وفصل الخريف وفصل الشتاء، وشرعت الشمس للاعتدال. فلما وافق إكمال تلك المصاية وتعفينها وإنضاج طبخها عند اعتدال الشمس استحق الكمال والخروج، فخرج من ذلك الأخدود صفة هذا الحيوان الناطق. قال جبريل: وهذا القول تصححه أصحاب القول بالتعافين،

ويحتج فيه أن لكل ما عفن فى استحقاقه نتج منه روح حيوانى وذلك بالضرورة، كالدود من الخل ومن الجبن، وكالحشرات من الأرض. وربما عفنت أشياء، وخرجت منها حيوانات مختلفة الأشكال. قال: فسمّى ذلك الشخص الذى خرج من تلك المغار باللغة التركية «أى أطام» معناه «الأب القمر». والترك يدعون أنهم أحق به من الفرس، والفرس يدعون أنّهم أحق به من الترك. واسمه عند الفرس كهومرت معناه بالفارسية «أب الآباء». قلت: ونحن نعوذ بالله تعالى من تصديق دعوى الطائفتين، ونشهد أن الله خالق آدم من طين، بقدرته التى لا يقدر عليها سواه، بما أتى به الرسول الصادق، الذى بالحق -عن الحق-ناطق. وأن الله تعالى واجد الوجود من العدم، وهو على كل شئ قدير. وأما دعوى هؤلاء القوم على ما ذكره صاحب هذا الكتاب، فإنها دعوى سخيفة جدا، لا يقبلها الشرع ولا العقل جملة كافية. قال جبريل: قال برزجمهير: فنزل ذلك الشخص المسمى «أى أطام» إلى تلك الأرض الطيبة الهواء، العذبة الماء، فأقام بها أربعين سنة، وهو متزايد القوة والنشاط، والنهضة فى سائر أعضائه وتركيبه. قال: ثم إن السيول اجتمعت أيضا، ونزلت، وتحصلت تلك المصاية بالمثال الأول الذى تقدم ذكره. لكن كانت الشمس ببرج كينان-معناه أنه بالتقدير والقياس كقولنا برج السنبلة-فأدرك الطبخ والشمس فى أول هبوطها، وتكامل نضجها والشمس قد شرقت على أوجها، فخرجت أنثى، هذا بقوله فى كلام طويل هذا تلخيصه. ولو أمكننى تلخيص الجميع لكان أوفق، لكن ألجأت الضرورة لبيان ذكر أول خلق التتار حسبما يأتى،

فإننى لم أجد أحدا ذكر أصلهم الأول، وإنما سائر أرباب التواريخ ابتدأوا بذكر جكزخان تمرجى، ولم يتعدونه. ووجدت فى هذا الكتاب بدء شأنهم، فأحببت أن أنبه على ذلك. قال جبريل: فخرجت أنثى لعدم إدراكها أول الأوج، فنقصت عن التركيب الذكرى لعدم الحرارة، فسميت باللغة التركية «أى وا» معنى ذلك «وجه القمر». فتزاوجا وتناسلا، فأقام «أى أطام» بعد نزول «أى وا» أربعين سنة أخرى واقفا عن الزيادة والنقصان. ثم شرع فى النقص، فأقام أربعين سنة متناقص الأحوال. فلما كملت له مائة سنة وعشرون سنة، هلك. وقد صار له من النسل أربعين ذكر وأنثى، فتزاوجوا ببعضهم البعض. وكان أكبر الأولاد لما هلك «أى أطام» أعاده إلى المغار، ووضعه فى ذلك الأخدود، رجاء أن يقوم ثانيا. فلما هلكت أمه «أى وا» بعد أبيه بأربعين سنة، طلع بها إلى أبيه، فوجده قد تمزق، فوضعها فوقه، وطمرهما وتركهما. وجعل على باب المغار ذلك الباب الذهب، وأقام عليه سدنة يحفظونه. قال جبريل بن بختيشوع: فمن هاهنا أخذت الحكماء الأطباء أن العمر الطبيعى مائة وعشرون سنة. والعلة فى ذلك أن هذا الشخص لما كان ابتداؤه، والشمس فى أوجها، اقتضى الزيادة فى ذلك الفصل بكماله. وذلك أن السنة ثلثمائة وستين يوما، والخمسة أيام وزائدها لا يعتد به فى حساب السنة الشمسية. وفى ذلك بحث دقيق، وحديث طويل أضربت عنه ولم أنسخه. قال جبريل: فإذا حسبت هذه الثلثمائة وستين يوما على منازل القمر، وهى الثمانية وعشرين منزلة التى يحلها القمر فى طول السنة، كانت كل منزلة تخص بعدة أيام،

وكانت كل ثلاثة أيام إلا قليل بنظير سنة من العمر الطبيعى، وهو المائة وعشرون سنة. فإذا حسبت السنة اثنى عشر شهرا، كان استكمال السنة باستكمال مائة وعشرين سنة. فالزيادة فيها كون أن الشمس كانت فى أول خروجه إلى فسيح الفضاء بنقطة الحمل، وهى فى صعودها، فاقتضى الحال الزيادة فى طول مدة ذلك الفصل بكماله. فلما صارت الشمس بنقطة السرطان، وبلغت منتهى الزيادة فى صعودها، وقفت فى ذلك الفصل بكماله. فلما عادت الشمس بنقطة الميزان، وتساوت، ورجعت إلى الهبوط، اقتضى ذلك الحال النقصان. فلما انتهت إلى الحضيض اقتضى الحال التلاف والهلاك، إذ الحمل لم يكمل غير تسعة أشهر، فمنتهاه آخر ما الشمس فى برج الجدى، وهو آخر الحضيض الشمسى. والعمر الطبيعى إنما هو تسعون سنة، وإنما جعلوه مائة وعشرون سنة للغاية فى النهاية. قال جبريل: وأقوى الأدلة على ما ذكرناه أن سائر المخلوقات ذوات الأرواح الجائلة فى الأجساد المركبة، فى فصل الربيع يحصل لها الانتعاش وقوة الحركة والنهضة وتحريك الشهوة والتنصل من الأمراض التى حدثت فى فصل الخريف، ولم تنصل فى فصل الشتاء كون أن الشمس فى هبوطها. قال جبريل: فإن قال قائل رأينا من يعيش أكثر من المائة وعشرين، ورأينا من يموت دون ذلك من غير سبب عارض، فالجواب عن ذلك، قال برزجمهر: الحجة لنا فى ذلك خلقة هذا الشخص المدعو «أى أطام» فإنه إذا اتفق أن المولود يولد موافقا لمبروز هذا الشخص فى الأوقات التى تكون فيها من ابتدائه إلى انتهائه، وتكون أعضاؤه مناسبة لتلك الأعضاء المختصة بذلك الشخص، لاتساع جولان الروح فى متسع التركيب، وسلم من أن تغلب عليه طبيعة على طبيعة، وخلص من آفات الدنيا وعوارضها، حكمنا له أنه يعيش ما قدرناه له من العمر الطبيعى. ثم إنه ذكر هاهنا مقادير الأعضاء فى التركيب من الرأس إلى القدم، مما أضربت عنه لطول شرحه

وهذيانه. ثم قال: فإن زاد المولود فى خلقه عن هذا التركيب، واتفقت له هذه الأسباب المشترطة كلها، زاد عمره على العمر الطبيعى بمقدار تلك الزيادة فى تركيبه، وإن نقص عن خلقه فى هذا التركيب نقص عمره بمقدار ذلك النقص. قال جبريل: ولذلك أن الطبيب الماهر والحكيم الحاذق إذا رأى طفلا كان أو غيره كاملا فى خلقه التركيب الأصلى فى سائر أعضائه، علم مقدار جولان الروح فى ذلك التركيب، وراعى مصالح الطبائع الأربع فى الأغذية، فأمكن أن يعيش ما قدر له، بشرط سلامته من الآفات العارضة، فيجب على الطبيب الحاذق اللبيب الفطن إذا كان بخدمة ملك أو رئيس أن ينظر إلى أعضائه وتركيبه، ويلاطف ما نقص منها، ويحفظ نقصها من أى الطبائع هى، فيكون اعتماده دائبا فى حفظ صحة تلك الطبيعة التى من جهتها نقصت الحملة عن الاعتدال. ثم تكلم كلاما كثيرا جدا، أطنب فيه إطنابا كثيرا، أضربت عنه. والذى تبين للعبد من هذا القول أن الأطباء وضعوا ذلك فخّا ليصيدوا به عقول الكبار من العالم، وأن لا يكون لهم غنى عن طبيب حاذق يلازم مجالسهم لحفظ الصحة من أمزجتهم. وليس نشك أن الله عز وجل خلق الداء والدواء، وإنما قولهم فى معانى التركيب وحياة العمر الطبيعى فمحال لا يصدقه مؤمن يؤمن بالله تعالى، وبما أتى به رسوله صلى الله عليه وسلم. والصحيح قول الإمام على-كرم الله وجهه-: «العمر محتوم، والرزق مقسوم». قال جبريل: ثم إن ذلك النسل الذى من ذلك الشخص كثر وتزايد، وبغى بعض على بعض، فأجمعوا أمرهم على أن يقيموا من بينهم رأسا يرجعون إلى كلمته، ويأخذ القصاص من بعضهم لبعض، فاتفق رأيهم على أن يكون الأكبر من ولد

«أى أطام»، فكان أول من جلس على سرير الملك من هؤلاء القوم من ولد «أى أطام» الأكبر منهم، تسمى باللغة التركية «أى أطام كشكرى» معناه «الأب القمر الصغير». فأقام فى الملك ثمانين سنة، وهو الذى ابتنى تلك المدينتين العظيمتين-أيدرماق وأيشرماق-بناهما فى مدة أربعين سنة. ثم هلك، فقام بالأمر ولده، وكان يسمى بلغتهم «كشكرى بلجكى» معناه «فرخ كشكرى». فلما استقر له الأمر كان أبوه قد أوصاه أن يجعل رمته فى تمثال من ذهب مجوف، ويجلسه على كرسى فى بيت يصنعه له كالمعبد، فصنع له ذلك، وأحكم له البيت الذى جعله فيه، وأوقد عليه القناديل الذهب بالزيت المحكم الذى لا ينطفئ، لا ليل ولا نهار. وأقام له سدنة يخدمونه. وعاد ذلك مشهدا لهم وعيدا، يجتمعون إليه فى يوم تاريخ وفاة ذلك الملك، فيسجدون له، ويدعون عنده، ويقربون إليه من أعز أموالهم ومواشيهم. وسمّى بعد ذلك كل من ملك من نسل ذلك الملك من ذلك الحين «ألطن خان» تفسيره «ملك الذهب». وأقاموا على ذلك ما شاء الله تعالى من الدهور، آلاف من السنين والقرون، وهم فى ألذ عيش وأهناه، لا يعرفون لهم عدوا ولا حربا ولا قتالا. انتهى كلام جبريل إلى هاهنا. قلت: فأبى الدهر إلا أن يفرق شملهم، ويعيدهم عبيدا بعد الملك، وأذلاء بعد العز، كعادة الدهر وغدره، والزمان وشره. فكان موجب ذلك ما ذكره سليمان بن عبد الحق بن البهلوان الأذربيجانى، مما ذيله على كلام جبريل بن بختيشوع، وضمنه هذا الكتاب المذكور. قال سليمان بن عبد الحق: إنه كان بهذا الجبل المسمى «قراطاغ» عند منبع تلك البحيرة، وحوشا شدادا، سودا، كالبخاتى عظما، لا يطيق بشر أن يقرب تلك الأرض بما رحبت، لكثرة وحوشها، وخبث أسودها.

ولم يكن بها ساكن من الإنس، مع كثرة خيرها، وسعة فضائها، وبهجة أقطارها، وعذوبة مائها، وصحة هوائها، تشتمل تلك البحيرة على عدة جزائر خضرة نضرة، كثيرة الأشجار والنبات، يأوى إليها سائر أصناف الطير من سائر أقطار الأرض، يبيض ويحضن ويفقس، لا تجد من يشوش عليهم، ولا من ينفره عن وكره. وكان أكثر ذلك طيرا، الجنس الذى يقال له باللغة التركية «قو» وهو «التم». فاتفق أن بجوار هذه الأرض-بعد مسافة بعيدة-بلاد يقال لها تبّت، وهى التى بها الغزال، الذى فى صراره المسك المعروف بالمسك التبتى، وهو أجود من المسك الصينى بطبقات، لا يحمل إلا إلى الملوك فى البر دون البحر، فإن حمله فى البحر مما يقطع ريحه، وله حديث طويل، أضربت عنه لذلك. قال سليمان الأذربيجانى: فخرجت امرأة من بلاد تبّت، وهى حامل، إلى بعض تلك الأودية بتلك الأرض تحطب، فأدركها المخاض، فوضعت ولدا ذكرا كأنه قطعة صخر، فنهضت تأتيه بشئ من ذلك الحشيش تستره به، فاختطفه نسر، وحلّق به فى الجو، فلم يحطّه إلا بسفح ذلك الجبل المسمى بقراطاغ. فسقط-لما يريده الله عز وجل-فى غيضة قد ولدت فيها فى تلك الساعة لبؤة، فصار الطفل عند شبلها الذى وضعته، لأمر أراده مدبّر الأمور، ومقدّر الكائنات، الفعّال لما يريد، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ثم أراد النسر حمله، فنظر إلى اللبؤة وهى قد ضمته إلى شبلها، وظنت أنها وضعته مع شبلها، وحنّنها الله-جل وعز-عليه، كما ورد الخبر عن نمرود بن كنعان مع النمرة التى حضنته مع جروها. فجفل النسر وحلق طائرا وتركه. ثم إن اللبؤة أرضعته مع شبلها من وقتها. ولم يزل كذلك حتى انتشأ وترعرع، وكبر مع ذلك الشبل، وعادت اللبؤة تكسر لهما من أصناف وحوش ذلك الجبل

وتطعمهما. وشبّ ذلك الغلام وكبر، حتى صار يفترس الأسود بيده، ويأكل لحومها، وعاد كأنه البختى العظيم من عظم خلقه، بوجه كأعظم ما يكون من وجوه السباع، ولا يظن أن ثم خلقا سوى تلك الوحوش، لعدم السالك بتلك الأراضى. وعادت الأسود إذا رأته جفلت منه وهربت، خوفا من شره ولافتراسه إياهم. قال سليمان بن عبد الحق الأذربيجانى: فبينما هو ذات يوم بسفح ذلك الجبل على شاطئ تلك البحيرة، إذ نظر إلى سبعة نفر من بنى آدم-ثلاثة رجال وأربع نسوة-وهم فى تلك الأرض، والأسود قد دارت عليهم من كل جهة. فنظر إلى أشخاص كشخصه، وشبها كشبهه، وتركيبا كتركيبه، فحنت الجنسية، ومالت الطبيعة الآدمية، فنهض إليهم، وزعق على تلك الأسود الذين قد تجمعوا عليهم، فنفروا منه، لما رأوه. وكذلك أولئك الأشخاص سقطوا على وجوههم لهول منظره، فتقرب إليهم ووانسهم، فتأنسوا به، لما علموا أنه يمنع عنهم أذى تلك الأسود. وتبينوه فوجدوه آدميّا مثلهم، وإنما غيرت محاسنه الوحشية الربيبة. فكلموه فلم يفهم، بل إنه يزمجر كزمجرة الأسود. ثم إنه تأنس بهم، وعاد يفترس لهم من تلك الأسود والوحوش ويأتيهم به، فيشوون ويأكلون ويطعمونه، فعاد يأكل مما يأكلون. ولم يزل كذلك حتى فهم وعقل كلامهم. وعادوا يأمرونه بالشئ فيفهم. وسأل بعد ذلك منهم عن أحوالهم، فعرّفوه أن ثم أناس مثلهم كثير فى جميع الأرض، فقال: «فما الذى أوقعكم أنتم هاهنا، ولم أر من قبلكم غيركم؟». فقالوا: «نحن تتار»؛ معنى ذلك-أى تائهين عن أرضنا- «وأن قوما من جنسنا غلبوا علينا، وقتلونا، وأخرجونا من ديارنا، فخرجنا هاربين، لا ندرى أين نتجه، فوقعنا فى هذه الأرض تتار، أى تائهين». فهذه أصل كلمة قولهم التتار.

قال: وكان فى جملتهم بنت، فعلق بها ذلك الشخص الوحشى، وواقعها، فولدت منه غلاما، فسموه أهله «تتار خان» -تفسيره الملك التائه-وسموا أبوه ذلك الشخص الوحشى «ألب قرا أرسلان بلجكى» معنى ذلك وتفسيره «فرخ الأسد الأسود». ثم توالدوا وتناسلوا، وكثروا وقتلوا تلك الأسود الذين فى تلك الأراضى، وأكلوا لحومها. وولد لتتار خان ولد فسماه قرا أرسلان بلجكى-على اسم جده. ثم ولد لقرا أرسلان بلجكى ولد، فسماه تتار خان كشكرى تفسيره «تتار خان الصغير». وهو أول من صنع الشبابة التركية المسماة بلغتهم «صبرغوا»، وصنعها لمشاكلة حس تلك الطيور التى بتلك الجزائر، فكان يعدى إليهم، ويصفّر بتلك القصبة، فتجتمع عليه الطيور من سائر نواحى الجزائر، فيصيد منها ما شاء أن يصيد. ثم ولد لهذا تتار خان كشكرى أولاد ثلاثة جكز خان، وأغزّ خان، وأطن خان. قال سليمان بن عبد الحق: فهؤلاء الثلاثة أصول سائر بطون التتار، وانقرض ما سواهم. وتوالدوا، وكثر نسلهم فى تلك الأرض، وتفرقوا حول تلك البحيرة، وليس لهم ما يأكلوه غير وحوش ذلك الجبل، مع ما تنبت تلك الأراضى من أنواع النباتات. ثم ولد لجكز خان اثنا عشر ولدا ذكرا، فكان الأكبر فيهم يسمى تتار خان بيغو، وكان أعظمهم خلقا، وأقواهم بطشا، وأشجعهم نفسا. وكان يسطو على الأسود بغير سلاح، فيملكها بيده. وكان لما علموا أهل تلك الديار أن تلك الأرض خلت من تلك الوحوش الضارية، وأن عاد بها سكان وقطّان، ترددوا إليها، ونازلوا أهلها. ودخلت التتار تحت طاعة ذلك الملك المسمى ألطن خان، وعادوا يعبرون إليه، ويتقربون إليه بغرائب تلك الوحوش التى بذلك الجبل، وينعم عليهم بما يمونهم من قوتهم. وتخلقوا بأخلاق الآدميين قليلا، وإنما الغالب عليهم أنهم كالأسود. وعاد لهم الخيل والمواشى. ومات كبارهم.

وولد لهذا تتار خان بيغو ولد فسماه جكز خان وهو جكز خان تمرجى، يعنى الحداد. وسبب تسميته بالحداد، أنه كان يتردد إلى مدينة أيدرماق، وصحب بها رجلا حدادا، فتعلم منه عمل نصول السهام، فكان يأخذ منه الحديد ويعود إلى أهله فيصنع نصول السهام، ويعبر بهم إلى تلك المدينة على رأس الحول، فيبيعه ويمتار لأهله وولده ما يمونهم مما يحتاجون إليه من الحول إلى الحول. قال: لقد نظرت إليه لما فتح أذربيجان-بلدنا-بعد هزيمة السلطان علاء الدين خوارزم شاه منه فى أقطار الأرض، حسبما يأتى من ذكر ذلك فى تاريخه، فكان من صفته أن وجهه كدور الترس، ورأسه كرأس البعير، يشعل من وجهه النار، ورأسه بين كتفيه من غير عنق، يظهر له سناط، لم يكن بوجهه إلا شعرات تستره. ونظرت إلى زنوده شبه أكارع البعير الجيد. ورأيت حوله جماعة يقاربون صفته، لكن لم يكن فيهم من هو أهول منه منظرا. فلم أملك نفسى دون أن سقطت إلى الأرض هيبة منه. ثم منّ الله علىّ بالخلاص. قال: وولد له أربعة وعشرون ولد، فكان أكبرهم يسمى بيشخان. وكان قد أتى فى خلقة جده تتار خان بيغو وشدته وشجاعته وقوة نفسه، فعاد يلعب بالطير المسمى طغريل. وكان للملك الكبير ألطن خان عدة أولاد. وكان ولى عهده يسمى كمش خان. وكان من عادته أنه يخرج فى كل عام إلى أرض التتار يتصيد ويتنزه، ويقيم مدة، ثم يعود. وكان جكز خان، وأولاده، وكبار بنى عمه يلقونه ويكونون فى خدمته، حتى يعود إلى مدينته، بعد ما ينعم عليهم ويعطيهم الخيول والمواشى وغير ذلك. وكانت المسافة بين مدينة أيدرماق وبين ديار التتار التى هم بها نزول أربعين يوما.

ذكر سبب تغلب التتار على ملك ألطن خان وما كان من حيل الحروب

ذكر سبب تغلب التتار على ملك ألطن خان وما كان من حيل الحروب قال سليمان بن عبد الحق الأذربيجانى: فلما كان فى سنين عشر العشرين وستمائة خرج كمش خان بن ألطن خان على عادته إلى الصيد، ووصل إلى منازل التتار، وتلقوه كعادتهم. وركب كمش خان وعلى يده طغريل، وقدّامه فى الخدمة بيشخان ابن جكز خان، وعلى يده أيضا طغريل. فأطلقا جميعا فاشتبك الطائران فى طير واحد المسمى قو، فسبق إليهما بيشخان بن جكز خان، واقتلع طير كمش خان، وضرب به الأرض قتله، وذبح لطيره، وأشبعه على صيده. فلما نظر كمش خان إلى ما حلّ بطيره رجع إلى منزلته غضبانا، وأمر أن تشال خراكيه، وتوجه إلى بلاده، وهو قد كاد ينشق غضبا. فلم يلتفت إليه بيشخان، ولا عبأ به ولا ركب إليه، ولا استرضاه. وعاد إلى عند أبيه جكز خان، وأخبره بما جرى، فقال له: «لبئس ما فعلت. أما علمت أن هؤلاء أصحاب الدنيا وملوك الأرض؟ ويجب علينا مداراتهم كونهم الحكام علينا؛ ونحن تحت طاعتهم وعزب من عظمهم، وليكونن لنا ولهم شأن عظيم، وأرجو أن نكون المنصورين عليهم. فإنى رأيت فى منامى بارحتى ما يدلنى على ذلك، وهو كأنى على رأس قراطاغ، وقد مسكت الشمس بقرنيها، من شرقها إلى غربها، وقد سلمتها لكم، فانفلت من يدى ناحية المغرب». ثم إنه ركب من فوره ودار على إخوته وبنى عمه وعشائرهم، وسائر جنسيته، وجمعهم إليه، الكبار فيهم وزعمائهم، فكانوا عدة ثلثمائة وستون نفر. ففرح بعدتهم، وقال: «هذه العدة عدة سنة الدهر». ثم إنه عرفهم صورة الحال، وما جرى

بين كمش خان وبيشخان ولده. ثم إنه جمع ثلثمائة وستين سهما وجعلها جرزة واحدة، وكان كل سهم من نفر منهم، وقال: «أيكم يكسر هذه؟». فقالوا: «لا نطيق كسرها جملة»، فقال: «نحن كذلك متى كنا مجتمعين لا يطيق أحد على كسرنا». ثم رمى لكل أحد سهمه وأمره بكسره، فكسره كأسرع ما يكون. فقال: «ونحن كذلك أيضا إذا ما تفرقت كلمتنا كسرنا كهذه السهام». فكان جكز خان أول من ضرب هذا المثل. ثم قال: «لكن لا بد لنا من رأس نرجع إليه، وإلى حكمه وتدبيره». فانتقوا من الثلثمائة وستين، سبعين نفرا، ثم انتقوا من السبعين ثلاثة عشر نفرا، ثم من الثلاثة عشر ثلاثة، فيهم جكزخان. ثم اجتمع رأيهم أن يصنعوا قربانا ويقربونه لتنكا خاتون، فمن خرج قربانه موكولا كان الرأس وصاحب الأمر، ومرجوعهم إليه. وكانوا يتخذون لعبة من لبد أبيض ويجعلونها فى خركاة ولها خادم يسمونه بخشى. وهو من نسل أولئك القوم الذين كانوا قد قدموا من أول زمان على ذلك الشخص الوحشى ألب قرا أرسلان بلجكى، المقدم ذكره. وهذه اللعبة كانت معبود أولئك القوم الذين هؤلاء التتار من عظمهم، القادمين التائهين حسبما سقناه. ويسمون هذه اللعبة تنكا خاتون، ولهم فيها أحاديث عجيبة تخامر العقول، فأضربت عن جميع ذلك فإنه كفر عظيم، نعوذ بالله منه، ومن تصديقه. قال سليمان: فصنعوا ثلاث قصع من ثريد، وصبروا إلى الليل، وقدموهم إلى اللعبة. ووقف البخشى يزمزم بلغتهم، والثلاث نفر على ركبهم جوك. فلما تهور

الليل، سمعوا من داخل الخركاه هدّة عظيمة، ودويا عظيما، وقعقعة كأجنحة طائر عظيم، وحسّ لم يعهدوا بمثله قط قبل ذلك اليوم، وقائل يقول بلسانهم، ما هذا صفة تفسيره: «جكزخان صاحب الزمان، وملك الأوان، ومخرب البلدان، وقاتل الشيوخ والولدان، فكونوا له أعوان، تكونوا فى أمان». وبرزت قصعته مأكولة بكمالها إلى ناحية المشرق بكماله، وتبقى منها جنب إلى ناحية المغرب لم يؤكل. قال: فعند ذلك نهض القوم بأسرهم وأجلسوا جكزخان، وضربوا له جوك. فأمر عند ذلك أن يجتمعوا جميعهم من الرجال النافعة للحرب، فكان عدتهم أربعة آلاف رجل كالأسود فى قطع البخاتى عظم خلق. غير أنهم لم يكن لهم ما يلبسونه، ولا سلاح يقاتلون به، ولا خيلا يركبونها، إلا عدة ثلثمائة وستين فرس، منهم ثمانين فرس من نسل أصل فرس كان لجدهم تتارخان بيغو، صاحب الصبرغى. وكان لما يتردد إلى الجزائر التى فى تلك البحيرة، وجد فى جزيرة من بعض تلك الجزائر المحاذية للجبل قراطاغ، فرسا وحشيّا ذيله تسحب على الأرض، وعرفه يطل على ركبتيه، وهو يضرب الأرض بحوافره، فتقدح نارا. فاحتال عليه أن صنع له حفيرة أوقعه فيها. ثم إنه أقام حولا كاملا يؤانسه ويطعمه ويسقيه حتى تأنّس به. ثم أطلعه من تلك الحفيرة، وأحضره إلى أهله. ثم أقام حولا ثانيا حتى ركبه. وكان هذا الفرس تسبق الريح، وتلحق عليه ما شاء من أصناف الوحوش، يقتل الأسود بحوافره ويديه، لا يصعب عليه وعرا ولا جبلا. إذا جاع يحفر الأرض بحافره ويأكل أصول الأشجار. وإن لم يجد أكل الحصى، روثه أشد من الصخر قوة وصلابة. وكان لا يطيق يركبه غير تتارخان بيغو صاحبه. وكان اسم هذا الفرس أط أطن، أى فرس النار. فنسل عندهم فى ذلك الوقت الذى تجمعوا فيه ثمانين فرسا عن بنى تتارخان بيغو يتوارثونه كابرا عن كابر. قال سليمان: وقيل إن هذا الفرس كان يكلم صاحبه، ويفهم ما يأمر له به.

فلما اجتمعوا على كلمة واحدة، ونظرهم جكزخان، سرّ بهم. ثم إنه نفّذ إلى صاحبه الحداد الذى كان يتردد إليه بمدينة أيدرماق رجلا من دهاة قومه، وأمره أن يتجسس له أمور الملك ألطن خان، وما قد عزم عليه. فغاب أياما ثم رجع، فأخبره أن كمش خان لما رجع ووصل إلى أبيه عرّفه ما كان من بيشخان وإخراقه ناموس الملك، فعظم على ألطن خان، «وها هو ينفذ إليكم يلجيا-يعنى بريدا-يطلبكم إليه فلا تسمعوا، فإنكم إن أتيتم إليه لا يبقى على أحد منكم». فلم يكن بعد ذلك إلا أيام قلائل وحضر إليهم يلجى فى سبع مائة فارس، يأمر جكزخان وسائر بنيه وكبار عشيرته بالقدوم إلى باب الملك ألطن خان، فأنزلهم وأكرمهم. فلما كان الليل نفذ لكل رجل رجلا من قومه، فقتلوهم عن بكرة أبيهم يد واحدة، فكان هذا أول دم أراقته التتار فى الدنيا. ثم أخذوا خيولهم وعددهم وسلاحهم، وفرّق جميع ذلك على أعيان قومه. ثم أنفذ ذلك الرجل الجاسوس إلى الحداد المقدم ذكره، يكشف له ما يتجدد من أمور ألطن خان، فعاد وأخبره أن ألطن خان بلغه ما فعلتم بيلجيه، وقد جهز إليكم خمسين ألف مدرع، وأمرهم بأخذكم أشد أخذ. فعند ذلك جمع كبار قومه، وعرفهم ذلك، فقالوا: «كيف لنا بخمسين ألف لابس، بخيول وسلاح وعدد، ونحن كما ترانا؟». فقال: «لا بأس عليكم إذا نحن صاففناهم. فعند أول حملة انهزموا وتسلّقوا فى جبلكم هذا. فأنتم تخبرون مسالكه ووعوره، فإنهم لا يتبعونكم فيه، لما فى أنفسهم منه ومن دغله وكثرة وحوشه. ثم إن نحن لم نكن على بالهم بشئ، وهم أهل لذة وأكل وشرب. وينظروا إلى هذا المكان وطينته، وهذه الأرض وحسنها، ولذة هوائها، ونضارة زهرها. وهم أهل لذة، ولا يفارقهم الخمر. فإنهم سينزلون بها لا محالة، لقلة اكتراثهم بنا، فيأكلون ويشربون، ويمرحون إلى الليل، فينامون سكرى، فحينئذ ننزل عليهم، فلا نبقى منهم باقية». قال سليمان: فكان الأمر كما قدر، ولا أخرم عليه فى حسابه القضاء والقدر، فقتلوهم عن آخرهم، واستعانوا بخيولهم

وسلاحهم وملابسهم، وباتوا فقراء فأصبحوا أغنياء، وعاد لكل نفر منهم جملة من الخيول والعدد والسلاح. ثم اجتمع إليهم من كان بعيدا منهم، ونازحا عنهم، ومن لم يكن قد وافقهم أولا، ومن فقير وكساب ومحتاج، فأعرضهم جكزخان فعادوا فى عشرين ألف فارس شديد، كأنه قطعة من جبل بقلب أصلب من الحديد. فلما عاينهم جكزخان تعاظم سروره، ونفّذ إلى ذلك الحداد جملة من ما كسب من ذلك العسكر، وهو يستخبره عن ما يتجدد عند ألطن خان. فعاد إليه الجواب يخبره أن قد توجه إليهم كمش خان بنفسه، ابن ألطن خان، فى مائتى ألف عنان، «وحلف بقراطاغ أنه لا يبقى من عظمكم أحدا، لا من النساء ولا من الرجال. والمتوجهون إليكم أعظم الجيش، فإنهم من عظم «أى أطام» الكبير. وقد تقرر أمرهم إذا هم أخذوكم أن يقطعوا رءوسكم، ويجعلوها على عيدانهم، ويدخلون المدن كذلك». قال: فجمع جكزخان كبار قومه، وعرفهم ذلك، فقالوا: «فما تشير به علينا؟» فقال: «إن القوم لا يعلمون إن نحن قد عدنا فى هذا المدد، وظنهم أن نحن على ما كانوا يعهدونه. والرأى أن نفترق عليهم أربع فرق، كل خمسة آلاف يقدمهم كبير منكم. وتكون كل فرقة فى جهة من الجهات الأربع. ونقطع من هذه الأعواد ونغرسها فى سفح هذا الجبل، ونلبسها ما فضل عنا من هذه العدد كهيئة الرجال، فما يشكون أنهم رجال. ثم نخرج عليهم الكمناء من أربع جهات، فلن يتمالكوا أن يولوا منهزمين، فنضع فيهم السيف، ونجتهد على أن لا يفلت منهم أحد، ونلبس ما عليهم، ونأخذ رءوسهم على رماحنا، ونسوق إلى مدنهم فيرونا، فلم يشكوا إن نحن قومهم وقد ظفروا بنا. فيكون ذلك سبب الفتح والملك».

قال سليمان: فكان الأمر كما ذكر، ولا أخرم عليه الحساب دقة. ودخل مدينة أيدرماق فى عدته، وذبح ألطن خان على سريره بيده، وقتل سائر من كان من عظمه، وأخرج قومه وحاشيته وجنده، وجعلهم فلاحين فى تلك القرى، يزرعون ويقومون بالخراج له. وجلس جكز خان على سرير الملك، ولبس التاج، وفرّق بنيه فى سائر أقطار الأرض. انتهى ما استنسخته من الكتاب التركى المسمى «أى أطابتكى». ونحن نذيل عليه مما ذكروه أرباب التواريخ؛ مثل ابن الأثير صاحب التاريخ الكبير الجامع، ومثل ابن واصل صاحب تاريخ بغداد، وغيرهما، إن شاء الله تعالى. قال ابن واصل: إن أول إقليم ملكوه التتار بلاد الصين، ولم يقل للمدن أسماء. قال: وملكهم يومئذ جكزخان، ولم يذكر له نسبا. ثم قال: ومشوا من الصين الأعلى إلى الصين الثانى، ثم مشوا إلى تركستان، فحاصروا مدنها وملكوها وقتلوا كل من كان بها. ثم مشوا إلى كاشغر وبلاشغر، وهاتين مدينتين عظيمتين أكبر أقاليم الصين، فقتلوا كل من كان بها من الترك من بنى يافث بن نوح عليه السلام، ونهبوا أموالهم، ونفذوا من جهتهم جماعة من أصحابهم فى زىّ تجار يبيعون ما معهم من تلك الأموال المكتسبة، ويشتروا بها لهم قماش وسلاح من أطراف بلاد العجم. وكان هؤلاء القوم لا يعرفون القماش ولا الملبوس، ولا شئ من زينة الدنيا، إلا أنهم شبه الوحوش النافرة فى الأرض. ولا يعرفون غير جلود الوحش، مثل القندس والسمور والقاقل، وما أشبه ذلك. وكذلك جميع تلك الأمم الذين من وراء النهر خلف جيحون. قال صاحب التاريخ: فلما قدم أولئك الأقوام إلى بلد يقال لها أتراب، وهى آخر ولاية مملكة السلطان علاء الدين خوارزم شاه

من جانب المشرق من الأرض. وكان بها نائب للسلطان علاء الدين، فعوّقهم عنده، وسيّر إلى السلطان يقول: «إن قوما قدموا علينا لا نعرفهم قبل ذلك، ومعهم أموالا جمة، من أصناف كيت وكيت، يقصدون بيعه ومشترى قماش وسلاح. فما ترسم فى أمرهم؟». فكتب إليه السلطان يقول: «إذا أتاك كتابى فاضرب رقابهم، ولا تبقى منهم غير رجل واحد، ليعود يخبّر قومه. وخذ جميع ما معهم ونفذه إلينا، لينتهوا عن التجاسر والعبور إلى البلاد». ففعل ذلك، وعاد ذلك الرجل الذى تبقى منهم إلى جكز خان، وقد كسر الخطا أيضا وأخذ بلادهم. وكان بين بلاد الخطا وبين بلاد الإسلام سدّا، فلما ملكت التتار بلاد الخطا قوى أمرهم، وعادوا يغارون على أطراف ممالك السلطان علاء الدين. فلما وصل ذلك الرجل إلى جكزخان وأخبره بما جرى على رفقته، أرسل جكزخان جواسيسا من عنده، لينظروا مملكة السلطان علاء الدين خوارزم شاه وتقدير جيشه. وكذلك السلطان علاء الدين نفّذ عيونا، تكشف له أخبار هؤلاء القوم. فعادوا جواسيس جكزخان إليه، وعرفوه أن عساكره متفرقة، وإذا اجتمعوا يبلغون أربع مائة ألف. وعادوا عيون السلطان علاء الدين إليه وخبروه أن هؤلاء القوم خلق عظيمة، لا يعلم عددهم إلاّ الله عز وجلّ، وأنهم من أصبر الناس على الشقاء والجوع والبلاء، وأن «نحن لم نر حالا أزرى من حالهم، ولا أجوع من أنفسهم. وهم مع ذلك إذا قيل لهم أمر وقفوا عنده، وهم راضين بما هم فيه». فعند ذلك ندم السلطان علاء الدين على قتل تجارهم، ووقع فى فكرة عظيمة. قال ابن الأثير فى تاريخه: كان سبب خروج التتار ودخولهم بلاد الإسلام غير هذا، مما لم يكن يودع بطون الأوراق.

ذكر ما جرى بين الملكين السلطان علاء الدين خوارزم شاه وجكزخان

واستشهد بقول ابن المعتز: فكان ما كان مما لست أذكره … فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر وسبب تلويح ابن الأثير أن الخليفة الإمام الناصر أمير المؤمنين كان السبب فى دخول التتار البلاد لمكاتبته إياهم وتهوين الأمور عليهم، حسبما سقناه قبل ذلك، والله أعلم. ذكر ما جرى بين الملكين السلطان علاء الدين خوارزم شاه وجكزخان وذلك أن السلطان علاء الدين لما اشتغل فكره بهؤلاء القوم وعلم أنهم يقصدونه ولا ينامون عنه، استشار الشيخ شهاب الدين [الخيوقى] وكان إماما عالما، فقال الشيخ: «الرأى أن تجمع العساكر، وتقصدهم قبل قصدهم إليك. ويكون نزولك على جانب النهر جيحون، فإنهم يأتون من بلاد بعيدة، تعاب، فتلقاهم وأنت مستريح». فجمع خوارزم شاه خواصه وملوكه، واستشارهم، فلم يوافقوا على ذلك، وصغروا أمرهم، وقالوا: «الرأى أن نقيم حتى يعدّى العدو ونأخذه فى هذه الجبال». فبينا هم كذلك، إذ قدم عليهم رسول من جهة جكزخان، ومعه جماعة يقولون للسلطان خوارزم شاه: «يقول لك الملك نائب رب السماء جكزخان: تقتل تجارنا وتأخذ أموالنا بغير حقّ لك. اعتد للبلاء، واشتد للحرب». فلما سمع خوارزم شاه مقالتهم عظم عليه، وأمر بضرب رقابهم فضرب رقاب جماعة منهم،

وحلق لحى بقيتهم، وجدع أنافيهم وآذانهم، وجرّسهم، ورءوس القتلى فى أعناقهم. وطاف بهم فى سائر ممالكه. ثم ردهم إلى جكزخان. ثم جمع جيوشه وسار ستة أشهر إلى أن وصل إلى بيوت التتار، فلم يجدهم بها، فوجد النساء والأطفال والصبيان، فأوقع بهم وسباهم، ورجع. وكان سبب غيبة التتار عن بيوتهم أنهم قصدوا ملكا من ملوك الترك، يقال له كشلوخان، فكسروه وغنموا أمواله، ثم عادوا إلى بيوتهم. فوصل إليهم الخبر بما جرى عليهم من خوارزم شاه، فلحقوه قبل خروجه من أرضهم، وتصافف العسكران، واقتتلوا قتالا لم يعهد مثله منذ أول زمان، وإلى ذلك التاريخ. وأقام السيف يعمل ثلاثة أيام بلياليها، ليلا ونهارا، إلى أن قتل من الفريقين ما لا يعلمه إلا الله عز وجلّ. وكلّوا الطائفتين من القتال، وعدم صبرهم من الجوع والعطش والتعب، ووقفت خيولهم من الجولان. والذى اتفقت عليه أرباب التاريخ، أن هذه الوقعة لم يحضرها جكزخان، بل كان المقدم ولده بيشخان. فلما كانت الليلة الرابعة، افترقت كل طائفة عن الأخرى، ونزل كل ملك مقابل الآخر. فلما أظلم الليل، أوقدت التتار نيرانهم، وتركوها، وساروا طالبين ديارهم. وكذلك فعل المسلمون أيضا، لأن كل طائفة من الفريقين عجزت عن الأخرى. ثم عاد التتار وقد عدم منهم خلق لا يحصى عددهم إلا الله تعالى. والذى قتل من المسلمين-ما أجمعوا عليه أرباب التاريخ-مائة ألف وعشرين ألف. ورجع خوارزم شاه إلى بخارا، وبلغه أن جكزخان لم يكن حاضرا هذه الوقعة مع كبار مغله، فتحقق أنه لا له قبل بهم، فاعتد للحصار لما علم من عجزه عنهم. وجمع الذخائر فى القلاع الحصينة، وجعل فى بخارا ثلاثين ألف مقاتل، وفى سمرقند خمسين ألفا،

ذكر دخول التتار بلاد الإسلام

وقال: «احفظوا البلاد إلى حين عودتى إليكم». ثم سار طالبا خراسان. هذا ما ذكره ابن الأثير فى تاريخه، رحمه الله تعالى. وأما ما ذكره ابن واصل صاحب تاريخ بغداد-رحمه الله-فإنه قال: إن عسكر السلطان علاء الدين خوارزم شاه كان فيه الكفاية للتتار وزيادة عنه، وإنما كان فيه جماعة من الملوك مخامرين عليه، فخاف على نفسه منهم لا يسلمونه للتتار ولا يناصحونه فى الحرب، ففعل ذلك، والله أعلم. ذكر دخول التتار بلاد الإسلام قال ابن واصل فى تاريخه: ثم إن التتار تجمعوا مع ملكهم جكزخان، وقطعوا نهر سيحون بجموعهم وأثقالهم وحريمهم، من غير اكتراث ولا وجل. ووصلوا مدينة بخارا بعد خمسة عشر شهرا من هذه الوقعة، وحاصروها ثلاثة أيام، فلم يكن للعسكر الذى ببخارا بالتتار طاقة ولا قبل، فخرجوا من البلد ليلا، وهربوا إلى نحو خراسان. وأصبح أهل البلد وليس عندهم أحد من المقاتلة، فضعفت نفوسهم. وخرج القاضى ببخارا يطلب الأمان من التتار، فأعطوهم الأمان، وكان كذبا منه ولعنة. وكان قد بقى فى البلد بقية من العسكر، فاعتصموا بالقلعة، ودخل التتار البلد يوم الثلاثاء رابع شهر ذى الحجة سنة سبع عشرة وستمائة. ونادى جكزخان بالأمان، وأظهر العدل حتى اختاروه الناس على السلطان علاء الدين. ثم قال: «نحن قد أمنّاكم فأخرجوا لنا أموال عدونا السلطان خوارزم شاه وذخائره، وساعدونا على قتال هذا الباغى والذين فى القلعة». ثم دخل الملك جكزخان بنفسه البلد، ونادى: «من تخلّى عن مساعدتنا على هذه القلعة قتل، ولا له أمان عندنا». فاجتمع أهل بخارا بكمالهم بين يديه، فأمرهم بردم الخندق، فردموه بالخشب والتراب، حتى كسروا أخشاب

المنابر وسقوف المساجد. وطموا الخندق، حتى بالكتب النفيسة والختمات الشريفة والربعات المعظمة. فلما طموه، أمر بالزحف عليهم. وكان بالقلعة أربع مائة مقاتل، فصبروا على القتال صبر الكرام اثنا عشر يوما. ثم نقبوا سور القلعة وملكوها، وقتلوا جميع من كان بها من الجند وغيرهم. ثم أمر جكزخان بإحضار وجوه البلد وأعيانها، وطلبهم بالأموال من الذهب والفضة الذين يتبايعون بها بسكة السلطان خوارزم شاه، وقال: «لنضربها باسمنا ونعيدها إليكم. وأى من أخفى شيئا منها قتل»، فأحضروا له جميع ذلك. فلما صفّى أموالهم، أمرهم أن يخرجوا من البلد مجردين من جميع أموالهم وقماشهم وأثاثهم. ثم دخل التتار البلد، ووضعوا السيف، وسبوا النساء، وقتلوا الولد على صدر أبيه وأمه، وفعلوا من المصائب ما تقشعر لسماعه الأبدان. ثم أطلقوا فى البلد النار فأحرقوه. ثم توجهوا إلى سمرقند ومعهم خلق عظيم من أهل بخارا، يمشون حفاة عراة. ومن عجز منهم عن المشى قتلوه. فأحاطوا بسمرقند، وكان فيها خمسون ألف فارس، ومن العامة عالم لا يحصى عددهم إلاّ الذى خلقهم. فخرجوا العامة على التتار وقاتلوهم. وأما الجند فلم يخرج إليهم منهم أحد، وذلك لما علموا بعجزهم عنهم. فلما خرجت العامّة تأخروا التتار وانهزموا قدامهم، فطمعت فيهم العامة وتبعوهم مدة يوم كامل، حتى بعدوا عن المدينة، ثم رجعوا عليهم، فقتلوا الجميع، فعند ذلك ضعفت نفوس من بقى فى البلد. وأما الجند فإنهم طلبوا الأمان لأنفسهم؛ وذلك أنهم كانوا أتراك فظنوا أن التتار ترق لهم لأجل الجنسية، فأعطوهم الأمان. فخرج الجند من البلد بأموالهم وأثقالهم وأهاليهم، فقالوا التتار لهم: «اعطونا سيوفكم فإنكم فى ذمامنا، ولا حاجة لكم بسلاح، ونحن محتاجون إلى ذلك»، فأعطوهم جميع سلاحهم. ثم داروا بهم فقتلوهم عن آخرهم. وفى اليوم الرابع داروا بالبلد، وفعلوا به كما فعلوا ببخارا، وأحرقوها. وذلك فى شهر المحرم سنة تسع عشرة وستمائة.

ذكر سنة تسع عشرة وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة تسع عشرة وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وسبعة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام النّاصر لدين الله أمير المؤمنين. وفى شهر صفر منها خطب لولى العهد، عدة الدنيا والدين، أبى نصر محمد بن الإمام الناصر لدين الله. وفى شهر ربيع الأول دخل الملك المسعود صاحب أقسيس ابن السلطان الملك الكامل إلى مكة-شرفها الله تعالى-سلطانا مستقلا. وهو أول من ملكها من الأتراك. وهرب حسن بن قتادة صاحبها، ونزل عند أخواله عنزة. وفيها وصل الملك الأشرف موسى إلى القاهرة المحروسة وأمر بعمارة تربة والدته، المعروفة بتربة أم الأشرف. وفيها كانت الوقعة بين الفرنج والسلطان الملك الكامل، وقتل من الفرنج عشرة آلاف فارس. وأما السلطان علاء الدين والتتار، فإنه متحيّد عنهم، يضرب فى الأرض عن ملتقائهم يمينا وشمالا. ثم إن جكزخان لما ملك سمرقند-حسبما ذكرناه-جرّد من كبار المغل عشرين ألف فارس، وقال لهم: «تأتونى بالسلطان علاء الدين حيث كان وأين كان». قال صاحب التاريخ: أجمعت الرواة أن هؤلاء العشرين ألف الذين سيرهم

جكزخان هم أكبر جيوش التتار بيوتا فيهم، ويسمون المغرّبة لكونهم ساروا إلى غربى خراسان، وهم بيت هلاوون. وأنهم ساروا يقصدون مكانا يسمى بنجاز آب وهو مفرق خمس مياه. وكان السلطان علاء الدين قد نزل خلف ذلك الماء، معتصما من التتار. فلما وصل التتار إلى ذلك النهر لم يجدوا ما يعدون به ولا من يخبرهم بأمره، ويقال إنه نهر جيحون. فصنعوا من الخشب شبه الأحواض، وجعلوا أسلحتهم فيها، مع سائر عددهم. ثم ألقوا الخيل فى البحر، وتعلقوا بأذيالها مع أطراف تلك الأحواض، وقطعوا ذلك النهر جميعهم فى دفعة واحدة. ثم لبسوا سلاحهم وركبوا خيولهم. ولم يشعر بهم السلطان علاء الدين إلا وهم معه على الأرض، فولى هاربا، وتفرّق جيشه، ولم يلو الأخ على أخيه، ولا الوالد على ولده. ثم تفرقت كل فرقة من جيشه إلى جهة من الجهات. وتوجه السلطان علاء الدين إلى مدينة سابور. واجتمع إليه بها العساكر، فلم يشعر إلا بأوائل التتار وقد طلعوا عليه، فانهزم منهم إلى مدينة مازندران، فقصدوه أيضا بها. وعاد كلما قصد مكانا تبعوه، حتى وصل إلى الرىّ، وهى من عراق العجم، ثم منها إلى همذان، والتتار خلفه. ثم عاد إلى مدينة مازندران، ثم قصد مخاضة على بحر طبرستان فى مكان يسمى باب سكون، فنزل فى سفينة، ومضى إلى قلعة له فى البحر لا ترام ولا تدرك، فاعتصم بها خيفة من التتار، فأدركته المنية، فمات بها، رحمه الله. وكان السلطان علاء الدين ملكا جليلا، عظيم القدر، كثير الفضل، يحب العلماء والفضلاء، ويسمع المديح ويجيز عليه الجوائز السنية. وكانت سعة ملكه من العراق إلى بلاد تركستان إلى بلاد البرلى، مضافا إلى ملك غزنة، مع بعض بلاد الهند، مع سجستان وكرمان وطبرستان. وكان تقدير سعة ذلك سبع أشهر طول فى ستة عرض. فخرج عن جميع ذلك، خوفا من التتار، وزال ملكه فسبحان من لا يزول ملكه.

وكان متخلقا بأخلاق أسلافه الملوك السلجوقية، فإنهم كانوا ملوكا عظيمى القدر، فضلاء، أدباء، علماء، كرماء. ومن طريف ما يحكى عن السلطان ملك شاه المقدم ذكره من كتاب «جنى النحل فى أخبار ملوك العجم». قال محمد بن عبد الرحيم البلخى: قرأت فى كتاب يسمى «مطالع الشروق فى آثار بنى سلجوق» أن كان لملك شاه خازنا جمع له فى مدة سنين عدة أربعين خزانة، فيها من كل صنف عجيب ما لم يجتمع لملك قبله. وجعل ذلك الخازن كل خزانة صنف لا يشبهه الآخر، من جميع أنواع الجواهر، والفصوص، والأوانى الذهب والفضة، والأموال الجليلة، والقماش المتع المثمن الملوكى. وقصد الخازن بذلك أن السلطان ملك شاه إذا رأى ذلك وما اجتمع له من هذه الأموال العظيمة أن يعرف له حقه فى أمانته واجتهاده. فلما كمل له ما أحب، زين تلك الخزائن بأحسن زينة، وجهز ألف ثوب أطلس قرمزى، ليمدها فرشا تحت أقدام الملك عند دخوله إلى تلك الخزائن. ثم تقدم إلى بين يدى السلطان ملكشاه، وقبل الأرض، وقال: «المملوك يسأل مراحم السلطان، تنقل خطواته الكريمة إلى خزائنه المعمورة بدوام عزه، لينظر ما قد تحصّل فيها من الأصناف العجيبة، التى لم تجتمع لملك قط. وقد جهز المملوك ألف ثوب أطلس قرمزى لتفرش تحت أقدام مولانا السلطان، عند طوافه فى خزائنه». قال: فأفكر السلطان طويلا وقال: «صف لى بلسانك ما تصل قدرتك إلى وصف ما تحصّل من جليل ذلك». قال: فوصف له الخازن من الأموال والأصناف والأمتعة ما لا ينحصر كثرة. وقال: «يا مولانا هذا الذى وصفه المملوك بعض بعض ما يراه مولانا السلطان. فإن قدرتى تعجز عن وصف جملته». قال: فأفكر أيضا طويلا وقال: «أما ما قصدته من اطلاعى على مناصحتك وخدمتك واجتهادك فقد علم ذلك منك وتحققناه، وقد شكرنا اهتمامك. وأما توجهى إلى أن أنظر إلى متاع الدنيا وزخارفها فلا أفعل ذلك،

لئلا يقال عنى بين الملوك أنى مشيت لأنظر بعض نعم الدنيا، وما عند الله خير وأبقى. وإنما اطلب الزعماء من جيوشنا، وسلم عليهم من جهتنا، وافرش تحت أقدامهم ما اعتديته لنا من أن تفرشه تحت أقدامنا. وأوقفهم على جميع ما عندك من جميع ما فى هذه الخزائن. وقل لهم: الملك يسلم عليكم، ويقول لكم انظروا ما اجتمع فى هذه الخزائن من الأموال التى تحصلت بمضارب سيوفكم. وجميعه فهو لكم. وإنما الملك فيه كأحدكم فليأخذ من شاء ما شاء. ولا تمنعهم شئ يأخذوه، ولو فرغوا الخزائن بكمالها». قال: فخرج الخازن وجمع الزعماء وأتى بهم إلى الخزائن، وفعل ما أمره به السلطان، وأدّاهم رسالته إليهم-وكانوا ستمائة زعيم. قال: فلما فرغ الخازن من قوله، استقبلوا القبلة، وسجدوا، وقالوا: «هذا شكر لله عز وجل على ما خولنا من نعمه فى أيام مولانا السلطان ملك الإسلام». ثم استقبلوا مكان سرير الملك وقبلوا الأرض، وقالوا: «وهذه لإنعام السلطان علينا، وبره بنا، وحسن ظنه ويقينه فينا». ثم ولوا خارجين. ولم يلتمس أحد منهم شيئا، قلّ ولا جلّ، وقالوا: «عرّف مولانا السلطان أن نحن رعيته، وعبيد سلطانه، وأن نحن نعلم من شفقته علينا، وبره وكرمه، أضعاف ما ذكره، وما رسم به. وهذا المال فهو لنا. وإذا احتجنا إليه سألنا مراحمه فيه. وأحق ما كان مدخر لنا عنده وفى خزائنه. وعندنا من إنعامه وصدقته ما يكفينا ويزيد. وإن رسم حملناه إلى هذه الخزائن ليكون مضافا لما هو مدخر لنا». قال محمد بن عبد الرحيم: فو الله ما أدرى أيهم أكرم طباعا ولا أغزر مروءة، السلطان فى سماحة نفسه بتلك الأموال الجمّة التى لم يسمح بها ملك قط، أم الزعماء وشرف أنفسهم الأبية. فلله درّهم، من ملك جواد، وزعماء أجواد. قال محمد بن عبد الرحيم البلخى: ولما طالعت هذه الحكاية، عادت فى نفسى، وقدر الله تعالى أن الملك العادل نور الدين محمود بن أتابك زنكى-صاحب الشام-أنفذنى

رسولا إلى ملك الروم كيكاوس بن السلطان الغالب بن مسعود بن قليج أرسلان ابن طغريل بك بن ملكشاه السلجوقى، فاجتمعت به فى ملطية. وكان ملكا فاضلا، عالما، سخيا، من نسل هؤلاء الملوك السادة المذكورين. وله معرفة بأشعار العرب، وعلم المنطق، والجدل، قال: فلما حضرت بين يديه، رآنى حسن الحديث والمنادمة. وحسّننى الله فى عينه، فأحضرنى ذات يوم فى مجلس الشراب والمنادمة، فأخذ البرواناه الذى قدامه يصف علو همة السلطان وكرمه. ثم ذكر ماله من البلاد، وما عنده من الأموال والخزائن، وما ورث من آبائه وجدوده ملوك السلجوقية. قال: فذكرت تلك الحكاية المنقولة عن جده ملكشاه، فقلت فى نفسى هذا وقتها، فأحكيتها، وزمكتها، ولطفتها. قال: فوالله لقد رأيت الملك كيكاوس وقد أخذته الأريحية لها، وبان فيه السرور، وطرب حتى رأيته خرج عن فرشه الى نحوى، وهو لا يحس بنفسه لإعجابه بهذه الحكاية، ثم تراجع إلى رتبته. وكان بين يديه طبق من ذهب فيه تماثيل من ذهب مرصعة، وتماثيل من عنبر، ومن أنواع الطيب. قال: فأشار إلى الساقى، فوضع ذلك بين يدى، ولم أعلم لأى شئ وضعه بين يدى. فما تكلمت، فقام أمير مجلس وغمزنى، فأتيته، فقال: «لم خدمت الملك وقمت بواجب إنعامه عليك». قال: فعلمت أنه أنعم علىّ بذلك، فرجعت وقبلت الأرض بين يديه. ثم قبلت يده. قال: فتبسم وأنشد: نحن قوم تجرى السلاطين منا … فى العطايا على النجار القديم لم تجد عندنا غير أريحىّ … أو شجاع أو عالم أو كريم فهم آل سلجوق منتهى التبج‍ … يل فى العالمين والتعظيم ثم قال: «انظر إلى تلك الصورة». قال محمد: فنظرت إلى صورة فى صدر ذلك المجلس عن بعد، وهى صورة سلطان جالس على رأسه تاج مرصّع بالجواهر. قال: «يا محمد! هذه صورتى، وقد جرت العادة منا كل سلطان يقوم تصوّر صورته فى هذا المكان. وكان أبى قد جعلنى ولىّ عهده، فصوّر صورتى فى حياته لمحبته لى». ثم أمر

بشئ فأحضرت مرآة مصقولة، وبخّر تحتها ببخور لا أعرفه، وهى معلقة. وأطفأ تلك الشموع. فلما طلع ذلك البخور، عادت تلك المرآة تشرق كالشمس المضيئة، وعاد لها شعاعا يخطف بالأبصار، ولم تزل كذلك ما دام البخور تحتها. ثم قال: «أحضروا الكوز». فأحضر كوز لا أعلم ما طينته، فجعل يصبّ فيه الماء، فيعود فى تلك الساعة خمرا من أطيب خمر يكون وأعطره. فقال: «هؤلاء من ذخائر جدنا ميكائيل ابن سلجوق». قال محمد بن عبد الرحيم: فحملنى الشراب أن قلت: «أعز الله السلطان؛ بلغ المملوك أن سلجوق منتسب إلى ملوك آل ساسان ملوك الفرس». فقال: «من أين لك هذا النقل؟» قلت: «سمعت الملك العادل نور الدين يذكر ذلك». فتبسم وقال: «صدق السلطان نور الدين، سلجوق يعد سبع جدود إلى يزدجرد بن شهريار آخر ملوك آل ساسان، وذلك أن لما خرج يزدجرد من إقليم العجم خرج معه حزداد بن جرهز أخو رستم صاحب القادسية. وحزداد كان من أكبر مرازبة يزدجرد، فلا زال به حتى سلمه لماهويه، مرزبان مرو، وكتب عليه سجلاّ بتسليمه إياه. ثم أن ماهويه مائل على قتل يزدجرد مع ملك الهياطلة، فقتل يزدجرد. وكان له ولد يسمى بهرام أفيند، دون البلوغ فى ذلك الوقت، فتخفى عند دادة له شفيقة عليه. وملكت المسلمون البلاد منهم، وعادت أولاد ماهويه يعرفون بمرو وتلك النواحى «خدا كسان»؛ معنى ذلك «خانوا عهد الله». ثم إن بهرام أفيند نكر نفسه من الملك، طلبا للحياة، وعاش بمدينة مرو، فولد له ولد فسماه فيروز. ثم ولد لفيروز ولد فسماه تكان. ثم ولد لتكان ولد فسماه كيكاوس. ثم ولد لكيكاوس ولد فسمّاه كيغلغ. ثم ولد لكيغلغ ولد فسماه أرّق. فأبيع أرق لحسين بن طاهر بخراسان، أباعوه قوم من الخوارج فى أيام المهدى فى حديث طويل. فعاد أرق عند حسين بن طاهر كأحد بنيه لما عرّفه أصله. وكان حسين بن طاهر غلام لشخص يقال له تلكان بن ميسور ابن حنشرة. وحنشرة كان غلاما لحزداد بن جرهز المقدم ذكره أنه أخو رستم صاحب

القادسية الذى كان خرج مع يزدجرد من العجم. ثم إن أرق تزوج إلى قوم تركمان أصحاب خراكى وبر، فولد له سلجوق جدنا. فلما كان من السامانية ما كان-وهم غلمان عبد الله ابن طاهر بن الحسين بن طاهر-كان سلجوق فى معسكرهم وعديدهم، فعرف بهم. فانظر يا محمد إلى صنع الله تعالى، كيف أعاد ابن ملك القوم حتى عرف بغلمانيه غلمان ابن ابن ابن غلام مرزبان من مرازبة جده يزدجرد، ثم أعاد الله بمنّه وجوده إلى آل سلجوق وبنيه ممالك جدودهم آل ساسان على أحسن دين وأحبه إليه». قال محمد بن عبد الرحيم: فلم أسمع أطرف ولا أغرب من هذا الحديث. فلما رجعت إلى الملك العادل نور الدين-رحمه الله-حدثته بهذا الحديث، وقدمت إليه ذلك الطبق، فقال: «هو لك بارك الله لك فيه». فقلت: «يا مولانا إنه لا يصلح أن يكون عند مثلى، وإنما يصلح أن يكون فى ذخائر السلطان». قال: فأمر لى بعشرة آلاف دينار وأخلع علىّ، ثم قال لى: «يا محمد، والله لمأتاك لى بتحقيق نسبة بنى سلجوق أحب إلى من كل شئ، فإن أبى أتابك زنكى-رحمه الله-كان مملوك البرسلان أبو شجاع عضد الدولة السلجوقى. وكان يقول إن بنى سلجوق من عظم آل ساسان، ولا كنت أعرف كيف ذلك». قلت: وهذه الحكاية جرى لها نظير، وهى من غريب ما يسمع. وذلك أن لما كان فى سنة ثلاث عشرة وسبعمائة تجاريت مع الشيخ صدر الدين بن المرحل المعروف بابن الوكيل -رحمه الله-فى أصول الناس، وإلى ما يصيروا إليه، فأحكيت له هذه الحكاية، فتعجب لها غاية العجب، وقال: «لا إله إلا الله! هذه والله نظير حكاية الأمير عز الدين أيبك المعظمى صاحب صرخد جدك. تعرفها؟». قلت: «لا والله». قال: «وقفت على كتاب من خزانته يسمى «الوسائل إلى دقيق المسائل» أجد فيه بخط يده يقول مما عنى بجمعه العبد الفقير إلى الله أيبك المعظمى، وهو ميكائيل بن بهرام ابن مودود بن محمود بن داود أبو شجاع البرسلان السلجوقى». فتعجبت من ذلك، فاجتمعت بجمال الدين بن مصعب-رحمه الله-فى دمشق، فحدثته عن ذلك، فقال: «صدق، هو والله من بنى سلجوق، وأباعوه الخوارزمية للملك المعظم». وهكذا أحكى لوالدى

رحمه الله. يقول ابن مصعب: والشيخ يحدثنى وهو كالغائب، فقلت: «أراك فى فكرة بتقصد تصنف شئ فى هذا». فقال: «لا والله إلاّ مفكر فى صنع الله عز وجل. إن الذى جرى لسلجوق جرى لأيبك، لا يختل دقة». قلت: «كيف؟». قال: «لأن سلجوق يعد سبع جدود حتى يلتحق بيزدجرد آخر ملوك آل ساسان، وأيبك يعد سبع جدود حتى يلتحق بسلجوق، وهذا عاد مملوك غلمان جدوده وهذا عاد مملوك لغلمان جدوده. فأيبك يعد إلى يزدجرد أربع عشر جد، فافهم منى نسبك». فقلت: «يا مولانا لله درّ الحريرى فى قوله: المرء بنشبه لا بنسبه، والفحص عن مكسبه لا عن حسبه». ففهمت منه-رحمه الله-ما لم أكن علمته قبل ذلك الوقت. وقد خرج بنا الكلام وشجونه عن شرط الاختصار، وأنا أقول، أستغفر الله من ذلك. ... ولما يئس التتار من السلطان علاء الدين قصدوا مدينة مازندران، فملكوها مع صعوبة مسالكها وحصاراتها. وكان المسلمون ما ملكوها فى أول زمان، وقنعوا من أهلها بأدنى الأشياء من الخراج. ولا زالت كذلك إلى أيام سليمان بن عبد الملك ابن مروان الأموى، فرغبوا أهلها فى الإسلام اختيارا لا اضطرارا، ودخلوا تحت الطاعة. وهؤلاء التتار ملكوها فى أقرب الأوقات وأيسر الأمور، وقتلوا جميع من كان بها على عادتهم الشنيعة. ثم توجهوا إلى الرىّ، فوقعوا فى طريقهم بالملكة عصمة الدين خاتون والدة السلطان علاء الدين خوارزم شاه، وكانت قاصدة أصبهان وهمذان إلى ولدها، لما بلغها ما جرى عليه، فأخذوها، وأخذوا جميع ما كان معها -وكان ملكا عظيما-وسيروها بجميع ذلك إلى جكزخان وهو نازل بسمرقند. ولما وصل التتار إلى الرىّ إنضاف معهم من العساكر والمفسدين والكفار والأكراد خلق كثير، فملكوا الرى، وفعلوا فيها أقبح مما فعلوه فى غيرها. ثم ساروا

مسرعين إلى همذان، فلما قاربوها خرج إليهم كبراؤها بالدواب والخيل والأموال، حتى ملأوا عيونهم وطلبوا الأمان، فتركوا بها شحنة من جهتهم، وساروا عنها إلى أذربيجان، فملكوها، وقتلوا كل من كان بها، ثم قزوين، فاعتصم أهلها بالمدينة، فحاصروها وملكوها، وقتلوا كل من كان بها، وكذلك زنجان. ثم ساروا إلى موقان، وإلى مدينة مرو، واقتتلوا فى طريقهم مع الكرج وكسروهم. وفيها سيّر صاحب أذربيجان-وهو أزبك بن البهلوان السلجوقى-إلى الملك الأشرف موسى يستنجده على التتار، فتكاتبوا الملوك الإسلامية، واتفقوا أن إذا خرج الشتاء ركبوا الجميع ولاقوا التتار، وظنوا أن التتار لا يدخلوا إليهم فى تلك السنة. وأما التتار فإنهم ساروا فى أول الربيع إلى بلاد الكرج، وانضاف معهم مملوك لصاحب أذربيجان يسمى أقوش، وجمع معه خلقا من المفسدين، من الجبال، تركمان وأكراد وجبلية، وغيرهم من الطوائف العديمى الدين. وسار بهم أمام التتار حتى وصلوا أذربيجان، فملكوا حصنا من حصونها، وفتحوا أكثر بلادها. وساروا مجدين إلى تفليس، فخرجت جميع الكرج مجدين معدين، والتقوا عسكر أقوش، واقتتلوا قتالا عظيما، قتل بين الفريقين خلق عظيم. كل هذا وعسكر التتار ما وصل إليهم. فلما وصلت التتار، كانت الكرج قد تعبت. فلما أردفت التتار لعسكر أقوش ولى الكرج منهزمين، وركبت التتار أقفيتهم قتلا وأسرا. وكان ذلك فى ذى القعدة من هذه السنة. ثم توجه التتار إلى توريز، فصانعهم صاحبها بأموال عظيمة. ثم توجهوا إلى مراغة، وكانت ملكتها امرأة مقيمة بالقلعة، فنزلوا عليها وحاصروها عدة أيام، وأسرى المسلمين بين أيديهم يزحفون بهم على المسلمين. وهكذا كانوا يفعلون، يقابلون بالمسلمين المسلمين فى سائر الأقاليم. ولم يزالوا حتى ملكوا مراغة، فى شهر صفر من سنة عشرين وستمائة، وفعلوا بهم كعوائدهم الشنيعة.

ذكر سنة عشرين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة عشرين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع ونصف أصبع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا، واثنا عشر أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين. وسلطان المسلمين الملك الكامل بالديار المصرية. وسافر الأشرف، وكانت مدة إقامته بالديار المصرية ثمانية أشهر. وأتته مكاتبة صاحب أذربيجان-حسبما تقدم من الكلام. وفى شهر ذى الحجة خرج السلطان الملك الكامل لملتقى ولده الملك المسعود صاحب اليمن، واجتمع به على منزلة البويب. ثم سيّر السلطان عسكرا كثيفا، يقدمه الملك الجواد بن أخيه، إلى مكة-شرفها الله تعالى. وبعد الوقوف بعرفة، نزلوا على الينبع، وأقاموا عليه يومين، وملكوه، وجعلوا فيه الأسد جغريل، والأمير صمصام الدين الخزندار العادلى أميرا على مكة. هذا والتتار ينتقلون من إقليم إلى إقليم، ومن مدينة إلى مدينة، يقتلون وينهبون ويخربون. ثم وقع الحلف بين ملوك الإسلام على ما كانوا عزموا عليه من اجتماع كلمتهم على التتار، وجميع ذلك للأمور المقدرة التى لا راد لقضائها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

وفيها توجه التتار طالبين إربل، فنفّذ صاحبها يستنجد بالملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل. واتفق مع مظفر الدين كوكبرى صاحب إربل أن يسيروا جماعة من العساكر يمسكوا الدربندات بمضيق الطرق، ليمنعوا التتار من العبور إلى البلاد. وكان رأيا سعيدا لو تم. ثم وصلت كتب الخليفة أن التتار يمتنعوا من عبور البلاد، ويأمرهم بالحضور والاجتماع بالعساكر على دقوقا، وذلك ظنّا من الخليفة أن التتار لا يعبرون البلاد، وأنهم متوقفون عنه وعن بلاده، لما بينه وبينهم من المكاتبات. وكان التتار لما وصلوا إلى مدينة إربل وجدوا الجبال ضيقة المسالك، فتركوا إربل وقصدوا العراق، فعند ذلك خرج صاحب إربل وصاحب الموصل بالعساكر، وتبعوا التتار، وهم فى عساكر كثيفة. ثم إن الإمام الناصر سيّر إلى [مظفر الدين صاحب إربل] يأمره بالحضور بالعساكر. فلما اجتمعت العساكر على دقوقا ينتظرون أن الخليفة يسيّر إليهم عسكرا كثيفا من بغداد، يكونوا هؤلاء العساكر فى ضمنه لملتقى التتار، فجاءهم مملوك من جملة مماليك الخليفة يقال له قشتمر، ومعه نحو من ثمانمائة فارس. فلما رأى الملوك هذا الحال تفرقوا كل ملك إلى مكانه، وكتب مظفر الدين للخليفة يقول: «إن هذا العدو عدو ثقيل، وخلق عظيم، لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل. فابعث إلينا جيشا نلقى به هذا العدو، ولو عشرين ألف فارس، ونحن نتكل

على الله تعالى ونلقاه بمعونته». فغلب على رأى الخليفة الوزراء السوء، وأثبتوا فى ذهنه أن التتار لا يدوسون له أرض، وإنما هؤلاء يقصدون أن يمنعوا عن بلادهم. فلم يرد الخليفة له جوابا. وقد كان التتار لما سمعوا بمظفر الدين تأخروا إلى ورائهم، فإنه كان رجلا شجاعا مقداما. فلما بلغهم أن العساكر تفرقت من على دقوقا نزلوا همذان، وكان لهم بها شحنة، حسبما ذكرناه. فأرسلوا إليه أن «خذ لنا من أهل البلد قماشا وسلاحا ومالا نستعين به»، فأجمع الشحنة أهل البلد، وطلب منهم. وكان أهل البلد قد ضجروا من جور التتار، ومن أخذ أموالهم. وكان بهمذان يومئذ رجل يعرف بالشريف وهو حاكم على أهلها. وكان من كبار المسلمين وخيارهم، وهو من جهة التتار أيضا ليصانعهم عن المسلمين، فاجتمع الناس وأتوا إلى الشريف الهمذانى، وشكوا إليه جور التتار، وما هم فيه من البلاء معهم. فقال: «إذا كنا تحت أمرهم، ما يسعنا إلا نسمع ونطيع». فقال أهل البلد للشريف: «أنت إذا أشد علينا منهم». فقال: «إنما أنا رجل منكم، ومهما فعلتوه كنت معكم». فعند ذلك جذبت أهل البلد السيوف وقتلوا الشحنة الذى كان عندهم من جهة التتار، وغلقوا باب البلد، وعصوا على التتار. فركبوا إليهم، وحاصروهم، واقتتلوا أشد قتال. وقتل بينهم عالم عظيم إلا أن أهل همذان صبروا صبر الكرام على الموت، والجوع، والعطش، والسهر، وضرب السيوف. ثم إن التتار هجموا عليهم، وأخذوهم، وقتلوا جميعهم. ولما فرغوا من همذان عاودوا أذربيجان فوصلوا إلى أردويل، فنزلوا عليها

وملكوها. ورحلوا طالبين توريز، وكان قد قام بها شمس الدين الطغرائى، وحصّن البلد أحسن تحصين. فلما علموا ذلك صالحوه أيضا على مال أخذوه. ثم توجهوا إلى بيلقان، وهم يخربون كل ما مروا عليه من البلاد والأقاليم فى طريقهم، فملكوا بيلقان بالسيف عنوة وقتلوا أهله. ثم ساروا إلى كنجة-وهى كرسى مملكة أران. وعلمت التتار أنهم لا يقدرون على كنجة، ولا على أهلها كونهم رجال شجعان، فصالحوهم على مال أخذوه منهم. ثم ساروا إلى دربند شروان وقصدوا مدينة شماخى فحاصروها، وصبر أهلها أحسن صبر، فأحضر التتار المواشى من الأبقار والأغنام وجيف القتلى، مع الجمال والحمير، وردموا الخندق، وتسوروا عليه إلى السور. فقاتلوهم أهل البلد ثلاثة أيام، ثم ملكوها وقتلوا أهلها. ثم توجهوا إلى بلاد الترك، وهم القفجاق وبلاد اللان وبلاد الروس وغيرهم من الأمم، فلم يقدروا على الجواز إليهم، لضيق المسالك، وكثرة العالم وشجاعتهم، فشرعوا إلى المكر والخديعة، وسيروا رسولا إلى السلطان رشيد شروان شاه صاحب المدائن وصاحب الدربند، يطلبون منه رسلا يسمعون كلامهم ويسعون فى الصلح بينهم، فسيروا إليهم عشرة نفر من عقلاء قومه، فضربوا رقاب عشرة، وأبقوا واحدا منهم، وقالوا له: «أرينا ودلنا على الجواز ونحن نمن عليك بنفسك، وإلا قتلناك»، فأخذهم وسلك بهم طريقا هى أسهل الطرق. فلما قطعوا الدربند وجدوا من المواشى والأغنام والأبقار فى تلك الأعمال ما لا تحصى كثرة. وفيها جنس يقال له اللان وجنس يقال له اللكز، وهما جنسان عظيمان

من الترك، مع طوائف أخر، فوقعوا عليهم بالسيف على حين غفلة منهم، وقتلوا منهم أمما عظيمة. وهؤلاء اللكز مسلمون واللان نصارى فلم يبقوا لا على المسلمين ولا على النصارى. وكانوا قد اقتتلوا مع اللان قتالا عظيما، فلم يظفروا بهم، فأرسلوا رسلا إلى القفجاق، يقولون لهم: «نحن منكم وأنتم منا، وهؤلاء أعداؤنا وأعداؤكم ونحن نحلف لكم أن نكون يدا واحدة، ويكون لكم قسما من أموالهم كما لنا». فاتفق القفجاق معهم على اللان واللكز فأفنوهم وأخذوا أموالهم، وسبوا ذراريهم، وأخربوا بلادهم، ثم رجعوا إلى بلاد القفجاق وهم آمنون منهم، لما بينهم من العهود والمواثيق. فلم يشعروا إلاّ والتتار قد أحاطت بهم، ووضعوا فيهم السيف، وأخذوا من القفجاق أضعاف ما أخذوه من تلك الطوائف. ولم يزل القتل فى القفجاق حتى اعتصموا منهم بالجبال والشعاب، وهرب بعضهم إلى بلاد الروس. وأقامت التتار فى بلاد القفجاق، واستطيبوها لكثرة خيرها وخصبها، وطيبة هوائها. ولها أماكن دافئة فى الشتاء، وأماكن باردة للصيف. ثم ساروا إلى مدينة شروان شاه، وهى كرسى مملكه القفجاق عند بحر منسك بخليج القسطنطينية العظمى، فمشوا إليها وملكوها فى مدة يسيرة، وتفرق أهلها، وتمزقوا كل ممزق. وسار بعضهم إلى بلاد السلطان علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قليج أرسلان السلجوقى صاحب الروم. ثم سارت طائفة كبيرة [من التتار] إلى بلاد الروس، وهى بلاد طويلة عريضة، وهم قوم نصارى. ولو شرحنا جميع ما فعلوه لم تسع ذلك دفاتر ولا أوراق، وإنما لخصنا من ذلك جهد الطاقة وقدر الاستطاعة.

ذكر تملك السلطان جلال الدين منكبرتى بن السلطان علاء الدين خوارزم شاه

وأما ما ذكره ابن الأثير فى تاريخه قال: لقد بقيت، عدة سنين معرضا عن هذه الحادثة استعظاما لها. أقدم رجلا وأؤخر أخرى، فمن الذى يسهل عليه أن يسطر نعى الإسلام؟. فياليت أمى لم تلدنى! وياليتنى كنت نسيا منسيّا!. لكنى حثنى على ذلك جماعة من الأصدقاء الكبار الأعيان، وأنا متوقف. وتكلم كلام كثير، معناه التنصل مما سطره فى أمر هذه الحادثة وعظمها. ولعمرى إنه لمعذور فيما اعتذر منه. والعبد أيضا يعتذر عن ما لا بدّ كان من تسطيره، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. ذكر تملك السلطان جلال الدين منكبرتى بن السلطان علاء الدين خوارزم شاه وفى هذه السنة تولى الملك السلطان جلال الدين منكبرتى بن السلطان علاء الدين محمد خوارزم شاه بن تكش-وباقى نسبه قد تقدم-بعد وفاة أبيه فى تلك القلعة المقدم ذكرها. وكان تمليكه بوصية من أبيه، فركب فى الحالة الراهنة، وتوجّه إلى خوارزم طالبا لإخوته، ومعه سبعون نفرا، فالتقوهم أهل خوارزم بالخيول والسلاح والقماش والعدة. وتباشر الناس بقدومه، واجتمع إليه العساكر الإسلامية، فعاد فى سبعة آلاف فارس، فملك. ثم إن أخويه عملا على مسكه، فأعلمه بعض أصحابه، فرحل طالبا خراسان فى ثلثمائة فارس، وأقام بقية أصحابه بخوارزم. فورد عليهم الخبر بحركة التتار نحو خوارزم، فهربوا على أثر جلال الدين إلى خراسان. وأما السلطان جلال الدين فوصل إلى نيسابور، وكان جكزخان لما بلغه أن

جلال الدين مشى مكان أبيه علاء الدين أمر التتار أن يتفرقوا عليه فى سائر الطرق، فوقع جلال الدين فى طريقه على سبعمائة منهم قد مسكوا له تلك الطريق، فأيقع معهم جلال الدين وكسرهم كسرة عظيمة، لم يسلم منهم مخبر. وهذا كان أول سيف خضب بدمائهم بالنصر فى الإسلام. ثم ساق جلال الدين إلى نيسابور، وكتب إلى العساكر المشتتة فى الأطراف بسرعة الاجتماع، والقدوم عليه. وأقام ينتظر الجيوش بنيسابور شهرا، والعساكر ترد وتتواصل أولا فأولا. فعلم جكزخان بذلك، فأعجله قبل [أن] تتكامل جيوشه. وأدركته التتار، فخرج من نيسابور بمن انضم إليه، يطوى المراحل إلى كرمان، ثم إلى غزنة. فأتاه الخبر أن أمين الملك -وهو ابن خال السلطان جلال الدين صاحب هراة-قد أخلى هراة، وأن التتار قد قربوا منها، وأن مع أمين الدين عشرة آلاف فارس. فنفذ إليه، واجتمع به، وانضمت العساكر بعضها إلى بعض، والتقى السلطان جلال الدين بالتتار الذين كانوا طالبين هراة، وكان مقدمهم تولوخان بن جكزخان فى عشرين ألف من المغل، فجرى بينهم من القتال ما يشيّب الأطفال. ونصر الله تعالى السلطان جلال الدين، وانهزم التتار، وركب المسلمون أكتافهم قتلا بالسيف. وقتل تولوخان بن جكزخان فى هذه الوقعة. ولما بلغ جكزخان قتل ولده، وكسر جيشه، رمى سراقوجه على الأرض. وجمع سائر جيوشه، وسار مجدّا حتى وافى السلطان جلال الدين على حافة السند. وكان جلال الدين قد فارقه أخوه وخاله وجماعة من عساكره، فضاق عليه الوقت فى استرجاعهم

لمعاجلة الملعون له، فركب يوم الأربعاء لثمان خلون من شهر شوال من هذه السنة-وقيل من سنة تسع عشرة-والتقى مع جكزخان. وثبت جلال الدين مع قلة أصحابه، ثم حمل بنفسه على قلب جكزخان فمزقه بدادا، وكادت تكون النصرة له، لولا ظهر للتتار كمين كان لهم فيه عشرة آلاف من المغل من أجود فرسانهم، فخرجوا على ميمنة جلال الدين، وكان فيها-على قول-أمين الملك خاله، فكسروها وطرحوها على القلب. وتبدد نظام جلال الدين، وتزعزعت أقدامه، وأسر ولده. وعاد جلال الدين إلى حافة السند هاربا، فرأى والدته وزوجته وأخته وأولاده أطفالا مع جماعة من حشمه، وهن يصحن بأعلا أصواتهن: «بالله عليك اقتلنا وخلصنا من الفضيحة والأسر». فأمر بهن فغرقن فى السند، وهذه من عجائب البلايا، ونوادر المصائب، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. ثم إنه لما سدت عليه المذاهب، وأحاطت به النوائب، ومن خلفه السيوف، ومن قدامه البحر العجاج، رفس فرسه وطلب الغرق ولا يسلّم نفسه لسيوف التتار. وكان الجواد من جياد الخيل-مع لطف الله عز وجلّ- فقطع به النهر إلى الجانب الآخر. وكذلك تخلص معه من أصحابه تقدير أربعة آلاف رجل، حفاة عراة. ثم وصل إليه مركب من بعض الجهات، وفيه مأكول وملبوس. فوقع ذلك عنده موقعا عظيما. ولما علم صاحب الجودى أن جلال الدين وصل إلى بلاده مكسورا، طلبه بالفارس والراجل، لما كان بينه وبين أبيه السلطان علاء الدين خوارزم شاه من الدخول القديمة، والحروب. فبلغ ذلك جلال الدين، فعظم عليه الحال، إذ لم يكن معه من أصحابه من يمانع عن نفسه، لما فيهم من الجراحات وعريهم من العدد والسلاح، وعدم المركوب، ولا فيهم نجعة للذب. فجفل من مكانه، وأمر كل من

فيه قوة ونجعة يتبعه وإلا يقطع رأسه. وسار عازما أن يقطع السند مختفيا فى بعض الجبال بمن معه، ويعيشوا بما تكسبه أيديهم من الغارات. فصادفوا الهنود إليهم قاصدين. فلما رآهم الهنود ظنوا أنهم التتار، فتأخروا ولم يجد جلال الدين من الموت بد، فتقدم بمن معه، وتقدم ملك الهنود أيضا. ووقف جلال الدين حتى قاربه، وكان فى يده قوس. وكان شديد الساعد، ففوق سهما ورمى به ملك الهنود فأصاب صدره، وخرّ لوجهه يموج فى دمه، وانهزم جيشه، وأخذهم أصحاب جلال الدين. وكسب [جلال الدين] خيله ومتاعه، وقوى نفسه بعد الإياس من الحياة. فسبحان المدبر الحكيم. ثم رحل [جلال الدين] إلى سجستان، وأخذ ما كان له بها من الخزائن، وأنفق على من كان معه. ثم أتاه الخبر أن أيتامش قاصده فى ثلاثين ألف فارس ومائة ألف راجل، فسار جلال الدين نحوه تجلدا منه وصبرا. وقدّم أمامه جاهان بن بهلوان أزبك، فهجم على أيتامش، فتأخر له. ونفذ رسول إلى السلطان جلال الدين يطلب الصلح، ويقول: «ليس يخفاك ما وراءك من عدو الدين، وأنت سلطان المسلمين وابن سلطانهم. وقد رأيت أن أزوجك بنتى وأكون عضدك». فمال السلطان جلال الدين لذلك، وسير مع رسوله نفر من أصحابه، فطاب لهم المقام عند أيتامش. ثم وردت الأخبار عليه أن أيتامش وقباجه وسائر ملوك الهند اتفقوا على السلطان جلال الدين، وأن يمسكوا عليه حافة السند، فعظم عليه ذلك وأخفاه، واستناب جاهان ابن بهلوان على ما بيده من ممالك الهند، وسار طالبا للعراق. فلما وصل إلى كرمان، وهو فى أشد الأحوال مما قاساه ومن معه فى تلك البرارى والصحارى التى بين الهند وكرمان، ووصل فى أربعة آلاف، منهم من هو راكب البقر والحمير وغير ذلك. وكان ذلك فى سنة إحدى وعشرين وستمائة.

ذكر سنة إحدى وعشرين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة إحدى وعشرين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع فقط. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأصبعان. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين بحاله. والسلطان الملك الكامل سلطان الإسلام بالديار المصرية. وباقى الملوك إخوته بحالهم. وفى شهر المحرم دخل الملك المسعود بن الكامل-صاحب اليمن-إلى القاهرة المحروسة، وبين يديه الفيلة، وعدتهم ثلاثة؛ وأخلى له القصر وسكن فيه. وفيها قبض السلطان الملك الكامل على جماعة من أمرائه البحرية، مماليك والده الملك العادل، وأودعهم الجب الكبير. والسلطان جلال الدين قد وصل من الهند إلى كرمان-حسبما تقدم. وكان بكرمان فى ذلك الوقت براق الحاجب ينوب بها عن أخيه السلطان غياث الدين، فتلقاه، وخدمه؛ لكن لم يذعن له بالطاعة، لأجل أخيه غياث الدين. فأقام أياما حتى استراح من وعك الطريق، ثم رحل إلى شيراز. وورد عليه الأتابك سعد صاحب فارس، وكان قد استوحش من أخيه غياث الدين، فرغب جلال الدين فيه، وخطب ابنته فأجاب إلى ذلك. واستظهر جلال الدين بمصاهرة الأتابك. ثم رحل من شيراز إلى أصبهان، فخرج إليه القاضى زكى الدين مسعود، وتلقاه، وكذلك أعيان البلد، وأتوه بالخيول والعدد، وفرحوا بقدومه. ولما بلغ غياث الدين توسط جلال الدين البلاد، ركب إليه فى ثلاثين ألف فارس، فرجع جلال الدين حين بلغه ذلك، وسير إلى أخيه [غياث الدين] أمير أخوره،

يقول: «إن الذى قاسيته بعد السلطان من الشدائد والهوان لو أعرض على الجبال لأشفقن من حملها. وحين ضاقت علىّ الأرض بما رحبت قصدتك لأستريح عندك أياما. وحيث علمت أن ما عندك للضيف قرى غير السيف رجعت». فلما بلغ غياث الدين الرسالة رجع عما كان عزم عليه، وتفرقت عساكره. وكان جلال الدين قد سير مع أمير أخوره عدة خواتم، وأمره إيصالها إلى جماعة من الأمراء السلطانية؛ فمنهم من تناول الخاتم وأجاب، ومنهم من أسرع به إلى غياث الدين. فأمر بالقبض على الرسول. فركب جلال الدين مسرعا فى ثلاثة آلاف فارس وأعجل غياث الدين عن الاستعداد. فركب غياث الدين فرس النوبة وهرب. ودخل جلال الدين إلى خيمته وبها والدة غياث الدين، فزاد فى احترامها وإكرامها، وأنكر هروب غياث الدين، وقال: «أنا ما بقى لى من بنى أبى سواه». فسيرت والدته إليه بذلك، فعاد إلى الخدمة، فعطف عليه جلال الدين وأكرمه. وحضر إلى طاعة السلطان جلال الدين سائر ملوك الأقاليم من المتغلبين على البلاد، ودخلوا تحت الطاعة. وفرّق العمال على الأقاليم. وسار نحو خوزستان. وسير رسولا إلى بغداد، فأحلوه محل الإكرام. ولم يزل الرسول ببغداد إلى أن ملك جلال الدين مراغة، فعاد الرسول مكرما. ثم رحل السلطان جلال الدين إلى دقوقا فغلقوا أبوابها فى وجهه، وطلع أهلها على السور، وسبّوا جلال الدين ولعنوه. فأغاظه ذلك، وأمر بالزحف عليها، فلم يكن سوى ساعة حتى صعدت أعلامه عليها، وأوقع فيهم السيف. ورحل إلى أذربيجان. وسير الكتب والرسل إلى ملوك الشام ومصر، يتضمن إعلامهم بما فتح الله عليه، وما ملك من البلاد. ثم رحل إلى أرجان، ثم إلى تبريز. فخرج إليه الرئيس نظام الدين أخو شمس الدين الطغرائى، وكان بها بنت السلطان طغريل، فسيرت تطلب الأمان مع الرئيس نظام الدين، فأجاب إلى ذلك. وتسلم تبريز فى هذه السنة، والله أعلم.

وكان توفى الملك المنصور صاحب حماة، وهو محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب. وكان ملكا شجاعا مقداما عالما فاضلا أديبا شاعرا محبا للعلماء والفضلاء. وكان عنده جماعة من كبار الفضلاء، مثل سيف الدين على بن أبى على الآمدى مصنف كتاب المضمار، جمع فيه جملة جيدة من تواريخ العالم فى عشرة أجزاء، وردّ على مثل الإمام فخر الدين الرازى المعروف بابن خطيب الرى، أحد فلاسفة الإسلام صاحب التصانيف العجيبة فى كل فن، مما يطول شرح ذكرها، وهو صاحب كتاب السرّ المكتوم فى علم الأسماء والطلسمات. ومثل الإمام أبى حامد الغزالى المشهور، وله من التصانيف مائة مجلد. ولو شرحت فضائل هؤلاء السادة المذكورين لكان جزءا بذاته، ولا نصل إلى بعض محاسنهم وعلومهم وتصانيفهم، رضوان الله عليهم أجمعين. وكانت وفاة السلطان الملك المنصور المشار إليه فى شهر شوال من هذه السنة. ودفن بحماة عند قبر أبيه، وقام بعده بمملكة حماة ولده الأكبر يسمى قليج أرسلان، ولقب بالملك الناصر. وجرى له بعد ذلك مع السلطان الملك الكامل أمور وعجائب، وأخذ منه حماة وأعطاها لأخيه الملك المظفر، واعتقل قليج أرسلان بمصر فى الجب. ومن شعر الملك المنصور-رحمه الله-مما لخصناه قوله: سحّا الدموع فإن القوم قد بانوا … وأقفر الصبر لما أقفر البان وأسعدانى بوجد بعد بينهم … فالشان لما نأوا عنّى له شان يا ظبية البان هل وصل أسر به … فينجلى بلذيذ الوصل أشجان منها: لا تبعثوا مع نسيم الريح نشركم … فإننى من نسيم الريح غيران كيف السلو ولى قلب يخالفنى … وفى الهوادج أقمار وغزلان

سقاهم الغيث من قبلى كاظمة … سحا وروى ثراهم أينما كانوا وله: الفخر بالفضل ليس الفخر بالنسب … والناس فى ذاك من درّ ومن خشب وكل فخر سوى فخرى فمختلق … زور وقائله ينمى إلى الكذب أنا الذى لم ينل فى الورى أحد … ما نلته قط من عجم ومن عرب سموت فيهم بأصل لا يقاومه … أصل ومن بعده بالفضل والأدب بآل شاذى ملوك الناس كلهم … أكرم بذلك من فخر ومن حسب أيوب جدى حقيقا حين تنسبنى … يا حسنها نسبة تعلو على الرتب نحن الملوك الذرى والناس كلهم … لنا عبيد وليس الرأس كالذنب كم قد أبدت بسيفى كل مفتخر … حامى الحقيقة يوم الجحفل اللجب وكم تركت بنى الإفرنج فى رعب … فصرت أدعى لديهم جالب الرعب منها: من كل منتسب بالله محتسب … مؤيد بجميل الصبر مرتقب أغرّ أبلج وضاح لغرته … فضل على الأنجم السيارة الشهب وله فى صدر كتاب إلى عمه الملك العادل يقول: سلام محب فى الولاء محقق … يكاد لفرط الشوق بالدمع يشرق وينشد بيتا قيل فى مدح مجدكم … له بثناكم حين ينشد رونق تقول لى الآمال إن كنت نازلا … بباب ابن أيوب فأنت موفق وفيها توفى الملك الصالح ناصر الدين محمد بن محمد بن قرا أرسلان بن أرتق، صاحب آمد. وكان شجاعا مقداما. وقام بالملك بعده ولده الملك المسعود. وكان بالضد من أبيه. حصره بعد ذلك السلطان الملك الكامل فى آمد وأخذها منه. ووجد عنده فى قصره خمسمائة حرة من بنات الناس يطؤهنّ حراما. وأحضره الكامل إلى مصر،

وأحسن إليه. فكاتب الروم، وسعى فى هلاك السلطان الكامل، فسجنه مدة ثم أطلقه، فهرب إلى التتار، فقتلوه. وفيها توفى الشريف قتادة بن إدريس صاحب مكة شرفها الله تعالى. وما كان لا يلتفت إلى أحد، ولا داس للخليفة بساطا قط. وكان يقول أنا أحق بها من غيرى، -يعنى الخلافة. وكان الحاج فى أيامه طيبين، لا يستحسن بظلامة أحد. وكتب إليه -قبل وفاته-الخليفة يقول له: «أنت ابن العم العزيز وقد أحببت زيارتك». فكتب يقول من قصيدة: ولى كف ضرغام أذل ببطشها … وأشرى بها بين الورى وأبيع تظل ملوك الأرض تلثم ظهرها … وفى وسطها للمجد بين ربيع أأجعلها تحت الرجا ثم أبتغى … خلاصا لها إنى إذا لوضيع منها: وما أنا إلا المسك فى كل بقعة … يضوع وأما عندكم فيضيع وكانت وفاته فى شهر جمادى الأولى فى هذه السنة بمكة شرفها الله تعالى. وقيل كانت وفاة الشريف المذكور فى سنة عشرين، فإن فى هذه السنة توجه الملك المسعود أقسيس بن الكامل إلى مكة وملكها. وكان قد تولى أمرها حسن بن الشريف قتادة فأساء السيرة، فسار الملك المسعود، وملكها رابع شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين، وهو الصحيح، والله أعلم. وفيها نقل السلطان الملك العادل من القلعة بدمشق إلى تربته، وهى المدرسة العادلية. وفيها خرج الملك الأشرف من مصر قاصدا للشرق، والتقاه الملك المعظم وعرض

عليه النزول بالقلعة فأبى ونزل بجوسق أبيه العادل. وبدت الوحشة بين الإخوة، وأصبح الأشرف فى السحر وركب وساق، ونزل ضمير، ولم يعلم المعظم برحيله. ثم سار مسرعا حتى نزل حران، وكان قد استناب أخوه شهاب الدين غازى صاحب ميافارقين على أخلاط، لما سافر إلى مصر، وجعله ولى عهده بعد غيبه. ومكنه فى جميع بلاده بالشرق، فسولت له نفسه العصيان. ولما وصل الأشرف إلى حران بلغه خبر عصيان أخيه غازى، فكتب إليه يستدعيه، فامتنع، فجمع الأشرف عساكر الشرق وسار إلى أخلاط. وكان صاحب حمص-وهو الملك المجاهد-قد مال مع الأشرف؛ والمعظم مال إلى نصرة غازى، فجمع وخرج حتى نزل على حماة، فلم يخرج إليه صاحبها ولا فتح له باب، فعاد إلى حمص. فخرج إليه عسكر حمص، فأوقعوا به، وظهروا عليه، ونهبوا عسكره. ورجع إلى دمشق ولم ينل طائلا. ثم إن الأشرف توجه إلى أخلاط بجيوشه ليسترجعها من يد أخيه غازى. وكان قد حشد وجمع، فخرج إلى الأشرف، ووقع القتال بينهما، وقاتل غازى أشد قتال. وكان أهل أخلاط يحبون الأشرف. فلما خرج غازى وقاتل أطلع أهل أخلاط سناجق الأشرف على الأبراج، وصاحوا: «يا أشرف يا منصور». فعند ذلك هرب غازى إلى القلعة، فأقام يومين ثم نزل إلى أخيه الأشرف، فأقبل عليه ولم يؤاخذه بما فعل. وأقام الأشرف بأخلاط ثلاثة أيام، وجعل فيها مملوكه أيبك والحاجب على. ورد غازى إلى ميافارقين مكانه-مريضا من جراحاته-ورجع الأشرف إلى رأس العين. وفيها نزل السلطان جلال الدين على أذربيجان واستولى عليها، فبعث إليه الملك المعظم رجلا يقال له الملق، واتفق هو وجلال الدين والمظفر على الملك الأشرف. وبعث المعظم بولده الناصر داود إلى مظفر الدين صاحب إربل رهينة. وكان قد ظهر فى الشام جراد كثير فأظهر المعظم أن ببلاد العجم طيرا يأكل الجراد، وأرسل الصدر البكرى يعرف بالملق محتسب دمشق ورتب معه صوفية،

وقال: «يمضون إلى العجم فهناك عين ماء يجتمع عليها هذا الطير المعروف بالسمرمر فتأخذوا من مائها فى قوارير، وتعلقونه على رءوس الرماح. فكلما رآه الطائر يتبعكم». وما كان مقصوده إلا ببعث البكرى إلى جلال الدين يتفق معه. وقرر معه الأمر وجعله له عضدا، لما علم أن الأشرف والكامل اتفقا عليه. وكان الجراد قد قل، فلما عاد البكرى كثر. وفهموا الناس مقصوده فى ذلك. وعاد جلال الدين ذخرا للمعظم، وعاد بينهما معاقدة وأيمان. وفيها استولى بدر الدين لؤلؤ على الملك ولقب الملك الرحيم. وفيها بنى السلطان الملك الكامل مدرسته ببين القصرين بالقاهرة المحروسة. وأمّا التتار، فإن جكزخان قسّم أصحابه فى هذه السنة عدة أقسام، فنفذ قسما منها إلى بلاد فرغانة، وقسما إلى بلاد ترمذ، وقسما إلى قلعة كلام وهى قلعة عظيمة على نهر جيحون. ففعلت كل طائفة أقبح من أختها. ثم عاد الجميع إلى جكزخان، وهو نازل بسمرقند. فعند ذلك جهز جيشا عظيما وقدّم عليه إحدى بنيه، وسيره إلى إقليم خوارزم. وجهز آخر وسيره إلى خراسان، فقطعوا جيحون ووصلوا بلخ، فتسلموها بالأمان، وجعلوا بها شحنة من جهتهم. وعادوا يقاتلون برجال كل إقليم إقليم آخر، وهم يتفرجون عليهم، ففتحوا أكثر البلاد كذلك. ثم وصلوا إلى طالقان وفيه قلعة حصينة تسمى منصور كوه، فحاصروها أربعة أشهر، فلم يبلغوا فيها غرض. وقاتل أهلها قتالا عظيما، وأنفذوا إلى جكزخان فأعلموه بذلك. فسار إليهم بنفسه فى عالم عظيم، وحاصرها. ثم أمر بالأخشاب والأحطاب فجمعت، وعادوا يعملون صفّا من خشب ثم يردمونه بالتراب، حتى واروا القلعة. وصعد التتار عليه ونصبوا

المناجنيق، وعادوا يرمون فى وسط القلعة. فعند ذلك اجتمع أهل القلعة وفتحوا الباب، وحملوا على التتار حملة واحدة. وسلمت الخيالة بأنفسهم، وتعلقوا فى الجبال. وأما الرجالة فقتلوا عن آخرهم. وملك جكزخان القلعة بجميع ما فيها. ثم إنه جمع سائر الرجال الذين كان أعطاهم الأمان من سائر الأمصار، وسيرهم مع ولده إلى مدينة مرو، وبها يومئذ ما يزيد عن مائتى ألف مقاتل من جند وعرب وأكراد وتركمان ومن سائر الأجناس. فلما وصلت إليهم التتار التقوا معهم، واقتتلوا قتالا شديدا. ثم انكسر أهل مرو، ووضعوا فيهم السيف ولم يبقوا على أحد منهم. ثم فتحوا مرو بعد أربعة أيام، بعد ما كانوا أعطوا أهلها الأمان. قال جكزخان لواليها: «أعرض علىّ أصحابك حتى ننظر من يصلح للخدمة نستخدمه عندنا». فلما حضروا قبض على الجميع. وطلب الأموال من كبار البلد، وكتب أسماءهم فى جريدة، ثم قال: «اكتبوا أرباب الصنائع» ففعلوا ذلك. فلما وقف جكزخان على النسخ أمر بجميع أهل البلد، وجميع أهاليهم وأموالهم، فأوقفوا بين يديه، وقد جلس على كرسى ذهب. وأمر بحضور الجند، فضرب أرقاب الجميع. كل هذا والناس قيام ينظرون إليهم ويبكون عليهم. ثم قسّم أرباب الأموال، وضرب رقابهم. ثم وضع السيف فى بقية الناس. وتعالت أصوات النساء والأطفال. قال صاحب التاريخ: ومما أجمعوا عليه أن من جملة تسليط هؤلاء القوم على العالم أنهم إذا نزلوا على مدينة أو قلعة ولم يقدروا على أخذها ورحلوا عنها، يرسل الله-عز وجل-على أهل تلك البقعة الوخم والفناء، فيموتون، فيرجع التتار إليهم فيأخذوهم بأسهل الأحوال. وهذا كان سخطا من الله تعالى، فنعوذ بالله من الخذلان. ثم أمر بحريق البلد فأحرق. وفى جملة الحريق تربة السلطان سنجر السلجوقى. أجمع

أهل التاريخ أن عدة القتلى بمدينة مرو وأعمالها سبعمائة ألف أو يزيدون. ثم سار التتار إلى سابور فحاصروها خمسة أيام، ثم ملكوها، وفعلوا بهم كما فعلوا بأهل مرو. ثم سارت منهم طائفة إلى طوس، ففعلوا كذلك، وأحرقوا المشهد الذى فيه على بن موسى الرضى رضى الله عنه؛ وفيه قبر الرشيد رحمه الله. ثم ساروا إلى هراة، وهى من أحسن البلاد، فحاصروها مدة عشرة أيام، فملكوها، وقتلوا منهم البعض، وأمنوا الباقى، وجعلوا عندهم شحنة من جهتهم. ثم ساروا إلى غزنة، فلقيهم السلطان جلال الدين فكسرهم كسرة عظيمة، وقويت قلوب الإسلام، فعاد كل من كان عندهم شحنة من جهتهم قتلوه. فلما ردت التتار إلى جكزخان، وهو بمدينة الطالقان، تجهز بجموع التتار لقتال السلطان جلال الدين. هذا ما جرى للتتار. وأما السلطان جلال الدين فإنه بعد كسره التتار عظم أمره، وقوى سلطانه، وتكاثرت جيوشه، وعزم على طلب بغداد، وقتل الخليفة الإمام الناصر لدين الله. وكان قد تقدم القول بما كان من الاتفاق بين الملك المعظم صاحب دمشق، وبين السلطان جلال الدين، والمعاقدة والأيمان. قال أبو المظفر: حكى لى الملك المعظم قال: كتب إلىّ جلال الدين يقول: «تحضر أنت وجميع من عاهدنى واتفق معى، حتى نقصد الخليفة، فإنه كان السبب فى هلاك السلطان علاء الدين أبى، وجسّر التتار لدخول البلاد، وصغّر عندهم أمر المسلمين، حتى أخربوا الدنيا». قال المعظم: فكتبت إليه نقول: «أنا معك على كل أحد إلا الخليفة. فإنه إمام المسلمين». فبينما هو على عزم بغداد، وكان قد سير جيشا إلى تفليس فسيروا إليه يقولون: «أدركنا فما لنا بالكرج طاقة، وبغداد ما تفوت». فسار إلى تفليس، وخرج إليه الكرج، وضرب معهم مصافا، وقتل منهم سبعين ألفا.

وفتح تفليس عنوة بالسيف، وقتل منها ثلاثين ألف، تكملة المائة ألف. وكان فى سلخ شهر ذى الحجة من هذه السنة، وقوى سلطان جلال الدين أضعاف ما كان، وطاعته جميع المتغلبين على الأقاليم. وفيها كان له وقعة عظيمة مع فرقة من التتار، وكانوا فى ثلاثين ألف فارس، مع إحدى بنيه-أعنى جكزخان-يسمى قطوخان، فكسرهم كسرة شنيعة، وقتل منهم اثنى عشر ألف من خيار مغلهم. وكانت هذه الوقعة على نصيبين. وسلم قطوخان، وعاد مهزوما إلى أبيه جكزخان، فغضب عليه، وقيده، وأعاده إلى بلادهم تحت الاحتراز. ثم إن جكزخان استهمّ فى التجهيز، وجمع جيوشا عظيمة لقتال السلطان جلال الدين منكبرتى. ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وستمائة.

ذكر سنة اثنتين وعشرين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة اثنتين وعشرين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع ونصف أصبع. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وخمسة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الناصر لدين الله أمير المؤمنين، إلى أن توفى فى هذه السنة-حسبما يأتى ذكر ذلك فى تاريخه. وفى ذى القعدة ضربت فلوس بالقلعة، وعادت من جملة النقود المتعامل بها، وتحرر القيمة عنها عن ستة عشر فلسا درهما من نقد مصر. ثم ضربت دراهم مستديرة، وهى هذه الدراهم المتعامل بها يومئذ المعروفة بالكاملية. وأمر السلطان الملك الكامل أن لا يتعامل بالدراهم القديمة المصرية. وصار كلما تحصل منها شئ يسبك ويعمل من الضرب الجديد. وتوفى الإمام الناصر لدين الله، سلخ شهر رمضان المعظم من هذه السنة، وله من العمر تسع وستين سنة وأشهر. وكانت خلافته سبع وأربعين سنة. ولم يكن بلغ هذه المدة فى الخلافة قبله أحد من الخلفاء. وقام بالأمر بعده الإمام الظاهر بأمر الله ولده-حسبما يأتى من ذكره. ذكر بعض شئ من سيرة الإمام الناصر كان شهما، أبىّ النفس، حازما، متيقظا، ذارزانة ودهاء ومكر. ذو هيبة عظيمة جدّا. وكان أهل العراق تخافه فى بيوتها. وكان فيه تشيع كثير، وميل إلى مذهب الإمامية، وذلك بخلاف ما كان عليه سلفه من القادر إلى المستضئ. وقيل إنه سأل الشيخ جمال الدين بن الجوزى بمحضر من الخليفة: «من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟» فخشى أن يصرح، فقال: «أفضلهم بعده من كانت ابنته تحته». وهذا القول يحتمل أمرين. وسئل أيضا فأنشد يقول:

ذكر خلافة الإمام الظاهر بأمر الله بن الإمام الناصر لدين الله وسيرته

لا تسألونى إلا عن أواخرهم … فأول الركب ما عندى له خبر وكان الناصر لدين الله أديبا فاضلا شاعرا. ذكر أنه اعتقل بعض كتّابه فكتب إليه يقول: ألقنى فى لظى وإن غيّرتنى … فتيقّن أن لست بالياقوت عرف النسج كل من حاك لكن … نسج داود ليس كالعنكبوت قال، فأجابه الخليفة يقول: نسج داود لم يفد صاحب الغا … ر وكان الفخار للعنكبوت وبقاء السمند فى لهب النا … ر مزيل فضيلة الياقوت وهذا جواب فائق، وشعر مفلق. ذكر خلافة الإمام الظاهر بأمر الله بن الإمام الناصر لدين الله وسيرته هو أبو نصر، عدة الدنيا والدين، محمد، الظاهر بأمر الله بن الإمام الناصر لدين الله أحمد، أمير المؤمنين، وباقى نسبه قد تقدم. أمه أم ولد. بويع يوم عيد الفطر، وجلس للخلافة ثانيه، وعليه ثياب البياض وطرحة، وعلى كتفه البردة النبوية، وهو جالس فى شباك القبة، والوزير قائم بين يديه، وكذلك أستادار، وهما يأخذان البيعة على الناس، ونسخة المبايعة؛ يقول: «بايع سيدنا ومولانا المفترض الطاعة على جميع الأنام أبا نصر محمد الظاهر بأمر الله على كتاب الله وسنة نبيه ورسوله-صلى الله عليه وسلم-واجتهاد أمير المؤمنين، وأن لا خليفة سواه فى مشارق الأرض ومغاربها». وكان الوزير والأستادار وأرباب الدولة قد توجهوا إلى بيت النوبة نهار العيد، وجلسوا للعزاء وقراءة القرآن. وتكلم محيى الدين بن الجوزى. ثم توجهوا جميعا إلى

جامع القصر، وصلوا صلاة العيد. ثم خطب بعد الصلاة، ودعى للإمام الظاهر. ولما كان نهار الثلاثاء، دخل من تخلف عن البيعة، وتكلم محيى الدين بن الجوزى، ودعا للإمام الظاهر. ثم أذن للشعراء فى إنشاد المراثى التى صنعوها فى الإمام الناصر، والتهانى بالإمام الظاهر. ولبس كافة أرباب الدولة ثياب العزاء، وكذلك الزعماء والمماليك والولاة. ورفع القضاة والمدرسون ومشايخ الرباطات الطيالس والطرحات. ثم قرئ على الناس فى الجامع توقيعا نسخته: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} «اعلموا أيها الناس-رحمكم الله-أنه حيث توفى الله تعالى الإمام السعيد الناصر لدين الله أمير المؤمنين إلى فسيح جناته، وأفاض عليه ملابس رحمته ورضوانه، بعد أن جاهد فى الله حق جهاده، وأدى الأمانة فى بلاده وعباده، استخلف عليكم أشرف مستخلف، وأبرّ خليفة وأرأف، فنصح الأمة فى اختياره، وقام فى استخلافه بواجب شريف نظره واجتهاده. وهو سيدنا ومولانا الإمام الظاهر بأمر الله أمير المؤمنين، ولد سيدنا ومولانا الإمام المفترض الطاعة على جميع الأنام، الناصر لدين الله أمير المؤمنين، لا زالت أوامره مطاعة فى جميع أقطار الآفاق، مستعلية على السبع الطباق، بأن ينادى فى جانبى مدينة السلام بالإفاضة بالعدل والإحسان، فى عموم الرعايا بالطول والامتنان، وكف كل يد عادية عن الظلم والعدوان، وإزالة ما أحدثه عمال السوء، ولبسوا فيه من الموّن والتقسيطات، والطروح والتأويلات، فليقبلوا هذه الرحمة العميمة، وليؤدوا حق هذه النعمة الجسيمة، ولتشكروا الله على ما منحكم به فى هذه الأيام التى هذا عنوان شريف مراحمه، ومبادئ عواطفه المقدسة ومكارمه؛ ثم أخلصوا الأدعية فى دوام دولته، والثبات على مفترض طاعته، وصلى الله على سيدنا محمد النبى وآله الطاهرين وسلامه».

وقرئ بعد ذلك فى الأسواق، ونثر عليه الفضة والذهب، وارتفعت الأصوات بالأدعية. وفى يوم السبت ثالث عشر شوال وصل رسول الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، معزيا بالإمام الناصر، ومهنيا بالإمام الظاهر، وهو الوزير ضياء الدين أبو الفتح نصر بن الأثير الجزرى، وأدّى الرسالة بين يدى الوزير مؤيد الدين بن العلقمى، نسختها: «بسم الله الرحمن الرحيم، العبد يقوم بعذره قبل قوله، فإن هذا المقام مقام مهابة، لا تجد الخواطر فيه شبحا، فإذا بلغ البليغ جهده، كان قصاراه أن يسأل صفحا-ثم أشار بيده إلى الوزير مؤيد الدين يقول: إن كان لا يرضيك إلاّ محسنا … فالمحسنون إذا لديك قليل عبد الديوان العزيز النبوى، لؤلؤ، يعزّى نفسه خاصة، والمسلمين كافة، بفقد من الإسلام له فاقد، ومن لم نشك الوحدة لمصليه إلاّ إلى واحد، وهو سيدنا ومولانا الإمام الناصر لدين الله، أمير المؤمنين، الذى التفت الأرض منه على سجى ثراها، ومسك عراها، ونادى سنّة العدل والإحسان كما أن الله يراها، فأى سحاب يصب عنها سبل مواهبه، وأى جبل حفت جنوبها لمزايلة مناكبه، لكن تلافى الله تعالى بقيام ولى عهده من بعده، سيدنا ومولانا الإمام الظاهر بأمر الله أمير المؤمنين، فعطف الله هذه النعمة على تلك البؤسى، وأنست من كلمها الذى لولاها لما كان يوسى. وفى الحى الميت الذى غيّب الثرى فلا أنت مغبون، ولا الدهر غابن، وما من أحد إلا فاستبدل عزاءه بهنائه، ورأى عمود الإسلام قائما بعد هدم بنائه، وعلم أن الدهر أذنب ثم اعتذر، وقال هذه الشمس طالعة إذ غيّب القمر، وأشبه لديه رتق هذا الفتق برتق فتق أبى بكر بعمر. وقد حضر العبد نائبا عن مرسله فى إعطاء صفقة يمينه وثمرة قلبه، أخذا بقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ}

{أَيْدِيهِمْ»} ولو حضر البيعة سعد لرأى مطلعها سعدا، ولم يجد من الدخول فيها بدّا، ولما غم فى قطيفته غما، ونأى عن دار قومه بعدا، فهى أخت بيعة الرضوان، دائمة الشرائط المشروطة وعقود الأيمان، والموكب الذى التجأه بين صفوته وعيانه، ومطية النجاة بين صهوة وعنان. وللسابق فى مثل هذا المقام فضيلة سبقه، كما أن للصادق مزية صدقه، وكلاهما مجموع لمرسل العبد فى الفوز بقصب المضمار، والذى إسراره كإعلانه، وقليلا ما يستوى حالتا الإعلان والإسرار. ولئن غاب عن الحضور بنفسه فهو فى عداد من حضر، والتعويل إنما هو على صدق النية التى أثرها هو الأثر. قال النبى صلى الله عليه وسلم: «إن وراءكم قوما بالمدينة ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم». فليعول الديوان العزيز على القوى الأمين، وليضنّ به وإنما يضن بالضنين». وفيها توفى الملك الأفضل نور الدين على بن السلطان صلاح الدين. توفى بسميساط فجأة، فى شهر صفر. ونقل إلى حلب ودفن بها. وعمره يومئذ سبع وخمسين سنة. وملك بعده سميساط أخوه الملك المفضل قطب الدين موسى. ومن كتاب «جنى النحل»، قال صاحبه: حضرت يوما بمدينة سميساط، وملكها يومئذ الملك الأفضل نور الدين على بن السلطان صلاح الدين، وهو يعرض جيشه، وأنا جالس معه، فنظر إلى صبى تركى حسن الشباب، وهو لا بس الزّرد، فقال لى: قد قلت فى هذا شئ على البديهة، وأنشد: وذى قلب حديد ليس يقوى … على هجرانه القلب الجليد تدرع للورى درعا فأضحى … وظاهره وباطنه حديد ومن شعره أيضا: يا من يسّود شعره بخضابه … لعساه من أهل الشبيبة يحصل ها فاختضب بسواد حظى لحظة … ولك الأمان بأنه لا ينصل

وله فى المعنى: أى صديق سألت عنه ففى ال‍ … خمول وتحت الذل فى الوطن وأى ضد سألت عنه … سمعت ما لا تحبه أذنى ومن كتاب «جنى النحل» أيضا، قال: إن بمدينة الرّها باب من جملة أبواب المدينة، يعرف بباب إقساس، متى فسد عندهم الشراب وصار خلاّ يدخلون به من ذلك الباب، فيعود شرابا كأحسن مما كان. وقال إن الملك كيكاوس السلجوقى -المقدم ذكره مع رسول نور الدين الشهيد-قال: دخل إلينا إلى الروم فى وقت رجل ادعى أنه نبى، فقيل له: «ما علامة قولك وبيانه؟» قال: «أقيم اليوم والعشرة بغير أكل ولا شرب، وأظل عند ربى يطعمنى ويسقينى». فامتحنوه، وتركوه عشرة أيام بغير زاد ولا شراب فى بيت عريانا، ثم أخرجوه وهو كأصح ما يكون. فتعجب الناس منه، وتبعه قوم كثير، واعتقدوه. ثم إنه فتش فوجد معه خاتم فى أصبعه بوفق قد صنع، فانتزع منه الخاتم، فاستغاث الجوع العطش. وكان السر فى خاصيّة الخاتم. ومن ذلك أن الملك كيكاوس المذكور، كان قد حضر إليه ناصر الدين ابن أبى النجيب، وكان من الحكماء الكبار يعرف خواص الطلسمات، فأدناه منه وقربه إليه، حتى عاد يدخل على الحريم بطريق الطب. فهو يته حظية من حظايا السلطان المذكور، فوشى به للسلطان، وتحقق أمره. وحملت الجارية منه، فأمر السلطان بقتلها وقتله. فأما الجارية فإنها قتلت لوقتها، وأما ناصر الدين فإنه ضرب بالسيف فلم يعمل فيه شئ، ثم ضرب بالسكاكين فلم تعمل فيه. ورأى نفسه أنه يجد الألم ويعذب، ولا بد من موته، فأمرهم أن يأخذوا من شعره حرزا مشمعا صغيرا محروزا عليه. فلما أخذوه وقع لوقته ميتا. وكان ذلك الحرز يمنع السيف أن يعمل فيه، والله أعلم. وفيها توفى جعفر بن شمس الخلافة الشاعر، نسبته إلى الأفضل شاهنشاه أمير الجيوش، المقدم ذكره فى دولة الفاطميين. وكان فاضلا أديبا شاعرا. وله تواليف وديوان شعر، فمن ذلك قوله:

هى شدة يأتى الرخاء عقيبها … وأسى يبشر بالسرور العاجل وإذا نظرت فإن يوما زائلا … بالبؤس خير من نعيم زائل وله فى الوزير شكر: مدحتك ألسنة الأنام مخافة … وتشاهدت لك بالثناء الأحسن أترى الزمان مؤخرا فى مدتى … حتى أعيش إلى انطلاق الألسن وحكى عنه أنه أصابته ضائقة شديدة فى أيام السلطان الملك العادل أبو بكر ابن أيوب، فعمل قصيدة هجا بها الملك العادل وولده الكامل، أولها يقول: يا ظالما لقّب بالعادل … ويا ناقصا لقّب بالكامل أهلكتما كل جميع الورى … لا عشتما دهرا إلى قابل وهى طويلة، وفيها سب قبيح فى مثل تلك الملوك الحسان، أضربت عنها. وكتبها، وأتى بها إلى دار الوزارة بالقاهرة. قال: وأعطيتها إلى الطواشى صواب العادلى، وكان يومئذ أستادار السلطان، فجعلها فى جملة القصص، فدخل بها إليه فقرأها السلطان، وجعلها تحت فخذه إلى أن قام من مجلسه، وقد صار وقت الظهر، وخرج جميع الناس من بين يديه. فسير من كشف أمرى، فوجدنى جالسا أنتظر الجواب بما يكون، فاستدعانى، فدخلت عليه، فقال: «هذا نظمك؟». قلت: «نعم». قال: «فما حملك على هذا؟». فقلت: «الفقر والفاقة، إما تقتلنى فأستريح، وإما أن تشملنى صدقاتك». قال: فأمر لى بمائة دينار. فقلت: «ولا بد من مركوب». فأمر لى ببغلة. فخرجت من بين يديه. ثم خطر ببالى الزيادة. فقلت للطواشى: «أعدنى إليه». فشاور علىّ فدخلت عليه. فقلت: «لم يشملنى إنعام السلطان بقوت العائلة». فأمر لى بخمسين أردب قمح. قلت: «وعليق البغلة»، فأمر بعشرين أردب شعير. فخرجت، ثم قلت للطواشى: «أريد العودة إليه». فقال الطواشى: «أظنك مجنون، ورب الكعبة». فقلت: «لا بد من العود إليه». قال: فدخلت عليه ثالثة، فقلت: «لا بد من خلعة

أكمد بها العدو، وأسر بها الصديق». فقال: «أما هذا فلا تسمع الناس أنك هجوتنا ونخلع عليك». قلت: «فليكن هذا الإنعام الذى تصدق به السلطان مقررا راتبا فى كل سنة». فقال: «أولا تعيش لذلك. لكن احضر لنا مسودة هذه القصيدة التى أحسنت فيها وتفضلت». فقلت: «ليس لها مسودة، إلا حفظى لها بلسانى». فقال: «قطعه الله». ثم خرجت من بين يديه وقبضت جميع ذلك. وهذا مما يعتد به من حلم الملك العادل، رحمه الله. وفيها فتح السلطان جلال الدين الخوارزمى مدينة تفليس. وهذه كرسى مملكة الكرج. وعجز عن فتحها سائر الملوك المتقدمة من آل سلجوق وغيرهم، من حيث غلبت عليها الكرج. وكان الكرج لما افتتحوها أبقوا من بها من المسلمين. فلما قوى سلطان جلال الدين وتتبع الكرج وقتلهم بكل مكان، طلب تفليس، وافتتحها عنوة بالسيف، بمساعدة من كان بها من المسلمين، وقتل جميع من كان فيها من الكرج. وفيها كانت الوقعة بين عسكر جلال الدين وبين عسكر الملك الأشرف موسى. وكانت النصرة لجماعة الأشرف، ومقدمهم حسام الدين على الحاجب.

ذكر سنة ثلاث وعشرين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثلاث وعشرين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنى عشر أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام الظاهر بأمر الله أمير المؤمنين، إلى أن توفى فى هذه السنة-حسبما يأتى من ذكر ذلك فى تاريخه. والسلطان الملك الكامل بحاله. وكذلك الملوك إخوته-حسبما تقدم من ذكرهم. والسلطان جلال الدين سلطان الشرق، والحروب بينه وبين التتار سجال. وفى ربيع الآخر وصل القاضى محيى الدين بن الجوزى، والأمير سيف الدين ألب رسلان، رسلا من جهة الإمام الظاهر بأمر الله، ولقيهم السلطان الملك الكامل من القصير الذى بظاهر القاهرة، وضرب له مخيم، وجلسوا فيه، واجتمع الناس، وكان يوما مشهودا. وقرأ ابن الجوزى التقليد، وألبس السلطان الفرجية المذهبة، والجبة والعمامة السوداء، وطوق ذهب مرصع بالجواهر الثمينة. وقلد بسيف محلى مرصع، وعلم مذهب. وقدم له حجرة صفراء منعلة بذهب، وعدتها جميعها ذهب عين مصرى مرصع. وقومت الخلعة بعد ذلك بخمسين ألف دينار. وخلع على أولاده، الملك المسعود والملك الصالح، وقلدوا، ومنطقوا، وعلى جماعة من أعيان الدولة. وفى جمادى الآخرة زوّج السلطان الملك الكامل ابنته من ابن صاحب الروم. وفى سابع عشر شعبان خرج السلطان متوجها إلى الشام. ثم عاد إلى القاهرة، ولم يتعد بلبيس. وكانت عودته سابع وعشرين رمضان المعظم.

وفيها توفى الإمام الظاهر بأمر الله. وعمل السلطان عزاءه فى بركة الحجاج، كما يأتى ذكر ذلك فى تاريخه، إن شاء الله تعالى. وفى سابع ذى القعدة سافر الملك المسعود أقسيس إلى اليمن، وودعه والده السلطان الملك الكامل إلى قلعة صدر، ثم توجه إلى ثغر الإسكندرية. وفيها وصل جمال الدين يوسف بن الجوزى رسولا إلى الملك المعظم صاحب الشام، يقول له عن الخليفة: «تخرج عن موافقة هذا الخارجى جلال الدين، ونحن نصلح بينك وبين إخوتك». وكان المعظم قد سير مملوكه إلى السلطان جلال الدين، فرحله عن تفليس، وأنزله على أخلاط. وكان الأشرف على حران، نازل بها. قال أبو المظفر-وكان ابن أخت الشيخ جمال الدين بن الجوزى-: قال لى المعظم: «قلت لخالك جمال الدين، إذا أنا رجعت عن جلال الدين الخوارزمى، وقصدنى إخوتى، تنجدونى أنتم؟. قال: نعم. فقلت: والله ما لكم عادة بنجدة أحد قبلى حتى تنجدونى أنا. هذه كتب الإمام الناصر عندى، ونحن على دمياط فى حرب الإفرنج، وهو الجهاد الأعظم المفترض على كل مسلم-دع أن يكون إمام المسلمين-ونحن نستصرخ به، ونقول: «واغوثاه! أنجدنا! أنجدنا! أدرك الإسلام!»، فيجئ الجواب بعد التوقف، أن قد كتبنا إلى ملوك الجزيرة فلم يقبلوا. ثم قلت له: مثلى معكم كمثل رجل شيخ كبير، كان يخرج وقت السحر ليصلى بالمسجد وفى يده عكاز، خوفا من الكلاب، فقال له بعض أصحابه: «أنت شيخ كبير تحمل هذا العكاز يتعبك حمله». فقال: «إنى أخشى الكلاب». فقال له الرجل: «كن اقرأ سورة يس، واخرج من بيتك، ما يقربك كلب». ثم رآه بعد مدة والعكاز فى يده، فقال: «ألم أعلمك شئ يريحك من حمل العكاز». فقال: «سورة يس أقرأها إذا لقينى كلب يعرف القرآن، وهذا العكاز لكلب لا يعرف القرآن». وأنا فقد اتفق إخوتى علىّ، وقد أنزلت

ذكر خلافة الإمام المستنصر بالله بن الإمام الظاهر بأمر الله

جلال الدين الخوارزمى على أخلاط، فإن قصدنى الأشرف منعه الخوارزمى، وإن قصدنى الكامل كان فىّ-إن شاء الله-له». ثم وقع الصلح بين الأشرف والمعظم، وحضر الأشرف إلى دمشق، وسأل المعظم أن يرحّل الخوارزمى عن أخلاط، فكتب إليه ورحّله. ونزل الثلج، وأقام الأشرف عند المعظم بدمشق. وكان المعظم يلبس خلعة جلال الدين الخوارزمى، ويركب فرسه، ويحلف برأسه فى مجلس ملكه. وكان عند الأشرف من هذا الحال المقيم المقعد، وهو ساكت على مضض، ولا يتكلم. وكانت وفاة الإمام الظاهر بأمر الله يوم الجمعة ثالث عشر رجب الفرد من هذه السنة. وتولى الخلافة المستنصر بالله. توفى الظاهر بأمر الله وله من العمر ثلاث وخمسين سنة كان شبيه بأبيه، ذو طباع خيرة، جميل الذكر، وزيره مؤيد الدين بن العلقمى. قال ابن واصل فى تاريخه فى سيرة الظاهر بأمر الله: ولقد تباعد بينه وبين أبيه الناصر لدين الله تباعدا جدّا فى عدة أمور، منها مدة خلافته وقصرها عن طول خلافة أبيه. ومنها أنه كان فى غاية العدل والإحسان إلى الخلق. وكان أبوه بالضد مريد. ومنها أنه كان فى غاية التعصب لمذهب السنة، وكان أبوه فى غاية التعصب لمذهب الروافض. ومن كلامه يقول: «ليس غرضنا أن يقال يرد مرسوم أو تقدم مثال، ولا يبين له أثر، بل أنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال». مدة خلافته تسعة أشهر وأربع عشر يوما. ذكر خلافة الإمام المستنصر بالله بن الإمام الظاهر بأمر الله هو أبو جعفر المنصور بن محمد الظاهر بأمر الله، وباقى نسبه قد تقدم. أمه أم ولد، يقال إن اسمها غريب. بويع له عند وفاة أبيه-رحمه الله-فكانت خلافته سبع عشرة

سنة، إلى أن توفى فى تاريخ ما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى. قال تاج الدين ابن الساعى-رحمه الله-فى تاريخه: حضرت مبايعة المستنصر بالله-وقيل المستظهر بالله-وقد حضر أهل العقد والحل من القضاة والعلماء والفقهاء والوزراء والأمراء. ولما رفعت الستارة، شاهدته وقد كمّل الله صورته ومعناه، وحسّن باطنه وظاهره ومحيّاه. قال: فخطر لى فى الحال أبيات الحسن بن هانئ، وهى: رفع الحجاب لنا فبان الناظر … قمر تقطع دونه الأوهام ملك أغر إذا شرفت بوجهه … لم يروك التبجيل والإعظام والدهر مشتمل بنور خليفة … لبس الشباب بعدله الإسلام داوى بها الله القلوب من الجوى … حتى شرعن وما بهن سقام

ذكر سنة أربع وعشرين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة أربع وعشرين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين. والوزير مؤيد الدين بن العلقمى. وسلطان مصر الملك الكامل ناصر الدنيا والدين محمد بن السلطان الملك العادل. وصاحب دمشق والكرك وعجلون-مع الشام-الملك المعظم عيسى بن العادل. وصاحب الشرق-أخلاط وحران والرّها وسنجار-الملك الأشرف أخوهما. وصاحب ميافارقين وأعمالها شهاب الدين غازى بن الملك العادل أيضا. وصاحب قلعة جعبر وأعمالها-وما ينسب إليها-الحافظ أرسلان شاه. وصاحب بصرى وأعمالها-وما هو منسوب إليها-الصالح إسماعيل أبو الخيش. وسلطان الروم علاء الدين كيقباذ السلجوقى بن كيخسرو السلجوقى. وصاحب الموصل وجزيرة ابن عمر الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ النورى. وسلطان العجم جلال الدين منكبرتى بن السلطان علاء الدين خوارزم شاه. وصاحب بعلبك الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فرخشاه بن أيوب. وصاحب حمص الملك المجاهد أسد الدين شير كوه. وصاحب حماه الملك الناصر بن الملك المنصور، المقدم ذكره. وملك التتار جكزخان، وهو يتجهز الجيوش لحرب جلال الدين. وصاحب اليمن والحجاز الملك المسعود أقسيس بن الملك الكامل. وصاحب المغرب أبو يعقوب بن عبد المؤمن، المقدم ذكره فيه. وفيها وسّع السلطان الملك الكامل على جميع المدارس، وجميع الرباطات والخوانق. وجعل فيهم سماطات تمد، وأطلق لكل فقيه الخبز واللحم والحلوى والسكر.

وفى شهر شوال من هذه السنة كان طهور الملك العادل بن السلطان الملك الكامل. وركب السلطان وجميع العسكر، ومدّ سماطا عظيما بالميدان الذى تحت القلعة. ثم توجه السلطان إلى ثغر الإسكندرية فى ذى القعدة. وفيها قدم رسول الأنبرور ملك الإفرنج على الملك المعظم صاحب الشام، بعد اجتماعه بالملك الكامل، بطلب الفتوح الصلاحى. قال أبو المظفر: وأغلظ له المعظم فى الجواب، وقال: «قل لصاحبك ما أنا مثل الغير ما له عندى إلا السيف». وفيها كانت الوقعة بين التتار وبين السلطان جلال الدين. وكان أولاد جلال الدين وحريمه بتبريز. وبلغه أن التتار قاصدين أصبهان، فخشى على أولاده وحريمه، وقصد ردهم عن مقصدهم، فوصل إلى أصبهان، وأزاح أعداد الناس من العدد والسلاح. ثم جرد أربعة آلاف فارس إلى مدينة الرىّ ودامغان برسم الترك الذين هناك، فكانت الأخبار تصل من جهتهم يوما بعد يوم، وهم يتأخرون، والتتار يتقدمون، إلى أن وصلوا إلى عند السلطان جلال الدين، وأخبروه بذلك، وعرفوه بما فى عسكر التتار من الفرسان والشجعان، مثل ياجى نوين، واسطمغان، وجنكز نوين، وأرشاق بغان، وغيرهم. وهؤلاء المذكورين كانوا جمرة التتار الوقادة، وصاعقتهم المحرقة. ثم وصل التتار المذكورون فى جموع كثيفة، ونزلوا شرقى أصبهان. وكان المنجمون قد أشاروا على السلطان جلال الدين بمصابرتهم ثلاثة أيام، بعد نزولهم، ويكون الملتقى فى اليوم الرابع. فلزم البلد يترقب مضى

الثلاثة أيام. وكان الناس اضطربوا اضطرابا عظيما، وكثر انزعاجهم من التتار، والسلطان يظهر قوة النفس، وشدة البأس. ثم إنه استحلف جيوشه أنهم يختارون الموت على الحياة، ولا يولون الأدبار، ثم حلف هو أيضا كذلك، تبرعا منه وإحسان. ثم إنه عيّن لهم يوم المصاف، وأحضر قاضى أصبهان ورؤساءهم، وأعرض الرجال من عامة أصبهان، وفرّق عليهم العدد. وهؤلاء أهل أصبهان لا يقاسون بغيرهم من أهل الأقاليم، لما فيهم من الشجاعة والشدة وقوة البأس. ولما رأى التتار أن السلطان أبطأ عنهم، وتقاعد عن خروجه إليهم، ظنوا أنه امتلأ منهم رعبا وخوفا، فجردوا ألفى فارس منهم إلى الجبال، ليجمعوا لهم ما يمونهم للحصار، فدخلوا الجبال التى فى أعمال أصبهان. فبلغ السلطان جلال الدين ذلك، فجرد خلفهم ثلاثة آلاف فارس، يأخذون عليهم فم المضيق. فلما انصرفوا من المغارة، واقعوهم. ونصر الله الطائفة الإسلامية عليهم، وقتلوا منهم جماعة، وأحضروا منهم أسرى، فسلموا منهم جماعة للقاضى، فقتلوهم فى شوارع المدينة، وضرب السلطان رقاب بقيتهم بين يديه فى صحن الدار، وجروهم إلى ظاهر المدينة. فلما كان اليوم الرّابع خرج السلطان، ورتّب الجيوش للمصافّ. فلما تراءى الجمعان، خذله غياث الدين أخوه، وفارقه بجيشه، وتبعه جهان بهلوان، لوحشة حدثت فى تلك الساعة. وتغافل السلطان عنه. وامتدّت عساكره، ووقف التتار أطلابا متفرقة مترادفة قبال السّلطان. وكان عسكره أضعاف التتار، وتباعد ما بين الميمنة والميسرة، حتى عاد لا يعرف حال الواحدة من الأخرى. ثم حملت ميمنة السلطان على ميسرة التتار، فشالوها شيلا، وانهزمت التتار بين أيديهم، وكذلك فعلت الميسرة بميمنة التتار. ولم يزل السيف يعمل فيهم إلى المساء. ورأى السلطان انهزام التتار، فترجل وسجد شكرا لله تعالى، ونزل على حافة جرف كان فى المعركة قاطع بينه وبين العدو،

فأتاه أحد أمرائه، وقال: «قد تمنينا دهرا أن نرزق يوما نفرح فيه مثل هذا اليوم. وأنت جالس!». ولم يزل به حتى ركب، وقطع النهر، وكان آخر النهار. فلما شاهد التتار السواد الأعظم، تجرد جماعة من شجعانهم، وكمنوا لهم وقد أجنحت الشمس للغروب. ثم خرجوا على السلطان يدا واحدة، كالنار المحرقة، والصاعقة المبرقة. وكان خروجهم على ميسرة السلطان، فلم يكن بأسرع أن زالت الأقدام وانهزموا. ولم يبق مع السلطان غير ثلاثة نفر، وهم: كوج تكين، وبهلوان، وخان بردى. وقتل من الأمراء أياخان، وكندكين. وماج الفريقان بعضهم فى بعض كالجراد المنتشر. وأسر فى ذلك الوقت علاء الدولة والحاجب الكبير. وثبت السلطان جلال الدين فى القلب، وقد تبدد شمله، وانحل نظامه، وتفرقت جيوشه وأعلامه، وأحاطت التتار به من كل جهة، فصار المخلص من تزاحم الأخلاط أضيق من سم الخياط. ولم يبق معه غير أربعة عشر نفر من خواص مماليكه، فانهزم بعد ذلك وقد طعن طعنة ما سلم منها إلا بحراسة الأقدار وتحصين الأجل. ثم أفرج له المضيق عن سعة الطريق، فمرق من بين الجيوش والأطلاب مروق السهم والنشاب. وتفرقت جيوشه فى الأقطار كل فرقة تطلب إقليما للنجاة، فمنهم من وقع إلى فارس، ومنهم من امتدت به الجفلة إلى كرمان، ومنهم من قصد أذربيجان، ومنهم من دخل أصبهان. وعادت ميمنة السلطان بعد يومين وهم يظنوا أنهم منصورون. والتتار أيضا أكثرهم انهزم، ولا رجع إلا بعد مدة. فلم يسمع بمثلها وقعة لانهزام الفريقين. وهمت عامة أصبهان أن يمدوا الأيدى إلى عورات نساء الخوارزمية وإلى أموالهم، فمنعهم القاضى والرئيس من ذلك. وكان هذا المصافّ فى الثانى والعشرين من شهر

رمضان المعظم من هذه السنة. ثم إن السلطان جلال الدين دخل أصبهان ونجا إليها متحصنا فلم يبلغوا فيها أرب، فتوجهوا إلى خراسان، فوجدوا قافلة فيها جماعة من التجار بأموال جمة، فأخذوها وأطلقوا التجار من غير قتل، وقاموا يخربون ويأسرون من وجدوه. وفيها توفى الملك المعظم عيسى صاحب دمشق-كما يأتى ذكره فى تاريخه. وبعد هذه الوقعة جهز جكزخان طائفة من التتار إلى خوارزم. وكان أهل خوارزم رجال شجعان لا يعرفون الموت، فنزل التتار عليها، وأقاموا بقية هذه السنة يحاصرونها، وقتل من الفريقين عالم عظيم. وكان القتل فى التتار أعم وأكثر. وأقاموا عليها خمسة أشهر. فلما عجزوا عن أخذها بعثوا إلى جكزخان، فأنجدهم بعسكر كثيف، وفيهم من أهل البلدان عالم عظيم. ثم إنهم زحفوا على البلد يدا واحدة فأخذوها، وقتلوا جميع من كان بها، ونهبوها. وفتحوا الجسر الذى كان يحجب جيحون عنها، فغرقت. وتوفى الملك المعظم شرف الدين عيسى-رحمه الله-فى شهر ذى القعدة من هذه السنة، وله من العمر على ما ذكر سبع وأربعين سنة. وكانت مدة ملكه لدمشق-استقلالا بعد أبيه العادل-تسع سنين وشهورا. وكان رحمه الله ملكا جليلا شجاعا مقداما. وكانت مملكته ما بين حمص وعريش مصر. وكان عسكره قريب أربعة آلاف فارس، ولم يكن عند أحد من إخوته جند مثلهم فى فرط تجملهم وحسن زيهم. وكان بهذا العسكر القليل يقاوم إخوته. وكان الملك الكامل يخافه ويتحاماه لميل عسكره إليه ومحبتهم له. وكان كثير التواضع جدّا يمشى وحده بغير طرادين، إذا فعل فعلا كان بغير تكلف حتى ضرب به المثل فيقال: معظمى بلا كلفة.

وكان شيخه فى الفقه الشيخ جمال الدين الحصرى. وكان سائر ملوك بنى أيوب كلهم شافعية، وانفرد هو من بينهم بالانتماء إلى مذهب أبى حنيفة. وقال له والده ذات يوم فى ذلك ولامه، فقال لأبيه على سبيل المداعبة: «ياخوند ما ترضون أن يكون فيكم رجل واحد مسلم».

ذكر سنة خمس وعشرين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة خمس وعشرين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وتسعة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا، وعشرون أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين. والملوك حسبما تقدم من ذكرهم فى السنة التى قبلها. وفى يوم الأحد تاسع عشر شعبان، سافر السلطان الملك الكامل إلى الشام، واستناب ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب، وركب بالسناجق والسيوف المجدية فى دست المملكة، فى يوم الخميس سلخ شعبان المكرم. وفى عشية السبت حادى عشرين شوال، سافر الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، وصحبته رسول الأنبرور ملك الفرنج. هذا والسلطان الملك الكامل مخيّم على تل العجول. وفيها كانت وقعة السلطان جلال الدين مع التتار. وذلك أن التتار لما فرغ أمرهم من خوارزم، تجهز منهم جيش عظيم إلى غزنة، وقد كان السلطان جلال الدين انتقل من أصبهان إليها، واجتمع إليه الجيوش بها. فلما وصل التتار إليه، خرج فى ستين ألفا ممن اجتمع إليه من مماليكه وخواصه، وممن يعتمد عليه. وكانت عدة التتار الواصلين إليه عشرون ألفا، فالتقاهم بأرض تعرف بتلف، وهى أرض وطئة فاقتتلوا هناك قتالا شديدا مدة ثلاثة أيام. ونصر الله الإسلام على الكفرة اللئام، عبّاد التماثيل والأصنام، وانكسرت التتار، وقتل منهم فى هذه النوبة جماعة

من الكبار. وعاد المنهزمون إلى جكزخان، وهو نازل على طالقان. فعند ذلك جهز ولده توسيخان-وقيل بل تولوخان-بعساكر كثيفة من المغل من عظم ألب قرا أرسلان، فوصلوا إلى كابل وهى بلد العجم. وتوجه إليهم السلطان جلال الدين وضرب معهم مصافا عظيما، واقتتلوا أشد قتال. ثم إن السلطان جلال الدين حمل بنفسه على القلب الذى كان فيه تولوخان بن جكزخان، فبدد شمل القلب، وقتل تولوخان فى هذه النوبة، وانكسرت التتار كسرة عظيمة، لم يكسروا مثلها من قبل ذلك اليوم، وغنم المسلمون أموالهم وخيولهم. وكانت نوبة عظيمة على التتار، لم يمرّ بهم منذ خرجوا من بلادهم أشنع منها. ثم اختلف المسلمون وتفرقت كلمتهم. وسبب ذلك أنه كان من ملوك المسلمين فى جيش السلطان جلال الدين ملك يعرف ببلغاق، وكان تركيا شجاعا مقداما فى الحروب، وله مع التتار عدة وقعات ينتصر فيها عليهم. وكان قد فعل فى هذه النوبة فى التتار ما لا تفعله الجبابرة الجاهلية الأولون. وكان فى المسلمين أيضا ملكا آخر كبير القدر يقال له ملك خان. وكان بينه وبين السلطان جلال الدين حشائف قديمة، فإنه كان صاحب هراة وملكها، فأخرجه جلال الدين منها، وصار فى جملة جيشه. فاختلف هذان الملكان لأمر يريده الله تعالى، ولسعادة التتار على كسب كان من التتار. وقوى الأمر والشر بينهما حتى اقتتلا، وقتل بينهما جماعة كبيرة. وقتل فى الجملة أراق أخو الملك بلغاق التركى. وعجز السلطان جلال الدين أن يوقف بينهما، وقال: «بلغاق يقتل أخى على سحت الدنيا»، وغضب وفارق جلال الدين، وسار إلى الهند فى ثلاثين ألف فارس، فأضعف المسلمين. فركب السلطان جلال الدين واسترضاه بكل ما أمكنه، فلم يقدر على رده، وفارقه. ووردت الأخبار

على جلال الدين أن جكز خان لما بلغه قتل ولده تولوخان، رمى سرقوجه إلى الأرض، وركب بنفسه فى سائر جموع التتار، وقصد نحوه فى خلق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى. فلما علم جلال الدين ذلك، وتحقق ضعفه عن ملتقاه، سار إلى نحو ماء السند، وكانت الوقعة العظيمة بينهما. وانكسر فيها جلال الدين وغاب فيها خبره. أجمعت الرواة من أرباب التواريخ أن السلطان جلال الدين ضرب مع التتار فى مدة ستة عشر سنة أربعة عشر وقعة، لم ينكسر فيها غير مرتين، والثالثة التى عدم فيها، حسبما يأتى من ذكرها إن شاء الله تعالى.

ذكر سنة ست وعشرين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ست وعشرين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة أصابع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين. والوزير ابن العلقمى بحاله. والسلطان الملك الكامل مخيم بتل العجول. والملك الصالح نجم الدين أيوب نائبا عن أبيه بالديار المصرية، وولده الملك العادل يوقع فى الأموال. وفى شهر المحرم كانت المراسلة بين السلطان الملك الكامل وبين الأنبرور. قال ابن واصل: اسمه الأنبرطور وتفسيره بالعربى ملك الأمراء، ومملكته جزيرة صقلية، ومن البر الطويل بلاد أنبولية والأنبردية، ملك الإفرنج. وفى شهر صفر وصل صاحب حمص إلى خدمة الملك الكامل، بتل العجول. وفى شهر ربيع الأول تقرر الصلح بين السلطان الملك الكامل وبين الأنبرور ملك الإفرنج، وتسلم القدس الشريف-حسبما يأتى من ذكر ذلك-وشرط أن يكون فى المسجد الأقصى الخطيب والإمام والمؤذن، ويقام فيه الجمعة والصلوات الخمس فى كل يوم. وكان لما توفى الملك المعظم، رحمه الله، وقام بالملك بدمشق الملك الناصر داود ولده، بعث الفخر بن بصاقة إلى الملك الأشرف عمه يستدعيه إليه خوفا من الكامل. وكان الأمير عز الدين أيبك أستادار-المعروف بصاحب صرخد، جدنا-قال للناصر داود-لما جلس-بطريق النصيحة: «دارى عمك الكامل واستعطفه، ولا تبعث إلى الأشرف، وداوى الأخطر». فخالفه فى ذلك، وحضر الأشرف، ونزل بستانه، وقال للناصر: «أنا أمضى إلى الكامل وأصلح حالك معه». وحضر الأشرف فوجد الكامل قد أعطى الأنبرور القدس، فشق عليه ذلك أمر عظيم،

وعتب الملك الكامل فى ذلك، فقال: «ما أحوجنى إلى ذلك إلا المعظّم، فإنه أعطى الأنبرور من الأردن إلى البحر، والضياع التى من باب القدس إلى يافا، فاحتجت أنا أن أعطيه القدس أيضا». ووصلت الأخبار إلى سائر بلاد الإسلام أن الملك الكامل أعطى القدس للإفرنج، فقامت الدنيا على ساق واحد، وعظم ذلك على سائر المسلمين، وأقاموا المآتم. وكان الملك الناصر داود منحرفا عن الأمير عز الدين أيبك صاحب صرخد، فتركه وقدم على السلطان الملك الكامل وهو على تل العجول. وكان عزمه العود إلى مصر. فلما أتاه الأمير عز الدين أيبك المشار إليه، قال: «قد جاءنى مفتاح الشام» وأقبل عليه، وأعطاه عشرة آلاف دينار. وجمع رأيه على السّير إلى دمشق، فتوجه إليها، واحتاطت العساكر بها من كل جهة. وقبض الناصر على الفخر بن بصاقة وابن عمه، ورماهما فى الجب. وكان قد اتهم الفخر بالأشرف، وأنه واطأ على الملك الناصر. وفيها دخل الأنبرور ملك الفرنج إلى القدس الشريف، وجرى له فيها عجائب، منها أنه لما دخل الصخرة رأى قسيسا جالسا عند الصخرة عند القدم، يأخذ من الفرنج القراطيس، فجاء إليه كأنه يطلب منه الدعاء، ثم لكمه رماه إلى الأرض، وقال له: «يا خنزير، السلطان قد تصدق علينا بزيارة هذا المكان، وتفعلوا فيه هذه الأفاعيل القباح! إن عاد منكم أحد إلى هذا الفعل قتلته». قال أبو المظفر: حكى لى قوّام الصخرة، قال: نظروا إلى الكتابة التى على الصخرة، وهى: «طهر هذا البيت المقدس صلاح الدين من المشركين». فقال: «ومن هم المشركين؟». ثم قال للقوّام: «ما هذه الشبابيك التى على أبواب الصخرة؟» قالوا: «تمنع العصافير». فقال: «قد أتى الله إليكم بالخنازير». وقالوا عنه أيضا: ولما أتى وقت الظهر أذّن المؤذنون، فقام هو ومن كان معه من جماعته، فصلوا. وكان معلمه الذى أتى معه

من صقلّية، يقرأ عليه المنطق، وقيل إنه كان مسلما فى الباطن. وكان الأنبرور من صفته أنه أشقر، أمعط، أعمش، لو كان عبدا ما ساوى سبعين درهما. وقيل إنه كان دهريا، وإنما كان يتلاعب بالنصرانية. قال أبو المظفر: وكان السلطان الملك الكامل قد أمر القاضى شمس الدين قاضى نابلس بأن يقول للمؤذنين-ما دام الأنبرور فى القدس-لا يصعدوا المنابر، وإنما يؤذنون فى الحرم. فسها القاضى عن ذلك، ولم يقل للمؤذنين شيئا. فصعد فى تلك الليلة عبد الكريم المؤذن-وكان حسن الصوت لذيذ النغمة-وسبّح وقت السحر، وجعل يقرأ الآيات المختصة بالنصارى، مثل قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ»}. وقوله تعالى: {مَا اِتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ»}، وما أشبه ذلك من الآيات الشريفة. فلما طلع الفجر أذّن ونزل، فاستدعاه القاضى وقال: «يا عبد الكريم ماذا الذى صنعت؟ السلطان رسم بكيت وكيت». فقال: «ما عرفتنى بشئ. والتوبة». فلما كانت الليلة الثانية لم يصعد عبد الكريم المئذنة، ولا تكلم. فلما كان باكر النهار، طلب الأنبرور القاضى، وقال: «يا قاضى أين ذاك الذى كان البارحة وذكر ذلك الكلام الحسن؟». فقال: القاضى: «مرسوم السلطان لنا بكيت وكيت». وعرفه ما وقع من السهو فى ذلك. فقال الأنبرور: «لقد أخطأ يا قاضى. تغيرون أنتم شعائركم وشرعكم ودينكم لأجلى؟. فلو كنتم عندى فى بلادى كنت أبطل ضرب الناقوس لأجلكم؟ الله لله لا تفعلون ذلك». ثم إنه فرق على القوام والمؤذنين والمجاورين جملة كبيرة، وطلب عبد الكريم المؤذن وأعطاه مائة دينار. ولم يقم بالقدس غير ليلتين، وعاد إلى يافا، وخاف من الديوية، فإنهم أرادوا قتله.

قال ابن واصل فى تاريخه: أن لما تسلم الأنبرطور القدس الشريف رسم الملك الناصر داود لشمس الدين سبط الشيخ جمال الدين بن الجوزى أنه يصعد المنبر ويعزى الناس على عهد الكامل بسبب تسليمه القدس للفرنج، ليجتمع الناس على معاضدة الناصر داود على عمه الملك الكامل. قال: فصعد وجلس للوعظ، وذكر مناقب صلاح الدين فى تطهيره للقدس الشريف من الفرنج، ولوّح بما صار إليه فى ذلك الوقت وأنشد قصيدة، منها يقول: على قبة المعراج والصخرة التى … تفاخر ما فى الأرض من صخرات مدارس آيات خلت من تلاوة … ومنزل وحى مقفر العرصات قال: فلم ير ذلك اليوم إلا باك وباكية. وفيها اشتد الحصار على دمشق وألجأت الضرورة أن الناصر داود خرج الى عمه السلطان الملك الكامل، وأعطاه الكرك وعجلون والصلت ونابلس والقدس وقلعة الخليل، صلوات الله عليه، وأخذ منه الشوبك. وتسلم السلطان الكامل دمشق فى شهر ربيع الأول من هذه السنة. ثم سار السلطان إلى مدينة حماه وانتزعها من الناصر قليج أرسلان، وأعطاها لأخيه الملك المظفر تقى الدين محمود، وهو شقيق الناصر قليج أرسلان، وهما أبناء أخت السلطان الملك الكامل، ولدى الملك المنصور محمد بن تقى الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب. وفيها توجه الملك الناصر داود بن الملك المعظم عيسى بن الملك العادل أبو بكر ابن أيوب إلى الكرك، وأقام الأشرف موسى بدمشق، وملكها له أخوه، فدخل عليه ابن عنين الشاعر وامتدحه. فلم يتفق عنده كما كان عند المعظم. وكان

ابن عنين هجاء خبيث اللسان، فشرع يفعل عنده ما كان يفعله فى مجالس المعظم، فنهره الأشرف، فخرج من عنده مكسورا فقال: وكنا نرجّى بعد عيسى محمدا … لينقذنا من شدة الضّرّ والبلوى فأوقعنا فى تيه موسى كما ترى … حيارى فلا منّ لديه ولا سلوى فبلغ الأشرف، فغضب، وأمر بقطع لسانه. فدخل عليه جماعة، فحلف لا بد من قطع لسانه، فحلفوا له أنه لم يقل هذا، وإنما الأعداء تقوّلوا عليه. فقال الأشرف: «هذا ما يسلم أحد من خبث لسانه، ولا بد من قطعه». فهرب ابن عنين إلى بلاده بزرع وحوران، وتغافل الأشرف عنه. وفى أول شهر ذى القعدة راسل السلطان جلال الدين الإمام المستنصر بالله، وسأله أن ينعم عليه بلباس الفتوة. وذلك أن جلال الدين كان قد قصد مشهد الإمام على رضى الله عنه. وكان نقيب الفتوة يومئذ الجلال عبد الله بن المختار، فاجتمع به ورغبه فى ذلك. فأجاب الخليفة سؤاله، ووكل الإمام المستنصر بالله فخر الدين أبا طالب أحمد ابن الدامغانى فى الفتوة، ونفّذ معه الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن شيخ الشيوخ. وسيّر معهما التشاريف والخلع، وأصحبهما بالأمير سعد الدين بن الحاجب على، فوصلوا إلى السلطان جلال الدين وهو على أخلاط محاصرا لها، فألبسوه الفتوة وتشاريف الخلافة، ودخل تحت الطاعة. وفيها قصد ملك بكران وبلاد سيف، البحر وركبه، وقصد جزيرة

قيس التى تعرف بكيش، وكان فى جمع كثير من المقاتلين، ونازلها، وملكها، وغنم منها أموالا عظيمة، ما لا يقع عليه الحصر. وولى عليها رجلا من خاصته؛ ورحل عنها. وفيها توفى الملك المسعود أقسيس بن السلطان الملك الكامل صاحب اليمن. وكان لما بلغه موت عمه الملك المعظم فى سنة خمس وعشرين طمع فى الشام، وفعل أقبح فعل، لم يسبقه إليه أحد من الملوك. وذلك أنه نادى فى بلاد اليمن فى جميع التجّار: «من أراد السفر صحبة السلطان إلى الديار المصرية والشام فليتجهز ليأمن من الحقوق الموجبة عليه». فجاءت التجار من الهند والسند بأموال الدنيا، من كل صنف عجيب. فلما تكاملت التجار فى زبيد، أمرهم أن يكتبوا له سائر ما معهم، وقال: «إنما القصد حمايتكم من الزكاة بالديار المصرية». فكتبوا له جميع ما معهم، فصار يكتب لكل تاجر رأس ماله، وأخذ الباقى باليد عسفا، فأجمعوا التجار رأيهم، واجتمعوا ببابه، واستصرخوا، وقالوا: «نحن قوم من بلاد شتى، ولنا سنين عن أهالينا، فكيف تأخذ أموالنا؟»، فلم يلتفت إليهم. قال أبو المظفر: بلغنى أن كان ثقله فى خمسمائة مركب، ومعه ألف وسبعمائة خادم، ومائة قنطار عنبر خام، ومائة قنطار عود قاقلى، ونوافج مسك، وبرانى مسك، ومائة ألف ثوب حرير، ومائة صندوق من الجواهر والأموال. ثم ركب الطريق إلى مكة-شرفها الله تعالى-فمرض فى الطريق مرضا شديدا، فما دخل مكة إلا وقد انفلج، ويبست يداه ورجلاه، ورأى فى نفسه العبر. فلما احتضر، بعث إلى رجل مغربى من المجاورين بمكة، وقال له: «والله ما أرضى لنفسى من جميع ما معى كفنا أتكفن فيه، فعسى تتصدق علىّ بكفن». فأرسل إليه نصفيتين ومائتى درهم، ودفن فى المعلى. وقيل: إن الهواء ضرب بعض المراكب، فعادت إلى زبيد، فأخذوها أصحابها.

قال أبو المظفر: وسر الملك الكامل بموته. ولما حضر خازنه إلى بين يديه، ما سأله كيف مات، بل قال: «كم معك من المال والتحف». وكان هذا الملك المسعود أقسيس، رجل مجنون، عديم الدين، وفعل فى الحرم الشريف قبل ذلك أفعالا قبيحة، من جملتها أنه كان يرمى الطيور التى فى الحرم بالبندق فى وسط الحرم الشريف، مع أشياء لا يطاق سماعها، فعوقب، ولم يمهل. فنعوذ بالله من الاعتقاد الفاسد، والتجاسر على المحارم، والتعرض إلى ما نهى عنه، والتخلى عما أمرنا به. ونسأله العافية فى الدين والدنيا والآخرة.

ذكر سنة سبع وعشرين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة سبع وعشرين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ذراعان فقط. مبلغ الزيادة ثلاثة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين. والوزير ابن العلقمى بحاله. والملوك حسبما ذكرناه فى السنة الخالية من ممالكهم، كل منهم بحاله. وفيها ملك السلطان جلال الدين أخلاط، وفيها إخوة السلطان الملك الكامل فخر الدين وتقى الدين، مع أهل الملك الأشرف، بعد حصار شديد. وأكل أهلها الميتة، وأبيعت قطعة من جلد بألف درهم. وكانت مدة إقامته عليها عشرة أشهر، ثم دخلها بالسيف عنوة ونهبها، وأسر الملكين، والكرجية زوجة الأشرف، ودخل بها من ليلته. هذا والسلطان الملك الكامل كان بحران، ثم إنه نزل الرقة، وبلغه خبر أخذ أخلاط فيها. وبلغ الملك الأشرف ذلك وهو بدمشق، فخرج على وجهه حتى أتى الرقة. وكتب صاحب الروم الملك كيقباذ إلى الملك الأشرف يقول: «تحضر إلى عندى لنتفق على هذا الذى أخرب البلاد وأهلك العباد، فعندى المال والرجال». فشاور الأشرف الكامل على ذلك، فقال: «مصلحة». ورجع الملك الكامل قاطعا الفرات فى سبعة آلاف فارس، طالبا إلى ديار مصر. وسار الأشرف إلى حران فى سبع مائة فارس، وعدوه السلطان جلال الدين خوارزم شاه. فأقام بحران، وكتب إلى حلب وإلى الموصل والجزيرة، فجاءته العساكر. ورحل يريد الروم وصحبته أخويه شهاب الدين غازى والملك العزيز عثمان، وكذلك الملك الجواد وشمس الدين

صواب، وبقية الأمراء الكبار. ووصل إلى الروم واجتمع بصاحبه الملك كيقباذ. قال أبو المظفر: حكى لى الأمير عماد الدين بن موسك، قال: لما وصلنا إلى الروم، خرج إلينا عسكر أرزنكان فى اثنى عشر ألف فارس، فكان نجدة لنا. ونزلوا فى مرج يستريحون، وقد أرموا سلاحهم، وأطلقوا خيولهم للمرعى. فمرّ بهم الخوارزمى-وهو السلطان جلال الدين-ولم يعلموا به، فهجم عليهم فقتلهم وأسرهم، ولم ينج منهم إلاّ القليل. وضعفت قلوب الناس لذلك. قال: وأقمنا مكاننا إلى عشية يوم الخميس، فوصل قاصدنا، وأخبر أن العدو يخرج علينا صباح يوم الجمعة. قال: فرتبنا العساكر والشاليش فى الأول، ثم العرب، ثم الحلبيين، ثم شمس الدين صواب، ثم الملك الجواد، ثم العزيز عثمان وشهاب الدين غازى. ثم تبعنا أطلاب الروم، وكيقباذ فى الطلب الخاص، والملك الأشرف فى الطلب الخاص أيضا. قال: وكنا فى أرض وعرة، فخرجنا إلى أرض سهلة وطئة، وإذا بطلائع جلال الدين الخوارزمى وقد طلعت. قال: فالتقوهم العرب وكسروهم، وأخذوا منهم مائة فارس، وقتلوا مائة أخرى. ولم يتقدموا إلينا، ونزلوا ونزلنا، وبيننا وبينهم جبل عظيم. وخفنا خوفا عظيما. وليس معنا ماء ولا زاد ولا علف لدوابنا. فقال الأشرف: «أين المفر؟». فلما كان وقت السحر-قبل طلوع الشمس-أمر جلال الدين الخوارزمى لمن بقى من عسكر أرزنكان فكانوا كيف وخمسمائة نفر، فضرب رقابهم. فلما كان بكرة يوم السبت ثامن شهر رمضان المعظم، قطعوا إلينا الوادى، ووقف الخوارزمى على رأس الجبل، وسنجقه فى الوادى. ووقع القتال، فأرسل الله تعالى ضبابا، فلم ير أحد كفه، ووقعت الكسرة على جلال الدين الخوارزمى وجيشه، ونصرنا الله عليهم، وولوا منهزمين، ووقع بعضهم

فى الوادى من قوة الضباب، ما رأوه. وأصبحوا ما بين أسرى وقتلى. وغنم المسلمون-منا ومن الروم-جميع أموالهم وأثقالهم وخيلهم وسلاحهم، وامتلأت تلك الأودية من قتلاهم. وقال الأشرف لصاحب الروم: «لا بد لى من أخلاط»، فأعطاه ولأصحابه من الأموال والخيل والنجب والقماش ما قيمته ألفى ألف دينار. ورجع الرومى إلى بلاده. وجرد من الملك الأشرف بعض عسكره، فنزل أرزن الروم، وكان صاحبها مع جلال الدين، فأخذها الأشرف منه ومسكه، ونفذه إلى صاحب الروم، وسلم أرزن إلى نوابه. وسار إلى أخلاط. ولما وصل الخوارزمى مكسورا إلى أخلاط أخذ جميع ما كان له فيها، والكرجية [زوجة الأشرف]، وإخوة السلطان ونزل على أرجيش. وجاء الأشرف إلى أخلاط، وسار خلف الخوارزمى، فأبعد عنه. وتراسلوا، واصطلحوا على أن الخوارزمى يطلق من عنده من الأسرى، فأطلق إخوة السلطان، وبعث بهما إلى الإمام المستنصر بالله، فأنعم عليهما الخليفة، وأرسلهما إلى أخيهما مع رسول من جهته. وأقام الأشرف شهرا، ثم عاد إلى أخيه الكامل ودخل مصر. وتسلم أخلاط شهاب الدين غازى بعد أخذها من نواب الخوارزمى. وترك الطواشى شمس الدين صواب بحران والرها. وفى شوال سيّر السلطان الملك الكامل الطغتكين واليا على مكة، شرفها الله تعالى. وفيها بعث الأشرف أخاه الملك الصالح إسماعيل المعروف بأبى الخيش إلى بعلبك وحاصرها، وصاحبها الملك الأمجد. ثم قدم الأشرف بنفسه إليها. ثم دخل بينهما فى الصلح الصاحب صفى الدين. وأخذت بعلبك من الملك الأمجد. ثم إنه قتل بعد ذلك بخمسة أشهر، قتله مملوك له. ثم إن ذلك المملوك رمى بنفسه من أعلى القصر فهلك. وكان مدة مملكته بعلبك تسع وأربعين سنة، ملكها سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. وكان جيد الشعر حسنه.

ذكر سنة ثمان وعشرين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثمان وعشرين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ذراع واحد ونصف أصبع. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين. والوزير ابن العلقمى. والسلطان الملك الكامل بالديار المصرية. ووصل الملك الأشرف وصحبته صاحب الجزيرة إلى القاهرة المحروسة. وفيها كانت كسرة جلال الدين من التتار. وقتل، وانقطع سلطانه. وسبب ذلك أن التتار لما بلغهم كسرة جلال الدين من الأشرف وصاحب الروم، طمعوا فيه، وطلبوه وقصدوا توريز. فانهزم منهم إلى ديار بكر. وكان قد استحلف صاحب آمد أنه يفتح له الباب إذا حصره التتار، ويكون ظهرا له، فجاء إلى آمد، فغلقوا فى وجهه الباب، ورموه بالحجارة من فوق الأسوار، فأخذ على وجهه. هذا بعد ما كسره التتار فى شهر شوال من هذه السنة، وهى الكسرة التى لا جبر لها، بعد عدة وقائع قد تقدمت أخبارها بحكم التلخيص. ووصل الخوارزميون مكسورين من التتار، وخرج عسكر حران والرّها، وقاتلوهم ونهبوهم. وأما جلال الدين فإنه وصل إلى أطراف الجبال، فوصل إلى قرية من أعمال ميافارقين، فطلبه التتار من شهاب الدين غازى، فقال: «والله ما أعلم أين هو». فقاتلوا ميافارقين أياما، فلم يقدروا على شئ منها، فعادوا إلى الفاضلية، فقتلوا نيفا

وعشرين ألف نفرا من المسلمين وأحرقوها. وعادوا إلى أخلاط، وكانت بوادر الشتاء قد أقبلت، ووصلت طائفة منهم إلى نصيبين. وكان جلال الدين لما وصل إلى تلك القرية التى من عمل ميّافارقين وحده، وليس معه غيره، أنزله بعض الأكاريد عنده، وطمعت نفسه فى ما كان عليه من القماش، فقتله عندما نام فى الليل. فبلغ المظفر شهاب الدين غازى ذلك، فنفّذ أحضر الكردى، وأحضر قماش السلطان جلال الدين وفرسه، وتأسف عليه، وأمر بقتل جميع أهل تلك القرية كبيرهم وصغيرهم، تأديبا لغيرهم، بحيث لا يعود أحد يجسر على الملوك. وانقطع ملك جلال الدين، وتشتت الخوارزمية وتمزقوا كل ممزق. قال المنشى فى تاريخه-وهو مصنف سيرة السلطان علاء الدين وولده جلال الدين-: إن الذى ملكه السلطان جلال الدين بعد أبيه علاء الدين أربع مائة مدينة، مثل خراسان وأصبهان وسمرقند وبخارا، وأنظارهم، فشرهت نفسه حتى قتله شرهه. وكان قد أساء السيرة فى آخر وقت، وبدت منه أمور تلى إلى الجنون، لابل هو الجنون بعينه. منها أنه كان له مملوك يسمى قاشى، وكان يحبه محبة عظيمة، فمات ذلك المملوك، فحزن عليه حزنا شديدا حتى أخرجه عن حدّ الاعتدال. وأمر أن يجعل فى تابوت وصبّر. وكان يحضر تابوته على الطعام والخوان، ويقول ساعة ساعة: «اطلبوا قاشى! جيبوا قاشى!». ويسيّر إليه الطعام من قدامه، والفاكهة والحلوى،

ولا يقدر أحد أن يفوه بموته. فلما رأى كبار دولته ووزرائه ذلك علموا أنه خولط فى عقله، فتخلى عنه كثير من جموعه. وفيها كان الغلاء بمصر. وفى خامس عشر شعبان أمر السلطان الملك الكامل بحفر البحر الذى من دار الوكالة بمصر إلى صناعة التمر. واستعمل فيه الملوك والأمراء والعوام. وعمل هو بنفسه فيه. وكان البحر فى نقصه قد صار طريقا من مصر إلى الجزيرة، فخشى عليه من ردمه، فاجتهد فيه، وغرّق عدة مراكب، وغرم جملة أموال، حتى سلط البحر، واستقر بين مصر والجزيرة. وفيها نفّذ ملك الكرج-المعروف بابن البهلوان-إلى الملك الأشرف، بقصد اجتماع الكلمة على ملتقى التتار، لما بلغه أنهم قاصدين نحوه، فلم يحصل بينهما اتفاق لأمر أراده الله عز وجل فى تسليط هؤلاء القوم، فلا مفر من حكمه. وفيها كان وصول السترين الرفيعين فاطمة خاتون بنت الملك الكامل إلى زوجها الملك العزيز صاحب حلب، وغازية خاتون بنت السلطان الملك الكامل أيضا إلى زوجها الملك المظفر صاحب حماه. وكان خروجهما صحبة ركاب السلطان لما توجه إلى بلاد الشرق. وكان لوصولهما همم عالية يقصر عنها الوصف، فأضربت عنه لطوله، وكون تاريخنا تاريخ تلخيص.

ذكر سنة تسع وعشرين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة تسع وعشرين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ثلاثة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا فقط. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين. والوزير ابن العلقمى بحاله. والسلطان الملك الكامل سلطان الإسلام. وسائر الملوك حسبما تقدم من ذكرهم، خلا السلطان جلال الدين الخوارزمى، فإن ملكه زال. فسبحان من لا يزول ملكه ولا تغيره الليالى. وفيها-فى شهر المحرم-وصل رسل الخليفة الإمام المستنصر بالله، وهما الأمير عز الدين أبقرا وفخر الدين رفيقه، واجتمع بهما السلطان عند وصوله من ثغر الإسكندرية، وخرج إلى لقائهما فى الحراقة إلى شبرا، بسبب وجع رجله. وألبسوه التشريف اللائق بمثله على عادته، وأركبوه فرسا أشهبا منعولا بالذهب الأحمر، وسيفين مجوهرين، وثلاثة أخر للسلاح دارية، وترس مرصّع بأنواع الجواهر. وكذلك لكل واحد من أولاده خلعة مزركشة، وسيفا محلاه، ومركوبا حسنا. وخلع كثيرة للأمراء الكبار بالدولة. وظنوا أن له وزيرا فسيّر إليه خلعة سنية، وبغلة، ودواة، فقال السلطان: «ليس لى وزير»، فحمل ذلك إلى خزانته. وفى هذه السنة اجتمع بباب السلطان من الرسل من سائر أقطار الأرض ما لم يجتمع بباب ملك قبله؛ وهم رسل الخليفة، ورسل صاحب الموصل، ورسل صاحب الكرج، ورسول صاحب حلب، ورسول صاحب حماة وحمص، ورسل ملك الهند، ورسل الإفرنج، ورسول صاحب شيراز، ورسول صاحب جزيرة الأندلس، وغيرهم.

فأحضر الجميع فى يوم واحد، وكان يوما مشهودا. ثم عقب رسل الخليفة الشيخ بهاء الدين [اليزدى]-شيخ رباط الأخلاطية-من بغداد فى جماعة من النجابين، يحثون السلطان على الغزاة للتتار. وفى ثامن عشر جمادى الآخرة توجه السلطان الملك الكامل طالبا للشام بنية الغزاة للتتار، وجعل نائبه بالديار المصرية ولده الملك العادل. وفى تاسع جمادى الآخرة توجه الأمير فخر الدين إلى مكة-شرفها الله تعالى-ودخلها خامس شهر رمضان المعظم بالسيف عنوة. وهرب راجح، وقتل جماعة من أقاربه. وقتل من كان بها من العسكر اليمنى. وفى سادس عشرين ذى الحجة ملك السلطان الملك الكامل آمد، وأخذ صاحبها منها، وملّكها لولده الملك الصالح نجم الدين أيوب. وفى ثامن عشر ذى الحجة توفى فخر الدين عثمان [بن قزل] أستادار السلطان، وكانت وفاته بظاهر حرّان. وفيها ملك بدر الدين لؤلؤ-صاحب الموصل-قلعة سوس، وكانت لتقى الدين زنكى ابن نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مظفر الدين مودود بن عماد الدين زنكى بن آق سنقر، صاحب الموصل قديما. ولما ملكها عظمت كلمته، وقمع أولاد أستاذه، واستقام له الملك، ونعت نفسه الملك الرحيم. وبعث إليه الخليفة تقليدا بالملك. ولم يزل ملكا حتى أخذت التتار بغداد، ودخل تحت طاعة هلاوون، واستولى على عدة ممالك من العراق والجزيرة. حكى لى والدى-رحمه الله-عن مخدومه الأمير سيف الدين بلبان الرومى الدوادار-رحمه الله-قال: كان لما تحكمت التتار على البلاد، ودخل بدر الدين مملوك لؤلؤ صاحب الموصل تحت طاعة هلاوون، كان له مملوك يسمى أيان-أرمنى الجنس-وكان له عنده مزية كبيرة. قال أيان: فبلغ

الرحيم بدر الدين لؤلؤ أن الوزير خواجا رشيد-وزير هلاوون-بيسعى فى تغيير خاطر هلاوون عليه، فقال بدر الدين: «والله لأقتلنه ولأمعكنّ أذن هلاوون بيدى». قال أيان: فلما سمعت ذلك وكنت أدل عليه بالكلام، فقلت: «سبوح قدوس». فالتفت إلىّ وقال: «سوف تنظر ذلك بعينك يا أرمنى نجس». قال: وكان عنده رجل يعرف بالصوفى، وكان أوحد أهل زمانه فى المنادمة وأخبار الناس. فقال له بدر الدين: «تتوجه إلى الأردوا، وتتوصل إلى صحبة خواجا رشيد، فإذا ملكته بحلاوة منادمتك. أنا أعلم أنه يقبل عليك. وتنفق عنده وهو رجل شره النفس فى المأكل، ويحب الفواكه يجنيها من على شجرها على الندوة. ولا بد أن تسير معه فى بعض البساتين. فخذ هذه الثلاث إبر معك، واجتهد إن تشكّهم فى بعض ما يتناوله منك من الفاكهة. فإذا علمت أنه حصل فى أمعائه من تلك الفاكهة-ولو ثلاث-فقد حصل الغرض، فتوجه إلينا فقد جعلت لك البريد فى سائر الطرقات حتى تصل إلى عندى إن شاء الله سالما». قال: فكان الأمر كذلك، ووصل الصوفى عائدا بعد أن قضى الشغل فى الخواجا رشيد. ووردت الأخبار بعد ذلك بموته. فقال بدر الدين لؤلؤ لمملوكه أيان: «كيف رأيت؟». فقال: «أمّا قتل الوزير فقد صح لك. فكيف تمعك أذن هلاوون؟». فقال: «سوف تنظر يا أرمنى نجس». ثم إن بدر الدين تجهز وتوجه إلى خدمة هلاوون، وأخذ صحبته من الزراكش والمصاغات والملابس وما أشبه ذلك للخواتين. واستصحب معه ماشطتين حذاق بزينة النساء، وتقديمهما إلى خواتين المغل من الأمراء الكبار، ومعهما لكل واحدة من ذلك الزركش والمصاغ والقماش والزينة ما يليق بها. وأصلحوهن المواشط وزينوهن أحسن زينة، ولبسوهن ذلك القماش المذكور، فعادوا كأنهن البدور الطّلع. ونظروا وجوههن فى المرآة فأعجبهن أنفسهن. وخرجن لأزواجهن فقالوا: «ما هذا المليح؟». فقلن: «بدر الدين لؤلؤ». فأعجب أزواجهن ذلك كل الإعجاب، وشكروا بدر الدين عند هلاوون شكرا كثيرا. وكذلك خواتين هلاوون، وولده أبغا، ومنكتمر. قال أيان: فحضر بدر الدين بين يدى هلاوون،

فقربه، وأخلع عليه، وأجلسه فوق من عادته. فقام إليه منكتمر بن هلاوون، وضرب قدامه جوك، وناوله هناب مشروب. فقام بدر الدين وتناوله، وقبل يده، وأخرج له زوج حلق فيهما جوهرتين فجعلهما فى أذنه. فقام بعده أبغا أخوه، وفعل كذلك، فأخرج له زوجا آخر أحسن من الأول، وجعلهما فى أذنه. فقال هلاوون: «يا بدر الدين هؤلاء الشباب لهم هذا وأنا؟». فقام بدر الدين وقبل الأرض، وأخرج زوج يشعل كالشمس، لا قيمة له. وتقدم إلى هلاوون وجعل رأسه على فخذه؛ وعاد يمعك فى أذنه وينظر إلىّ. فقال هلاوون: «أباه! أباه!». فقال بدر الدين: «الله يحفظ القان، إنما فعلت هذا حتى يخدر ويجوز الحلقة من غير ألم». ثم ركب الحلق فى أذنه بعد معكهما معكا جيدا. قال أيان: فلما عدنا من عنده مكرمين، قال لى: «كيف رأيت يا أرمنى؟». قلت: «والله ما يخلفك الزمان أبدا». قال ابن واصل فى تاريخه: فى هذه السنة كانت صلة الملك الناصر داود بن المعظم صاحب الكرك بعمه الملك الكامل وزوّجه بابنته عاشورا خاتون وهى شقيقة الملك العادل سيف الدين أبى بكر. قال: وفيها كان توجه السلطان الملك الكامل والملك الأشرف أخوه إلى بلاد الشرق من الديار المصرية، وملكا مدينة آمد من صاحبها وهو الملك المسعود ابن الملك الصالح محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن سقمان بن أرتق. وذلك لما بلغ الملك الكامل ما كان عليه من قبح السيرة وتعرضه لحرمة الناس وارتكابه المحارم. واستصحب الملك الكامل معه فى هذه السفرة ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب، ورسم له بالإقامة ببلاد الشرق، وأقام الملك العادل بالديار المصرية عناية به، لمحبته أمه، ومحلها من قلبه.

ذكر سنة ثلاثين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثلاثين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وعشر أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين. والوزير ابن العلقمى بحاله. والسلطان الملك الكامل ببلاد الشرق. وفى تاسع وعشرين شعبان توفى صاحب إربل، وتسلمها-وجميع حصونها وقلاعها-نواب الخلافة. وفى شهر صفر وصل راجح صاحب مكة، وصحبته عسكر كثيف من اليمن، وعدتهم ستمائة فارس وأربعة آلاف راجل، مع خلق كثير من عربان الحجاز. فلما تحقق الأمير فخر الدين وصولهم، خرج بأصحابه من مكة سالما، وتحصّن بالينبع، وتسلم راجح مكة سلما. وفيها عاد السلطان الملك الكامل إلى الديار المصرية بعد ما رتّب بالشرق ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب ومعه الأمير شمس الدين صواب، وهو الحاكم فى البلاد الشرقية، لأنه كان أكبر الخدام العادلية، وأوثقهم عنده. وأقام الملك الأشرف بدمشق. ورجع كل ملك إلى بلده، وأقام الكامل بالديار المصرية. وفى شوال منها قدم الملك الناصر داود صاحب الكرك إلى خدمة عمه الملك الكامل بالديار المصرية وصحبته جماعة من العلماء، وأقام إلى آخر هذه السنة. وقدم علاء الدين أقسنقر الزاهد وتوجه إلى مكة، شرفها الله. ووصل إلى (21 - 7)

فخر الدين بن الشيخ وهو بالينبع وصحبته ألطغتكين، واجتمعوا يدا واحدة ثم قصدوا مكة. فلما علم بهم راجح، والعسكر اليمنى، خرجوا منها سالمين، وتولاها قطب الدين بن مجلى فى ذلك التاريخ. وفى تاسع عشر رمضان سلطن السلطان الملك الكامل ولده سيف الدين أبو بكر، ولقبه العادل. وركب وشق القاهرة فى دست الملك، وكان نهارا مشهودا. وفيها ظهر نور عظيم من السماء، فكان يرى مستطيلا عن يسار مطلع الشمس، ويرى فى أواخر الليل. فقال المنجمون إنه كوكب له ذؤابة طويلة. وفيها غلت الأسعار ببغداد، حتى بلغ ثمن الكر من الحنطة نيف وثمانين دينار، والشعير خمسة وأربعين دينار. وغلت جميع الحبوب، فأخرج الخليفة فى كل يوم مائة كر من أربعة أصناف الحبوب. فرخصت الأسعار قليلا. ومن جملة ما حكى أن أهل بغداد من العامة لما غلا السعر كتبوا أوراقا ورموها بدار الخلافة، فيها مكتوب: «وحياة فضة وحجر الدوادار، افتح لنا المنابر وأرخص لنا الأسعار»، فقيل إنه كتب على رأس رقعة منهم: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ»}. ثم أمر بإخراج الغلال حسبما ذكرناه، والله أعلم. وفيها توفى الملك المعظم مظفر الدين كوكبورى بن زين الدين على كوجك صاحب مدينة إربل. وكان ملك إربل بعد وفاة أبيه على كوجك المتحكم فى الدولة الأتابكية وصرف عنه الملك إلى أخيه. ولما ظهر أمر السلطان صلاح الدين التجأ إليه، فملّكه، وجمع له بين الرها وحران. ثم توفى زين الدين يوسف صاحب إربل، فنزل مظفر الدين عن ما كان بيده، ويعوض إربل. واستمر بها إلى هذه السنة، فتوفى إلى رحمة الله تعالى. هذا ما ذكره ابن واصل فى تاريخه.

ذكر سنة إحدى وثلاثين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة إحدى وثلاثين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع فقط، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وعشرة أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين. والوزير ابن العلقمى بحاله. والسلطان الملك الكامل بالديار المصرية. وفى مستهل صفر سافر السلطان إلى ثغر دمياط. وفى ربيع الأول وصل الملك الأشرف، وخرج السلطان إلى لقائه فى البحر إلى الطينة، ولقيه من منزلة المطيلب، ودخلا إلى القاهرة المحروسة. وفى جمادى الأولى برز المرسوم للعساكر بالتجهيز إلى الشرق، ونفق فى الجيش كل جندى عشرين دينارا مصرية، ولخاصة وكبار جنده من الخمسين إلى الأربعين. وجاء حساب مبلغ ما تفقه ستمائة ألف دينار. وفى ليلة السبت خامس شعبان توجه السلطان الملك الكامل وصحبته الملك الأشرف ووصل إلى [بلاد] الروم إلى النهر الأزرق. ووصل إليه صاحب خرتبرت، وسير معه بعض العسكر، ودخلوا خرتبرت، وكان معهم صاحب حماه. وحاصرهم صاحب الروم، وأخذ منهم جماعة قبل دخولهم خرتبرت. قال ابن واصل فى تاريخه: إنه لم يجتمع للملك الكامل قط جيش مثل هذه النوبة،

فكان فيه أربعة عشر دهليزا لأربعة عشر ملكا، منهم من جهة الملك العزيز صاحب حلب الملك المعظم فخر الدين توران شاه بن الملك الناصر صلاح الدين، وهو عم أبى الملك العزيز. والملك الزاهر مجير الدين داود بن الملك الناصر صلاح الدين، وهو يومئذ صاحب البيرة. والملك المفضل موسى بن صلاح الدين، وهو يومئذ صاحب سميساط. والملك صلاح الدين أحمد بن الملك الظاهر صاحب عين تاب. والملك المظفر شهاب الدين غازى صاحب ميافارقين. وأخوه الملك الحافظ نور الدين أرسلان شاه صاحب قلعة جعبر. والملك الأشرف شاه أرمن أخو الملك الكامل، وأخوه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل. وكان الملك العزيز قد توفى سنة ثلاثين وستمائة، وملك بانياس وأعمالها ولده الملك الظاهر، ثم توفى بعده بأيام يسيرة وولى الملك السعيد أخوه، وهو الذى كان قد حضر مع عسكر التتار-حسبما ذكر. وإنما أصابتهم عين فنفرت القلوب من بعضها بعض، لما يريده الله عز وجل. وفى شهر ذى القعدة وصل راجح بن قتادة مع عسكر من اليمن من جهة المظفر ابن رسول صاحب اليمن إلى مكة-شرفها الله تعالى-وخرج عنها ابن مجلى. وقتل راجح جماعة من أهل مكة وغيرهم. ولم يصل فى تلك السنة إلى مكة من الحاج سوى الركب اليمنى لا غير. وفى شوال أضيف إلى قاضى القضاة بلاد الساحل، واستناب فيها من جهته. وفيها قدم رسول الأنبرور ملك الفرنج على السلطان الملك الكامل، ومعه هدية سنية، وفى الجملة دب أبيض، شعره مثل شعر الأسد، وهو ينزل إلى البحر ويصيد السمك ويأكله. وكذلك طاووس أبيض. وديك قدر الجدى الكبير، أخضر كأنه درة. وفيها ألزم الملك الكامل للملك الناصر داود بطلاق ابنته، وذلك لما توجس منه لما بلغه عنه من المواقعة للملوك عليه. وكان ذلك قبل دخولها عليه ووصولها إليه.

ذكر سنة اثنتين وثلاثين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة اثنتين وثلاثين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة [الماء القديم خمسة أذرع سواء. مبلغ الزيادة ست عشر ذراعا وثلاث عشرة أصبعا]. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين. والوزير ابن العلقمى بحاله. والسلطان الملك الكامل سلطان الإسلام، وقد عاد من الشرق إلى مصر. وبقية الملوك بحالهم، حسبما تقدم من ذكرهم. وكان عود السلطان إلى الديار المصرية من الشرق فى جمادى الأولى. واحتاط على صاحب آمد واعتقله بالقلعة. وكان سبب عودة السلطان سريعا إلى مصر لما بلغه أن الملوك اتفقوا عليه؛ وهم الأشرف، والناصر داود، والأمجد صاحب بعلبك. فلما تحقق ذلك عاد إلى الديار المصرية مسرعا، وقبض على صاحب آمد لاتفاقه معهم بمكاتباته لهم. وفيها هدم الملك الأشرف خان ابن الزنجارى بالعقيبة بظاهر دمشق، وبناه جامعا، وسمى جامع التوبة، لما كان يجرى فى هذا الخان من الأمور القباح، من ارتكاب المحرمات والفسق والفجور. وفيها توجه أسد الدين جغريل-أحد المماليك الكاملية-وصحبته سبعمائة فارس إلى مكة-شرفها الله تعالى-ودخلها، وهرب راجح بن قتادة ومن كان معه من العسكر اليمنى.

وفيها عهد السلطان الملك الكامل لولده نجم الدين أيوب، ونعته الملك الصالح. ونزل دار الوزارة بالقاهرة المعزية. وكان مولد الملك الصالح فى سنة ثلاث وستمائة. وفيها-فى ثالث ذى القعدة-سافر السلطان الملك الكامل متوجها إلى الشام، وذلك عندما سمع بخبر صاحب الروم علاء الدين كيقباذ، وقصده بلاد حران والرها، وأخذه بعض قلاعها. ونزل السلطان على منزلة تل العجول، وبعث نوابه إلى نابلس والقدس. ووصل إلى خدمة السلطان الملك الكامل الملك العزيز بن العادل، وعرفه اتفاق الملوك عليه، فحصلت بينهما المراسلة بقية هذه السنة. وفيها توفى القاضى بهاء الدين بن شداد صاحب السيرة الصلاحية، رحمه الله تعالى، وذلك يوم الأربعاء الرابع عشر من صفر. وكان عمره نحو ثلاث وتسعين سنة، لأن مولده فى سنة تسع وستين وخمسمائة. وكان بعد وفاة السلطان صلاح الدين فى خدمة ولده الملك الظاهر صاحب حلب، ولم يزل عندهم العزيز المفدى. وبنى بحلب مدرسة جليلة وأوقف عليها أوقافا جيدة. واسمه بهاء الدين يوسف بن رافع بن تميم؛ ولعل شداد الذى عرف به كان من أمه، فإنه لم يكن فى نسبه لأبيه شداد، وأصله من الموصل. وكان إقطاعه على السلطان ما يزيد على مائة ألف درهم فى السنة. ومات ولم يعقب. وفيها ولد الملك المنصور جمال الدين محمد بن الملك المظفر تقى الدين محمود صاحب حماة، الخامسة من يوم الخميس لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول.

ذكر سنة ثلاث وثلاثين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثلاث وثلاثين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وسبعة عشر أصبعا. ودخلت سنة أربع وثلاثين والذى تنتهى إليه الزيادة يذكر فى سنة أربع وثلاثين، إن شاء الله. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين. والوزير ابن العلقمى بحاله. والسلطان الملك الكامل سلطان الإسلام. واتفق الحال بينه وبين الأشرف، لما بلغهما ما فعله صاحب الروم فى ممالكهما، فإنه استولى على حران، والرها، والسويداء، وقطينا، أخذها ممن كان فيها من النواب مخامرة، وباعوها له بيعا. وتوجه السلطان بالعساكر المصرية. وصحبته الملك الأشرف بالجيوش الشامية. فلما بلغ العسكر الرومى ذلك نزل فى القلاع من يحفظها من جهته، ودخل بلاده. ثم نزل السلطان على حران وأخذها بالسيف عنوة، فى الرابع عشر من ربيع الآخر. وأسر من كان فيها من العسكر الرومى، وعدتهم سبعمائة وخمسة عشر نفرا، فيهم جماعة من أمرائه ومقدميه. وفى نهار ثالث عشر جمادى الأولى فتح قلعة الرها عنوة بالسيف، وأسر أيضا جميع من كان فيها من العسكر الرومى من الأمراء والمقدمين وغيرهم، وعدتهم تزيد عن ثمانمائة نفر. وكذلك تسلم قلعة السويداء عنوة بالسيف، وأسر أيضا من كان بها، وذلك فى سابع عشر جمادى الآخرة، وهدمها إلى الأرض، وكذلك قلعة الرها. وفى رجب تسلم قلعة قطينا، وأسر أيضا من كان بها. وفى التاسع عشر منه سيّر جميع الأسرى الذين أخذوا من تلك القلاع إلى الديار المصرية، وعدتهم تزيد عن ثلاثة آلاف نفر.

ثم عاد السلطان إلى دمشق، وسلم جميع بلاد الشرق لولده الملك الصالح نجم الدين أيوب. وفيها نزل السلطان على دنيسر. وكان العسكر الرومى قد أحرقها، فبينما السلطان ينظر فى أحوالها، إذ ورد عليه كتاب من الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، يعرفه أن التتار قد قطعوا دجلة فى مائة طلب، كل طلب خمسمائة فارس، ووصلوا إلى سنجار، فخرج إليهم معين الدين بن مهاجر، فقتلوه على باب سنجار. فرجع السلطان والملك الأشرف، وقطعا الفرات إلى دمشق. ثم إن التتار رجعوا. ولما عاد السلطان الكامل من الشرق، كرّ صاحب الروم راجعا بعساكره، ونزل على آمد وحاصرها. ووصل من عسكره شرذمة إلى بلاد حران وأخربوها، وأخربوا بها دار العافية، وأحرقوا عدة منازل بحران. وكان لما بلغ أهل حران بمجئ الروم إليهم، خرجوا عنها، وتبقى فى القلعة من يحفظها. ثم نزل الرومى بعسكره على آمد فى خامس ذى القعدة. وفيها سير ابن رسول عسكرا كثيفا من اليمن إلى مكة. وخرج إليهم الأمير أسد الدين جغريل الكاملى وكسرهم كسرة عظيمة، وأخذ منهم جماعة كثيرة أسرى، وسيّرهم إلى مصر. ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وستمائة، وزيادة سنة ثلاث وثلاثين مستمرة. والذى انتهى إليه النيل المبارك من الزيادة يذكر فى سنة أربع.

ذكر سنة أربع وثلاثين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة أربع وثلاثين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم استقر على سبعة أذرع. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وتسع أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين. والوزير ابن العلقمى بحاله. وفيها توجه السلطان الملك الكامل إلى ثغر دمياط، ثم إلى ثغر الإسكندرية فى وجهة واحدة. ووصل إليه ابن الجوزى رسولا من الخليفة، واجتمع بالسلطان فى ثغر دمياط. وعاد ابن الجوزى إلى صاحب الروم، وصحبته رسول من قبل السلطان، وهو الفقيه عبد العظيم المحدث. وفى شوال توفى صاحب الروم علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو السلجوقى، من قبل اجتماعه بالرسل المذكورين. وفيها وصل الملك الناصر صلاح الدين داود بن الملك المعظم عيسى، وتلقاه السلطان بنفسه إلى منزلة قطيا، وزينت له مصر والقاهرة والقلعة، وسلطنه السلطان. وركب من دار الوزارة إلى القلعة بالسناجق والسيوف. وحمل الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن السلطان الملك الكامل الغاشية، راجلا عند ما ركب الملك الناصر. ثم حملها الأمراء بعده، واحدا بعد واحد. وفى تاسع عشر ذى الحجة زوج السلطان الملك الكامل المذكور ابنته الست عاشوراء من الملك الناصر المذكور. وفيها مرض الملك الأشرف مرضة شديدة، ثم عوفى. وفيها سير السلطان الكامل الهيجاوى مع جماعة من الأمراء فى جيش كثيف إلى الساحل. وفيها وقع الخلف بين الأشرف والسلطان الكامل؛ وذلك أن الملك الأشرف استخدم الخوارزمية الذين كانوا فى عسكر السلطان جلال الدين، وقويت شوكته،

فسير طلب من السلطان الرقة. وكان الملك الكامل لما عزم على أخذ الروم، قال أسد الدين صاحب حمص للأشرف: «متى أخذ الروم تعبنا به، وبقينا بين يديه يقلبنا كيف شاء»، فاتفقا عليه. وفهم الكامل منهما ذلك، فعجل فى عودته إلى مصر-حسبما تقدم من الكلام. وبعث الأشرف يقول له: «أخذت الشرق منى وأعطيته لولدك. وقد افتقرت. وإيش هى دمشق إلا بستان؟ ومالى فيها رزق». فبعث إليه الكامل بعشرة آلاف دينار، فردها الأشرف عليه، وقال: «أنا أعطى هذه لأمير عندى». فغضب الكامل وقال: «إيش يعمل الأشرف بالملك؟ تكفيه عشرته للمغانى، وتعليمه صناعتهم». فبلغ ذلك الأشرف فقال: «والله لأعرفنّه قدره». وأرسل إلى حلب وحماة وبلاد الشرق. واتفق الملوك معه على الأذية للكامل. وبلغ الملك الكامل فخاف خوفا كثيرا، لما كان يعلمه من الأشرف. ولو استمرت حياة الأشرف سنة أخرى انفسد حال الكامل، لكن إذا أراد الله أمرا بلغه. وكان هذا الخلف وقع فى أواخر هذه السنة. وتوفى الأشرف-رحمه الله- فى سنة خمس وثلاثين، حسبما يأتى من ذكر ذلك فى تاريخه، إن شاء الله تعالى. ولما بلغ الكامل موت الأشرف سجد شكرا لله عز وجل، وقال: «والله لقد كنت أيقنت بخروج الملك عنى». فقيل له: «لك من باب الموصل إلى باب اليمن، فإيش كنت تلتفت به». فقال: «دعوا هذا الكلام، فإنه كان كريما شجيعا، وهاتان خصلتان ما معهما حديث». وفى شهر ربيع الأول من هذه السنة، ولد الملك المغيث فتح الدين عمر بن العادل أبو بكر بن السلطان الملك الكامل. وفيها توفى الملك العزيز بن الملك الظاهر [غازى] بن الملك الناصر صلاح الدين [يوسف] بن أيوب. وهو ابن بنت الملك العادل الكبير سيف الدين أبو بكر

ابن أيوب، حسبما سقناه. ومات ولم يكمل أربع وعشرين سنة. ووصل زين الدين ابن الأستاذ، وابن أبى الهيجاء إلى السلطان، وأخبراه بموته، وعمل السلطان عزاه. وقام بالمملكة الحلبية الملك الناصر يوسف-الذى قتله هلاوون-حسبما يأتى من ذكر ذلك فى تاريخه، إن شاء الله تعالى. وفيها توفى الملك كيقباذ علاء الدين بن كيخسرو بن قليج أرسلان بن مسعود ابن قليج أرسلان بن سليمان بن قتلمش بن سلجوق، ملك الروم. وكان ملكا عاقلا شجاعا ميمونا فى حروبه، كسر الخوارزمية، واستولى على الشرق. وقام بمملكة الروم ولده غياث الدين. وفيها ملك الملك الصالح نجم الدين أيوب بن السلطان الملك الكامل سنجار ونصيبين والخابور. وفيها نزل التتار على إربل، وحاصروها، وملكوا المدينة عنوة بالسيف، وقتلوا منها خلقا كثيرا، وتحصن العسكر بالقلعة، وقاتلوا قتالا عظيما، وعجز التتار عنها، ورجعوا خائبين. وفيها سير السلطان الملك الكامل الفقيه أفضل الدين [محمد] الخونجى إلى بلاد الروم، يعزى السلطان غياث الدين بأبيه علاء الدين كيقباذ المتوفى. وسير معه ذهبا برسم الصدقة، وثياب أطلس برسم أغشية الضريح. وكان ذلك استجلابا منه له، ليحرفه عن الأشرف.

ذكر سنة خمس وثلاثين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة خمس وثلاثين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وعشرون أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين. والوزير ابن العلقمى بحاله. والسلطان الملك الكامل بالديار المصرية، والسكة والخطبة له بسائر الممالك. والملك الأشرف صاحب دمشق، إلى أن توفى فى هذه السنة، حسبما يأتى. وصاحب بعلبك الملك الأمجد. وأسد الدين الملك المجاهد صاحب حمص. وصاحب حماة الملك المظفر تقى الدين محمود بن الملك المنصور. وصاحب حلب الملك الناصر يوسف بن العزيز بن الظاهر. وصاحب ميافارقين المظفر شهاب الدين غازى بن الملك العادل الكبير. وصاحب الشرق الملك الصالح نجم الدين أيوب بن السلطان الملك الكامل. وصاحب الموصل والجزيرة الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ النورى. والتتار ملاّك الدنيا بالمشرق، من حدود مطلع الشمس إلى بغداد. وصاحب الروم غياث الدين بن علاء الدين كيقباذ السلجوقى، المقدم ذكره. وصاحب الهند السلطان غياث الدين بن شهاب الدين الغورى، المقدم ذكره. وصاحب اليمن المظفر يوسف بن رسول الخارجى، المقدم ذكره. والأمير أسد الدين جغريل الكاملى بمكة، والحروب بينه وبين راجح. وصاحب المدينة-على ساكنها أفضل الصلاة والسلام-جماز بن شيحة. والمغرب فى يد عدة ملاك متفرقة؛ البعض من بنى عبد المؤمن، والبعض من غيرهم. وفى شهر المحرم من هذه السنة توفى الأشرف، رحمه الله. ذكر وفاة الملك الأشرف موسى رحمه الله هو أبو الفتح السلطان الملك الأشرف مظفر الدين موسى شاه أرمن بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب بن شاذى بن مروان. ولد بالقاهرة المعزية،

وقيل بالكرك المحروس، سنة ست وسبعين وخمسمائة. وقيل إنه ولد قبل أخيه المعظم عيسى بليلة واحدة. وكان مبتدأ أمره بالقدس الشريف، تحت حكم ابن الزنجيلى عثمان. قال أبو المظفر: قال لى المعظم عيسى: «أنا أخذت له حران والرها والشرق من السلطان الملك العادل رحمه الله، أبى، وجهزته من عندى بالأموال والخيل والعدد والمماليك»، وتقلبت به الأحوال حتى صار شاه أرمن، وكسر المواصلة والروم، والسلطان جلال الدين الخوارزمى، وأخاه شهاب الدين غازى. وكان جوادا سمحا شجاعا ميمونا، ما كسرت له راية قط. ولما كان فى نزعه أخذ بعض مماليكه سنجقه ليكسره، وقال: «لا يحمله غيره»، ففتح له عينه وهو فى غمرات الموت، وقال بكلام لا يكاد يفهم من الضعف: «لا تفعل يا فلان، فو الله ما كسرت قط». وكان عفيفا طاهر الذيل. قال أبو المظفر: اجتمعت به فى أخلاط-بالقلعة-فجلسنا للمحادثة، فأعاب أخاه المعظّم فى شئ بلغه عنه. ثم قال: والله ما مددت عينى إلى محرم قط، لا ذكر ولا أنثى. ولقد كنت يوما جالسا فى هذه المنظرة التى نحن فيها، فلم أشعر حتى دخل علىّ الخادم، وقال: «على الباب امرأة عجوز، تذكر أنها من عند بنت شاه أرمن صاحب أخلاط». فأذنت لها فدخلت، ومعها ورقة من عند بنت شاه أرمن، تذكر فيها أن الحاجب-عليّا قد غلبها على ضيعة لها. فكتبت لها على قصتها بردّ ضيعتها، ونهى الحاجب عنها. فقالت العجوز: «وهى تسأل الحضور بين يديك، فعندها كلام فيه سر، لا يمكن ذكره إلا للسلطان، منها له». فأذنت لها بالحضور، فحضرت امرأة ما رأيت فى الدنيا أحسن منها، ولا أظرف من قدّها وشكلها، كأنّ الشمس تحت نقابها. فخدمت ووقفت، فقمت وقفت لها إجلالا كونها بنت ملك شاه أرمن. ثم سفرت عن وجهها، فأضاءت منه المنظرة، يبهت من نظره. فقلت: «استرى وجهك، واخبرينى حالك». فقالت: «أنا بنت شاه أرمن

صاحب هذه البلد، مات أبى واستولى بكتمر على البلاد، وتغيّرت الدّول، ولى ضيعة أعيش منها، أخذها الحاجب علىّ، وما عدت أعيش إلا من عمل النقش للناس، وساكنة فى دار بالأجرة». قال: فبكيت، ورقيت لها رقة عظيمة، وأمرت أن يكتب لها توقيع مؤبد بضيعتها، ملعونا من يغير عليها أو يتعرض لها. وأمرت لها بقماش، ومال جيد، ودار تسكنها تصلح لها، وخادم وجاريتين. وقلت: «بسم الله، ومهما كان لك من الحوائج والأشغال سيّرى هذه العجوز». فقالت العجوز: «يا خوند! ما جاءت إلى هاهنا إلاّ لخدمتك. تقدم نفسها لتحظى بك الليلة». قال: فو الله لقد غاب صوابى، وأوقع الله تعالى فى قلبى تغيّر الزمان، وأنه يملك أخلاط غيرى. ويحتاج أهلى إلى مثل ذلك. قال فقلت: «يا عجوز! معاذ الله! والله ما هو شيمتى، ولا خلوت قط بغير حلالى. فخذيها وانصرفى فى دعة الله. وهى العزيزة الكريمة». فقامت وهى تقول: «صان الله عواقبك». والذى بناه الأشرف من الأبنية الحسنة، مسجد أبو الدرداء بقلعة دمشق وزخرفه، والمسجد الذى عند باب الصغير، ومسجد القصب الذى بظاهر باب السلامة، وأوقف عليهم الأوقاف الحسنة. ودار الحديث، وهى النورية. والتربة التى له بالكلاسة. جميع هذا بدمشق خارج أعماله فى الشرق وفى أخلاط وغيرها. ومع عدة خانات للسبيل فى سائر البلاد. وكان حسن الظن بالله تعالى، يزور الصالحين ويتفقدهم بالمال والأطعمة الطيبة والحلاوات الحسنة، شئ كثير مما يطول شرح ذلك. قال أبو المظفر: مرض الملك الأشرف فى شهر رجب مرضتين مختلفتين، فى الأعالى والأسافل، حتى كان الجرائحى يخرج العظام من رأسه وهو يسبّح الله تعالى ويقدسه ويحمده. ثم قوى عليه ذلك فى آخر سنة أربع. فلما يئس من نفسه قال

لوزيره جمال الدين بن جرير: «فى أى شئ تكفنونى؟». فقال: «حاشاك يا خوند». فقال: «دعنى من هذا الكلام. لا تكفنى من هذه الخزائن فى شئ؛ فإنهن لا يخلون من الجنايات». وكان عماد الدين موسك حاضرا فقال له: «قم واحضر الوديعة التى عندك». قال: فمضى، وعاد على رأسه ميزر صوف أبيض، يلوح منه نور الرضى، ففتحه فإذا فيه خروق الفقراء، وطاقيات الأولياء مثل الشيخ مسعود الرهاوى، والشيخ يونس البيطار، والشيخ على الفاسى، وجماعة من الأولياء الكبار. وكان فى جملتهم إزار عتيق، ما يساوى خمسة دراهم. فقال: هذا يكون على جسدى، ألقى به ربى، فإن صاحبه كان من الأبدال. أقام بالرها يزرع قطعة زعفران يتقوت منها برهة من الزمان. وكنت أزوره وأعرض عليه المال يمتنع، فقلت له يوما: «أنا أعرض عليك المال ولا تقبل فأريد من أثرك شيئا أجعله كفنى»، فدفع إلىّ هذا الإزار وقال: «لقد أحرمت فيه عشرين حجة». وكان آخر كلام الملك الأشرف يقول: «لا إله إلا الله». وتوفى يوم الخميس رابع المحرم من هذه السنة. ودفن بالقلعة. ثم نقل إلى تربته بالكاملية، فى جمادى الأولى، رحمه الله تعالى. قال أبو المظفر: حكى لى الفقيه محمد اليونانى ببعلبك فى سنة خمس وأربعين وستمائة، عند عودى من بغداد، قال: حكى لى فقير صالح من جبل لبنان، قال: رأيت الأشرف بعد موته فى النوم، وعليه ثياب خضر، وهو يطير بين السماء والأرض، مع جماعة من الأولياء، فقلت له: «يا موسى إيش تعمل مع هؤلاء، وأنت كنت تفعل فى الدنيا ما كنت تفعل». قال: فالتفت إلىّ وتبسّم وقال: «الجسد الذى كان يفعل تلك الأفاعيل تركناه عندكم. والروح التى كانت تحب هؤلاء صارت معهم». رحمه الله. ولم يخلف الملك الأشرف من الأولاد غير بنت واحدة تزوجها الملك الجواد

مظفر الدين يونس بن مودود بن الملك العادل الكبير، وهو ابن عمها، وذلك لما ملك دمشق بعد وفاة الملك الكامل-حسبما يأتى من ذكر ذلك فى تاريخه إن شاء الله تعالى. ثم لما ملك الملك الصالح إسماعيل-عمها-دمشق المرة الثانية، فسخ نكاحها من الملك الجواد بأنه أثبت عند الحاكم بدمشق أن الجواد حلف بطلاقها فى أمر وحنث فيه، ثم زوجها لابنه الملك المنصور، واستمرت فى صحبته إلى آخر وقت. وهذا الملك المنصور اسمه نور الدين محمود. قال أبو المظفر: وكان قد عهد إلى أخيه إسماعيل الملك الصالح المعروف بأبى الخيش. فلما انقضى عزاء الأشرف، ركب الملك الصالح المشار إليه فى دست السلطنة، وترجل الأمراء فى خدمته، وصاحب حمص إلى جانبه، والأمير عز الدين أيبك صاحب صرخد-جدنا-قد حمل الغاشية بين يديه. ونزل القلعة، وأخلع، وأنعم، وأعطى. ثم توجه أسد الدين الملك المجاهد إلى حمص، والأمير عز الدين إلى صرخد. هذا جرى والسلطان الملك الكامل يتجهز الجيوش أولا فأول إلى الشام. ووردت الأخبار بوصول العساكر من مصر، فقسم الملك الصالح الأبراج على الأمراء وحصنها، وغلّق أبوابها، واعتد للحصار. وحضر الأمير عز الدين وأمر أن تفتح الأبواب. ثم جاء الناصر داود من الكرك فنزل المزّة. ونزل مجير الدين وتقى الدين القابون. ونزل السلطان الملك الكامل مسجد القدم. وأحدقت العساكر بالبلد من كل جهة. وقطع الكامل المياه عن دمشق، واشتد الحصار، وغلت الأسعار، وسدوا جميع أبواب البلد، خلا باب النصر وباب الفرج. ثم إن الصالح أحرق العقيبة والطواحين. ثم زحف الناصر داود إلى باب توما، وعلق النقوب،

ولم يبق إلا فتحها. وأحرق الصّالح أيضا قصر حجاج، والشاغور، وأخرب خرابا كثيرا. وجرت قبائح كثيرة لا تشرح، حتى أحرقت أناس كثيرة فى منازلهم. فلما رأى الصالح عين الغلبة نفّذ إلى السلطان الملك الكامل يقول: «متى فتحتها عنوة قهرا أرميت النار فى أربع جوانبها، فأحرقتها جميعا، ولا لى ولا لك». وكان الكامل يتحقق منه قوة النفس والإقدام على كل شئ، فمشى الناس بينهم فى الصلح، وتقرر أن السلطان يعطى للصالح بعلبك وبصرى وسلمية. ثم تسلم السلطان دمشق، ودخلها. فلما طلع القلعة ودخل دار رضوان، رأى فى الإيوان قبر أخيه الأشرف، فرفسه برجله وقال: «انقلوا هذا المكتفر أخ، الساعة الساعة»، فنقلوه إلى تربته فى الكلاسة. وكان نزول السلطان على حصار دمشق ثالث وعشرين ربيع الأوا. ووقع الصلح يوم الثلاثاء تاسع جمادى الأولى. وخرج إلى السلطان مستأمنا، فقربه. وأقبل عليه وأعطاه ما وقع عليه الأيمان، والله أعلم.

ذكر سنة ست وثلاثين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ست وثلاثين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة المستنصر بالله أمير المؤمنين. والوزير مؤيد الدين بن العلقمى بحاله. والسلطان الملك الكامل بدمشق. وولده الملك العادل بمصر. والملك الصالح بالشرق. والملوك بحالهم، حسبما ذكرناه فى السنة الخالية. وفيها توفى السلطان الملك الكامل، رحمه الله تعالى. ذكر وفاة السلطان الملك الكامل توفى إلى رحمة الله تعالى ليلة يسفر صباحها عن نهار الأربعاء، حادى عشرين شهر رجب الفرد من هذه السنة. ولا حضر أحد موتته من شدة هيبته، وإنما دخلوا عليه وجدوه ميتا. وكان قد مرض مدة عشرين يوما بالإسهال والسعال، ونقرس كان فى رجليه. ولم يحزن أحد عليه، ولا لبس عليه حداد، وإنما لحقت الناس بهتة. وكان مولده سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وهو أكبر ولد الملك العادل. بعد مودود. وكان العادل قد عهد إليه، لما رأى من عقله وتدبيره وسداده. ووصل من عدله أن ركبدارا شكى أستاذه أنه لم يعطه جامكية ستة أشهر، فأحضر أستاذه، وأنزله عن فرسه، وقلّعه قماشه، وألبسها للركبدار، وألبس الجندى ثياب الركبدار،

وقال: «احمل مداسه واخدمه ستة أشهر»، فشفع فيه حتى أعفى، وأعطى الغلام حقه، وزاده. وكان إذا سافر لا يجسر أحد أن يتناول من فلاح بيضة ولا عليقة بغير حقها، وربما شنق من الجند على شئ من ذلك. وكان لما مرض انقطع أياما، وشنع بموته. ثم انصلح قليلا، فأمر بالسّماط، فمدّ بين يديه، وجلس مجلسا عاما، وأمر بالدخول عليه. وفرح ذلك اليوم فرحا شديدا، وأخلع وأنعم، وأعطى. وتقدمت الأدباء والشعراء وامتدحوه. وأجاز جوائز سنية. ثم نظر إلى ابن النابلسى، وهو بين يديه جالس، وهو يومئذ صاحب ديوان الإنشاء، فقال له: «وأنت ماذا تقول؟»، فأنشده على البديهة يقول: ولما شكوت شكا كل ما … على الأرض واعتلّ شرقا وغربا وتاه بذاك قلوب الأنام … ولم يبق للناس عقلا ولبا لأنك قلب لهذا الزمان … وهل صح جسم إذا اعتلّ قلبا قال: فأعجبه ذلك، ووقع على كل سطر بمائة دينار. ثم انتكس من ليلته. قال العدل عماد الدين يحيى الحسنى البصرى: حدثنى الخادم مجير الدين خادم السلطان الملك الكامل، قال: طلب منى السّلطان الطست ليتقيأ. قال: فأحضرته. وكان الناصر داود جالسا على الباب، فطلب الإذن للعبور إليه. فقلت للسّلطان: «داود على الباب». فقال: «ينتظر موتى!» وانزعج. فخرجت وقلت له: «ماذا أوقفك يا خوند؟» فقام وتوجه إلى دار أسامة، وكان نازلا بها. ثم جلست ساعة ودخلت فوجدته قد مات، والطست بين يديه، وهو مكبوب على المخدة، رحمه الله تعالى. قال ابن واصل فى تاريخه: إن وفاة السلطان الملك الكامل فى سنة خمس وثلاثين.

ذكر تملك الملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود ابن السلطان سيف الدين الملك العادل لدمشق

والذى نقلته فى جميع هذا التاريخ عن أبى المظفر محيى الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين أبى الفرج بن الجوزى، وفيه مناقضة لتاريخ ابن واصل. قال ابن واصل: إن مدة مملكة الملك الكامل استقلالا بالديار المصرية وما معها -من حين توفى السلطان الملك العادل أبوه-عشرون سنة. وكان فيها نائبا عن أبيه فى حياته عشرين سنة أخرى. وأشبه حاله فى ذلك حال معاوية بن أبى سفيان -رضى الله عنه-فإنه ولى الشام أميرا عشرين سنة، وخليفة عشرين سنة أخرى. ثم اجتمع الأمراء، وهم: الأمير سيف الدين على بن قليج، والأمير عز الدين أيبك، والأمير ركن الدين الهيجاوى، والأمير عماد الدين بن موسك، والأمير فخر الدين وأخوه عماد الدين أبناء الشيخ، فتشاوروا، وانفصلوا على غير شئ. وافترقت الأغراض والأهواء؛ فمنهم من أشار بالناصر داود، ومنهم من أشار بالجواد. وأشاروا على الناصر داود أن يخرج الأموال، ويرغّب الناس. وكان عماد الدين بن الشيخ يكره الناصر، فأشار بالجواد، ووافقوه الباقى، وأرسلوا الركن الهيجاوى يوم الجمعة يقولوا للناصر داود-وهو نازل بدار أسامة-: «إيش قعادك فى بلد القوم؟»، فخرج وركب، والعامة تظن أنه صاحب الملك، حتى خرج من باب الفرج، فصاح العامة: «لا! لا! لا!». وانقلبت دمشق، ووقع [بهاء الدين] ابن ملكيشو فى الناس بالدبابيس، وهو يومئذ والى دمشق، وهم لا يكادون يرجعوا. ذكر تملك الملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود ابن السلطان سيف الدين الملك العادل لدمشق قال أبو المظفر-رحمه الله-: ثم إن الملك الجواد لما اجتمعت آراء الأمراء عليه، فتح الخزائن، وأخرج الأموال، وحسب تقدير ما فرقه فكان ستمائة ألف دينار، وخلع،

وأعطى، وبطّل المكوس والخمور. وأما الناصر، فإنه أقام بالقابون أياما، ينتظر الغوائل والفرصة، فأجمع الأمراء رأيهم على القبض عليه، فسير إليه فى الباطن عماد الدين بن موسك يعرفه، فرحل ونزل قصر حجاج، ثم قصر عفرا، وأقام. فجردوا إليه عز الدين أيبك الأشرفى ليمسكه. فلما بلغه سار إلى عجلون، ثم سار من عجلون إلى غزة، واستولى على الساحل. فتجهز الملك الجواد، وخرج إليه فى عسكر مصر والشام، وقال للأشرفية: «كاتبوه وطمعوه»، ففعلوا واغترّ بذلك، فساق من غزة فى سبع مائة فارس بجميع خزائنه وأثقاله-وكانت على سبع مائة جمل-وترك عساكره منقطعة خلفه، وضرب دهليزه على سبسطية، والجواد على جينين. ثم ساق عليه الجواد، وأحاط بالناصر، فهرب فى نفر قليل إلى نابلس، وترك أمواله وأحماله، فأخذها الملك الجواد بأحمالها، واستغنى بها، وافتقر الناصر إلى آخر الأبد. قال أبو المظفر: وبلغنى أن عماد الدين بن الشيخ وقع بسفط فيه اثنا عشر قطعة من الجوهر مع فصوص ليس يعرف لهم قيمة فيعبر عنها، فدخل على الجواد، واستوهبه منه، فوهبه له. ثم سار الناصر لا يلوى على شئ حتى طلع الكرك. وكانوا قد أشاروا عليه أن ينفذ خزائنه إلى الكرك، ويتقدم، فإذا حصل له الغرض كانت الأموال قدامه، فلم يلتفت إلى مشورة من أشار، واغترّ بمكاتبة الأمراء الأشرفية، ولله فى خلقه أسرار خفية، وحكم مطوية. ثم توجه فخر الدين بن الشيخ إلى الديار المصرية، وبها يومئذ الملك العادل الصغير سيف الدين أبو بكر بن السلطان الملك الكامل. واستقر الملك الجواد نجم الدين أيوب بن السلطان صلاح الدين ملكا بدمشق.

وكذلك كل ملك على ما بيده من البلاد. وكان صاحب حمص خائفا من الملك الكامل بسبب اتفاقه مع الأشرف عليه. فلما توفى الكامل، كاد يجن من الفرح، وركب إلى الميدان، ولعب الأكرة. ولم تكن له بذلك عادة. وأمّا صاحب حماة، فإنه لما بلغه موت الكامل انقطع ظهره، واشتد خوفه من صاحب حمص. وفيها نزل عسكر حلب على المعرات وملكهما، واستولوا على تلك الأعمال. ولمّا توفى الملك الكامل-رحمه الله-كان الملك الصالح نجم الدين أيوب -ولده-بالشرق، وقد فتح سنجار ونصيبين والخابور. ثم إنه توجه إلى الرحبة، وهى يومئذ فى مملكة الملك المجاهد أسد الدين شير كوه صاحب حمص، فهو فى حصارها، وقد عزم أن ينتقل إلى حمص بمكاتبة كانت بينه وبين أبيه فى ذلك، إذ ورد عليه الخبر بموت السلطان والده، فرحل عنها. وخرجت الخوارزمية عن طاعته، ورجع هاربا إلى سنجار، ولله در قول العرب: «الخيل ترعى بالحصان المربوط». ثم إن الملك الصالح سيّر إلى بعض الخوارزمية واسترضاهم، وأنعم عليهم، وعادوا إلى خدمته. وفى هذه السنة وقع الخلف فى سائر الأقاليم، شرقا وغربا. وفيها اتفق الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب، مع الملك غياث الدين كيخسرو بن علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو السلجوقى، صاحب الروم، على الملك نجم الدين أيوب. وخطب غياث الدين بنت الملك العزيز أخت الملك الناصر يوسف صاحب حلب، وأرسل رسله إلى الصاحبة الست خاتون والدة الملك العزيز، فوقع الاتفاق على ذلك. واجتمع الناس بقلعة حلب، وعقدوا عقد غازية خاتون على

السلطان غياث الدين كيخسرو المذكور، وتولى العقد القاضى كمال الدين بن العديم، على مذهب أبى حنيفة-رضى الله عنه-وذلك لصغر سنّ الزوجة. ووقع العقد على صداق مبلغه مائة ألف درهم، ونثروا الذّهب والفضة، واللؤلؤ. وفى تلك الساعة وصلت البطاقة أن عسكر حلب أخذوا المعرات، فضربت البشائر بحلب. ثم سير الملك الناصر القاضى كمال الدين بن العديم رسولا إلى غياث الدين صاحب الروم، وكتب على يده توقيعا أنه قد أوهبه الرّها وأعمالها، وسروج وأعمالها، وملكها له تمليكا صحيحا شرعيا، وأشهد عليه فيه بذلك. وهذان البلدان لم يكونا تحت أمره ولا فى سلطانه، وإنما كانا فى مملكة الملك الصالح. فلما بلغ الملك الصالح ذلك صعب عليه، وحصل التنافس فى ذلك. وفيها نزل الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل على سنجار، وفيها الملك الصّالح، وحاصره، ولم يظفر بطائل. وسيّر الملك الصالح القاضى بدر الدين يوسف ابن الحسن إلى الخوارزمية، يستدعيهم إليه ويسترضيهم، وضمن لهم القاضى عن الملك الصالح كل ما يريدون منه، وأقطعهم البلاد، من جملتها حرّان والرّها وسروج، فعادت الخوارزمية إلى خدمته. فلما بلغ بدر الدين لؤلؤ ذلك من رجوع الخوارزمية إلى خدمة الملك الصّالح، هرب إلى الموصل، فتبعوه وكسروه كسرة شنيعة. ثم جهز لهم صاحب الروم جيشا كثيفا، فالتقوا معه أيضا، وكسروه، واستقام ملك الملك الصّالح بهم، وعظم شأنه، وخشيته الملوك. وفيها خطب للسّلطان غياث الدين صاحب الروم بحلب، مع الناصر، وضرب اسمه على الدرهم والدينار مع اسم الملك الناصر. وفيها حصل الاتفاق بين الملك الجواد صاحب دمشق والملك الصالح صاحب الشرق، بالمقايضة: دمشق بسنجار وعانة. وسبب ذلك أن الملك الجواد ضاق ذرعه وعجز عن القيام بمملكة الشام.

قال أبو المظفر: قال الجواد: «أنا إيش أعمل بالملك؟ باز وكلب عندى خير من ملك الأرض». وكان أسد الدين قد جاء إلى دمشق، وأقام بها، وقتل عماد الدين ابن الشيخ بقلعة دمشق. وانحصر منه الجواد انحصارا عظيما. وكان الجواد يظهر أنه نائب العادل صاحب مصر. فلما قتل ابن الشيخ-فى حديث طويل السّبب- اختشى الجواد على نفسه من أسد الدين الملك المجاهد صاحب حمص، فخرج الجواد من دمشق بحجة الصيد، وضرب فى البرية، وسيّر كاتب الملك الصّالح نجم الدين أيوب، وسأله على المقايضة. وعلم صاحب حمص بذلك، فرحل من دمشق، ودخل حمص. وكان فى قلب الملك الصّالح منه قلوب وحقائد دفينة، لما جرى منه فى حق أبيه الكامل. ودخل الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى دمشق فى العشر الأول من شهر جمادى الآخرة، والملك الجواد حامل الغاشية بين يديه. ثم حملها الملك المظفر تقى الدين محمود صاحب حماة. واتفق أن سنجق الملك الصّالح انكسر عند باب القلعة، فتطيّرت الناس من ذلك. وكان فألا لما ناله الملك الصّالح بعد ذلك من تغلب إسماعيل الملك الصالح على دمشق، واعتقال الملك الصالح بالكرك، حتى فرّج الله عز وجل عنه، وملك الأرض، حسبما يأتى من ذكر ذلك فى تاريخه إن شاء الله تعالى. قال أبو المظفر-رحمه الله-: ونزل الملك الصالح بالقلعة، ونزل الملك الجواد دار فرخشاه. ثم إن الجواد ندم على ذلك، فاستدعى المقدمين والجند، واستحلفهم. وجمع الملك الصّالح أصحابه عنده بالقلعة، وأراد أن يحرق دار فرخشاه، فدخل جمال الدين [على بن] جرير فى الصلح بينهما، وخرج الجواد إلى النّيرب. واجتمع الخلق على باب النصر يدعون على الجواد ويسبونه، ويشتمونه فى وجهه.

وسبب ذلك أنه كان سلّط عليهم خادما يقال له الناصح، فأخذ أموال الناس باليد، وصادرهم، وضربهم بالسياط، وعلّقهم بأرجلهم، واستخرج منهم ستمائة ألف درهم. فلمّا خرج الجواد من دمشق وقف الناس للملك الصّالح، فسيّر إليه يقول له: «ردّ على الناس أموالهم»، فلم يلتفت لذلك. ومات والأموال فى ذمته. وكان قبل ذلك-وقبل المقايضة-قد قبض الجواد على صفى الدين بن مرزوق وأخذ منه أربع مائة ألف دينار، واعتقله فى قلعة دمشق، فأقام ثلاث سنين. حكى الشيخ إبراهيم المرزوقى قال: لما توفى السلطان الملك الكامل، وتولى الملك الجواد، وعاد لا يفعل شيئا إلا برأى الملك المجاهد صاحب حمص، استشعر صفى الدين بن مرزوق من الملك المجاهد أنه قاتله، لما كان بينهما من العداوة لما استوزره الأشرف، فصنع صفى الدين تابوت خشب، وترك فيه جواهر عظيمة، ولؤلؤا وفصوصا وياقوتا، لهم صورة كبيرة، وأظهر أن إحدى سراريه قد ماتت، وهى عزيزة عنده، وأنه يريد دفنها فى داره التى داخل مدرسة نور الدين الشهيد، بالقرب من الخواصين، التى تعرف اليوم بالنجيبة الشافعية. وفيها قبة، ولها شباك إلى الطريق. ثم أطلع التابوت على رقاب غلمانه إلى الجامع، وحضرت كبار دمشق، وصلوا على الميتة التى زعم أنها فى ذلك التابوت، وعمل العزاء والمآتم. وانفصل الحال، وعاد المقرئ يتردد للقراءة على ذلك القبر الذى فيه التابوت. وسلم الصفى مفتاح القبة للشيخ إبراهيم المرزوقى-ناقل هذا الحديث-ثم مسك الصفى بعد ذلك بأشهر يسيرة، وأخذوا منه ما ذكرناه، واحتمل أمورا كثيرة، ولم يعترف بذلك التابوت، واعتقل بقلعة دمشق. فلما مضى على ذلك قليل، اختصم خادم كبير للصفى مع خادم صغير،

فضرب الكبير الصغير، فتوجه لما حمله حنقه إلى القلعة، وقال: «معى نصيحة». فدخلوا به إلى الجواد وأسد الدين الملك المجاهد، وأخبرهما بخبر التابوت. فبعثوا القاضى، والشهود، وأمير جاندار، وأستادار، وأخرجوا التابوت، وأحضروه بين أيديهم بختمه، ففتحوه، فطلع منه شئ يبهر العقول، من جواهره ولآليه وفصوصه، فأحضروا الجوهريين فقوموه بمائتى ألف دينار وستين ألف دينار. وكان قد أحضروا الصفى قبل ذلك، وحلف برأسيهما أنه لم يكن بقى له موجود. فلما طلع هذا التابوت، سلمه الجواد للملك المجاهد أسد الدين، وحكّمه فى دمه، فنفذه إلى حمص. وفيها انقطعت الخطبة باسم الملك العادل صاحب مصر من دمشق، واستقرت باسم الملك الصالح نجم الدين أيوب. ثم وقع الصلح بين الملك الصالح وبين أسد الدين الملك المجاهد صاحب حمص، وحضر إلى خدمته بدمشق، وحضر الملك المظفر أيضا صاحب حماة. وفيها توجه الملك الناصر صاحب الكرك إلى مصر، واتفق مع الملك العادل على الملك الصالح. ثم خرجت السنة.

ذكر سنة سبع وثلاثين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة سبع وثلاثين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وثمانية أصابع. مبلغ الزيادة سبع عشر ذراعا، وخمسة عشر أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين. والوزير بحاله. والسلطان بالديار المصرية الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن الملك الكامل. وصاحب الشام الملك الصّالح نجم الدين أيوب بن السلطان الملك الكامل. وصاحب الكرك الملك الناصر داود بن الملك المعظم شرف الدين عيسى. وصاحب حماه الملك المظفر تقى الدين محمود بن الملك المنصور، المقدم ذكره. وصاحب حمص الملك المجاهد أسد الدين شير كوه، المقدم ذكره أيضا. وصاحب بعلبك الملك الصّالح إسماعيل المعروف بأبى الخيش، المقدم ذكره. وصاحب حلب الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز بن الظاهر. وصاحب سنجار الملك الجواد نجم الدين أيوب بن السلطان صلاح الدين. وصاحب ماردين الملك المظفر قرا أرسلان، المقدم ذكره أيضا. وصاحب الموصل الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ النورى، المقدم ذكره. وصاحب الجزيرة العمرية الملك المنصور محمد بن سنجر شاه، المقدم ذكره. وصاحب الروم غياث الدين غازى كيخسرو بن علاء الدين كيقباذ. والتتار جائلون فى أقطار الأرض، حيث سقطوا لقطوا، وإن حلوا. وفيها هجم الملك الصالح إسماعيل دمشق وملكها. وسبب ذلك أن الملك الصالح نجم الدين أيوب كان قد توجه إلى نابلس، فاتفق الصالح إسماعيل، والملك المجاهد صاحب حمص، والأمير عز الدين أيبك صاحب صرخد، فإنه كان منحرفا عن

الصالح أيوب، ولم يأته ولا دخل فى طاعته. وكان متفقا مع الصالح إسماعيل. وكان الصالح أيوب قد نفّذ الحليم سعد الدين من نابلس، ومعه طيور البطائق، يعرفه أحوال الصّالح إسماعيل، وقتا بوقت. فكان سعد الدين يكتب البطائق بما يراه من تغير الأحوال، ويربطها على أجنحة الحمام، ويعطيهم للبراج، فيمضى بهم إلى السامرى الذى عاد وزير الصالح إسماعيل، وكان له بدمشق عينا، فيأخذ السامرى تلك البطائق ويكتب للملك الصالح أيوب بالعكس مما كتبه سعد الدين، فيطيب خاطره بذلك. وكان الملك الصّالح أيوب-رحمه الله-سليم الباطن، عديم المكر. هذا والصالح إسماعيل يبعث الأموال إلى المقدمين وكبار الناس من الجيوش، ويفسد الحال على الملك الصّالح فى الباطن. فلما أتقن أمره خرج من بعلبك بالفارس والراجل، على أنه طالب نابلس إلى خدمة الملك الصالح أيوب، على طريق بانياس. فبات بالمجدل، وكتب بطاقة إلى الصالح أيوب أنه واصل إليه، فتهيأ لملتقاه، وركب وقت السحر، وقصد دمشق. ووصل إلى عقبة دمر ووقف حتى لحقه صاحب حمص، ثم هجما دمشق، ودخلا من باب الفراديس فى ساعة واحدة، من غير مانع ولا مدافع. ونزل الصالح إسماعيل داره بدرب الشعّارين، ونزل صاحب حمص داره. وأصبحوا يوم الأربعاء ثامن وعشرين صفر على القلعة، ونقبوها من ناحية باب الفرج. وكان فيها الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك الصالح أيوب، فاعتقله الصّالح إسماعيل بالبرج، واستولى على القلعة. ولم يكن بها ذخائر ولا نجدة. وكان الصالح أيوب قد ركن إلى أيمان الصالح إسماعيل وعهوده ومواثيقه. ولم يعلم أن الملك عقيم عقوق. وبلغ الصالح أيوب ما جرى، وقيل له لم تؤخذ القلعة، فخلع على خمسة نفر ممن ذكر

ذلك له. ثم ساق طالبا دمشق. فلما وصل القصير، بلغه أخذ القلعة. ثم مال الناس عنه بأسرهم، وخافوا على أهاليهم، وكان أكثرهم قد لعب الفساد بعقولهم، فرحل الناس طالبين دمشق. وعاد الملك الصّالح فى مماليكه وغلمانه، فرحل من القصير يريد نابلس على طريق جينين، فطمع فيه أهل الغور والعشير، وكان مقدمهم رجلا جاهلا يقال له تبل من أهل بيسان، مفسدا سفاكا للدماء، فتبع الملك الصالح فى جمع من أصحابه، وعاد يحمل عليهم بمماليكه قلبة بقلبة، وأخذوا بعض ثقله. وكان الوزيرى قد عاد إلى نابلس، فأرسل إليه يقول: «قد مضى ما مضى وما زالت الملوك كذا، وقد جئت الآن مستجيرا بابن عمى». ونزل فى الدار بنابلس. واتفق عود الملك الناصر داود من مصر على غير رضى من العادل، فوصل إلى الكرك، وكتب الوزيرى إلى الناصر يعرفه ذلك، فبعث الناصر الأمير عماد الدين بن موسك، والظهير بن سنقر الحلبى، فى ثلثمائة فارس إلى نابلس. فركب الملك الصالح، والتقاهم فخدموه، وقالوا له: «طيب قلبك فقد بلغ ابن عمك قولك أنا مستجير به، وقد أجارك، ونحن قد سيرنا إلى خدمتك خوف عليك من يد الغير». فشكر لهم ذلك، ونزل داره، ونزلوا. فلما كان بعد ذلك بأيام قلائل ضرب النفير، وقالوا: «قد جاءت الفرنج إلى الظهر». فركب الناس ومماليك الملك الصالح، ووصلوا إلى سبسطية، فاغتنم عماد الدين الفرصة ودخل على الصالح، وكذلك الظهير، وقبضوا عليه، وأخذوا سيفه، وقالوا: «أجب ابن عمك الملك الناصر». قال أبو المظفر-رحمه الله-: وبلغنى أن جاريته كانت حاملا، فطرحت فى تلك الساعة. وأخذوه وتوجهوا به إلى الكرك. قال أبو المظفر: لما اجتمعت بعد ذلك بالملك الصالح فى سنة تسع وثلاثين،

وهو يومئذ سلطان الإسلام، حكى لى صورة الحال، قال: ركبونى بغلة بغير مهاميز ولا مقرعة ولا دبوس، وساروا بى إلى البرية فى ثلاثة أيام، فو الله ما كلمتهم كلمة واحدة، ولا أكلت لهم زادا، حتى حضر خطيب الموتة ومعه دجاجة فأكلتها، وأقاموا بى فى البرية يومين، ولا أعلم مقصودهم ما هو. وكان قصدهم أن يطلعونى الكرك فى طالع نحس، يقتضى ألا أخرج من الكرك. ثم أدخلونى الكرك ليلا، على الطالع الذى اختاروه لنحسى، فاختاره الله عز وجلّ لسعادتى ونحسهم. ووكّل بى مملوك فظ غليظ يقال له زريق. وكان علىّ أضر من كل شئ أنا فيه، فأقمت عندهم إلى شهر رمضان، سبعة أشهر. ولقد كان عندى خادم صغير، فأكل كثيرا فتخم، وبال على البساط، فأخذت البساط بيدى وخرجت إلى الدهليز، وقلت: «يا مقدمين هذا الخادم قد أتلف هذا البساط، لعل تأخذوه وتغسلوه فى النهر بالوادى». قال: فنفر فىّ زريق، وقال: «إيش خروجك إلى هاهنا؟» وصاحوا علىّ. وكان قد وكل بى ثمانين رجلا، فعدت إلى موضعى وبكيت، وتوسلت إلى الله عز وجل. ثم إن الوزيرى طلع بخزائنى وخيولى وحريمى إلى قلعة الصلت، وأقام مماليكى بنابلس. وحضر ابن النابلسى من مصر من عند العادل، يطلبنى من الناصر، وأبدل له فىّ مائة ألف دينار، فما أجاب لذلك. وكذلك كاتبه الصالح إسماعيل وأسد الدين صاحب حمص، وأبذلوا له أموالا عظيمة، فلم يجبهما إلى ذلك. فلما طال مقامى عنده، استشار عماد الدين بن موسك، وابن قليج والظهير، وسخره الله عز وجل لما كان لى كامن فى الغيب من السعادة، فاتفقوا على إخراجى، فأخرجنى

ذكر سلطنة السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب

فى آخر شهر رمضان، وحلفنى على أشياء ما تقدر عليها ملوك الأرض، وهو أن آخذ له دمشق وحمص وحماة وحلب والجزيرة والموصل وديار بكر، ويكون له نصف ديار مصر، ونصف ما فى هذه الخزائن التى لملوك هذه الأقاليم. قال: فحلفت له من تحت القهر والسيف، والله مطلع على ضميرى. ولما بلغ العادل من مصر والصالح من دمشق مع بقية الملوك أنه أخرجنى، رماه الجميع عن قوس واحدة، وعزموا على قصده، فكان أول من برز إليه العادل من مصر إلى بلبيس جريدة بالعساكر المقوية، فاختلفوا عليه، وقبضوه يوم الجمعة ثامن ذى القعدة، وأرسلوا إلى الصالح يعرفونه. وكانت مدة ملك العادل الديار المصرية سنتين وشهورا. ذكر سلطنة السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب وذلك لما وصل إليه رسول الأمراء المصريين يستحثونه فى سرعة القدوم عليهم، ظن أن ذلك خديعة من العادل، فسأل الناصر أن يتوجه معه، فأنعم، وسارا جميعا طالبين مصر، مع عسكر الكرك، وجماعة من الأمراء. وكان وصول الملك السلطان الصالح أيوب إلى بلبيس يوم الأحد رابع عشرين ذى القعدة، فنزل فى خيمة العادل، والعادل معتقل فى خركاة. قال أبو المظفر: قال لى الملك الصّالح أيوب: «ما قصدت مجئ الناصر صاحب الكرك معى إلا خشية أن تكون معمولة علىّ من جهة العادل. ثم إن الناصر

تغيّر علىّ، وطمعت نفسه بالملك، وطمعته حاشيته بذلك، فأراد قتلى، فسلم الله منه». ثم إن الناصر شرب تلك الليلة وطاب ونحن على بلبيس، فشطح إلى عند العادل، فخرج إليه العادل وقبل له الأرض. فقال له: «كيف رأيت ما أشرت به عليك؟» فقال: «يا خوند العفو والتوبة على يديك. وأنا فى جيرتك». فقال: «طيب قلبك. الساعة أخلصك». ثم جاء إلى عندى، فدخل الخيمة، ووقف. فقلت: «بسم الله اجلس». فقال: «ما أجلس حتى تطلق العادل الساعة». فمازلت ألاطفه حتى نام. فما صدقت بنومه [وقمت فى باقى الليل]. ولو أطلقت العادل تلك الساعة ضربت رقبتى ورقبته جميعا. ثم قمت فى باقى الليل، فأخذت العادل فى محفة ودخلت القاهرة أذان الصبح. وبعثت إلى الناصر بعشرين ألف دينار، ورجع من بلبليس إلى الكرك. وفيها سلم الناصر داود صاحب الكرك القدس الشريف للفرنج، فلم يزل فى أيديهم إلى أن فتحها الله على يد الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز بن الظاهر ابن السلطان صلاح الدين، فى تاريخ ما يأتى ذكره. فلما عادت دار إسلام كما كانت عليه، فقال فيه بعضهم: المسجد الأقصى له عادة … صارت وسارت مثل سائر إذا غدا بالكفر مستوطنا … أن يبعث الله له ناصر فناصر ظهره أولا … وناصر ظهره آخر

ذكر سنة ثمان وثلاثين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثمان وثلاثين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين. والوزير بحاله. والملوك كذلك، خلا صاحب حمص، فإنه توفى إلى رحمة الله تعالى. وقام بمملكة حمص الملك المنصور ولده إبراهيم بن أسد الدين شير كوه، وباقى نسبه قد تقدم. وفيها كانت الوقعة بين الحلبيين والخوارزمية. وكان الجواد مع الخوارزمية، وكذلك صاحب حمص. ونزلوا على باب بزاعة فى خمسة آلاف فارس، فخرج إليهم عسكر حلب فى ألف وخمسمائة فارس، فكسروهم كسرة عظيمة، وأسروا أمراءهم، ونهبوا أثقالهم، وساقوا إلى جيلان، وقطعوا المياه عن حلب، ثم رجعوا إلى منبج، فنهبوا وقتلوا، ثم إلى حرّان. ثم إن الحلبيين استدعوا صاحب حمص إليهم، فمال معهم، ونزل بعسكره على حلب. والسبب فى مجئ الخوارزمية أن الملك الحافظ صاحب قلعة جعبر لحقه مرض الفالج، فخاف من الخوارزمية لينزعوا منه قلعة جعبر، فسيّر إلى الصاحبة أم الملك العزيز صاحب حلب يسألها أن تتسلم منه القلعة، وتعوضه بنظيرها من أعمال حلب. فلما تم ذلك، حمل الخوارزمية الغيظ، حتى قصدوا حلب، وفعلوا ما فعلوا. وهذا تلخيص الكلام.

ذكر عجائب مما ذكر رسول التتار

وفيها وصل رسول التتار إلى ميّافارقين، إلى عند المظفر غازى، وقال الرسول له: «قد جعلك القان سلحداره، وأمرك أن تخرب أسوار بلادك جميعها». وعلى يد الرسول كتاب من جكزخان عنوانه يقول: «من نائب رب السماء، ماسح وجه الأرض، ملك الشرق والغرب، طولا وعرض، قاقان». فقال المظفر غازى: «أنا من جملة الملوك، وبلادى حقيرة بالنسبة إلى الروم والشام ومصر، فتوجه إليهم، ومهما فعلوه أنا موافق». وكان هذا الرسول شيخا لطيفا من أهل أصبهان. ذكر عجائب مما ذكر رسول التتار منها أنه قال أن بالقرب من بلاد القان يأجوج ومأجوج، وهم صور مختلفة، ربما رأوا منهم جماعة على أعلى السد مرارا. وقد تقدم ذكرهم فى هذا التاريخ فى عدة أماكن منه، مما يغنى عن تكرار القول فيهم ها هنا. ومنها أن بجوارهم على البحر المحيط أقوام ليس لهم رءوس، وأعينهم وأفمامهم فى مناكبهم. وإذا رأوا الناس هربوا منهم، وعيشهم أكل السمك. وقد ذكرنا ذلك أيضا فى هذا التاريخ عند ما ذكرنا ملوك السامانية فى الجزء الرابع منه، وأصل هؤلاء القوم، واسمهم الذى يعرفون به، من أبيهم الأول، مما يغنى إعادته ها هنا. ومنها أن فى تلك النواحى أناس يزرعون فى الأرض بزرا فيتولد منه الغنم، كما يتولد دود الحرير، وأن الخروف لا يعيش غير شهرين، مثل إقامة سائر النباتات فى الأرض، وأنها لا تتناسل. ومنها أن بماء زيدان عين ماء، وهى بركة واسعة، تطلع فى كل ستة وثلاثين سنة، صفة خشبة غليظة، شبه المنارة العالية، فتقيم طول ذلك النهار إلى أن تغرب الشمس، فتغوص فى الماء، فلا تعود تظهر إلى مثل ذلك الحين [إلا] بعد ستة وثلاثين سنة.

وأن بعض ملوك العجم حضر سنة فى ذلك الوقت الذى فيه ظهورها وطلوعها، فربطها بسلاسل من حديد فى غاية القوة، وأوثقها وثقا جيدا فى أساطين من حديد قد ضربت فى الأرض من أربع جوانبها، واستوثق منها بأشد ما يكون. فلما كان وقت غوصها، قطعت تلك السلاسل، وغاصت على عادتها. قال: وهى إلى الآن إذا طلعت رأى الناس السلاسل فيها مشدودة فى وسطها. وفيها اختلف عسكر مصر على السلطان الملك الصالح أيوب، فمسك كثيرا منهم. فمن الأمراء الذين قبض عليهم الملك الصالح الأمير عز الدين أيبك الأسمر الأشرفى، مع سائر الأشرفية. ومن الخدام الكبار الذين كانوا حكام الدولة العادلية؛ جوهر النوبى، وشمس [الدين] الخواص. وانتظم الملك له بعد ذلك. واستوزر معين الدين بن شيخ الشيوخ، ومكنه، وفوض إليه تدبير المملكة، وشرع فى شراء المماليك الترك. وفها تسلم عسكر الروم آمد بعد حصار شديد. وكان بآمد يومئذ الملك المعظم غياث الدين توران شاه بن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، فتوجه منها إلى حصن كيفا، واستمر به إلى قدومه إلى الديار المصرية، بعد وفاة أبيه، حسبما يذكر من بعد. واستقر بحصن كيفا ولده الملك الموحّد عبد الله، فاستمر الملك الموحد بحصن كيفا تحت حكم التتار. وله بحصن كيفا عدة أولاد. وكان لما توجه والده الملك المعظم إلى الديار المصرية عمره عشر سنين.

وفيها [كانت] كسرة الحلبيين للخوارزمية، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وهرب مقدمهم بركة خان إلى الخابور. وأخذ المنصور إبراهيم صاحب حمص حران، وعصت عليه القلعة. وفيها-خامس شعبان-حفر أساس قلعة الجزيرة بمصر. وفى عاشر ذى القعدة هدمت الدّور التى بالجزيرة، وتحول سكانها عنها. ولما كمل بناء القلعة، قال فيها على بن سعيد الأندلسى: تأمل لحسن الصالحية إذ بدت … وأبراجها مثل النجوم تلالا ووافى إليها النيل من بعد غاية … كما زاد مشغوفا يروم وصالا وعانقها من فرط وجد لحسنها … فمدّ يمينا نحوها وشمالا وفى رابع المحرم شرع فى بناء القنطرة التى على الخليج، وهى التى تعرف بقنطرة السد. وفيها-خامس شهر رمضان المعظم-قبض السلطان الملك الصالح على الأمراء الأشرفية الذين كانوا بالديار المصرية، لما بلغه عنهم ما عزموا عليه من فساد الدولة. ونودى فى مصر والقاهرة من اختفى عنده أحد من الأشرفية شنق، وغلقت أبواب القاهرة مدة أيام، خلا باب زويلة، وذلك حرصا على مسكهم، ثم قيدوا واعتقلوا. وفى سابع عشرين ربيع الأول تولى بدر الدين بن باخل ثغر الاسكندرية. وكان قبل ذلك متولى مصر. وفى ربيع الآخر وردت الأخبار أن الملك الناصر صاحب الكرك والملك الصالح إسماعيل صاحب دمشق يومئذ اصطلحا وتحالفا، واتفقا مع الفرنج، وسلموا لهم القدس

الشريف وصيدا وبيروت. ولم تزل فى أيديهم إلى أن فتحها الله على يد الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب حلب فى سنة إحدى وخمسين وستمائة. ثم إنه صالح الفرنج أن يكون القدس بينهم مناصفة. ولم تزل كذلك إلى أن خرجت البلاد عنه، واستقر للفرنج صفد وطبرية وهونين. قال ابن واصل: وفيها قدم القاضى بدر الدين يوسف بن الحسن الزرزارى، المعروف بقاضى سنجار، على السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، بالديار المصرية، من بلاد حماة، فالتقاه أحسن ملتقى. وكان له عنده يد متقدمة، لما أنجده بسنجار وهو محصور وقدم عليه بالخوارزمية بعد خروجهم عنه عند وفاة الملك الكامل، فخلصوه من حبائل الأسر الذى كان قد تعاين له من بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، فأحسن مكافأته، وولاه القضاء بالديار المصرية بمصر والوجه القبلى، بكماله. وكان القضاء بكماله للقاضى شرف الدين المعروف بابن عين الدولة الإسكندرى، فأبقى بيده قضاء القاهرة مع الوجه البحرى. وكان شرف الدين قد طالت مدة ولايته من أيام الكامل، وإلى هذا التاريخ. وكان القاضى شرف الدين بن عين الدولة-مع حرمته ورياسته وسكونه-كثير المزايد، مليح الأجوبة، حسن المحاضرة، يقول الشعر الجيد، فى شعره يقول: وليت القضاء وليت القضاء … لم يكن شيئا توليته فأوقعنى القضاء فى القضاء … وما كنت قدما تمنيته ومن زواده أن حضرت بين يديه امرأة المحاكمة فقال لها: «ما اسمك؟». قالت: «ست من يراها!»، فوضع كمه على عينيه. وقال بعض العدول يوما بين يديه: «إن هذا المكان قليل الهواء، كثير الناموس». فقال القاضى: «هكذا ينبغى تكون مجالس الحكام». وفيها توفى مجد الدين بن اللمطى بمنية بنى خصيب. وهو أبو الطاهر إسماعيل

ابن أبى الفوارس أحمد بن الحسن المنعوت بالمكرم. وكان قد ولى عدة ولايات بالديار المصرية. ومولده سنة خمس وأربعين وخمسمائة. وفيها ملك الناصر صاحب حلب قلعة جعبر، بتدبير الزين الحافظى على الملك الحافظ صاحبها. وهو نور الدين أرسلان شاه، وأخرجوه منها، ودخل حماه. وفيها كانت عدة حروب بين ملوك الإسلام. وكل ذلك لما أراده الله عز وجل من تملك التتار وتحكمهم فى البلاد. وفيها استولت الخوارزمية على بلاد كثيرة، وفعلوا أقبح ممّا فعلوه التتار. هذا قبل كسرتهم من الحلبيين.

ذكر سنة تسع وثلاثين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة تسع وثلاثين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا، وسبعة عشر أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين. والوزير بحاله. والسلطان الملك الصّالح نجم الدين أيوب سلطان الإسلام بالديار المصريّة. والصالح إسماعيل بدمشق. والناصر داود بالكرك. والمنصور إبراهيم بحمص. والمظفر محمود بحماه. والناصر يوسف بحلب. وباقى الملوك حسبما ذكرناه من قبل. وفيها شرع السلطان الملك الصّالح فى عمارة المدارس بالقاهرة. وفيها كان دخول الشيخ عز الدين بن عبد السلام إلى الديار المصرية، وولاه الملك الصّالح نجم الدين القضاء والخطابة معا بمصر مع الوجه القبلى. ثم إنه عزل نفسه وانقطع، رضى الله عنه. قلت: هذا ما ذكره أبو المظفر من تولية القاضى عز الدين بن عبد السلام. وفيها توفى الملك الحافظ أرسلان شاه صاحب قلعة جعبر، بمرض الفالج. وفيها كان توجه كمال الدين بن شيخ الشيوخ بعسكر المصريين. وكانت الوقعة بينه وبين صاحب الكرك. وانكسر ابن الشيخ وأسره الملك الناصر صاحب الكرك. ثم منّ عليهم الملك الناصر وأطلقهم من الأسر. وفيها تسلم الفرنج صفد والشقيف، وهما من جملة الفتوح الصّلاحى. وسبب ذلك الخلف بين الملكين صاحب مصر وصاحب الشام. وذلك أن الملك الصالح إسماعيل لما خاف من الملك الصالح أيوب قصد معاضدة الفرنج، فلم يجيبوه حتى سلم لهم هذين الحصنين. وفيها كان مرض الملك المظفر صاحب حماه بالفالج، وبطل شقه، وعجزت الأطباء عن مداواته، وهو لا يورى الأعداء إلاّ تجلدا.

ذكر سنة أربعين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة أربعين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين إلى حين وفاته فى هذه السنة، بكرة يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة، وله أحد وخمسون سنة وأربعة أشهر وسبعة أيام. وكتم موته، ولم يشعر بوفاته، ودعاء الخطباء فى ذلك اليوم له. ثم خرج شرف الدين إقبال الشرابى ومعه جماعة من الخدام إلى التاج الشريف، وحضروا بين يدى ولده. ذكر خلافة الإمام المستعصم بالله وأخباره وما لخص من سيرته هو أبو أحمد عبد الله المستعصم بالله بن المستنصر بالله بن الظاهر بأمر الله ابن الناصر لدين الله. وباقى نسبه قد علم. أمه أم ولد، يقال إنها روميّة، تعرف بقوت القلوب. بويع يوم وفاة أبيه. ودخل عليه شرف الدين إقبال الشرابى وبقية الخدام، وسلموا عليه بأمير المؤمنين. ثم عرّف الوزير وأستادار. وحضر القضاة وبدر الدين بن القمى وبايعوه، وعزوه بأبيه. وكذلك باقى أولاد الخلفاء، ثم سائر الأمراء والأعيان. ثم أعرضت عليه ألقاب الخلفاء، فاختار المستعصم بالله. وفى صبيحة ذلك اليوم رأى الناس أبواب الخلافة مغلقة. وجلس عبد اللطيف ابن عبد الوهاب الواعظ، ثم أخبرت الناس بوفاة الإمام المستنصر، وبيعة الإمام المستعصم. فكان من جملة ما قاله الواعظ من الكلام: «أيها الناس إن إمامكم المستنصر بالله قد درج إلى رحمة الله ورضوانه. وقد بويع ولده الإمام المستعصم بالله

أبو أحمد عبد الله أمير المؤمنين». ثم استدعى إلى دار الخلافة الولاة والزعماء والمدرسون، ومشايخ الرباطات، والأعيان. وفتح باب العامة، فدخل المذكورون وعليهم ثياب العزاء. وانتهى بهم المشى إلى بستان التاج الشريف. وقد نصب بين يدى شباك المبايعة كرسى بدرج، والوزير جالس على أعلى درجة، ومن دونه الأستادار يأخذ البيعة على الناس. ونصها: «بايع سيدنا ومولانا أمير المؤمنين على كتاب الله وسنة نبيه واجتهاد رأيه الشريف، وأن لا خليفة للمسلمين سواه». فبايع الناس أولا فأولا على قدر درجاتهم. ثم أسبلت الستارة، واحتجب بها. ولم تزل المبايعة إلى يوم الاثنين ثالث عشره. ثم تقدم من حضر من الناس، وأمر بالحضور بين يديه إلى دار النوبة. ووصلت محفة الوزير إلى باب الرّواق. وجلست الصدور حوله على قدر مراتبهم، وقرئ القرآن العظيم، وختمت الختمة الشريفة. وتكلم الإمام جمال الدين بن الجوزى، وهو أبو الفرج عبد الرحمن بن محيى الدين يوسف. وانقضى المجلس. واستقر خليفة إلى حين أخذ التتار بغداد، فى سنة ست وخمسين وستمائة، فى شهر المحرم، فكانت خلافته خمس عشرة سنة، وثمانية أشهر. وأخرج من خلافته ومحلّ سلطانه [فى] السابع والعشرين من الشهر المذكور، حسبما يأتى من ذكر ذلك فى تاريخه. وكان لهما أخ يعرف بالخفاجى، كان يزيد على المستنصر بالله فى الشهامة. وكان يقول: «إن ملّكنى الله أمر الأمة لأستنقذن من التتار جميع ما ملكوه من بلاد المسلمين». فأضرب عنه أرباب الدولة لشهامته، ومالوا للمستعصم، للينه، ليكونوا الحكام عليه. وكان ذلك لأمر قد قدر. وكان فيه هوج، وطيش، وظلم، مع بله، وضعف، وانقياد إلى أصحاب السخف. يلعب بطيور الحمام، ويركب الحمير المصرية الفره، غير ناظر إلى أمر مصالح

المسلمين، ولا مفكر فى عواقب الزمان. وهو آخر خلفاء بنى العباس ببغداد. وعدتهم من السفاح إليه أربعة وثلاثون خليفة، بعد ما أسقطنا من جملتهم إبراهيم ابن المهدى، وعبد الله بن المعتز، فإن حسبا فى الجملة كانوا ستة وثلاثين خليفة، مدة ملكهم إلى حين انتقاض أمرهم على يد التتار من العراق-بحكم التقريب لا بالتحرير-يكون خمس مائة سنة، تزيد قليلا أو تنقص قليلا، فإن العبد جمل عدة سنين تملكهم-من السفاح إلى المستعصم هذا على رأى الجماعة أصحاب التواريخ- فكانت خمس مائة سنة وتسع سنين. وأضفت ذلك إلى أيام ملك بنى أمية، وأيام الخلفاء الراشدين، وأيام الهجرة. وأضفت إلى تلك السنين إلى سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، فنقصت عن الجملة، تقدير عشر سنين. ولعلها متداخلة فيما بين المدد، واختلالها من جهة الأشهر والأيام التى لم تحصر، والله أعلم. وفى هذه السنة توفى سيدى الشيخ أبى السعادات بن أبى العشائر الواسطى، قدس الله روحه، ونوّر ضريحه، شيخى وقدوتى، والوسيلة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل، أن يحشرنى على ملته، ويمتنى على محبته، بمنه وكرمه ورحمته. ودفن سيدى الشيخ المشار إليه بالقرافة، بسفح المقطم، نفع الله ببركته. قال ابن واصل: وفى هذه السنة كانت الوقعة بين الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص وبين الملك المظفر شهاب الدين غازى صاحب ميافارقين. وكان مع الملك المنصور التركمان، ومقدمهم يسمى ابن دودا. وكان مع المظفر غازى الخوارزمية، فكانت الكسرة على المظفر والخوارزمية، ونهب أموالهم ونساءهم، وذلك يوم الخميس لثلاث بقين من صفر. ورجع المنصور إبراهيم إلى حلب منتصرا، وهو يومئذ منتظم فى سلك الصاحبة [ضيفة خاتون] أم الملك العزيز صاحب حلب.

وفيها توفت الصاحبة [ضيفة خاتون] المذكورة، واستبد بالأمر الملك الناصر صلاح الدين، وله يومئذ من العمر ثلاث عشر سنة، مراهقا للبلوغ، والرأى راجع إلى الأمير جمال الدولة إقبال الخاتونى، والوزير القاضى الأكرم جمال الدين بن القفطى. وفيها-أعنى سنة أربعين وستمائة-كانت عدة وقعات بين عسكر حلب وبين الخوارزمية، ومعهم شهاب الدين غازى، وكذلك صاحب ماردين الملك السعيد إيلغارى. وآخر الأمر أن صاحب الروم أصلح بينهم، وقعد كل منهم ببلاد ونواحى. وسير صاحب الروم يستخدم الرجال لأجل التتار وما فعلوه، وبطلت النجدة عليهم.

ذكر سنة إحدى وأربعين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة إحدى وأربعين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خال، لم يكن به ماء يذكر. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وثمانية أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستعصم بالله أمير المؤمنين. والوزير بحاله. والسلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب سلطان الديار المصرية وما معها. وفيها كان ابتداء الصلح بين الملك الصالح أيوب والملك الصالح إسماعيل. وكان السفير بينهما فى ذلك من قبل الخلافة الأصيل الخطيب. وأطلق الصالح إسماعيل المغيث عمر بن الملك الصّالح. ثم إن السّامرى وزير الصالح إسماعيل أعكس الرأى، وقال لإسماعيل: «هذا خاتم سليمان فى يدك لا تنزعه». فتوقف الأمر ولم يتم الصلح بينهما. ومنع المغيث من الركوب، وجلس فى برج بقلعة دمشق. وكتب الملك الصالح أيوب إلى الخوارزمية، فعبروا الفرات، وانقسموا قسمين: قسمة أتوا على بقاع بعلبك وقسمة على غوطة دمشق، ينهبوا ويسبوا ويقتلوا، وسد الصالح إسماعيل أبواب دمشق، ونزلوا غزة. وفيها صالح صاحب الروم التتار، على أن يدفع لهم فى كل يوم ألف دينار، وفرسا ومملوكا وجارية وكلب صيد. وكان عقله ناقصا يلعب بالكلاب والسباع، ويسلطها على الناس، فعضه أسد، فمات منه. واستولى التتار على مملكة الروم. وأكسروا عساكرها. وكان قبل ذلك قد اصطلح صاحب الروم مع الخوارزمية، واتفقوا مع صاحب ميافارقين وصاحب حلب وصاحب ماردين. واجتمعوا جميعهم

وضربوا مع التتار مصافا. وكان التتار فى جمع عظيم، فكانت الكسرة فى الأول على التتار. ثم ردوا ردة على المسلمين، فانكسروا كسرة عظيمة، وقتل منهم خلق كثير، وهرب كل ملك إلى جهة. واستولى التتار على البلاد. ورجع عسكر حلب فى أنحس حال. واستولى على الممالك التتار. واستقر بملك الرّوم بعد وفاة صاحبه عز الدين كيكاوس، وأخوه ركن الدين قليج أرسلان. ثم هرب كيكاوس إلى قسطنطينية، واستقل قليج أرسلان بملك الرّوم. هذا والخوارزمية بغزة، تحت أوامر الملك الصّالح نجم الدين أيوب صاحب مصر، ومقدموهم يومئذ أربع خانات وهم: حسام الدين بركة خان، وزين الدين خان بردى، وعز الدين صاروخان، وبهاء الدين كشلوخان. وكانوا فى عشرة آلاف فارس. وأفسدوا فى طريقهم-حتى أتوا إلى غزة-ما وصلت إليه قدرتهم من كل فعل قبيح. وكان عسكر دمشق مجرّدا على غزة، فلما بلغهم مجئ الخوارزمية، هربوا إلى دمشق. وهرب الملك الناصر داود إلى الكرك. وهربت الفرنج الذين كانوا ببيت المقدس إلى عكا. ونهبت الخوارزميّة القدس، وقتلوا كل من وجدوه فى طريقهم من النصارى، ودخلوا كنيسة قمامة، وأخربوا القبور التى فيها، وأحرقوا عظام الموتى. ثم نزلوا غزة بعد فساد كثير. ثم سيروا رسلهم إلى الملك الصّالح أيوب بمصر، يستأذنونه فى محاصرة دمشق، ومحاربة الصالح إسماعيل عمه. فأخلع على رسلهم وأعطاهم الأموال، وسير الخلع والأموال الجزيلة إلى مقدمى الخوارزمية. وجهز من عنده عسكرا من المصريين، نجدة للخوارزمية، مع أمراء كبار من الأكراد، وكانوا أيضا أتوا من الشرق نجدة للملك الصّالح أيوب. وتوجهوا إلى نحو دمشق.

وأما الصالح إسماعيل فإنه سيّر إلى الفرنج يطلب منهم النجدة. واتفق الحال بينه وبين الفرنج أن تكون مصر والشام بينهم بالمساواة. ثم خرجت عساكر الشام، ومعهم فرسان الفرنج، والتقوا مع عساكر مصر ومعهم الخوارزمية. وكانت وقعة عظيمة، قتل من الفريقين خلق كثير. ثم انتصر المصريون والخوارزمية على الشاميين والفرنج. ثم إن الفرنج ركبوا أقفية أصحابهم الشاميين المنهزمين، قتلا وأسرا. ووصل الخبر إلى الديار المصرية بكسرة الفرنج ومن معهم من عسكر الشام، فضربت البشائر بذلك. وجمع الملك الصالح أيوب الأمراء عنده بقلعة المقياس، وفرّق الأموال والخلع، وكان نهارا مشهودا. ثم بعد أيام قلائل دخل الأمير حسام الدين بن أبى على بالأسرى من الفرنج على الجمال، وشقوا بهم القاهرة. ثم سير السلطان الملك الصّالح أيوب مملوكه الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى، فى عسكر كثيف من المصريين والتركمان، ثم أمره أن ينزل على غزة. وفى هذه السنة انتظمت مملكة السلطان الملك الصالح أيوب، ووصل إليه جميع عساكر السّواحل، وعسكر القدس، والخليل، وبيت جبريل، والأغوار، وغيرهم. وفيها رسم السلطان لوزيره معين الدين بن شيخ الشيوخ أن يكون نائبه بدمشق، وحكمه فيها، وأقامه مقام نفسه. ووصل إلى الخوارزمية وصار مقدما عليهم. واشتد الحصار بدمشق، فسيّر الصالح إسماعيل إلى ابن الشيخ سجادة وعكاز وإبريق.

وذلك يوم الاثنين ثامن المحرم سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وقال له: «اشتغالك بهذا أولى من اشتغالك بحرب الملوك وأبناء الملوك». فنفذ إليه ابن الشيخ جنك وزمر وغلالة حرير أحمر وأصفر وقال له: «السّجادة وما معها تصلح لى، وأنت أولى بهذا من الملك». وأصبح فقوّى الحصار، حسبما يأتى من تتمة الكلام فى تاريخه.

ذكر سنتى اثنتى وثلاث وأربعين وستمائة النيل المبارك فى هاتين السنتين

ذكر سنتى اثنتى وثلاث وأربعين وستمائة النيل المبارك فى هاتين السنتين الماء القديم لسنة اثنتين أربعة أذرع. مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا واثنى عشر أصبعا. الماء القديم لسنة ثلاث أربعة أذرع وعشرين أصبعا. مبلغ الزيادة ثمانية عشرة ذراعا وأربعة أصابع. الحوادث الخليفة فيهما الإمام المستعصم بالله. والوزير مؤيد الدين بن العلقمى بحاله. والسلطان الملك الصّالح نجم الدين أيوب بالديار المصرية. والحصار مستمر على دمشق. وملكها الصّالح إسماعيل أبو الخيش. وابن الشيخ مقدم العساكر المصرية وقد شدد الحصار وأحرق قصر حجاج. ولم يزل مشددا فى ذلك حتى فتحها فى أول شهر جمادى الأولى. وهرب الصالح إسماعيل، والأمير عز الدين أيبك صاحب صرخد. واستقر الصاحب صفى الدين نائبا بها من قبل السلطان الملك الصّالح نجم الدين أيوب. وفيها بعث الإمام المستعصم بالله أمير المؤمنين خلع السلطنة والتقليد بمصر والشام وما معهما للملك الصّالح نجم الدين أيوب؛ واستقام سلطانه. قال ابن واصل: وفى سنة اثنتى وأربعين توفى الملك المظفر تقى الدين محمود صاحب حماه إلى رحمة الله تعالى. وذلك يوم السبت لثمان بقين من جمادى الأولى، وكانت مدة ملكه خمسة عشر سنة وسبعة أشهر وعشرة أيام. أقام مريضا بالفالج سنتين وتسعة أشهر. وكان عمره نحو ثلاثة وأربعين سنة، لأن مولده سنة تسع وتسعين وخمسمائة. ولم يخلف من الذكور غير الملك المنصور ناصر الدين محمد وأخيه الأفضل نور الدين على أبى الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل الآتى ذكره فى الجزء المختص بسيرة مولانا

السلطان الأعظم الملك الناصر عز نصره. وكان الملك المظفر المذكور، رحمه الله، ملكا شجاعا، ذا قوة وافرة، ذكيّا، فطنا، لوذعيا. وقام بأمر الملك ولده السلطان الملك المنصور ناصر الدين محمد، وعمره يومئذ عشر سنين وشهرا واحدا وثلاثة عشر يوما. وقام بتدبير ملكه الأمير سيف الدين طغريل أستاذ دار والده، والمشير إليه فى الدولة شرف الدين عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصارى، والطواشى شجاع الدين مرشد المنصورى، والوزير بهاء الدين بن تاج الدين. والجميع يرجعون إلى ما تأمر به الصاحبة غازية خاتون بنت السلطان الملك الكامل، رحمه الله. وفيها أيضا توفى الملك المظفر شهاب الدين غازى بن الملك العادل. وملك بعد المظفر غازى ميافارقين وأعمالها ولده الملك الكامل ناصر الدين محمد، ولم يزل مالكها إلى أن تملكها التتار. [وتوفى] الملك المغيث بن السلطان الملك الصّالح نجم الدين أيوب. وكانت وفاة الملك المغيث وهو معتقل عند الصالح إسماعيل بدمشق. واتهم أنه قتله، فتغير لذلك الملك الصالح أيوب على الصالح إسماعيل. (24 - 7)

ذكر سنة أربع وأربعين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة أربع وأربعين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ستة أذرع. مبلغ الزيادة سبعة عشرة ذراعا وسبع أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستعصم بالله أمير المؤمنين. والوزير بحاله. والسلطان الملك الصّالح نجم الدين أيوب سلطان الديار المصرية والبلاد الشامية. وابن الشيخ النائب بدمشق. وفيها استمال الخوارزمية الصالح إسماعيل، وانحرفوا عن ابن الشيخ، وعن خدمة الملك الصّالح نجم الدين. وسببه أنه لما كثر فسادهم بأعمال دمشق، كاتب فيهم ابن الشيخ للملك الصّالح، فكتب إليه بردعهم، فتنمروا عليه، ومالوا إلى الصالح إسماعيل بمكاتبته لهم، وترغيبهم فيما أحبوا. واستمال الملك الصّالح نجم الدين أيوب الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص، واقتطعه عن الصالح إسماعيل. وفيها كانت الوقعة بين الملك المنصور صاحب حمص-وكان معه الحلبيون - وبين الخوارزمية، والصالح إسماعيل والناصر داود، وعز الدين أيبك، على بحيرة حمص، يوم الجمعة تاسع المحرم. وانكسرت الخوارزمية كسرة شنيعة، ما كسروا مثلها قط. وقتل مقدمهم بركة خان. وهرب الصالح إسماعيل، والأمير عز الدين أيبك، عرايا جياعا، على فرس، فرس، ونهبت أموالهم. ووصلوا إلى حوران. وساق صاحب حمص إلى بعلبك، وأخذ الربض وسلمه للأمير ناصر الدين القيمرى والأمير جمال الدين هارون، وودّع الحلبيين وعاد إلى حمص. وفيها حضر السلطان الملك الصالح أيوب إلى دمشق، وأتى إلى خدمته صاحب

حمص، ونزل بستان شامة، ونزلت طائفة من الخوارزمية بأرض البلقاء. ونزل إليهم الملك الناصر داود صاحب الكرك وصاهرهم واستخدمهم وأنزل غائلتهم الصلت. وفيها مرض المنصور صاحب حمص بدمشق، وتوفى بها، وحمل إلى حمص، ودفن بها. وقام بمملكة حمص ولده الملك الأشرف موسى بن المنصور إبراهيم. وفيها كانت وقعة ابن الشيخ مع الخوارزمية، وكسرهم وبدد شملهم. وكان الناصر-فيهم-صاحب الكرك، وتبعه الخوارزمية، فلم يمكنهم من صعود القلعة بالكرك، ولا الربض. وأحرق ابن الشيخ الصلت، وساق إلى الكرك. وطلع الأمير عز الدين أيبك إلى قلعة صرخد، واعتصم بها. وكانت كسرة الخوارزمية من ابن الشيخ فى سابع عشر ربيع الآخر من هذه السنة. ونزل ابن الشيخ على الكرك فى الوادى. وتسلم الأمير حسام الدين بن أبى على قلعة بعلبك، باتفاق واليها. وبعث عيال الصّالح إسماعيل إلى مصر، وفيهم الملك المنصور نور الدين محمود بن الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، وأمين الدولة السامرى، وزين الملك الصالح إسماعيل، وأستاذ داره ناصر الدين بن يغمور، فاعتقلوا بالقلعة المحروسة. وكان حسام الدين بن أبى على-لما اعتقله الصالح إسماعيل بقلعة بعلبك مع جماعة من أصحاب الملك الصالح أيوب-تمنى ذات يوم على الله تعالى أن يمكنه من أهل الملك الصالح إسماعيل، ويملكه بعلبك. ثم قال فى نفسه: «هذا أمل بعيد». فلم تمض الأيام والليالى حتى بلّغه الله أمنيته. وفى هذه السنة-أعنى سنة أربعة وأربعين وستمائة-[كان] الأمير حسام الدين بن أبى على، نائبا بدمشق للسلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب.

ثم إن الصالح إسماعيل وفد على حلب فى جماعة من الخوارزمية، منهم كشلوخان، هاربين من الملك الصّالح أيوب. ولم يبق لإسماعيل مكان بالشام يؤويه، فتلقاهم الملك الناصر يوسف صاحب حلب، ونزل الصالح إسماعيل فى دار جمال الدين الخادم. ثم قبض على كشلوخان ومن معه من الخوارزمية، وملأ بهم الحبوس. ثم إن السلطان الملك الصالح أيوب توجه إلى بعلبك ورتب أحوالها، ورجع إلى نحو صرخد. ومشى الأمير ناصر الدين القيمرى فى الصلح، وكذلك جمال الدين ابن مطروح، بين السلطان وبين الأمير عز الدين صاحب صرخد، بوساطة شمس الدين بن العميد أيضا. وخرج الأمير عز الدين عن صرخد، ونزل فى ميدانها، وتسلمها السلطان، ورجع عز الدين فى خدمته إلى دمشق. ونزل النيرب وكتب له منشورا بقرقيسيا والمجدل، وضياعها فى الخابور، فلم يحصل له منها شئ. ثم إنه أحسن إلى أهل دمشق، وتصدق على فقرائها بجملة مال، وخلع على أعيان الدماشقة. ثم توجه السّلطان إلى ديار مصر، ودخل القدس الشريف، وتصدق على فقرائه وقوّامه، ومجاوريه، بألفى دينار. وأمر بعماره سوره، وقاسه، فكان ستة عشر ألف ذراع، فقال: «اصرفوا مغل القدس فى عمارته، وإن عازه شئ بعث من مصر». وأمنت البلاد واطمأنت أهلها، بعد قتله بركة خان مقدم الخوارزمية. وحكى الشيخ تقى الدين أبو بكر بن الجوزى-رحمه الله-قال: حكى لى بعض كتاب الخوارزمية بالقاهرة فى سنة خمس وستين وستمائة قال: كان لبركة خان منجّم نصرانى ينظر فى لوح كتف الغنم، فنظر له يوما فقال: «لا بد ما تطلع حلب، وتعلو قلعتها فى الشهر الفلانى». واطمأن بركة خان، وركن لقوله. ثم إنه حرّر عليه المسألة

فى أى يوم يكون فى ذلك الشهر طلوعه إلى قلعة حلب، فنظر وحرّر، وقال له: «فى اليوم الفلانى من الشهر الفلانى». فلما قتل بركة خان وأتى برأسه إلى شمس الدين لؤلؤ نائب الناصر بحلب، أمر بنصبها على قلعة حلب، فنصبت فى ذلك اليوم الذى قال له المنجم إنه يملك فيه حلب ويعلو القلعة، والله أعلم.

ذكر سنة خمس وأربعين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة خمس وأربعين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم ستة أذرع. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربع أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستعصم بالله أمير المؤمنين. والوزير ابن العلقمى بحاله. والسلطان الملك الصّالح نجم الدين أيوب سلطان الإسلام بمصر والشام وما معهما. والكرك الناصر داود. وحمص الأشرف موسى بحكم وفاة والده الملك المنصور إبراهيم فى هذه السنة بمرض السل. وكانت مدة مملكته حمص وأعمالها نحوا من سبع سنين. وكان قد رجع إلى مناصحة الملك الصالح نجم الدين أيوب، وقام فى خدمته أتم قيام. ولما قام بالملك بعده ولده مظفر الدين موسى، ولقب بالأشرف، كان صبيا، فقام بتدبير الأمور عنه ووزارته القاضى مخلص الدين إبراهيم بن إسماعيل بن قرماص، وهو من أكابر أهل حماه. وحماه المنصور بن المظفر. وحلب الناصر يوسف. وباقى الملوك حسبما تقدم من ذكرهم. والتتار قد أخربوا البلاد وأكثروا فيها الفساد. وغاراتهم واصلة إلى بغداد والأنبار، وإلى ديار بكر. والشرق جميعه منهم فى شغل شاغل. وفيها توفى الشيخ على الحريرى-قدس الله روحه-وكان مقيما بقرية بشرى، وزاويته مجاورة لزرّع. وفى هذه القرية قبر اليشع عليه السلام.

وفى سنة خمسة وأربعين توفى الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن السلطان الملك الكامل وهو بالاعتقال. كانت مدة اعتقاله نحوا من ثمان سنين. وكان عمره نحو ثلاثين سنة. [وخلف ولدا صغيرا-وهو الملك المغيث فتح الدين عمر- فأنزل إلى القاهرة فكان عند عماته بنات الملك العادل المعروفات بالقطبيات]. وفيها توفى الأمير عز الدين أيبك-رحمه الله-صاحب صرخد، مسقيّا، حسبما يأتى من ذكر ذلك فى شهر ذى الحجة. وفيها توفى قاضى القضاة بالديار المصرية فى شهر رمضان. وفيها احترقت مأذنة جامع دمشق. وفيها أيضا توفى بقلعة الجبل بدر الدين سليمان بن داود بن العاضد، الذى كان آخر الخلفاء العبيدين بمصر، وهو أحد من كان يعتقدونه الشيعة بالإمامة.

ذكر سنة ست وأربعين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ست وأربعين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وأربعة عشر أصبعا. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون أصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستعصم بالله أمير المؤمنين. والوزير ابن العلقمى بحاله. والسلطان الملك الصّالح نجم الدين أيوب سلطان الإسلام بمصر والشام. وكذلك بقية الملوك بحالهم، حسبما تقدم من ذكرهم. وفيها ولدت ببغداد امرأة فقيرة أربعة أولاد فى بطن واحدة، ذكرين وأنثيين، وأحضروا إلى الإمام المستعصم بالله أمير المؤمنين، فأنعم عليهم بإنعام مبلغه ألف دينار، وأوقف عليهم وقفا، والله أعلم.

ذكر سنة سبع وأربعين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة سبع وأربعين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وستة أصابع. مبلغ الزيادة تسعة عشرة ذراعا وثمانية أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستعصم بالله أمير المؤمنين. والوزير بحاله. والسلطان الملك الصّالح نجم الدين أيوب سلطان الإسلام بمصر والشام. وكذلك بقية الملوك كل منهم فى محل ملكه ومملكة سلطانه. والنائب فى هذه السنة بالديار المصرية الأمير حسام الدين بن أبى على، وبدمشق الأمير جمال الدين بن يغمور، وكلاهما نواب السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب. وفيها كان مرض السلطان الملك الصّالح بالسقية، التى يأتى ذكرها. وفيها كان نزول الفرنسيس ملك الفرنج على ثغر دمياط المحروس بالديار المصرية. وخرج السلطان الملك الصالح ونزل بالعساكر على أشموم الرمان، وهو مريض لا يستطيع الركوب، وقد وقعت بعض محاشمه على ما ذكر. وكان الحرب بينهم، حسبما يأتى من ذكر ذلك. ذكر سبب مجئ الفرنسيس وما تم فى هذه الوقعة كان سبب ذلك أنه لما افترق ملك الفرنج الأنبرور من السلطان المرحوم الملك الكامل، وهما أصحاب، وعادت بينهما المراسلات والكتب والهدايا. واستمر ذلك فى سلطنة الملك الصالح أيضا. وهذا الفرنسيس أكبر ملوك الفرنج الداخلة، وأكثرهم قلاعا وجموعا، فحشد حشوده، وجمع جموعه، وقصد الديار المصرية،

لما حدثته نفسه الخائنة، وأطماعه الكاذبة. ولم يكن له طريق إلا على بلاد الأنبرور. فلما حسّ به الأنبرور كتب كتابا إلى السلطان الملك الصالح يعرّفه بوصول الفرنسيس إليه، وهو طالب لثغر دمياط. وهذا الفرنسيس يسمى ريدافرنس. ثم قال الأنبرور فى كتابه للسلطان: «إنه قد وصل فى خلق كثير، وقد اجتهدت غاية الاجتهاد على رده عن مقصده وخوفته، فلم يرجع لقولى، فكن منه على حذر». فلما وصل كتاب الأنبرور إلى الملك الصالح احترز، وجهز الآلات برسم القتال وتحصين دمياط، وجعل الأمير حسام الدين بن أبى على مشدّا على عمارة الشوانى، ورسم لفخر الدين بن الشيخ أن ينزل على دمياط. ولمّا كان يوم الجمعة لسبع بقين من صفر من هذه السّنة، وصل إلى دمياط مراكب سدت البحر كثرة، الفرنسيس وجموعه، لعنه الله. ولما وصل البر بالفم لم يعبره حتى نفّذ رسول، وعلى يده كتاب فيه ما هذا نسخته. يقول بعد كلمة كفرهم: «بسم الإله النصيح، صاحب الدين الصحيح، عيسى بن مريم المسيح. أمّا بعد فإنه لم يخف عليك ولا على كل ذى عقل ثاقب، وذهن لازب، أنك أمين هذه الملّة الحنيفية، وأنا أمير هذه الملة النصرانية. وليس خفى عنك ما فتحنا من بلاد الأندلس والسبارا، وأخذنا النساء والعذارى، وفرقناهم على ملة النصارى، وجعلنا رجالهم أسارى، ونساءهم عليهم حيارى. وقد علمت ما نحن فيه من حق الرعيّة، لما فتحنا بلاد المهديّة، وعفونا على ثغر الإسكندرية، فلا تلجئ العالم إلى العسف،

ولا تسيمهم بسيماء الخسف. نقتل العبّاد، وندوس البلاد، ونطهّر الأرض من الفسّاد، فإن قابلتنا بالقتال، فقد أوجبت على نفسك ورعيتك النكال، وأرميتهم فى أشرّ الوبال، يكثر فيهم العويل. ولا نرحم عزيز ولا ذليل، ولا تجد إلى نصرتهم من سبيل. ونحن نشرح لك ما فيه الكفاية، وأبذلنا لك غاية النصيحة والهداية، أن تنقل إلى عندنا ما عندك من الرهبان، وتحلف لنا بعظائم الأيمان، أن تكون لنا نائبا على ممرّ الأزمان، وتعجل لنا بما عندك من مراكب وطرائد وشوانى، ولا تكون فيك فترة ولا توانى، لتكون قلوبنا راضية عليك، ولا تسوق البلاء بيدك إليك، وتكون على نفسك وجيشك قد جنيت، وتعود تقل «ياليت». وتضع الحرب أوزارها، وتشعل نارها، ويتعالى شرارها، ويقتم فنارها، وتأخذ منكم بتارها، فسيوفنا حداد، ورماحنا مداد، وقلوبنا شداد، ويحكم بيننا بينكم رب العباد. فإن كانت لك فهدية ألقت بين يديك، وإن كانت لنا فيدنا العليا عليك، إذا استحق بالإضافة إمارة الملتين، وحكم الشريعتين، وبيد الله تعالى السعادة، وهو الموفق للإرادة». ثم كتب فى آخره يقول: ستسلم إن سلمت غير محارب … فإنك لترجو أمورا ترومها أتيناك فى خلق كرام وعصبة … مسيحية لم تخف عنك علومها وها أنا قد أنشدت بيتا مهددا … مخافة أن لا تلتقى النفس ضيمها ستعلم ليلى أىّ دين تداينت … وأىّ غريم للتقاضى غريمها ولمّا وصلت هذه المكاتبة للسلطان الملك الصّالح كان فى أشدّ ما يكون من المرض، فكتب الجواب، ونفذه. وهو ما هذا نسخته: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على القوم الظالمين، من عند الدارئ عن حرم المسلمين،

والقارئ كتاب رب العالمين، المنزّل على خير المرسلين، محمد صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الأنصار والمهاجرين، صلاة دائمة إلى يوم الدين. أمّا بعد فقد وصل كتابك، وفهمنا لفظك وخطابك، وها أنا قد أتيتك بالخيل والرجال، والخزائن والأموال، والعساكر والأثقال، والقيود والأغلال، فإن كانت لك فأنت السّاعى، وقد أمنت الناعى، وإن كانت عليك فأنت الباغى لحتفك، والجادع أنفك بظلفك. فإن رأيت أن لا تقيم بين الفئتين ضغنا، فلذلك منّ الله علينا وعليكم مننا، وإن غير ذلك فقد قال الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً»}. ولما وصل إلينا كتابك أعطيناك جوابك، {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً}». وفى كتابك تهددنا بجيوشك وأبطالك، وخيلك ورجالك، أو ما تعلم أن نحن أرباب الحتوف، وفضلات السيوف، ما نزلنا على حصن إلا هدمناه، ولا عدم منا فارس إلاّ جددناه، ولا طغى علينا طاغ إلا دمرناه. فلو نظرت أيها المغرور جدّ قلوبنا وجدّ حروبنا، لرأيت فرسانا أسنّتهم لا تمل، وسيوفهم لا تكل، وقلوبهم لا تدل، ولعضيت على يدك بسن النّدم، ولأخرك تحريك قدم عن قدم، فلا تعجبك العساكر التى بين يديك، فهو يوم أوله لنا وآخره عليك. إذا أتاك كتابى هذا فلتكن منه بالمرصاد، على أول سورة النحل وآخر سورة ص، {أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ»}، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ»}، هنالك تطاول نحوك الأعناق، وتشخص صوبك العيون، ويشوبك الويل، وتسوءك الظنون. {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»} وفى آخره يقول:

ألا يا مليك الرّوم هل أنت سامع … وهل أنت عمّا فى ضميرك راجع تروم بلاد القدس بالسيف عنوة … ودون بلاد القدس دينك ضائع لقد حفظ البيت المقدس عصبة … كما حفظ الكف اليمين الأصابع جمعت بنى الإفرنج شرقا ومغربا … تشتت شملا كان قبلك جامع فلا أنت ترجو بعض ما قصدته … ولا من أتى مستنصرا لك راجع أتطمع من ليلى بوصل وإنما … تضرّب أعناق الرجال المطامع فلما وصلت هذه المكاتبة إلى الفرنسيس أمر بنزول العساكر إلى البرّ، وضرب خيمة عظيمة حمراء. وفى ثانى يوم كان الملتقى بين الجيشين، وقتل بين الفريقين عالم لا يحصى، بعدد الرمل والحصى. ومن جملة من استشهد من المسلمين فى ذلك اليوم الأمير نجم الدين بن شيخ الإسلام، وأمير يعرف ببدر الدين بيليك الوزيرى. وأمّا ما فعله فخر الدين بن الشيخ من سوء التدبير، فإنه لما أمسى الليل توجه إلى الجسر الذى فى ناحية الجرف فقطعه، ثم أخرج جميع من كان فى دمياط من النساء والرجال، ثم تركها تصفر. وكان رأيا ذميما، فلو أقاموا مع مشيئة الله عز وجلّ فى دمياط، ما قدر عليها الفرنج، لما كان فيها من الرجال المقاتلة من الكنانية وشجاعتهم. ثم لو كانوا الكنانية الذين تبقوا فيها غلقوا بابها بعد رحيل ابن الشيخ عنها، لم تقدر الفرنج على أخذها فى تلك السرعة. لكنهم لما رأوا خروج الناس منها، ضعفت نفوسهم، وظنوا أن مدة الحصار تطول عليهم، فلذلك سلموها. فلما كان صباح يوم الأحد لسبع بقين من صفر، جاءت الفرنج إلى دمياط، فوجدوها خالية، لم يكن بها مانع فملكوها. وكانت هذه من أعظم الحوادث. واستشعر الناس أن الفرنج تأخذ الديار المصرية، وخامر ذلك عقولهم. ولم يعلموا أن هذا الدين مؤيد بالله

ذكر وفاة السلطان الملك الصالح، رحمه الله تعالى

عز وجل، وهذه الديار محروسة بالإيمان بالله وحده، فإن هذه النصرة التى جرت نوبة الفرنسيس، كانت من آيات الله عز وجل العظيمة، وصدقاته الجسيمة، نصرة الإسلام على الكفرة اللئام، من غير ملك ولا جيوش، وقتل من الفرنج ما أشبع الطيور والوحوش. فلما علم السلطان بأن الفرنج أخذوا دمياط-وكان سبب أخذها الكنانية- أمر بشنقهم، فشنقوا على النخل جميعهم. ثم كانت بين المسلمين والفرنج عدة وقعات. ذكر وفاة السلطان الملك الصالح، رحمه الله تعالى لما كان لأربع ليال خلت من شهر رمضان المعظم، توفى السلطان الملك الصّالح نجم الدين أيوب بن السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد بن السلطان الملك العادل سيف [الدين] أبو بكر بن أيوب، رحمهم الله أجمعين. وكان عمره يوم وفاته أربع وأربعون سنة وشهور وأيّام. وكان مولده فى سنة ثلاث وستمائة، ولم يتحرر عندى الشهر. قال ابن واصل: إن وفاة السلطان الملك الصالح لأربع عشرة ليلة خلت من شعبان فى السنة المذكورة. وقال: وعمره يومئذ أربعين سنة. وقال: مولده سنة ثمان وستمائة والأول أصح. وكان ملكا مهيبا، عزيز النفس، بعيد الغضب، عفيفا، طاهرا فى فرجه ولسانه، كثير الصمت، عديم السفّه. اشترى من المماليك الترك ما لم يشتر أحد من الملوك مثله من قبله، حتى عاد أكثر جيشه مماليكه، وذلك لكثرة ما جرّب من غدر الأكراد والخوارزمية وغيرهم من الجيوش. وكان إذا مات أحد من مماليكه،

وكان له ولد، أنعم بإقطاع والده عليه، وإن لم يكن له ولد أنعم به على خشداشه. واستسن مماليكه الترك من الملوك هذه السنّة منه، رحمه الله تعالى. وأمّا أوصافه المعنوية، فإنه كان إذا جلس بين مماليكه لا يقدر أحد أن ينطق بحرف، ولا ينقل قدم عن قدم، ولا يلتفت يمينا ولا شمالا، وهم يرعدون منه هيبة وجلالة. وكان مع هذه العظمة لا يكاد يرفع عينه من الأرض، ولا ينظر إلى شئ من محارم الله عز وجل، ولا يسمع أحد من لفظه شتمة. وإذا غضب على أحد من غلمانه أو مماليكه يقول: «يا سبحان الله، ما كان الأمر كذا وكذا». وكان حسن الدين، جيّد العقيدة، كثير الميل إلى مطالعة الكتب والعلوم وأخبار الناس، يحب أرباب الفضل والأدب، كثير الميل إلى العلماء وأرباب كل فضيلة، ويحب تشييد العمائر، وبناء القصور والمناظر، والنزهة. وكان يباشر البناء بنفسه، ويهندسه بعقله ما لا تصل إليه المهندسون. وبنى قلعة المقياس، والكبش، والصّالحية، مع عدة أماكن وقصور ومستنزهات. وكان سبب موته السقية التى صنعها له الأمير عز الدين أيبك صاحب صرخد. وذلك أن السلطان الملك الصالح لما أخذ صرخد من الأمير عز الدين-رحمه الله- وأعطاه تلك البلاد المقدم ذكرها، لم يتحصّل له منها شئ، وخشى السلطان عاقبة أمره، لما كان يعلمه منه من التدبير وحسن السياسة، فأعاده إلى صرخد، وأنعم عليه، وأفكر فى قتله. وكان الأمير عز الدين سليم الصدر، حسن اليقين، فظن أن باطن السلطان صفى له. ثم إن السلطان يتحقق من الأمير عز الدين الدين المتين، وحبه لتلاوة القرآن. وكان يختم فى كل يوم وليلة ختمة، فصنع له السلطان ختمة عظيمة، بخطّ منسوب، مكتوبة بالذهب، وسمّ جميع أوراقها، وأهداها للأمير عز الدين

فى جملة تحف أخر. فلما وصلت إليه افتتن بها، وعاد لا يفارقها غمضة عين، وعاد يقرأ فيها ليلا ونهارا. ثم إنه كان كل ما تصفح أوراقها وضع يده فى فيه وعلى لسانه، فعمل فيه السم. وتحقق أن ذلك من السلطان وعلم أنه ميّت لا محالة، فأخفى أمره وطلب الصنّاع، وعمل سرج ما رأت الناس مثله، نفّد عليه عشرة آلاف دينار. وسمّ الميّترة التى للسرج، وتركه فى خزانته، وتوفى إلى رحمة الله تعالى. فلما بلغ السلطان ذلك، ركب من فوره، وتسلم صرخد، وأخذ سائر أمواله وذخائره، وأباع مماليكه وجواريه بأقل الأثمان، وأباع فى الجملة أم الوالد، وهى حامل به من الأمير عز الدين، فاشتراها رجل من أهل صرخد من كبارها، يقال له عمر بن الأسعد، وكان دينا، واستبرأها فوجدها حاملا. وكانت تسمى كمش خاتون، خطائية الجنس. فولدت الوالد عند ذلك الرجل، ورباه كالولد إلى هذه السنة، التى أخذ السلطان الملك الظاهر فيها صفد، وهى سنة أربع وستين وستمائة. وكان الأمير حسام لاجين الدرفيل مملوكا للأمير عز الدين أيبك وهو طفل صغير. وكانت هذه كمش خاتون قد ربّته عندها مثل الولد، فأبيع أيضا الأمير حسام الدين الدرفيل مع من أبيع، وتنقل به الحال إلى أن عاد دوادار السلطان الملك الظاهر. فلما كان سنة فتح صفد-الآتى ذكرها-والسلطان بدمشق، حضرت الصراخدة بتقادم للأمير حسام الدين الدرفيل، وأحضروا له الوالد، وهو يومئذ ابن سبعة عشر سنة، فعرف له حقّه وربّاه كالولد. ثم ارتجع الوالد من عند الأمير حسام الدين إلى بيت السلطان الملك الظاهر، فى حديث طويل. ثم إن السلطان أنعم عليه بإقطاع عبرة ألفى وأربع مائة دينار، وسلمه للأمير سيف الدين بلبان الرومى الدوادار، وقال له: «علمه وخليه يمشى معك». فعرف الوالد بالدوادارى. ثم إن السلطان الشهيد الملك الأشرف خليل بن قلاوون أعطاه تقدمة. ثم إن مولانا وسيدنا السلطان الأعظم الملك الناصر أمّره وولاه بلبيس والعربان،

وذلك فى سنة ثلاث وسبعمائة، فأقام إلى سنة عشر وسبعمائة، نقله إلى الشام بسؤاله، وجعله مهمندارا. ثم ألزم بشاد الدواوين بدمشق، فأقام سنة، ثم تخلص، إلى أن توفى رحمه الله، فى شهر رجب سنة ثلاث عشرة وسبعمائة. وخرج بنا تلاوة الكلام بعضه ببعض عن الغرض المقصود، من ذكر وفاة السلطان الملك الصالح، رحمه الله تعالى. قال والدى-رحمه الله-: حدثنى هذا الرجل الذى شرى أمى، وكان رجلا فقيها، صوفيّا، فاضلا، محققا، له عندى كتاب تأليفه بخطه فى التصوف، سماه «لباب اللباب فى علم التصوّف والآداب» -ولقد أحسن فيه كل الإحسان، قال: لما أعرض السلطان الملك الصّالح ذخائر الأمير عز الدين أيبك، رأى ذلك السرج، فركب فيه من يومه، ولعب الأكرة فى ميدان صرخد، فرحا بموت عز الدين، فعلقت فيه السقية من تلك الساعة، ولم تزل تعمل فيه حتى مات، فكان عز الدين قاتل قاتله. ولمّا توفى السلطان الملك الصالح، رحمه الله، على ثغر دمياط فى التاريخ الذى ذكرناه، أخفى موته، وقام الأمير فخر الدين بن الشيخ مدبر الدولة، وجمع الأمراء، وقال: إن السلطان رسم أن تحلفوا لولده غياث الدين توران شاه، ولقب بالمعظم، فامتثلوا ذلك. وعاد ابن الشيخ القائم بأمور المملكة، وغياث الدين بعد فى حصن كيفا. وسير خلفه الأمير فخر الدين، وسيّر إلى القاهرة أن يحلّفوا من كان بها من الأمراء والجند للملك المعظم غياث الدين توران شاه. هذا كله والناس لا يعلمون بموت السلطان الملك الصّالح، رحمه الله. وكانت تخرج علامته على الكتب، وهى أيوب بن محمد بن أبى بكر بن أيوب، يكتبها عنه خادم يعرف بالسهيلى. قال ابن واصل: أن كان الأمير حسام الدين محمد بن أبى على الهذبانى عند السلطان أوثق وأمكن من الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ. وكان لما ملك السلطان الديار (25 - 7)

ذكر بيعة الملك المعظم توران شاه بن الملك الصالح، رحمه الله

المصرية ركب فخر الدين بن الشيخ ركبة عظيمة، فتخيل منه واعتقله، وما أخرجه حتى توفى أخوه معين الدين الوزير بدمشق، فاضطر السلطان إلى إخراج فخر الدين. فهذا كان سبب تمييز ابن أبى على عليه. ثم إنه حكم فى الدولة إلى حين ما قتل، حسبما يأتى من ذكر ذلك. كان للسلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، رحمه الله، ثلاث ذكور من الأولاد، الكبير الملك المغيث الذى تولى فى اعتقال الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بقلعة دمشق، واتهم به أنه قتله. والملك القاهر-وهو الأصغر-توفى أيضا فى حياة أبيه بدمشق. والملك المعظم-وهو الأوسط-وكان مقيما بحصن كيفا إلى أن توفى السلطان فأحضر، حسبما ذكرنا. وكان هذا الملك المعظم يميل إلى العلوم، ويجتمع بالفقهاء ويباحثهم، مع هوج فيه، حسبما نذكره إن شاء الله تعالى. وكان ولد له من شجر الدر ولد فسماه خليلا وهو يومئذ بحبس الكرك، وحضر معه إلى ديار مصر، وتوفى فى حياة أبيه. ذكر بيعة الملك المعظم توران شاه بن الملك الصالح، رحمه الله ولما كان يوم الخميس الثانى عشر من شهر رمضان المعظم من هذه السنة، حضر القاضى بدر الدين يوسف بن الحسن قاضى سنجار، وصحبته القاضى بهاء الدين كاتب المملكة الصّالحية، وحلفوا الأمراء وسراة الناس للملك المعظم توران شاه غياث الدين ابن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن السلطان الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب. ثم إن الكتب أقامت أياما وهى تخرج بعلامة السلطان الملك الصّالح، ولا يستجرئ أحد أن يفوّه بموته. وكان الذى

يعلّم العلامة خادم يسمى سهيل. ثم إن الأمير فخر الدين بن الشيخ تصرّف فى الملك، وأطلق للأمراء، وبذل الأموال، وأخلع الخلع السنية. فعند ذلك تحققت الناس موت السلطان. وبلغ الفرنج ذلك، فجدوا فى القتال، وزحفوا إلى المسلمين، ووصلوا إلى فارسكور. ثم تقدموا منزلة أخرى، ليأخذوا الديار المصرية. ولما كان يوم الخميس مع يوم الجمعة ورد كتاب إلى القاهرة المحروسة، فى جملته: {اِنْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْاالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ»} الآية. وفيه تحريض كثير، وحث على الناس. وكان ذلك يوما عظيما بالقاهرة من البكاء والعويل، وخرج الناس على وجوههم قاصدين الجهاد. فلما كان يوم الثلاثاء سلخ شهر رمضان المعظم كانت الوقعة العظيمة بين المسلمين والفرنج، قتل من الفئتين خلق كثير. ثم نزل الفرنج قبال المسلمين على المنصورة، وعاد بينهما بحر أشموم. وكان فى البر الغربى من ناحية جوجر أولاد الملك الناصر داود صاحب الكرك، وإخوته. وفى ذلك النهار عملت الفرنج خندقا عظيما، وداروا عليه سور، ونصبوا المناجنيق يرمون بها المسلمين. وشوانى الفرنج وغربانهم بإزائهم على المنصورة. ثم استمر القتال بين الفريقين ليلا ونهارا إلى يوم الأربعاء، هرب من الفرنج ستة نفر من فرسانهم، وأتوا إلى الأمير فخر الدين بن الشيخ مدبر الدولة، وأخبروا أن الفرنج فى ضائقة عظيمة من عدم القوت عندهم. وفى يوم الجمعة وصل الخبر أن الملك المعظم توران شاه وصل إلى عانة وحديثة. ثم ورد الخبر أنه وصل دمشق، ثم نزل القصير. ثم وصل للفرنج ملك كبير

ومراكب عدة، فيها مأكول وسلاح، ووقع القتال بينهم وبين المسلمين، وكانت الفرنج تخاف من الحرافيش أكثر من العساكر. ثم وردت الأخبار أن السلطان غياث الدين الملك المعظم توران شاه وصل الصالحية، ونزل فى قصر أبيه. ووقعت البطائق مخلقة. فضربت البشائر فى العسكر المنصور، وكذلك بالقاهرة. ولمّا كان يوم الخميس النصف من شوال المبارك، ركبت الفرنج، وركب المسلمون، ودخلوا بر الفرنج، واقتتلوا قتالا عظيما. وقتل من الفئتين عالم عظيم. وسيروا إلى القاهرة عدة أسرى من الفرنج، وفيهم ثلاثة من كبارهم وهم من الديوية. وكان لما دخل المسلمون إلى بر الفرنج، ركب من المسلمين جماعة، وقصدوا مخيمهم. وكذلك ركبت جماعة كبيرة من الفرنج، وهم جمرتهم المحرقة، وقصدوا مخيم المسلمين. فلم يشعر المسلمون المقيمون بالخيام إلاّ بالفرنج معهم، وكبسوا عليهم يدا واحدة، وعادت ضجة عظيمة. وكان الأمير فخر الدين فى الحمام، فخرج ولم يلحق يلبس لامته، وركب فرسه، وحمل على الفرنج، فجاءه سهم فقتل إلى رحمة الله. وتفرق المسلمون يمينا وشمالا، وكادت تكون كسرة، لولا لطف الله عز وجل بدين الإسلام. ووصل الفرنسيس إلى باب القصر الذى للسلطان الملك الصّالح. ثم إن الله تعالى أغاث المسلمين بطائفة من المماليك الصّالحية المعروفين بالبحرية. وركب الأمير فارس الدين أبو الهيجاء، والأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى، فى عدة جيدة من الترك، فكانوا سببا لإخماد جمرة الشرك. وحملوا على الفرنج حملة منكرة، فبددوا شملهم يمينا وشمالا. قال بعض من حضر هذه الوقعة: والله لقد كنت أسمع زعقات

الترك كالرعد القاصف، ونظرت إلى لمعان سيوفهم وبريقها كالبرق الخاطف، فلله درّهم لقد أحيوا فى ذلك اليوم الإسلام من جديد، بكل أسد من الترك قلبه أقوى من الحديد. فلم تكن إلا ساعة وإذا بالأفرنج قد ولوا على أعقابهم منهزمين، وأسود الترك لأكتاف خنازير الأفرنج ملتزمين. وأحصى من قتل من الفرنج فى تلك الساعة، فكانت عدتهم ألفين وخمسمائة فارس، من كنودهم وشجعانهم، وليوثهم وفرسانهم. وأما من الرجالة فلا يحصى عدتهم إلاّ الله عز وجلّ. وانهزم الملاعين أقبح هزيمة. ومن ذلك النهار احترزوا على أنفسهم، وانقطع من الطمع أملهم، وبنوا عليهم سورا عظيما، وخافوا من سيوف الترك. وضربت البشائر بسبب هذا النصر العظيم، والإنعام الجسيم. وكانت هذه الوقعة أول وقعة ظفرت أسود الترك بكلاب الفرنج. ثم وردت البشائر بذلك على الملك المعظّم توران شاه، وهو بالصّالحية. ولمّا كان يوم السبت لأربع عشرة ليلة مضت من ذى القعدة، وصل المعظم إلى المنصورة، وقد استصحب معه القاضى الأسعد شرف الدين الفائز، وكاتبه النشو بن حشيش النصرانى، كان كاتب المعظم بحصن كيفا. فلما دخل المعظم الرمل طالبا للديار المصرية، أسلم النشو المذكور على يده، ورشحه للوزارة. وأما الفائز فإن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب كان جعله ناظرا بدمشق فى الديوان السلطانى. فلما وصل المعظم إلى دمشق سأل أن يكون فى الركاب السلطانى، فأجيب إلى ذلك. ونزل [توران شاه] بقصر أبيه، وتحقق الناس موت السلطان الملك الصّالح. ثم إن المسلمين عملوا مراكب وحملوها على الجمال، وأرموها فى بحر المحلة، فلما زاد النيل أرموها فيه.

ولما تقدّمت مراكب الفرنج خرجت عليهم مراكب المسلمين، واشتد بينهم القتال. ثم انتصر المسلمون على الكافرين، وأخذت مراكبهم-وعدتهم اثنتين وخمسين مركبا-وأسروا جميع من بها، ودخلوا بالأسرى إلى القاهرة. وفى يوم الاثنين لسبع بقين من ذى الحجة، خرجت مراكب المسلمين أيضا على مراكب الفرنج، وكانت مملوءة غلالا ومأكولا، فالتقى الجمعان عند مسجد النصر، فنصر الله الإسلام، وأيّد أمة النبى عليه السلام، وأخذوا من مراكب الفرنج عدة اثنين وثلاثين مركبا. فعند ذلك ذلت نفوس الملاعين، واشتد عندهم الغلاء، وعدم القوت، وشرعوا يسألون الصلح. وترددت الرسل بينهم، وتوجه إليهم رسول من المسلمين يسمى زين الدين قراجا أمير جندار، وصحبته القاضى بدر الدين السنجارى، فأجابه الفرنج، ولكن على شرط أن يكون لهم القدس الشريف وبعض بلاد الساحل، ويسلموا دمياط. فلم يرض المسلمون بذلك. ثم خرجت هذه السنة.

ذكر سنة ثمان وأربعين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة

ذكر سنة ثمان وأربعين وستمائة النيل المبارك فى هذه السنة الماء القديم خمسة أذرع وأربعة أصابع. مبلغ الزيادة سبعة عشرة ذراعا وأصبعان. ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستعصم بالله أمير المؤمنين. والوزير بحاله. ذكر اللّيلة الغراء المسفرة عن الصباح الأزهر بالنصر والظفر وذلك لما كانت ليلة الأربعاء لثلاث ليال بقين من المحرّم، رحل الملاعين، فارسهم وراجلهم، هاربين إلى نحو دمياط. وهربت مراكبهم فى البحر. وركب المسلمون يدا واحدة خلفهم، ولحقوهم، وأدركهم الصياح من كل جانب ومكان. وتمكن منهم المسلمون قتلا وأسرا، فكانت عدة القتلى فى تلك الليلة نيفا وثلاثين ألف. ثم ساق خلفهم الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى الصّالحى، فى جماعة من العصابة التركية. وحازوا الفرنسيس ومن معه من أمراء الفرنج وملوكها على تل هناك، فاستسلموا وطلبوا الأمان، فلحقهم الطواشى محسن الصّالحى، فأمّنهم ونزلوا على أمانهم. وأحاطت بهم المسلمون وأخذوهم، وعادوا بهم إلى المنصورة. وضربت للفرنسيس خيمة كبيرة، وأنزلوه بها. ثم رحل الملك المعظم، ونزل على فارسكور، وضرب دهليزه. وجدّ فى أخذ دمياط، ولو كان طلبها من الفرنسيس

لم يمنعها، ولكن كان المعظم صبى العقل، ضعيف الرأى، لا يرجع لرأى أحد. وقد ذكر جماعة من المؤرخين أن عدة من قتل من الفرنج فى هذه النوبة مائة ألف أو يزيدون. ووصل كتاب السلطان الملك المعظم إلى الأمير جمال الدين يغمور نسخته: بسم الله الرّحمن الرّحيم: ولده توران شاه. الحمد لله الذى أذهب عنا الحزن. وما النصر إلاّ من عند الله. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الحكيم. وأما بنعمة ربك فحدث. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها. نبشر المجلس السامى الأميرى الجمالى، بل نبشر الإسلام كافة، بما منّ الله به على المسلمين، من الظفر بأعداء الله وعدو الدين، وأمكن من ناصية طاغيتهم، بعد ما استفحل أمره، واستحكم شره، ويئس العباد من البلاد، ومن الأهل والأولاد، فنودوا لا تيئسوا من روح الله. ولمّا كان يوم الأربعاء، لثلاث ليال مضين من المحرم من هذه السنة المباركة، تمم الله على الإسلام بركاتها، فتحنا الخزائن، وبذلنا الأموال، وفرقنا السلاح على الرجال، وجمعنا الجيوش من كل مكان، حتى من سائر الأقطار العربان، فاجتمع خلق لا يحصى عددهم إلاّ الله تعالى، وجاءوا من كل فج عميق، ومن كل مكان سحيق. ولما عاين العدو المخذول ذلك، وتحقق المهالك، أرسل يطلب الصلح على ما كان وقع عليه الاتفاق مع الملك الكامل، وقصدوا أن يبلغهم من ذلك ما يأمله منهم كل آمل. ولم نوافقهم على قصدهم، وعملنا على حصدهم. فلمّا يئسوا أركنوا إلى الفرار، ولبسوا سواد الليل لئلا يفضحهم ضوء النهار، وتركوا خيامهم خالية، وعلى عروشها خاوية، وكذلك أموالهم وعددهم وأثقالهم، وقصدوا دمياط هاربين.

ذكر قتلة الملك المعظم وتمليك أم خليل شجر الدر وسبب ذلك

وما زال السيف يعمل فى أدبارهم إلى الليل، وقد حل بهم الحزن والويل. ولما أصبح نهار الأربعاء، وناعى الشتات بهم قد نعى، قتلنا منهم مائة ألف أو يزيدون، ومزقناهم كما مزق الضحاك أفريدون بالسيف، غير من ألقى نفسه فى اللجج. وأمّا الأسرى فحدث عن البحر ولا حرج. والتجأ الفرنسيس إلى الميمنة وطلب الأمان فأمنّاه، وأخذناه أسيرا، وعلى عوائدنا الجميلة أجريناه، فليأخذ حظه من هذه البشرى، وليعلم أن مع العسر يسرا. وفيه كلام كثير هذا زبدته، ثم بعث مع الكتاب بغفارية الفرنسيس ملك الفرنج، وهى سقلاط أحمر تحت فرو سنجاب، وفيها بكلة ذهب. ولمّا كان يوم الجمعة سلخ المحرّم ورد المرسوم من السلطان الملك المعظم إلى الأمير حسام الدين بن أبى على يأمره بالحضور إليه، وسير مكانه الأمير جمال الدين أقوش النجيبى الصّالحى. وفيها قتل الملك المعظم توران شاه. ذكر قتلة الملك المعظم وتمليك أم خليل شجر الدّر وسبب ذلك وسبب ذلك أنه كان صبى العقل، عديم الرأى، أهوج، كثير العجب، زائد السفه، بالضّد مما كان فى أبيه من الخصائل المحمودة. وأطرح جانب الأمراء الكبار،

الذين كانوا فى دولة أبيه لهم الحل والعقد والأمر والنهى، وصرف وجهه عنهم. وعاد يبلغهم عنه كل كلام يشين، من التهديد والوعيد. واعتمد على جماعة كانوا قد جاءوا معه من حصن كيفا. وكان ذلك لأمر يريده الله. وكان هؤلاء الذين قد اعتمد عليهم من أطراف الناس وأراذلهم، وصار إليهم الأمر والحل والعقد. ومن جملة ضعف رأيه، وقلة تصرفه، وكثرة هوجه، وذلك الذى أوجب قتله وعدمه، أنه كان فى الدهليز إذا شرب وسكر، وتعين له الغلمان بالشموع، يجذب النمشة، ويضرب الشمع، ويقول: «هكذا أضرب رقاب البحرية»، ويسمى كل شمعة واحدا من الأمراء البحرية، مماليك أبيه. ومن أسباب قتله أنه كان أوعد الأمير فارس الدين أقطاى بوعد، وأبطأ عليه، فذكره به على لسان بعض خواصه، فقال: «أعطيه-إن شاء الله-جبا مليحا يليق به». فبلغه ذلك. ومن أسباب قتله أن شجر الدرّ-زوجة أبيه-كانت قد توجهت إلى القدس الشريف، ثم عادت إلى القاهرة، فنفذ إليها يهددها ويتوعدها، ويطلب منها الأموال والجواهر، فخافت منه، وكاتبت فيه الأمراء، وحرضتهم على قتله، فاتفقوا عند ذلك على قتله. فلمّا كان يوم الاثنين سابع شهر صفر-وقيل سابع عشر منه- وثب عليه بعض المماليك البحرية، وهو جالس على الكرسى، وضربه بالسيف، قطع يده من أشاجعه. فقام وولى هاربا، ودخل القصر، وصاح: «من يجيرنى؟». فقال البحرية: «لا والله ما نبقيك، فإنك لا تبقينا». ثم قالوا فيما بينهم: «ما تنتظرون فيه؟» ثم هجموا عليه، فهرب إلى أعلى البرج، فأطلقوا فيه النار، ورموه بالنشاب،

فرمى بنفسه إلى الأرض، وعاد يعدو بينهم، ويقول: «ما أريد لكم ملك، أعيدونى إلى موضعى بحصن كيفا. يا مسلمين! ما فيكم من يجيرنى؟ ما فيكم من يصطنعنى؟» وهو يستغيث فلا يغاث. وجميع العساكر واقفين ينظرون إليه. فلم يجره أحد، فقتلوه بالنشاب، ثم بضعوه بضعا فى ذلك التاريخ المذكور. قال ابن واصل: إن قتلة الملك المعظم المذكور كانت لليلتين بقيتا من المحرّم من هذه السنة. وقال: إن أول من ضربه الأمير ركن الدين بيبرس البندقدارى. وقال: إن من الأمراء الكبار مثل الأمير فخر الدين بن أبى ذكرى، والأمير سيف الدين القيمرى، والأمير عز الدين القيمرى، والأمير فخر الدين حسين، والأمير مجير الدين بن حسين وغيرهم، كانوا حاضرين ما فعله البحرية بالمعظم. ولم ينكروا عليهم ولا أغاثوه، لما كان فى أنفسهم منه من تغيير منازلهم عنده. وقتل وله من العمر دون الثلاثين سنة. ثم اجتمعت الأمراء على تمليك أم خليل شجر الدّرّ، وأن يكون نائبها الأمير عز الدين أيبك التركمانى الصالحى، وحلفوا على ذلك. ثم ورد الأمير عز الدين أيبك الرومى إلى القاهرة، وحلّف بقية الناس، وعادت التواقيع تخرج بعلامة شجر الدرّ، والتدبير للأمير عز الدين أيبك التركمانى أتابك الجيوش. واستقر الأمر كذلك. وكانت علامة شجر الدرّ على التواقيع ما هذا صفته: «أم خليل». ثم بعد ذلك وقع الحديث مع الفرنسيس فى تسليم دمياط، وأن يجودوا عليه بنفسه. وكان الأمير حسام الدين بن أبى على يتردد إلى الفرنسيس-وهو تحت

الاحتراز فى قاعة تعرف بقاعة ابن لقمان، ومترسم عليه خادم فظ غليظ يسمى صبيح، فكان أشد على الفرنسيس من كل شئ، وجرت له مع الفرنسيس أمور كثيرة- حتى قال الفرنسيس للأمير حسام الدين بن أبى على: «سألتك بدينك ألا ما قتلتونى وأرحتونى من حس هذا الخادم ونظره، فإنه أصعب علىّ من كل ما أنا فيه». وكذلك جرى للأمير حسام الدين بن أبى على مع الفرنسيس محاورات، من جملتها أنه قال له يوما فى جملة كلام: «أنت رجل عاقل، وملك عظيم الرأى، رزين الرأس، وفعلت بنفسك ما لا يفعله المجانين». قال: «وكيف ذلك يا حسام الدين؟». قال: «غررت بنفسك وأموالك وجيوشك وركبت هذا البحر المهلك، وتأتى إلى مثل هذا الإقليم العظيم، الذى فيه هذا العالم الكثير، فإن سلمت من البحر وغرقه، لم تسلم من هذه الطوائف العظيمة. ونحن فى ملتنا إن أى من ركب البحر مرّة بعد مرّة لا يقبل الحاكم له شهادة». قال: فضحك الفرنسيس، ورفع رأسه إلى الأمير حسام الدين، وقال: «وكيف ما يقبل شهادته؟». قال: «فإنه يكون ناقص العقل، ومن كان ناقص العقل لا تقبل شهادته». قال الراوى: فاستغرق الفرنسيس فى ضحكه، ثم قال: «والله لقد صدقت، ولقد صدق قائل هذا الكلام من قبلك». ثم وقع الاتفاق على تسليم دمياط، ويفرج عن الفرنسيس ومن معه من أصحابه. فلما طلع السنجق السلطانى على دمياط، ورفع على الأسوار، وتسلمها المسلمون، أطلقوا الفرنسيس وجميع من كان معه، وركبوا من ساحل دمياط إلى عكا. وفى ذلك يقول القاضى جمال الدين بن مطروح، وهى القصيدة المشهورة التى من جملتها يقول: قل للفرنسيس إذا جئته … مقال ذى نصح وقول صحيح

آجرك الله على ما جرى … من قتل عبّاد يسوع المسيح أتيت مصر تبتغى ملكها … تحسب أن الزمر يا طبل ريح فساقك الحين إلى أدهم … ضاق به عن ناظريك الفسيح وكلّ أصحابك أودعتهم … بنحس تدبيرك بطن الضريح خمسون ألفا لا ترى منهم … إلاّ قتيلا أو أسيرا أو جريح وفقك الله إلى مثلها … لعل عيسى منهم يستريح إن كان باباكم بذا راضيا … فرب غشّ أتى من نصيح وقل لهم إن أضمروا عودة … لأخذ ثأر أو لقصد صحيح دار ابن لقمان على حالها … والقيد باق والطواشى صبيح ولمّا رحل الفرنسيس إلى عكا دخلت العساكر إلى القاهرة فى أسرّ حال، وأنعم بال. وكان عبور العساكر إلى القاهرة لثلاث عشر بقين من صفر. ثم خرجت الخلع للأمراء، والأموال، من شجر الدر. وفيها استولى الملك المغيث على الكرك والشوبك. وهو الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل سيف الدين أبى بكر بن السلطان الملك الكامل بن العادل الكبير. وكان قد قعد واعتقل بقلعة الشوبك. فلما قتل المعظم أخرجه بدر الدين الصوابى الصالحى، وكان نائب الكرك عن السلطان الملك الصالح، والشوبك مضافة إليه، وسلمه الكرك، فقام الملك المغيث بملكها، وعاد الصوابى مدبر أمر دولته. واستمر كذلك إلى حين أخذه السلطان الملك الظاهر البندقدارى، حسبما يذكر من ذلك. وفيها ملك الملك الناصر دمشق، ولم يجد بها مانعا، فى يوم السبت لثمان مضين من ربيع الآخر. وأخلع على جماعة من الأمراء القيمريّة، وعلى الأمير جمال الدين بن يغمور. وقبض على جماعة من الأمراء المصريين من المماليك الصّالحية المقيمين بدمشق. وعصى عليه بعض البلاد مثل بعلبك وسرمين وعجلون. ووصل الخبر إلى مصر

ذكر الشعراء بالمائة السادسة من أهل المشرق، والمختار من أشعارهم فى طبقتى المرقص والمطرب

بما فعله الملك الناصر من القبض على المماليك الصّالحية، فانتحوا البحرية لخشداشيتهم الذين مسكهم الملك الناصر، فاجتمعوا وجددوا بينهم الأيمان، وجهزوا العساكر إلى الشام، يقدمهم الأمير حسام الدين بن أبى على. هذا كله والأمير عز الدين أيبك التركمانى نائب لأم خليل شجر الدر، كما يأتى بقية الكلام فى الجزء الذى يتلوه إن شاء الله تعالى. انتهى الكلام فى هذا الجزء بحول الله، وقوته، وبركة إلهامه، وحسن توفيقه. وهو الجزء السابع من هذا التاريخ المبارك، المسمى بكنز الدرر وجامع الغرر. ونتلو ذلك بذكر الشعراء المختصين به، وهم شعراء المائة السادسة، من أهل المشرق والمغرب، وشعراء المائة السابعة منهم، حسبما اشترطنا فى جميع أجزاء هذا التاريخ، موفقا لذلك إن شاء الله تعالى. ذكر الشعراء بالمائة السادسة من أهل المشرق، والمختار من أشعارهم فى طبقتى المرقص والمطرب 1 - ابن الخياط الدمشقى، له فى المرقص، ظعن فى السادسة فحسب منها: ومحتجب بين الأسنة معرض … وفى القلب من إعراضه مثل حجبه أغار إذا آنست فى الحىّ أنّه … حذارا وخوفا أن تكون لحبه 2 - أبو الحسن الباخرزى، له فى المرقص: ما للمعيل وللمعالى إنّما … يسعى إليهنّ الأديب القادر فالشمس تجتاب السماء فريدة … وأبو البنات النعش فيها راكد

3 - أخوه أبو على الباخرزى، له فى المرقص، وقد أصابه مع محبوبه: لما جرينا بين البنان بحكة … رضينا بها والكاشحون غضاب وكنا معا كالماء والخمر صحبة … علانا لفرط الامتزاج حباب 4 - الوزير البيهقى أبو الحسن، له فى المرقص: كأنّما بغداد فى جانبى … بنيتها جب له عاشق والجسر ما بينهما قايد … والنهر من غيرته خافق 5 - الخطيرى، صاحب كتاب الزينة، له فى المرقص. أقول والليل فى امتداد … وأدمع العين فى انسياح أظن ليلى بلا اختلاف … قد بات يبكى على الصباح 6 - القاضى الأرجانى، من جملة مرقصاته: وما ينزل الغيث إلاّ … ليقبل بين يديك الثرى وقوله: واصلت جودك بعد ما أغنيتنى … سح الغمام على الغدير المترع وقوله: شمس إذا غربت غداة نوى … فالدمع فى آثارها شفق وقوله: وتحدثا سرّا فحول قبابها … سمر الرماح يملن للإصغاء وقوله: تلوم قلبى إن أصماه ناظره … فما اعتراضك بين السّهم والهدف ومن مطرباته البديعة، قوله: أعينىّ كفّا عن فؤادى فإنه … من البغى سعى اثنين فى قتل واحد

وقوله: يزيد دمعى على مقدار سيرهم … تزايد الشهب إثر الشمس فى الأفق وقوله: ويراد صونك بالتبرقع ضلة … وأرى السفور لمثل وجهك أصونا كالشمس يمنع نورها من أن يرى … فإذا اكتست برقيق غيم أمكنا وقوله: ولقد شربت مع الحبيب مدامة … عذراء إلاّ أنها شمطاء والروض بين تكبر وتواضع … شمخ القضيب به وخرّ الماء وقوله: سقيتنيها يا نديمى … بين بنيّات الكروم فى رياض رائقات … مثل جنات النعيم نهرها يجرى مداما … كالصّراط المستقيم أذّن القمرىّ فيها … عند تهويم النجوم فانثنى الغصن يصلى … بتحيات النسيم 7 - أبو إسحاق العزى، له فى المرقص: لو لم أمت فى هواك قال العذّل … ما قيمة السيف الذى لا يقتل وقوله: وضقت يدا فجدت وكل جار … يضيق يزيد جدوله انصبابا وقوله مدحت الورى قبله كاذبا … وما صدق الفجر حتى كذب 8 - فضل الدولة الأبيوردى، له [فى] المرقص: وسقانى الكأس مترعة … كضرام النار تلتهب ولها من ذاتها طرب … فلهذا يرقص الحبب

9 - محمد بن نصر القيصرانى، له فى المرقص: وأهوى الّذى يهوى له البدر ساجدا … ألست ترى فى وجهه أثر الترب وقوله: ما عليهم لو أتاحوا فى الهوى … ما حموه من صفات المستهام من خصور وشّجوها بالضنا … وجفون ملّؤوها بالسقام وقوله: ما أنت حين تغنى فى مجالسهم … إلاّ نسيم الصبا والقوم أغصان 10 - أبو الحسن بن منيّر، له فى المرقص: أرق من الماء لولا الشعاع … لأفنته رشفا شفاة المقل وكالنّار من وهج تيه الصّبا … فلولا تبسمه لاشتعل 11 - الحيص بيص، له فى المرقص، فى جواب ابن أبى الفضل البغدادى: لا تضع من عظيم قدر وإن … كان مشارا إليه بالتعظيم فالشريف الكريم يصغر قدرا … بالتعدى على الشريف الكريم ولع الخمر بالعقول رمى الخم‍ … ر بتنجيسها وبالتحريم وقوله: صاحب أخا الشر لتسطو به … يوما على بعض صروف الزمان فالرمح لا يرهب أنبوبه … إلاّ إذا ركب فيه السنان 12 - ابن الهبّاريّة، له فى المرقص: ولولا نداه خفت نار ذكائه … عليه ولكن الندى مانع الوقد 13 - ابن جكينا البغدادى، له فى المرقص: تبرّم بالعذار وظن أنى … أقاطعه وأخلص من يديه فخافت عارضاه خلاص قلبى … من التبريح فانفلقت عليه (26 - 7)

14 - ابن المياد البغدادى، له فى المرقص فى فرس أشعل محجل: وأشعل الذيل ذى حجول … قد عقدت صبحه بليله كأنّما البرق خاف منه … فجاء مستمسكا بذيله 15 - النقاش البغدادى، له فى المرقص: إذا وجد الشيخ من نفسه … نشاطا فذلك موت خفى ألست ترى أن ضوء السرا … ج له لهب عند ما ينطفى 16 - ابن سيّار، قاضى هراة، له فى المرقص: ماشانها والله زرقة عينها … بل صار ذلك زائدا فى حسنها كادت أساود شعرها تسطو على … مهج الورى لولا زمرد جفنها 17 - الأمير أسامة بن منقذ، له فى المرقص: خلع الخليع عذاره فى فسقه … متهتكا فى غاية الإفراط يأتى ويؤتى ليس ينكر ذا … ولا هذا كذلك إبرة الخيّاط 18 - ابن أبى حصين المغربى، له فى المرقص فى كوز الفقاع: ومحبوس بلا جرم جناه … له قفل وباب من رصاص يضيّق بابه خوفا عليه … ويوثق بعد ذلك بالعقاص إذا أطلقته خرج اندفاعا … يقبل فاك من فرح الخلاص 19 - ابن البداء المغربى، له فى المرقص: لا غرو إن كان من دونى يفوز بكم … وأنثنى عنكم بالويل والحرب يدنى الأراك فيضحى وهو يكرع من … ثغر القناة ويلقى العود فى اللهب 20 - أبو طامة البغدادى، له فى المرقص: حتى إذا ضحك الزجاج لقربها … منه بكى لفراقها الراووق 21 - أبو الفضل البغدادى، له فى المرقص: خطرت فكاد الورق تسجع فوقها … إن الحمام لمغرم بالبان من معشر نشروا على هام الربى … للطارقين ذوائب النيران

22 - ابن سلامة الخصكفى، له فى المرقص: قلت إن الخمر مخبثة … قال حاشاها من الخبث قلت منها القئ قال نعم … شرفت عن مخرج الحدث 23 - التعاويذى، له فى المرقص: بين السيوف وعينيه مشاركة … من أجل ذا قيل للأغماد أجفان 24 - الواسطى بن العلم، له فى المرقص: واستقبلوا الوادى فأطرقت المها … وتمايلت بغصونها الكثبان فكأنّما اعترفت لهم بعيونها ال‍ … ‍غزلان أو بقدودها الأغصان 25 - العماد الأصفهانى الكاتب، له فى المرقص: يا رب حتّام أعانى الهوى … فى ذنب المغرب ولا أرتقى غارت فى الشمس فمن أجل ذا … لم تبقنى أطلع فى المشرق 26 - القاضى الفاضل البيسانى، له فى المرقص، فى وكيله الكحال: رجل توكل لى وكحلنى … فأصبت فى عينى وفى عينى وقوله فيه: عادى بنى العباس حتى أنه … خلع السواد من العيون بكحله وحكى أن القاضى الفاضل المذكور والقاضى العماد الأصفهانى المذكور تسايرا، فعثر فرس الفاضل، فقال له العماد على البديهة: سر فلا كبا … بك الفرس فقال القاضى الفاضل فى جوابه سرعة من غير توقف: دام علا العماد وهذا مما يقرأ مستقيما ومقلوبا فيصح فى كلاهما، فلله درهما.

ذكر شعراء المائة السادسة من أهل المغرب، والمختار من أشعارهم فى طبقتى المرقص والمطرب

27 - عمارة اليمنى، له فى المرقص فى مصلوب، وكأنه كان لسان حاله فى نفسه: ورأت يداه عظيم ماجنتا … ففرّن ذا شرقا وذا غربا وأمال نحو الصدر منه فما … ليلوم فى أفعاله القلبا 28 - سعادة الأعمى الحمصى، له فى المرقص: والورد ما بين أغصان يحاربنا … عند القطاف بأظفار السنانير ومن المطرب الجيد، قول الآخر: وما بلى الندمان قط بمثلها … أوائل ورد فى أواخر شعبان ... ذكر شعراء المائة السادسة من أهل المغرب، والمختار من أشعارهم فى طبقتى المرقص والمطرب 1 - أبو إسحاق بن خفاجة، له فى المرقص: وعشى أنس أضجعتنا نشوة … فيها تمد مضجعى وتدمث خلعت علىّ بها الأراكة ظلها … والغصن يصغى والحمام يحدث والشمس تجنح للغروب مريضة … والرّعد يرقى والغمامة تنفث وقوله: يا هذه لا ترومى خدا … ع من ضاق ذرعه تبكى وقد قتلتنى كالس‍ … يف يقطر دمعه 2 - ابن أخيه أبو جعفر، له فى المرقص: رعى الله ليلا لم يرح بمذمم … عشية وارانا بجود مؤمل وغرّد قمرىّ على الدوح وانثنى … قضيب من الريحان من فوق جدول ترى الروض مسرورا بها قد بداله … عناق وضم وارتشاف مقبّل

3 - أبو الحسن بن صقر، له فى المرقص: لو أبصرت عيناك زورق فتية … يبدى لهم نهج السرور مرّاحه وقد استداروا تحت ظل شراعه … كل يمدّ بكأس راج راحه لحسبته خوف العواصف طائرا … مدّ الجنان على بنيه جناحه 4 - أبو عبد الله البلنسى له فى المرقص، فى غلام حائك: جذلان يلعب بالمحواك أنمله … على السد لعب الأيام بالدول ضمّا بكفيه أو فحصا بأخمصه … تخبّط الظبى فى إشراك مختبل 5 - ابن مجير وزير الجزيرة، له فى المرقص: تراه عينى وكفى لا تباشره … حتى كأنى فى المرآة أبصره 6 - ابن بقىّ، له فى المرقص: حتى إذا مالت به سنة الكرى … زحزحته عنى وكان معانقى أبعدته عن أضلع تشتاقه … كيلا ينام على وساد خافقى 7 - ابن حسنون الأشبيلى-فى اشتراك العين لا يفارقها الدمع: سترت فقلنا زورق من فضة … مالت بإحدى دفتيه الريح وكأنما إنسانها ملاحها … قد خاف من غرق فظل يميح 8 - ابن قلاقس الإسكندرانى: قرنت بواو الصدغ صاد المقبل … وأعربت فى لام العذار المسلسل فإن لم يكن وصل لديك لآمل … فلم لاح فى مرآك للمتأمل 9 - ابن حمديس الصقلى فى النيلوفر:

ذكر شعراء المائة السابعة من أهل المشرق، والمختار من أشعارهم فى المرقص والمطرب

أشرب على بركة نيلوفر … مصفرة الأوراق خضراء كأنّما أزهارها أخرجت … ألسنة النار من الماء ... ذكر شعراء المائة السابعة من أهل المشرق، والمختار من أشعارهم فى المرقص والمطرب 1 - ابن الساعاتى، له فى المرقص: والطير تقرأ والغدير صحيفة … والريح تكتب والغمامة تنقط وله: صدأ الظلال يزيد رونق حسنه … أرأيت سيفا قط يصقل بالصدا 2 - محب الدين الحلبى، له فى المرقص: لا تقولى لا فمكتوب على … وجهك المشرق سطرا نعم من حروف أبدعت من قدرة … ما جرى [يوما] عليها قلم نونها الحاجب والعين بها … طرفك الفتان والميم الفم 3 - راجح الحلى، له فى المرقص: يا ليل طلت ولم ترقّ لمغرم … لم يظلموا إذ لقبوك بكافر 4 - ابن خطيب خوارزم، فى المرقص: عرض المشيب بعارضيه فأعرضوا … وتقوضت خيم الشباب فقوضوا وكأن فى الليل البهيم تبسطوا … خفرا وفى الصبح المنير تقبضوا ولقد رأيت وما سمعت بمثله … أبدا غراب البين فيه أبيض 5 - ابن مازه البخارى، له فى المرقص-فى مملوك وفى يده قوس: نهانى لما بدت عقرب … على خده أن أروم السفر فقلت وفى يده قوسه … أسير ففى القوس حل القمر

6 - ابن الفقيه المحوّلى، له فى المرقص: مذ عقربت صدغاه واستجمع النحل … على شهد اللمى الأشنب تقدم الحاجب للعارض أن … يكتب بالأدهم فى الأشهب يا أمراء الحسن لا تركبوا … فالقمر الأرضىّ فى العقرب 7 - ابن التكريتى، له فى المرقص: ألفىّ القوام عنى أمالوه فقل‍ … بى مكسور بتلك الإماله 8 - ابن عنين الدمشقى، له فى المرقص-يتشوق إلى دمشق: دمشق فبى شوق إليها مبرح … وإن لجّ واش أو ألحّ عذول بلاد بها الحصباء در وتربها … عبير وأنفاس الشمال شمول تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق … وصحّ نسيم الروض وهو عليل 9 - الحاجرى، له فى المرقص: عجبت لخال يعبد النار دائما … بخدك لم يحرق بها وهو كافر ومذ خبرونى أن غصن قوامه … تيقنت أن القلب منى طائر وقوله: نزلوا برامة قاطنين فلا تسل … ما حلّ بالأغصان والكثبان لم يعل ذاك الخدّ خال أسود … إلا لنكث شقائق النعمان وقوله: إنى لأعذر فى الأراك حمامه الش‍ … ‍ادى كذلك تفعل العشاق حكم الغرام الحاجرىّ بأسرها … فغدت وفى أعناقها الأطواق 10 - ابن فضل الحلبى، له فى المرقص: تواضع إذا نلت المعالى تزد علا … وتكسب الشكر الجميل من الورى فلن يشكر الغيث الرفيع محله … قرين الثريا أو يصير إلى الثرى

11 - ابن على الحنفى، له فى المرقص: كأن عذاره المسكى لام … وفاه من بديع الحسن صاد وطرة شعره ليل بهيم … فلا عجب إذا سرق الرقاد 12 - العماد السلماسى، له فى المرقص-يرثى غلاما يلقب بسيف: ستذرف أجفانى عليك دموعها … ولا غرو أن تبكى على السيف أجفان بكتك عيون الشهب إذ كنت بدرها … وغالك من بعد التتمة نقصان وشقت يمين الصبح فيك على الدجى … قميصا فأضحى وهو للحزن عريان بكت فقدك الدنيا قديما بدمعها … فكان بها فى سالف الدهر طوفان 13 - الشريف الطوسى، له فى المرقص: ودولاب إذا دار … يزيد القلب أشجانا سقى الغصن وغناه … فما يبرح نشوانا 14 - البهاء زهير الحجازى، له فى المرقص: أيا ظبى هلا كان فيك التفاتة … ويا غصن هلا كان فيك تعطف ويا حرم الحسن الذى هو آمن … وألبابنا من حوله تتخطف عسى عطفه بالوصل يا واو صدغه … علىّ فإنى أعرف الواو تعطف 15 - القاضى ابن أبى جراد، له فى المرقص: يا واحدا فى الحسن ما … أبقى هواه على أحد لم ينعطف غصن النقا … لكن لقامته سجد لما تبسّم فى الدجى ان‍ … شق الصباح من الحسد ما داب إلاّ غيرة من … در مبسمه البرد وقوله: واها لعقرب صدغه … لو لم تكن للماه تحمى ولغفل خط عذاره … لو بت أعجمه بلثمى

وقوله: طرفى وقلبى منزلاه لأنه … قمر وتلك منازل الأقمار يا ساكن الجفن القريح وليته … يرعى لجارى الدمع حق الجار وقوله-وقيل لعلاء الدين بن يعيش-فى حرب الأتراك: ادغموا الذابلات فى مثلها من‍ … هم وفى المثل يحسن الإدغام وأمالوا إليهم ألفات النبل … حتى لم يحمهم منه لام 16 - سليمان بن العجمى، له فى المرقص: لهيب الخد حين بدا لعينى … هوى قلبى عليه كالفراش فأحرقه فصار عليه خالا … وها أثر الدخان على الحواشى 17 - ابن زولاق الموصلى، له فى المرقص: ومن عجبى أن يحرسوك بخادم … وخدام ذاك الحسن أبهى وأكثر عذارك ريحان وخالك عنبر … وخدك كافور وثغرك جوهر وردفك مثقال فكن أنت محسنا … عسى بوصال القرب يأتى مبشر 18 - ابن عزى الموصلى، له فى المرقص: أنا صب وماء دمعى صب … وأسير من الضنا فى قيود وشهودى على الهوى أدمع العي‍ … ن ولكننى جرحت شهودى 19 - ابن الحلاوى الموصلى، وقد تقدم من شعره شئ: كتبت فلولا أن ذاك محرم … وهذا حلال قست لفظلك بالدّر فو الله ما أدرى أزهر خميلة … بطرسك أم در يلوح على نحر فإن كان زهرا فهو صنع سحابة … وإن كان درّا فهو من لجّة البحر 20 - ابن الظهير الإربلى، له فى المرقص: قلبى وطرفى ذا يسيل دما وذا … دون الورى أنت العليم بقرحه

وهما بحبك شاهدان وإنما … تعديل كل منهما فى جرحه وقوله: غارت مناطقه وأنجد ردفه … يا بعد شقة غوره من نجده 21 - ابن الصفّار الدنيسرى، له فى المرقص: تعشقته أمّى حسن فما له … أتى بكتاب ضمنه سورة النمل وما لى أنا المجنون فيه وشعره … إذا مرّ بالكثبان خط على الرمل وقوله: ومتى تقوم قيامتى بوصاله … ويضم شملينا معاد شامل وأكون من أهل الخطايا خدّه … نارى وصدغاه علىّ سلاسل 22 - ابن الحوارى المعرى، له فى المرقص: وو الله ما أخرت عنك مدائحى … لأمر سوى أنى عجزت عن الشكر وقد رضت فكرى مرة بعد مرة … فما ساغ أن أهدى إلى مثله شعرى فإن لم يكن درّا فتلك نقيصة … وإن كان درّا كيف يهدى إلى البحر 23 - التلعفرى، له فى المرقص: وإذا الثنية أشرقت وشممت من … أرجائها أرجا كنشر العبير سل هضبها المنصوب أين حديثها ال‍ … مرفوع عن ذيل الصبا المجرور 24 - ابن القمراوى، له فى المرقص: ويا ليل الذوائب ما كفانى … تطاول حالك الليل البهيم وحاكمت النسيم على مرور … بعطفيه فمال مع النسيم 25 - فتيان الشاغورى، له فى المرقص: فبطنها حجر الأسباط منبجس … وظهرها حجر الإسلام مستلم 26 - العفيف المعرّى، له فى المرقص: فإن نحت فى أفنان وجدى يحق لى … لأنى بما أوليتمونى مطوق

27 - ابن إسرائيل الدمشقى، له فى المرقص: أنت الأمير على الملاح بأسرهم … وعليك من قلبى لواء خافق 28 - ابن بطريق البغدادى، له فى المرقص-فى جرب أصابه: أعاذك الله من همى ومن وصبى … وذا جربى أبو معيط وذا قلبى أبو لهب 29 - ابن نحيم الموصلى، له فى المرقص-من جملة مرثية: فالعضب أبتر والمثقف ذابل … حزنا وكل حينة مرتاب 30 - أيدمر، مملوك صاحب الجزيرة، فى المرقص-فى النرجس: وكأن نرجسه المضاعف خائض … فى الماء لف ثيابه فى رأسه وقوله: شكا رمدا جفن الأصيل إلى الدجى … فكحله مثل الظلام بإثمد 31 - ابن عبد الله الكردى، له فى المرقص: إذا ما اشتقت يوما أن أراكم … وحال البعد بينكم وبينى بعثت لكم سوادا فى بياض … لأنظركم بشئ مثل عينى 32 - ابن العربى الدمشقى، له فى المرقص: وقالوا قصير شعر من قد هويته … فقلت دعونى لا أرى منه مخلصا محيّاه شمس قد علت غصن قده … فلا عجب للظل أن يتقلصا وله: عاينت فى الحمّام بدرا مشرقا … يرنو بمقلة شادن مذعور يرخى ذوائبه على أعطافه … فيريك ظلا لاح فوق غدير 33 - بدر الدين الذهبى، له فى المرقص-فى حرب وقع: والخيل قد نشرت من نقعها صحفا … قامت كتائبها ما بيننا سطرا تملى علينا الردينيات ما نظمت … فيها ويملى علينا السيف ما نثرا

ذكر شعراء المائة السابعة من أهل المغرب، والمختار من أشعارهم فى طبقتى المرقص والمطرب

34 - ابن الحيمى اللغوى، له فى المرقص-وقد كتب إلى أبيه: جننت فعودنى بكتبك أن لى … شياطين شوق لا تفارق مضجعى استرقت أسرار وجدى تمردا … بعثت إليها فى الدجى شهب أدمعى 35 - نور الدين الأسعردى، له فى المرقص: ولم أر شمسا قبلها فى زجاجة … مكللة من نفسها بنجوم وتنظر من ستر الزجاج كأنها … سنا البرق يبدو من رقيق غيوم 36 - ابن خطلج الأرموى، له فى المرقص: صابونة من راحتىّ منعم … قد أضحت السحب لها جسدا تلاطم البحران فى صدرها … فأصبح الموج بها مزبدا ... ذكر شعراء المائة السابعة من أهل المغرب، والمختار من أشعارهم فى طبقتى المرقص والمطرب 1 - الأسعد بن مماتى، له فى المرقص، من مصر فحسب من المغرب: مررت بدار الملك والنيل آخذ … بأطواقها والماء يضربها ضربا 2 - ابن سناء الملك، له فى المرقص: لا تخش منى فإنى كالنسيم ضنا … وما النسيم بمختبئ على غصن وقوله: وأملى على ليل الغدائر غدرها … وأملى عليه وهو فى الأرض يكتب أغار من القرطين خيفة حبها … ألم ترهم مثل قلبى يعذّب وأنكر من تلك الغدائر أنها … إذا أرسلت ظلت مع الحجل تلعب وما لاح فى الغرب الهلال وإنما … هو البدر إجلالا لها يتنقب

3 - النجيب بن الدباغ، له فى المرقص: يا ربّ إن قدرته لمقبل … غيرى فللأ كواب أو للأكؤس وإذا قضيت لنا بعين مراقب … فى الحب فلتك من عيون النرجس 4 - ابن شمس الخلافة، له فى المرقص: يا رب ليل قد طرقت … وساد من أهواه سرّا ففششت قفلا من عقي‍ … ق أحمر وسرقت درّا 5 - ابن النبيه الكاتب، له فى المرقص-من قصيدة طويلة: وكوكب الصبح نجاب على يده … محلق تملأ الدنيا بشائره 6 - ابن الفقيه نصر، له فى المرقص: أقتطف السوداء من لمتى … أخذا مع البيضاء إذ تسرف فتخلف البيضاء أمثالها … وتحلف السوداء فما تخلف حماقة السوداء من هاهنا … يعرفها من لم يكن يعرف 7 - سيف الدين المشد، له فى المرقص: (بياض فى المتن) 8 - ابن مطروح، له فى المرقص: إذا ما اشتهى الخلخال أخبار قرطها … فياطيب ما تملى عليه الضفائر وقوله: وجاء فى حلة معصفرة … قوموا انظروا الغصن فى أصائله 9 - شرف الدين الديباجى، له فى المرقص: شهر الحسام وكالأقاحى خده … ثم انثنى كشقائق النعمان لو لم يكن طربا براحته لما … غنى بضرب مثالث ومثانى 10 - ابن شاور، له فى المرقص: لا تثق من آدمىّ فى وداد وصفاء … كيف ترجو منه صفوا وهو من طين وماء

11 - ابن أبى الأصبع، له فى المرقص: ولما رأيتك عند المدي‍ … ح جهم المحيا لنا تنظر تيقنت بخلك لى بالندى … لأن الجهامة لا تمطر 12 - أبو الحسين الجزار: من منصفى من معشر … كثروا علىّ وأكثروا صادقتهم وأرى الخرو … ج من الصداقة يعسر كالخط يسهل فى الطرو … س ومحوه متعذر وإذا أردت كشطته … لكن ذاك يؤثّر 13 - ابن غنوم الإسكندرى: لا غرو للأعين أن رقرقت … دموعها حين وداع السفر فالنّور أصبح مستعبرا … وليس إلاّ لوداع السحر 14 - سلطان إفريقية يحيى، له فى المرقص-فى الجوز: تفضل بطعم له ملبس … صلابة وجه لئيم حكى إذا برّ عن جسمه ثوبه … أتاك كما تمضغ المستكا 15 - ابن العفون، له فى المرقص: أخواك يا بن الأكرمين بجنة … راياتها ما لم تكن فى الجنة عنبا ملاحيّا وخمرا مزة … وظلالنا من تحت أغصن كرمة فشرابنا بنت الكروم ونقلنا … بالأم واستظلالنا بالجدة 16 - ابن طلحة، وزير هود صاحب الأندلس: يا هل ترى أطرف من يومنا … قلّد جيد الأفق طوق العقيق وأنطق الورق بعيدانها … مرقصة كل قضيب وريق والشمس لا تشرب خمر الندا … فى الروض إلاّ بكؤوس الشقيق

17 - مرح كحل المغربى، له فى المرقص: نهر يهيم بحسنه من لم يهمّ … ويجيد فيه الشعر من لم يشعر ما اصفرّ وجه الشمس عند غروبها … إلا لفرقة حسن ذاك المنظر 18 - مطرف الغرناطى، له فى المرقص: غدوت مفكرا فى سر أفق … أفاد العلم من بعد الجهالة فما طويت له شبك الدرارى … إلى أن أظفرته بالغزالة 19 - ابن جودى الغرناطى، له فى المرقص: يقول وقد قالوا أطال تأملا … لحظ عذاريه مقيما لعذره إذا رمدت عيناى من شمس وجهه … ملأتهما كحلا بأثمد شعره 20 - ابن طارق الغرناطى، له فى المرقص: سقّنى والحمام يبكى صباحا … فتخال الرذاذ من مقلتيه وكأن النسيم جاء إلى الغص‍ … ن دخيلا مسترفدا ما عليه فانثنى كالكريم وفّاه ضيف … ثم ألقى ما فى يديه لديه 21 - ابن محبوب كاتب الرميمى، صاحب المرية، له فى المرقص، فى غلام حلقوا شعره: حلقوك تغييرا لحسنك غيرة … فازداد حسنك بهجة وبهاء كالخمر زال فدامه فتشعشعت … والشمع قط ذباله فأضاء 22 - ابن طلحة الصقلى، له فى المرقص: أيتها النفس إليه اذهبى … فحبه المشهور من مذهبى مفضض الثغر له نقطة … مسكية فى خده المذهبى آيسنى التوبة فى حبه … طلوعه شمسا من المغرب 23 - حمدوس الصقلى، له فى المرقص، فى شمعة: وصعدة لبست سربال مشتهر … بالحب منغمس فى الدمع والحرق

مازال يطعن صدر الليل لهذمها … حتى غدا سائلا منه دم الشفق 24 - أبو جعفر بن عياش له فى المرقص: شربت مذ دبّ فوق الخد عارضه … حتى بدا شائبا بالصبح مختضبا فلم أدع ذهب الصهباء من قدحى … حتى رأيت خليع الليل قد ذهبا 25 - عفيف الدين التلمسانى، له فى المرقص: ساروا فيا وحشة الوادى لبعدهم … عنه ولا سيما الأغصان والكتب وله: وأعدلى حديثهم فلسمعى … قرط وجد باللؤلؤ المنثور ثم صف لى ذؤابة منه طالت … ودجّت فهى ليله المهجور 26 - ابن سلمون البلنسى، له فى المرقص: يا قائلا كم أراه للحمد فىّ مديما … وجدت عرضك روضا فكنت فيه نسيما 27 - أبو الحسين القوصى، له فى المرقص: ألا لله نهر فى رياض … يحض على الشجاعة من رآه تلاعب للحباب به فرند … وأدمى بالشقائق جانباه 28 - ابن الصّابونى الإشبيلى، له فى المرقص، فى العذار: وما خيّلت نفسى إلىّ بأنه … ستفعل أفعال السيوف الحمائل 29 - أبو الوليد بن الحيان، له فى المرقص: والسحب قد نثرت فى الروض لؤلؤها … فضمه الشمس فى ثوب من الذهب وله: ودوحة أطربت منها حمائمها … أفق السماء فلم يبرح ينقطها تحكى الكمامة منها راحة قبضت … يلقى السحاب لها درّا فتبسطها وقوله: ودوح بدت معجزات له … تبين عليه وتدعو إليه

جرى النهر حتى سقى أرضه … فمال يقبل شكرا لديه وكف الصّبا صبغت حليه … فقام الحمام ينادى عليه كساه الأصيل ثياب الضنى … فحل طبيب الدياجى لديه وجاء النسيم له عائدا … فقام له لاثما معطفيه 30 - سعيد وزير صاحب إفريقية، فى المرقص-فى دولاب: ومحنية الأصلاب تحنو على الثرى … وتسقى نبات الترب درّ الترائب تعد من الأفلاك أن نجومها … نجوم لرجم المحل ذات الذوائب وأطربها رقص الغصون ذوابلا … فدارت بأمثال السيوف القواضب 31 - موسى بن سعيد، له فى المرقص: ألا حبذا روض بكرنا له ضحى … وفى جنبات الورد للطل ادمع وقد جعلت بين الغصون نسيمة … تمزّق ثوب الظلّ منه وترقع ونحن إذا ما صلّت القضب ركعا … نظل لها من هزة السكر ركع 32 - على بن موسى بن سعيد، له فى المرقص-فى جزيرة الصالحيّة: وعانقها من فرط شوق لحسنها … فمدّ يمينا نحوها وشمالا وقوله: كأنّ خالا لاح فى خدّه … للعين فى سلسلة من عذار أسود يخدم فى جنة … قيده مولاه خوف الفرار ... نجزت أسماء الشعراء المختصين بهذا الجزء. وبتمامهم تم الجزء السابع من هذا التاريخ، المسمى بكنز الدرر وجامع الغرر، بخط يد واضعه ومصنفه وجامعه

ومؤلفه، أضعف عباد الله وأفقرهم إلى الله، أبو بكر بن عبد الله بن أيبك، صاحب صرخد-كان-عرف الوالد بالدواه دارى. غفر الله له ولوالديه، ولمن قرأه، وتجاوز عن كل خطأ يراه، ولكافة المسلمين أجمعين. وكان الفراغ من نسخ هذا الجزء نهار يوم الثلاثاء سابع شهر شعبان المكرم، سنة أربع وثلاثين وسبعمائة، أحسن الله نقصها بخير. يتلو ذلك فى أول الجزء الثامن-وهو آخر هذا التاريخ المبارك-ما مثاله: مقدمة فى ذكر بعض محاسن مولانا السلطان، أعز الله أنصاره. وبعدها ابتداء ذكر الدولة التركية، أدام الله أيام مولانا مالكها، وأدام اقتداره، إلى آخر ما يقف بنا الكلام من السنين والأعوام. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

8 - الدرة الزكية فى أخبار الدولة التركية

الجزء الثامن تصدير هذا المجلد هو الجزء الثامن من تاريخ ابن الدوادارى الذى بدأ الأستاذ هانس روبرت رويمر فى نشره سنة 1960 أثناء توليه رئاسة القسم الإسلامى فى المعهد الألمانى للآثار بالقاهرة، وإليه يرجع الفضل فى نشر الجزء التاسع والأخير الذى يتناول حكم الملك الناصر محمد بن قلاوون. وقد صدر الجزء السادس منه عن عهد الفاطميين بعد ذلك بعام واحد، وعنى بنشره الدكتور صلاح الدين المنجد. أما هذا المجلد، وهو الجزء الثامن من الكتاب، فيتناول الفترة الواقعة بين سنة 648 هـ‍. / 1250 م. وسنة 698 هـ‍. /1299 م. أى الخمسين سنة الأولى من حكم المماليك البحرية القفجاقية لمصر والشام الذى استمر قرنا من الزمان. ويرجع اشتغالى بالجزء الثامن من تاريخ كنز الدرر وجامع الغرر إلى سنة 1966 عند ما قدم لى الأستاذ رويمر نسخة مصورة وأخرى مستنسخة فى القاهرة عن المخطوطة الأصلية الموجودة فى إسطنبول بخط المؤلف وذلك للاستعانة بها فى إعداد رسالة الدكتوراه التى قدمتها إلى جامعة فرايبورج عن كتابة التاريخ فى العهد الملوكى الأول. وقد لمست من خلال الأبحاث التى قمت بها أهمية هذا النص وخصوبته من الناحية التاريخية، كما تبينت كذلك أهميته البالغة من الناحيتين الأدبية واللغوية، بحيث اغتنمت الفرصة التى أتيحت لى بعد إتمام دراستى للعمل على نشر هذا الجزء نشرة محققة والإشراف على طبعه وذلك أثناء فترة إقامتى فى المعهد الألمانى للآثار ابتداء من شهر سبتمبر سنة 1969 إلى شهر مايو سنة 1970 ثم فى الفترة التالية التى امتدّت من منتصف نوفمبر سنة 1970 حتى الآن.

وأحب أن أوجه شكرى الخالص للأستاذ الدكتور رويمر على الرعاية الفائقة التى أولانيها فى الأعوام الماضية، وبخاصة أثناء المرحلة الأخيرة الشاقة من الطبع، كما أشكره على المراجع التى وضعها تحت تصرّفى. ويطيب لى أيضا أن أشكر الأستاذ الدكتور فيرنر كايزر، المدير الأول لفرع المعهد الألمانى للآثار بالقاهرة، فهو الذى يسّر لى الإقامة فى مصر خلال الفترة الأولى التى قضيتها فيها كما أتاح لى أن أحظى بضيافة المعهد فى شتاء سنة 1970 - 1971. هذا ولولا العون الصادق والنصيحة المخلصة التى لقيتها من أصدقائى فى جامعة القاهرة ومركز تحقيق التراث بدار الكتب المصرية، وهم الأساتذة عبد العزيز محمود عبد الدايم ويحيى عبد الحميد الحدّينى وعبد الحميد السيورى، لتعذّر علىّ أن أنتهى من طبع الكتاب فى المدة الوجيزة التى أتيحت لى. وإنى لأشعر بالامتنان الصادق للسيد الدكتور حسنين محمد ربيع الذى تفضل بمراجعة الأصل وأدخل عليه بعض التصويبات القيّمة. وأود فى النهاية أن أضيف ملاحظة هامّة حول المنهج الذى سرت عليه فى تحقيق النصّ. فقد رأيت-بخلاف ما هو متبع فى مثل هذه الأحوال-أن أحافظ على الأسلوب العامىّ الذى أخذ به المؤلف فى ضبط الكلمات وقواعد النحو (كما يفعل مثلا عند ما يكتب الذال دالا أو الظاء ضادا أو العكس) باستثناء آيات القرآن الكريم والشعر والسجع، وذلك حرصا منى على أن يبقى هذا النصّ الذى وصل إلينا بخط المؤلف أثرا هامّا بالغ الدلالة على اللغة الشعبية المصرية الشائعة فى العصور الوسطى، لا مجرّد أثر تاريخى فحسب. وسوف يجد القارئ فى الهوامش بعض الحالات التى شعرت أنها قد تلتبس عليه مع الكلمات المقابلة لها بالعربية الفصحى. القاهرة فى 31 ديسمبر سنة 1970 أولرخ هارمان

المحتويات

المحتويات صفحة تصدير هـ‍ مقدمة المؤلف 2 ذكر ابتداء الدولة التركية 12 ذكر سلطنة الملك المعز أول ملوك الترك 12 ذكر تمليك الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك المسعود 14 ذكر سنة تسع وأربعين وستمائة 19 ذكر سنة خمسين وستمائة 21 ذكر سنة إحدى وخمسين وستمائة 22 ذكر سنة اثنتين وخمسين وستمائة 24 ذكر قتلة الفارس أقطاى 24 ذكر المدينة الخضراء 26 ذكر سنة ثلاث وخمسين وستمائة 28 ذكر سنة أربع وخمسين وستمائة 29 ذكر سنة خمس وخمسين وستمائة 30 ذكر قتلة الملك المعز المشار إليه 30 ذكر تملك نور الدين على الملك المنصور بن الملك المعز 33 ذكر سنة ست وخمسين وستمائة 33 ذكر أخذ التتار لبغداد وقتل الخليفة 34 ذكر سنة سبع وخمسين وستمائة 37 ذكر سلطنة الملك المظفر سيف الدنيا والدين قطز رحمه الله 39 ذكر نبذ من بدء شأن الملك المظفر 39 صفحة ذكر سنة ثمان وخمسين وستمائة 45

ذكر وقعة عين جالوت وكسرة التتار 49 ذكر قتلة الملك المظفر رحمه الله وسلطنة الملك الظاهر 61 ذكر سنة تسع وخمسين وستمائة 67 ذكر نسبة الفتوة 80 ذكر سنة ستين وستمائة 86 ذكر سنة إحدى وستين وستمائة 94 ذكر بيعة الإمام الحاكم بأمر الله أبى العباس المشار إليه وخبره 94 ذكر أخذ الكرك من الملك المغيث 95 ذكر سنة اثنتين وستين وستمائة 102 ذكر غازية الخناقة 103 ذكر سنة ثلاث وستين وستمائة 106 ذكر قيسارية وبدء شأنها من أول الإسلام 108 ذكر سنة أربع وستين وستمائة 116 ذكر فتح صفد المحروسة 117 ذكر سنة خمس وستين وستمائة 120 ذكر سنة ست وستين وستمائة 123 ذكر فتح يافا وذكر مبتدئها أولا 124 ذكر الشقيف وفتحها 125 ذكر أنطاكية وفتحها ومبتدأ أمرها 126 ذكر أنطاكية ونبذ من أخبارها 131 ذكر بغراس ومبدأ أمرها 138 ذكر سنة سبع وستين وستمائة 139 ذكر سنة ثمان وستين وستمائة 142 ذكر الإسماعيلية وبدء شأنهم 145

صفحة ذكر سنة تسع وستين وستمائة 150 ذكر فتح حصن الأكراد 152 ذكر نبذ من أخبار حصن الأكراد 153 ذكر فتح حصن عكّار 155 ذكر غرقة دمشق هذه السنة 160 ذكر فتح القرين فى هذه السنة 161 ذكر سنة سبعين وستمائة 164 ذكر سنة إحدى وسبعين وستمائة 168 ذكر نوبة الفراة المعروفة بوقعة جنقر 169 ذكر سنة اثنتين وسبعين وستمائة 172 ذكر شئ من بلاد الحبشة 175 ذكر سنة ثلاث وسبعين وستمائة 176 ذكر نوبة سيس وما تم فيها 177 ذكر شئ من بلاد سيس وأخبارها 178 ذكر استيلاء بيت لاون صاحب سيس عليها 180 ذكر سنة أربع وسبعين وستمائة 182 ذكر فتح القصير 183 ذكر من غزا النوبة من أول الإسلام 187 ذكر سنة خمس وسبعين وستمائة 187 ذكر دخول السلطان الروم 197 ذكر سنة ست وسبعين وستمائة 207 ذكر وفاة السلطان الملك الظاهر 208 ذكر نبذ من أخباره رحمه الله 211 ذكر فتوحاته رحمه الله 213 ذكر السلطان الملك السعيد ونسبه وما لخّص من سيرته وخبره 219

صفحة ذكر الشيخ خضر وبدء شأنه إلى وفاته 220 ذكر سنة سبع وسبعين وستمائة 224 ذكر سنة ثمان وسبعين وستمائة 226 ذكر خلع الملك السعيد وتمليك أخيه الملك العادل سلامش 227 ذكر سلطنة مولانا السلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون 231 ذكر تملك الملك الكامل شمس الدين سنقر الأشقر وما لخص من خبره 234 ذكر سنة تسع وسبعين وستمائة 235 ذكر تملك الملك الصالح بن السلطان الشهيد الملك المنصور رحمه الله 238 ذكر سنة ثمانين وستمائة 240 ذكر وقعة حمص المعروفة بمنكوتمر 241 ذكر سنة إحدى وثمانين وستمائة 249 ذكر سنة اثنتين وثمانين وستمائة 261 ذكر وصول الشيخ عبد الرحمن بدمشق 261 ذكر سنة ثلاث وثمانين وستمائة 262 ذكر قتلة الملك أحمد أغا وتمليك أرغون بن أبنا بن هلاوون 263 ذكر بعض شئ من محاسنه (الملك المنصور محمد) رحمه الله 266 ذكر سنة أربع وثمانين وستمائة 268 ذكر فتح حصن المرقب 268 ذكر المولد الشريف السلطانى الملكى الناصرى عز نصره-بشائر النصر لأوحد ملوك العصر: الأولى 271 البشارة الثانية 273 البشارة الثالثة 274 البشارة الرابعة 275 ذكر سنة خمس وثمانين وستمائة 276 سنة ست وثمانين وستمائة 280

صفحة ذكر سنة سبع وثمانين وستمائة 281 ذكر سنة ثمان وثمانين وستمائة 282 ذكر فتح طرابلس الشأم 283 ذكر اطرابلس ونبذ من أخبارها 284 ذكر شئ من نسخ البشائر 287 ذكر سنة تسع وثمانين وستمائة 300 ذكر وفاته (الملك المنصور قلاوون) رحمه الله تعالى 301 ذكر بعض شئ من محاسنه رحمه الله وصفته 302 ذكر سلطنة السلطان الملك الأشرف صلاح الدنيا والدين خليل 303 ذكر سنة تسعين وستمائة 305 ذكر فتح عكا وما جرى عليها من الحروب 308 ذكر نبذ من أخبار هذه القلاع 310 ذكر سنة إحدى وتسعين وستمائة 322 ذكر فتح قلعة الروم 323 ذكر سنة اثنتين وتسعين وستمائة 340 ذكر سنة ثلاث وتسعين وستمائة 345 ذكر استشهاد السلطان الملك الأشرف 345 ذكر بعض شئ من محاسنه رحمه الله 351 ذكر سلطنة مولانا السلطان الأعظم الملك الناصر عز نصره وهى الأولى 352 ذكر قتلة الشجاعى وسببها 353 ذكر سنة أربع وتسعين وستمائة 356 ذكر تغلب الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى على الملك 357 ذكر ما جرى بين ملوك اليمن 358 ذكر دخول الأوراتية مصر 361 ذكر سنة خمس وتسعين وستمائة 362

صفحة ذكر الغلاء العظيم فى هذه السنة-لا أعاده الله 363 ذكر خلع الملك العادل كتبغا وولاية الملك المنصور لاجين 365 ذكر سنة ست وتسعين وستمائة 366 ذكر سنة سبع وتسعين وستمائة 369 ذكر سنة ثمان وتسعين وستمائة 372 ذكر سبب تقفيز الأمراء إلى غازان 373 ذكر قتلة السلطان لاجين رحمه الله والسبب فى ذلك 376 ذكر السادة الأجلاء الأئمة الفضلاء الذين أدركهم العبد بالمولد 384 الشيخ صدر الدين المعروف بابن المرحّل رحمه الله 385 الشيخ شمس الدين بن تازمرت المغربى 389 الشيخ أثير الدين أبو حيان المغربى 389 القاضى ناصر الدين شافع بن عبد الظاهر-رحمه الله 389 القاضى شهاب الدين محمود كاتب الإنشاء-رحمه الله 389 القاضى فتح الدين بن سيد الناس-رحمه الله 389 الحكيم شمس الدين بن دانيال-رحمه الله 391 الحكيم شهاب الدين الصفدى 391 القاضى شهاب الدين بن النويرى رحمه الله 391 شرف الدين بن أسد 392 الفهارس 401 فهرس الأعلام والأمم والطوائف 402 فهرس الأماكن 448 فهرس الاصطلاحات والكلمات 466 فهرس الشعراء والمؤلفين والكتب 495

< SC> صورة صفحة 319 من المخطوطة (انظر ص 364 - 365)

[مقدمة المؤلف]

الحمد لله الدى اطفى (3) فاخمد جمره الإشراك، بمزن حيا دوله الاتراك، واعلا منار المله المحمديه، بالساده الملوك الاسلاميه، قاده الجيوش واسود الخميس، وليوث الوغا (4) ادا حمى الوطيس، المتوارثون الملك كابر عن كابر (5)، ما منهم الا ومن له سير ومناقب ومآثر، وليس فيهم الا من ابدل (6) مهجته فى طاعه المليك البارى من تلق منهم تقل: لاقيت خيرهم مثل النجوم التى يسرى بها السارى، وناهيك بواسطه عقدهم، ومن كان إليه حلهم وعقدهم، السيد الفاضل، والبطل المناضل، والقرم الباسل، والغيث الهاطل، الاسد الهصور، مولانا وسيدنا السلطان الشهيد الملك المنصور، قلاوون الالفى الصالحى ابى (10) الاملاك الثلاث، الدى فى عقبه الملك الى اخر الدهر ميراث، وكفاه شرفا بنجله الشريف الطاهر، البدر الزاهر، والبحر الزاخر، والاسد الزاير، والروض العاطر، والغيث الماطر، والنور الباصر، سيدنا ومولانا ومالك رقنا السلطان الاعظم الملك الناصر، المستبشر من الكتاب العزيز بقوله تعالى {إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً.} (16) ومن الحديث الكريم قوله صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرّعب وأوتيت جوامع الكلم) (17).

(3) اطفى: أطفأ--اعلا: أعلى (4) الوغا: الوغى (5) كابر عن: كابرا عن (6) ابدل: ابذل (10) ابى الاملاك الثلاث: أبو الملوك الثلاثة (16) القرآن 48:1 - 3. (17) صحيح مسلم، كتاب المساجد 8.

ومن قول الشاعر من طبقه الشعر الجاهليه: قول النابغة الدبيانى (1) <من الطويل>: فإنّك شمس والملوك كواكب … إذا طلعت لم يبد منهن كوكب ومن قول الشاعر من طبقه المخضرمين قول حسان بن ثابت <من الكامل>: (3) بيض الوجوه كريمة أنسابهم (4) … شمّ الأنوف من الطراز الأول الملحقين (5) … فقيرهم بغنيهم والمشفقين على اليتيم الأرمل ومن قول الشاعر من طبقه المولدين قول نصيب <من الطويل>: فعاجوا فأثنوا بالذى أنت أهله … ولو سكتوا أثنت عليك الحقايب ومن قول الشاعر من طبقه المحدثين قول أبى نواس <من الكامل>: يا من بدايع حسن صورته … تثنى إليه أعنّة الحدق ومن قول الشاعر من الماية الثالثه قول ابى تمام <من الطويل>: ولو لم يكن فى كفّه غير نفسه (11) … لجاد بها فليتّق الله سايله ومن قول الشاعر من المايه الرابعه قول المتنبى <من البسيط>: يا سايلى عنه لما جيت أمدحه … هذا هو الرجل العارى من العار لقيته فلقيت الناس فى رجل … والدهر فى ساعة والأرض فى دار ومن قول الشاعر من المايه الخامسه قول ابن جيوش <من الخفيف>: إن ترد خير حالهم عن يقين … فأتهم يوم نايل أو نزال تلق بيض الوجوه، سود مثار ال‍ … نقع، خضر الأكناف، حمر النصال

(1) الدبيانى: الذبيانى (4) أنسابهم: فى ديوان حسان بن ثابت (ط. بيروت 1961) ص 180 «أحسابهم» (5) الملحقين: الملحقون--المشفقين: المشفقون (11) نفسه: فى شرح ديوان أبى تمام (ط. القاهرة 1957) ج‍ 3 ص 29 «روحه»

ومن قول الشاعر من المايه السادسه قول الأرّجانى <من المتقارب>: وما ينزل الغيث (2) … إلاّ [لأن] يقبّل بين يديك الثرى ومن قول الشاعر من المايه السابعه قول راجح الحلّى <من الطويل>: ولولا نداه خفت نار ذكائه … عليه ولكنّ الندا (4) مانع الوقد. هدا بعض استحقاق مقامه الشريف من القريض فى مديح مولانا السلطان، ما نطق به كل شاعر فيه بظاهر الغيب فى كل زمان. وأمّا ما يستحقه خلد الله ملكه الى آخر الدهور، من بدايع المنثور، (4) فقول العبد المعترف بالتقصير، واللسان القصير، واضعه ومصنفه، وجامعه ومالفه (8)، ممّا جمع فيه التاريخ بجميع زمانه، فى محاسن مولانا السلطان اعز الله انصاره وكثّر فى أعوانه وهو: ملك ربانىّ العنايه، كيوانى العلاء، مشتراوى القضاء، مريخى السيف، شمسى الملك، زهراوى السعد، عطاردى الحركات، قمرى الوجه، نسيمى اللطف، روضى الجناب، جبل الأرض، قطب الزمان. نبوى التاييد آدمى الوضاه، شيثى الوصاه، ادريسى الحياه، نوحى النجاه، يافثى العنصر، لقمانى الأنسر، ابراهيم القرا، اسماعيلى الوفاء، يعقوبى الصبر، يوسفى الحسن، داوودى النغمه، سليمانى النعمه، موساوى اليد، هارونى العهد، زكرى الودّ، عيساوى الزهد. جاهلى الحروب انوشروانى العدل، نعمانى الفضل، قسّى الفصاحه، حاتمى السماحه، عنترى الشجاعه، كعبى البراعه.

(2) الغيث: فى ديوان الأرجانى (ط. بيروت 1307 هـ‍) ص 5 «القطر» -- أضيف ما بين الحاصرتين من ديوان الأرجانى (4) الندا: الندى (8) مالفه: مؤلفه

اسلامى الدين محمدى الاسم، ابو بكرى الآثار، عمرى الاخبار، عثمانى الحياء، علوى الدكاء، حسنى التزهّد، حسينى التعبّد. اموى الملك معاوى الاغضاء، يزيدى العطاء، عبد الايى (5) الاقدام، مروانى الصدام، عبد ملكى الايام، وليدى التشييد، سليمانى التمهيد، عمرى السيره، يزيدى الجيره، هشامى الاهتمام، وليدى الانعام، يزيدى النسبه، خالدى الوهبه، مروانى الوثبه. (5) عباسى الامامه سفاحى النصر، منصورى العصر، مهدى الهمه، هادى الأمه، رشيدى الآراء، امينى العطاء، برمكى الانعام، مأمونى الاحلام، معتصمى الجساره، واثقى الاشاره، متوكل على الله، منتصر بالله معتزّ برسوله، مهتدى (11) بقوله، معتمد عليه فى مأموله، معتضد بالقران، مكتف بالايمان، مقتدر بالله على اعداه (12)، راض بما اولاه مولاه، متقى (13) فى سره ونجواه، مستكفى بتوفيق الله، مطيع لخالقه، طايع لرازقه، قادر بالإله، قايم بحقوق الله، مقتد مسترشد، راشد مقتفى (14) مستنجد، المستضى بالنور الباصر، المستمدّ منه النصر الناصر، النقى الباطن والظاهر، المستعصم بالله القاهر.

(5) عبد الايى: كذا بالأصل، ولعل المقصود به «عبد الله بن معاوية بن أبى سفيان» (11) مهتدى: مهتد (12) اعداه: أعدائه (13) متقى: متق--مستكفى: مستكف (14) مقتفى: مقتف

الفاطمى السننى مهدى الشرق والغرب، القايم بالسنه والفرض، المنصور الى يوم العرض، معز الدنيا وعزيز مصر، والحاكم على ممالك العصر، الظاهر بالايمان، المستنصر بالقران، المستعلى على من طغى وكفر، الآمر بالمعروف والناهى عن المنكر، الحافظ حدود الدين، الظافر باعداه (5) المتمردين، الفايز بالغفران، العاضد لدوله الايمان. واين تلحق الملوك الأول، ارباب الدول والخول، من الاكاسره والقياصره، والبوادى والحواظر (7)، وكدا الا كاسره من بنى ساسان. والملوك من آل سامان، وبنو بويه وآل حمدان، واين ملاك الاندلس وملوك الاغالب اصحاب القيروان، وعبد المؤمن صاحب الغرب الى اقصى البلدان. لم يدركوا والله شاوه الرفيع. واين الضالع من الضليع، واين التبابعه عباد الأصنام من سيّد ملوك الاسلام، وكدا من تلاهم من ملوك الصين والهند واليمن، فيما مضى من دلك الزمن. وما ألطن خان (6) وكشلو خان وجكز خان عند ملك العصر والزمان، والمؤيد بالملايكه والقرآن، الدى ليس فى طالع سعده قران. فلو كان لبشر فى الفلك مكان، لكان ظهر جواده السماكان، والمجرّة له ميدان، وكيوان له أيوان، والشمس والقمر تسجدان، ليس كأضغاث احلام لكن بالمشاهده والعيان، والدليل القاطع والبرهان، جامع محاسن ملوك الشرق والغرب، المستنصرين باسمه عند كل حرب، وفى موقف كل طعن وضرب. الملك المهوب وسيد بنى ايوب القاده الاعلام، وملوك الاسلام، واسدهم الزاير وليثهم الكاسر، السلطان صلاح الدين الملك الناصر، وان كان قد فتح الفتوحات بكدّ نفسه، فهدا السلطان الاعظم ناصر الدنيا والدين الملك الناصر قد مهّد الدنيا بهيبته وحسّه، من غيران

(5) باعداه: بأعدائه (7) والحواظر: والحواضر

يفتح للحرب باب (1)، او يتعب له ركاب. فليس الاسد الدى يخشى وهو فى غابه، كالاسد الدى لا يعرف حتى يثب بمخلبيه ونابه. فهو الملك الناصر الافضل العادل الكامل، وان كان قد تقدمه هولاء الملوك الافاضل، فاين الطل من الوابل والرامح من النابل. وإن كان ثم عزيز وصالح وناصر وناصر، فهدا هو الناصر الآخر، صاحب الرمز الفاخر (5)، الثلاثى التمليك، المخاطب: إن الله ناصرك يا ناصر ومهديك. يشهد بدلك من كان منهم كابر عن كابر (6_)، (6) [ليس فيهم من هو لدلك مكابر، لما نطقت به ألسنه الاقلام وافواه المحابر] (7). وإن كان قد تقدم اشرف ومسعود ومعظم، فهدا الناصر واسطه العقد المنظم. الدى تشرف به دست الملك وسعدت به دوله الترك فهو معز العصر، والمظفر بالنصر، الظاهر الدبّ (10)، (7) المنصورى الأب، الصالح النخوه، واشرف الاخوه، مخدومى العادل المغرور، مالكى لاجين المنصور، الظافر بالمظفر بيبرس الباغى المقهور، مولانا وسيدنا ومالك رقّنا السلطان الاعظم الملك الناصر ناصر الدنيا والدين محمد بن مولانا السلطان الشهيد سيف الدنيا والدين قلاوون الالفى الصالحى، فهو النجم الثاقب، وصاحب هذه المناقب. فلدلك اجمعت البريه على اختلاف السنتها والوانها، وتغاير عصورها وازمانها، وتباين عقولها وآرايها، وتفاوت اغراضها واهوايها، ان من لطايف الله تعالى باهل هدا العصر، ولطايفه التى تجاوز مدى الاحصا والحصر، ان جعله امام هدا الزمان، وسلطان الوقت والاوان عضد الله ملكه بالتخليد، وشدّ بدوام ايامه ازر الايمان والتوحيد، ملك ملا جماله العيون وصدق احسانه الظنون، ووضحت الدلايل على ان مثله ما كان قطّ ولم يكون (20) <من السريع>:

(1) باب: بابا--ركاب: ركابا (5) لتوضيح معنى «صاحب الرمز الفاخر» انظر ما يلى ص 275 - 276 (البشارة الرابعة) والترجمة الألمانية لما ذكره ابن الدوادارى فى Haarmann,Quellenstudien,S .132 (6_) كابر عن: كابرا عن (6 - 7) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (10) الدب: الذب (20) لم يكون: كذا بالأصل

هيهات قامت معجزات العلى … فيه وبانت آية الإنفراد (1) جلّ عن الناس فما عابه … شئ سوى تشبيهه بالعباد وادا تأملت هده المناقب التى تخلد حسن الذكر، حتى تمثلت صورا تستشفّ فى مرآه الفكر، وجدت احسنها منظرا، واشفها جوهرا قد خصه الله بها حتى خلدت فى بطون الاوراق، وتحلت بحلاوه ذكرها اللسن الرقاق فى ساير الآفاق. ودلك اشرف ما اكتسبه المرء فى وجوده، واعظم ما منحه الله من كرمه وجوده. وإن من ادرك دلك فقد نال الرتبه العليه، والسعاده الحقيقيه (8) لانه حصل على فضيله الذات، ووصل بها الى اعظم اللذات، ومن امثالهم: البشر احد الجودين، والبيان احد السحرين، والثنا احد العمرين. وما احسن قول المتنبى <من الكامل>: كفل الثناء له بردّ حيانه … لما انطوى فكأنه منشوده ثم انه بسط اقتداره واعزّ اولياه (11) وانصاره، لم يقف عند هده المواهب العظيمه، ولم يقنع بما انعم الله عليه من هده المناقب الجسيمة، من ترادف انعامه وجوده، وعدله الدى ملا الخافقين وجوده، ولم يرض من الصفح بما ألف، ومن العفو بما شهر وعرف. فما يجود منه على الجانى ببقا روحه، ويحول به بين المجرم وبين سكنى ضريحه، حتى ابان التداده (15) بالغفران، واحسانه الى من قابل نعمه بالكفران، ما جعل المدبرين يتقرّبون اليه بالجرايم، والمسيين (16) يتوسلون عنده بالكباير، فحمدوا خطاهم، ولم يعهد (17) الخطأ-مع غير كرمه-يحمد، وجحدوا برايتهم، وما عرف (17_) البراه-لولا فيض عفوه-ينكر ويجحد، وصارت اساءاتهم من مواتهم (18) اليه، وشوافعهم وجناياتهم من جرماتهم لديه ذرايعهم. فهو احق بهدا المقال <من الكامل>: وسعت مكارمك (20) … الجناة بأسرهم واقلت كلاّ منهم عثراته

(1) الإنفراد: كذا لصحة الوزن (11) اولياه: أولياءه (15) التداده: التذاذه (16) المسيين: المسيئين (17) يعهد: يعهد أن--برايتهم: براءتهم (17_) عرف البراه: عرف أن البراءة (18) مواتهم: مآتيهم (20) مكارمك: فى الأصل «مكامك»

وجزيت مرتكب الجزيرة منهم ال‍ … حسنى فاصبح شاكر (1) زلاته هذا مع ان كل ملك اذا اخذ اهبه مملكته تكبّر، واذا انتصب فى مقرّ عظمته تجبّر، ومولانا السلطان-خلد الله ملكه وجعل الدنيا بأسرها ملكه-ادا على (3) دسته ورقى سريره، راى الناس افضل الملوك سيرة واحسنهم مع الله سريره، لا يعجّل العقاب ولا يؤجل الثواب، (9) ولا يتجاوز فى حكمه الصواب، ولا يمنع احد ان يستقصى الحجه ويستوفى الخطاب، هدا على انبساط قدرته واعتلا شانه، وانتشار هيبته واتساع سلطانه. وانه ادا استقر فى منصبه وجف الاكابر من الموالى الامراء، والساده القضاه العلماء. وحضر رسل الملوك وسفراهم (8) لديه، ووقف الاماثل سماطين بين يديه، وادن (9) لمن أتى ببابه الشريف من الوفود، وغصت الاماكن الفسيحه بالعساكر والجنود، وتعرض ارباب الوضايف (10) لامتثال المراسم، واشتكت الارض اليه من وقع المباسم، رأيت شرف الدنيا وعزّ الأبد، وسلطانا عظيما قوىّ المدد، وملكا كبيرا لا ينبغى لاحد، ونظرت الانوار قد سطعت واشرقت، والابصار قد خضعت واطرقت، وشاهدت مقاما مهيبا ومنظرا هايلا، والفيت كل لسان معقولا وقد كان جايلا قايلا، وتمثلت ضروره بقول الله تعالى فى محكم الكتاب (15) {هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ.} فلذلك نطق لسان الحال بهدا المقال <من الكامل>: ناظر زمانك [. . .] يا ملك الورا (17) … فنظير ملكك ما رآه ولا يرا يا ناصر الدنيا الذى ما مثله … فلذاك كل الصيد فى جوف الفرا انت الذى ذلّ الزمان لبأسه … من ذا يماثل أو يشاكل من ترا (19) ما أحنف فى حلمه ما أصمع فى علمه … ما عادل فى عدله مع قيصرا (20)

(1) شاكر: شاكرا (3) على: علا (8) سفراهم: سفراؤهم (9) ادن: أذن (10) الوضايف: الوظائف (15) القرآن 38:39 (17) الورا: الورى--يرا: يرى-- الشطر الأول مضطرب الوزن (19) ترا: ترى (20) الشطر الأول مضطرب الوزن

ملك اذا ذكرت محاسن فضله … فاح الفضا (1) من نشوة وكذا الثرا ملك تذلّ له الملوك مهابة … وشجاعة وبراعة اسد الشرا (2) ملك ادا نطق الخطيب بذكره … يهتزّ ذاك العود اعنى المنبرا (10) ملك تشرّفت السكاك بإسمه … حتّى بتكرور البلاد وبربرا ملك اذا مرّت عليه سحابة … قال: اقطرى! فلنا خراجك قد هرا ملك يواصل قرنه بقدومه … لا يختشى أنّ السيوف تقصّرا ملك اذا هزّ القناة بكفّه … اثنى القناة بهزّه المذعرا (7) ملك اذا ركب الجياد وجرّها … ملأ السهول والشامخات الوعّرا اقسمت انى يوم شقحب ريته (9) … تحت العصايب والنسور طوايرا يتبعنه فوق البنود نجومها … يعلمن أنّ النصر يهوى الناصرا يعلمن أن محمدا لسميّه … ما زال يحميه ويغدوا (11) ناصرا من أعلم الطير الجوارح أنها … تتبعن أعلام المليك مسايرا (14) من أعلم الوحش الكسور بأنه … لا يأكلن إلا اللحوم الكفّرا من حرّم الذيب الجسور لحوم من … يقرا القران مصاحبا ومسايرا بل هيبة السلطان تمنع جيشه … لا يقربن منه وحوشا كسّرا هذا وكم من معجز يبدوا (16) … له وافا فليقا فى الكتاب مسطّرا خلق الندا (17) … من كفه، وجبينه خلق الضيا والنيّرين بلا امترا خلق الحيا من وجهه، وجماله … قد أخجل البدر التمام النيّرا خلق الوجود بأسره من صدره … ما أوسع الصدر الشريف وأصبرا خلق العلوم بأسرها من قلبه … ما ارأف القلب الكريم وأنورا

(1) الفضا: فى الهامش--الثرا: الثرى (2) الشرا: الشرى (7) الشطر الثانى مضطرب الوزن (9) ريته: رأيته (11) يغدوا: يغدو (14) ومسايرا: مكتوبة بالهامش (16) يبدوا: يبدو--وافا: وافى (17) الندا: الندى

حلف الزمان بأنه فى طوعه … لا شكّ فى ذاك اليمين ولا مرا يا دهر، ما أهناك فى أيامه … يا عمر، طل فى ظلّه لن تقصرا لا زالت الاقدار طوع يمينه … ما واصل الحادى المسير مع السرا وكذا الزمان بعصره مستأمن … ما غردّ القمرى على غصن الأراك (4) (11) وبعد: فإن هدا هو البرق اللامع، والجزء التابع للسابع، «الدّرّة الزكية فى أخبار الدولة التركية». فكلما تقدمه من جميع أجزاء هدا الكتاب، فهم بين يديه كالحجاب، فعاد بمنزلة الفلك السابع كمحل كيوان، ودلك كونه متشرف (7) بدكر سيره مولانا السلطان. فسمى بالنور الباصر فى سيره الملك الناصر، سلطان البلاد ومالك ممالك العبّاد، وفاتح انشاء الله بغداد، ومطهر الارض من الفساد، الدى نطقت بدلك الاخبار، وتواثرت (10) به الآثار. فهو القايم بهده الوضيفة، وصاحب هده النكته اللطيفه، ورادّ الى دار السلم (11) كرسى مملكه الخليفه، ومحيى ما دثر من دولته الشريفه ليكون لله عليه بدلك المنّه، ويستحق بذلك اعلا (12) قصر في الجنة وما أظهر من ايثاره وفضله، فإن مواهب الله تعالى لا تدرك لها غايه، ولا تحدّ لها نهايه. وسيأتى بيان دلك عند ذكر مولده السعيد، بما يخص هدا القول من التصحيح والتاييد عن مشايخ لا يشك انهم كانوا اقطاب دلك العصر. كل منهم نطق لمولانا السلطان بالتاييد والنصر، وانه المخصوص بالعنايه والاراده، وممن {أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ} (17). أدام الله أيامه وبسط ظله، وجعل اعداوه خاشعه ابصارهم ترهقهم دلّه (18): آمين آمين آمين يا ربّ العالمين

(4) الأراك: ذكرت الكاف بالهامش (7) متشرف: متشرفا (10) تواثرت: تواثرت--الوضيفة: الوظيفة (11) السلم: السلام (12) اعلا: أعلى (17) القرآن 10:26 - -اعداوه: أعداءه (18) دله: ذلة

ذكر ابتدا الدوله التركيه ادام الله ايام سلطانها وعز نصره

ذكر ابتدا الدوله التركيه ادام الله ايام سلطانها وعز نصره لما تقدم الكلام فى الجزء الدى قبله وهو السابع من هدا التاريخ الجامع المسمى بكنز الدرر وجامع الغرر الى اخر سنه سبع واربعين وستمايه، (12) ذكر (4) العبد اول سنة ثمان واربعين وستمايه، وما كان من قتل الملك المعظم توران شاه بن الملك الصالح نجم الدين ايوب والسبب الموجب لدلك، وتمليك شجر الدر، ومده الاشهر التى اقامت بها ملكة. فلما كان يوم الخميس لستّ ليال مضين من ربيع الآخر من سنه ثمان وأربعين وستمايه تجهزت الجيوش المصرية يقدمهم الامير حسام الدين ابو على، وخرجوا فى هذا التاريخ طالبين الشام لملتقا (10) الملك الناصر صاحب الشام حسبما سقناه من خبره فى الجزء الدى قبله. وتوجه الامير حسام الدين المدكور مقدم العساكر من قبل الملكه شجر الدرام خليل. فلما كان يوم الاحد مسكوا جماعه من الامرا القيمريه ومن غيرهم. ووقع تشويش كبير بالقاهره، وغلقت الابواب، ووقع الخوف والنهب من المتحرّمين. ذكر سلطنه الملك المعز اول ملوك الترك اعز الله نصر صاحب عصرها وادام ايامه هو السلطان الملك المعز عز الدين ايبك التركمانى. يقال انه كان فى الاصل مملوكا لبيت فخر الدين بن التركمانى الدى كان متولى الاعمال الجيزيه وارتجع إلى بيت السلطان الملك الصالح نجم الدين ايوب. ولم تزل تنتقل به الاحوال الى ان ملك الديار المصريه

(4) دكر: فى الأصل «ودكر» (10) لملتقا: لملتقى

فى هدا التاريخ. واقام ملكا الى ان قتلته أم خليل شجر الدر حسبما ياتى من ذكر ذلك فى تاريخه انشا الله تعالى. وسبب ملكه ان الامرا لما نظروا لما جرا (3) من التشويش، وما الناس فيه من النهب، وقله الحرمه وتحريك الملك الناصر صاحب الشام عليهم من جهة، وتحريك الملك المغيث صاحب الكرك عليهم من جهه اخرى، علموا أن المرأة لا تقوم بسياسه المملكه، وان الطمع قد وقع (13) لدلك. فاجمعوا رايهم، واقاموا من بينهم الامير عز الدين ايبك التركمانى المقدم ذكره. وكان ركوبه يوم السبت سلخ ربيع الاخر من هده السنه بالصناجق والعصايب والبنود. ومشوا (9) الامرا بين يديه وجميع الامرا البحريه، وحملت الغاشيه بين يديه. وشق القاهرة الى ان طلع القلعه، ومدّ الاخوان (10) وزعقت الجاويشيه، واخلع واعطى وانعم. فلما كان يوم الاحد ثانى يوم من تمليكه ورد الخبر ان الملك المغيث فتح الدين عمر اخد شوبك، وان الملك السعيد [ابن الملك العزيز ابن الملك العادل] (12) اخد الصبيبة. فاجتمعوا (13) الامرا والمماليك الصالحيه وقالوا: «لا يستقيم لنا الامر الاّ ان نملك احدا من بنى ايوب». فاتفق امرهم على موسى بن الملك المسعود اقسيس ابن (14) السلطان الملك الكامل وكان صغير السن فاقاموه. (16) [قال ابن واصل: الملك الاشرف المذكور ابن ابن الملك المسعود، وكان لما توفى الملك المسعود ترك ولدا صغيرا فسماه جده باسم ابيه صلاح الدين يوسف ولقبه الملك المسعود. وكان عند عماته بنات الملك العادل المعروفات يوميد بالقطبيات نسبه الى شقيقهما (18) الملك المفضل قطب الدين. وكان عمر هذا الملك الاشرف يوم ملكوه مصر عشره (19_) سنين] (19).

(3) جرا: جرى (9) مشوا: مشى (10) الاخوان: الخوان (12) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش--ابن الملك: بن الملك (13) فاجتمعوا: فاجتمع (14) ابن: بن (16 - 19) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (18) شقيقهما: شقيقهن (19_) عشره: عشر

ذكر تمليك الملك الاشرف مظفر الدين موسى بن الملك المسعود

ذكر تمليك الملك الاشرف مظفر الدين موسى بن الملك المسعود اقسيس بن الملك الكامل بن العادل سيف الدين ابو بكر ابن (2) ايوب الدى كان ابوه صاحب اليمن، وقد تقدم ذكره. وكان ركوبه يوم الخميس لخمس مضين من جمادى الاولى. وجلس على الخوان، والامرا فى خدمته. وعاد الامير عز الدين اتابك قسيم الملك، وكان ادا خرجت المناشير تخرج بعلامه الاثنين، ما مثاله: «الله حسبى» فالجلاله خط الاشرف، و «حسبى» خط المعز. ونص التوقيع ما مثاله: «خرج الامر العالى المولوى السلطانى الملكى الاشرفى المظفرى والامر العالى المولوى الملكى المعزى الاتابكى، زاد الله فى علايهما، وضاعف مواد نفادهما (9)». وكانوا (10) جماعة من الامرا المجردين بغزّه اتفق رايهم ان يبايعوا الملك المغيث صاحب الكرك. ثم ورد كتاب من الامام المستعصم (14) الخليفه ببغداد ان يكون الملك المعز عز الدين ايبك الصالحى نايب الخلافه بالديار المصريه. وقوّيت الحركه الى الشام، وجدّدت الايمان للاشرف موسى وللملك المعز. وفى دلك اليوم تسحبت جماعه من الامرا المصريه، من جملتهم الطواشى شهاب الدين مرشد الكبير، ورشيد الصغير، وركن الدين خاص ترك، وجمال الدين اقوش المشرف. وكانوا (15) هولاء من جمله الدين بايعوا الملك المغيث صاحب الكرك. ثم توجه الامير فارس الدين اقطاى الجمدار الصالحى مقدما على العساكر المصريه الى نحو الشام، وهو يومئذ مقدم البحريه، وهم اد داك الف فارس يركبون لركوبه وينزلون لنزوله. فلما وصل الى غزه كان بها جماعه من العساكر الحلبيه، فنفروا ولم يقفوا قدامه.

(2) ابن: بن (9) نفادهما: نفاذهما (10) وكانوا: وكان (15) وكانوا: وكان

وفى هده السنه نقل السلطان الملك الصالح الى تربته ومدرسته بالقاهره، وعمل عزاه جديدا، ودفن ليله الجمعه، وكان يوما عظيما لدفنه. وغلقت مصر والقاهره فى دلك اليوم. وكان بكاء وعويلا (3)، ولبسوا اثياب العزا عليه، وقطعوا مماليكه شعورهم على نعشه. ونزل الى التربه الملك الاشرف والملك المعز اتابك. وكان عماره هده التربه وهى المدرسه الصالحيه فى سنه احدى واربعين وستمايه. وفيها عاد الامير فارس اقطاى من الشام بالجيوش، وقبض على الامير زين الدين قراجا امير جاندار وعلى صدر الدين قاضى امد، وكانا من كبار الصالحيه (8). وفيها اجتمع راى الامرا على خراب دمياط. وسبب دلك ان المصريين خايفين من جهه الملك الناصر، والبحريه مختلفين (9) الكلمه بين مصر والشام. فاختشوا لا يغتنموا (10) الفرنج الفرصه ويملكوا الثغر، ويصعب خلاصه عليهم، فاتفق رايهم على خرابه فهدموه. وفيها مرض الناصر صاحب الشام (15) ثم عوفى، فلدلك انعاق عن طلب الديار المصريه. وفيها قبض الناصر يوسف صاحب الشام على الناصر داود صاحب الكرك واعتقله فى سجن حمص. وكان الملك الناصر داود رجلا عالما فقيها فاضلا مترسلا شاعرا. فلما طالت مده اعتقاله عمل هده الابيات يقول اولها <من الطويل>: إلاهى الاهى (16) … أنت اعلا واعلم بتحقيق ما تبدى الصدور وتكتم وأنت الذى ترجا (17) … لكلّ عظيمة وتخشى وأنت الحاكم المتحكم إلى علمك العلوىّ أشكوا (18) … ظلامتى وهل لسواه ينصف المتظلم أبثّ جنايات العشاير معلنا … الى من بمعلوم (19) السراير يعلم

(3) عويلا: عويل--وقطعوا: وقطع (8) خايفين: خائفون (9) مختلفين الكلمه: مختلفو الكلمة (10) لا يغتنموا: ألا يغتنم (16) الاهى الاهى: إلهى إلهى--اعلا: أعلى (17) ترجا: ترجى (18) اشكوا: أشكو (19) بمعلوم: فى ذيل مرآة الزمان لليونينى (ط. حيدرآباد) ج‍ 1 ص 167 «بمكنون»

منها: اتيتهم مستنصرا متحرّما … كما يفعل المستنصر المتحرم (2) فلما يأسنا (3) … نصرهم وثوالهم رمونى بأفك القول وهو محرّم اذلّوا عزيزا، هان بعد ترفّع … وعزّوا مهانا قبل يعلو ويعظم منها: يريدون يؤذونى وأنت ذخيرتى … فانت ملاذّى منهم وهم هم (6) (7) [وكان خروج الملك الناصر المدكور من الكرك لما حصره الملك الصالح، وقطع عنه الميره فى صفر سنه سبع وأربعين وستمائه. واستصحب ما كان عنده من الجواهر على انه يبيعه فى حلب، ويسير ثمنه لاولاده. فلما قدم حلب قدم منه شئ (9) لصاحبها الملك الناصر يوسف. فقبلها وانزله فى دار علم الدين قيصر ورتب له راتبا، وعاد فى خدمته حتى ملك الملك الناصر يوسف دمشق. فبلغه عنه كلام غيره عليه فامر باعتقاله بدمشق. ثم نقله الى سجن حمص. وكان قد سير دلك الجوهر الى الخليفه ببغداد صحبه عز الدين سليمان. وقيل ان اقل ما يسوى خمس مايه الف دينار فاخذه الخليفه وقال: «هذا عندى على سبيل الوديعه». فلم يزل عنده إلى أن خرج الناصر داود (14) من السجن، ونفى من الشام، وتوجه الى الخليفة حسبما نذكر من خبره انشا الله تعالى] (15). وفيها عوفى الملك الناصر يوسف صاحب الشام ونزل بالعساكر غزه. وخرج الملك المعزّ، ونزل مقابله بالجيوش المصريه. ولما كان نهار الخميس عاشر شهر دى القعده من هده السنه التقا (18) الجمعان فى الساعه الرابعه من هدا النهار المدكور. فوقعت الكسره على المصريين، وولوا منهزمين لا يلوون على شئ، وزحفت (19) خلفهم الشاميون. ثم أن

(2) فى اليونينى: «أتيتهم مستصرخا متجرما كما يفعل المستصرخ المتظلم» (3) يأسنا: يئسنا--محرّم: فى اليونينى «مرجم» (6) وهم هم: فى الأصل «وهم وهم» (7 - 15) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (9) شئ: شيئا (14) داود: فى الأصل «دواد» (18) التقا: التقى (19) زحفت: زحف

الملك المعز والبحريه انحازوا الى ناحيه لينجوا بانفسهم منهزمين، فوقعوا صدفه بالملك الناصر فى شردمه يسيره من العزيزيه والناصريه. فلما رآهم الناصر ولى هاربا، فحملوا عليه حمله منكره. فلم يثبت منهم قدام البحريه احد من الشاميين لأمر يريده الله؛ (16) وربما كانوا جماعه من الأمرا العزيزيه مخالفين مع البحريه على الناصر، فكان هدا اكبر الأسباب. (6) [وكانت هده الوقعه بمنزله الكراع من طريق البدريه. وكان لما خرج الملك المعز من الديار المصريه جعل النايب بها الأمير علايى الدين البندقدار. قال ابن واصل: ولما خرج الملك الناصر صاحب الشام من دمشق طالبا لمصر انشده الشيخ شرف الدين بن عبد العزيز قصيده هدا (9) اولها <من الطويل>: على طالع الإقبال والسعد والنصر … مسيرك محروس الركاب الى مصر منها يقول: فانت صلاح الدين وابن صلاحه … ولا ملك أولى منك بالنهى والامر وما احد لليوسفين بثالث … سواك وللبكرين والشمس والبدر آخرها يقول: قدمت طويل الباع منشرح الندى … بسيط رحاب المجد والشكر والعمر ] (15). فلما انهزم الملك [الناصر] (16) اخدوا الأمراء العزيزيه سناجقه وكوساته، والتزقوا بالبحريه. وساق الملك المعز خلفه حتى وقع على طلب الشمس لؤلؤ، فقتلوا كل من كان فيه، واستاسروا لؤلؤ (18)، ثم ضربوا رقبته. ثم قدموا الأمير ضيا الدين القيمرى، فضربوا رقبته. ثم اتوا (19) بالملك الصالح اسماعيل اسيرا، فسلم عليه الملك المعز، واوقفه

(6 - 15) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (9) هدا: فى الأصل «هد» (16) أضيف الاسم المذكور بين الحاصرتين لتوضيح المعنى وسوف يشير المحقق إلى ذلك أحيانا-- أخدوا: أخذ (18) لؤلؤ: لؤلؤا (19) اتو: أتوا

فى الترسيم الى جانبه. ثم اتو (1) بالملك الاشرف صاحب حمض، والمعظم توران شاه، والملك نصرة الدين أخو (2) الملك الناصر صاحب الشام، وجماعه من كبار الناصريه والصالحية وغيرهم؛ هدا جزا (3) لهولاء. وأما المنهزمين (4) من المصريين، فانهم لم يعلموا بما تجدد بعدهم، ووصلوا الى القاهره، ووصل بعضهم الى الصعيد. وأما العسكر الشامى فانهم وصلوا الى العباسه باعمال بلبيس، ونزلوا بها وضربوا دهليز الملك الناصر، وهم لا يشكّون انهم منصورون. ولما وصلوا المنهزمين (7) من المصريين الى القاهره أرادوا (8) الامراء المقيمين بها أن يسلموا القاهره لنواب الملك الناصر، ولم يشكوا أن المعز هرب أو قتل. وكان وصول المنهزمين باكر يوم الجمعه. فحطب دلك اليوم بالقاهره ومصر للملك الناصر صاحب الشام. فلما كان بعد الصلاه ورد الخبر بنصره الملك المعز، فدقت البشاير بالقلعه وكان يوما عظيما. ثم بعد خمسة أيام اقبلت المصريين (12)، وكان دلك الثانى والعشرين من شهر ذى القعده. ثم وصلت العساكر تتلوا (13) بعضها بعضا، والامراء البحريه، ومن انضاف اليهم من الشاميين. وشقوا القاهره وهم يلعبون بالرماح بين القصرين على خيولهم، وطلعوا بالملك الصالح اسماعيل الى القلعه (17) تحت الترسيم، واعتقلوه مع بقية الملوك. ولما كان يوم الأحد سابع عشرين الشهر هجم جماعه على الملك الصالح اسماعيل، واخرجوه من الحبس إلى برا باب القرافه الدى للقلعه، ودبحوه كدبح الغنم، ودفن بالقرافة. وكان عمره نيف (18) وخمسين سنه.

(1) اتو: أتوا (2) أخو: أخى--من: مكرّر بالأصل (3) جزا: جزاء (4) المنهزمين: المنهزمون (7) وصلوا المنهزمين: وصل المنهزمون (8) أرادوا: أراد-- المقيمين: المقيمون (12) اقبلت المصريين: أقبل المصريون (13) تتلوا: تتلو (18) نيف: نيفا

ذكر [حوادث] سنة تسع واربعين وستمايه

وفى يوم السبت توجّه الأمير فارس الدين أقطاى إلى نحو الشام مقدم ثلاثه آلاف فارس. ووصل الى غزه واستولى على ممالك الشام الى حد قاقون. وخرجت المناشير والاقطاعات بضياع الشام من جهه الاشرف موسى والمعز أيبك حسبما سقناه من المثال. ذكر [حوادث] سنة تسع واربعين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الماء القديم خمسه ادرع وعشرون أصبعا. مبلغ الزياده ثمانيه عشر دراعا وثمانيه عشر أصبعا. وثبت فى هده السنه الى نصف هاتور وانصرف. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام المستعصم بالله امير المومنين، والوزير بن (10) العلقمى بحاله. وسلطان الشام الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز بن الملك الظاهر ابن (11) السلطان صلاح الدين ابن أيوب، وقد رجع هاربا من المعز الى دمشق. وسلطان الديار المصريه الملك الاشرف ابن الملك المسعود بن اقسيس بن السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن ايوب باسم الملك، والأمر للملك المعز عز الدين ايبك التركمانى اتابك الجيوش قسيم الملك. وصاحب اليمن الملك المظفر يوسف بن رسول. وصاحب الغرب ابو يعقوب من بنى عبد المومن. وصاحب الهند السلطان غياث الدين. وصاحب الصين من مشرق الشمس الى حدود الرى مع خراسان وبخارا (17) وسمرقند واصبهان مع جميع تلك النواحى فى حكم التتار، (18) حسبما سقناه من بدو (18) شانهم وخروجهم وجميع اسبابه واصولهم فى الجزء الدى قبله عند ذكر تاريخ بدو (19) خروجهم الى بلاد الاسلام، ودلك من غريب ما سمع وعجيب ما نقل. وملكهم الآن جكز خان تمرجى (20) المقدم ذكره وعجايبه. وصاحب الموصل والجزيره واعمالها الملك الرحيم بدر الدين لولو (21) النورى.

(10) بن: ابن (11) ابن: بن (17) وبخارا: وبخارى (18) بدو: بدء (19) بدو: بدء (20) تمرجى: فى الأصل «بدجى» (21) لولو: لؤلؤ

وفيها لما عاد الناصر الى دمشق مهزوما أخرج الأموال، ونفق فى الجيوش واستخدم الرجال. ثم عاد الى غزه، واقام بها مده سنتين واشهر (2)، والرسل تتردد بينه وبين الملك المعز. وخرجت هده السنه والتى بعدها وهما على دلك. وفيها تزوج الملك المعز بالملكه أم خليل شجر الدّر، واستقل بالملك. ومات الصاحب يحيى بن مطروح صاحب الشعر الرقيق الجامع لكل معنى دقيق. وكان أعز الأصحاب على السلطان الملك الصالح، وكان قد قدم معه من دمشق، وكان بعد موت السلطان الملك الصالح قد انقطع فى بيته، وهى داره التى عمرها له السلطان من ماله. فكتب على بابها هده الأبيات <من السريع>: دار بنيناها بإحسان (9) … من لم يخل دارا قطّ من رفده الملك الصالح رب العلى … أيوب زاد الله فى سعده (10) واليمن والتوفيق من حزبه … والنصر والتأييد من جنده أغنا وأوفا بمواعيده (12) … من نعم الله ومن عنده فقل لحسّادى ألا هكذا … فلينظر المولا (13) الى عبده ومن تغزله الرقيق قوله <من الكامل>: عانقته فسكرت من طيب الشذا (15) … غصن رطيب بالنسيم قد اغتذا (19) نشوان من خمر الصباء وإنما … أمسى بطيب رضابه متنبذا (16) كتب العذار (17) … على صحيفة خدّه يا حسنه لا بأس أن تتعوذا

(2) واشهر: وأشهرا (9) بنيناها بإحسان: فى ديوان ابن مطروح (ط. استانبول 1298 هـ‍) ص 181 «عمرناها بإنعام» (10) سعده: فى ديوان ابن مطروح «مجده» (12) أغنا وأوفا بمواعيده: فى ديوان ابن مطروح «أغنى وأقنى فالذى عندنا» (13) المولا: المولى--فلينظر المولا الى عبده: فى ديوان ابن مطروح «فليصنع المالك مع عبده» (15) الشذا: الشذى--اغتذا: اغتذى (16) فى ديوان ابن مطروح، ص 203 - 204 «نشوان ما شرب المدام وانما اضحى بخمور رضابه متنبذا» (17) العذار: فى ديوان ابن مطروح «الجمال»

ذكر [حوادث] سنة خمسين وستمايه

يا ناظرى أمّا وقد عاينته (1) … والله لا رمدا تخاف ولا قذا مهما نظرت (2) … بخده وعذاره لم تلق إلاّ عسجدا وزمرّذا جاء العذول يلومنى فى حبّه … من بعد ما أخذ التصابى مأخذا (3) والله لا خطر السلوّ بخاطرى … ما دمت فى قيد الحياة ولا إذا إن عشت عشت على الغرام (5) … وإن أمت وجدا به وصبابة يا حبّذا وفيها وزر الفايزى (6) للسلطان الملك المعز عز الدين ايبك التركمانى. ذكر [حوادث] سنة خمسين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم اربعه ادرع وسبع (8) اصابع. مبلغ الزياده ثمانيه عشر دراعا وسبعه عشر اصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام المستعصم بالله أمير المومنين، والوزير ابن العلقمى بحاله. وصاحب الموصل والجزيره الملك الرحيم بدر الدين لولو النورى. وسلطان الشام الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيزى بن الظاهر. وسلطان مصر الملك المعز عز الدين أيبك التركمانى، ووزيره الفايزى؛ (14) [وهو الاسعد هبة الله بن صاعد، لقب بالفايزى (14_) على ما كان (15_) عليه العاده من تلقيب الوزرا المصريين فى أيام الفاطميين حسبما تقدم من ذكرهم والله اعلم] (15). وصاحب اليمن الملك المظفر يوسف بن رسول المقدم ذكر ابوه (16).

(1) اما وقد عاينته: فى ديوان ابن مطروح «اهنأ وقد شاهدته» (2) نظرت: فى ديوان ابن مطروح «اكتحلت» --لم: فى ديوان ابن مطروح «ما» (3) فى ديوان ابن مطروح «وأتى العذول يلومنى من بعد ما*أخذ الغرام علىّ فيه مأخذا» (5) الغرام: فى ديوان ابن مطروح «هواه» (6) الفايزى: فى الأصل «الفايز» (8) وسبع: وسبعة (14 - 15) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (14_) الفايزى، بالفايزى: فى الأصل «الفايز»، «بالفايز» (15_) كان: كانت-- من تلقيب: «من» مكرر فى الاصل (16) ابوه: أبيه

ذكر [حوادث] سنة احدى وخمسين وستمايه

وفيها وصلت التتار الجزيره وديار بكر وميّافارقين وإلى رأس العين وسروج وغير دلك، وقتلوا خلايق لا يحصى عددهم إلا الله عز وجل. قال أبو المظفر: حكى لى شخص من التجار، قال: عددت على جسر بين حرّان وراس العين فى مكان واحد ثلثمايه وثمانين قتيلا ما بين رجل (20) وشيخ وغلام. وفيها قدم الشيخ نجم الدين البادرايى (5) من عند الخليفه الامام المستعصم بالله امير المومنين بسبب الصلح بين الملك الناصر صاحب الشام والملك المعز صاحب مصر، فلم يتفق لهم صلحا (7). ودلك ان الناصر قال بشرط ان تكون السكه والخطبه له بمصر، فامتنع المعز من دلك. وقالوا (8) البحريه: «نحن خلصنا مصر والشام بسيوفنا من ايدى الفرنج، ولا صلح بيننا الا ان يكون لنا من غزه الى العقبه». وامتنع الناصر ايضا من دلك، وجرت امور يطول شرحها. وكان منهم مغايرات وحروب حتى تفانت الناس بينهم، ولم يزالوا كدلك طول سنه خمسين بكمالها. ذكر [حوادث] سنة احدى وخمسين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم خمسه ادرع وثمانيه اصابع. مبلغ الزياده ثمانيه عشر دراعا وسبعه عشر اصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام المستعصم بالله امير المومنين، والوزير بن (16) العلقمى بحاله، والملوك بحالهم على ما تقدم من ذكرهم فى السنه التى قبلها. وفيها كان الصلح بين الملك الناصر

(5) البادرايى: البادرائى (7) صلحا: صلح (8) وقالوا: وقالت (16) بن العلقمى: ابن العلقمى

صاحب الشام وبين الملك المعز صاحب مصر بوساطه الشيخ نجم الدين البادرايى (2). وكانت الحروب بينهم قد افنت الجيوش. ثم قدم البادرايى والنظام بن المولى الى مصر، وخلصوا الملك المعظم واخاه الاشرف، واخو (3) الملك الناصر. وفيها تسلمت (4) المصريين الشوبك من نايب الملك المغيث ولم يبق فى يد المغيث غير الكرك فقط، مع البلقا وبعض الغور. وفيها قطع خبز ابن أبى على، ثم طلب دستور (6) ان يزور القدس، ثم هرب إلى الملك الناصر، فاعطاه إمرة خمس مايه فارس. (8) [قال ابن واصل: ان فى سنة احدى وخمسين وستمايه ظهرت فى أرض عدن من اليمن فى بعض جبالها نار عظيمه بحيث كان يطير شرارها الى البحر فى الليل، ويظهر فى النهار لها دخان عظيم. فلم يشكو (10) الناس فى انها النار التى تظهر فى اخر الزمان والله اعلم] (9). (21) وفيها اخرج الناصر يوسف الناصر (11) داود من الاعتقال، ونفاه من الشام الى الرحبه باهله واولاده وحريمه. ورسم الملك الناصر يوسف ان لا يزوده احدا ولا يطعمه لقمه خبز. فسير بعض غلمانه يشترى له قمحا وشعيرا، فرسم الملك الرحيم بدر الدين لولو أن من اباعه شئ (14) شنق. فبلغ دلك الأشرف صاحب حمص، فسير اليه اشيا غير واحده من جميع ما يحتاج اليه. ثم اقام الناصر داود بالرحبه والفراه اثنا (15) عشر يوما، غريبا وحيدا لا يجد من القوت إلا من صيده ثم قصد باب الخلافه. فلما بلغ الشرابى- وكان اكبر امراء الخلافه ببغداد-امر الناصر بعث اليه اشيا كثيره وانزله بالأنبار، وهى بالقرب من بغداد، واقام ثمانيه اشهر لا يودن (18) له. وقيل كان له عند الخليفه وديعه ما مقدارها ما يتى (19) الف دينار، فمنعه إياها ولم يعطه شى ولا ادن له فى المثول.

(2) البادرايى: فى الأصل «البادايى» (3) واخو: وأخا (4) تسلمت المصريين: تسلم المصريون (6) دستور: دستورا (8 - 9) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (10) يشكو: يشك (11) الناصر: فى الأصل «للناصر» (14) شئ: شيئا (15) والفراه: والفرات--اثنا: اثنى (18) يودن: يؤذن (19) مايتى: مائتا--شى: شيئا

ذكر [حوادث] سنة اثنتين وخمسين وستمايه

ذكر [حوادث] سنة اثنتين وخمسين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم اربعه ادرع وست (2) اصابع. مبلغ الزياده ثمانيه عشر دراعا وثلث (3) اصابع. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام المستعصم بالله امير المومنين، والوزير بن (5) العلقمى بحاله. والملوك حسبما سقناه من الكلام فى السنه المقدم ذكرها. والتتار يملكون البلاد اولا فاولا، ومكاتباتهم متردده الى كبار الدوله الخليفيه خصوصا الوزير بن (8) العلقمى، فانه كان معهم مخامرا على الاسلام. والخليفه غافل عما يجرى، ملتهى (9) فى لعبه ولهوه، والامور تنتقض عليه من عنده وهو لا يعلم لامر قد سبق فى القدم، وجرى به اللوح والقلم. وفيها (22) اقطع ايدغدى العزيزى دمياط بكمالها زياده على ما بيده من الاقطاع، وكانت تعمل يوميد ثلثين الف دينار، وكانت اسكندريه فى جمله اقطاع الفارس اقطاى. وقدم من الصعيد وصحبته الاسارى فى الزناجير والحبال. وفيها قتل الفارس اقطاى المدكور حسبما ندكره انشا الله تعالى. ذكر قتلة الفارس اقطاى سببه انه كان قد طغى وتجبّر، وبغا (16) وتكبر. ووصل من امره انه كان ادا ركب من داره إلى القلعه ومن القلعه الى داره، يقتل جماعه بامره وبين يديه، ولا يلتفت

(2) وست: وستة (3) وثلث: وثلاثة (5) بن: ابن (8) بن: ابن (9) ملتهى: ملته (16) وبغا: وبغى

عن المعزّ [ايبك] ولا غيره. وكانت الدنيا بالممالك المصريه بحلمه، والخزاين بين يديه، وامره مطاع فى الحقيره والكبيره، لا يرد له مرسوم، والملك المعز معه باسم الملك لا غير. فلما طال الامر على المعز وعلى وزيره الفايزى (4) عملوا على قتله، وكان الفارس اقطاى هو الدى جسر على الملك المعظم توران شاه، ورماه بسهم قتله، ثم ضربه بسيفه حتى مات. وكان قد صاهر صاحب حماه، وحملت العروس إلى دمشق فى زىّ عظيم من الاحتفال والأموال. وتعجب الناس كيف سمح صاحب حماه بمصاهره مملوك. وكانت نفسه ترى ان ملك مصر لاش (8) عنده. وكان كثير ما يدكر، فى مجلسه بين خشداشيته، المعز ويستنقصه ولا كان يسميه الا ايبك. وبلغ دلك المعزّ وهو يعصى عنه ولا يقدر على شى يفعله لكثره خشداشيته البحريه والصالحيه. وكانوا قد ساروا فى القاهره ومصر انجس سيره من العسف بالناس والجور، واخد اموال الرعيه، واخد نسايهم واولادهم بايديهم من الطرقات، ويهجمون بالحمامات على النسا وياخدوهم (12) عرايا ومن الافراح، ولا تجد احدا ياخد بيد أحد. فلما (23) تزايد الحال عمل المعز فى الباطن على قتله مع شجر الدر. وكان الفارس أقطاى قد طلب من المعز القلعه يسكن بالعروس الجديده فيها، ولم يقدر [المعزّ] على منعه. قلت: حكى جدى والد الام لوالدى رحمهما الله (17) [وكان رجل تركى قفجاقى يسمى برى بلجك الكرتلى، وكان من جمله البحريه، لكنه كان حسن الدين، جميل الخصايل رحمه الله] (19). قال: حدثنى ايبك مملوك الفارس اقطاى بدمشق فى سوق الرماحين

(4) الفايزى: فى الأصل «الفايز» (8) لاش: لا شئ--كثير: كثيرا (12) وياخدوهم: وياخذونهن (17 - 19) ما بين الحاصرتين بالهامش--رجل تركى قفجاقى: رجلا تركيا قفجاقيا

(24) ذكر المدينه الخضراء

عن قتلة استاده المدكور قال: اتفق ان استادنا طلع القلعه على عادته لياخد لبعض البحريه مالا من الخزاين. فقال له المعز: «لم يكن فى الخزاين ثم حاصلا، اصبر فادا وصل شى خده». فقال: «لا اصبر، وانت تبخل علينا بمال حصلته سيوفنا». واغلظ للمعز فى الكلام، فقال له المعز: «اذا انقضت الخدمه اطلع الظهر، وادخل انا وانت الى الخزانه لترا (5) بعينيك، وافعل ما تختار». ثم أن المعز رتّب له فى دهليز الخزانه مماليكا. وطلع استادنا بعد الظهر، وقام معه المعز، وتقدم الفارس امامه الى عطفة الدهليز، ووثبوا (7) عليه المماليك، فقتلوه. ورجع المعز، وامر بغلق باب القلعه. وشاع الخبر، فركبت مماليكه وخشداشيته، وظنوا انه مسكه، واتوا الى باب القلعه لخلاصه، وهم فى نحو سبع مايه فارس شره (9) البحريه. فرما اليهم براسه من فوق السّور. فلما عاينوه نظروا الى بعضهم البعض وقالوا: «قد فات الامر فيه، ونحن مبغوضين، (10) والعامه وحدهم يكفونا (11)». فولوا هاربين على وجوههم، لا يلوى احد على اخيه، طالبين الشام. وتفرقوا فرقا، فمنهم من طلب الكرك الى نحو الملك المغيث، ومنهم من قصد دمشق الى الملك الناصر، ومنهم من طلب الصعيد، ومنهم من طلب الامان. قال ايبك: وكنت انا وخشداشى سنقر الكبير، ومعنا اثنى عشر نفر (14) قد اخد كل واحد فرسه وجنيبه وهجينا (24) ذكر المدينه الخضراء قال ايبك: فطلعنا من القاهره فى الليل، وقصدنا البرّيه خوفا من المسك والتتبع. فاوقعنا الله تعالى فى تيه بنى اسراييل. فبقينا خمسه ايام فى البريه، وفرغ ما كان معنا من الماء، واشرفنا على الهلاك. ولم نزل سايرين طول تلك الليله

(5) لترا: لترى--مماليكا: مماليك (7) ووثبوا: ووثب (9) شره: المقصود «شره من البحريه» --فرما: فرمى (10) مبغوضين: مبغوضون (11) يكفونا: يكفوننا (14) اثنى: اثنا--نفر: نفرا

الخامسه الى ان طلعت الشمس علينا فى اليوم السادس، فلاح لنا على بعد سواد صفه عماره، فقصدناها فاتيناها الظهر. وقد هجّرت علينا الأرض، ووقفت خيلنا من العطش، فوجدنا مدينه باسوار وابواب جميعها زجاج اخضر. فدخلناها فوجدنا الرمل السافى ينبع من الأرض كنبع الماء حتى وصل الى السقوف بتلك الآدر، وكدلك الأسواق، وبعضها ليس فيها رمل، ودكاكين على حالها مفتحه وفيها قماش، فلمسناه فعاد كالهبا وكدلك جميع ما نلمسه منها، والنحاس يتفتت كالرمل فقتشناها جهد الطاقه، فوجدنا فى دكان صينيه نحاس وفيها ميزان، فحين لمسناه تفتت من ايدينا. ثم وجدنا فى تلك الصينيه تسع (8) دنانير دهب لم تتغير منقوش عليها صورة غزال وحوله اسطر عبرانيه. وبقينا فى تلك المدينه ونحن ما لنا همّ الاّ التدوير على الماء. فوجدنا فى مكان اثر رشح، فخفرنا هناك تقدير دراعين، فظهرت بلاطه خضراء، فقلعناها فوجدناه صهريجا فيه ماء ابرد من الثلج، فشربنا وسقينا خيلنا وحمدنا الله تعالى على دلك. ثم حطبنا ونحرنا هجينا وشوينا لحمه واكلنا واسترحنا دلك اليوم. ثم اجتهدنا فى تلك المدينه على أن نلقا (13) فيها شى من المال، فلم نجد غير تلك التسع دنانير، ثم خرجنا وملينا (14) اوعيتنا من دلك الماء. (25) وسرنا ونحن لا نعرف اين نتجه، فبقينا كدلك يوم (15) وليله. فوقعنا الله تعالى على قبيله عرب من بنى مهدى عرب الكرك، فاخدونا وطلعوا بنا الكرك الى الملك المغيث. فرسم لنا باقامه، ونزلنا فى الربظ (17)، ثم قصدنا دكان يهودى صيرفى شيخ، فاصرفنا منه دهيب (18) كان معنا، ثم اوريناه دينار من تلك الدنانير. فلما رآه صرخ وغشى عليه ساعه، ثم افاق فسألناه، فقال: «هدا الدهب ضرب فى ايام نبينا موسى بن عمران، فمن اين لكم هدا؟» فاحكينا له امرنا. فقال: «صدقتم،

(8) تسع: تسعة (13) نلقا: نلقى--شى: شيئا--التسع: التسعة (14) وملينا: وملأنا (15) يوم: يوما (17) الربظ: الربض (18) دهيب: ذهيبا-- اوريناه: أريناه--دينار: دينارا

ذكر [حوادث] سنة ثلث وخمسين وستمايه

والله هده المدينه الخضراء بنيت-لما كان موسى صلوات الله عليه وبنى (1) اسراييل فى التيه-بالزجاج الاخضر عوضا عن الحجاره، ولها طوفان من رمل ينبع نبعا، فتاره يزيد وتاره ينقص، وهى مخفية فى علم الله تعالى، وفى كل حين يراها بعض الناس صدفه، فهل معكم اكثر من هدا الدينار؟» -فاريناه التسع (4) دنانير، فشرا منا كل دينار بمايه درهم نقره، واضافنا واكرمنا. وعادت اليهود يضيفوننا، ونحدثهم بما رايناه، ويتبركون بنا مده مقامنا بالكرك. انتهى كلام ايبك ولنعود (6) الى سياقة التاريخ. ذكر [حوادث] سنة ثلث وخمسين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الماء القديم خمسه ادرع واثنا عشر اصبعا. مبلغ الزياده ثمانيه عشر دراعا واصبع واحد. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام المستعصم بالله امير المومنين، والوزير مؤيد الدين العلقمى، والملوك بحالهم حسبما سقناه من ذكرهم. وفيها جهز الملك الناصر صاحب الشام العساكر الى نحو ديار مصر وصحبتهم البحريه الدين (26) كانوا قصدوه من مصر عند قتلة الفارس اقطاى، وهم: بلبان الرشيدى، ازدمر السيفى، سنقر الالفى الرومى، سنقر الاشقر، بيسرى الشمسى، السلطان قلاوون الالفى، بلبان المسعودى، بيبرس البندقدارى. فهولاء كبارهم المدكورين (17)،

(1) وبنى: وبنو (4) التسع: التسعة--فشرا: فشرى (6) ولنعود: ولنعد (17) المدكورين: المذكورون

ذكر [حوادث] سنة اربع وخمسين وستمايه

ومعهم جماعه كبيره من البحريه، ومن مماليك الفارس اقطاى. وساروا ونزلوا الفوار، ثم العوجا. وكان الملك الناصر قد اقبل عليهم غايه الاقبال، واقطعهم الاقطاعات الجياد. فلما بلغ الملك المعز دلك خرج وخيم بأم البارد عند العباسه، واستقر العسكران مقيمان (4) بقيه هده السنه. وفيها عاد الناصر داود من الأنبار الى دمشق، ولم يعطه الخليفه شيئا. ذكر [حوادث] سنة اربع وخمسين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم اربعه ادرع وسته عشر اصبعا. سبع (7) عشر دراعا واربعه عشر اصبعا الزياده. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام المستعصم بالله امير المومنين، والوزير ابن العلقمى (10) بحاله. وفيها دخل هلاوون سلطان التتار الى بغداد فى زى تاجر عجمى ومعه مايه حمل حرير. واجتمع بالوزير مويد الدين ضد لقبه، وبابن الدرسوس نديم الخليفه، واكابر الدوله. وكانوا قادرين على مسكه، ولكنهم خانوا الله ورسوله ودين الإسلام قاتلهم الله. ثم خرج [هلاوون] بعد ما اتقن امره معهم، واتفق الحال على هلاك الاسلام ف‍ {إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} (15). وفى طول هده السنه والعسكر الشامى على العوجا، والمصرى على أم البارد، والمغايرات بينهم والحروب الى آخر هده السنه.

(4) مقيمان: مقيمين (7) سبع: سبعة (10) ابن العلقمى: فى الأصل «بن القمى» (15) القرآن 2:156

(27) ذكر [حوادث] سنه خمس وخمسين وستمايه

(1) [وفيها عزل القاضى بدر الدين الحسن بن يوسف المعروف بقاضى سنجار عن القضا بالديار المصرية. وتولى القاضى تاج الدين بن عبد الوهاب بن خلف المعروف بابن بنت الاعز، ولم يزل متوليا حتى قتل الملك المعز، وكان قد وزر للمعز اول حال، قبل الاسعد الفايزى] (4). (27) ذكر [حوادث] سنه خمس وخمسين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم اربعه ادرع وخمسه وعشرون اصبعا. مبلغ الزياده ثمانيه عشر دراعا واربع عشر (7) اصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفة الامام المستعصم بالله أمير المومنين والوزير بن (9) العلقمى بحاله. وفيها جهز الملك المغيث صاحب الكرك عسكرا صحبة من وصله من البحريه، وعدتهم ثمان مايه فارس. والتقوا مع المصريين على الصالحية ليله السبت خامس عشرين ذى القعدة، وانكسر الكركيين (12) وعادوا الى الكرك. وفيها قتل السلطان الملك المعز عز الدين ايبك التركمانى صاحب مصر. ذكر قتلة الملك المعز المشار اليه لما كان يوم الاربعا الخامس والعشرين (15) من ربيع الاول من هده السنه، قتل الملك المعز فى الحمام. وسبب دلك انه كان قد تغير على شجر الدر زوجته، وتعاظم مند قتل

(1 - 4) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (7) واربع عشر: وأربعة عشر (9) بن: ابن (12) الكركيين: الكركيون (15) والعشرين: والعشرون

الفارس اقطاى، وما كان قبل دلك يقطع امرا دونها، فعاد يستبد بالامور بنفسه، ولا يدخل اليها إلا ثلث ليال فى الجمعه، وبلغها انه خطب بنت صاحب الموصل. وكان قد مسك جماعه من البحريه وهو على أم البارد ونفدهم الى القلعه للاعتقال حكى جدى برى بلجك رحمه الله لوالدى-سقى الله عهده-وانا اد داك صبى دون الحلم اسمع. قال: كنت معمن (5) مسكهم المعز لكون كان بينى وبين [بلبان] الرشيدى خشداشيه. فوشى بنا للمعز ان نحن نقصد التوجه لخشداشيتنا الدين على العوجا. فمسك منا تسع (7) نفر، انا فى جملتهم، وقيدنا وسيرنا الى القلعه، وكان فينا شخص من مماليك الملك الصالح [يسمى ايدكين الصالحى] (8). (28) فلما علم ان نحن تحت الشباك الدى كانت تجلس فيه شجر الدر والخدام جلوس-فلما راونا (9) قاموا قايمين فسلمنا عليهم-قال دلك الشخص المسمى بايدكين: «يا طواشى، خوند جالسه فى الشباك؟» فقال: «نعم». قال: فحدم براسه، ورفع عينه (11) الى نحوها، وقال بالتركى: «المملوك ايدكين بشمقدار، والله يا خوند، ما عملنا دنب (12) يوجب مسكنا الا انتى ستنا ودستيّنا، ولحمنا من نعمتك ونعمة السلطان الشهيد الملك الصالح، ولا اخطينا (13) الاّ انه سيّر يخطب بنت لولو صاحب الموصل، واتفق الحال انه يتزوجها، فلما بلغنا ما هان علينا لاجلك، فعتبناه فى ذلك، فتغير علينا لهدا السبب فمسكنا، فهدا دنبنا، ولا بد ما (16) يظهر لك صحه كلامى». قال: فاومت بمنديل من الشباك، معنى «انى سمعت كلامك». قال جدى رحمه الله: ثم انزلونا الجب فقال لنا ايدكين: «ان كان قد حبسنا فقد قتلتاه». فكان هدا اكبر اسباب قتله. فلما عاد من وجهته التى كان فيها، وتحققت صحه القول معما (19) كان فى نفسها منه لتغيره عليها، رتبت له فى الحمام مملوك (20) كان للفارس اقطاى يقال ان اسمه بلكان،

(5) معمن: مع من (7) تسع: تسعة (8) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (9) راونا: المقصود «رآنا الخدّام» (11) عينه: عينيه (12) دنب: ذنبا--انتى: أنت (13) اخطينا: أخطأنا (16) ولا بد ما: ولا بد أن--فاومت: فأومأت (19) معما: مع ما (20) مملوك: مملوكا

وكان من القوه بالمكان الوافر، فلكم [بلكان] المعز ارماه، وتعلقت الجوار (1) بمعاريه، وبعضهم (2) يرفسونه فى خواصره، وشجر الدرّ تضربه بالقبقاب، وهو يستغيث اليها وهى لا تقبل حتى فطس. فلما كان الصبح ظهر الخبر وعلم ولده نور الدين على ومملوكه سيف الدين قطز وكان اكبر مماليكه. فهجموا عليها مع جماعه من المماليك المعزيه وخنقوها خنقا ورموها عريانه الجسد على باب القلعه من جهه القرافه. واتفق رايهم على ولده نور الدين على، وان يكون اتابك الجيوش الامير سيف الدين قطز المذكور. (8) [قال ابن واصل: ان أول من جلس فى اتابكيه الملك المنصور المدكور الامير علم الدين سنجر الحلبى الكبير، ولم يزل حتى وثبوا (9) عليه المماليك المعزيه مثل الامير سيف الدين قطز، وعلم الدين سنجر الغتمى، وسيف الدين بهادر المعزى ونظراهم (10)، وقبضوا عليه واودعوه الاعتقال؛ ودلك لما ظهر لهم انه يريد الامر لنفسه. ولما بلغ ذلك بقيه الامرا الكبار هربوا، ومنهم من مسك واعتقل، ومن تقنطر به (12) فرسه، فهلك لوقته عز الدين ايبك الحلبى، وركن الدين خاص ترك الكبير، وأعيد بهما الى القاهره ميتان (14). وقبض على الوزير الاسعد الفايزى، وبهاء الدين على بن حنا، وكان وزيرا لشجر الدر، واخدت خطوطهما بجمله كبيره. واستقر بالاتابكيه فارس الدين اقطاى المستعرب. وفى سادس عشر ربيع الآخر قتلت شجر الدر خنقا. ووجدت مطروحه على باب القلعه من ناحيه القرافه. وفى مستهل الشهر المدكور فوّض القضا بالديار المصريه للقاضى بدر الدين يوسف بن الحسن، وعزل عنها تاج الدين بن بنت الاعز، وابقى بيده قضا مصر فقط. وكدلك فوّض امر الوزاره الى القاضى بدر الدين مضافا الى ما بيده من القضا] (21).

(1) الجوار: الجوارى (2) وبعضهم: وبعضهن--يرفسونه: يرفسنه (8 - 21) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (9) وثبوا: وثب (10) ونظراهم: ونظرائهم (12) به: مكرر فى الأصل (14) ميتان: ميتين

(29) ذكر تملك نور الدين على الملك المنصور بن الملك المعز

(29) ذكر تملك نور الدين علىّ الملك المنصور بن الملك المعز جلس السلطان الملك المنصور نور الدين على بن السلطان الملك المعز عز الدين أيبك التركمانى على سرير الملك عند قتله شجر الدر. واتابك الجيوش الامير سيف الدين قطز المعزى. وقبض على الامير سيف الدين بغدى وجميع الامرا الاشرفيه واودعوهم الاعتقال وقتلوا بغدى والامير عز الدين ايبك الرومى. قلت: اما الامير عز الدين ايبك الرومى فانه ضربت رقبته على الصالحيه. وقرات تاريخ وفاته على قبره فى تربته بالقرافه المجاوره لجامع بن (7) عبد الظاهر، فكان تاريخ دلك فى سنه احدى وخمسين وستمايه، والله اعلم كيف دلك، والدى قتله فهو الملك المعز لمّا خيف من شرّه والله اعلم. (10) [كان ركوب نور الدين على بن المعز فى دست الملك رابع شهر ربيع الاول من هده السنه. كان صبى العقل، ضعيف الراى، كثير اللعب، يركب الحمير الفرّه ويلعب بالحمام مع الخدام] (12). وفيها وجه الملك العزيز ابن الناصر لهلاوون هديه سنيه جليله القدر. ذكر [حوادث] سنة ست وخمسين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم اربعه ادرع وتسعه عشر اصبعا. مبلغ الزياده سبعه عشر دراعا واربعه اصابع.

(7) بن: ابن (10 - 12) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفه الامام المستعصم بالله امير المومنين الى ان اخدوا (2) التتار فى هده السنه بغداد وقتلوه، وهلكت الاسلام-فلا حول ولا قوه الا بالله العلى العظيم- فى تاريخ ما ياتى ذكره انشاء الله تعالى. وصاحب الموصل والجزيره وديار بكر الملك الرحيم بدر الدين لولو. وصاحب ميافارقين وراس العين واعمالهما شهاب الدين غازى. وصاحب حلب مع الشام بأسره الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز. (30) وصاحب مصر الملك المنصور نور الدين على بن الملك المعز عز الدين أيبك. وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين بن رسول المقدم ذكره. وصاحب الهند السلطان غياث الدين محمد بن ايتامش عتيق الغورى. وصاحب المغرب ابو يعقوب ابن عبد المومن بن على المقدم ذكره. ذكر اخذ التتار لبغداد وقتل الخليفه قال ابن واصل صاحب تاريخ بغداد (12): حكى العدل الامير جمال الدين ابو المنصور سليمان ابن العدل فخر الدين ابو القسم عبد الله ابن العدل (13) امين الدين ابو الحسن على البغدادى فى مستهل سنه ثمان وتسعين وستماية، قال: اخذت بغداد فى المحرم سنه ست وخمسين وستمايه، واستولى هلاوون وعساكر التتار بتدبير الوزير مويد الدين بن العلقمى لعنه الله. قلت: الأولى ان يكون اسمه خاين الدين. وكان اول قدومهم قد طلع عسكر بغداد فى دون العشره الاف، فكسروهم (17) التتار، وكان جيش التتار فى مايتى الف فارس من المغل. فلما رجعت (18) المسلمين منهزمين

(2) اخدوا: أخذ (12) صاحب تاريخ بغداد: كذا فى الأصل (13) ابن العدل: بن العدل--ابو القسم: أبى القاسم--ابن العدل: بن العدل--ابو الحسن: أبى الحسن (17) فكسروهم: فكسرهم (18) رجعت المسلمين: رجع المسلمون

تقدّموا (1) التتار ونفذوا يطلبون الخليفه. قال العدل جمال الدين: فطلع اليهم ومعه القضاه والفقها والمدرسين (2) ومشايخ الرباطات والصوفيه فى نحو من سبع مايه فارس. فلما وصلوا الى مكان يقال له الخربه جاات (3) رسل هلاوون، وهو يقول ليحضر الخليفه فى سبع عشر نفر. فاختار الخليفه سبعه عشر نفر (4). قال العدل جمال الدين: حكى لى والدى رحمه الله، قال: كنت فى الجمله، فمسك رسول التتار بيدى، وقال هدا تكمله العده، وساق بى مع الخليفه. وامّا الباقى فانهم انزلوهم هناك عن دوابهم، وعروهم قماشهم، (31) وضربوا ارقاب (7) الجميع. ودخلت المغل بغداد ورموا السيف فيها، وعاد القتل يعمل فيها مده اربعين يوما الى ان عاد الدم فى ازقتها مثل كبود الابل. وامّا الخليفه ومن كان معه فانزلوهم فى مكان واحد، لكن افردوا للخليفه خيمه صغيره الى جانب الخيمه التى فيها رفقته. قال العدل جمال الدين: حكى لى والدى، قال: كان ياتينا الخليفه كل ليله الى الخيمه التى نحن فيها، فيقول: ادعوا لى، فندعوا له. فلما اراد الله عزّ وجلّ نفاد قضايه وقدره، اتفق ان الخليفه جالس فى خيمته بعد صلاه الظهر، وادا بطاير ابيض قد سقط على الخيمه التى فيها الخليفه، فاقام ساعه ثم حلق طايرا. ففى تلك الساعه بعث اليه هلاوون واحضره، وقال له وهو قايم بين يديه ويكلمه من اربع (15) حجاب على لسان الترجمان: «ما هدا الطاير الدى اتاك»؟ فقال: «طاير سقطه على الخيمه ثم طار». قال: «فما الدى قال لك، وما الدى قلت له؟» فقال الخليفه: «وهل يتكلم الطاير؟» فقال له: «لا بد ان تقر بالصحيح، ومن اين أتاك، وماذا قال لك، وما الدى قلت له؟». وجرا (18) فى دلك

(1) تقدموا: تقدم--ونفدوا: ونفذوا (2) والمدرسين: والمدرسون (3) جاات: جاءت (4) سبع عشر نفر: سبعة عشر نفرا--نفر: نفرا (7) ارقاب: رقاب (15) اربع: أربعة (18) وجرا: وجرى

كلام كثير ومحاورات كثيره من جملتها: «انكم أهل سحر وهدا الطاير جاك (1) رسول من بعض اعوانك». ثم جرا (2) مع ولده ابو بكر كلام كثير مما يشابه هدا الكلام. ثم امر بهما، فاخرجا الى ظاهر العسكر، فوضعا فى غرارتين، وشدوا عليهما ولم يزالا يرفسا (4) بالارجل حتى ماتا، رحمهما الله تعالى. ثم امر ان يطلق السبعه عشر نفر الدين كانوا معه، واعطوهم نشابه. قال العدل جمال الدين، قال والدى: فدخلنا بغداد بعد ما قتل منا اثنين اخر (6)، وعدنا خمس عشر نفر. واتينا نطلب منازلنا واهالينا، فوجدناها خراب (7) (32) بلاقع بغير انيس ولا مخبر. قال العدل جمال الدين: ومع تقدير الله تعالى ان الامر كان قد مشى مع هلاوون، واتفق الحال بينه وبين الخليفه ان يكون للتتار نصف البلاد وللخليفه نصف البلاد. ولم تبق غير المعاقده على دلك، لكن الوزير-قاتله الله-اجتهد على قتل الخليفه كل الاجتهاد، وقال: «هدا ما يصلح لصالحه، اقتلوه، والاّ ما يستقيم لكم حال، ويكاتب عليكم ساير ملوك الاسلام، وياتيكم بما لا قبل لكم به»، فقتلوه حسبما تقدم. ثم انهم اقروا الوزير الملعون على وزارته قليلا، ثم مسكوه وعدبوه انواع العداب، وتوفى فى اخر هده السنه هو واولاده واهل بيته وساير اعوانه وشياطينه، ونقلهم الله من عذاب الدنيا الى عذاب الآخره مع فرعون وهامان وقارون. فنسال الله تعالى ان يقينا فى الدنيا ولا يجزينا (16) فى الآخره انه بالاجابه جدير {وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. [وفيها توفى الملك الناصر يوم السبت السادس والعشرين من جمادى الاول سنه ست وخمسين وستمايه. وهو الناصر داود الدى كان صاحب الكرك بعد ما مرت عليه اهوال وغرايب من انواع البلايا من الغربه والهجاج من مكان الى مكان (17). وتردد الى

(1) جاك: جاءك--رسول: رسولا (2) جرا: جرى--ابو بكر: أبى بكر (4) يرفسا: يرفسان--نفر: نفرا (6) اثنين اخر: اثنان آخران--خمس عشر نفر: خمسة عشر نفرا (7) خراب: خرابا (16) يجزينا: يخزينا--القرآن 64:1 و 67:1 (17) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش--الاول: الاولى

ذكر [حوادث] سنة سبع وخمسين وستمايه

باب الخليفه بسبب وديعته، ولم يحصل منها على طايل. ثم قبض عليه الملك المغيث صاحب الكرك، واعتقله بالشوبك. ثم خلص وقصد التوجه الى بغداد لنصرة الخليفه. فسبق الخبر باخد التتار لبغداد، فتاخر فى دمشق، فتوفى بالطاعون الدى كان فى هده السنه بالبلاد الشاميه رحمة الله عليه. وكان عمره يومئذ ثلثه وخمسين سنه، فان مولده سنه ثلثه (4) وستمايه. وكان قد غلب عليه الشيب لكثره الاهوال التى مرت به. وكان ملكا فاضلا عالما فقيها جيد الشعر. فمن قوله <من الطويل>: أتانى هواها قبل أن أعرف الهوى … فصادف قلبى فارغا فتمكنا فطرت على حبّى لها وألفته … ولا بد أن ألقى به الله معلنا ولم يخل من قلبى هواها بقدر ما … أقول أتاه فارغا فتمكنا وله <من الكامل>: والبدر يجنح للغروب ومهجتى … لفراق مشبهه أسا (11) يتقطع والشرب قد خلط النعاس جفونهم … والصبح من جلبابه يتطلّع وله <من الطويل>: تبينت أن السيف فلّ غراره … وقد كنت أرجوه لنايبة الدهر فعاندنى فيه الزمان وريبه … وجاءت صروف الدهر من حيث لا أدرى . ذكر [حوادث] سنة سبع وخمسين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم اربعه ادرع وسته وعشرون اصبعا. مبلغ الزياده ثمانيه عشر دراعا واصبع واحد.

(4) ثلثه: ثلاث (11) أسا: أسى

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث لم يكن فى هده السنه خليفه للمسلمين فيذكر، ف‍ {إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} (2). وسلطان الاسلام الملك المنصور بن المعز الى حين انفصاله من الملك فى هده السنه، فى تاريخ ما ياتى ذكره انشاء الله تعالى، بالسبب الموجب لدلك. وصاحب الشام الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز ابن الظاهر (5). وصاحب الكرك الملك المغيث. وتوجه الملك الناصر من دمشق الى القدس الشريف، ثم عاد الى البلقا وخيم على برك زيزا، ودلك (33) لما كان بينه وبين الملك المغيث بسبب البحريه. وفيها بعث الامير ركن الدين بيبرس البندقدارى بهاء الدين امير اخور الى الملك الناصر يطلب منه دستور (9) فى قدومه عليه ومفارقه الملك المغيث، وان يحلف له لا يغدر به، وان يكون السفير فى دلك الامير عماد الدين. فاجابه الناصر، وبعث اليه الشيخ يحيى برساله يحلفه، ويحلف له ان يعطيه اقطاع مايه فارس، وان تكون قصبه نابلس وجينين فيما يقطعه له، وان تكون نابلس فقط للملك الناصر. فقدم عليه وصحبته من الامرا البحريه من يدكر: بدر الدين بيسرى، ايتمش المسعودى، طيبرس الوزيرى، اقوش الرومى، بلبان الدوادار الرومى، لاجين الدرفيل الدوادار، ايدغمش، كشتغدى المشرفى، ايبك الشيخى، خاص ترك الكبير، بلبان المهرانى، سنجر المسعودى، سنجر الهمامى، اياز الناصرى، طمان، ايبك العلايى، لاجين الشقيرى، بلبان الاقسيسى، سلطان الالدكزى، مع جماعه اخر عده اربعين فارس. فتلقاهم الملك الناصر احسن ملتقا (18)، واكرمهم غايه الاكرام، وخلع عليهم. وفيها قبض الامير سيف الدين قطز على بن (19) استاده الملك المنصور، وجلس ملكا.

(2) القرآن 2:156 (5) ابن الظاهر: بن الظاهر (9) دستور: دستورا (18) ملتقا: ملتقى (19) بن: ابن

ذكر سلطنه الملك المظفر سيف الدنيا والدين قطز رحمه الله

ذكر سلطنه الملك المظفر سيف الدنيا والدين قطز رحمه الله وسبب دلك انه لما كان يوم السبت رابع عشرين شهر ذى القعده من هده السنه قبض الامير سيف الدين قطز على الملك المنصور نور الدين علىّ بن الملك المعزّ، واعتقله. وجلس على سرير الملك، وتلقب بالملك المظفر فى التاريخ المدكور. وكان الامرا المعزيه والبحريه طلبوا دستور (5) من ابن استادهم ليتوجهوا يرموا بندق فى العباسه وغزه، فاغتنم المظفر غيبه الامرا، وقبض على المدكور، ثمّ ان الامرا قبض عليهم (34) من كل جهه مثل النسا، واودعهم الاعتقال. وقيل انه سيّر المنصور وامه واخته الاّ (8) بلاد الاشكرى، وقيل انما سيرهم الملك الظاهر بعد تملكه وقتله للمظفر حسبما ياتى من ذكر ذلك، والله اعلم. ذكر نبد من بدو (10) شان الملك المظفر قال العدل امين الدين محمد بن ابراهيم ابن ابى بكر ابن عبد العزيز ابن (11) ابى الفوارس الجزرى: حكى لى والدى عن بدو (12) شان الملك المظفر قطز رحمه الله، قال: لما كان فى رق ابن العديم، او قال بن (13) الزعيم بدمشق بالقصاعين، والصحيح انه ابن الزعيم، اتفق ان استاده غضب عليه يوما لشئ جرا (14) منه. فلطمه على وجهه، ولعن والديه وابوه (15) وجده. ثم انه جلس يبكى وينتحب، وزاد فى بكايه عن حدّ القياس. وحضر الطعام، فامتنع عن الاكل، وضلّ (16) طول يومه يبكى. قال: ثم ان استاده ركب الى وضيفته (17)، وكان [قطز] عنده عزيزا بخلاف غيره من مماليكه،

(5) دستور: دستورا--يرموا بندق: يرمون بندقا (8) الا: إلى (10) بدو: بدء (11) ابن: بن (12) بدو: بدء (13) بن: ابن (14) جرا: جرى (15) وابوه: وأباه (16) وضلّ: وظلّ (17) وضيفته: وظيفته

فاوصى عليه الحاج علىّ الفرّاش؛ وكان الحاج علىّ كبير فى بيت ابن الزعيم. فقال: «يا حاج، استوصى (2) بهدا المملوك، ولاطفه، وخذ بخاطره، واطعمه، واسقيه». قال الحاج علىّ: فاتيته وهو يبكى بعد ركوب استاده. فقلت: له «ما هدا البكا العظيم. من لطشه تعمل هده العمايل؟ فلو وقع فيك جرح سيف او نشاب كيف كنت تصنع؟» فقال: «والله، يا حاج، ما بكايى وغيضى (5) من لطشه، فان السيوف والله ما تعمل فىّ، وانما غيضى (6) على لعنته لوالدىّ وابى وجدى، وهم والله اخير من ابايه وجدوده». فقلت له: «ومن هو ابوك انت، ومن جدك، وانت مملوك تركى، كافر بن (7) كافر». فقال: «لا تقل هكذا يا حاج، والله، ما انا الا مسلم ابن مسلم ابن مسلم الى عشر (8) جدود. انا محمود بن ممدود ابن (35) اخت خوارزم شاه السلجوقى، ولا بد ما املك مصر واكسر التتار». قال الحاج على: فضحكت من قوله وطايبته. وتقلبت الاحوال الى ان ملك مصر وكسر التتار، ودخل [قطز] دمشق وطلبنى، فاحضرنى واعطانى خمس مايه دينار، ورتب لى راتب جيد (12)، رحمه الله. وحكى العدل امين الدين محمد بن ابراهيم المدكور ايضا: قال حدثنى والدى، قال حدثنى الحاج ابو بكر ابن (14) الاسعردى والحاج زكى الدين ابراهيم الجزرى المعروف بالحنبلى استاد الفارس اقطاى قالا: كنا عند قطز فى اول دوله استاده المعز، وقد حضر عنده منجم قد ورد من بلاد الغرب موصوف بحذاقه ومعرفه فى علم الرمل. قال: فامر [قطز] لا كثر من عنده من الحاشيه بالانصراف، وكنا نحن من كبار اصحابه فامرنا بالقعود. ثم قال له: «اضرب وانظر من يملك مصر بعد استادى المعز، ومن يكسر هولاء التتار ويردهم عن مقصدهم». قال: فضرب وحسب زمانا، وعاد يعدّ على اصابعه. فقال [قطز] له: «قول (20) ما عندك». فقال: «يا خوند، بيطلع لى خمس حروف بلا نقط،

(2) استوصى: استوص--اسقيه: اسقه (5) وغيضى: وغيظى (6) غيضى: غيظى (7) بن: ابن (8) عشر: عشرة (12) راتب جيد: راتبا جيدا (14) ابن: بن (20) قول: قل--بيطلع لى خمس: تطلع لى خمسة

وابوه ايضا كدلك، وقد تحيرت فى دلك، واسمك انت ثلث (1) حروف، اثنين منهما منقوطه». قال: فتبسم [قطز] وقال: «لم لا تقل (2) محمود ابن ممدود؟» فقال المنجم: «ولا يقع والله غير هدا الاسم». فقال: «انا هو محمود بن ممدود، وانا الدى اكسر التتار، وآخد تار (4) خالى منهم خوارزم شاه». قال: فتعجبنا من دلك حتى كان كدلك. ومن دلك ما نقل عن الشيخ قطب الدين ابن اليونينى (5) فى تاريخه المعروف بتاريخ بغداد ايضا فى سنه تمان وخمسين وستمايه، قال: كان السلطان الملك المظفّر رحمه الله رجلا شجاعا مقداما (7) حتى قيل (36) انه لم يركب الفرس قبله من الترك افرس ولا اشجع منه، ولم يكن يوصف بكرم ولا شح بل كان مقتصدا فى دلك. وهو اول من اجترا على التتار وكسرهم واخرق ناموسهم بعد جلال الدين خوارزم شاه حسبما تقدم من ذكره، فكانت كسره جبر بها الاسلام، والله اعلم. ومن نبده ما نقل عن الشيخ عبد الرحمن القزوينى: قال حدثنى بعض اصحابى فى عشر (12) شوال سنه احدى وتسعين وستمايه ببعلبك قال: حدتنى المولى تاج الدين احمد بن الاثير الحلبى ان الملك الناصر صاحب الشام لما كان على برزه اخر سنه سبع وخمسين وستمايه وصله قصّاد من مصر يخبروه (14) ان قطز تسلطن بمصر وقبض على ابن استاده. قال تاج الدين: فطلبنى الملك الناصر اقرا عليه الملطف. فلما فرغ قال: خده ورح الى عند الامير ناصر الدين القيمرى والامير جمال الدين يغمور واوقفهما عليه. قال [تاج الدين]: فخرجت من بين يديه فلقينى حسام الدين البركتخانى، فسلم على وقال: جاكم الساعه الخبر ان قطز تملك مصر. فقلت: ما سمعت شئ (18). قال [تاج الدين]: فنظر الىّ طويل (19) وقال: بلى والله يا تاج الدين، ملك مصر قطز وهو الدى يكسر التتار.

(1) ثلث: ثلاثة--اثنين منهما: اثنان منها (2) تقل: تقول--ابن: بن (4) تار: ثأر (5) اليونينى: فى الأصل «الموسى»؛ انظر ذيل مرآة الزمان، ج 1 ص 380 (7) مقداما: فى الأصل «مقدما» (12) عشر: عاشر (14) يخبروه: يخبرونه (18) شئ: شيئا (19) طويل: طويلا

فقلت: ايش هدا القول، ومن اعلمك بهدا؟ فقال [حسام الدين]: والله، هدا قطز هو خشداشى، كنت انا وهو عند الهيجاوى ونحن صبيان، وكان عليه قمل كثير، فكنت اسرّح راسه، وكلما قتلت قمله يعطينى فلس (3) او صفعه. فلما كان فى بعض الايام اخدت عنه قمل (4) كثير، وشرعت اصفعه، ثم تنهدت وقلت: «اتمنى على الله اميريه خمسين فارس (5)». قال [حسام الدين]: فشال راسه من حجرى وقال: «طيّب قلبك، انا اعطيك امريه (6) خمسين فارس». قال: فصفعته واحده قويه وقلت: «وايش هو انت (7) حتى تعطينى امريه». (37) فقال: «انت تتمنى امريه خمسين، وانا والله اعطيك». قال [حسام الدين]: فصفعته اخرى اقوى من الاوله (8)، وقلت: «انت تجننت». فقال: «لا والله يا خشداشى، الاّ انا املك مصر واكسر التتار». فقلت: «من اين لك هدا؟» فقال [قطز]: «والله رايت النبى صلى الله عليه وسلم فى منامى فقال لى: انت تملك مصر وتكسر التتار. وقول النبى صلى الله عليه وسلم فما فيه شك». قال [حسام الدين]: فسكت عنه، وكنت اعرف منه الصدق فى حديثه. فتنقلت به الاحوال الى ان صار الحاكم فى الدوله المصريه، وما اشك انه يملك مصر ويكسر التتار كما قال. قال القاضى تاج الدين، فلما قال لى هدا قلت له: يهنيك (14) والله ملك مصر. فقال: والله ولا يكسر التتار احد غيره. فلم تمضى (15) الا اشهر حتى خرج وكسر التتار. قال القاضى تاج الدين: ثم رايت حسام الدين البركتخانى بالديار المصريه بعد كسره التتار وهو امير خمسين فارس (17)، فسلم علىّ وقال: تذكر، يا مولانا تاج الدين، ما قلت لك فى الوقت الفلانى. قلت: نعم. قال [حسام الدين]: والله حال ما عاد الملك الناصر الى حلب طلبت انا مصر، واجتمعت بالسلطان المظفر رحمه الله، واوفانى بوعده، واعطانى امريه (20) خمسين فارس كما ترا.

(3) فلس: فلسا--صفعه: المقصود «أصفعه» (4) قمل كثير: قملا كثيرا (5) فارس: فارسا (6) امرية: إمرة--فارس: فارسا (7) وايش هو انت، انظر النجوم الزاهرة ج‍ 7 ص 88 س 6 و 7 - امريه: إمرة (8) الاوله: الأولى (14) يهنيك: يهنئك (15) تمضى: تمض (17) فارس: فارسا (20) امريه: إمرة--فارس: فارسا--ترا: ترى

قلت: كان بين الوالد، سقى الله عهده، وبين القاضى تاج الدين بن الاثير المشار اليه صحبه اكيده من ايام استاد الوالد الامير سيف الدين بلبان الدوادار الرومى رحمهما الله. وكان للعبد اخوين (3) اكبر منى، وكان القاضى تاج الدين ادا هل الشهر يسير يطلبنا الثلاث (4) ويبصر الهلال على وجوهنا. وكان يقول للوالد: يا جمال الدين، انا استبارك بوجوه بنيك، فانهم (5) حسنه. وثوارثنا الصحبه مع اولاده، القاضى عماد الدين اسماعيل، ثم صحب المملوك القاضى علا الدين على ولده الى ان توفى فى تاريخ ما ياتى ذكره انشاء الله تعالى. حدثنى والدى رحمه الله عن القاضى تاج الدين المدكور (38) قال، حدثنى الامير عز الدين ابن (9) ابى الهيجا ان الامير سيف الدين بلغاق حدثه ان الامير بدر الدين بكتوب الاتابكى حدثه قال: كنت انا وقطز الملك المظفر، وبيبرس البندقدارى الملك الظاهر، خشداشيه فى حال الصبى، نكون اكثر اوقاتنا مجتمعين نركب جميع (11) ونمشى جميع (12) فاتفق ان نحن يوما رءينا منجم فى بعض الطرقات بالديار المصريه، فوقفنا عليه فقال له قطز: ابصر لى. قال [بدر الدين] فضرب، ثم صوّب فيه النظر وحسب، وعاد يكرر اليه النظر طويل (14). فقال [قطز]: ايش تقول تكلم. فقال: انت تملك مصر وتكسر التتار. قال فتضاحكنا منه. ثم قال له بيبرس البندقدارى: وابصر لى انا ايضا. قال [بدر الدين]: فضرب، ثم عاد ينظر الى الاخر طويل (16) وقال: ان هدا لعجيب، وانت والله ايضا تملك مصر وغيرها، ويطول ايامك، فازداد ضحكنا. ثم قلت: وانا ايضا ابصر لى. فضرب وقال: وانت يحصل لك امريه (18) كبيره، وهدا سببها-واومى (19) الى البندقدارى-ويقتل هدا-واشار الى قطز. قال [بدر الدين]: فو الله ما اخرم قوله كلمه واحده. وهدا ما حكاه القاضى تاج الدين بن الاثير للوالد رحمهما الله جميعا.

(3) اخوين: أخوان (4) الثلاث: الثلاثة (5) فانهم: فإنها--وثوارثنا: وتوارثنا (9) ابن: بن (11) جميع: جميعا (12) جميع: جميعا--رءينا: رأينا--منجم: منجما (14) طويل: طويلا (16) طويل: طويلا (18) امريه: إمرة (19) واومى: وأومأ

(1) [وفيها ولد الملك المظفر تقى الدين محمود بن الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقى الدين محمود بن الملك المنصور ناصر الدين محمد بن عمر بن شاهنشاه ابن (2) ايوب صاحب حماه. وامه عايشه خاتون بنت الملك العزيز، وام جده ملكه خاتون بنت بنت الملك العادل، كما قال فيهم الشاعر <من المنسرح>: طوبى لفرعيه من هنا وهنا … طوبى لأعراقه التى تنسخ وكانت ولادته الساعه العاشره من ليله الاحد خامس عشر المحرم سنه سبع وخمسين وستمايه] (7). وفيها مسك المغيث صاحب الكرك جماعه من البحريه واودعهم الاعتقال بالكرك لما توجه البندقدارى الى الملك الناصر صاحب الشام. وفيها كثرت الاراجيف فى الشام باسره بسبب التتار. ووردت الاخبار انهم قطعوا الفراه (11)، واغاروا على بعض اعمال حلب؛ فهرب كثير من الدماشقه بعد ما اباعوا حواصلهم، وخرجوا على وجوههم جافلين متفرقين فى البلاد والجبال الى الحصون والى ديار مصر. وكان دلك فى الشتا وقوه زخمه، فمات خلق كثير فى الطرقات، (39) ونهبوهم (14) الجبليه وتبث بدمشق من قوى قلبه وسجع نفسه. وفيها ارسل الملك المغيث البحريه الدين كانوا عنده الى الملك الناصر مقيدين على الجمال، من جملتهم سنقر الاشقر وسكز وبرامق. وفيها توفى الملك الرحيم بدر الدين لولو صاحب الموصل، وكان قد توجه الى هلاوون، واستنابه على ملك الموصل. (18) [كان بدر الدين لولو صاحب الموصل فى اول امره مملوكا لنور الدين ارسلان شاه ابن عز الدين مسعود ابن (19) مودود ابن زنكى

(1 - 7) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (2) ابن: بن (11) الفراه: الفرات (14) نهبوهم: نهبهم--وتبث: وثبت (18) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (19) ابن: بن

ذكر [حوادث] سنة ثمان وخمسين وستمايه

ابن اقسنقر، ثم كان استادارا. وتنقلت به الاحوال حتى استقل بالملك ولقب بالملك الرحيم حسبما تقدم. واستبد بملك الموصل وبلادها مدة سبع واربعين سنه، وسعد سعاده عظيمه جدا، ودخل فى طاعه هلاوون. وقد تقدم من حسن تدبيره وسياسته ما يغنى عن زيادة ذكره. وملك بعده ولده الملك الصالح اسماعيل، وسياتى من اخباره مع التتار ما يمكن من القول فى معناه انشاء الله تعالى. وبلغ من العمر نيف وخمسه (5) وثمانين سنه ولا لحقه هرم، والدى يراه يظن انه فى سن الاربعين لقوته ونهظته (6) وصباحته. ولم تسقط عليه حال فى مملكته الى ان توفى رحمه الله تعالى]. وفيها توفى منيف بن شيحه صاحب المدينه على ساكنها السلم (8) وملك بعده جمّاز. وملك الموصل: الملك الصالح بن الملك الرحيم، هو الملك الصالح اسماعيل ابن (9) الملك الرحيم بدر الدين لولو النورى. ذكر [حوادث] سنة ثمان وخمسين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم خمسه ادرع وسته عشر اصبعا. مبلغ الزياده ثمانيه عشر دراعا وسبع (13) عشر اصبعا. ما لخص من الحوادث وليس للمسلمين خليفه فيدكر. والتتار ملاك الدنيا من مطلع الشمس الى حدود الفراه (16)، وجميع ملوك الاسلام تحت طاعتهم من الدين لم يزيلوا ملكهم. وصاحب الشام الملك الناصر يوسف بن العزيز بن الظاهر بن صلاح الدين. وسلطان الاسلام بالديار المصريه السلطان الملك المظفر سيف الدنيا والدين قطز رحمه الله.

(5) نيف وخمسه: نيفا وخمسا (6) ونهظته: ونهضته (8) السلم: السلام (9) ابن: بن (13) وسبع: وسبعة (16) الفراه: الفرات

ونزل هلاوون فى اول هده السنه على ماردين وحاصرها ولم يتم له فيها امر، فرحل ونزل حلب، وسيّر [هلاوون] يطلب صاحب ماردين، فسير ولده تجت الطاعه، واحتج انه مريض عاجز عن الحركه. ثم انه اوقع الحصار على حلب، وهرب الملك الناصر وترك حريمه مع حريم الملوك بقلعه حلب، واخذ هلاوون مدينه حلب، (40) وكان الحصار عليها مده سبعه ايام، وبدل (5) السيف فى اهلها. وبعد ايام قلايل اخد القلعه الشهبا، وامر بمن كان فيها من حريم الملوك مثل حريم صاحب ميافارقين وبنات الملك الناصر وخواته (7)، فاوقف الجميع بين يديه فى موقف السبى شبه الجوار. كل هدا وابن صاحب ماردين قايم ينظر، وكان قصد [هلاوون] ان يخيف بذلك ساير الملوك الخارجين عن الطاعه. ثم التفت هلاوون الى الرسل، وقال: كيف ترون صنع رب السما فى من يعصى علينا، ولو علم الناصر ان له بنا قدره لما هرب وترك حريمه. ثم انه اخرج من كان بها من البحريه معتقلين، وهم: سكز وبرامق وسنقر الاشقر. (12) [وكان نزول هلاوون على محاصره حلب ثانى صفر من هده السنه. وكان بها يوميد الملك المعظم ابن (13) السلطان صلاح الدين نايبا بها عن الملك الناصر صاحبها. وكان الملك الناصر نازل (14) بجموعه على يرزه، ظاهر دمشق، ثم انه عاد يتقدم أولا فاولا قدام التتار حتى وصل الى قطيا، ثم خشى من المصريين على نفسه فدخل البريه حتى مسك. ووصل الملك المنصور صاحب حماه وبقيه من معه من الملوك اولاد ايوب الى الديار المصريه، واحسن اليهم الملك المظفر قطز. ولما كسر التتار اعاد الملك المنصور الى مملكه حماه. ولما ملكوا (19) التتار حلب اختشوا اهل حماه، فسيروا مفاتيح البلد لهلاوون، فجعل فيها شحنه من قبله، وكدلك ملكوا دمشق عنوه بالسيف. وكان اسم الشحنه الدى تركوه بحماه خسرو شاه، يقال انه من خالد بن الوليد رضى الله عنه. ثم ان

(5) وبدل: وبذل (7) وخواته: وأخواته--الجوار: الجوارى (12) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش--وكان: فى الأصل «كان» (13) ابن: بن (14) نازل: نازلا (19) ملكوا: ملك--اختشوا: اختشى

التتار كبسوا على جيوش المسلمين بنابلس، ومن هناك تشتت جموع عساكر الملك الناصر، وتمزقوا كلّ ممزّق (2)، ووصل من وصل منهم الى الديار المصريه. ولما استحكم امر هلاوون بالشام جميعه كتب الى مصر. وجعل النايب بحلب عماد الدين القزوينى وعز الدين كنجى، ومعهما من المفعل كا كلاغه وبغراغه، وجعل رجوع الجميع الى ما يامر به الملك الاشرف صاحب حمص. ولما اتوا الى مدينه الصبيبه نزل اليهم صاحبها الملك السعيد ابن الملك العزيز ابن (6) الملك العادل، واختلط بهم وفعل كل قبيح، وسياتى ما كان عاقبة امره]. ثم انه كتب الى الملك المظفر قطز صاحب مصر كتابا ما هذا نسخته: «بسم إله السماء الواجب حقه، الذى ملكنا أرضه وسلطنا على خلقه، الذى يعلم به الملك المظفر صاحب مصر وأعمالها، وساير أمرايها وجندها وكتابها وعمالها، وباديها وحاضرها، وأكابرها وأصغارها، إنا جند الله فى أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غيضه (12)، فلكم بجميع الأمصار معتبر، وعن عزمنا مزدجر. فاتعظوا بغيركم، وسلموا إلينا أمركم، قبل أن يكشف الغطاء، ويعود عليكم الخطاء. فنحن ما نرحم من بكا (14)، ولا نرق لمن شكا. فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد. فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب. فأى أرض تأويكم، وأى بلاد تحميكم، وأى دلك ترا (16)، ولنا الماء والثرا. فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من أيدينا مناص. فحيولنا سوابق، وسيوفنا صواعق، ورماحنا خوارق، وسهامنا لواحق، وقلوبنا كالجبال، وعديدنا كالرمال. (41) فالحصون لدينا لا تمنع، والجيوش لقتالنا لا تنفع، ودعاكم (18) علينا لا يسمع، لأنكم أكلتم الحرام، وتعاظمتم عن ردّ السلام، وخنتم الإيمان،

(2) كل ممزق: قارن القرآن 34:7 (6) ابن: بن (12) غيضه: غضبه، انظر المقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 28 (14) بكا: بكى--شكا: شكى (16) ترا: ترى--والثرا: والثرى (18) ودعاكم: ودعاؤكم

وفشا فيكم العقوق والعصيان. فابشروا بالمذلّة والهوان. {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} (1)، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (2). وقد ثبت أن نحن الكفرة وأنتم الفجرة، وقد سلطنا عليكم من بيده الأمور المدبرة، والأحكام المقدرة. فكثيركم عندنا قليل، وعزيزكم لدينا ذليل، وبغير المذلة ما لدنياكم علينا من سبيل. فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا ردّ الجواب، قبل أن تضرم الحرب نارها، وتورى شراراها، فلا تجدون منا جاها ولا عزا، ولا كتابا ولا حرزا، إذا أزّتكم رماحنا أزّا. وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، وعلى عروشها خاوية. فقد أنصفناكم، إذا أرسلنا إليكم، ومننّا برسلنا عليكم. ثم كتب <من الطويل>: ألا قل لمصرها هلاوون قد أتا (10) … بحدّ سيوف تمتضى وبواتر، يصير عزيز القوم فيها أذلّة … ونلحق (11) أطفالا لهم بالأكابر». فلما وصلت هده المراسله الى الملك المظفر رحمه الله، جمع الامرا، وضرب مشور، فاتفق الراى على ضرب رقاب الرسل، والتجهيز له وملتقاه، ويعطى الله النصر لمن يشا. فضربت رقاب رسله، وكانوا نيف (14) واربعين نفرا، وعلقت رؤوسهم على باب زويله. ثم نادوا فى القاهره ومصر الجهاد فى سبيل الله. واجتمعت العساكر من كل فج عميق، وجاات (16) العربان من البلاد، وخلق كثيره من التركمان والاكراد، وبايعوا الله عزّ وجلّ بنيات صادقه وقلوب موافقه، وخرجوا طالبين التتار.

(1) القرآن 46:20، قارن ايضا القرآن 6:93،45:28،36:54 (2) القرآن 26:227. (10) اتا: أتى--تمتضى: تنتضى، انظر المقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 428 (11) نلحق: فى المقريزى «يلحق» (14) نيف: نيفا (16) جاات: جاءت

(42) ذكر وقعه عين جالوت وكسره التتار

(42) ذكر وقعه عين جالوت وكسره التتار وكان قبل دلك فى هده السنه قد وصل الامير ركن الدين بيبرس البندقدارى، لما فارق خدمه الملك الناصر وحضر الى خدمه الملك المظفر وكان فى طريقه قد نزل بغزه، وصاهر الشهرزوريه وتزوج منهم. وبعث طيبرس الوزيرى الى عند الملك المظفر ليحلفه. فاجابه لدلك وحلف له، فطاب خاطره، ودخل القاهره يوم السبت ثانى عشرين ربيع الاول. وركب السلطان الملك المظفر والتقاه من مسجد التبن، وانزله دار الوزاره، ورتب له راتبا عظيما، واقطعه قليوب بكمالها. وهو الدى صغر امر التتار عنده، وقوى قلوب الاسلام على ملتقاهم، وتكفل له النصر من الله تعالى. وكان خروج السلطان الملك المظفر بالعساكر من الديار المصريه لملتقا (9) التتار يوم الاثنين خامس عشر شعبان. وكان قد جهز هلاوون جيوش المغل تقدمهم كتبغا نوين، ونزل حمص. فلما بلغه ان السلطان المظفر نزل مرج عكا ركب من حمص، وتوجه الى ان وصل الغور. وبعث المظفر الامير ركن الدين بيبرس البندقدارى شاليشا فى عده من فرسان الحرب المعودين للطعن والضرب. فلما وقعت عينه عليهم سيّر عرّف السلطان. ثم انه انتهز الفرصه فى مناوشتهم الحرب، ليكون له اليد البيضا عند الله تعالى وعند الاسلام، وليصغر امرهم فى اعين الجيوش القادمه عليهم. وعاد يقابلهم (15) ويستدرجهم، ويكر عليهم ويتقدم امامهم، الى ان وصلوا عين جالوت. فلما كان يوم الجمعه الخامس والعشرين من رمضان المعظّم التقا (17) الجمعان، وعمل السيف والسنان بالضرب (43) والطعان. وتبث (18) الشجاع وفرّ الجبان، وكانت دايره السوء على الكفار من عبدة الاوثان، ونصر الله حملة القرآن. وانهزمت التتار الكفار، وعمل فى

(9) لملتقا: لملتقى (15) يقابلهم: فى الأصل «يقالبهم» (17) التقا: التقى (18) وتبث: وثبت

اعناقهم الصارم البتار، وتشتتوا فى الاقطار. وركبت المسلمون اكتافهم اسرا وقتلا، حتى ملا دلك عيون وحش الفلا. وقتل ملكهم اللعين، كتبغا نوين، وقطع دابر القوم الدين ظلموا، والحمد لله رب العالمين. حكى جدى برى بلجك لوالدى رحمهما الله، قال: لم نزل معتقلين (4) بالقلعه الى ان اخرجنا الملك المظفر عند خروجه الى التتار، فكنت فى هده الغزاه المباركه. وكان قد قفز من التتار الى السلطان المظفر شابا (6) من المغل. فقربه السلطان، وانعم عليه، وجعله سلاح دارا. فلما كان يوم المصاف والتحم القتال، ضرب دلك الشاب السلطان بسهم، فلن يخطى (8) الجواد لسعاده الاسلام ونصرة امة النبى عليه السلام، فوقع السلطان الى الارض، وقتل دلك الشاب. وعاد السلطان راجلا والناس قد اشتغلوا بقتل دلك الملعون الدى اراد هلاك السلطان. قال: فنزل فخر الدين ماما عن جواده، وقدمه للسلطان، فامتنع عن الركوب. فقال له الامير (11) فخر الدين: «يا خوند، اركب، فمادا (12) وقت امتناع». فقال [قطز]: «تقتل، يا فخر الدين». فقال: «اذا قتلت انا كنت واحد (13) من المسلمين، وكان عوضى كثير، واذا قتلت انت فى هدا الوقت فما لك عوض، وقتل المسلمين (14) كلهم». فركب ثم التقت الجنايب والوشاقيه، فركب فخر الدين من جنايب السلطان. فلما انكسر التتار، قال للسلطان بعض خواصه، عن امتناعه عن الركوب فى ذلك الوقت، «يا خوند، لو صدفك-والعياذ بالله-فى ذلك الوقت الذى انت فيه راجل بعض المغل كنت رحت، (44) وراحت الإسلام لرواحك». فقال: «اما انا فكنت اروح الجنه، واما الاسلام فما كان الله ليضيعه، فقد مات السلطان الملك الصالح رحمه الله، وقتل ابنه المعظم، والامير فخر الدين بن الشيخ مقدم العساكر، وبعد دا (20) نصر الله الاسلام وحده بغير ملك بعد اليأس».

(4) معتقلين: فى الأصل «معتلقين» (6) شابا: شاب (8) فلن يخطى: فلم يخطئ (11) الامير: فى الأصل «للامير» (12) دا: هذا (13) واحد: واحدا (14) المسلمين: المسلمون (20) دا: هذا

ولبعض الشعرا يمدح الملك المظفر رحمه الله <من الخفيف>: هلك الكفر فى الشآم جميعا … واستجدّ الاسلام بعد دحوضه بالمل‍ [ي‍] ك المظفر [الملك] الار … وع سيف الاسلام عند نهوظه (3) اوجب الله شكر ذاك علينا … دايما مثل واجبات فروضه وفى دلك لشهاب الدين ابى شامه <من الكامل>: غلب التتار على البلاد فجاءهم … من مصر تركىّ يجود بنفسه بالشام بدّدهم وفرّق شملهم … ولكل شئ آفة من جنسه وقال جمال الدين بن مصعب رحمه الله <من الخفيف>: (9) … [إن يوم الحمراء يوم عجيب فيه ولّى جيش الطغات البغات (9_) دار كاس المنون لما مزجنا … عين جالوت بالدما للسقات (10) يا لها جمعة غدا المغل فيها … سجّدا للسيوف لا للصلاة] (11). ووصل الخبر الى دمشق بكسره التتار فى ليله السابع والعشرين من شهر رمضان المعظم. فانهزم نلك الليله من كان بدمشق من التتار، وشحنتهم بها كان يسمى ايل ستان (14)، وتبعهم الناس واهل القرى والضياع يقتلون وياسرون. وكان الملك السّعيد ابن (15) العزيز بن العادل صاحب الصبيبه وبا نياس محبوسا بقلاع الشام، بعد موت الصالح وولده توران شاه المعظم، فاخرجوه (16) التتار، وصار معهم، ويدل على عورات المسلمين. وقدم [الملك السعيد] فى الجيش الدى كان مع كتبغا نوين الى دمشق، وحضر فتح قلعتها، واعادوه الى بلاده. ثم توجه مع عسكر

(3) انظر اليونينى ج‍ 1 ص 367 - -نهوظه: نهوضه (9 - 11) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (9_) الطغات البغات: الطغاة البغاة (10) للسقات: للسقاة (14) ايل ستان: فى الأصل «ابل سنان»؛ فى أبو شامة، ذيل الروضتين (ط. القاهرة 1947) ص 207 «ايل سبان» (15) ابن: بن (16) فاخرجوه: فأخرجه

كتبغا نوين، وقاتل المسلمين. فلما وقعت الكسره عليهم جا الى السلطان الملك المظفر متنصلا فلم يقبله، وقال (45) له: «لولا الكسره كانت على التتار ما اتيت»، ثم شهد عليه جماعه من الناس انه كان يقاتل مع التتار اشد قتال، وربما قتل من المسلمين. فعند دلك امر السلطان المظفر بقتله فقتل، ثم ورد كتاب السلطان المظفر الى دمشق بالنصر والظفر يوم الاحد ثالث يوم الوقعه. وكان النصارا (6) -لعنهم الله-لما ملكوا التتار دمشق شمخت نفوسهم، وقالوا: «هدا الدى كنا قد وعدنا به؛ ان فى اخر زمان يخرج من يعضد الملة النصرانيه وهم هولاء». وعاد كبارهم يترددون الى الشحنه المسمى ايل ستان (8) والى كبار المغل، وحسنوا لهم دينهم، وعبروا بهم كنايسهم، وحضر من عند هلاوون فرمانات اليهم بالاعتنا بهم، وارتفاع كلمتهم، واعزاز دينهم، وايضاع الاسلام. وعادوا يشربون الخمر على رؤس (11) الناس، وعلى ابواب المساجد. وعادت المسلمين معهم فى اشد الاحوال حتى انهم فى شهر رمضان يشربون الخمور، ويطرشون به المسلمين. وربما شربونه (13) فى الجامع الكبير الاموى فى شهر رمضان المعظم، ويعطلون على الناس الصلوات الخمس. فعند دلك اجتمعت اكابر دمشق من المسلمين، واتوا الى القلعه الى الشحنه ايل (15) ستان، ومعهم القضاه والعدول، وشكوا اليه فعل النصارا، وما الناس فيه من الشده معهم، فاهانهم، واخرق بهم، فعظم دلك على الاسلام. فلما منّ الله تعالى بفضله العميم، وانتصر الاسلام، وهربت التتار من دمشق ليله الاحد، اصبح الناس وطلبوا دور النصارا (18) فنهبوها، واخربوا ما استطاعوا، واخربوا كنيسه اليعاقبه، وكنيسه مريم حتى اعادوهما كومان (19). وقتل من النصارا

(6) النصارا: النصارى--ملكوا: ملك (8) ايل ستان: فى الأصل «ابل سنان» (11) رؤس: رؤوس--المسلمين: المشلمون (13) شربونه: شربوه (15) ايل: فى الأصل «ابل» --النصارا: النصارى (18) النصارا: النصارى (19) كومان: كومين--النصارا: النصارى

جماعه. واختفوا، ولزموا بيوتم، وجرا (1) عليهم امور اشتفى (46) بها صدور المسلمين. ثم نهبوا بعض اليهود، ثم كفوا عنهم، فانهم لم يجرا (2) منهم فى حقّ الاسلام شئ يكرهونه. وفى اول هده السنه كان اخد حلب وهروب الناصر حسبما تقدم من الكلام. حكى الصارم ازبك، مملوك الاشرف صاحب حمص (5)، قال: كان سبب اجتماعى بهلاوون انى تزاييت بزى التتار، ولبست لبسهم. وكان لهم صاريا معروفا (6) به صندوق، وعنده رجلان موكلان به من جهه هلاوون، وكان كل من له ظلامه يكتب قصه ويحضرها الى دلك الامين، فيضعها فى الصندوق الى يوم الجمعه يجلس هلاوون، وتعرض عليه القصص، ويكشف ظلامات الناس. قال الصارم: فكتبت قصه، وانا اقول: «المملوك ازبك مملوك الملك الاشرف صاحب حمص يقبّل الارض، وينهى ويسال الحضور بين يدى القان». قال: فطلبنى. فلما حضرت بين يديه، رايت ملكا جليلا وهيبه عظيمه. وصفته انه قصير القامه، ليس له عنق يظهر، وراسه كدماغ البغل على كتفيه، وجفون عينيه على روس (13) خديه، كأن وجهه ترس النار تشعل من عينيه. فلما مثلت بين يديه اوقفنى من اربع (14) حجاب. وقال: «انت مملوك الاشرف صاحب حمص، بهادر المسلمين؟» قلت: «نعم». ثم كلمنى، فوجدنى فصيحا، قوى الجنان، فقربنى وكلمنى، وحدثنى من جانب واحد. ثم قال: «تشرب الخمر؟» قلت: «نعم». فامر لى بهناب مملوا (17) خمرا. فتناولته، وقبلت الارض، ورقصت،

(1) وجرا: وجرى (2) يجرا: يجر (5) ذكر القصة التالية، نقلا عن قرطاى العزى الخزندارى، ابن الفرات فى تاريخه (مخطوطة الفاتيكان رقم 726) نشرها ليفى ديللا فيدا Levi della Vida فى مجلة Orientalia ج‍ 4 (1935) ص 358 - 366. وسوف يشير المحقق إلى نص ابن الفرات عند الضرورة (6) صاريا معروفا: صار معروف (13) روس: رؤوس (14) اربع: أربعة--اوقفنى من اربع حجاب: فى تاريخ ابن الفرات (نشر ليفى ديللا فيدا) ص 358 - 359 «وقفت بين يدى هلاوون تكلم معى من حجاب اربعة» (17) مملوا: مملوء

وعملت اشياء كثيره مما كانت الحرفا تعملها (1) بين يدى ملوكنا. قال: فاعجبته واعجبت الخواتين، وضحكوا وانشرحوا (2)، وهلاوون يتبسم. ثم امرنى بالجلوس، فجلست. وعدت نديم حضرته، وانا احكى له كل نادره وعجيبه، (47) وعدت اعزّ الناس عنده وعند الست طقز خاتون زوجته، واقمت عنده عشره ايام بلياليها، خمسه قبل نزوله على حصار حلب، وخمسه بعد نزوله على حلب. قال الصارم، فقال لى فى الليله الخامسه من حصار مدينه حلب: «فى كم تقول ناخد هده البلد؟» يعنى حلب. فقلت: فى عشره (7) سنين!». فقال: «فالقلعه؟» قلت: «فى عشرين سنه!». وكان قصدى بهدا رحيله عنها. فقال-وقد غضب من قولى-: «والله لولا ما سبق من امانك كنت متّ، هدا تكون همة ملوككم المخنّثين المشتغلين ببعضهم البعض». قال [الصارم]: فاستدركت الفارط، وقلت: «صدق القان، حفظه الله، انا ما لى خبره الاّ بحروب ملوكنا، وامّا همه القان، وعلو اقتداره، فما اعلم». فلما رد عليه الحاجب، وشدت منى زوجته واسعفتنى فى الكلام، رجع عن غيظه. قال الصارم ازبك: فما فرغ معى من الكلام الا وقد دخل عليه رجل من المغل وفى يده راس مقطوعه من رؤس (14) التتار، صفه شاب، لا شعر فى وجهه؛ فرماها بين يديه، وتحدث معه بالمغلى، وانا لا افهم ما يقول، ثم اخد الراس، وخرج. فالتفت الىّ الحاجب وقال: «تدرى ما هده الراس، وهدا الرجل؟» قلت: «لا». قال: «هدا الرجل كبير مقدّمى التتار، وكان فى نقب من نقوب حلب، فخرج لبعض شغله، وترك ولده مكانه (17)، فخاشفهم الحلبيين (18)، وهجموا عليهم فى النقب. فهرب ولده، وهرب الدين معه لهروبه. فبلغ ابوه (19) دلك، فدخل النقب، وقطع راس ولده، وجاء بها الى القان، كما ترى». قال ازبك: فتحققت عند دلك انهم يملكون حلب والقلعه فى الايام اليسيره.

(1) كانت الحرفا تعملها: كان يعملها الحرفاء (2) وضحكوا وانشرحوا: وضحكن وانشرحن (7) عشره: عشر (14) رؤس: رؤوس (17) مكانه: فى مكانه (18) الحلبيين: الحلبيون (19) ابوه: أباه

وحكى الصارم ازبك ايضا، قال: وقفت بين يدى هلاوون، فرسم ان اجلس. فقلت: «يحفظ (2) الله القان، كان-والله- (48) ودّ الملوك ان يكونوا بين يديك نسبه هولاء المماليك الدين بين يدى القان، وانما حرمة القان عظيمه». قال: فاعجبه. وقال: «يا ازبك، تقدر تحضر استادك الأشرف؟» قلت: «نعم، حفظ الله القان». قال: فامرلى بخيل البريد. فقلت: «على شرط لا يفتح القان القلعه حتى احضره بين يديك»، ثم خرجت من ساعتى وركبت، وصحبت معى عشره اكاديش، وفى عنقى الطمغاه (6)، ثم سقت الى غزه، ودخلت البريه، فوجدت الملوك مشتتين فى البريه عند برك زيزا، فلما راونى نزلوا الىّ واقبلوا علىّ لما كان بلغهم من محلى عند القان، فاستحييت من استاديتى، فترجلت، وعانقتهم، وقلت للاشرف: «القان طلبك»، فخاف، فقلت: «لا باس عليك، وعلىّ الضمان ان تعود الى ملكك». فقال لى الناصر: «وانا، يا صارم الدين.» قلت: «مالى معك كلام». ثم اخدت الاشرف، وعدت به فى ثلاثه ايام والرابع كنا عند هلاوون. فاحضره بين يديه، واقبل عليه. وكان الاشرف ضريف (12) الشمايل، تام القامه، اسمر، اكحل، ادعج، كأن يخديه تفاحتين، وفيهم (13) شامات متفرقه، وكان لابس قبا تترى (14) اخضر ببنود اطلس احمر، وخف بلغارى بشريط ذهب، ومهاميز ذهب، وقبع اطلس، وتخفيفه لا تبين رفيعه، وهو كانه قضيب بان. فلما نظرت اليه طقز خاتون زوجه هلاوون اعجبها، وضربت هلاوون على وجهه وهى تضحك. وقالت: «هكدا يكونوا (17) الملوك، انّ هدا شاب مليح بهادر المسلمين». قال: فنظر اليها هلاوون، ولطمها على وجهها وهو يضحك. وقال: «انما نحن الملوك الدى دلت (18) لنا مثل هولاء الملوك، وجعلناهم مثل العبيد بين ايدينا، مثل النسا قدامنا». قال الصارم ازبك: كل هدا والاشرف قايم يرعد كالقصبه (49) هيبه وعظمه. فقال هلاوون:

(2) يحفظ: حفظ (6) الطمغاه: فى تاريخ ابن الفرات ص 361 «الطمغة» (12) ضريف: ظريف (13) وفيهم: وفيهما (14) لابس قبا تترى: لابسا قباء تتريا (17) يكونوا: يكون (18) الدى دلت: الذين ذلت

«يا اشرف، اتمنى (1) علىّ ايش تريد». فنظر الىّ فقلت: «اطلب البرج الدى فيه اهلكم وعيالكم واقاربكم، لعل (2) يسمح به، وتسترهم من السبى». فقال الاشرف: «لا يكون يقتلنى». فقلت: «لا تخاف (3)، فان قلب الخاتون كله معك، وهى الغالبة عليه». ثم كرر عليه هلاوون القول. فقبل الاشرف الارض وقال: «ينعم علىّ القان بالبرج الدى فيه حريمنا، وحريم الملوك الدين صاروا هاربين من هيبه القان». قال: فغضب هلاوون، وعبس وجهه، ولعب شاربيه (6)، فكاد الاشرف يسقط من يدى ويد الحاجب، ونظرت الخاتون، ففهمت منه انه يستجير بها، فلطمت هلاوون وهى تضحك. وقالت: «ما تستحى، ملك مثل هدا يتمنا (8) عليك شى يسير، وانت الدى ادنت (9) له ومنيته، والله الم تعطيه انت اعطيته انا القلعه كلها». فقال هلاوون: «انما منعته ذلك لاجلك حتى تبقى بنات الملوك لك جوار (10)». فقالت: «هم جوارىّ، وقد وهبتهم (11) لهدا البهادر». فعند دلك رسم له بالبرج. فقبل الاشرف الارض، واراد أنه ينهظ (12)، فلم يقدر حتى اقمناه بابطيه-وفى تلك الليله اخدت القلعه. ولم تزل الخاتون تعنى بالاشرف حتى اعاد عليه ملكه بحمص، واضاف اليه غيرها، وانعم عليه انعام كثير (14). قال الصارم ازبك: ولما اخد هلاوون حلب، وجهز كتبغا نوين الى ديار مصر عاد طالبا للشرق، ثم انه طلبنى وانعم علىّ انعام كثير (16)، وردنى الى الشام. وقال لى: «يا صارم، انت تعلم ما فعلته معك من الخير بخلاف استاديتك الدين ربّوك، وانا خايف على اولادى الدين سيرتهم الى مصر لقلّه خبرتهم بالبلاد، واريدك ترجع، وتكون

(1) اتمنى: تمنّ (2) لعل: لعله (3) تخاف: تخف (6) شاربيه: شارباه (8) يتمنا: يتمنى--شى يسير: شيئا يسيرا (9) ادنت: أذنت--الم تعطيه: إن لم تعطه (10) جوار: جوارى--هم: هن (11) وهبتهم: وهبتهن--وقد وهبتهم لهدا البهادر: فى تاريخ ابن الفرات ص 364 «أنا قد أعتقتهم لوجه الله تعالى ولأجل الملك الأشرف» (12) ينهظ: ينهض (14) انعام كثير: انعاما: كثيرا (16) انعام كثير: انعاما كثيرا

معهم، وتدلّهم على المصالح، (50) فانت اخبر ببلادك». وكتب معى كتبا لاولاده بان لا (2) يخرجوا لى من خلاف. فلما رديت وجدت التتار مجتمعين على الاردن، والمسلمين (3) قد خروجوا لملتقاهم. فلما راونى التتار اقبلوا نحوى، وترجلوا، وقبلوا عينىّ كونهما قريبتين (4) العهد من نظر القان، ثم انى انفدت غلامى صفه انه جاسوسا من عندنا باشاره كتبغا نوين، وامرته فى الباطن ان يجتمع بالملك المظفر من جهتى، ويهوّن عليه امر التتار، ويعرفه ان يقوى الميمنه الاسلاميه، وان يكون الملتقا (6) عند طلوع الشمس. وقلت: «عرّفهم طلبى ورنكى، وانهم ساعه يحملوا (7) علىّ انهزمت، فان التتار يتبعونى (8) فى الهزيمه». فكان دلك بمعونه الله عزّ وجلّ. واما الملك الناصر صاحب الشام فان هلاوون سير خلفه، فمسكوه على برك زيزا، واحضروه بين يدى هلاوون-وقيل مسك بوادى موسى، ونزلوا به الى عجلون، وسلمها لهم بعد ان عجزوا عن اخدها. فتسلموها وافسدوا حالها كعادتهم. ورجع هلاوون وصحبته الامرا البحريه الدين كانوا معتقلين بحلب، وهم سكز وبرامق وسنقر الاشقر وبكمش المسعودى. ولحقوه بالملوك قبل قطعه الفراه (13)، وهم فى دل (14) وهوان. فلما مرّ الناصر وراى قلعه حلب عند بعد، بكى بكاء شديدا وانشد يقول <من الطويل>: سقا (16) … حلب الشهباء فى كل بقعة سحايب غيث نوءها مثل أدمعى فتلك مرامى لا العقيق ولا اللوى … وتلك ربوعى لازورد (17) ولعلى

(2) بان لا: بألا--رديت: رددت (3) والمسلمين: والمسلمون--راونى: رآنى (4) قريبتين: قريبتى--انفدت غلامى صفه انه جاسوسا: فى تاريخ ابن الفرات ص 366 «بعثت غلاما لى فى صفة جاسوس» (6) الملتقا: الملتقى (7) يحملوا: يحملون-- عرّفهم. . . انهزمت: فى تاريخ ابن الفرات ص 366 «قل للأمراء لا تخافوا ها انا واصحابى والملك الاشرف فى ميسرة فى التتار فاذا رأيتم رنكى احملوا علىّ وعلى اصحابى فانا والملك الاشرف ننهزم بين أيديكم» (8) يتبعونى: يتبعوننى (13) الفراه: الفرات (14) دل: ذل-- عند: عن (16) سقا: سقى (17) لازورد: فى الأصل «لازرود»

فلما قرب من حلب ورآها خراب (1) بكا اشد من الاولى، وانشد <من البسيط>: ناشدتك الله يا هطّالة السحبى … أن لا حملت تحياتى الى حلب لا عذر للشوق أن يمشى على قدر … ماذا عسى يبلغ المشتاق فى الكتبى (51) احبابنا لو درى قلبى بانكم … تدرون ما أنا فيه لذّلى تعبى لكنّ أصعب ما ألقاه (6) … من ألم أنّى أموت ولا تدرى الأحبّة بى ولما تعدا (7) حلب، وصارت على شماله، أنّ وتنهّت، وجرت دموعه، وقال <من الطويل>: سقا (9) … الله اكناف الشآم ومعهدا به العهد باق لا يزال مواظبا ولا برحت أرض العواصم عصمة … من السوء تسقا (10) دايم الافق دايبا ايا ساكن الشهباء لا زال حبّكم … يخالط منى اعظمى والترايبا وحزنى عليكم لا يزال مجدّدا … وشوقى اليكم لا يزال مغالبا أروم لقاكم والقضاء يعيقنى … فلو جاد سيّرت السحاب ركايبا وعفّرت خدّى فى الثرا (14) … فرحا بكم وقلت لقلبى: قد بلغت المآربا ولما سار عنها، وبعدت عنه، انشد القصيده المشهوره له التى اولها <من الطويل>: يعزّ علينا أن نرى ربعكم يبلا (17) … وكانت به آيات حسنكم تتلا لقد مرّ لى فيها افانين لذه … ترى هل لأوقاتى بها عودة أم لا

(1) خراب: خرابا--بكا: بكى (6) القاه: فى الأصل «اللقاه» (7) تعدا: تعدّى (9) سقا: سقى--ومعهد: ومعهدا (10) تسقا: تسقى (14) الثرا: الثرى (17) يبلا: يبلى--تتلا: تتلى

اقلّب قلبى نحوكم فى دياركم … فأكثر فيها النوح كالناحة (1) الثكلا ايا احبابنا والله ما قلت بعدكم … لحادثة الأيام رفقا ولا سهلا ومنها ولى أسوة مع ال بيت محمد … فبعضهم أسرا (4) وبعضهم قتلا وهى قصيده طويله نيف وستين بيتا اشهر من «قفا نبك (5)»؛ فلدلك اضربت عن اثبات جملتها كون تاريخنا تاريخ اختصار لا تاريخ تحشيه واكثار. ولما وصل الملك الناصر الى هلاوون احسن اليه واقبل عليه، وانزله منزلة كبيره، وكدلك جميع من كان معه من الملوك، ثم امّر له بالشام على عادته، وان يكون فيها اسوه الملوك الدين تركوهم تحت الطاعه. واخلع عليهم بعد ان وصل الانبار، وردهم الى (52) بلادهم، فلم يقطعوا غير منزلتين، وورد عليه الخبر بكسر جيشه وقتل اولاده، وما ثم (11) على حشوده، وانهم لم ينجو منهم احد. فعند دلك امر بردهم اليه من الطريق فردوا، وضرب رقاب الجميع رحمة الله عليهم-حنقا منه، ولما ناله من عدم اولاده واحبابه وخاصه جيوشه. ولنعود (13) الى سياقه التاريخ بعون الله وحسن توفيقه. ولما انكسرت التتار على عين جالوت-حسبما ذكرناه-رحل السلطان الملك المظفر مويدا بالنصر والظفر، وقد احاطت به خواصه، والرمز احاطة الهاله بالقمر. ودخل دمشق فى اليوم السابع من الوقعه، وجرّد العساكر قبل دلك فى ثانى يوم من الوقعه،

(1) كالناحة: كالنائحة، واستخدمت كلمة «الناحة» لصحة الوزن--الثكلا: الثكلى (4) أسرا: أسرى--قتلا: قتلى (5) «قفا نبك»: يشير ابن الدوادارى إلى قصيدة امرئ القيس المشهورة التى مطلعها: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول وحومل» (11) ثم: تم--ينجو: ينج (13) ولنعود: ولنعد

يقدمهم الامير ركن الدين بيبرس البندقدارى خلف المنهزمين من التتار. فلحقهم على حمص، وقتل منهم خلق عظيم بحيث لم يعود (2) منهم الى بلادهم مخبر. قال القاضى عز الدين بن شداد فى تاريخه ان الملك المظفر قطز، لما ملك دمشق، كان عازما على التوجه الى حلب ليكشف احوالها ويزيح اعدارها (4) من خراب التتار. فوشى اليه واش ان الامير ركن الدين البندقدارى مع جماعه من الامرا البحريه متنكرين (6) له ومتغيرين عليه. فصرف وجهه الى ناحيه الديار المصريه، وهو ايضا مضمر لهم الشر، وربما أسرّ دلك لبعض خواصه. فبلغ دلك الامير ركن الدين البندقدارى، فخرجوا من دمشق، وكل واحد منهما محترز من صاحبه. وحكى لى والدى-رحمه الله-عن مخدومه الامير المرحوم سيف الدين بلبان الدوادار الرومى. قال: ان يوم المصاف هربت جماعه من الامرا من خشداشيه الامير ركن الدين البندقدارى. فلما انتصر الاسلام، تأمر عليهم السلطان المظفر، (53) ووبخهم، وشتمهم، وتوعدهم. فاضمروا له السوء، وحصلت الوحشه مند دلك اليوم. ولم تزل الحقايد والظغاين (13) تترآا فى صفحات الوجوه وغمزات العيون، وكل منهم يترقب من صاحبه الفرصه. واجتمع راى الامير ركن الدين البندقدارى مع جماعه من الامرا البحريه وهم: الامير سيف الدين بلبان الرشيدى، والامير سيف الدين بهادر المعزى، والامير بدر الدين بكتوت الجوكندار المعزى، وعلا الدين بيدغان الركنى، وسيف الدين بلبان الهارونى، والامير عز الدين انس، وجماعه اخر.

(2) يعود: يعد (4) اعدارها: أعذارها (6) متنكرين: متنكرون-- متغيرين: متغيرون (13) والظغاين: والضغائن--تترآا: تتراءى

ذكر قتلة الملك المظفر رحمه الله وسلطنة الملك الظاهر

(1) [قال ابن واصل فى تاريخه ان لما قبض السلطان الملك الصالح نجم الدين ايوب -رحمه الله-على الامير علا الدين البندقدار الصالحى لأمر بدا منه احضره الى حماه، واعتقل بجامع قلعه حماه. واتفق حضور الملك الظاهر، وهو يوميد مع تاجره، وصحبته خشداش له يقال انه (4). . . فكان الملك المنصور صاحب حماه صبى، وعادته ادا اراد يشترى مماليك، اعرضهم اولا على الصاحبه والدته. فلما بلغه وصول هذين المملوكين، احضرهما واعرضهما على الصاحبه والدته، فراتهما من داخل الستر. فقالت له: «خذ المملوك الابيض، والاسمر لا يكون بينك وبينه معامله؛ فان فى عينيه شر لايح (8)». قال: فردهما جميعا على التاجر. فسرّ الصاحبه هدا الفعل منه. وبلغ الامير علا الدين البندقدار وهو معتقل خبرهما، وكان غير مضيق عليه، فاحضرهما وشراهما جميعا، وبقيا عنده فى الاعتقال الى ان فرج الله عنه] (10). ذكر قتلة الملك المظفر رحمه الله وسلطنة الملك الظاهر ودلك لما وصل السلطان المرحوم الشهيد سيف الدنيا والدين قطز الى منزلة القصير، ثار قدامه ارنب، فساق عليه، وارماه، وتبعوه (13) الامرا المدكورين. وسبق الامير عز الدين انس الى الارنب وحصلها، فاعجب السلطان منه دلك، كون مثل هدا الامير سبق الى صيده، وترجل عن فرسه وحصله. فقال له: «اسال ما تريد يا بيك ادا دخلنا مصر». فقال: «يا خوند، الجاريه التى خدها السلطان من سبى التتار». فقال: «نعم، وعلىّ جهازها». فباس الارض، وتقدم ليقبل يد السلطان، فمسك قايم سيفه مع ايده (18). وكانت هده الاشاره بينهم. فبادره بكتوت الجوكندار، وضربه على عاتقه حله،

(1 - 10) ما بين الحاصرتين مكتوب بالهامش--ان: أنه (4) انه. . .: بياض فى الأصل، والمقصود «أبيض» --صبى: صبيا (8) شر لايح: شرا لائحا (13) وتبعوه: وتبعه-- المدكورين: المذكورون (18) ايده: يده

ثم ثنى عليه انس، فارماه عن فرسه، ثم رماه بهادر المعزى بسهم، فقتله. وعجل الله بروحه الى علّيّين، وعوضه عن ملكه بملك جوازه الحور العين، ودلك يوم السبت سادس عشر ذى القعده. (54) وقيل ان اول من ضربه كان الامير ركن الدين بيبرس البندقدارى، وهو الصحيح والله اعلم. ثم توجهوا الى الدهليز، واجتمعوا، فتقرر (5) الامر للامير ركن الدين بيبرس البندقدارى، بعد محاورات كثيره. فكان اول من تقدم وبايعه الامير فارس الدين اتابك، ثم الامرا على طبقاتهم. ولقب (7) الملك الظاهر. ثم قال له الامير فارس الدين: «لا يتم لك ما تريد حتى تملك قلعه الحجر (8)». فركب على فوره، وجدّ فى سوقه، فوجد فى طريقه الامير عز الدين الحلى، وكان النايب بمصر. فعرفه بما تحرر. فاستجاب له، وحلف يمين البيعه، وعاد فى خدمته. وكان قد رتب الامير جمال الدين اقوش النجيبى استادار (11)، والامير عز الدين الافرم امير جاندار، والامير حسام الدين لاجين الدرفيل، والامير سيف الدين بلبان الرومى دواداريه، والامير بها الدين امير اخور، ولم يزل فى جدّه حتى وصل القلعه التسبيح الاول. وكان الطالع السرطان، والقمر فى تثليث الزهره، ساعه سعد صدفه، لما يريده الله عزّ وجلّ من سعاده الاسلام، وعنايته بدين نبيه عليه السلام. وكانت القاهره قد زينت لدخول المظفر رحمه الله، والناس فى فرح عظيم. فلما اصبح الصباح، وانتظروا (17) الناس ان يكون الصباح للملك المظفر، فصبّحوا

(5) فتقرر. . .: من هنا إلى نهاية المجلد الثامن من «كنز الدرر» يوجد تشابه إلى حد ما مع ما ذكره مفضل بن أبى الفضائل فى كتابه «النهج السديد». وسوف يشير المحقق إلى مواضع التطابق عند الضرورة مستخدما مخطوطة باريس للنهج السديد (رقم 4525) وما نشره بلوشيه Blochet فى Patrologia Orientalis,vol .Xll,XIV,XX ومشيرا إلى ذلك بحرفى م ف (7) ولقب الملك: ولقب بالملك، م ف (8) قلعه الحجر: قلعة مصر، م ف (11) استادار: استادارا (17) وانتظروا: وانتظر

السلطان الملك الظاهر هدا فى القلعه. واما القاهره فلما طلع النهار لم يشعر الناس الا بمنادى ينادى: ترحموا على الملك المظفر، وادعوا للسلطان الملك الظاهر سلطانكم. فلحق الناس خوفا عظيما (4) من عودة البحريه؛ لما كانوا يعهدونه منهم من الجور والفساد. وكان الملك المظفر قد احدث (55) حوادث كثيره لاجل تحصيل الاموال لاجل العدو وتحريك التتار؛ منها تسقيع (6) الاملاك وتقويمها وزكاتها، وعن كل انسان دينار. فبلغ دلك فى كل سنه ستمايه الف دينار. فاطلقه لهم السلطان الملك الظاهر، وكتب به مسموحا (8)، وقرئ فى الجوامع على المنابر. فطابت قلوب الناس، وحمدوا الله عز وجل، وزادوا فى الزينة اكثر مما كانت. ولمّا اسفرت الليله التى وصل فيها السلطان الملك الظاهر الى القلعه المحروسه، عن يوم الاحد سابع عشر ذى القعده، جلس السلطان الملك الظاهر فى ايوان القلعه بدست المملكه الشريفه بالديار المصريه وما معها. وكتب الى الملك الاشرف صاحب حمص، والى الملك المنصور صاحب حماه، والى المظفر عثمان صاحب صهيون، والى الاسماعيليه، والى المظفر علا الدين بن الملك الرحيم بدر الدين لولو صاحب الموصل، والى الامير علم الدين سنجر الحلبى نايب دمشق، فانه كان قد استنابه بها الملك المظفر رحمه الله. ولما بلغ الامير علم الدين الحلبى دلك طمعت اماله فى الملك. فجمع من كان عنده من الامرا الذين رتبهم الملك المظفر بالشام مع اعيان الدماشقه، والزمهم بالأيمان له، فاجابوه الى دلك. فلما تم له تلقب بالملك المجاهد. وكتب الى النوّاب بالقلاع،

(4) خوفا عظيما: خوف عظيم (6) تسقيع: كذا بالأصل، فى م فى «تصقيع» (8) مسموحا: توقيعا، م ف

وطلب تسليمها. فمنهم من اجاب، ومنهم من امتنع. وبعث الى الاشرف صاحب حمص، والى المنصور صاحب حماه، والى الامرا العزيزيه بحلب يستميلهم اليه، ويرغبهم فى طاعته، واوعدهم الاحسان والاموال والاقطاعات. (56) وفى سادس شهر ذى الحجه من هده السنه خطب للسلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين (5) بيبرس البندقدارى على المنابر بدمشق، وذكر بعده الملك المجاهد. وكدلك ضربت سكه الدرهم والدينار بينهما جميعا. وكان لما تملك السلطان الملك الظاهر لقب نفسه الملك القاهر. وكان الوزير بمصر الصاحب زين الدين بن الزبير، وكان فاضلا، صاحب ادب وترسّل وتاريخ، عارف (8) بامور الناس، فاشار عليه ان يغيّر هدا اللقب، وقال: «ما لقب به احد فافلح، قد لقب به القاهر فى خلفا بنى العباس، فلم يكمل سنه حتى خلع وسمل، ولقب به القاهر بن (10) صاحب الموصل، فلم تطل ايامه حتى سم ومات». فغير بالظاهر. ولما ملك السلطان الملك الظاهر الديار المصرية، كان المظفر علا الدين بن بدر الدين لولو صاحب الموصل مستوليا فى دلك الوقت على حلب، فاسا (13) السيره، وظلم وعسف، وجبا من الحلبيين خمسين الف دينار. وكان بحلب يوميد الامير حسام الدين لاجين الجو كندار العزيزى. فاتفق من بها من الامرا العزيزيه والناصريه على قبض المظفر واستعاده ما اخده من الناس منه. فمسكوه، واعتقلوه فى قلعه شغر (16). وقدّموا عليهم الامير حسام الدين لاجين العزيزى، وفوّضوا اليه امورهم، ودلك فى سابع دى الحجه. وكان الامير حسام الدين لاجين العزيزى، قد اخد ادنا من الملك المظفر قطز -رحمه الله-وتوجه لاستخلاص ما كان له بحلب من الاموال والودايع التى كانت له

(5) ركن الدنيا والدين: بالأصل: «ركن الدين الدنيا والدين» (8) عارف: عارفا (10) بن: ابن (13) فاسا: فأساء--وجبا: وجبى. (16) شغر: فى الأصل «شغل»، فى ذيل مرآة الزمان لليونينى ج‍ 1 ص 374 «الثغر»

من ايام الملك الناصر. ولما اتفق ما اتفق، وهو يومئذ بحلب، اجمعوا (1) اهل حلب على تقديمه كماد كرناه. فكتب اليه الحلبى المنعوت بالملك (57) المجاهد بان يدخل تحت طاعته، ويخطب له بحلب، وان يكون نايبا له بها، ويزيده على اقطاعه زيادات كثيرة، فابا (3)، وقال: «انا نايب لمن ملك مصر». وفيها عادت التتار الى حلب يوم الخميس سادس عشر شهر ذى الحجه. فخرج منها الامير حسام الدين ومن معه من الامرا، فى بكره اليوم المدكور. وكان مقدم التتار بيدرا، فلما وصلوا حلب نادوا فى شوارعها وعلى الموادن (7) الامن والسلامه، واقرّوا اهلها فى منازلهم، وجعلوا فى البلاد الشحانى من قبلهم، واستمروا كدلك. واما الامرا الدين كانوا بحلب وخرجوا مع الامير حسام الدين لاجين المدكور، فانهم لما وصلوا الى اعمال حماه بعثوا الى الملك المنصور صاحبها يحذرونه (10) من التتار، وسيروا عليه باجتماع الكلمه. فظن ان دلك حيله عليه، فلما تحقق دلك، خرج اليهم ولحق بهم، وسار معهم الى حمص، ثم وصلت غاره التتار الى حماه. وكان فى تلك السنه غلاء عظيم بساير الشام فى جميع الاشيا، وبلغ الرطل الخبز درهمين. وفيها توفى الملك السعيد نجم الدين ايل غازى بن المظفر ناصر الدين ارتق صاحب ماردين. ولما اتصل بالتتار خبر وفاته، بعثوا الى ولده المظفر وطلبوه بالدخول تحت الطاعه. فبعث اليهم شخص (17) يسمى عز الدين بن الشماع، ليتعرف منهم ما اضمروه له.

(1) اجمعوا: أجمع (3) فأبا: فأبى (7) الموادن: المآذن (10) يحدرونه: يحذرونه (17) شخص: شخصا

فلما اجتمع بمقدميهم، وهما قطز نوين وجرموك (1)، فقالوا له ان بين الملك المظفر قرارسلان وبين هلاوون وعدا، ان والده متى مات، وتسلم الملك بعده ان يدخل تحت الطاعه. فقال لهم عز الدين بن الشماع: «هدا صحيح، لكن انتم اخربتم بلاده، وقتلتم رعيته، فباى شى يدخل تحت الطاعه، (58) ويدارى عنه». فقالوا: «علينا كلما يشتهى، ونحن نضمن له متى دخل تحت الطاعه وقام بوعده، وبلغ القان، عوّضه عن جميع دلك». فعاد عز الدين، وعرفه دلك. فاعاده [المظفر] يقول: «انا اسيّر رجل (7) من عندى الى هلاوون، وابعثوا لى رهاين تكون عندى الى ان يرجعوا (8) رسلى». واستقر الحال ان المقدم قطز نوين يبعث ولده، والمقدم جرموك يبعث ابن اخيه رهاين. فلما بعثوا الرهاين سيّر الملك المظفر قرا ارسلان نور الدين محمود ابن اخى الملك السعيد بركتخان. وتوجّه صحبته قطز نوين بنفسه، فوصلوا الى هلاوون، وادوه الرساله. فاجاب، وكتب لهم بدلك فرامين، وبعث معهم قصّاد (11) من جهته، ابقا (12) نور الدين عنده. وامر التتار بالرحيل عن ماردين، فرحلوا. ثم بعث هلاوون الرسل، وصحبتهم كوهداى، وهو من اكابر مقدميه. فوصل الى ماردين، وتقرر امر الصلح بينهم. واسلم كوهداى على يد المظفر، وزوجه اخته، واستقر عندهم.

(1) وجرموك: كذا فى الأصل، وورد الاسم «جرمون» فى مفضل P .O .، ج‍ 12 ص 72 والحاشية لبلوشيه، وفى اليونينى، ذيل مرآة الزمان، ج‍ 1 ص 378. (7) رجل: رجلا، فى م ف «رسلا» (8) يرجعوا: يرجع (11) قصاد: قصادا (12) ابقا: وأبقى

ذكر [حوادث] سنة تسع وخمسين وستمايه

ذكر [حوادث] سنة تسع وخمسين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الماء القديم خمسه ادرع وعشرون اصبعا. مبلغ الزياده سبع (3) عشر دراعا وثلثه عشر اصبعا. ما لخص من الحوادث لم يكن للمسلمين خليفه فيذكر فى هده السنه، بمقتضى تغلب التتار على بغداد. والسلطان الملك الظاهر ركن الدنيا (6) والدين بيبرس البندقدارى، سلطان الاسلام يوميد. والمتغلب على دمشق سنجر الحلبى الملقب الملك المجاهد. وصاحب حماه الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر. (59) وصاحب حمص الملك الاشرف المقدم ذكره مع هلاوون، استاد ازبك. وصاحب الكرك الملك المغيث بحاله. وحلب فى يد التتار المتغلبين عليها، [ومقدمهم بيدرا] (10). وصاحب ماردين الملك المظفر المقدم ذكره فى السنه الخاليه. وصاحب الموصل الملك الصالح بن الملك الرحيم بدر الدين لولو النورى. وملك التتار بممالك الشرق كله مع العراقين وبلاد العجم الى اخرها هلاوون، وجميع ملوك الاسلام بالشرق من تحت طاعته. وصاحب اليمن الملك المظفر بن رسول المقدم ذكره فى الجزء الدى قبله. وصاحب مكه -شرفها الله تعالى-أبو نمى حسبما ذكرناه من خبره من قبل. وصاحب المدينه-على ساكنها افضل الصلاه والسلام-جماز بن شيحه. وصاحب الهند السلطان غياث الدين المقدم ذكره فى الجزء الدى قبله. والغرب جميعه فى ايدى عده ملوك متفرقه، البعض من بنى عبد المومن، والبعض قد تغلبوا، كما جرا (18) للتتار من تغلبهم على البلاد.

(3) سبع: سبعة (6) ركن الدنيا والدين: فى الأصل «ركن الدين الدنيا والدين» (10) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (18) جرا: جرى

وفيها كانت كسره التتار على حمص. وسببها (1)، أن القول تقدم من العبد، انهم وصلوا فى السنه الخاليه بغارتهم الى حماه، وان الملك المنصور [صاحبها] (2) كان قد خرج مع الامرا العزيزيه والناصريه. فلما دخلت هده السنه وصلوا (3) التتار الى حمص، فوجدوا بها من كان من الامرا الحلبيين، والملوك، صاحب حماه، وصاحب حمص وهو الملك الأشرف-الدى ذكرناه-مظفر الدين موسى ابن بن (5) اسد الدين شيركوه -المقدم ذكره فى الجزء الدى قبله-، وعدّة من معهم الف واربع مايه فارس، وكانوا (6) التتار فى سته آلاف. فاستعان المسلمين (7) بالله عزّ وجلّ على قتالهم، وبايعوا الله تعالى بنيه خالصه، والتقوا معهم عند قبر خالد بن الوليد، رضى الله عنه. وحملوا عليهم (60) حمله رجل واحد. فنظر الله الى قلتهم وحسن يقينهم (9)، فاجاب دعاهم، وخدل عداهم، وانكسروا كسره عظيمه، وهرب بيدرا مقدمهم، ولم يلوى (10) على احد، ووقع فيهم السيف. وحكى عن الامير بدر الدين القيمرى قال: كنت فى الوقعه هده (12) مع الملك المنصور صاحب حماه. فرايت بعينى طيور بيض (13) وهى تضرب وجوه التتار باجنحتها. وكان النصر من الله تعالى، ويقال ان هده الوقعه كانت اعظم من وقعه عين جالوت، لكثره التتار وقله المسلمين. والدى سلم من التتار، فانهم عادوا الى حلب، واخرجوا من كان بها من الرجال والنساء، ولم يبق بها الا من ضعف عن الحركه فاختفا (17) خوفا على نفسه. ثم نادوا فيهم: «من كان من اهل حلب يعتزل». فلم يعلم الناس ما يراد بهم؛ فظن الغرباء أن النجاه لهم،

(1) وسببها: فى الأصل «سيها» (2) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (3) وصلوا: وصل (5) ابن بن: ابن ابن (6) وكانوا: وكان (7) المسلمين: المسلمون (9) يقينهم: نيتهم، م فى--وخدل: وخذل (10) يلوى: يلو (12) الوقعه هده: هذه الوقعة (13) طيور بيض: طيورا بيضا (17) فاختفا: فاختفى

وظن الحلبيين (1) أن النجاه لهم. فاعتزل جماعه من الحلبيين مع الغرباء، وجماعه من الغرباء مع الحلبيين. فلما تميّز الفريقين (2) اخدوا الغرباء، فضربوا رقابهم. وكان فيهم جماعه من اقارب الملك الناصر، ومن جملتهم امين الدين بن تاج الدين الحموى، والقاضى أسد الدين بن مسلم بن منير. ثم عدّوا من بقى من الحلبيين، وسلّموا كل طايفه الى رجل منهم ضمنوه اياهم. ثم ادنوا لهم فى العود الى البلد، واحاطوا بها، ولم يتركوا احدا يخرج منها، ولا يدخل إليها. واقاموا على دلك اربعه اشهر؛ فغلت الاسعار، وقلت الاقوات حتى بلغ الرطل اللحم سبعين درهما، ورطل اللبن خمسه عشر درهما، ورطل السكر مايه درهم، ورطل العسل النحل خمسين درهم (8)، ورطل الشراب سبعين درهم (9)، والجدى مايه درهم، والدجاجه عشره الدراهم، (61) والبيضه درهم ونصف (9_)، والبصله نصف درهم، والخسه (10) نصف درهم، وحزمه البقل درهم، والتفاحه خمسه الدراهم. واكات الناس الميته والجلود والنعال. وحكى عن بدر الدين ابن (12) الصرخدى التاجر، قال: كنت مقيما بحلب تلك الايام، وعندى اربع بقرات حلابات. فكنت احلب منهم كفايتى لاهلى، وابيع منهم (13) فى كل يوم بمايه واربعين درهم (14). وأعطيت فيهما سته الاف درهم، فأبيت، وابعت خمس نعاج وثلثه خراف بتسع مايه درهم، والدى شراهم (15) كسب فيهم مايتى درهم. وفيها كاتب السلطان الملك الظاهر للامرا (16) الدين كانوا مع الحلبى، فاجابوه وخرجوا من دمشق، وفيهم الامير علاء الدين البندقدار، وبها الدين بغدى الاشرفى. فتبععهم الحلبى بمن تبقى معه من الامرا والاجناد، وحاربهم فهزموه الى القلعه فدخلها وغلقها. ثم حمله الخوف الى ان خرج من القلعه فى تلك الليله، وطلب بعلبك. ودخل

(1) الحلبيين: الحلبيون (2) الفريقين: الفريقان (8) خمسين درهم: خمسين درهما (9) سبعين درهم: سبعين درهما (9_) درهم ونصف: درهما ونصفا (10) والخسه: والجبنة، م ف--البقل درهم: البقل درهما (12) ابن: بن (13) منهم: منها (14) واربعين درهم: وأربعين درهما--فيهما: فيها (15) شراهم: اشتراها--فيهم: فيها (16) للامرا: الأمراء

الامير علاء الدين البندقدار الى دمشق واستولى عليها، وعلى من (1) بجوارها من القلاع، وأعلن بشعار الملك الظاهر. وعاد نايبا له مده شهرين ثم عزل عنها، ووليها الحاج علاء الدين طيبرس الوزيرى. وعمل [طيبرس] على الحلبى ومسكه، وبعثه من ساعته صحبه الامير بدر الدين بن رحّال الى الديار المصريه، فأدخل على السلطان الملك الظاهر ليلا بقلعة الجبل. فقام اليه واعتنقه، واجلسه وعاتبه فى دلك، ثم عفا عنه، وخلع عليه، ورسم له بالخيل والبغال والجمال والقماش، وانعم عليه بجمله كبيره من المال. وفى يوم الاثنين ثامن ربيع الاول، فوّض الملك الظاهر امر الوزاره (62) وتدبير المملكه للصاحب بها الدين على بن محمد بن القاضى سديد الدين ابى عبد الله محمد بن سليم المعروف بابن حنّا، وخلع عليه. وركب فى خدمته جميع روسا مصر والقاهره، والامير سيف الدين بلبان الدوادار الرومى مخدومنا، فى خدمته مع جماعه كبيره من اعيان الامرا. وجلس [ابن حنا] للحكم فى دلك اليوم. وفيها قبض السلطان الملك الظاهر على جماعه من الامرا المعزيه؛ فانه حضر اليه جندى من اجناد الصيقلى، واخبره أنه فرّق ذهبا كثيرا على جماعه من خشداشيته، وقرر معهم قتل السلطان الملك الظاهر. والدى اتفق معه من الأمراء: علم الدين الغتمى، وسيف الدين بهادر المعزى، وشجاع الدين بكتوت، مع جماعة اخر. فقبض على الجميع. وفيها اخد السلطان الظاهر الشوبك من نواب الملك المغيث فتح الدين عمر. ودلك فى شهر ربيع الآخر. وفى هدا الشهر، قبض السلطان ايضا على الامير بها الدين بغدى الاشرفى. وحمل الى القاهره، واعتقل بالقلعه المحروسه، ولم يزل فى السجن حتى توفى به.

(1) من: ما

(1) [ومن ما يحكى من جمله سعاده السلطان الملك الظاهر انه لعب هده السنه بدمشق الاكره، وفى خدمته اثنى (2) عشر ملك من كبار ملوك الاسلام، وهم: الملك الصالح والملك المجاهد ولدى (3) بدر الدين لولو صاحب الموصل، واخوهما صاحب سنجار الملك المظفر، والملك الاشرف صاحب حمص، وعمه الملك الزاهد ابن (4) اسد الدين، والملك المنصور صاحب حماه واخوه الملك الافضل، والملك السعيد والملك المسعود اولاد الملك الصالح اسمعيل، والملك الامجد تقى الدين ابن (6) الملك العادل، والملك الأشرف من سبط الملك المسعود، والملك الأمجد وأخوته أولاد الملك الناصر داود. وهدا امر ما تم لملك قبله. وحكى ابن الاثير فى تاريخه (8) قال: ركب السلطان صلاح الدين يوسف ابن ايوب رحمه الله فى بعض الايام فقصده (9) رجل كان فى خدمته من ابناء الملوك السلجوقيه، وعدل ثيابه رجل من بيت أتابك. فرآه فقال: «ما بقيت تبالى بعدها بالموت يا بن ايوب (10)، سلجوقى يقصدك (11)، واتابكى يعدل الى ثيابك». فاين هدا من ما جرى للملك الظاهر مما ذكرناه] (12). وفيها رحل التتار عن حلب. وسبب دلك ان السلطان الملك الظاهر كان جهّز فى العشر الاول من ربيع الاخر الامير فخر الدين ألطنبا الحمصى، والامير حسام الدين لاجين الجوكندار، والامير حسام الدين العنتابى، فى جيش ثقيل ليرحّل التتار عن حلب. فلما وصلوا الى غزه، كتبوا (16) الفرنج من عكا الى التتار يخبروهم بخروج العساكر اليهم.

(1 - 12) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش، انظر أيضا مختارات من كتاب الروض الزاهر فى سيرة الملك الظاهر لمحيي الدين بن عبد الظاهر فى) Sadeque,Baybars l of Egypt ط. داكا، باكستان 1956) ص 47 - -ومن ما: ومما (2) اثنى: اثنا--ملك: ملكا (3) ولدى: ولدا (4) ابن: بن (6) ابن: بن (8) تاريخه. . .: انظر ابن الأثير، الكامل فى التاريخ (ط. بيروت 1966) ج‍ 12، ص 76 - 77 - -ابن ايوب: بن أيوب (9) فقصده: فى ابن الأثير وابن عبد الظاهر «فعضده» (10) بن ايوب: ابن أيوب (11) يقصدك: فى ابن عبد الظاهر «يعضدك» --الى: -فى الروض الزاهر--ثيابك: فى الأصل «تابك» --من ما: مما (16) كتبوا: كتب--يخبروهم: يخبرونهم

فرحلوا عن حلب فى اوايل شهر جمادى الاولى. وتغلب على حلب جماعه من شطارها، فقتلوا ونهبوا، ونالوا اغراضهم ممن كان فى صدورهم منه حقد وحسيفه. (63) فلما وصل اليها الامرا المدكورين (3)، خرجوا منها تلك الشطار هاربين. ثم ان الامرا صادروا اهلها، واستخرجوا منهم ألف الف درهم وستمايه الف درهم بيروتيه. واقام بها الامير حسام الدين لاجين الجوكندار [والامير فخر الدين] (5) حتى وصل الامير شمس الدين البرلى فى شهر جمادى الآخره. فخرج اليه الامير فخر الدين ألطنبا يلتقيه، وظنّ انه اتاه نجدة له. وكان البرلى قد خرج من دمشق هاربا لما علم بقبض الامير بها الدين بغدى، فتحقق انه يقبض عليه معه. فلما دخل حلب طمعته نفسه ان يغلب عليها. فخافه الامير فخر الدين لما اشتم خبره، فعمل فى الحيله على الخلاص منه، وطلب السفر الى السلطان ليتوسط له عنده ويستميله اليه، فمكّنه من دلك. فلما خرج اخد البرلى ايضا فى مصادرة الحلبيين وعقوبة من كان فى صحبه الامير فخر الدين. وامّر الامريات، واقطع الاقطاعات. ووفد عليه الامير زامل ابن على بن حديثه فى اصحابه، ففرّق عليهم تسعه آلاف (13) مكوك مما احتاط عليه من الغلال التى كانت مخزونه بحلب، وفرّق فى التركمان اربع (14) آلاف مكوك. وتغلب بحلب، وظن بنفسه ما ظنه غيره. وفيها وصل المستنصر بالله الى القاهره. وكان هدا المستنصر محبوسا ببغداد مع جماعه من بنى العباس فى ايام الخلفا. فلما ملك التتار اطلقوهم، فسار هدا الى عرب العراق، واختلط بهم. فلما ملك السلطان الملك الظاهر وفد عليه مع جماعه من بنى مهارش، وهم عشره نفر تقدمهم الامير ناصر الدين مهنا. فركب السلطان

(3) المدكورين: المذكورون--خرجوا: خرج--تلك: هؤلاء (5) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (13) تسعه آلاف: سبعة آلاف، م ف (14) اربع: أربعة

والتقاه، وصحبته الصاحب بها الدين ابن (1) حنا، والقضاه والعدول، والنصارا بالانجيل، واليهود بالتوراه، وكان يوما مشهودا. (64) ودلك يوم الخميس-وقيل يوم الاثنين- ثالث عشر شهر رجب الفرد من هده السنه. وجلس السلطان الملك الظاهر بالايوان والقبه، والخليفه الى جانبه، واحضر القضاه والصاحب [بهاء الدين]، وجميع ارباب المناصب، وقروا (5) نسبة الخلافه على القاضى تاج الدين، وشهدوا على دلك بالصحه، وحكم به. ثم مدّ [تاج الدين] يده اليه، وبايعه، وبايعه السلطان والصاحب، ثم الامرا على طبقاتهم. فلما كان مستهل شعبان امر بعمل خلعه سودا، وطوق ذهب، وقيد دهب. وكتب تقليدا عظيما بسلطنه السلطان الملك الظاهر، ونصب الدهليز بظاهر القرافه. وركب الخليفه والسلطان الملك الظاهر، والوزير، ووجوه الدوله، وساير الجيش. وانزل السلطان فى الدهليز، ولبس الخلعه السودا وطوّق وقيّد، ودلك يوم الاثنين رابع شعبان المكرم. وصعد القاضى فخر الدين بن لقمان-وهو يوميد صاحب ديوان الانشاء-على منبر، وقرا دلك التقليد، وهو بخطه وانشايه، فكان ما هدا نسخته: «بسم الله الرّحمن الرّحيم. الحمد لله الذى أضفا (15) على الاسلام ملابس الشرف، وأظهر بهجة درره، وكانت خافية بما استحكم عليها من الصدف، وشيّد ما وهى من علايه حتى أنس (17) ما سلف، وقيّض لنصره ملوكا اتفق عليهم من اختلف،

(1) ابن: بن--والنصارا: والنصارى (5) وقروا: وقرأوا (15) أضفا: أضفى، فى المقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 453، «اصطفى» (17) أنس ما سلف: فى ابن عبد الظاهر (ed .Sadeque) ص 37، واليونينى، ذيل مرآة الزمان، ج‍ 1 ص 443 وج‍ 2 ص 98، والمقريزى ص 453 «أنسى ذكر ما سلف» --عليهم: فى ابن عبد الظاهر والمقريزى «على طاعتهم»

أحمده على نعمه التى تسرح (1) الأعين منها فى الروض الانف، وألطافه التى وقف عليها الشكر فليس له عنها منصرف. وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شهادة توجب فى المخاوف أمنا، وتسهل من الأمور من كان حزنا. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذى جبّر من الدين ما وهنا، وأظهر من المكارم (65) فنونا لا تفنا (4)، صلّى الله عليه وعلى آله الذين أضحت مناقبهم باقية لا تفنا (5)، وأصحابه الذين أصبحوا فى الدنيا فاستحقوا الزيادة من الحسنى، وسلم تسليما. وبعد فإن أولى الأوليا بتقديم ذكره، وأحقهم من يصبح القلم راكعا وساجدا فى تسطير مناقبه وبره، من سعى فاضحى بسعيه للحمد متقدما، ودعا الى طاعته فاجابه من كان منجدا او متهما، وما بدت يد المكارم (9) إلا كان لها يدا ومعصما، ولا استباح بسيفه حما وغا (10) الاّ أضرمه نارا وأجراه دما. ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصة بالمقام العالى المولوى السلطانى الملكى الظاهرى الركنى شرفه الله وأعلاه، ذكرها الديوان العزيز النبوى (12) [الامامى المستنصرى أعزّ الله سلطانه،] (13) تنويها بشريف قدره، واعترافا بصنعه اليه الذى. . . (14) لا يقوم العباد بشكره، وكيف لا وقد أقام الدولة العباسية بعد أن أقعدتها زمانة الزمان، وأذهبت ما كان لها من محاسن الإحسان، وعتّب دهرها المسئ [لها] (15) فأعتب،

(1) تسرح: فى ابن عبد الظاهر ص 37، والمقريزى ص 453، «رتعت» (4) تفنا: تفنى، فى ابن عبد الظاهر، واليونينى ج‍ 1 ص 444 وج‍ 2 ص 99، والمقريزى «فنا» (5) تفنا: تفنى (9) يد المكارم: فى ابن عبد الظاهر واليونينى والمقريزى «يد من المكرّمات» --يدا: فى ابن عبد الظاهر واليونينى والمقريزى «زندا» (10) حما وغا: حمى وغمى (12 - 13) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن عبد الظاهر ص 37 (14) الذى. . . بشكره: فى ابن عبد الظاهر ص 37 واليونينى ج‍ 1 ص 444 ج‍ 2 ص 99 والمقريزى ص 454 «الذى تنفد العبارة المبهة ولا تقوم بشكره» (15) اضيف ما بين الحاصرتين من ابن عبد الظاهر ص 37

فأرضا (1) عنها زمنها وقد كان صال عليها صولة مغضب. وأعاد إليها سلما بعد أن كان عليها حربا، وصرف إليها اهتمامه فرجع كل مضيق من أمرها واسعا رحبا. ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنوا وعطفا، وأظهر له من الولاء رغبة فى ثواب الله ما لا يخفا (4). فأبدى من الاحتفال بأمر الشريعة والبيعة أمرا لو رامه غيره لا متنع عليه، ولو تمسك بحبله متمسك لا نقطع به قبل الوصول اليه. لكن الله ادّخر هذه الحسنة ليثقل بها ميزان ثوابه، ويخفف بها يوم القيمة (6) حسابه. فالسعيد من خفف من حسابه. فهذه نعمة (7) أبى الله إلاّ أن يخلدها فى صحيفة صنعه، (66) ومكرمة [قضت] (8) لهذا البيت الشريف النبوى بجمع شمله بعد أن حصل الإياس من جمعه. وأمير المؤمنين يشكر الآن (9) هذه الصنايع، ويعترف ان لولا اهتمامك بأمره لا تسع الخرق على الراقع. وقد قلدك الديار المصرية، والبلاد الشامية، والديار البكرية، والجزيرية، والحجازية، واليمنيه [والفراتية] (11)، مع ساير ما يتجدد من الفتوحات غورا ونجدا. وفوّض أمر جندها ورعاياها إليك حين أصبحت بالمكارم فردا، وما جعل منها بلد (13) من البلاد ولا حصن من الحصون مستثنا، ولا جهة من الجهات تعدوا (14) فى الأعلا ولا الأدنا. فلاحظ أمور الأمة فقد أصبحت لثقلها حاملا، وخلص نفسك اليوم من التبعات ففى غد تكون مسؤل (16) عنها لا سايلا، ودع الاغترار بأمر الدنيا فما نال أحد منها

(1) فارضا: فأرضى (4) يخفا: يخفى--الاحتفال: فى ابن عبد الظاهر ص 37، والمقريزى ص 454 «الاهتمام» (6) يوم القيمة: يوم القيامة (7) نعمة: فى ابن عبد الظاهر ص 38، واليونينى ج‍ 1 ص 445 وج‍ 2 ص 100، والمقريزى ص 454 «منقبة» (8) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن عبد الظاهر ص 38 (9) الآن: فى ابن عبد الظاهر ص 38، والمقريزى ص 454 «لك» --ان: أنه (11) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن عبد الظاهر ص 38، والمقريزى ص 454 (13) بلد: بلدا--حصن: حصنا-- مستثنا: مستثنى (14) تعدوا: تعد--الأعلا: الأعلى--الأدنا: الأدنى (16) مسؤل: مسئولا

طايلا، وما لحظها أحد بعين الحق إلاّ رآها خيالا زايلا. فالسعيد من قطع منها آماله الموصولة، وقدم لنفسه زاد التقوى، فتقدمة غير زاد التقوى لا مقبولة (2). وابسط يدك بالإحسان والعدل، فقد أمر الله بالعدل والإحسان، وكرر ذلك فى مواضع كثيرة من القرآن. وكفّر به عن المرء ذنوبا كتبت عليه وآثاما، وجعل يوما واحدا منه كفارة (5) ستين عاما. وقد سلكت سبيل ذلك وأحييت ثماره من أفنان، ورجع الأمر (6) [به بعد] بعد تداعى اركانه مشيد الاركان، وتحصن به من حوادث [زمانه والسعيد من تحصن من حوادث] الزمان، فكانت أيامه فى الأيام أبها (7) من الأعياد، وأحسن [فى العيون] من الغرر فى وجوه الجياد، وأحلى من العقود اذا حلّى بها عطل الأجياد. وهذه الاقاليم المنوطة بنصرك الكريم تحتاج الى [نواب و] (10) حكام، وأصحاب نظر ورأى من أرباب السيوف (67) والأقلام. فإذا استعنت بأحد منهم فى أمورك فنقب عليه تنقيبا، واجعل عليه فى تصرفاته رقيبا، *وسل عن أحواله، ففى يوم القيمة (12) تكن عنه مسؤلا وبما اجترح (13) مطلوبا؛ ولا تولى منهم إلاّ من تكون مساعيه حسنات لك لا ذنوبا. وامرهم بالأناة فى الأمور والرفق، ومخالفة الهوى اذا ظهرت أدلة الحق، وأن يقابلوا الضعفا فى حوايجهم بالثغر الباسم والوجه الطلق. وأن لا يعاملوا أحدا على الاحسان والإساءة إلاّ بما يستحق؛ وأن يكونوا لمن تحت أيديهم

(2) غير زاد التقوى لا مقبولة: فى ابن عبد الظاهر ص 38، واليونينى ج‍ 1 ص 445 وج‍ 2 ص 100، والمقريزى ص 455 «غير التقوى مردودة لا مقبولة» (5) كفارة: فى ابن عبد الظاهر والمقريزى «كعبادة العابد» --وقد. . . ثماره: فى ابن عبد الظاهر ص 38، واليونينى ج‍ 1 ص 446 وج‍ 2 ص 100، والمقريزى ص 455 «وما سلك أحد سبيل العدل إلا اجتنيت ثماره» (6 - 10) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن عبد الظاهر ص 38 (7) أبها: أبهى (12) يوم القيمة: يوم القيامة (13) اجترح: فى ابن عبد الظاهر ص 39، والمقريزى ص 455 «أجرم»؛ وفى اليونينى ج‍ 1 ص 446 وج‍ 2 ص 100 «اجترم» -- تولى: تول

من الرعية إخوانا، وأن يوسعوهم برّا وإحسانا، وأن لا يستحلوا حرماتهم إذا استحل لهم الزمان حرمانا، فالمسلم أخو المسلم وإن كان عليه أميرا أو سلطانا. فالسعيد من نسج ولاته فى الخير على منواله، واستّن سنته فى تصرفاته وأحواله، وتحمل عنه ما تعجز قدرته عن حمل اثقاله. ومما يؤمرون به أن يحلوا (4) من سيئ السنن ما أحدث وجدد من المظالم التى هى أعظم المحن، ويشترى بابطالها المحامد فإن المحامد رخيصة الثمن. ومهما جبى منها من الأموال فإنها باقية وإن كانت حاصلة (6)، واجياد الخزاين وإن أصبحت بها حالية فانّما هى على التحقيق (7) عاطلة. وهل أشقا ممن احتقب إثما، واكتسب بالمساعى الذميمة ذما، وجعل السواد الأعظم يوم القيمه (8) له خصما، وتحمل ظلم العبّاد ممّا صدر عنه من اعماله {وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} (9). وحقيق بالمقام [الشريف] (10) السلطانى الملكى الظاهرى الركنى أن تكون ظلامات الانام مردودة بعدله، وعزايمه تخفف عن الخلايق ثقلا لا طاقة له بحمله. فقد أضحى على الاحسان قادرا، (68) وخضعت (12_) له الأيام ما لم تصنعه ل‍ (12) [‍غيره م‍] ممن تقدم من الملوك وان جا آخرا. فاحمد الله على أن وصل إلى جنابك إمام الهدى وأوجب لك [مزية] (14) التعظيم، وينبّه الخلايق على ما حصل (14_) الله به [من] هذا الفضل العظيم. وهذه أمور ينبغى أن تلاحظ وترعا (15)، وأن يوالى عليها حمد الله فإن الحمد يجب عليها عقلا وشرعا، وقد تبيّن انك صرت فى الأمور أصلا وصار غيرك فرعا.

(4) يحلوا: فى ابن عبد الظاهر ص 39، واليونينى ج‍ 1 ص 447 وج‍ 2 ص 101، والمقريزى ص 455 «يمحى» (6) وإن كانت حاصلة: فى ابن عبد الظاهر والمقريزى «فى الذمم حاصلة» (7) على التحقيق: فى ابن عبد الظاهر والمقريزى «على الحقيقة منها» -- أشقا: أشقى (8) يوم القيمة: يوم القيامة (9) القرآن 20:111 (10) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن عبد الظاهر ص 39 (12_) وخضعت: فى ابن عبد الظاهر ص 39، واليونينى ج‍ 1 ص 447 وج‍ ص 102، والمقريزى ص 456 «صنعت» (12 - 14) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن عبد الظاهر ص 39 (14_) حصل: خصك (15) وترعا: وترعى

ومما يجب [أيضا] (1) تقديم [ذكره أمر] الجهاد الذى أضحى على الأمّة فرضا، وهو العمل الذى تصبح به سود (2_) الصحايف مبيضّا. وقد وعد (2) [الله] المجاهدين بالأجر العظيم، وأعد لهم عنده المقام الكريم، وخصهم بالجنة [التى] (3) {لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ} (4). وقد تقدمت لك فى الجهاد يد بيضا أسرعت فى سواد الحسّاد، وعرف منك عرفة (5) هى أمضى مما تحت ضماير الأغماد، واشتهرت لك مواقف فى القتال هى أبهى وأشهى إلى القلوب من الأعياد. وبك صان الله حمى الإسلام من أن يتبدّل، وبعزمك حفظ على المسلمين نظام هذه الدول، وبسيفك الذى أثر فى [قلوب] (7) الكافرين قروحا لا تندمل، وبك يرجى أن يرجع مقر الخلافة المعظمة إلى ما كان عليه فى الزمان الأول. فأيقظ لنصرة الإسلام جفنا ما كان قط هاجعا (9)، وكن فى مجاهدة أعداء الله إماما متبوعا لا تابعا، وأيّد كلمة التوحيد فما تجد فى تأييدها إلا مطيعا سامعا. ولا تخل الثغور من اهتمام بأمرها تبتسم (12) [له] الثغور، واحتفال يبدّل ما دجا (12_) من ظلماتها بالنّور. وأجعل أمرها على الأمور مقدما، وسدّ (13) منها [كل] ما غادره العدو متداعيا متهدما؛ فهذه حصون [بها] (14) يحصل (69) الانتفاع، وبها تختم الاطماع، وهى على العدو داعية افتراق لا اجتماع. ولولاها (15) بالاهتمام لما كان البحر لها مجاورا، والعدوّ إليها

(1) أضيف ما بين الحاصرات من ابن عبد الظاهر ص 40. (2_) سود: فى ابن عبد الظاهر ص 40، واليونينى ج‍ 1 ص 446 وج‍ 2 ص 102، والمقريزى ص 456 «مسودّ» (2 - 3) أضيف ما بين الحاصرات من ابن عبد الظاهر ص 40. (4) القرآن 52:23 (5) عرفة. . . مما تحت: فى ابن عبد الظاهر ص 40، واليونينى ج‍ 1 ص 448 وج‍ 2 ص 102، والمقريزى ص 456 «عزمة هى أمضى مما تجنه» (7) أضيف ما بين الحاصرات من ابن عبد الظاهر ص 40. (9) قط هاجعا: فى ابن عبد الظاهر ص 40، واليونينى ج‍ 2 ص 103، والمقريزى ص 456 «غافيا ولا هاجعا» (12 - 14) أضيف ما بين الحاصرات من ابن عبد الظاهر ص 40. (12_) دجا: دجى (13) وسد: وشيد (15) ولولاها. . . لما: وأولاها. . . ما.

شزرا ناظرا، لا سيما ثغور الديار المصرية، فإن العدو كان وصل اليها رابحا ورجع خاسرا، واستأصلهم الله فيما مضى (2) حتى ما أقال منهم عاثرا. وكذلك الاصطول (3) الذى [ترى] خيله كالأهلّة، وركايبه [سابقة] بغير سايق مستقلة. وهو أخو الجيش السليمانى: فان ذلك عدت (4) له الرماح حاملة، وهذه تكفلت بحمله المياه السايلة. فإذا لحضها (5) الطرف سايرة فى البحر [كانت] كالاعلام، وإذا شبهها قال هذه ليال تقلع فى أيام. وقد سنا (7) الله لك من السعادة كل مطيب، وأتاك من أصالة الرأى الذى يريك المغيب، وبسط بعد القبض منك الأمل، ونشط من السعادة ما كان من كسل، وهداك إلى مناهج الحق وما زلت مهتديا إليها، وألهمك (9) المراشد ولا تحتاج إلى تنبيها عليها. والله تعالى يؤيدك بأسباب نصره، ويوزعك شكر نعمته، فإن النعم تستّم بشكره عنه وكرمه». ولما تمت البيعه أخد السلطان فى تجهيز الخليفه الى بغداد، ورتب له الطواشى بها الدين صندل الصالحى شرابيا، والامير سابق الدين بوزبا الصيرمى (13) اتابكا، والسيد الشريف شهاب الدين (14) جعفر استاددارا، والامير فتح الدين بن الشهاب احمد امير جاندارا، والامير ناصر الدين بن صيرم خازن دارا، والامير سيف الدين بلبان

(2) فيما مضى: فى ابن عبد الظاهر ص 40، واليونينى ج‍ 1 ص 448 وج‍ 2 ص 103، والمقريزى ص 457 «فيها» (3) الاصطول: الاسطول--أضيف ما بين الحاصرتين من ابن عبد الظاهر ص 40 (4) عدت له الرماح: غدت له الرياح (5) لحضها: لحظها-- أضيف ما بين الحاصرتين من ابن عبد الظاهر ص 40 (7) سنا: سنى--مطيب: فى ابن عبد الظاهر ص 40، واليونينى ج‍ 1 ص 449 وج‍ 2 ص 103، والمقريزى ص 457 «مطلب» (9) وألهمك: فى ابن عبد الظاهر ص 41، والمقريزى ص 457 «وألزمك» --تنبيها: تنبيه (13) بوزبا الصيرمى: فى م ف «أبو زبا الصيرفى»، انظر حاشية رقم 1 لبلوشيه فى P .O .Xll p .38 (14) شهاب الدين: فى المقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 458 «نجم الدين»

ذكر نسبة الفتوة

الشمسى وفارس الدين احمد بن ازدمر اليغمورى دواداريه، والقاضى كمال الدين محمد بن عز الدين السنجارى وزيرا، (70) وشرف الدين ابا حامد كاتبا. واخرج معه خزانه وسلاح خانه ومماليكا (3) جمداريه، وارباب وضايف عده اربعين نفرا. وامر له بمايه فرس، وعشر (4) قطر بغال وعشر قطر جمال، وفرشخاناه وطشتخاناه وشربخاناه، واماما ومودنا (5). وكتب لمن وفد معه من العراق تواقيعا باقطاعات، وادن له فى الركوب والحركه حيث شاء وانا (6) اراد. ثم تجهز السلطان فى هده السنه الى الشام، فبرز الدهليز المنصور تاسع عشر رمضان المعظم. ورغب السلطان فى لباس الفتوّه، فالبسه [الخليفة] (8) قبل سفره. ذكر نسبة الفتوة من الامام على بن ابى طالب-كرّم الله وجهه-، لسلمان الفارسى، لعلى النوى (10)، للحافظ الكندى، لعوف العتائى (11) لابى العز النقيب، لابى مسلم الخرسانى، لهلال البنهافى (12)، لجوشن الفزارى، للامير حسان، لابى الفضل، للقايد شبل، لفضل الرقاشى، لابى الحسن النجار، للملك ابى كنجار (13)، لوزيره الفارسى، للامير وهزان، للقايد عيسى، لمهنّا العلوى، لعلى (14) الصوفى، لمعمر بن البن، لابى القسم بن جنه،

(3) ومماليكا: ومماليك--وضايف: وظائف (4) عشر: عشرة (5) ومودنا: ومؤذنا-- تواقيعا: تواقيع (6) انا: أنى (8) أضيف ما بين الحاصرتين من المقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 459 (10) لعلى النوى: كذا فى الأصل؛ فى ابن واصل، مفرج الكروب (مخطوطة باريس رقم 1702) ق 412 «لأبى على المولى»؛ فى م ف «لعلى النونى» (11) العتائى: فى ابن واصل «الغسانى» (12) البنهافى: فى اليونينى، ذيل مرآة الزمان، ج‍ 1 ص 450، وفى م ف «النبهانى» --شبل: فى ابن واصل «شبل بن المكرم»، وفى م ف «شبل بن المكارم» (13) كنجار: كذا فى الأصل وفى م ف؛ فى ابن واصل «كنجيار» --لوزيره: فى ابن واصل واليونينى «لروزبه» وفى م ف «لزويره» (14) لعلى: فى ابن واصل «لأبى على» --جنه: كذا فى الأصل وفى ابن واصل؛ فى م ف «حنا»

لنفيس (1) العلوى، لبقا بن الطباخ، لحسن بن السربار، لابى بكر بن الخميس، لعمر بن الرصاص، لعبد الله بن القير، لابن دغيم، لعبد الله الجبّار، للامام الناصر، لولده الظاهر، للامام المستنصر بالله امير المومنين، للسلطان الملك الظاهر. وفيها خرج الملك الصالح اسماعيل بن بدر الدين لولو صاحب الموصل من جميع ملكه ولم يتبعه شى. وسبب دلك خوفا (5) من التتار، فانهم كانوا شرعوا يختلقوا له دنوبا يريدون بدلك القبض عليه. فاستشعر منهم الغدر، فخرج ووصل الى قرقيسيا (6)، وكتب الى اخيه الملك المجاهد (71) سيف الدين اسحق-وكان بالجزيره العمريه-فخرج ايضا اليه، وتبعه بعد وصول الملك الصالح اسماعيل الى الديار المصريه لخدمه السلطان الملك الظاهر، ودلك فى اواخر شهر رجب. وخرج السلطان اليه والتقاه واكرمه واحترمه وانعم عليه بمال. ثم وصل اخوه الملك المجاهد فى الثانى من شهر رمضان، فخرج اليه ايضا وفعل معه من الجميل كفعل أخيه، ورتب لهما ولمن معهما الرواتب الحسنه، واقطعهما الاقطاعات الجياد. وفيها تزوج الامير بدر الدين الخزندار باختهما باشاره السلطان لهما فى دلك. ولما كان التاسع عشر من رمضان، خرج السلطان الملك الظاهر من القاهره المحروسه وصحبته الخليفه. وجعل النايب بالديار المصريه الامير عز الدين الحلى، ووصل الى دمشق المحروسه، ونزل السلطان القلعه، ونزل الخليفه جبل قاسيون فى التربه الناصريه. ثم بعد ذلك وصل الملك الاشرف صاحب حمص والملك المنصور صاحب حماه، فاكرمهما السلطان، واحسن اليهما، وكتب لهما تواقيعا (18) بما فى ايديهما، وزاد الاشرف تل باشر.

(1) لنفيس: كذا فى الأصل وفى م ف، فى ابن واصل «للعس» --السربار: فى ابن واصل «الساربار»، فى اليونينى «الساربا»؛ فى م ف «الشرابدار» -- الخميس: فى ابن واصل واليونينى وم ف «الجحيش» (5) خوفا: خوف (6) قرقيسيا: فى الأصل «قرقيسا» (18) تواقيعا: تواقيع (6 - 8)

وفى ثالث عشر ذى القعده سافر الخليفه بمن تبعه نحو العراق، وصحبته الملوك اولاد صاحب الموصل، فنزلوا على الرحبه، فوافوا عليها الامير على بن حديثه (2) من آل فضل فى اربع مايه فارس من العرب، وفارقوه (3) أولاد صاحب الموصل من الرحبه، وكان قد التمس توجّههم صحبته، فقالوا: «لم يكن معنا من السلطان مرسوم بدلك». فاستمال الخليفه جماعه من مماليك ابيهما نحو ستين نفر (5)، فانضافوا اليه. ولحقهم على الرحبه الامير عز الدين بركه وصحبته ثلثين (6) فارسا. ثم رحل (72) الخليفة بجميع من اجتمع اليه ونزل مشهد علىّ عليه السلام، فاتاه هناك الامام الحاكم بأمر الله، وقيل انه وصل اليه وهو على عانه نازلا. وكان الحاكم فى سبع مايه فارس من التركمان، كان الامير شمس الدين البرلى قد جهزهم معه من حلب. فبعث الخليفه المستنصر واستمال التركمان اليه، فلما جاوزوا الفراه (10) فارقوا الحاكم واتوا الى المستنصر. ثم بعث المستنصر الى الحاكم يطلبه ويؤمّنه على نفسه، ورغّب اليه فى اجتماع الكلمه على اقامه الدوله العباسيه، ولاطفه وساسه، فاجاب الى دلك ورحل اليه. ووفا (13) له المستنصر وانزله عنده فى دهليزه. وكان الحاكم لما نزل على عانه امتنع اهلها عليه وقالوا: «انه قد اتصل بنا ان السلطان صاحب مصر قد بايع خليفه وهو واصل، فلا نسلمها الاّ اليه». فلما وصل المستنصر نزل اليه واليها وناظرها، وسلموها له، وحملوا له الاقامات، واقطعها للامير ناصر الدين غلمش اخو (17) الامير علم الدين سنجر الحلبى، وهو احد من كان معه من الأمرا. ثم رحل [الخليفة] عنها الى حديثه، فلما وصل اليها فتحوا له ودانوا له بالطاعه، فجعلها خاصا له.

(2) حديثه: فى اليونينى، ذيل مرآة الزمان، ج‍ 1 ص 454، والمقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 462 «حذيفة» (3) وفارقوه: وفارقه (5) نفر: نفرا (6) ثلثين: ثلاثون (10) الفراه: الفرات (13) ووفا: ووفى (17) اخو: أخى

وكان ببغداد من نواب التتار اثنين (1)، احدهما يسمى قرابنا والاخر بهادر، وكان الشحنه علىّ الخوارزمى، وعندهم خمسه آلاف من المغل. وكان لعلىّ الخوارزمى الشحنه ولدا (3) يسمى محمد قجاه، فسيره الى هيت متشوفا لما يرد من اخبار الخليفه لما بلغهم انه متوجها (4) اليهم، وقرر مع ولده انه ادا وصل بالقرب منه بعث المراكب الى الشط الاخر واحرقها. فلما وصل الخليفه المستنصر الى هيت غلقوا (6) اهلها الباب دونه، فنزل عليها وحاصرها (73) وفتحها، ودخل اليها فى اخر ذى الحجه، ونهب من كان فيها من اليهود والنصارا (8)، ثم رحل عنها فنزل الدور، وبعث طليعة من عسكره مقدمها الامير اسد الدين محمود نايبا عن الامير سابق الدين ابو زبا (9) الصيرمى، وبات بجانب الانبار تلك الليله وهى ليله الاحد. فلما راى قرابغا الطليعه امر لمن معه من العساكر العبور اليهم فى المخايض، فلما اسفر الصبح افرد قرابغا من كان معه من عسكر بغداد خوفا لا (12) يكونوا عليه. ورتب الخليفه اثنا عشر طلبا، فعمل العرب والتركمان ميمنه وميسره، وباقى العساكر قلبا. ثم حمل [الخليفه] بنفسه مبادرا، وحمل من كان معه من العرب والتركمان، فكسروا بهادر، ووقع بعض عسكره الما (14). ثم خرج كمينا للتتار، فلما راوه (15) العرب والتركمان هربوا، واحيط بعسكر الخليفه، ووقع القتال. ثم افرجوا للخليفه فخرج فى عشره نفر وهم: الامام الحاكم، وناصر الدين [بن] (16) مهنا، وابن صيرم، وسابق الدين ابو زبا، وبلبان الشمسى، واسد الدين محمود، وجماعه من الاجناد نحو من خمس (18) نفر. وقتل نجم الدين وفتح الدين بن اليغمورى، ولم يظهر احد،

(1) اثنين: اثنان (3) ولدا: ولد (4) متوجها: متوجه (6) غلقوا: غلق (8) والنصارا: والنصارى (9) ابو زبا الصيرمى: أبو زبا الصيرفى، م ف؛ انظر ما سبق ص 79:13 حيث ورد الاسم «بوزبا الصيرمى» (12) لا: أن--اثنا: اثنى (14) الما: كذا فى الأصل وم ف، والمقصود «فى الماء» --كمينا: كمين (15) راوه: رآه (16) أضيف ما بين الحاصرتين من المقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 467 (18) خمس: خمسة

بعدها، للخليفه المستنصر على خبر، ولا علم اى ارض اخدته، فمنهم من ادّعى انه لم يزل يقاتل حتى قتل فى المعمعه، ومنهم من قال: خرج ونجا مجروحا فمات، وجمله الحال انه عدم والله اعلم. وفيها توجه الملك المظفر قر ارسلان صاحب ماردين الى خدمه هلاوون، وصحبته هديه سنيه؛ من جملتها باطيه بجوهره قيمتها اربعه وثمانين (5) الف دينار. واجتمع [هلاوون] به وا كرمه ثم قال له: «بلغنى ان اولاد صاحب الموصل هربوا الى مصر، وانا اعلم ان (74) اصحابهم كانوا السبب فى خروجهم الى مصر، فدع اصحابك الدين وصلوا معك عندى، فانى لا آمنهم ان يحرّفوك عنى ويرغّبوك فى رواحك عن بلادك الى مصر». فانعم له بدلك قهرا، وما صدق بخلاص نفسه، ثم انفصل عنه عايدا الى بلاده. فلما كان فى اثناء الطريق لحقته رسل هلاوون يامرونه بالعوده، فعاد اليه وفرايصه ترعد خوفا منه. فقال له: «ان اصحابك اخبرونى انك تريد الرواح الى صاحب مصر، وقد رايت ان يكون عندك من جهتى من يمنعك عن دلك». ثم جهّز معه أمرا يقيمون عنده وزاده نصيبين والخابور، وامر ان يهدم شراريف القلعه. ولما فارقه ضرب ارقاب (14) جميع اصحابه، وكانوا سبعين نفرا، منهم: الملك المنصور ناصر الدين ابن (15) ارتق ابن الملك السعيد، ونور الدين محمد، واسد الدين البختى، وحسام الدين عزيز، وفخر الدين الحاجرى، وعلا الدين والى القلعه، وعلم الدين جندر، ولم يكن لأحد منهم دنبا (17) وانما اراد بدلك قصّ جناح الملك المظفر. وفيها ارسل رضى الدين ابى (18) العلا ونجم الدين بن الشعرانى، المستولين على قلاع الاسماعيليه، هدية الى السلطان الملك الظاهر ورساله ضمنها تهديد ووعيد،

(5) وثمانين: وثمانون (14) ارقاب: رقاب (15) ابن: بن (17) دنبا: ذنب (18) ابى: أبو--العلا: فى اليونينى، ذيل مرآة الزمان، ج‍ 1 ص 458 وج‍ 2 ص 114 «المعالى» --المستوليين: المستوليان

وطلبوا (1) ما كان لهم من الاقطاعات فى دوله الناصر والرسوم، فاجابهما [السلطان الملك الظاهر] الى دلك. فلما عزموا (2) الرسل على العوده، قال لهم السلطان: بلغنى ان الرضى مات، وولّى احد الرسل مكانه، وكتب له بدلك منشورا. فتوجه، فوجد الرضى حيا فى عافيه، فكتم امره عشره أيام، والرضى مرض اياما قلايل وتوفى، فاخرج المنشور وتولى مكانه، فلم يرضوا (5) به الاسماعيليه فقتلوه والله اعلم. (6) [وفيها ولّى القضاء بالديار المصريه القاضى برهان الدين الخضر بن الحسين اخا (6_) القاضى بدر الدين يوسف السنجارى، مصر والوجه القبلى. واستقرت القاهره مع الوجه البحرى فى ولايه القاضى تاج الدين المعروف بابن بنت الاعز. وكدلك ولّى السلطان الملك الظاهر دمشق واعمالها القاضى شمس الدين بن خلكان صاحب التاريخ البديع، وكان من قبل دلك ينوب عن القاضى بدر الدين يوسف بن الحسين السنجارى بالقاهره المعزية لمّا كان القاضى بدر الدين متوليا بالديار المصريه، حسبما تقدم من ذكر ذلك. وفى شهر ربيع الاخر، من هذه السنه، وردت الاخبار من ناحيه عكا وبلاد الافرنج ان سبع جزاير فى البحر خسف بها وباهلها. بعد ان نزل عليهم دم عدّة ايام، وهلك منهم خلايق كثيره قبل الخسف. وعادوا (15) اهل عكا لابسين السواد وهم ببكون، يجلدون ارواحهم باكمام الزرد الدى عليهم ويستغفرون لدنوبهم. وفيها خرج على الغلال فار عضيم (17) جدا بارض حوران وارض الجولان واعمالهما، حتى قدّروا ما أكله فكان مقدار ثلثمايه الف غراره قمح غير الشعير. واتباعت (18) فى هده السنه الغراره القمح باربع مايه درهم بدمشق، والمكوك بحماه كدلك. وجلبت الافرنج الغلال واستاصلوا به اموال المسلمين] (20).

(1) وطلبوا: وطلبا--لهم: لهما (2) عزموا: عزم (5) يرضوا: يرض (6 - 20) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (6_) اخا: أخو (15) وعادوا: وعاد (17) عضيم: عظيم (18) واتباعت: وابتاعت

(75) ذكر [حوادث] سنة ستين وستمايه

(75) ذكر [حوادث] سنة ستين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الماء القديم سته ادرع وسبعه اصابع. مبلغ الزياده ثمانيه عشر دراعا فقط. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله امير المومنين بحكم وصوله الى الديار المصريه سابع عشر ربيع الاخر من هده السنه. واحتفل السلطان الملك الظاهر للقايه احتفال (6) كبير، وانزله البرج الكبير، ورتب له راتبا يكفيه، ووصل معه ولده. (7) [وأقام بقيه هده السنه بغير مبايعه حتى دخلت سنه احدى وستين وستمايه، حسبما ياتى من ذكر ذلك فى تاريخه] (9). وكان هدا الامام الحاكم بامر الله لمّا اخدوا (9_) التتار بغداد فى سنه ست وخمسين-حسبما تقدم-اختفا (10) ببغداد الى اوايل سنه سبع وخمسين، وخرج صحبة ثلث نفر، وهم الدين وصلوا معه الى الديار المصريه، وقصد حسين بن صلاح (11) بن خفاجه واقام عنده الى هدا التاريخ. وقيل انه لما قتل المستعصم بيد التتار اختفى كوكبا (13) فلم يظهر حتى ظهر الحاكم بامر الله هدا، فضجت العرب لدلك وتعجبوا منه. ثم بعد ايام وصل اليهم من بغداد جمال الدين المختار المعروف بالشرابى، فعند وصوله قالوا له: «نجمع بينك وبين الامام الحاكم». قال: «ليس بمصلحة، بل انكم تجهزوه الى الشام». فوصل، كما دكرنا، الى حلب الى عند الامير شمس الدين البرلى، ومعه شيخ من مشايخ عباده يقال له نعيم. وكانوا اولا قد نزلوا

(6) احتفال كبير: احتفالا كبيرا (7 - 9) ما بين الحاصرتين مكتوب فى الهامش (9_) اخدوا: أخذ (10) اختفا: اختفى--وخرج: فى الأصل «خرج» --ثلث: ثلاثة (11) صلاح: كذا فى الأصل وفى م ف؛ فى اليونينى ج‍ 1 ص 484 «فلاح» (13) كوكبا: كوكب

عند نور الدين زامل بن سيف الدين على ابن حديثه (1). ثم عمل عليه شرف الدين عيسى ابن مهنا، وطلع به الى الملك الناصر، صاحب الشام، قبل اخد التتار حلب. ثم حصل من التتار ما ذكرناه، فعاد [الحاكم] (76) الى الامير عيسى بن مهنا، ولم يزل عنده الى أن خرج الملك المظفر سيف الدين قطز-رحمه الله-وكسر التتار على عين جالوت وملك الشام، فحضر اليه الامير عيسى واخبره خبر الامام الحاكم. فقال [قطز]: «ادا رجعنا الى مصر، انفده الينا لنعيده انشا الله تعالى». ثم قتل الملك المظفر، وملك السلطان الملك الظاهر، وحضر اليه المستنصر المدكور، وكان من امره ما تقدم من دكره. رجعنا الى سياقه الكلام؛ ثم ان السلطان الملك الظاهر جدّد [البيعة] (8) للامام الحاكم بامر الله فى تاريخ ما ياتى دكره انشا الله تعالى. وفيها وردت الاخبار ان الخلف وقع بين التتار بسبب موت جكز خان وتفرقت كلمتهم، وان بركه انتصر على هلاوون وكسره كسرة عظيمه. ثم وقعت الاراجيف فى الشام، بدمشق وغيرها، فى النصف من رمضان المعظم، بسبب التتار وتحركهم نحو البلاد. وفيها جرّد السلطان الملك الظاهر العساكر من الديار المصريه الى الشام يقدمهم الامير علا الدين الدمياطى والحاج علا الدين الركنى، فوصلوا الى دمشق فى شهر ذى القعده، وخرج اليهم الامير علا الدين طيبرس الوزيرى، وهو يوميد النايب بها. فمسكوه وسيروه الى السلطان، واحتاطوا على جميع ماله واخده السلطان. وسبب دلك انه كان ظلم فى دمشق وعسف، ومنع العربان من شيل الغلال الى دمشق، فوقع الغلا فيها بسبب دلك.

(1) ابن حديثه: بن حديثة؛ فى ذيل مرآة الزمان ج‍ 1 ص 485 «ابن حذيفة»، انظر ما سبق ص 82 حاشية 2 (8) البيعة: مضاف من م ف

وفيها قصدوا (1) التتار الموصل ومقدمهم صندغون، وكان معهم الملك المظفر قرا ارسلان صاحب ماردين بعسكره، وشمس الدين يونس المشد، وشمس الدين امير شكار. وكان فى الموصل مع الملك (77) الصالح ركن الدين اسمعيل ابن (3) بدر الدين لولو سبع مايه فارس. ونصب عليها خمس وعشرين منجنيق (4)، ولم يكن بها سلاح يقاتلون به، ولا قوت فغلابها السعر حتى بلغ المكوك الغله اربعه وعشرين دينار (5). فاستصرخ الملك الصالح بالامير شمس الدين البرلى من حلب، فخرج اليه وسار الى ان وصل الى سنجار. فلما اتصل بالتتار وصوله عزموا على الهروب، واتفق وصول الزين الحافظى الى التتار من عند هلاوون، وعرّفهم ان الجيش الدى مع البرلى شردمه يسيره، ورسم لهم ان يلاقوهم. فسار صندغون بطايفه من كان معه على الموصل، وعدّتهم عشره الاف فارس، وقصد سنجار. وكان عده الجيش الدى مع البرلى تسع مايه فارس من حلب، واربع مايه تركمان، ومايه عرب. فخرج اليهم والتقاهم يوم الاحد رابع عشر جمادى الاخره، فكانت الكسره عليه، وانهزم جريحا. وقتل ممن كان معه: علم الدين الزوباشى، وعز الدين ايبك السليمانى، وبها الدين (14) يوسف، وحسام الدين طرنطاى، وكيكلدى الحلبى، وسنجر الناصرى. وأسر واعلم الدين جلم وولده، وبكتوت الناصرى. ونجا البرلى فى جماعه يسيره من العزيزيه والناصريه، فوصلوا الى البيره، ففارقوه (16) اكثرهم ودخلوا الديار المصريه. ثم بعد دلك سيّر اليه هلاوون وهو يطلبه ليقطع له البلاد من جهته. فعند دلك سير [البرلى] يطلب الادن من السلطان الملك الظاهر فى دخوله الشام، فأدن له فى دلك. فخرج من البيره تاسع عشر رمضان، ثم دخل الى الديار المصريه فى العشر الاول من دى القعده. فانعم عليه السلطان بالمال والخلع والخيول، وامّره سبعين فارسا.

(1) قصدوا: قصد (3) ابن: بن (4) خمس وعشرين منجنيق: خمسة وعشرون منجنيقا (5) دينار: دينارا (14) وبها الدين: وبهادر، م ف (16) ففارقوه: ففارقه

وكان (78) عند خروج الامير شمس الدين البرلى الى الديار المصريه بعد كسرته من صندغون، عاد صندغون الى محاصره الموصل. وادخل بعض الاسرا من عسكر البرلى من النقوب الى الموصل؛ ليعرّفوا الملك الصالح اسمعيل بكسره البرلى وانهزامه، ويشيروا عليه بالدخول فى طاعتهم. ثم استمر القتال والحصار الى مستهل شعبان من سنه احدى وستين وستمايه، فسيروا اليه رسولا يطلبوا (5) منه ولده علا الدين، واوهموا ان قد وصل اليهم كتاب من هلاوون مضمونه: ابن الملك الصالح ما له عندنا دنب، وقد وهبناه دنب ابوه (7)، فسيّر ابنك الينا نصلح أمرك مع القان. وكان الملك الصالح قد ضعف حاله عن القتال وعجز، وغلبوا (8) المماليك على رايه، فاخرج اليهم علا الدين ولده. فلما وصل اليهم اقام عندهم اثنا (9) عشر يوما، وظنّ الصالح انهم نفدوه الى هلاوون. ثم كاتبوه بعد هده المده يطلبو (10) تسليم البلد، وإن امتنع لا يلوم الى (11) نفسه، «فنحن إن دخلنا بلدك بالسيف قتلناك وقتلنا جميع من فيه». فجمع الصالح اهل البلد وشاورهم مع كبار دولته وساير الامرا والاجناد، فاشاروا كلهم عليه بالخروج اليهم. فقال: «هم لا شك يقتلونى ويقتلوكم (13) باجمعكم بعدى». فصمّموا على خروجه اليهم، فخرج اليهم يوم الجمعه خامس عشر شعبان بعد الصلاه، وقد ودّع اهله والناس ولبس البياض. فلما وصل اليهم احتاطوا به وبمن معه. ثم امروا شمس الدين الباغشيقى (16) بالدخول [الى] البلد، فدخل ومعه الفرمان. ونادى فى الناس بالامان، وظهر الناس بعد اختفايهم، وشرعوا (17) التتار فى خراب الاسوار. فلما اطمانوا (18) الناس واباعوا (79) واشتروا، دخلوا التتار الى البلد ووضعوا فيهم

(5) يطلبو: يطلبون (7) ابوه: أبيه (8) وغلبوا: وغلب (9) اثنا: اثنى (10) يطلبو: يطلبون (11) الى: الا (13) يقتلونى ويقتلوكم: يقتلوننى ويقتلونكم (16) الباغشيقى: فى الأصل «الباغسقى» --الى: مضاف من م ف (17) وشرعوا: وشرع (18) اطمانوا: اطمأن--دخلوا: دخل

السيف تسعه ايام، وكان دخولهم فى السادس والعشرين من شعبان. وهدموا السور، ووسطوا علا الدين بن الملك الصالح على الجسر وعلقوه. ثم رحلوا، فقتلوا الملك الصالح اسمعيل فى طريقهم قبل وصولهم الى هلاوون. وكان الملك المجاهد سيف الدين اسحق صاحب الجزيره، والملك المظفّر علا الدين علىّ صاحب سنجار، لما نزلوا (4) التتار على الموصل، خرجا من ملكهما وتوجها الى الديار المصريه لخدمه السلطان الملك الظاهر. فاحسن اليهما واقطعهما الاقطاعات الجياد (6) ولاولادهم ولاخوتهم ومماليكهم (7). وانقضت دوله اولاد بدر الدين لولو من الموصل والجزيره وسنجار ونصيبين وقلاعها، بالوصا، والجزيره العمريه واعمالها، والبوازيج (9)، وعقر شوش ودارا، وجميع تلك الاعمال مع القلاع العماديه، وكواشى (10)، وبلادها، وسنجار واعمالها، مع قلعه الهيثم. ثم انقضت تلك السنون واهلها فكانها وكأنهم ما كانوا. وفيها غار عسكر سيس ورجاله من انطاكيه على الفوعه من بلاد حلب وسرمين ونهبوا وافسدوا. فركب اليهم الامير علا الدين الشهابى، نايب السلطنه بحلب، وصحبته عسكر حلب فكسر الارمن، واخذ منهم جماعه وسيرهم الى مصر فوسطوهم بها. ودكر الشيخ شهاب الدين ابو شامه فى تاريخه (16)، ان فى هده السنه سابع وعشرين ذى القعده، وصل الى دمشق من عسكر التتار ما يتى فارس وراجل بنسايهم

(4) نزلوا: نزل. (6) الجياد: الملاح، م ف--ولا ولادهم ولا خوتهم: ولأولادهما ولإخوتهما. (7) ومماليكهم: فى الأصل «ومماليكم». (9) والبوازيج: فى الأصل «والبوايح؟؟؟». (10) وكواشى: فى الأصل وم ف «وكولى»؛ انظر مختارات من ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ص 44، واليونينى، ذيل مرآة الزمان، ج‍ 1 ص 495. (16) انظر الذيل على الروضتين لأبي شامة (ط. القاهرة 1947) ص 220.

واهاليهم وصغارهم وافدين على الاسلام (1). ودكروا ان عسكر هلاوون كسره ابن عمه بركه، وهربت جيوش (80) هلاوون من جيوش بركه، فكان كما قيل <من الرجز>: لكلّ شئ آفة من جنسه … حتّى الحديد سطا عليه المبرد وتفرقت جيوش هلاوون فى اقطار الارض، وتمزقوا كل ممزق، وهربت هده الطايفه منهم الى بلاد الاسلام. ففرح المسلمون بدلك، وزال عنهم ما كانو يحسبونه من دخول جيوش هلاوون الى الشام. واخبروا (7) هولاء الوافدين ان ملك التتار الكبير-يقال له منكوقان-توفى، وقام مكانه بالملك اخوه الاصغر يسمى عرى منكو (9). وكان الاخ الكبير، يقال له قبليه خان، غايبا. فلما بلغه موت القان، وان اخاه ملك مكانه، انف دلك وقصد اخاه بعساكره واقتتلوا؛ ونصر بركه لعرى منكو (11)، فكسروا عسكر قبليه خان. فلما بلغ هلاوون دلك، عزّ عليه وكره سلطان (12) عرى منكوا، وجمع العساكر وقصد بركه. وسار ايضا بركه اليه، فنزل فى ارض الكرج (13)، ونزل هلاوون بصحراه سلماس (14). ثم كان الملتقا بارض شروان، فقتل من الفريقين خلق كثير، ووقعت الكسره على هلاوون، وعمل فى عسكره السيف اثنا (15) عشر يوما. وهرب هلاوون الى قلعه تلا، وهى فى وسط بحيره ادربيجان (16)، فدخلها، وقطع الطريق اليها، وعاد كالمحبوس بها.

(1) وافدين على الاسلام: فى أبو شامة وم ف «هاربين إلى المسلمين» (7) واخبروا: وأخبر--الوافدين: الوافدون (9) عرى منكو: عرى مكو، م ف: فى أبو شامة «لعرى بكو»: انظر حاشية 3 لبلوشيه فى P .O .Xll ص 443 (11) لعرى منكو: لعرى مكو، م ف (12) سلطان: سلطنة، م ف--منكوا: منكو (13) الكرج: فى الأصل «الكرخ»، انظر أبو شامة ص 220 - -بصحراه: بصحراوات (14) سلماس: فى أبو شامة «سلماس وخوى» --الملتقا: الملتقى (15) اثنا: اثنى (16) فى وسط بحيره ادربيجان: فى أبو شامة «ببحيرة بآدربيجان»

ذكر ما نقله ابن شداد من دلك

ذكر ما نقله ابن شداد من دلك قال الصاحب شمس الدين بن (1) شداد-رحمه الله تعالى-فى سيره الملك الظاهر؛ وهو المسمى بالروض الزاهر فى سيرة الملك الظاهر، لما دكر هده السنه ودكر سبب الخلف الدى وقع بين التتار، قال: حكى لى علا الدين على ابن (4) عبد الله البغدادى، احد اصحاب الامير سيف الدين (81) بلبان الرومى الدوادار الظاهرى رحمه الله قال: اخدونى (6) التتار اسيرا من بغداد لما اخدوها، وكنت قد عدت عندهم مختلطا بهم ومطلعا على اخبارهم. فلما كانت سنه ستين وستمايه ورد من عند بركه رسولان، احدهما يسمى بلاغا (8) والاخر ططرشاه، برساله ضمنها ما جرت به العاده أن يحمل الى بيت باتوا (9) مما كانوا يحملونه من فتوح البلاد. وكانت العاده ان يجمع [التتار] ما تحصل من البلاد التى يملكونها ويستولوا (10) عليها، من حد نهر جيحون مغرّبا الى حيث ينتهى بهم الفتوح، فيقسم خمسه اقسام؛ قسمان للقان الكبير، وقسمان للعساكر، وقسم لبيت باتوا (12). فلما مات باتوا وجلس بركه على التخت، منع هلاوون قسمه، فبعث بركه رسله الى هلاوون، وبعث فيهم سحرة يفسدوا (13) سحرة هلاوون. وكان عند هلاوون ساحر يسمى يكشا، فاعطوه هديه بعثها له بركه، وسالوه ان يوافقهم على غرضهم فاتفق معهم. وكان هلاوون قد جعل لهولاء الرسل من يخدمهم، وجعل فى الجمله ساحرة من الخطا تسمى كمشى (16)، وجعلها عينا له عليهم تطالعه بجميع اخبارهم. فلما اطلعت على دلك اخبرته به، فامر بالقبض على جميعهم، واعتقلهم فى قلعه تلا، ثم قتلهم بعد خمسه عشر يوم (18) من قبضهم، وقتل ايضا الساحر يكشا. فلما بلغ بركه

(1) بن: ابن (4) ابن: بن (6) اخدونى: أخذنى (8) بلاغا: بلاغيا، م ف (9) باتوا: باتو (10) ويستولوا: ويستولون (12) باتوا: باتو (13) يفسدوا: يفسدون (16) كمشى: فى م ف «كمشا»: فى اليونينى ج‍ 1 ص 498 (حاشية 3) وج‍ 2 ص 162 «كمشتا» (18) يوم: يوما

قتل رسله وسحرته، اظهر العداوه لهلاوون، وبعث رسله الى السلطان الملك الظاهر يحرضه على اجتماع الكلمه على هلاوون، كما ياتى تتمه الكلام بعد دلك. فهدا كان سبب خلفهم [والله أعلم] (3). وفيها استناب السلطان الملك الظاهر الامير جمال الدين اقوش النجيبى (82) الصالحى بدمشق. حكى لى والدى رحمه الله قال: قال السلطان الملك الظاهر رحمه الله للامير بدر الدين بيليك الخزندار، رحمه الله: «افكر لى فى امير اولّيه نيابه دمشق يكون صوره بلا معنى». قال، فلما كان على الخوان وقد اكل الامير جمال الدين اقوش النجيبى وهو يتمسح يده، والامير بدر الدين نظر (9) الى السلطان واشار الى نحوه، ففهم السلطان انه المطلوب. قال: فضحك السلطان وقال للامير بدر الدين بالتركى: «هو والله هدا». فولاه نيابه الشام. وفى شهر ذى الحجه ظهر بين القصرين عند الركن المخلّق (12) حجرا مكتوب عليه: هدا مسجد موسى عليه السلام. فخلق دلك المكان وعرف بذلك. وفى عاشر شهر شوّال (14) توفى الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام رضى الله عنه. ونزل السلطان الملك الظاهر، وصلى عليه فى سوق الخيل. وفيها كان قتلة الخليفه المستنصر المعروف بالاسود، المقدم دكره، وظهور الامام الحاكم.

(3) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (9) والأمير بدر الدين نظر: نظر الأمير بدر الدين (12) الركن المخلق: انظر المقريزى، الخطط، (ط. بولاق 1853) ج‍ 1 ص 405، واليونينى ج‍ 2 ص 159 - 160 - -حجرا: حجر (14) شوّال: كذا فى الأصل وم ف؛ فى ابن كثير، البداية والنهاية، ج‍ 13 ص 236، واليونينى، ذيل مرآة الزمان، ج‍ 1 ص 505، وابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة، ج‍ 7 ص 208 «جمادى الأولى»

ذكر [حوادث] سنة احدى وستين وستمايه

ذكر [حوادث] سنة احدى وستين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم خمسه ادرع وسبع (2) اصابع. مبلغ الزياده سبعه عشر دراعا وثلث (3) اصابع. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (5) العباس احمد بن الامير حسن بن الامير ابى بكر بن الامير ابى على القبّى (6) بن الحسن بن امير المومنين الراشد بالله بن المسترشد. ذكر بيعه الامام الحاكم بامر الله ابى العباس المشار اليه وخبره ودلك لما كان يوم الخميس تاسع المحرم من هده السنه، جلس السلطان الملك الظاهر بالايوان بقلعه الجبل المحروسه، وحضر الصاحب (83) بها الدين بن حنا -المقدم دكر نسبته عند وزارته-وولده فخر الدين، وقاضى القضاه ابن بنت الأعز، واعيان الامرا وارباب الدوله لمبايعه الامام الحاكم بامر الله. وقربت (11) نسبته على قاضى القضاه، وشهد بالصحه لما ثبت عنده، فحكم به. فبايعه السلطان، ثم الصاحب [بهاء الدين]، ثم الامرا على طبقاتهم. واستقر الحال كدلك واقام فى البرج الكبير الى حين وفاته. وفى العشر الاول من صفر جمع تكفور صاحب سيس جماعه من الارمن خيلا ورجلا، وخرج بهم غايرا الى ان وصل الى العمق والمعرّة وسرمين والفوعه. وكان

(2) وسبع: وسبعة (3) وثلث: وثلاثة (5) ابى: أبو (6) القبى: فى الأصل «الفتى» (11) قريت: قرئت

(84) دكر اخد الكرك من الملك المغيث

دليله رجل من اهل الفوعه يسمى بن الظهير (1) الفوعى. فاخذ من الفوعه ثلاثمايه وثمانين رجل (2)، وكبس سرمين وكان بها الامرا مجردين وهم: الامير بها الدين الحموى، وركن الدين السروى، وعلم الدين قيصر الظاهرى، فانحازوا الى دار الدعوه بسرمين. واجتمع عليهم خلق كثير وحوصروا بها. ثم ان الامير ركن الدين عيسى السروى ركب، وركبت (5) الامرا المدكورون، وفتح باب الدعوه وخرجوا وحملوا عليهم. فصادف رجل منهم تكفور صاحب سيس. وهو لا يعرفه، فطعنه اقلبه عن جواده. فانفلّ عزم اصحابه بعده، وولوا منهزمين لا يلوى احد على احد. وخلصوا من كان معهم من الاسرا. وفيها خرج السلطان الملك الظاهر من الديار المصريه متوجها الى الشام يوم السبت سابع ربيع الاخر، ونزل مسجد التبن، واقام الى يوم الاربعا عاشر الشهر المدكور، ورحل وسار حتى نزل غزه. فوفدت عليه ام الملك المغيث فتح الدين عمر صاحب الكرك شافعة فى ولدها، فأقبل عليها واكرمها. ثم ادن لها فى العوده، ثم رحل ونزل الطور. (84) دكر اخد الكرك من الملك المغيث ولما نزل السلطان الطور، ارسل الله سبحانه الامطار ما منعت الجالب، فغلت الاسعار، ولحق العساكر مشقه عظيمه. وارسل السلطان الى الملك المغيث يطلبه، فسوّف واحتجّ خوفا لما كان قد اسلفه من الافعال القبيحه الدميمه (17) واسااته القديمه. ثم ان المغيث، لما غلب عن المدافعه، خرج من الكرك {خائِفاً يَتَرَقَّبُ} (18).

(1) بن الظهير: ابن الظهير، م ف؛ فى اليونينى ج‍ 1 ى 531 وج‍ 2 ص 192 «ابن ماجد» (2) رجل: رجلا--الحموى: فى ذيل مرآة الزمان «الخضر الحميدى» (5) وركبت: وركب (17) الدميمه: الذميمة--واسااته: وإساءاته (18) القرآن 28:18

فلما وصل الى العسكر، ركب السلطان والتقاه فى جماعه الامرا، فلما وقعت عينه عليه امر بقبضه، ثم سيره الى مصر صحبة الامير شمس الدين اق سنقر الفارقانى، واعتقل وكان اخر العهد به. ولما قبض عليه ظهر فى وجوه بعض الامرا تغيّر، كراهيه لدلك؛ فانه كان حلف له اربعين يمين (5)، من جملتها الطلاق من ام الملك السعيد بنت بركه خان. فلما فهم السلطان دلك جمع الامرا والقضاه والشهود، واخرج اليهم كتب المغيث الى التتار، وهو يدعوهم الى البلاد ويهوّن عليهم المسالك، ويصغّر عندهم الامور، واخرج فتاوى العلما انه لا يحل بقا (8) المدكور بسبب دلك. فعند دلك عدروه الامرا، وزال ما كان بخواطرهم من الكراهيه لمسك المغيث، وكان فى الجمله الملك الاشرف صاحب حمص. ثم ان السلطان توجّه الى الكرك، وكتب الى من فيه بان يسلّموا. فشرطوا شروطا من جملتها، انه ينعم على الملك العزيز فخر الدين عثمان بن الملك المغيث بامريه (11) مايه فارس. وتسلم الكرك يوم الخميس ثالث عشرين جمادى الاخره من هده السنه، ودخل قلعه الكرك المحروس الساعه الثانيه من يوم الخميس (13) رابع عشرين الشهر المدكور من هده السنه. وانعم على من بها من حاشية المغيث، (85) وسارت البشاير الى ساير الممالك بتمليك الكرك. ثم خرج قاصدا الى ديار مصر، واستصحب معه اولاد الملك المغيث وحريمه. فلما حصل بمصر انعم على العزيز بامرة، وانزله فى دار القطبيه بين القصرين. وفى ثانى وعشرين رجب قبض السلطان على ثلاثه من الامرا الكبار وهم: الامير سيف الدين بلبان الرشيدى، والامير عز الدين ايبك الدمياطى، والامير حسام الدين لاجين البرلى، وأودعهم الاعتقال بالقلعه المحروسه.

(5) يمين: يمينا (8) بقا: بقاء--عدروه: عذره (11) بامريه: بإمرة (13) يوم الخميس: كذا فى الأصل والصحيح «يوم الجمعة» كما يفهم من سياق الحديث وكذلك فى م ف واليونينى ج‍ 1 ص 533.

وفيها وصل رسولان من عند بركه، احدهما يسمى جلال الدين بن قاضى دوقات و [الآخر] (2) عز الدين التركمانى فى البحر الى الاسكندريه. ومضمون الرساله: «أنت تعلم انى محب لهدا الدين، وان هدا العدو-يعنى هلاوون-كافر ملعون، وقد تعدا (3) على بلاد الاسلام، وقتل وسفك، وسبى ونهب، وقد وجب علىّ وعليك غزوه وأخذ ثار المسلمين منه، والراى ان تقصده انت من جهتك وانا من جهتى، ونصدمه يد (6) واحدة، ونزيحه عن البلاد، واعطيك ما فى يده من بلاد الاسلام». قال: فاستحضر السلطان رسله، واقبل عليهما، وأنعم لهما بانعام كثير، وشكر له دلك. ونفّد اليه هديه سنيه، وجهز اليه رسول (8)، وهو الامير فارس الدين المسعودى الامدى وصحبته السيد الشريف عماد الدين عبد الرحيم الهاشمى العباسى. وفى جمله الهديه: فيل، وزرافه، وقرود. وحمير وحشيه عتّابيه، وحمير فرّه مصريه، وهجن بيض، وجمله كبيره من ملبوس ومصاغ وزركش، وشمعدانات فضه وكفت، وحصر عبدانيه، واوانى صينى، وقماس سكندرى ومن عمل دار الطراز، وسكر نبات، وسكر بياض- (86) شئ كثير جدّا. وكان ضمن الرساله الموافقه لما اشار اليه (13)، وطلب الصلح والاتفاق والمعاضده على هلاوون. فلما وصل الرسل الى القسطنطينيه [وجدوا] (15) الباسلوس، وهو كر ميخاييل صاحبها، غايبا فى حرب كان بينه وبين الفرنج. فلما بلغه وصول الرسل طلبهم اليه، فساروا فى مده عشرين يوم (17) فى عماره متصله، واجتمعوا به فى قلعه كساثا؟؟؟. فاقبل عليهم واكرمهم ووعدهم المساعده على التوجه الى البلاد. ووجدوا عنده رسل (18) من

(2) أضيف ما بين الحاصرتين من م ف (3) تعدا: تعدّى (6) يد: يدا (8) رسول: رسولا (13) الموافقه لما اشار اليه: فى م ف «الدخول فى الطاعة» (15) أضيف ما بين الحاصرتين من م ف (17) يوم: يوما--كساثا؟؟؟: كذا فى الأصل وم ف، فى ذيل مرآة الزمان، ج‍ 1 ص 538 وج‍ 2 ص 197 «اكشاثا» (18) رسل: رسلا

جهه هلاوون، فاعتدر عليهم انه لخوفه من هلاوون لا يمكنه ان يسفرهم على فورهم. ثم امرهم بالرجوع الى قسطنطينية وان يقيموا بها الاّ (2) حين عودته ويجهزهم. ثم لم يزل يماطلهم ويسوّف بهم الى ان مضت لهم عنده سنه وثلثه اشهر. فلما طال مكثهم نفدوا اليه يقولون له: «ان لم يمكنك المساعده على توجهنا، فاعيدنا (4) الى مصر». فادن للشريف بالعوده الى مصر وحده، واعتدر انه يخشى من هلاوون. فعاد الشريف، وتاخر الفارس المسعودى مدة سنتين حتى هلك اكثر ما كان معه من الحيوان. ثم ان عسكر بركه قصد القسطنطينيه وغاروا على اطرافها. وهرب الباسلوس الدى كان فيها، وبعث الفارس الى مقدم عسكر بركه يقول له: «ان البلاد فى عهد السلطان الملك الظاهر وصلحه، وان القان فى صلح من صالحه [الملك الظاهر] وعهد من عاهده». وطلب [مقدم عسكر بركه] خطه بدلك، فكتب [الفارس] له خطه بدلك، وانه مقيم باختياره، وانه لم يمنع من التوجه الى القان. فرحل عسكر بركه من على القسطنطينيه، واستصحب معه السلطان عز الدين فانه كان محبوسا فى قلعه من قلاع القسطنطينيه. (87) ثم ان الباسلوس جهز الفارس الى بركه، وسير معه رسول (14) من جهته برساله مضمونها ان يقرر على نفسه، من جملة ما يحمله كل سنة، ثلاثمايه ثوب اطلس على ان يكون فى معاهدته، ومدافعا عن بلاده. ثم توجه الفارس المسعودى الى بركه. فلما اجتمع به انكر عليه تاخيره، فقال [الفارس]: «ان صاحب القسطنطينية منعنى». فاخرج [بركة] اليه خطه بما كتب [الفارس] لمقدم عسكره ثم قال له: «انا ما اواخدك (18) لاجل الملك الظاهر». ثم ان السلطان عزّ الدين كتب الى السلطان الملك الظاهر يعرفه جميع ما جرا (19) وما صدر من الفارس المسعودى من التقصير.

(2) الا: إلى (4) فاعيدنا: فأعدنا (14) رسول: رسولا (18) اواخدك: أؤاخذك (19) جرا: جرى

قال ابن شداد صاحب السيره، قال ابن عبد الظاهر انه كان اجتماع رسل السلطان الملك الظاهر بالملك بركه فى سنه سبع وستين (2) وستمايه، وانهم مرّوا فى طريقهم بالملك الاشكرى فى مدينه اينه، ثم رحلوا الى قسطنطينيه فى عشرين يوم (3)، ثم منها الى مدينه اصطنبول، ومنها الى دقسيتا وهى ساحل سوداق. فالتقاهم الوالى بها، واسمه طايوق، وعنده خيل اليولاق، يعنى البريد؛ واسم هده الارض قرم، ويسكنها عده من القفجاق والروس والعلان وغيرهم، ومن الساحل الى هده القريه مسيره يوم واحد. ثم ساروا الى يوم اخر، فوجدوا مقدما اسمه طق بغا، وهو مقدم عشره آلاف، وهو الحاكم على تلك الجهات جميعها. ثم ساروا عنه مسيره عشرين يوم (9) فى صحراه عامره بالخركاوات والاغنام والمواشى الى ان وصلوا الى بحر ايتل، وهو بحر حلو عدب (10) سعته سعة نيل مصر، وفيه مراكب الروس، وهو منزله الملك بركه. وهدا الساحل تحمل اليه (88) الاقامات من ساير تلك الاراضى. قال: فلما قاربوا المنزله التقاهم الوزير شرف الدين القزوينى، وهو يتحدث العربيه والتركيه والمغليه، فانزلهم فى منزله حسنه، وحمل اليهم الضيافه من اللحم والسمك واللبن وغير دلك. ونزل بعد دلك الملك بركه فى منزله قريبه واستحضرهم. وكانوا قد عرّفوهم ما يفعلونه عند دخولهم عليه؛ وذلك ان يكون الدخول من جهه اليسار، فادا اخذ الكتب منهم ينتقلون إلى جهه اليمين، فادا امرهم بالجلوس يكون على الركبتين، ولا يدخل احدا منهم معه فى الخركاه بسيف ولا سكين ولا عده؛ ولا يدوس عتبه الخركاه احد منهم برجله، وادا قلع احد منهم عدته فليقلعها على الجانب الايسر، وينزع قوسه من القربان، ويفك وتره، ولا يترك فى تركاشه نشاب (20)، ولا ياكل ملح (21) ولا يغسل ثوبه، وان اتفق غسيله ينشره خفيه.

(2) وستين: فى الأصل «وثلثين» (3) يوم: يوما (9) يوم: يوما--صحراه: صحراء (10) عدب: عذب (20) نشاب: نشابا (21) ملح: ملحا، فى م ف «ثلجا»

ثم انهم وجدوا الملك بركه فى خركاه كبيره تسع خمس مايه فارس، وهى مكسوه لبد ابيض كباس، ومن داخلها مستّرة بخطايى واطلس وصندات مكلله بجواهر وحب لولو كبار. وهو جالس على تخت مرخى الرجلين، وعلى التخت مخده؛ فانه كان به وجع النقرس. والى جانبه الخاتون الكبرى، واسمها طقطقاى (4)، وله امراتان غيرها، واسمهما الواحده ججك خاتون والاخرى كهار خاتون، وليس له ولد. والمشار اليه بولاية العهد بعده ابن اخيه (6)، واسمه تمرقان ابن طغوان بن تشو قاآن ابن باتوا (7) قاآن، والملك بركه وتشو قاآن اخوان من ام واب؛ ويعرف تمر قاآن بامير غلو يعنى الامير الصغير. وكان عمر بركه الى دلك التاريخ ست وخمسين سنه. (89) وصفته انه كان خفيف اللحيه، كبير الوجه، فى لونه صفره، يلف شعره عند ادنيه، فى ادنه حلقه دهب [فيها جوهره] (10)، وفى رجليه خفّ احمر كيمخت، وليس فى وصطه (11) سيف، وفى حياصته قرون سود معوجه مقمعه وهى ذهب مجوهره بسولق بلغارى اخضر، وعليه قبا خطايى، وعلى راسه سراقوج. وعنده تقدير خمسين اميرا كبار جلوس (13) على كراسى. فلما دخلوا عليه وادوا الرساله. اعجبه دلك عجبا كبيرا، واخد الكتاب وامر الوزير بقراته (15). ثم نقلهم عن يمينه، واسندهم مع جانب الخركاه، واحضر لهم القمز، وبعده العسل المطبوخ ثم احضر لهم (16) لحما وسمكا فاكلوا. ثم امر بانزالهم عند زوجته ججك خاتون، فضيفتهم الخاتون فى خركاتها، ثم انصرفوا اخر النهار الى منازلهم. وعاد (17) [السلطان بركه] (18) يطلبهم فى ساير اوقاته، ويسالهم عن الفيل والزرافه، وسال عن النيل

(4) طقطقاى: طغطغاى، م ف واليونينى ج‍ 1 ص 541 (6) ابن أخيه: فى اليونينى «ابن ابن أخيه» --ابن طغوان: بن طغوان (7) باتوا: باتو (10) ما بين الحاصرتين مكتوب بالهامش (11) وصطه: وسطه (13) كبار جلوس: كبارا جلوسا (15) بقراته: بقراءته--جانب: جنب، م ف (16) لهم: فى الأصل «له» (17 - 18) أضيف ما بين الحاصرتين من م ف

وعن مطر مصر. وقال: «سمعت ان عظما لابن آدم ممتدّ على النيل يعبروا (1) الناس عليه». فقالوا: «هدا ما رايناه، ولا هو عندنا». واقاموا عنده سته وعشرين يوما، واعطاهم شى جيد (3) من الدهب الدين يتعاملون به فى بلاد الاشكرى. ثم خلعت زوجته على الفارس، واعطاهم جوابهم وسفرهم، ومعهم ثلاث (5) رسل من جهته، وهم: اربوقا وارتيور وارنماش. وكان عند الملك بركه رجل فقير من اهل الفيوم اسمه الشيخ احمد المصرى، وله عنده حرمه كبيره. وعند كل امير من امرايه مودن (7) وامام، ولكل خاتون مودن وامام، وللصغار مكاتب يتعلمون القرآن. وكان غيبه الفارس الى سنه سبع (8) وستين وستمايه والله اعلم. (90) وفيها توفى ريدا فرنس واسمه تولين (9)، وهو من اكبر ملوك الفرنج، واعظمهم قدرا، واسعهم (10) مملكه، واكثرهم عساكر. وكان قد قصد الديار المصريه واستولى على طرف منها، وكان قد استولى على ثغر دمياط وملكها فى سنه سبع واربعين وستمايه-كما دكرناه فى الجزء الدى قبله. ثم خدله (12) الله وامكن المسلمون من ناصيته، وهو المعروف بفرنسيس. وتوجه الى بلاده بعد اطلاقه، وفى قلبه نار لا تطفى (13) لما جرا (14) عليه. واضمر فى نفسه العوده الى الديار المصريه لأخد ثاره. فجمع جموعا عظيمه، واهتمّ اهتماما زايدا فى مده سنين الى هده السنه عزم على التوجه الى الديار المصريه. فقالوا (16) له كبار دولته: «انت قصدت ديار مصر فى الاول، وانت أخبر بما جرا لك، ومن المصلحه ان تقصد تونس من بلاد افريقيه-وكان ملكها يوميد محمد بن يحيى بن عبد الوهاب ويلقب المستنصر. ويدعا (18) له على جميع منابر بلاد افريقيه-فادا ملكت

(1) يعبروا: يعبر (3) شى جيد: شيئا جيدا--الذين: الذى (5) ثلاث: ثلاثة (7) مودن: مؤذن (8) سبع: خمس، م ف (9) تولين: كذا فى الأصل وفى م ف؛ ويعنى بها «لويس»، انظر اليونينى ج‍ 1 ص 549 وج‍ 2 ص 199 (10) واسعهم: وأوسعهم (12) خدله: خذله--المسلمون: المسلمين (13) تطفى: تطفأ (14) جرا: جرى (16) فقالوا: فقال--جرا: جرى (18) ويدعا: ويدعى

ذكر [حوادث] سنة اثنتين وستين وستمايه

افريقيه تمكنت من قصدك الديار المصريه برا وبحرا». فرجع الى قولهم وقصد تونس فى عالم عظيم وفى جماعه من ملوك الفرنج. فاوقع الله فى عسكره وباء عظيم (2)، فهلك الملعون-مع جماعه من الملوك واكثر جموعه-بظاهر تونس، ورجع من بقى منهم الى بلادهم بالخيبه. ووصلت البشرا (4) بذلك للسلطان الملك الظاهر، وكتب بدلك الى ساير الامصار ولله الحمد والمنة {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ} (5). ذكر [حوادث] سنة اثنتين وستين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه. (91) ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله امير المومنين ابو العباس أحمد [بالديار المصريه] (10). والسلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارى سلطان الاسلام بالديار المصريه والبلاد الشاميه الى حدود الفراه (12) فى ملكه. وصاحب مكه ابو نمى بن راجح بن قتاده بن حسن الشريف الحسينى. وصاحب المدينه-على سكانها افضل الصلاه والسلام- جماز بن شيحه. وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن الملك المنصور نور الدين عمر بن على بن رسول المقدم دكره فيما مضى من هدا التاريخ المبارك. وصاحب دلى من الهند ناصر الدين محمود بن شمس الدين ايتامش المقدم دكره. وصاحب ماردين الملك المظفر ارسلان ابن (17) الملك السعيد المقدم دكره. وصاحب الروم ركن الدين قلج ارسلان بن السلطان غياث الدين المقدم دكره. وصاحب حماه الملك المنصور ناصر الدين

(2) وباء عظيم: وباء عظيما (4) البشرا: البشرى (5) القرآن 33:25 (10) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (12) الفراه: الفرات (17) ابن: بن

ذكر غازيه الخناقه

محمد بن الملك المظفر تقى الدين المقدم دكره. وصاحب حمص الملك الاشرف مظفر الدين موسى بن الملك المنصور المقدم دكره. وملاك المغرب يوميد صاحب مراكش ابو حفص عمر الملقب بالمرتضى. وتونس لابى عبد الله [محمد] (3) بن ابى زكريا من ولد عبد المومن المقدم ذكره. ونايب السلطنه بالشام المحروس الامير جمال الدين اقوش النجيبى الصالحى، ونايب السلطنه بمصر الامير بدر الدين بيليك الخزندار الظاهرى. والوزير الصاحب بها الدين بن حنا المقدم دكر نسبه عند وزارته. وفيها كان الفراغ من بنايه المدرسه الظاهريه التى فى بين القصرين بالقاهره المعزيه المحروسه. وكان الابتدا فى بنايها وانشايها فى اوايل سنه ستين وستمايه. وانتهت عمارتها فى هده السنه المباركه. (92) وفيها ظهرت قتلا كثير (10) بالخليج القاهرى، واتهموا به جماعه من الناس. ودام الحال كدلك ما يزيد عن اربعين يوم (11)، ثم ظهر صحه ذلك. ذكر غازيه الخناقه ودلك انه ظهر ان امرأة حسنا (13) تسمى غازيه، كانت تتبهرج على الناس فى زينه فاخره، وتطمع فيها من يراها، وتصحبها عجوز تحدث عنها لمن يروم منها الحاله (14)، فتقول له انه لا يمكنها ان تجتمع باحد الاّ فى بيتها خوفا على نفسها. فمن حمله الغرض لفروغ الاجل وافقها على دلك. فادا حصل عندها خرج عليه رجلين فيقتلاه (16)، ويوخد ما معه وما عليه من الثياب. فكانوا ينتقلون من مكان الى مكان ليخفى امرهم الى ان سكنوا خارج باب الشعريه على الخليج.

(3) أضيف ما بين الحاصرتين من م ف (10) قتلا كثير: قتلى كثيرون (11) يوم: يوما (13) حسنا: حسناء (14) الحاله: الفساد. م ف (16) رجلين فيقتلاه: رجلان فيقتلانه

فاتفق ان كان بالقاهره ماشطه مشهوره بحداقه. فجاءتها العجوز وقالت لها: «عندنا امرأة قد زوجناها، ونقصد منكى (2) ان تدبرى امرها، وتزينيها احسن زينه، وتحضرى لها من القماش والمصاغ ما تقدرى (3) عليه، ونعطيكى من الاجره ما احببتى». ثم حضرت الماشطه بما طلبت منها العجوز، وصحبتها جاريه لها. واتيتا (4) اليهم، ودخلت الماشطه، وانصرفت الجاريه. ثم انهم قتلوا الماشطه، وبطا (5) خبرها عن الجاريه، فجاءت اليهم تسال عن خبرها، فانكروها. فتوجهت الجاريه الى متولى القاهره، فركب ومسك العجوز والصبيه، وقررهما، فاعترفا (7) بجميع ما كانوا يفعلوه. واعترفا (8) على رجل طوّاب يحرق الطوب، فكانوا ادا قتلوا احدا اخرجوه لدلك الطواب، فيحرقه فى القمين، ويخفى امره. ونبشوا الدار، فاخرجوا من حفيرة فيها عده قتلا (10). فطالعوا السلطان بامرهم، فرسم بتسميرهم، فسمروا (93) الخمسه فى وقت واحد. ثم ان الامرا شفعوا فى الامرأة فاطلقت، فاقامت يومين وماتت. وفيها قتل هلاوون الزين الحافظى، وهو سليمان بن المويّد بن عامر العقربانى، وقتل جميع اولاده واهل بيته واقاربه، ومن كان يلود (13) به. وكان من كلام هلاوون اليه لما اراد قتله، ان قال له: «قد ثبت عندى نحسك وتلاعبك بالدول، فانك خدمت صاحب بعلبك طبيبا فحنته، واتفقت مع غلمانه على قتله حتى قتل؛ ثم انتقلت الى خدمة الملك الحافظ الدى عرفت به، فباطنت عليه الملك الناصر صاحب الشام حتى اخرجته من قلعه جعبر، ثم صرت الى خدمه الملك الناصر، ففعل معك ما لم تسم اطماعك اليه من كل خير، فحنته معى حتى اخرجت دياره وجرا (18) عليه ما جرا؛ ثم انقلبت الى خدمتنا فاحسنت اليك احسانا لم يخطر ببالك قط، فشرعت تكافينى (19)

(2) منكى: منك (3) تقدرى: تقدرين--ونعطيكى: ونعطيك--احببتى: أحببت (4) واتيتا: وأتتا (5) وبضا: وأبضأ (7) فاعترفا: فاعترفتا--يفعلوه: يفعلونه (8) واعترفا: واعترفتا (10) قتلا: قتلى (13) يلود: يلوذ (18) جرا: جرى (19) تكافينى: تكافئنى

بالافعال الرديه، وتكاتب (1) صاحب مصر، فانت معى فى الظاهر، خارجا عنى فى الباطن، فانت شبيهك شبيه القرعه على وجه الماء؛ كيف ضربها الهوى سارت نحوه». ثم امر به فقتل وجميع اهله. ومما نقله ابن شداد فى سيره الملك الظاهر، ان السلطان الملك الظاهر رحمه الله استدعا (5) اخاه عماد الدين احمد بن المويد المعروف بالاشتر من دمشق، وعوّقه اياما، ثم افرج عنه، وانعم عليه فى الشهر بخمس مايه درهم، ورتب له راتبا جيدا. وامره ان يكتب الى اخيه كتابا يعرفه فيه نيّة السلطان له وشكر منه، ويرغبه فى مكاتبات السلطان، وانه يعطيه من الاقطاعات ما احبّ واختار «وانت بعد دلك على الاختيار ان شيت فى الاقامه او الحضور». فلما وصل اليه الكتب (94) حملها الى هلاوون واوقفه عليها، وقال: «ان صاحب مصر انما يكتب الىّ بمثل هدا ليتع فى يدك، فيكون سببا لقتلى. وقد عزمت ان اكيده واكاتب امرايه الكبار، اعيان دولته بمصر والشأم، لاكيده كما كادنى». فلم يوافقه هلاوون على دلك، ثم عاوده مرارا حتى ادن له فى دلك. فكتب كتبا الى جماعه من الامرا. فوقعت فى يد السلطان، فعلم انها مكيده منه فى قباله ما اكاده به. فكتب اليه يشكره على عرض الكتب على هلاوون، واستصوب رايه فى دلك كونه عرضها لتزول التهمه عنه. وبعث الكتب مع قصاد، وقرّر معهم انهم ادا وصلوا الى شط جزيره بن عمر، يتجردوا (16) من ثيابهم على انهم يسبحوا (17)، ويحتالوا فى اخفاء انفسهم ليظن بهم انهما غرقا، وكانا رجلان (18)، وتكون الكتب فى ثيابهم؛ ففعلوا دلك. قال بن (19) شداد صاحب السيره: فراوا نواب التتار الثياب فاخدوها، فوجدوا الكتب فيها. فحملت الى هلاوون، فوقف عليها، وكتم امرها، وكانت اكبر اسباب تلاف الزين الحافظى، والله اعلم.

(1) وتكاتب: وشرعت تكاتب، م ف--خارجا: خارج (5) استدعا: استدعى (16) يتجردوا: يتجردون (17) يسبحوا، ويحتالوا: يسبحون، ويحتالون (18) رجلان: رجلين (19) بن: ابن--فراوا: فرأى

ذكر [حوادث] سنه ثلث وستين وستمايه

ذكر [حوادث] سنه ثلث وستين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم اربعه ادرع واصبعان. مبلغ الزياده سبعه عشر دراعا واربعه عشر اصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (5) العباس احمد امير المومنين. والسلطان الملك الظاهر سلطان الاسلام. وساير الملوك بحالهم خلا الملك الاشرف صاحب حمص. فانه توفى الى رحمه الله تعالى، ورجعت حمص الى نيابه الملك الظاهر. وفيها انهى للسلطان الملك الظاهر (95) ان جماعه يجتمعون غالب الاوقات فى دار واحد منهم، وياكلون الططماج (9) ويزيدون فى الكلام وينقصون، منهم سنقر التركى. فكحل وقطع يده ورجله، وسمر الاخر، واطلق الثالث. وفيها قطع ايدى جماعه من نواب الولاه بالقاهره والمقدمين بدار الولايه وخفر واصحاب ارباع. وسبب دلك ان كان ظهر بالقاهره حراميه وافسدوا فساد كثير (12). ثم انهم كبسوا على عرب كانوا نزول تحت القلعه. فقام العايط، فسمع السلطان وعلم الخبر. فلما كان الغد طلعت ورقه الصباح-صحه وسلامه (14). فانكر [السلطان] على متولى القاهره فقال: «ان النواب والمقدمين والخفرا لم يعرفونى بشئ». ودكر ان السلطان الملك الظاهر نزل دات ليله الى القاهره متنكرا ليرى احول الناس بالمشاهده والمعاينه. فراى رجل (17) من مقدمى الوالى، وقد مسك امراه وعرها

(5) ابى: أبو (9) الططماج: التطماج، م ف؛ انظر حاشية رقم 1 لبلوشيه فى XLL ص 472 (12) فساد كثير: فسادا كثيرا (14) صحه وسلامه: فى م ف «ولم يكن فيها ذكر شئ» (17) رجل: رجلا

لباسها من وصطها (1) بيده، والناس وقوف لا يجسروا ان يكلموه. فقال السلطان: «جميع اهل الولايات يفعلوا (2) مع الناس كدلك». فكان هدا اكبر اسباب قطعهم. والصحيح انه وقع بعض تلك الحراميه، فاحضره السلطان بين يديه وقال له: «بحياتى، اصدقنى وانا اعفك واحسن اليك». فاعترف ان كل ما فعلوه باتفاق من نواب الولاه والمقدمين والخفرا. فقطعهم السلطان بعد ان صحح امرهم. وفيها وردت الاخبار الى مصر بنزول التتار على البيره وحصارها. فجهز السلطان عسكرا كثيفا يقدمه الامير عز الدين ايغان المعروف بسم الموت والامير جمال الدين اقوش المحمدى (96) وجماعه من الامرا. ورسم لعساكر الشام بكمالهم بالتوجه صحبه العسكر المصرى. فاجتمعت العساكر وتوجهوا حتى قطعوا الفراه (9). وكان السلطان قد سيّر الى الامير شرف الدين عيسى بن مهنا يامره بالركوب والغاره على حران. فلما بلغ التتار قدوم العساكر وغاره العرب على حران ولوا منهزمين ورجعوا خايبين، وعادت العساكر الى الديار المصريه. وفيها يوم السبت رابع ربيع الاخر توجه السلطان الى الشام قاصدا قيساريه. فنزل عليها وحاصرها وفتحها عنوه بالسيف فى ثامن جمادى الاولى. وعصت قلعتها بعدها بعشره ايام وفتحها، وهرب من كان بها الى عكا، ثم اخربها حتى جعلها دكا. وهى اول فتوحاته رحمه الله. ثم ملّك سايرا اعمالها للامرا الدين حضروا حصارها. ثم رحل عنها ونزل على ارسوف وحاصرها، وجدّ فى حصارها حتى فتحها فى يوم الخميس ثانى عشرين شهر رجب، ثم هدمها الى الارض دكا. ووصلت البشاير الى دمشق والى مصر، وضربت البشاير فى الممالك الاسلاميه.

(1) وصطها: وسطها (2) يفعلوا: يفعلون (9) الفراه: الفرات

دكر قيساريه وبدو شأنها من أول الاسلام

دكر قيساريه وبدو (1) شأنها من أول الاسلام هى من المداين القدم، فتحت فى سنه تسع عشره من الهجره النبويه-على صاحبها افضل الصلاه والسلم (3) -بعد واقعه اجنادين المقدم دكرها فى هدا التاريخ المبارك فى الجزء الثانى منه. وكان فتحها اولا على يد معويه (4) ابن ابى سفيان، رضى الله عنه، واستشهد عليها من المسلمين خمسه الاف نفر. وبها ختمت فتوحات الشام فى اول الاسلام، وهى اول فتوحات السلطان الملك الظاهر فى الاخر. قال القاضى محيى الدين بن عبد الظاهر (7) -سقى الله عهده وبرّد ضريحه-: لما فتح السلطان الملك الظاهر-رحمه الله تعالى- (97) قيساريه الشام وبلادها، واحصى المزدرع من ضياعها وقراها، عمل بدلك اوراقا واقامت عند الامير سيف الدين بلبان الدوادار-رحمه الله-ولم تزل عنده حتى فتح الله على يد السلطان بعدها ارسوف فى تاريخ ما دكرناه. فسير طلب قاضى دمشق، وهو يوميد القاضى شمس الدين بن خلكان صاحب التاريخ الحسن رحمه الله، وجماعه من عدول دمشق، ووكيل بيت المال، وجماعه من الفقها والايمه، وامر ان يملك المجاهدين (13) البلاد التى فتحها الله عزّ وجلّ على ايديهم بحد سيوفهم واسنّه رماحهم. وكتب التواقيع بدلك لكل منهم ما سنذكره انشا الله تعالى. ثم سيرها الى الديار المصريه، واخد عليها خط الصاحب بها الدين، وخط الامير بدر الدين الخزندار، وخطوط ديوان الجيوش المنصوره، ومستوفى الصحبه. واثبت دلك واحضرت الاوراق والكتب بين يدى السلطان، فسلمها للامير سيف الدين الدوادار، وامره ان يفرقها على اصحابها ففرقت. وحضروا (19) الامرا بعد دلك وقبلوا الارض بين يدى السلطان، وحضر بعد دلك قاضى القضاه شمس الدين بن خلكان الى غزه وكتب مكتوبا جامعا بالتمليك ما هدا نسخته:

(1) وبدو: وبدء (3) والسلم: والسلام (4) معويه بن: معاوية بن (7) الرواية التالية غير مذكورة فى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، (مخطوطة مكتبة الفاتح باستانبول رقم 4367) (13) المجاهدين: المجاهدون (19) وحضروا: وحضر

بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد حمدا لله تعالى على نصرته المتناسبة (1) العقود، وتمكّنه الذى رفلت الملة الاسلامية منه فى أصفى البرود، وفتحه الذى إذا شاهدت السير (2) مواقع نفعه وعظيم وقعه علمت انه لامرها (3) يسود من يسود. والصلاة على سيدنا محمد الذى جاهد الكفار، وجاهرهم بأعمال السيف البتار، وأعلمهم لمن عقبى الدار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة تتواصل بالعشى (98) والابكار. فإن خير الكلام النعمة نعمة وردت بعد الياس، وجاات (6) بعد توحشها وهى حسنة الايناس، واقبلت على فترة من تخاذل الملوك وتهاون الناس، وصرعت ابواب الجهاد وقد غلقت فى الوجوه، وانطقت السنة المنابر وشفاه المحابر بالبشاير التى ما اعتقد أحدا (8) أنّ بها تفوه. فاكرم بها نعمة على الاسلام وصلت للملة (9) المحمدية أسبابا، وفتحت للفتوحات أبوابا، ونقمت (10) من التتار والفرنج العدوين، ورابطت من الملح الأجاج والعذب الفراه بالبرين والبحرين، وجعلت عساكر [الإسلام] (11) تذل الافرنج بغزوهم فى عقر الدار، وتحرس (12) من حصونهم المانعة خلال الديار والأمصار، وتملأ خنادقهم بشاهق الأسوار، وتقود من فضل عن شبع السيف الساغب فى قبضة القيد إلى حلقات الاسيار (13). فرقة منها تقتلع للفرنج قلاعا وتهدم حصونا، وفرقة تبنى ما هدمه التتار بالمشرق وتعليه حصونا (15)، وفرقة تتسلم بالحجار قلاعا شاهقة وتتسنّم هضابا سامية. فهى بحمد الله البانية الهادمة، المفيدة العادمة، والقاسية الراحمة. كل ذلك بمن اقامه الله للأمة الإسلامية راحما، وجرّد به سيفا قد شحذت للتجارب خديه فترى، وحمل رياح

(1) المتناسبة: فى المقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 530 «المتناسقة» (2) السير: فى المقريزى «العيون» (3) انه لامرها: فى المقريزى «لأمر ما» (6) وجاات: وجاءت (8) أحدا: أحد (9) للملة: فى المقريزى ص 530 «للأمة» (10) ونقمت: فى المقريزى «وهزمت» --الفراه: الفرات (11) أضيف ما بين الحاصرتين من المقريزى ص 530 (12) وتحرس: فى المقريزى «وتجوس» --بشاهق: فى الأصل «تشاهق» (13) الاسيار: الإسار (15) حصونا: فى المقريزى 531 «تحصينا»

النصرة ركابه تسخيرا فسار إلى مواطن الظفر وسرى، فكوّنته السعادة ملكا إدا رأته فى دستها قالت تعظيما له هذا ملك ما هذا بشرا. وهو مولانا السلطان السيد الأجل العالم العادل المؤيد المنصور ركن الدنيا والدين، سلطان الاسلام والمسلمين، سيد الملوك والسلاطين، محيي العدل فى العالمين، قاتل الكفرة والمشركين، (99) قاهر الخوارج والمتمردين، سلطان بلاد الله، حافظ عباد الله، سلطان العرب والعجم، مالك رقاب الأمم، اسكندر الزمان، صاحب القران، ملك البحرين، صاحب القبلتين، خادم الحرمين الشريفين، الآمر ببيعة الخليفتين، صلاح الجمهور، صاحب البلاد والأقاليم والمعمور، فاتح الامصار، مبيد التتار، ناصر الشريعة المحمدية، رافع علم الملة الاسلامية، مقتلع القلاع من الكافرين، القايم بفرض الجهاد فى العالمين، ابى (10) الفتح بيبرس قسيم أمير المؤمنين، جعل الله سيوفه مفاتيح البلاد، واعلامه اعلاما من الاسنة على رأسها من باب الهدايه العباد (11)، فإنه السلطان الذى يأخذ البلاد ويعطيها، ويهديها بما فيها. وإذا عامله [الله] (12) بلطفه شكر، وإذا قدر عفا (13) وأصلح فكم وافقه قدر، وإذا أهدت اليه النصرة فتوحا بسيفه قسمها فى حاضريه لديه متكرما، وقال الهدية لمن حضر. وإذا خوّله الله تخويلا من بلاد الكفر، وفتح على يديه قلاعا، جعل الهدم للأسوار، والدماء للسيف البتار، والرقاب للاسار، والنواحى (16) المزدرعه للأولياء والانصار. ولم يجد لنفسه الاّ ما تسطره الملايكة فى الصحايف لصفاح من الأمور (17)، وتطوى عليه طويات السير التى غدت بما فتحه الله من الثغور باسمه [باسمة] (18) الثغور. شعر <من الوافر>:

(10) ابى: أبو (11) من باب الهداية العباد: فى المقريزى ص 531 «نار بهداية العباد» (12) أضيف ما بين الحاصرتين من المقريزى ص 531 (13) عفا: عفى--فكم وافقه قدر: فى المقريزى «فوافقه القدر» (16) والنواحى: فى المقريزى ص 531 «البلاد» -- يجد: فى المقريزى «يجعل» (17) لصفاح من الأمور: فى المقريزى «لصفاحه من الأجور» (18) أضيف ما بين الحاصرتين من المقريزى

فتا (1) … جعل البلاد من العطايا فأعطا المدن واحتقر الضياعا سمعنا بالكرام على قياس … ووالا (2) كان ما فعل ابتداعا. ولما كان-خلد الله سلطانه-بهذه المثابة، وقد فتح الفتوحات (100) التى اجزل الله بها أجره وثوابه، وله أولياء كالنجوم انارة وضياء، وكالأقدار نفاذا وقضاء (4)، وكالعقود تناسقا، وكالوبل تلاحقا إلى طاعته وتسابقا، وكالنفس الواحدة عبودية لها وتصادقا، رأى-خلد الله سلطانه-أن لا ينفرد عنهم بنعمة، ولا يتخصص ولا يستأثر بمنحة غدت بسيوفهم تستفيد (7)، وبعزايمهم تستخلص، وأن يؤثرهم على نفسه، ويقسم عليهم الأشعة (8) من أنوار شمسه، ويبقا للولد منهم وولد الولد، ما يدوم إلى آخر الدهر ويبقا (9) على الأبد، لتعيش الأبناء فى نعمته كما عاش الآباء، وخير الاحسان ما [شمل، وأحسنه ما خلد. فخرج الأمر العالى لا زال] (10) يشمل الأعقاب والذرارى، ويبين (11) إنارة الأنجم الدرارى، ان يملّك جماعة امرايه وخواصه الذين يذكرون، وفى هذا المكتوب الشريف يسطرون، ما يعيّن من البلاد والضياع، على ما يشرح ويلقى من الأوضاع، وهو: الامير فارس الدين اقطاى-عتيل بكمالها، الامير جمال الدين ايدغدى العزيزى- النصف من زيتا، الامير بدر الدين بيسرى-نصف طور كرم، الامير بدر الدين بيليك الخزندار-نصف طور كرم، الامير شمس الدين ألدكز الركنى-ربع زيتا،

(1) فتا: فتى--فأعطا: فأعطى (2) ووالا: فى الأصل «وقالا؟؟؟» --ذكر المقريزى (السلوك ج‍ 1 ص 531) بدل هذا البيت ما يلى «سمعنا بالكرام وقد أرانا* عيانا ضعف ما فعلوا سماعا إذا فعل الكرام على قياس* جميلا كان ما فعل ابتداعا» (4) نفاذا وقضاء: فى المقريزى ص 531 «مضاء» (7) تستفيد: فى المقريزى «تستنقذ» (8) الأشعة: فى الأصل «الاشعيه» (9) ويبقا: ويبقى (10) أضيف ما بين الحاصرتين من المقريزى ص 532. (11) ويبين: فى المقريزى «وينير»

سيف الدين قليج البغدادى-ربع زيتا، الامير ركن الدين خاص ترك-افراسين بكمالها، الامير علا الدين البندقدار-ناحيه (2) الشرقيه بكمالها، عز الدين ايدمر الحلى- نصف قلنسوه (3)، الامير شمس الدين سنقر الرومى-نصف قلنسوه، الأمير سيف [الدين] (4) قلاوون الالفى-نصف طيبه الاسم، عز الدين ايغان الركنى- نصف طيبه الاسم، الامير جمال الدين اقوش النجيبى-أم العجم (5) بكمالها، الأمير علم الدين سنجر الحلبى-بتان (6) بكمالها، جمال الدين اقوش المحمدى-نصف بورين، (101) الامير فخر الدين ألطنبا الحمصى-نصف بورين، الامير جمال الدين ايدغدى الحاجبى-ثلث جبله، صارم الدين صراغان-ثلث جبله (8)، الامير ناصر الدين القيمرى-نصف البرج (9) الاحمر، الامير بدر الدين بيليك الايدمرى-نصف تبرين (9_)، فخر الدين عثمان بن المغيث-ثلث جبله، الامير شمس الدين سلار البغدادى- نصف البرج الاحمر (11)، الامير سيف الدين ايتمش السعدى-نصف يما، شمس الدين سنقر السلحدار-نصف يما، الملك المجاهد بن (12) صاحب الموصل-نصف دنابه،

(2) ناحيه الشرقيه: كذا فى الأصل وكذلك فى م ف، أما فى شافع بن على، حسن المناقب السرّية (مخطوطة باريس رقم 1707) فورد الاسم «باقة الشرقية»، انظر حاشية رقم 5 لبلوشيه فى P .O .XLL ص 140، وكذلك مقالة en Palestine",Journal c'the Palestine Oriental Society,val .XIX (9391 - 04),p 14 Abel,"La liste des donations de Baibars : (3) قلنسوه: فى الأصل «قلسوه»؛ انظر Abel ص 41 (4) أضيف ما بين الحاصرتين من م ف والمقريزى (5) أم العجم: كذا فى الأصل وفى م ف؛ فى Abel ص 41 «أم الفحم» (6) بتان: فى الأصل: «نتان»، انظر Abel ص 41 - -بورين: فى الأصل «تورين»؛ انظر Abel ص 41 (8) الحاجبى-ثلث جبله: فى م ف «الحاجبى-نصف بيزين» جبله: كذا فى الأصل وفى م ف؛ فى Abel ص 41 «جلمة» (9) البرج: فى الأصل «المرج»؛ انظر Abel ص 41 (9_) تبرين: فى م ف والمقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 532 «بيزين» (11) البغدادى-نصف البرج لأحمر: فى م ف والمقريزى ص 533 «البغدادى-ثلث جبله، الأمير سيف الدين بلبان الزينى [الصالحى]-نصف البرج الأحمر» (12) بن: ابن--دنابه: فى الأصل «دبانه»، انظر Abel ص 41.

الملك المظفر صاحب سنجار-نصف دنابه، الأمير ناصر الدين (1) محمد بن بركه خان- دير القصور (2) بكمالها، الامير عز الدين الافرم-نصف الشويكه، الامير سيف الدين كرمون اغا-نصف الشويكه، الامير بدر الدين الوزيرى-نصف طبرس (3)، الامير ركن الدين منكورس-نصف طبرس، الامير سيف الدين قشتمر العجمى-علار بكمالها، علا الدين كور قفجاق (5) -نصف عرعرا، الامير سيف الدين قفجق البغدادى- نصف عرعرا، الامير حسام الدين [بن] (6) اطلس خان-سيدا بكمالها، علا الدين كمغدى (7) الظاهرى-الصفرا بكمالها، الامير سيف الدين كجك البغدادى-نصف فرعون، الامير علم الدين سنجر الازكشى-نصف فرعون، علم الدين سنجر طرطج الآمدى (9) -استانه بكمالها، الامير عز الدين الحموى الظاهرى-نصف ارتاح، الامير شمس الدين سنقر الألفى-نصف ارتاح، علا الدين طيبرس الظاهرى-نصف نما الغريبه، الامير علا الدين السكزى-نصف نما الغربيه (11)، الامير عز الدين ايبك الفخرى-القصير بكمالها، علم الدين سنجر الصيرمى (12) -اعناص بكمالها، الامير ركن الدين بيبرس المعزى-نصف قفين (13)، الامير شجاع الدين طغرل الشبلى- نصف كفر مراعى (14)، علا الدين كندغدى الحبيشى-نصف كفر مراعى،

(1) ناصر الدين: فى المقريزى ج‍ 1 ص 533 «بدر الدين» (2) دير القصور: فى Abel ص 41 «دير الغصون» (3) طبرس: فى الأصل «طرس»؛ انظر Abel ص 41 (5) كور قفجاق: كور قيشاق، م ف (6) أضيف ما بين الحاصرتين من م ف والمقريزى ص 533 - -سيدا: فى الأصل «سبدا»؛ انظر Abel ص 41 (7) كمغدى: فى م ف والمقريزى «كندغدى» (9) الآمدى: فى المقريزى «الأسدى» --استانه: كذا فى الأصل، وفى م ف «اشتابه»، وفى المقريزى، ص 533 «اقتابه»، وفى Abel ص 41 «اكتابه» (11) نما الغربيه: كذا فى الأصل وم ف؛ بينما فى المقريزى ص 533 «باقة الغربية»؛ انظر أيضا Abel ص 42 - -السكزى: فى م ف «الشكزى»، وفى المقريزى ص 533 «التنكزى» (12) الصيرمى: الصيرفى، م ف--اعناص: كذا فى الأصل وم ف؛ فى المقريزى «أخصاص»؛ انظر Abel ص ا 42 (13) قفين: فى الأصل «فعين؟؟؟» (14) مراعى: كذا فى الأصل؛ وفى Abel ص 42 «راعى»

(102) الامير شرف الدين عيسى الهكارى-نصف كسفا، الامير بها الدين يعقوبا الشهرزورى-نصف كسفا، جمال الدين موسى يغمور-نصف (2) رمكه، الامير علم الدين سنجر امير اخور-نصف حانوتا، الامير علم الدين سنجر الحلى-نصف رمكه (4)، سيف الدين بيدغان الركنى-افراديسا (4_) بكمالها، الامير عز الدين ايدمر الظاهرى-ثلث حله، الامير شمس الدين سنقر شاه-ثلث حله (5)، جمال الدين اقوش الرومى-ثلث حله (6)، الامير بدر الدين بكتاش الفخرى-ثلث جلجوليا، الامير علا الدين كشدغدى (7) الشمسى-ثلث جلجوليا، بدر الدين بكجا الرومى-ثلث جلجوليا. ثم اشهد السلطان على نفسه الكريمه بدلك وكتب كتاب التمليك الشرعى الجامع بدلك، وفرقت النسخ لكل امير نسخه بما ملكه اياه. وأحسن السلطان الى القاضى شمس الدين بن خلكان واخلع عليه. وفيها وردت الاخبار على السلطان ان هلاوون هلك فى سابع ربيع الاخر بمرض الصرع، وكان يعتريه فى كل يوم مرتين. وكان هلاكه ببلد مراغه، ونقل الى قلعه تلا ودفن بها، وبنى عليه قبه. وان التتار اجتمعوا على ولده أبغا، وأن بركه قصده وكسره. فعزم السلطان على التوجه الى العراق لاغتنام الفرصه فى هدا الوقت فلم يمكنه دلك. وورد الخبر ان الفرنج ربما لما بلغهم [فتوح السلطان] (16) قالوا: «نقصد الديار المصريه لنسترجع دلك منه». فتأخر السلطان بهدا السبب عن قصده العراق وعاد الى الديار المصريه مويدا مجبورا محمودا مشكورا.

(2 و 4) رمكه: كذا فى الأصل وفى م ف؛ فى Abel ص 42 «بريكه» (4_) افراديسا: كذا فى الأصل وفى م ف؛ فى Abel ص 42 «فرديسيا» (5 و 6) حله: كذا فى الأصل وفى م ف: فى Abel ص 42 «حبلة» (7) كشدغدى: كشتدغدى، م ف-- بكجا: فى المقريزى ص 534 «بجكا» (16) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش

ولما كان يوم الخميس ثانى عشر شوال سلطن ولده ناصر الدين محمد بركه خان، ولقبه الملك السعيد. وركبه من القلعه، وحمل (103) بين يديه الغاشيه بنفسه راجلا والملك السعيد راكبا. ثم أنه نزل، وشق القاهره وقد زينت زينه عظيمه. ودخل من باب النصر وخرج من باب زويله، والامرا جميعهم مشاه بين يديه، والامير عز الدين الحلى راكبا (5) يحجبه، وكدلك الصاحب بها الدين بن حنا وقاضى القضاه راكبان قدامه، والامير بدر الدين بيسرى حامل الشتر، وكان يوما مشهودا. وفيها قبض السلطان على الامير شمس الدين سنقر الاقرع؛ وسببه ان رسولا ورد من الملك بركه على السلطان فى شهر دى القعده، ومعه رجل ادعا (8) انه الملك الاشرف ابن الملك المظفر شهاب الدين غازى. فطلب من يشهد له بدلك، فشهد له الامير شمس الدين سنقر الاقرع. فكشف السلطان عن حقيقه الأمر فادا الامير شمس الدين كان سبب مجيه (11)، فانه نفّد خلفه واستدعاه من بلد بركه. فقبض عليه وعلى الاقرع وعلى سنقر الرومى فانه كان مخاويه. وفيها صحّت الاخبار بهلاك هلاوون وجلوس ولده ابغا. وكان [ابغا] لما توفى هلاوون غايبا فى بلاد يا نغر (14) مقابل براق، فسيروا خلفه واجلسوه بوصيه من ابيه. وكان لهلاوون سبع (15) عشر ولدا وهم: ابغا نوين الملك بعده، يشموط، قنشين، بكشى، آجاى، يستر، منكو تمر، قالودر (16)، ارغون، تغاى تمر، كيختوا، احمد اغا، قيدوا وهو الدى قتله قازان حسبما ياتى من ذكره، والباقى لم اقف على اسماهم (17).

(5) راكبا: راكب (8) ادعا: ادّعى (11) مجيه: مجيئه (14) يانغر: فى الأصل «بامعر؟؟؟»؛ انظر حاشية رقم 1 لبلوشيه فى P .O .XLL ص 489 (15) سبع: سبعة--قنشين، بكشى: كذا فى الأصل؛ يعنى بها «تبشين تكشى»، انظر رشيد الدين فضل الله، جامع التواريخ (ط. باكو 1957) ج‍ 3 ص 18، وحاشية رقم 2 لبلوشيه فى P .O .XLL ص 489 (16) قالودر: كذا فى الأصل: يعنى بها «تكودار»؛ انظر بلوشيه، نفس الحاشية--قيدوا: قيدو؛ يعنى بها «بيدوا»: انظر بلوشيه، نفس الحاشية، ورشيد الدين، جامع التواريخ، ج‍ 3 ص 300 (17) اسماهم: أسمائهم

ذكر [حواث] سنة اربع وستين وستمايه

ذكر [حواث] سنة اربع وستين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم اربعه ادرع وسبعه وعشرون اصبعا. مبلغ الزياده ثمانيه عشر دراعا واثنا عشر اصبعا. (104) الخليفه الامام الحاكم بأمر الله ابو العباس امير المومنين. والسلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين بيبرس البندقدارى سلطان الاسلام بالممالك الاسلاميه من حدود الفراه (6) الى بلاد النوبه. ومن خلف الفراه الى اخر الدنيا بمطلع الشمس فى مملكه التتار من بنى جكز خان عده ملوك. والمجاور لبلاد الاسلام بين الفراه (7) بيت هلاوون، والملك عليهم يوميد ابغا ولده-حسبما دكرناه. وباقى الملوك حسبما دكرناه فيما تقدم خلا صاحب مراكش المغرب الملقب بالمرتضى فانه قتل وولى مكانه ابو العلا ولقب بالواثق. وفيها خرج السلطان الملك الظاهر الى صفد فى مستهل شهر شعبان المكرم، وترك بالديار المصريه نايبا الامير عز الدين الحلى فى خدمه الملك السعيد ولد السلطان. ونزل السلطان عين جالوت، وقدّم الامير جمال الدين ايدغدى العزيزى على عسكر وكدلك الامير سيف الدين قلاوون الالفى. وتوجهوا للغاره على بلاد السواحل، فغاروا على عكا وصور وعرقا وحلبا وطرابلس وحصن الاكراد. وهده الغاره كانت على هده الاماكن فى سلخ شعبان، وغنموا وسبوا، ثم كان النزول على صفد فى ثامن شهر رمضان المعظم.

(6) الفراه: الفرات (7) الفراه: الفرات

ذكر فتح صفد المحروسه

ذكر فتح صفد المحروسه ولما نزل السلطان الملك الظاهر رحمه الله على صفد فى التاريخ المدكور نصب المناجنيق، ودام عليها الحصار من ثامن رمضان المعظم الى مستهل شوال. فجدّ فى قوة الزحف بعد تمكن النقوب وتعليق الاسوار. فلما كان يوم الثلثا خامس عشر شوال المبارك طلبوا الامان. (105) فشرط عليهم لا (5) يستصحبوا معهم مالا ولا سلاحا، ورسم ان يفتشوا عند خروجهم، فان وجد مع احد منهم شئ من دلك انتقض العهد. فلما كان يوم الجمعه ثامن عشر شوال طلعت السناجق المنصوره السلطانيه على الاسوار، وعلت على الابراج، وقد خلت من تلك الأعلاج، مويده بالظفر والنصر، مرفوعه على قمم الاعدا وحصونها بالغلبه والقهر. ووقف السلطان بنفسه الكريمه على بابها، واخرج من كان بها من الديويه والاسبتار فى حال اضيق من سوار. فلما خلت دخل اليها الامير بدر الدين بيليك الخزندار نايب السلطنه المعظمة وتسلمها. ثم قيل ان جماعه من الملاعين الفرنج معهم اشياء من الاموال، ففتشوا فوجدوا دلك صحيحا، فامر السلطان بضرب رقابهم. ثم امر بعمارتها وتحصينها، ونقل اليها الدخاير والسلاح واقتطع بلادها للجند. وجعل مقدمهم الامير علا الدين الكبكى، ونيابه البر فى نواحيها الامير عز الدين العلايى، ونيابه القلعه بها الامير مجد الدين الطورى. وحكى الامير ركن الدين بيبرس العلايى ان السلطان لم يحلف لاهل صفد، وانما اجلس مكانه كرمون اغا التترى (18)، وأوقف الامرا فى خدمته، فحلف لهم كرمون. وكان عمل عليهم وزيرهم وكان نصرانيا، فنزلوا على يمين كرمون، فلما نزلوا جعلوا

(5) لا: ان لا، م ف (18) التترى، وأوقف: فى الأصل «الترى واقف»

عليهم الحجة انهم استصحبوا معهم الاموال وخرجوا عن الشرط، فضربت رقابهم عن اخرهم. وكانوا نحو من الفى فارس. فلما قتلوا سيّروا اهل عكا يقولوا (3) للسلطان: «تصدق علينا بنقل اجساد هولاء الشهدا الى عكا لاجل البركه بهم». (106) فترك السلطان الرسول عنده، ثم اخد جماعه من العساكر وساق من أول الليل، فما اصبح الاّ وهو على باب عكا. فلما فتحوا الباب وخرجوا لقضا حوايجهم ساق عليهم، فقتل منهم خلق كثير (6) وعاد من فوره. فلما وصل الى الدهليز طلب الرسول وأعاد الرساله فقال: «عود (7) اليهم، فقد عملنا عندهم شهدا وكفيناكم مؤونه النقل وكلفته». ثم دخل السلطان بعد رحيله من على صفد الى دمشق يوم الخميس مستهل دى القعده، وقد زينت له احسن زينه، ونزل بالقلعه. وامر العساكر بالمسير الى سيس والغاره عليها، فخرجوا من دمشق يوم السبت ثالث دى القعده. وقدم عليهم الملك المنصور صاحب حماه، وفوض التدبير للامير شمس الدين اقسنقر الفارقانى. فوصلوا الى الدربندات التى منها الدخول الى سيس. وكان صاحبها قد بنا (13) عليها ابرجه، وجعل فيها عده من المقاتله فملكوها (14) المسلمون، وقتلوا بعض من كان بها، وهربوا (15) الباقى. ثم هدموها، ودخلوا الى بلاد سيس. فقتلوا ونهبوا وسبوا ومسكوا ابن صاحب سيس، واسمه ليفون ابن هيثوم (16)، وكدلك اسروا ابن اخيه وجماعه من اكابرهم. ودخلوا المدينه، ونهبوها واخدوا ما فيها. وعادوا بعد ما اخلوا الأوطان من القطّان. فخرج السلطان اليهم والتقاهم، ودلك فى ثانى شهر دى الحجه.

(3) يقولوا: يقولون (6) خلق كثير: خلقا كثيرا (7) عود: عد (13) بنا: بنى (14) فملكوها: فملكها (15) وهربوا: وهرب (16) ابن هيثوم: بن هيثوم

وفيها نهب السلطان قارا. وسبب دلك ان ركابيا من ركابيه الديار المصريه كان خدم مع الطواشى شهاب الدين مرشد مقدم عسكر حماه، وخرج معه عند منصرفه من الرساله التى قدم فيها. فحصل للركابى مرض، فانقطع قريبا من قارا، وامسا (3) عليه الليل (107) فلم يشعر إلاّ وقد اتاه رجلين (4) من اهل قارا. وقالوا له «انت الليله ضيفنا»، وحملوه (5) الى قارا. فاقام عندهم ثلاثه ايام، ثم تعافا. فاخداه اوليك الرجلان تحت الليل، وهو مكتوف، وقد وضعوا (6) فى فيه مسد يمنعه من العياط. ومضوا به الى حصن الاكراد، فاباعوه (7) باربعين دينار صوريه. واتفق ان فى تلك السنه توجه بعض تجار دمشق الى حصن الاكراد، واشترى اسارا (9) واشترى دلك الركابى فى الجمله. فلما دخل دمشق واطلق الركابى، خدم ركبدارا مع بعض الاجناد. فلما نزل السلطان على قارا، حضر دلك الركابى الى عند الامير فارس الدين اتابك، فانهى له قصته. فقال: «تعرف الرجل الدى اخدك واباعك»، قال: «نعم»، فنفده مع جانداريه، فوجدوا احد الرجلين، فمسكوه واحضروه الى اتابك. فدخل اتابك على السلطان واعلمه بصورة الحال. فامر باحضارهما بين يديه. فانكر دلك الرجل القارى، فقال الركابى: «انا اعرف دورهما وما فيهما»، فاعترف القارى بدلك وقال: «نحن وكل من فى هده البلد يفعل دلك». وكان قد حضر من قارا رهبان بضيافه للسلطان، وهم بباب الدهليز. فلما ثبت دلك عند السلطان امر بالقبض على الرهبان، وركب بنفسه الكريمه وقصد الدياره التى خارج قارا، فقتل جميع من بها ونهبها، ثم عاد وامر العسكر بالركوب،

(3) وامسا: وأمسى (4) رجلين: رجلان--وقالوا: وقالا (5) وحملوه: وحملاه-- عندهم: عندهما--تعافا فاخداه اوليك: تعافى فأخذه ذانك (6) وضعوا: وضعا--مسد: مسدّا--ومضوا: ومضيا (7) فاباعوه: فأباعاه--دينار: دينارا (9) اسارا: أسارى

ذكر [حوادث] سنة خمس وستين وستمايه

ثم قصد التل الدى ظاهرها من ناحيه الشمال. وسير استدعا (1) ابو العز، وهو الريس الدى بها. وقال: «نحن قاصدين (2) الصيد، فأخرج الينا اهل البلد لينفروا قدامنا الصيد». فأخرجهم جميعهم الى ظاهر قارا. (108) فلما بعدوا عن البلد امر العساكر ان يضربوا رقاب الجميع، ففعلوا، ولم يسلم منهم الا من اختفا (4) او هرب او تحصن فى الابرجه التى لها. واخدوا منهم اسارا (5)، وكان عده من أسر منهم الف وسبعين نفر ما بين رجل وصبى وامراه. ثم امر بالرهبان، فوسطوا عن اخرهم. ودخل العسكر الى قارا ونهبوها. واخرب كنيستها وبنيت جامعا. ثم نقل اليها جماعه من الرعيه، تركمان وغيرهم، واسكنهم بها، ورتب بها خطيبا وقاضيا. وابقا (8) على الرّيس ابو (9) العز، فانه كان يعرفه قديما، وحلف انه لم يكن يعلم بشئ مما فعلوه. ثم انه خرج والتقا (10) العسكر الوارد من سيس حسبما تقدم. وعاد معهم، ودخل الى دمشق والغنايم بين يديه والاسرا كدلك. ودلك فى خامس عشرين دى الحجه من هده السنه والله اعلم. ذكر [حوادث] سنة خمس وستين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم خمسه ادرع واحد عشر اصبعا. مبلغ الزياده سته عشر دراعا واربعه عشر اصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (17) العباس احمد امير المومنين، والسلطان الملك الظاهر سلطان الاسلام، وقد خرج من دمشق مستهل المحرم من هده السنه.

(1) استدعا: استدعى--ابو: أبا (2) قاصدين: قاصدون (4) اختفا: اختفى (5) اسارا: أسارى--الف: ألفا (8) وابقا: وأبقى (9) ابو: أبى (10) والتقا: والتقى (17) ابى: أبو

ونفذ المثقل الى الديار المصريه صحبه الامير شمس الدين الفارقانى، وتوجه الى الكرك، ونزل بركه زيزا. فركب ليتصيّد، فتقنطر انكسر فخده (2). فاقام هنالك يلاطف نفسه حتى قارب الصحه. فركب فى محفه، وسار الى غزه، ثم (109) توجه الى القاهره، وقد منّ الله تعالى على الاسلام بعافيته. وزينت القاهره، وشق فيها وهو راكب جواده. وفيها انشا السلطان الملك الظاهر صلاه الجمعه والخطبه بجامع الازهر، وكانت قد انقطعت منه من ايام الحاكم الفاطمى. وكان الجامع المدكور قد عاد من جمله المساجد التى يقام فيها الصلوات الخمس، وكان قد تشعّث تشعيثا كثيرا. فلما عمّر الامير عز الدين الحلى داره بجواره، رمم تشعيثه. وجامع الازهر المدكور هو اول بيت وضع للناس بالقاهرة. واقيمت الجمعه فيه بعد امتناع جماعه من العلما من دلك. ثم حصل الاتفاق، واقيمت الجمعه فيه ثامن عشر شهر ربيع الاخر سنه خمس وستين وستمايه. وهدا الجامع بناه القايد جوهر المقدم دكره بانى القاهره. وكان بناه فى سنه ستين وثلثمايه، وانتهى واقيمت فيه الصلاه يوم الجمعه اول جمعه فى شهر رمضان سنه احدى وستين وثلثمايه، وكانت بناية القاهره المحروسه فى سنه ثمان وخمسين وثلثمايه حسبما (15) سقناه من دكر دلك. ثم ان العزيز ابن المعزّ الفاطمى جدّد بهدا الجامع اشياء، وجدّد له اوقاف (16) كثيره. ويقال ان به طلسم لا يسكنه عصفور ولا يفرخ فيه. ولما كان فى سنه ثمان وسبعين وثلثمايه، سأل الوزير ابو الفرج يعقوب ابن (18) كلّس المقدم دكره فى هدا التاريخ-وهو الوزير الدى عرفت به حاره الوزيريه بالقاهره

(2) فخده: فخذه (15) حسبما. . . دلك: انظر ابن الدوادارى ج‍ 6، نشر المنجد (القاهرة 1961)، ص 120 - 123،139 - 147 - -ابن: بن (16) اوقاف: أوقافا (18) ابن: بن

المحروسه-وتحدث مع العزيز فى صلة رزقة لجماعه من الفقهاء. فاطلق لكل منهم كفايته، واشترا (2) لهم دارا الى جانب الجامع. وادا كان يوم الجمعه حضروا الجامع، وذكروا فيه الدرس. وكان شيخهم ابو يعقوب، وكان عده فقاه (3) نيف وثلثين فقيها. وعلت منار الجامع فى ايام القاضى صدر الدين، وكان فيه تنورين (4) فضه، (110) وسبعه وعشرين قنديل (5) فضه. وكانت له اوقاف كثيره: ومن جملتها جزوا بدار الضرب بمصر، وجزوا (6) بدار الحرق الجديده بمصر. وكان متحصل وقفه الف دينار وسبع مايه وستون دينار (7). فلما احترقت مصر فى سنه اربع وستين وخمس مايه تغيّرت هده المعالم وجهلت. وكان هدا الجامع الازهر فى اول انشايه بنى قصيرا، فزيد فيه دراع (9). واستمرت الخطبه فيه حتى بنى جامع الحاكم المقدم دكر تاريخ انشايه فى سنه ثلاث واربع مايه (10)، فانقطعت الخطبه من الجامع الازهر، واستمرت فى [جامع] الحاكم الى هده السنه. وقرات فى سيرة الحاكم المدكور يقول: فى يوم الجمعه التاسع من رمضان المعظم سنه تسع وتسعين وثلثمايه اقيمت الجمعه بالجامع الحاكمى الجديد الدى خارج باب الطايبيه (13) مما يلى باب الفتوح. وكان الامام الحاكم يخطب فيه جمعه، وفى جامع ابن طولون جمعه، وفى جامع مصر جمعه، وابطل (15) الخطبه من جامع الازهر المدكور. وكان هدا الجامع الحاكمى برا (16)، خارجا عن عين القاهره. فجدد بعد دلك باب الفتوح، وعلى البدنه مكتوب

(2) واشترا: واشترى--دار: دارا (3) فقاه: كذا بالأصل، والمقصود به «فقهائه» --نيف: نيفا (4) تنورين: تنوران (5) وعشرين قنديل: وعشرون قنديلا--جزوا: جزء (6) وجزوا: وجزء--الحرق: الحزف، م ف (7) وستون دينار: وستين دينارا (9) دراع: ذراعا (10) ثلاثو اربع مايه: ثلاث وأربع مائة (13) الطايبيه: الطابية، انظر ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر (مخطوطة مكتبة الفاتح باستانبول، رقم 4367) ق 95 ب؛ تحقيق عبد العزيز الخويطر، رسالة دكتوراه لندن 1960، ص 1097 (15) ابطل: أبطلت (16) برا. . . القاهرة: فى ابن عبد الظاهر «خارج القاهرة»

ذكر [حوادث] سنة ست وستين وستمايه

-وهى البدنه التى مجاوره باب الفتوح مع بعض البرج-يقول: هدا ما بنى فى زمان المستنصر فى وزاره امير الجيوش فى سنه ثمانين واربع مايه. و (2) قد دكرت قطعه جيده تختص بدكر الجامع الحاكمى فى الجزو (3) المختص بدكر الفاطميين فى هدا التاريخ، ما يغنى عن اعادته هاهنا. (4) وفيها امر السلطان الملك الظاهر بعمارة جامع بميدان قراقوش بالحسينيه بجوار زاويه الشيخ خضر. وكان الشيخ خضر السبب فى انشايه لكثره العالم الدين كانوا يردون عليه. فشرع فى بنايه النصف من جمادى الاخره وفوّض امره للصاحب بها الدين بن حنا، وللامير علم الدين سنجر المسرورى المعروف بالخياط والى القاهره يوميد. وكملت (111) بنايته فى شوال سنه سبع وستين وستمايه. ذكر [حوادث] سنة ست وستين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم اربعه ادرع وعشرين (11) اصبعا. مبلغ الزياده سته عشر دراعا واربعه عشر اصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابو العباس احمد امير المومنين. والسلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارى سلطان الاسلام. وساير الملوك والنواب بحالهم حسبما تقدم من دكرهم فى السنين المتقدمه.

(2 - 4) وقد. . . هاهنا: انظر ابن الدوادارى ج‍ 6 ص 286 (3) الجزو: الجزء (11) وعشرين: وعشرون

ذكر فتح يافا وذكر مبتداها اولا

ذكر فتح يافا وذكر مبتداها (1) اولا لمّا كان يوم السبت ثانى جمادى الاولى (2) ورد على السلطان الملك الظاهر رسل بضيافه من صاحب يافا وتقادم، فمسكهم السلطان واعتقلهم. ثم امر العساكر باللبس (3) ليلا، وركب وسار فاصبح عليها. فهربت الفرنج منها الى القلعه، وكانت على نشز عالى (5) مرتفع البناء، فدخل العسكر الى الربظ والمدينه، فملكوها بعد ما طلبوا الامان، فامنهم وعوضهم عنما (6) نهب لهم اربعين الف درهم. وخرجوا، فركبوا المراكب، وطلبو عكا. ثم ملك القلعه وهدمها وكدلك المدينه. وكانت من بناية ريدا فرنس لما نزل الساحل بعد كسرته وخلاصه من الاسر فى سنه ثمان واربعين وستمايه. قلت: وهده يافا كان فتحها عمرو بن العاص-رضى الله عنه-فى خلافه الامام ابى بكر-رضى الله عنه-، ويقال بل فتحها معويه (10) -رضى الله عنه، دكر دلك البلادرى. وقال عز الدين ابن (12) عساكر-رحمه الله-فى تاريخه: ان الملك طنكلى ابن اخت صاحب انطاكيه بناها فى سنه ثلث وتسعين واربع مايه. ونزل عليها السلطان صلاح الدين (112) فى سنه ثمان وثمانين وخمس مايه. فخرج اليه البترك وجماعه من كبارها، وسالوه ان يتسلمها بالأمان، ويكونون (15) اسراه، ويقيدون اسيرا باسير، وكبيرا بكبير، وصغير (16) بصغير، وتقرر دلك بينهم. ثم انهم سوّفوا الحال حتى وصل اليهم

(1) مبتداها: مبتدئها (2) جمادى الاولى: فى اليونينى، ذيل مرآة الزمان، ج‍ 2 ص 374 وم ف «جمادى الآخرة» (3) باللبس: فى الأصل «بالبس» (5) عالى: عال-- الربظ: الربض (6) عنما: عما (10) معويه: معاوية (12) ابن: بن-- طنكلى: فى ابن الأثير، الكامل فى التاريخ (ط. بيروت 1967)، ج‍ 10 ص 324 طنكرى» (15) ويكونون: ويكونوا--ويقيدون: ويقيدوا؛ فى م ف «يقتدون» (16) وصغير: وصغيرا

ذكر الشقيف وفتحها

الملك الانكتير، فقووا به، ونقضوا الشرط الدى وقع عليه الاتفاق. فرحل السلطان صلاح الدين عنها، ونزل القيطون (2). ولم يكن فتحها على يده، وانما فتحها الملك العادل بعساكر مصر لما كان اتابكا للملك العزيز عثمان بن السلطان صلاح الدين -حسبما سقناه من دلك فى تاريخه فى سنه احدى وتسعين وخمس مايه. ولما كان الانبرور ايام الملك الكامل-رحمه الله-نزل بها الانبرور وعمر قلعتها وحصنها. ثم اتقن امرها الفرنسيس وهو ريدا فرانس، وحسّن عمارتها احسن عماره، وحصنها ابلغ تحصين وامكنه. ولم تزل كدلك حتى فتحها السلطان الملك الظاهر فى هدا التاريخ المدكور. ذكر الشقيف وفتحها ولما فرغ السلطان الملك الظاهر-رحمه الله-من امر يافا، رحل عنها يوم الاربعا ثانى عشر شهر رجب. وتوجه طالبا للشقيف. فنزل عليها يوم الثلثا ثامن عشر الشهر المدكور. فوقع له كتاب من الفرنج بعكا الى النواب بالشقيف يتضمن: ان المسلمين قاصدين (13) اليكم، وهم لا يقدرون على اخد الحصن ان كنتم رجال واحتفضتم به، فجدوا فى امركم. فلما قراه السلطان انفتح له الباب فى الحيله على اخد الحصن. فاستدعا (15) من يكتب بالفرنجى. وامره ان يكتب كتابا يدكر فيه أمارات بينهم استفادها من الكتاب الدى وقع له. ويحدر الكمندور المقيم بالشقيف من الوزير المقيم عنده، ومن جماعه كانت اسماهم (17) فى الكتاب. وكتب كتابا اخر الى الوزير يحدره من الكمندور، (113) ويامره ان احتاج الى مال فلياخده من ملك كان اسمه فى دلك الكتاب. واحتال حتى وصلت الكتب اليهما.

(2) القيطون: القاطون، م ف؛ فى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر ق،103 آ، تحقيق الخويطر ص 1111 «اللاطون» (13) قاصدين: قاصدون--رجال واحتفضتم: رجالا واحتفظتم (15) فاستدعا: فاستدعى (17) اسماهم: أسماؤهم

ذكر انطاكيه وفتحها ومبتدا امرها

فلما وقف كل منهم على كتابه اخفاه من صاحبه. ووقع الخلف بينهم، وقوى عليهم السلطان الحصار وشدده. فألجأهم دلك أن سيروا الى السلطان، وقرروا معه تسليم الحصن على ان لا يقتل من فيه. فتسلم الحصن تاسع وعشرين شهر رجب، وكان قد ملك الباشوره بالسيف، فاصطنع (4) الكمندور. وكان عده من بالحصن اربع مايه وثمانون (5) مقاتل، فركبهم الجمال الى صور، وبعث معهم من يحتفظ بهم، ثم رحل عنها، وسير الاثقال الى دمشق. وسار الى طرابلس، فشن عليها الغاره، واخرب قراها، وقطع اشجارها، وغور ميايها (8) وانهارها. ثم رحل الى حصن الاكراد، ونزل عليه. فحضر اليه رسول من جهه صاحبها بالاقامه والضيافه. فردها عليه، وطلب منه اديه (9) رجل من الاجناد كان قد بلغه انهم قتلوه من قبل دلك الوقت، فارسلوا اليه ما احب واختار. ثم رحل الى حمص، ثم الى حماه، ثم الى فاميه، ثم امر الجيوش ان تلبس، وركب من الليل، فاصبح على انطاكيه. ذكر انطاكيه وفتحها ومبتدا امرها كان نزول السلطان عليها مستهل شهر رمضان المعظم من هده السنه، فخرجوا (14) اهلها يطلبون منه الامان، وشرطوا شروطا ما قبلها السلطان، فردهم خايبين. وزحف عليها، فملكها يوم السبت رابع عشر رمضان المعظم. ورتب على ابوابها جماعه من الامرا لأجل الحرافيش. فمن خرج منهم بشئ أخد منه. فجمع من دلك ما امكن جمعه، ثم فرقه على الامرا والمقدمين والاجناد، كل منهم على قدره. وحصر عده من قتل بها، فكانوا نيف (19) واربعين الفا. (114) واخرج جماعه

(4) فاصطنع: فى الأصل «فاضطنع فاصطنع» (5) وثمانون: وثمانين--مقاتل: مقاتلا (8) ميايها: مياهها (9) اديه: دية (14) فخرجوا: فخرج (19) نيف: نيفا

من المسلمين كانوا أسرا بها من اهل الشام وحلب وغيرها. وكان صاحبها الابرنس قد اعتمد فى حق المسلمين من اهل حلب والشام، عند استيلا التتار على البلاد، كل فعل مدموم وامر قبيح من القتل والأسر والسبى والنهب، فانتقم الله عزّ وجلّ منه. ثم وقيل انه لو حلف الحالف ان ما سلم من اهل مدينه انطاكيه مخبر من رجالهم لما حنث فى يمينه. وكان فيها مايه الف او يزيدون، وقيل مايه الف وثمانيه الاف، ودلك حسبما دكره نواب التتار، وهو الشحنة الدى كان من جهه التتار. واستخرج منهم عن كل راس دينار. هدا غير ما دخل اليها عند هجوم العساكر من اهل القرى والضياع. ثم ان القلعه مسكت بعد المدينه يوم واحد (9). وطلبوا الامان، وكان اجتمع فيها ثمانيه الاف نفر رجال مقاتله خارجا عن الحريم والاولاد، فتحاشروا ومات منهم خلق كثير. وعدم عندهم القوت، فسيروا بكره يوم الاحد ثانى يوم الفتح يطلبون الامان من القتل خاصه، وينزلون اسارا (12)، فانعم لهم بدلك. فخرجوا الى ظاهرها وعليهم احسن الملبوس كانهم زهر الرياض، وضجوا ضجه واحده، وسجدوا باجمعهم، وقالوا: «ارحمنا يرحمك الله». فرقّ [الملك الظاهر] لهم، وحنا عليهم، وعفا عنهم من القتل، وامر ان يرفع عنهم السيف. ثم انه فتح بغراس؛ ودلك ان اهلها نفدوا يسألوا (16) تسليمها منهم، فنفد اليهم الامير شمس الدين اقسنقر الفارقانى، فتسلمها فى ثالث عشر رمضان. وتسلم ايضا دير كوش فى تاسع رمضان، وصالح اهل القصير على مناصفه القلاع المجاوره له. ثم عاد الى دمشق، فدخلها سابع عشرين شهر رمضان من هده السنه.

(9) يوم واحد: يوما واحدا (12) سارا: أسارى (16) يسألوا: يسألون

وكان لما فتح الله تعالى على يديه أمر ان تكتب البشاير بدلك، فكان من جمله (115) دلك كتاب الى صاحب انطاكيه، وهو يوميد مقيم بطرابلس، ودلك انشاء القاضى المرحوم فتح الدين بن عبد الظاهر-رحمه الله-ما هدا نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم. قد علم القومص الجليل المبجّل، المعزز الهمام الأسد الضرغام، بيمند فخر الأمة المسيحية، رييس الطايفة النصرانية (5)، كبير المله العيسوية، ألهمه الله رشده، وقرن بالخير قصده، وجعل النصيحة محفوظة عنده. ما كان من قصدنا اطرابلس وغزونا له فى عقر الدار، وما شاهده بعد رحيلنا من إخراب العماير والاعمار. وكيف كنست تلك الكنايس على بساط الارض، ودارت الدواير على كل دار، وكيف جعلت تلك الجزاير من الأجساد على ساحل البحر كالجزاير، وكيف قتلت الرجال واستخدمت الأولاد وتملكت الحراير، وكيف قطعت الأشجار ولم نترك إلا ما يصلح للأعواد (11) المناجنيق إنشاء الله والستاير، وكيف نهبت لك ولرعيتك الأموال والمواشى، وكيف استغنى الفقير وتأهّل العازب، واستخدم الخديم وركب الماشى. هذا وأنت تنظر نظر المغشى عليه من الموت، وإذا سمعت صوتا قلت فزعا: علىّ هذا الصوت. وكيف رحلنا من عندك رحيل من يعود، وأخّرناك وما كان تأخيرك إلاّ الى أجل معلوم معدود، وكيف فارقنا بلادك ولا بقيت بها ماشية إلا وهى لدينا ماشية، ولا جارية إلا وهى لدينا جارية، ولا سارية إلاّ وهى فى أيدى المعاول سارية، ولا زرع إلا وهو محصود، ولا موجود لك إلا وهو مفقود، وما منعت المغاير التى هى روس (17) الجبال الشاهقة، ولا تلك الأودية التى هى فى التخوم مخترقة وللعقول خارقة، وكيف سقنا عنك ولم يسبقنا إلى مدينتك انطاكية خبر، وكيف وصلنا إليها (116) وأنت لا تصدّق أن نبعد عنك وإن بعدنا فسنعود على الأثر.

(5) النصرانية: فى النويرى، نهاية الأرب (مخطوطة مصورة بدار الكتب المصرية رقم 495 معارف عامة)، ج‍ 28 ص 94 «الصليبية»؛ انظر ملحق 2 لكتاب السلوك للمقريزى، ج‍ 1 ص 966 - 969، حيث نشر د. زيادة هذا الكتاب (11) للاعواد: لأعواد--انشاء: إن شاء (17) روس: رؤوس

وها نحن نعلمك بما ثم (1)، ونفهمك بالبلاء الذى عليك قد عمّ: رحلنا عنك من اطرابلس فى يوم الأربعاء رابع وعشرين شعبان، ونزلنا انطاكية فى مستهلّ رمضان. وفى حالة النزول خرجت عساكرك للمبارزة فكسروا، وتناصروا فما نصروا، وأسر من بينهم كند اسطبل، فسأل فى مراجعة أقرانك، ودخل الى المدينة وخرج فى جماعة من رهبانك وأعيانك (5)، فتحدثوا معنا فرأيناهم على رأيك فى اتلاف النفوس بالغرض الفاسد، وأنّ رأيهم فى الخير مختلف وقولهم فى الشر واحد. فلما رأيناهم قد فات فيهم الفوت، وأنهم قد قدّر الله عليهم بالموت، رددناهم وقلنا: نحن الساعة لكم نحاصر، وهذا أول الإنذار وهو الآخر-، فرجعوا وهم متشبهين بفعلك، ومعتدين (9) أنّك تدركهم بخيلك ورجلك. وفى بعض ساعة مرّ شان المرشان، وداخل الرهب الرهبان، وبان البلاء للقسطلان، وجاءهم الموت من كل مكان، وفتحناها بالسيف فى الساعة الرابعة من يوم السبت رابع شهر رمضان، وقتلنا كل من جعلته لحفظها (12) وللمحاماة عنها، وما كان أحد منهم إلاّ وعنده شئ من الدنيا، فما بقى أحد منّا إلاّ وعنده شئ منهم ومنها. فلو رأيت خيالتك وهم صرعا (14) تحت أرجل الخيول، وديارك والنهابة فيها تصول، والكسابة بها تجول، وأموالك وهى توزن بالقنطار، وداماتك وكل أربع منهن تباع فتشترى من مالك بدينار، ولو رأيت كنايسك وصلبانها قد كسرت ونشرت،

(1) ثم: تم--ونفهمك: فى الأصل «ونفهملك» (5) وأعيانك: فى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 111 ب، تحقيق الخويطر ص 1126 «وأعيان أعيانك»؛ فى النويرى ج‍ 28 ص 95 «وأعيان أعوانك» (9) ومعتدين: فى ابن عبد الظاهر ق 111 ب، تحقيق الخويطر ص 1126، والنويرى ص 95، والقلقشندى، صبح الأعشى، ج‍ 8 ص 300، وم ف «ومعتقدين» (12) لحفضها: لحفظها (14) صرعا: صرعى

وصحفها من الأناجيل المزورة وقد نشرت (1)، وقبور البطارقه وقد بعثرت، ولو رأيت عدوك المسلم وقد داس مكان القداس، والمذبح قد ذبح فيه الراهب والقسيس والشماس، والبطارقه قد دهموا بطارقة، وابناء المملكة (117) وقد دخلوا فى المملكة، ولو شاهدت النيران وهى فى قصورك تحترق، والقتلى بنار الدنيا قبل نار الآخرة تحترق، وديارك وأحوالها قد حالت، وكنيسة بولص وكنيسة القسيان (5) وقد زلت كل منهما وزالت، لكنت تقول: ياليتنى كنت ترابا، وليتنى لم أوت بهذا الخبر كتابا، ولكانت نفسك تذهب من حسرتك، ولكنت تطفئ تلك النيران بماء عبرتك، ولو رأيت مغانيك وقد أقفرت من معانيك، ومراكبك وقد أخذت فى السويدية بمراكبك، فصارت شوانيك من شوانيك، ولتيقّنت أن الإله الذى انطاك (9) انطاكية منك استرجعها، والرب الذى ملكك قلعتها منك قلعها، ومن الأرض اقتلعها. ولتعلم أيضا أنّا أخذنا منك بحمد الله ما كنت أخذته من حصون الإسلام، وهو: در كوش، وشقيف تلميش (12)، وشقيف كفر تبنين. واستنزلنا أصحابك من الصياصى، وأخذناهم بالنواصى، وفرّقناهم فى الدانى والقاصى، ولم يبق شئ يطلق عليه اسم العصيان إلا النهر العاصى، ولو استطاع لما تسمى بالعاصى، وقد أجرى دموعه ندما، وكان يذرفها عبرة صافية، فها (15) هو قد أحراها بما سفكناه فيه دما. وكتابنا هذا يتضمن البشرا (16) لك بما وهبك الله من السلامة، وطول العمر بكونك لم تكن لك فى هذه المدة بانطاكية إقامة، فلو كنت بها كنت إمّا قتيلا وإمّا أسيرا، وإمّا جريحا وإمّا كسيرا، وسلامة النفس هى التى يفرح بها الحى إذا شاهد الأموات،

(1) نشرت: فى النويرى ص 95 «نثرت» (5) القسيان: فى الأصل «القسان؟؟؟»، انظر النويرى ص 95، وياقوت، معجم البلدان (ط. القاهرة 1906)، ج‍ 1 ص 355 (9) انطاك: أعطاك (12) تلميش: فى الأصل «بلهمش»، انظر ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 112 آ، تحقيق الخويطر 1128، والنويرى ص 95، والقلقشندى ج‍ 8 ص 301 «تلميس» (15) فها: فما (16) البشرا: البشرى

ذكر انطاكيه ونبد من اخبارها

ولعل الله ما اخّرك إلى الآن، إلا لتستدرك من الطاعة والخدمة ما قد فات. ولمّا لم يسلم أحدا (2) ليخبرك بما جرا خبّرناك، ولمّا لم يقدر أحد يباشرك بالبشرى بسلامة نفسك وهلاك ما سواها بشرناك (3)، لتحقق الأمر على ما جرى. وبعد هذه المكاتبة لا ينبغى لك أن تكذب لنا خبرا، كما أنّ بعدها يجب أن لا تسأل مخبرا». (118) ولما وصلت هده المكاتبه الى صاحب انطاكيه كانت عليه اشدّ الاشيا وعظمت مصيبته. ولم يبلغه خبر انطاكيه الاّ من هدا الكتاب. ذكر انطاكيه ونبد (7) من اخبارها لما ذكرنا فتوحها، وجب ان ندكر شى من مبتدايها (8)، وما لخصناه من دكرها اد شرطنا فى هدا التاريخ دلك. فاول دلك قوله تعالى {وَاِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} (10) الآية. قال المفسرون: القرية انطاكيه. وقال اصحاب التاريخ فى امر انطاكيه ان الملك أنتيوخس (11) قصد بناء مدينه يعمرها تكون نسبتها اليه. فنفّد حكمايه ووزرايه (12) لاختيار مكان يكون طيب الهواء والماء، قريبا من البحر، قريبا من الجبل. فوجدوا بقعه ارض انطاكيه بهده الصفه. فسيروا عرفوه بدلك، فامر ببنايها، واخرج الاموال. وطلبوا حجرا جيدا لبنايها، فوجدوه على مسافه يوم منها. فاستخدم الرجال، وعدتهم ثمانين (15) الف رجل وثمان مايه رجل، وستمايه عجله، والفوتسع (16) مايه حمار، ومايه زورق لنقل الاحجار. فنجزت فى ثلث سنين ونصف. وبنيت اسوارها وابراجها، وهى مايه وثلثه وخمسون برجا،

(2) أحدا: أحد--جرا: جرى (3) بشرناك: فى النويرى ص 95، والقلقشندى ج‍ 8 ص 302 «باشرناك» (7) ونبد: ونبذ (8) شى من مبتدايها: شيئا من مبتدئها (10) القرآن 36:13 (11) أنتيوخس: فى الأصل «استوحس؟؟؟» (12) حكمايه ووزرايه: حكماءه ووزراءه (15) ثمانين: ثمانون (16) والفوتسع: وألف وتسع

ومايه وثلاثه وخمسون بدنة، وتسعه ابواب-منها خمسه كبار. وجعل فيه باب من الجبل ينزل الى المدينه، وعليه قناطر تعبر عليها العالم. فلما انتهت حضر اليها الملك ورآها، فاعجبته، واكرم صناعها، ووهب لمن نزل بها ومن حولها خراج ثلث سنين، ثم بنا (4) بها الكنايس والمعابد، واجتمع اليها العالم. وان الملك جلس فى بعض الايام فرحا مسرورا، فقال له وزيره: «لو علمت ما انفقت عليها ما كنت تسر بدلك». فانتبه لنفسه، وامر ان يعمل حساب ما نفق عليها. فكان اربعه الاف قنطار وخمسون قنطار (7) من الدهب. ثم لم تزل فى (119) تزايد عماره واثار حسنه الى حيث ظهر السيّد المسيح عليه السلام. ولم تزل فى ايدى المله النصرانيه الى هدا الفتوح (9) الظاهرى، والله اعلم. وحكى الرملى-رحمه الله-فى فتوح الشام الدى لخصناه فى الجزء الثانى من هدا التاريخ: ان لما بلغ ملك الروم هزيمه جنده، بين يدى خالد بن الوليد وابى عبيده رضى الله عنهما يوم اليرموك وكان بانطاكيه، نادا (12) فى اصحابه بالرحيل الى القسطنطينيه وسار. فلما استقل فى الطريق، عاد بوجهه نحو الشام وقال: «السلام عليك، يا سوريه، سلام مودّع لا يعتقد انه يرجع اليك ابدا»؛ وسوريه هى دمشق. ثم اقبل على انطاكيه وقال: «ويحك، ارض ما أنفعك لعدوك بكثرة ما فيك من الاعشاب والخير». وقال البلادرى (17) فى كتاب فتوح المداين: ان ابا عبيده ابن الجرّاح-رضى الله عنه-لما توجه حلب صادف اهلها وقد استقلوا (18) الى انطاكيه وصالحوا فيها على مدينتهم. فلما ثم (19) صلحهم رجعوا، وسار ابو عبيده الى انطاكيه وقد تحصّن بها

(4) بنا: بنى (7) وخمسون قنطار: وخمسين قنطارا (9) الفتوح: الفتح (12) نادا: نادى (17) انظر البلاذرى، كتاب فتوح البلدان (ط. القاهرة 1956) ج‍ 1 ص 174 - - ابن: بن (18) استقلوا: كذا فى الأصل (19) ثم: تم

خلق كثير من جند قنّسرين. فلما صار بمهرويه (1)، وهى على قريب فرسخين من انطاكيه، لقيه جمع العدو فكسرهم وألجأهم الى المدينه، وخلصوهم (2) من جميع ابوابها، وكان دلك على باب فارس. فيقال انهم صالحوه على اداء الجزيه بعضهم وبعضهم اجلوا؛ فجعل على كل محتلم دينار (4) وجريبا فى السنه. وكان الرشيد [العباسى] (5) سما ثغور الشام العواصم، وهى انطاكيه وطرسوس وغيرهما. ثم استقرت انطاكيه فى ايدى بنى حمدان. فلما مات سيف الدوله بن حمدان اتفق اهلها على انهم لا يمكنون احدا من الحمدانيه يدخلها. ثم انهم قتلوا شخصا يسمى بعلّوش الكردى، فانه كان قد ورد من خراسان فى خمسه آلاف نفر للغزاه. وكان بانطاكيه رجل يعرف بالرعيلى (9) (120) قد جمع خلقا كثيرا، فدخل يوما يسلّم على علّوش (10) الكردى، ومسك يده ليقبّلها، وقفز عليه فقتله. واستولى على انطاكيه هو وجماعه. وكان فى بغراس نايب للروم اسمه ميخاييل، ونايب للمسلمين. فعجز المسلمين (12) عن حفضها (13) لاتّساعها، فملكوها الروم فى يوم الخميس لثلاث عشر ليله خلت من دى الحجه سنه ثمان وخمسين وثلثمايه. وفتحوا باب البحر، وخرجوا منه ليلا، وأسر الروم من كان بها من المسلمين. فقويت الروم بفتحها، وتوجهوا الى حلب، فصالحهم اهلها على مال يحملونه اليهم فى كل سنه، وهو عشره قناطير دهب، ومن كل مسلم

(1) بمهرويه: كذا فى الأصل وفى ياقوت، معجم البلدان (ط. القاهرة 1906)، ج‍ 1 ص 357؛ فى البلاذرى، فتوح البلدان، ص 174 «بمهروبه» (2) وخلصوهم: كذا فى الأصل؛ فى البلاذرى وياقوت «وحاصر أهلها» (4) دينار: دينارا (5) أضيف ما بين الحاصرتين من ياقوت ج‍ 1 ص 357 - -سما: سمى (9) بالرعيلى: ورد الاسم فى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 115 آ، تحقيق الخويطر ص 1133 «بالزعبلى» (10) علوش: كذا فى الأصل، انظر سطر 8 (12) المسلمين: المسلمون (13) حفضها: حفظها--فملكوها: فملكها-- عشر: عشرة

دينار سوى الاطفال والنسا وارباب العاهات. فاقاموا كدلك الى سنه ست وستين وثلثمايه. فسير جعفر بن فلاح المغربى النايب بدمشق، عن العزيز بن المعز الفاطمى، نايبه فى عسكر كثيف الى انطاكيه، فحاصرها خمسه اشهر، فلم يقدر عليها. فحدث فيها زلزله عظيمه هدمت منها قطعه جيده من سورها. فسير ملك الروم نايبا له ومعه جماعه من البنايين، فبنوها أحسن مما كانت. وبنا (6) قلعتها لاوون صاحب سيس المعروف بابن القداس، وحصنها ومات، فكمل عمارتها بسيل الملك. وبسيل هدا هو الدى وجدوا له لما مات سته الاف قنطار دهب. وكان لما ولى الملك، فى الخزاين اربع (8) قناطير لا غير. وهو الدى ملك ارجيش من بلاد ارمينيه فى سنه خمس عشر (9) واربع مايه. وكان قد بنا له تربه عظيمه، ومدفنا هايلا، وديرا كبيرا، وقبرا من رخام مجزع. فلما حضرته الوفاه قال: قبيح ان القى (10) الله تعالى، وانا فى زىّ الملوك. فاوصى (11) ان يدفن بين الغرباء بكفن الفقراء. وكانت ايام دولته ومده مملكته تسع (12) واربعين سنه واحدى عشر شهر. ومات وعمره ثمان وستين (13) سنه. وكان الملك سليمان (121) ابن (14) الامير قتلمش ابن اسراييل ابن سلجوق قد ملك من اخيه منصور، وقد اطاعه جميع التركمان، وفتح البلاد وتمكن. فعمل الحيله على فتوح انطاكيه، فسار اليها خفيفا خفيه فى عده مايتين وثمانين فارسا من اعيان عسكره. وقطع الدروب الى ان وصل الى ضيعه تعرف بالعمرانيه، فقتل جميع اهلها ليلا ولم يدرا (18) به. وعلق الحبال فى الاسوار التى لانطاكيه، وطلع جماعته ففتحها

(6) وبنا: وبنى--المعروف بابن القداس: فى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 115 آ، تحقيق الخويطر ص 1133 «المعروف بابن الفقاس» (8) اربع: اربعة (9) عشر: عشرة--بنا: بنى (10) القى: فى الأصل «اللقا» (11) فاوصى: فى الأصل «فاوضى» (12) تسع: تسعا--واحدى: وأحد--شهر: شهرا (13) وستين: وستون (14) ابن: بن (18) يدرا: يدر

ودخلها. وضجوا (1) اهلها ضجه واحده، وهرب بعضهم الى القلعه، فحاصرها حتى فتحها، ودلك فى ثانى عشر شعبان سنه سبع وسبعين واربع مايه. ونهب من الاموال اشياء عظيمه لا يقع عليها الحصر. وسكنها [سليمان بن قتلمش] واجتمعت اليه عساكره، وفتح جميع الحصون المجاوره لها، وصار له من حدّ القسطنطينيه الى طرابلس. ثم قتل سليمان المدكور فى حديث طويل، وعادت انطاكيه فى يد وزيره الحسن ابن طاهر، الى ان ملك السلطان ملكشاه السلجوقى المقدم دكره فى هدا التاريخ، وملك الشام واستردها من الروم، وفتح انطاكيه وسلّمها لبغا (8) شعبان ابن الب رسلان فى سنه احدى وثمانين واربع مايه، ثم سار عنها ودخل الروم. وكانت ابنته مزوجه للملك رضوان صاحب حلب، المقدم دكره ايضا، وهى ام ولده الب ارسلان (9) الدى ملك بعده حلب. فلما كان ليله التاسع عشر من شعبان سنه اربع وثمانين واربع مايه حدث بانطاكيه زلزله عظيمه اخربت دورها واهلكت خلقا عظيما، وهدمت من ابراجها نحو (13) من سبعين برجا. فامر السلطان ملكشاه بعماره دلك. واستمرت انطاكيه فى ايدى المسلمين الى سنه تسعين واربعمايه. فورد عليهم عدو من البحر. فنازلها فى دى القعده، وفتحها فى عشر رجب سنه احدى وتسعين واربع مايه. وهرب النايب الذى كان بها من جهه (122) السلطان ملكشاه، وتوفى فى الطريق قبل وصوله الى بغداد. وكان اخد الفرنج لانطاكيه بعمل حيله رجل كان بها، يقال له صرصر الارمنى. اتفق مع بعض ملوك الفرنج النازلين عليها، يسمى ميمون، فكتب اليه صرصر رقعه

(1) وضجوا: وضجّ (8) لبغا شعبان: ورد الاسم فى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 116 آ، تحقيق الخويطر ص 1135 «بغى سغان»، بينما ورد الاسم فى ابن الأثير، الكامل، ج‍ 11 ص 317: «ياغى ارسلان» (9) رسلان: أرسلان (13) نحو: نحوا

ورما (1) بها فى سهم، يقول: «انا اسلم اليكم المدينه». فتقرر دلك بينهم. وكان الملك الكبير الدى للفرنج الراجع امورهم اليه يسمى كندفرى، فحضر ميمون اليه فقال: «اذا فتح الملك هده المدينه لمن تكون؟» فقال: «كل ملك من الملوك يحاصرها يوما، ومن فتحها فى يومه، كانت له». فتمت الحيله لميمون. فلما كان يومه عمل السلالم، وسلمها له من كان متفقا معه-مع صرصر-فملكها. وكان النايب بها يوميد احمد بن مروان، فطلب الامان فامنوه ووفوا له، فخرج وتوفى فى الطريق حسبما دكرناه. ثم اجتمعت عساكر الشام، ومقدمهم يوميد ظهير الدين طغتكين، وصاحب حمص يوم ذاك جناح الدوله حسين، وكدلك ابن بغا (9) صاحب الموصل يوميد، واتوا يد واحده الى انطاكيه. وكان الفرنج على تل خارج عن انطاكيه، فسالوا المسلمين الامان فلم يجيبوهم. فلما ياسوا (11)، حملوا حمله واحده، فانكسر المسلمين من غير قتال. واستمر ميمون بانطاكيه الى ان اتاه الملك دانشمند (12)، فاسره وقتل اكثر عساكره، ودلك فى سنه ثلث وتسعين واربع مايه، فاشترا (13) نفسه بمايه الف دينار. واستخلف دانشمند على انطاكيه الملك طنكرى، فاستمر مالكا لانطاكيه واعمالها حتى هلك فى شهر ربيع الاخر سنه خمسين وخمس مايه (15). ثم ملكها بعده روجار (16)، وكان ولى عهد طنكرى، وهو الدى قدم بيت المقدس فى ملك بغدوين. وكان هدا بغدوين شيخا كبيرا وروجار شابّا حسنا، فاجتمعا

(1) ورما: ورمى (9) ابن بغا: فى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 116 ب، تحقيق الخويطر ص 1136، «كربغا» --يد: يدا (11) ياسوا: يئسوا--المسلمين: المسلمون (12) دانشمند: فى الأصل «دانشمند» (13) فاشترا: فاشترى (15) فى شهر ربيع الآخر سنة خمسين وخمس مايه: فى ابن عبد الظاهر. الروض الزاهر، ق 117 آ، تحقيق الخويطر ص 1136 «فى ثانى عشر ربيع الأول سنة ست وخمسين وخمسماية» (16) روجار: فى الأصل «زوجار»

فى بيت المقدس وتعاهدا على ان من مات قبل صاحبه، كان الحى وارث ملك الميت، وزوّج بغدوين (123) ابنته بروجار. واتفق ان روجار اقتتل هو ونجم الدين الغازى ابن ارتق على درب سرمدا، فكسر نجم الدين [روجار] وقتل هو وساير عسكره. ثم سار بغدوين الى انطاكيه، وملكها لما مات روجار، فمات الشاب وعاش الشيح. وملك ممالكه واقام مالكها الى ان وصل اليه شاب فى البحر ادعا (5) انه ابن ميمون الدى كان صاحب انطاكيه. وثبت دلك عند بغدوين، فسلمه انطاكيه من غير حرب. وكان دلك الشاب شجاعا مقداما. فلم يزل مالك انطاكيه الى ان سار اليه البرنس الدانشمند، فقتل دلك الشاب وجماعه كثيره من اصحابه بعين زربه. وملك انطاكيه البرنس، واقام بها فى قوه واقتدار. ولقى الملك العادل نور الدين الشهيد على حصن الاكراد-فى شهر رجب سنه ثلث واربعين وخمس مايه-فكسره نور الدين، وقتله وجميع عساكره. ثم ملك انطاكيه رجل من دريه (12) ميمون ايضا، واستمر بها الى ان اخد من السلطان صلاح الدين هدنه الى ثمانيه اشهر. ووصل البرنس الى خدمه السلطان صلاح الدين، وكان معه اربعه عشر نفر بارونيه. فاحسن اليهم السلطان، واعطاهم اقطاعات فى مناصفات انطاكيه اربعه عشر الف دينار، وكان الاجتماع والانفصال فى يوم واحد. ثم ملكها البرنس المعروف بالاشتر، ومن بعده ولده سرو. وبعده ملكها البرنس بيمند ابن (17) سرو ابن الاشتر، ومنه اخدها السلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين بيبرس البندقدارى حسبما دكرناه، والله اعلم.

(5) ادعا: ادّعى (12) دريه: ذرّية (17) ابن: بن

ذكر بغراس ومبدا امرها

ذكر بغراس ومبدا امرها كانت من احسن القلاع واحصنها، واشدها نكايه لبلاد الاسلام. وكان قد نزل عليها العسكر الحلبى فى زمان الملك العزيز ابن (3) الملك الظاهر بن السلطان صلاح الدين ابن ايوب، فلم ينالوا منها طايلا. واقام محاصرا لها (124) سبعه اشهر، ورحل عنها خايبا. وقال البلادرى: كانت بغراس لمسلمه بن عبد الملك بن مروان، اوقفها (6) فى سبيل البر. ولما قصد المسلمون غزاة عمّوريه صحبة مسلمه بن عبد الملك، وكان صحبتهم نسايهم (7) لاجل الجد فى القتال على الحريم، فلما صار فى عقبه بغراس، عند طريق (8) التى تشرف على الوادى، سقط جملا (9) وفيه امراه. فامر مسلمه النساء ان يمشون بالعقبه، فسميت عقبه النسا. وكان المعتصم بنا (10) على تلك الطريق حايطا قصير من الحجاره. وكان فى تلك الطريق سباع ضاريه لا تسلك بسببها. فشكى دلك الى الوليد بن عبد الملك، فبعث اربعه الاف جاموسه بفحولها، فاتلفت تلك السباع. وبناها بعد دلك وحصنها أتمّ تحصينا الملك تكفور ملك الروم، الدى كان خرج الى بلاد الاسلام فى اخر سنه سبع وخمسين وثلثمايه. وقتل وسبا (14) ووصل الى الشام، وفتح معرة مصرين، ومعرة النعمان، وحماه وحمص، واخد من حمص راس القديس مر يحنّا، وفتح عرقا، واخد انطرطوس، ومرقيّه وجبله. ولما بنا (16) هدا الحصن رتب فيه نايبا ومعه الف رجل، وحصنها تحصينا ما كنا. ثم ملكها الفرنج وما زالوا يتداولون تحصينه وعمارته طول المدد.

(3) ابن: بن (6) اوقفها: فى البلاذرى، فتوح البلدان (ط. القاهرة 1956) ج‍ 1 ص 176 «فوقفها» (7) نسايهم: نساءهم (8) طريق: الطريق؛ فى البلاذرى ص 198، وابن عبد الظاهر ق 119 ب. تحقيق الخويطر ص 1140 «الطريق المستدقة» (9) جملا: جمل--مسلمة: فى الأصل «مسلم» --يمشون: يمشين (10) بنا: بنى-- قصير: قصيرا (14) وسبا: وسبى (16) بنا: بنى

ذكر [حوادث] سنة سبع وستين وستمايه

وبعد دلك يسّر الله فتحه على يد السلطان صلاح الدين بن ايوب، لما نازلها على ما هى عليه من التحصين. فتسلّمها من غير تعب ولا كد ولا نصب فى ثانى شهر رمضان المعظم سنه اربع وثمانين وخمس مايه، وكدلك درب ساك حسبما تقدم فى دكر السلطان صلاح الدين بالجزء المختص بدكر بنى ايوب. ثم تغلبت عليها الفرنج، ولم تزل فى ايديهم الى حين فتحها السلطان الملك الظاهر فى هده السنه حسبما دكرنا من امرها، والله اعلم. ذكر [حوادث] سنة سبع وستين وستمايه (125) النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم خمسه ادرع وسته عشر اصبعا. مبلغ الزياده سبعه عشر دراعا واحد عشر اصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بأمر الله ابى (10) العباس احمد امير المومنين. والسلطان الملك الظاهر، سلطان الاسلام بالديار المصريه والبلاد الشاميه الى حدود الفراه (11). وما ورا دلك فى مملكه التتار، والملك عليهم يوميد ابغا بن هلاوون. وساير الملوك بمهالكهم، خلا صاحب الروم، فانه توفى الى رحمة الله تعالى، وولى ملك الروم غياث الدين كيخسروا (14)، والبرواناه مدبر ممالكه. وفيها وصل رسول من ابغا ملك التتار الى دمشق، وصحبته مجد الدين دوله خان، وسيف الدين سعيد ترجمان، يقول: «ان الملك ابغا، لمّا خرج من الشرق، تملك جميع العالم ودخلوا تحت طاعته، ولم يخالفه مخالف، ومن خالفه مات.

(10) ابى: أبو (11) الفراه: الفرات (14) كيخسروا: كيخسرو

وانت لو صعدت الى السماء وهبطت الى الارض ما تخلص (1) منا، والمصلحه ان تجعل بيننا وبينك صلحا». ومن جمله المشافهه يقول: «انت مملوك وانبعت فى سيواس، فكيف تشاقق (3) ملوك الارض». فكان من جوابه أن: «تنظر لنفسك بعين الشفقه، وتخرج عما فى يدك من العراق والروم والجزيره والموصل وديار بكر، وتحقن دمك ودم جيوشك». وكان السلطان بدمشق، فردهم بهدا الجواب. ثم اوقع الله تعالى الخلف بين التتار ابغا وبنى عمه، والسبب فى دلك ان براق ابن هلاوون بعث الى عمه ناكودر يشير عليه ان يخرج عن طاعه ابغا وينضم الى طاعه منكوتمر. فاطّلع ابغا على دلك، فطلب ناكورد واوهمه انه يستدعيه لمشوره، فامتنع عن الحضور. وكان بالقرب من بلادهم (126) طايفه من عسكر ابغا، فسيّر اليهم وتوعدهم ما لم يدخلوا تحت طاعته ويخالفوا طاعه ابغا، فاتوه على كره منهم. فرحل بهم الى مكان يعرف بماية صنعه، وهو من اعمال تفليس، فنزل به. فاظهرت تلك الطايفه المباينه عنه، وكانوا زهاء عن ثلاثه الاف فارس، فلما راى ناكودر انحرافهم عنه، تخوّف منهم. ثم انهم بعثوا الى ابغا يعرفونه امرهم وشانهم معه. فجمع ابغا كبار دولته وخواتينه، وضرب مشور. فاتفق الحال على انفاد عسكر يقفوا (14) اثر ناكودر. فسير عسكر كثيف (15)، ومقدمهم يسمى اياطى، ومعه ثلثه الاف من المغل. ونفد الى الروم يستدعى البرواناه وصمغار (16) وعساكرهما، واردف بهم اياطى فلحقا به. واجتمعت العساكر ودخلوا الى بلاد بابا سركيس ملك الكرج فى طلب ناكودر. وعضدهم ملك الكرج ايضا بالفى فارس. ولحقوا ناكودر بمكان يسمى

(1) تخلص: فى المقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 574 «تخلصت» (3) تشاقق: تشاق (14) يقفوا: يقفون (15) عسكر كثيف: عسكرا كثيفا--اياطى: كذا فى الأصل؛ بينما ورد الاسم فى اليونينى، ذيل مرآة الزمان، ج‍ 2 ص 411 «اباطى»؛ وفى رشيد الدين، جامع التواريخ (ط. باكو 1957)، ج‍ 3 ص 112 «أبتاى» (16) صمغار: ورد هذا الاسم فى اليونينى «صمغرا»؛ وفى رشيد الدين ص 104 «سماغر»

باجان (1)، والتقا الجمعان. فانكسر ناكودر، ونجا بنفسه فى قريب من ثلثمايه فارس. وانحاز بقيه عسكره الى عساكر ابغا، ودخلوا تحت الطاعه. واخد ناكودر نحو جبال الكرج مستعصما بها. وكان بتلك الجبال نبات مسموم، وهم لا يعرفونه، فرعته خيولهم، فهلكت حتى لم يبق معه غير اربعه عشر فرسا. فلما راى نفسه فى الهلاك، عاد قاصدا الى ابغا مستسلما له، فاقبل عليه وعفا عنه. ولمّا سكن الخلف بينهم، قصد ابغا بلاد بابا سركيس ملك الكرج بمن معه من العساكر. واستولى على عدة قلاع كان قد تغلب عليها الكرج، واخدوها من الملك الاشرف موسى شاه ارمن ابن العادل الكبير بن ايوب، وهم (8): قلعه بركرى، وقلعه مامروان (9)، وقلعه اولنى. وكان بها بعض الكرج وطايفه من المسلمين. فلما اخدها ابغا اجلا (10) الكرج عنها، وابقى (127) بها المسلمين. ثم عاد الى الاردوا، وسفّر البرواناه الى بلاده. فلمّا بلغ براق ما جرا (12) على ناكودر من ابغا، جمع وحشد وقصد تبشير اخو ابغا، وكسره واستاصل رجاله، ونهب حريمه. فبعث تبشير الى اخيه ابغا مستصرخا به من براق. فلما بلغ ابغا نفد بجميع جموعه وعساكره وحشوده-حسبما ياتى بقيه دكر دلك فى تاريخه انشاء الله تعالى. وفيها رسم السلطان الملك الظاهر بازاله ساير المحرمات من الديار المصريه، ودلك فى تاسع جمادى الاخره. ونهبت الخانات التى كانت مشهوره بدلك، وطهر الديار المصريه من هدا المنكر. وكتب بدلك الى ساير الاعمال الاسلاميه، وحطّ المقررات عنهم. ثم عوّض الحاشيه عن جميع دلك.

(1) باجان: فى الأصل «باجان» --والتقا: والتقى (8) وهم: وهى (9) ما مروان: فى اليونينى ج‍ 2 ص 411 «مامرون» --اولنى: فى اليونينى «اولى» (10) اجلا: اجلى--الاردوا: الأردو (12) جرا: جرى--تبشير: كذا فى الأصل، والصحيح «تبشين»، انظر ما سبق ص 115 وانظر أيضا، Spuler,Mongolen,S .343 ومير خواند، روضة الصفا (ط. طهران 1339 ش) ج‍ 5 ص 293؛ فى ابن تغرى بردى، النجوم، ج‍ 7 ص 221 «تمشين» --اخو: أخا

ذكر [حوادث] سنة ثمان وستين وستمايه

وفيها توفى الامير عز الدين الحلى الى رحمه الله. وفيها حج السلطان الملك الظاهر. وتصدّق وانعم على المجاورين بجملة مال. وعاد مع سلامه الله وعونه. ذكر [حوادث] سنة ثمان وستين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم سته ادرع واثنان وعشرون اصبعا. مبلغ الزياده سبعه عشر دراعا وثلثه اصابع. وكسر فى المحرم من سنه تسع. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بأمر الله ابى (8) العباس احمد امير المومنين. والسلطان الملك الظاهر، سلطان الاسلام. وكان دخوله الى القاهره من الحجاز الشريف رابع المحرّم. ثم خرج الى نحو الاسكندريه متصيدا نحو الحمامات، وصحبته ولده الملك السعيد. واخلع على جميع الامرا والمقدمين بالاسكندريه لما دخلها. وفيها توجه الى الشام المحروس (128) فى حادى عشرين ربيع الاول فى طايفه يسيره من امرايه وخواصه، ووصل الى دمشق بعد ما لقى الناس فى الطريق مشقه عظيمة من البرد والمطر. وخيّم على مرج الزنبقيه بظاهر دمشق. ثم بلغه ان ابن اخت زيتون، مقدم الفرنج بعكا، خرج منها فى جماعه كبيره من الفرسان الفرنجيه قاصدا للعسكر النازل بجينين والعسكر المقيم بصفد. فجمع السلطان العسكران (18) واعدهم فى مكان واحد، ودلك فى يوم الثلثا حادى عشرين ربيع الاخر.

(8) ابى: أبو (18) العسكران: العسكرين

وسار الى عكا، فصادف ابن اخت زيتون قد خرج، فالتقا (1) معه. وكان السلطان فى نفر قليل، وكان الفرنج فى جمع كثيف، فاعانه الله تعالى بعد ان كاد يقتل، فكان فى اجله تاخير. وحماه الاميران سيف الدين بلبان الفايزى، وشمس الدين قرا سنقر المعزّى؛ فان بعض الفرسان من الفرنج حمل على السلطان، وهو مشغول بغيره، واراد ان يطعنه فالتقاها الامير شمس الدين قراسنقر المعزى، وشد على الفارس الفرنجى فقتله. وجدل حوله عده ابطال من فرسانهم، وكدلك فعل الفايزى حتى قتل الى رحمة الله تعالى، بعد ان بدع (7) فى الفرنج. ونصر الله عزّ وجلّ السلطان وكسرهم كسره عظيمه. ثم استاسر ابن اخت زيتون مع جماعه من فرسانهم المعروفين، وعاد الى دمشق. ثم خرج الى المرقب، فوجد من الامطار والثلوج والاوحال ما منعه عن قصده، فعاد الى حمص. ثم خرج بعد عشرين يوم (11) الى نحو حصن الاكراد، واقام تحت الحصن يركب كل يوم، ويعود من غير قتال. وكان قد قدم عليه صارم الدين مبارك بن رضى الدين ابى المعالى صاحب الحصون الاسماعيليه، ومعه هديه حسنه. وشفع فيه صاحب حماه فقبل (129) هديته، وكتب له منشورا بالحصون الاسماعيليه كلها نيابه عن السلطان. وكتب له باملاكه جميعها التى له بالشام على ان تكون مصيات وبلادها خاصّا. وبعث معه نايبا عز الدين العديمى. فلما وصلا الى مصيات، عصوا (17) اهلها وقالوا: «لا نسلم لصارم الدين شئ، فانه بلغنا انه كاتب الاسبتار علينا، ولا نسلم الاّ لنايب الملك الظاهر». فقال لهم عز الدين العديمى: «فانا نايب السلطان». فقالوا: «تاتينا من الباب الشرقى»، فجاهم منه. فلما فتحوه له، هجم عليهم صارم الدين، وقتل منهم جماعه، وتسلم هو وعز الدين الحصن.

(1) فالتقا: فالتقى (7) بدع: أبدع (11) يوم: يوما (17) عصوا: عصى-- شئ: شيئا

ثم غلب صارم الدين على الامر دون عز الدين، وازال حكمه عن البلد، فاتصل دلك بالسلطان. وكان قد ورد عليه نجم الدين حسن بن الشعرانى، والسلطان نازل على حصن الاكراد، ومعه هديه حسنه. فقبلها السلطان، وعفا عنه. وكتب له منشورا بالقلاع التى كتب بها للصارم وهى: الكهف، والخوابى، والمينقه، والعلّيقه، والرصافه، والقدموس، وقرر عليه ان يحمل فى كل سنه مايه الف درهم وعشرون (6) الف درهم. ثم بلغ السلطان ان مراكب الفرنج دخلوا (7) مينا اسكندريه، وانهم اخدوا مركبين من مراكب المسلمين فرحل من فوره. وتوجه الى ديار مصر، وطلع القلعه المحروسه ثانى شهر شوال من هده السنه. فلما عاد السلطان الى الديار المصريه وبلغ الصارم خبر نجم الدين واقبال السلطان عليه، اخرج عز الدين من مصيات، فوصل الى دمشق، فلما بلغ الملك المنصور صاحب حماه خشى من السلطان. ثم ان السلطان وجه الجمال معالى المعروف بابن قدس (12) على خيل البريد، وصحبته نجم الدين الكنجى، الى حماه، ورسم للملك المنصور صاحب حماه ان يخرج بنفسه وعسكره، (130) والزمه بالصارم لكونه كان السبب فى امره، فامتثل الملك المنصور دلك، وخرج بعسكره وصحبته عز الدين العديمى. فلما احسّ بهم الصارم خرج من مصيات وقصد العليقه، وتسلم عز الدين مصيات، وحكم بها. واستخدم الرجال، وقوى امره. ولم يزل الملك المنصور صاحب حماه يتحيّل على الصارم حتى نزل اليه لوثوقه به، فقبض عليه وسيره تحت الاحتراز الى السلطان فاعتقله.

(6) وعشرون: وعشرين (7) دخلوا: دخلت (12) بابن قدس: فى اليونينى ج‍ 2 ص 432 «بابن قدوس»

ذكر الاسماعيليه وبدو شانهم

ذكر الاسماعيليه وبدو (1) شانهم اول من اقام (2) بدعوتهم الحسن بن الصبّاح، وهو من تلامده ابن عطاش الطبيب. قدم مصر فى زمن المستنصر العبيدى، خليفه مصر فى سنه ثمانين واربع مايه، ودخل على المستنصر، وخاطبه فى اقامه الدعوه فى بلاد العجم، فادن له. وكان الحسن كاتبا للرييس عبد الرزاق ابن (5) بهرام، وادعا انه قال للمستنصر: «من امامى بعدك؟» فاشار [المستنصر] الى ولده نزار؛ فمن هناك سميّت النزاريه. وكان اول دعوتهم الألموت، وطلوع اعلامه فى سنه ثلاث وثمانين وثلثمايه. ثم ان نزار (8_) بعد ابيه جرا له (8) ما قد تقدم دكره فى الجزء المختص بدكر الفاطميين، وهو الخامس من هذا التاريخ (9). وانفصل اهل الالموت من المصريين من دلك الوقت، وشرع الاسماعيليه فى افتتاح الحصون، واظهروا شغل السكين التى ابتدا بها يعقوبى. ثم بعثوا داعيا من دعاتهم يسمى ابى (11) محمد الى الشام، فملك قلاعا من بلاد النصيريه. ثم ملك بعده سنان ابن سليمان ابن (12) محمد البصرى المقدم دكره، واصله من قريه بالبصره. واقام بالشام نيف (13) وثلثين سنه، وولى مكانه ابو منصور ابن محمد. وكان هدا سنان يلبس الخشن، ولا (131) يراه احدا (14) ياكل ولا يشرب ولا يبول ولا يبصق، بل يجلس على صخره ويتكلم من اول النهار الى اخره، فاعتقدوا فيه الاهيه (15).

(1) وبدو: وبدء (2) اقام: قام، انظر ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 141 ب، تحقيق الخويطر ص 1176 (5) ابن: بن--وادعا: وادعى (8_) نزار: نزارا-- جرا: جرى (8 - 9) ما قد تقدم دكره. . . التاريخ: انظر ما سبق ابن الدوادارى ج‍ 6 ص 174 (11) ابى: أبا (12) ابن: بن (13) نيف: نيفا-- ابن: بن (14) احد: أحد (15) الاهيه: فى ابن عبد الظاهر ق 146 آ، تحقيق الخويطر ص 1176 «التأله»، وفى م ف «الالهية»

وكان بن (1) الصبّاح، لما قتل نزار، طالبوه قومه به، فقال لهم: «انه بين اعداء كثيره، والبلاد بعيده، ولا يمكنه الحضور، وقد عزم على انه يستخفى فى بطن امراه ويجى سالما عند ميقات الولاده»، فقنعوا بدلك منه. واحضر لهم جاريه، وقد احبلها، وقال لهم ان نزار (4) فى بطن هذه المراه. فلما كان بعد ايام ولدت، فجاءت بدكر فسموه حسنا، وقال: «نغير الاسم لتغيير الصوره». فلما مات حسن فى سنه خمس عشره وخمس مايه خلّف ولده محمد (6)، ثم خلف محمد حسنا. فلما اتّسع ملك خوارزم شاه قصد بلادهم، فاظهر حسن بن محمد انه راى فى المنام الامام على بن ابى طالب-عليه السلام-وقال له: «اعد شعاير الاسلام وفرايضه وسننه». ثم قال [حسن] لهم: «اليس لنا التصرف ثاره (9) بوضع التكاليف عنكم، وثاره (10) ناخدها منكم». فقالوا: «سمعا وطاعه». فكتب الى بغداد، والى ساير البلاد بدلك، واستدعا (11) الفقها، واستخدم اهل قزوين فى ركابه، وسيّر الى الخليفه رسولا صحبة رسوله. وقال السمعانى-رحمه الله-فى تاريخه: انما سموا الاسماعيليه لان جماعه من الباطنيه ينسبون الى ابى محمد اسمعيل (14) بن جعفر الصادق-رضى الله عنه-لانتساب زعيمهم علىّ المعرّى. وفى كتاب الشجره: انه اول من اقبل عليهم بالسكين ابن الصبّاح، وكان دا (16) دين فى الظاهر، وله جماعه يتبعونه. فلما حضر من مصر الى الالموت مع جماعته، وجدها قلعه حصينه، وكان اهلها قوم ضعفا. فقال لهم: «نحن قوم رهبان، نعبد الله عزّ وجلّ، ونشترى منكم نصف هده القلعه، ونقيم (132) معكم». فاجابوه الى

(1) بن: ابن--طالبوه: طالبه (4) نزر: نزارا--الامره: المرأة (6) محمد: محمدا (9) ثاره: تارة (10) وثاره: وتارة (11) واستدعا: واستدعى (14) اسمعيل: اسماعيل (16) دا: ذا

دلك، فاشترا (1) نصف القلعه بتسعه الاف دينار، ثم قوى امره، فاستولى عليها وصاروا جماعة. فبلغ خبرهم الى ملك تلك البلاد، فقصدهم بعساكره. فقال لهم رجل منهم يعرف بعلى اليعقوبى: «اى شئ يكون لى عندكم ان كفيتكم أمر هدا الجيش؟» قالوا: «ندعوا (4) لك، وندكرك فى تسابيحنا». فقال: «رضيت». فاخدهم ليلا، ونزل بهم، فقسمهم ارباعا فى اربع (5) جوانب الجيش، وجعل معهم طبولا وقال: «ادا سمعتم صايحا، اضربوا جميعكم بهده الطبول». ثم ان على اليعقوبى هجم بالسكين على الملك فقتله، وصاح باصحابه فضربوا الطبول، وامتلأت قلوب دلك الجيش خوفا ورعبا، وهجوا على وجوههم. واصبحت خيامهم خاليه، فنقلوا جميع دلك الى قلعتهم، ومند دلك اليوم استنّوا السكين. ويقال ان الاسماعيليه قالوا للحسن بن الصبّاح: «لا بد من امر تقيمه لنا برهانا على صفه حضور الامام نزار». فقال لهم. «الآية فى دلك ان يطلع القمر فى غير وقته، ومن غير مطلعه». ثم انه عمد الى جبل هناك مرتفع شاهق، واخد شيا (12) يشبه الدف، وطلاه بأطليه يحفضها (13)، وحبس فيه شمعه دات نور كثير. وامر من كان يعتقد عليه انه يرفعه على راس رمح قليلا قليلا من اعلا (14) ذلك الجبل، واوقف الناس ينظرونه. فلما راوه، خروا له سجدا، وبشر بعضهم بعضا بصحه الامام ووجوده. واما سنان بن سليمان صاحب التخبيلات العظيمه والتمويهات العجيبه، فقد تقدم من دكره فى الجزء الدى قبله بعض شى من خزعبلاته عن (18) دكرنا وفاته فى تاريخه. وكان سنان اعرج من حجر وقع عليه فى زلزله. فبلغ الاسماعيليه انه اعرجا (19)، فقالوا: «الإله لا يكون به نقص فى الاعضاء»، وهموا بقتله ان لم يكون (20) غير اعرج.

(1) فاشترا: فاشترى (4) ندعوا: ندعو (5) اربع: أربعة (12) شيا: شيئا (13) يحفضها: يحفظها (14) اعلا: أعلى--ووقف: فى الأصل «واقف» (18) عن: عند (19) اعرجا: أعرج (20) يكون: يكن

فلما (133) علم دلك، تحيل ان جعل له وصلة فى رجله تساوى رجله الاخرى، ولبس ساير ما عليه لبد (2)، وكدلك رجلاه. ونزل معهما الى مقتاه بها بطيخ، وكان فى شهر رمضان، فاكل منها ولم يكن قبل دلك راوه ياكل. ثم قال لهم «كلوا، فانى قد رفعت عنكم التكاليف». فاكلوا، ولم يروا به عرج (4)، فزادهم طغيانا. وفيها جمع ابغا عساكره ورحل، ونزل موغان، فاقام خمسه عشر (6) ليله، وطعموا خيولهم حتى قويت. ثم سار من دلك المكان الى ان وصل اردويل. فامر عساكره باخفايه، وان لا يشنعوا (8) بمسيره معهم، ومن تحدث بدلك مات. فاخفوه ورحلوا من اردويل. ولم يزالوا سايرين خمسه وخمسين يوما يرعون الزروعات الى ان صار بينه وبين براق خمسه ايام. فاتفق مع امرايه ان يحملوا زوادة خمسه ايام مطبوخه بحيث لا يقدوا (11) فيها نار. ثم عيّن من كل مايه فارس عشره يتقدموا يتخطفوا لهم الاخبار؛ فكانت عدتهم خمسه الاف فارس. فساروا الى ان صاروا فى واد بين جبلين. وكان قد امرهم ان يقتلون (13) من وجدوا فى طريقهم من ساير الناس. فلم يزالوا يفعلون دلك الى ان اشرفوا على يزك براق قد رتبه قدامه. فكبسوه سحرا، واستاصلوهم عن آخرهم. فلما عادوا الى ابغا اعجبه دلك، وعرفوه ان المسافه بينه وبين براق يوم ونصف. فسار ليلا، فلما اصبحوا لم يشعر الا وعسكر براق قدامه. وكان فى طرفه امير كبير، مقدم ثلاثه الاف يقال له ارغوا (17). فلما كبسهم عسكر ابغا هرب ناحيه بنفسه، ووصل الخبر الى براق بدلك. ثم ان ابغا نزل على مكان يسمى هوّا، فاقام به اثنا (19) عشر يوما يطعم خيله، واندفع قدامه براق.

(2) لبد: لبدا--رجلاه: رحليه--مقتاه: مقثأة (4) عرج: عرجا (6) خمسه عشر: خمس عشرة (8) يشنعوا: يشيعوا (11) يقدوا: يوقدون-- نار: نارا--يتقدموا يتخطفوا: يتقدمون يتخطفون (13) يقتلون: يقتلوا (17) ارغوا: أرغو؛ وفى بلوشيه P O,XLL ، ص 522، حاشية 1 «ارغون» (19) اثنا: اثنى

واتفق ان شخصا هرب (134) من عسكر براق ووصل الى ابغا، وكان خبيرا فى النظر فى لوح كتف الغنم على راى التنجيم، فعرّف ابغا ان سبب هروبه اليه انه راى فى تنجيمه فى الكتف الغنم ان ابغا يضرب مصافا مع براق وينتصر عليه ويكسره. فقال له ابغا: «ان صح ذلك اعطيتك قريه تعيش فيها انت وعقبك». فاشار عليه انه يشيع (5) انه رجع. فلما بلغ براق دلك طمع فى ابغا، فعبر اليه النهر الاسود، والتقا (6) العسكران. فخرج ارغوا (7) فى الف فارس من عسكر براق، وحمل فى عسكر ابغا فاكسر منهم ثلاث الاف فارس. فعمل عند دلك السيف، وحمل من عسكر ابغا التوامين (8) الكبار: منهم سكتوا (9) بن اداوون، وارغون بن جرماغون، وعبد الله النصرانى. وكان هدا عبد الله فى صحبه عساكر ابغا، ومعه الكنايس على البخاتى [والنواقيس] (10)، والتقوا فلما كسر من قدامه وقع فيه سهم فقتله. وثبت عسكر براق، فحضر الى ابغا اميرين كبيرين (12)، احدهما اخوه تبشير (12_) بن هلاوون، والاخر اياطى، وقالا: «نحن نكسر براق». فامرهما بدلك، فحملا عليه بعدتهما. فكسراه كسره شنيعه. وما زال عسكر ابغا فى اقفيه عسكر براق بالسيف الى اجسر، فعجزوا عن العبور لكثره العالم، فرموا انفسهم فى الماء، فغاض الماء من كثرة الخلايق. وعاد كل من نزل عن فرسه عرقبه بالسيف حتى لا ينتفع به. ثم ان ابغا نزل على جخشران (16)، ورسم ان تكتب

(5) انه يشيع: أن يشيع (6) والتقا: والتقى (7) ارغوا: أرغو--فاكسر: فكسر، م ف--ثلاث: ثلاثة (8) التوامين: الطوامين. م ف (9) سكتوا: سكتو؛ فى اليونينى ج‍ 2 ص 435 «شكتو»؛ وفى بلوشيه P .O .Xll ، ص 523 حاشية 2 «شينكتور» -- اداوون: كذا فى الأصل وفى م ف؛ بينما ورد الاسم فى اليونينى «الكانوين»؛ وفى بلوشيه ص 523 حاشية 3 «ايلكاى نويون» (10) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (12) اميرين كبيرين: أميران كبيران (12_) تبشير: انظر ما سبق ص 141 حاشيه 12 - - اياطى: انظر ما سبق ص 140 حاشية 15 (16) جخشران: فى الأصل وفى م ف «ححشران»: فى رشيد الدين، جامع التواريخ. ج‍ 3، ص 121 «جقجران»

ذكر [حوادث] سنة تسع وستين وستمايه

ورقه بعدة من قتل من عسكره، فجات (1) العدة ثلثمايه وتسعين نفر، وعده قتلا براق اربعون الفا خارجا عن الغرقا (2). ثم رجع ابغا عايدا الى بلاده، وعاد يموت من عسكره ومن الخيول شى كثير، والله اعلم. ذكر [حوادث] سنة تسع وستين وستمايه (135) النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم سته ادرع واحد وعشرين (5) اصبعا. مبلغ الزياده سبعه عشر دراعا واحد وعشرين (6) اصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (8) العباس أمير المومنين. والسلطان الملك الظاهر سلطان الاسلام بالديار المصريه والبلاد الشاميه الى حدود الفراه (9). وما ورا دلك فى ملك التتار، والملك منهم المجاور للاسلام ابغا ابن (10) هلاوون بحاله. وملوك الاسلام بالشرق تحت طاعته، وهم صاحب الروم غياث الدين بن ركن الدين قليج ارسلان السلجوقى، وصاحب ماردين الملك المظفر قرا ارسلان بن الملك السعيد بن ارتق. وصاحب حماه من تحت طاعه صاحب مصر، وهو يوميد الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقى الدين عمر، وباقى نسبه قد تقدم دكره. وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين بن رسول المقدم دكره ايضا. وصاحب مكه-شرفها الله تعالى-ابو نمى نجم الدين المقدم دكر نسبته ايضا. وصاحب المدينه-على ساكنها السلام-عز الدين شيحه بن جماز (17) المقدم دكره. وخليفه المغرب ابو العلا ادريس بن ابى عبد الله محمد بن يوسف. والنايب بمصر الامير بدر الدين بيليك الخزندار، وبالشام النجيبى. والوزير الصاحب بها الدين بن حنا بحاله.

(1) فجات: فجاءت--قتلا: قتلى (2) الغرقا: الغرقى (5) وعشرين: وعشرون (6) وعشرين: وعشرون (8) ابى: أبو (9) الفراه: الفرات (10) ابن: بن (17) شيحه بن جماز: جماز بن شيحة؛ انظر ص 62 و 102 وم ف

وفيها توجه السلطان الملك الظاهر الى الساحل بالشام عازما على خراب عسقلان. فوصل اليها فى جماعه يسيره من الامرا والاجناد، وهدم سورها، ودلك ما كان اهمل فى ايام الملك الصالح. ووجد فيها عند الهدم كوزين مملوين (3) دهبا تقدير الفى دينار، ففرقها على من كان صحبته ثم عاد الى الديار المصريه. (136) وفى ربيع الاول وصل الخبر الى السلطان ان الفرنج بعكا اخرجوا جماعه ممن كان عندهم من اسارا المسلمين، نحو من مايه نفر، وضربوا رقابهم بظاهر عكا. فاخد السلطان ايضا من اعيان من كان عنده منهم (7)، فغرقهم فى البحر. وفيها قبض السلطان على الملك العزيز بن المغيث صاحب الكرك كان. وكان قد انعم عليه بامريه (9) -حسبما دكرنا من دلك-وولى امره خادما، وانزله عند اقاربه. واستمر حاله الى ان بلغ السلطان، وهو على عسقلان، ان الشهرزوريه (10) عازمين على المخامره على السلطان الملك الظاهر، واتفقوا على قتله وتمليك الملك العزيز بن المغيث المدكور. فقبض عليه وعلى جميع من كان متفق (12) معه، منهم الامير بها الدين يعقوبا وغيره. وفيها توجه السلطان الى حصن الاكراد، وجعل نايبا بالقلعه الامير شمس الدين اقسنقر الفارقانى. وخرج مع السلطان الملك السعيد ولده، ونايبه الامير بدر الدين الخزندار، وتواعدوا ان يجتمعوا فى يوم واحد بمكان معين لشن الغاره. وكان قد وصل السلطان الملك الظاهر الى دمشق ثانى شهر رجب، ثم خرج منها عاشره. فافرق الجيوش فرقتين، فرقة معه وفرقة مع ولده الملك السعيد والخزندار، وتواعدوا ان يجتمعوا فى مكان عينه لهم. فلما اجتمعوا شنوا الغاره على جبله واللادقيه والمرقب ومرقيه وحلبا وصافيتا والمجدل وانطرسوس، وفتحوا صافيتا والمجدل، ثم نزلوا على حصن الاكراد.

(3) مملوين: مملوءين (7) منهم: من الاسرى، م ف (9) بامريه: بإمرة (10) الشهرزوريه: فى الأصل «الشهروزريه» --عازمين: عازمون (12) متفق: متفقا

ذكر فتح حصن الاكراد

ذكر فتح حصن الاكراد لما كان يوم الثلثا تاسع عشر رجب اخدوا (2) المسلمون فى نصب المناجنيق وعمل الستاير. وهدا الحصن له ثلاثه اسوار. واشتد عليهم- (137) على اهلها- الحصار، وقوى عليهم الزحف. وفتحت الباشوره الاوله (4) فى يوم الخميس حادى عشرين الشهر، وفتحت الثانيه يوم السبت سابع شعبان، وفتحت الثالثه وهى الملتصقه بالقلعه يوم الاحد خامس عشر شعبان. وكان المحاصر لها الملك السعيد والخزندار وييسرى. وحصل من القتال ما لا يحدّ وصفه، واسروا من فيه من الجبليه والفلاحين، ثم اطلقهم السلطان. فلما راوا (8) اهل القلعه الغلبه ادعنوا بالتسليم وطلبوا الامان. فاجابهم السلطان الى دلك، وتسلم القلعه يوم الاثنين خامس عشر (9) شعبان. واطلق من كان بها، فرحلوا الى طرابلس. ورحل السلطان عنها بعد ان رتب بها من باشر عمارتها وهو الامير عز الدين الافرم، وجعل نايبها عز الدين الموصلى، وجعلت الكنيسه جامعا. وكتبت البشاير، فمن جمله دلك كتابا (13) الى مقدم الاسبتار-وهو صاحب حصن الاكراد-انشا القاضى محيى الدين بن عبد الظاهر نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم. نعلم المقدم افرير اوك-قال (15) -جعله الله ممن لا يعترض على القدر، ولا يعاند من سخر الله لجيشه النصر والظفر، ولا يعتقد أن (16) ينجى

(2) اخدوا: أخذ (4) الاوله: الأولى (8) راوا: رأى--ادعنوا: أذعنوا (9) يوم الاثنين خامس عشر: كذا فى الأصل وفى م ف؛ وفى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 146 ب، تحقيق الخويطر ص 1184 «يوم الثلاثاء رابع عشرين»؛ وفى اليونينى ج‍ 2 ص 445 «يوم الاثنين خامس عشرى» (13) كتابا: كتاب (15) قال: -فى ابن عبد الظاهر، ق 146 ب، تحقيق الخويطر ص 1184 (16) ان: فى ابن عبد الظاهر ق 146 ب، تحقيق الخويطر ص 1184 «أنه»

ذكر نبد من اخبار حصن الاكراد

من أمر الله الحذر، ولا يحمى (1) من جنده محجوز البناء بصخور الحجر. نعلمه بما سهّل الله من فتوح حصن الاكراد، الذى حصنته وبنيته وعليته وملحته وحليته، وكنت الموفق لو خليته. واتكلت على اخوتك فى حفظه فما نفعوك، وقصدت (3) بصنيعهم فيه بالاقامة فضيعوا أنفسهم وضيعوك. ولا شك أنهم ابذلوا جهد الاستطاعة، ولكن الكثرة غلبت الشجاعة، خصوصا إذا اجتمعت الكثرة والشجاعة. وما كانت هذه العساكر تنزل على حصن فيبقى، ولا تخدم (6) (138) سعيدا فيشقى، ولا يتأخر عن طاعتها سيف ولا سنان. فلذلك ما نزلت على حصن إلا وأخذ إما بالسيف وإما بعد الامتنان بالأمان. وعلى كل حال نحن نبشّر المقدم بسلامة نفسه إذ كانت له الحقيقة فى البشارة، ويتيقن أن الربح فى باطن الأمر، وإن كان فى الظاهر الخساره؛ وهى سلامة النفس التى لا يتعوّض عن ذهابها الميت. وينبغى للعاقل أن لا يفوّت المصلحة حتى يقول ليت، ويقول بعد [الأخ لا كانت] (11) الأخوه: وبعد رب البيت لا كان البيت. فهذه أمور لله يصرفها، والعاقل يتفكر فيها ويعرفها، فالله يلهمك رشدا تحفظ به ما بقى، ويرزقك توفيقا تختار به لنفسك السلامة وتبقى». ذكر نبد من اخبار حصن الاكراد كان الملك صنجيل لما نزل طرابلس لا يقطع الغارات عن هدا الحصن وما قاربه من الحصون. ثم انه قصده فى سنه ست وتسعين واربع مايه، وحاصره واشرف على اخده. فاتفق قتل جناح الدوله صاحب حمص، فطمع فى حمص، ورحل عنه، ثم انه هلك. وملك بعده ولده بدران، فمشا (18) على عاده ابيه فى اديه هذا الحصن،

(1) ولا يحمى. . . الحجر: فى ابن عبد الظاهر ق 146 ب، تحقيق الخويطر ص 1184 «ولا يحمى منه محجور البناء ولا مبنى الحجر» (3) وقصدت. . . بالإقامة: فى ابن عبد الظاهر «وضيعتهم بالإقامة» (6) ولا تخدم: مكرر فى الأصل (11) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (18) فمشا: فمشى--اديه: أذية

فخافه من كان فيه. فتوجه الى حصار بيروت، فخرج اليه الملك طنكلى صاحب انطاكيه، واستولى على اكثر البلاد، ونزل على هدا الحصن، وكان اهله قد بقوا فى غايه الضعف، فنزل اليه صاحبه وسلمه له يرجوا (3) انه يبقيه كونه اختاره على بن صنجيل (4). فملكه طنكلى واستمر فى يده. هدا ما دكره ابن عساكر-رحمه الله- فى تاريخه. واما ابن منقد (6)، فدكر فى كتاب البلدان ان الشهيد نور الدين محمود بن زنكى صاحب الشام-رحمه الله-كان قد عامل رجالة بعض التركمان (139) المستخدمين من جهه الفرنج بهدا الحصن، على انه ادا قصد [الشهيد] (8) هدا الحصن يقوم دلك التركمانى وجماعته فى الحصن، ويرفعون علم نور الدين على الحصن، وينادون باسمه. وكان هدا التركمانى فى جماعه كبيره من اولاده واقاربه وعشيرته، وقد وثق الفرنج بهم فى هدا الحصن. وكانت العلامه بينه وبين نور الدين انه يقف على راس الباشورة. فاتفق للامر المقدر ان نور الدين لم يظهر احدا على هدا الاتفاق. وتقدمت اوايل العساكر، فنظروا دلك التركمانى واقف (13)، وهو آمن على راس الباشوره، فرموه بسهم فقتلوه. واشتغل اهله بموته، فبطلت الحيله ولم يقدر عليه نور الدين. ولم يزل [حصن الأكراد] فى ايدى الفرنج الى هده السنه، فيسّر الله تعالى فتحه على يد من شاء. ولما فتحه السلطان الملك الظاهر كتب اليه صاحب انطرطوس مقدّم الديويه، وهو يسال المهادنه، وبعث مفاتيح حصنه. فصالحه على نصف ما يتحصل من غلال بلاده، وجعل عنده نايبا من جهته وعاملا. وكدلك وصلت اليه رسل الاسبتار من

(3) يرجوا: يرجو (4) بن صنجيل: ابن صنجيل؛ فى م ف «صنجيل وولده»؛ بينما فى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 147 آ، تحقيق الخويطر ص 1185 «صنجيل» (6) منقد: منقذ (8) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن عبد الظاهر ق 147 آ، تحقيق الخويطر ص 1186 (13) واقف: واقفا

(140) دكر فتح حصن عكار

حصن المرقب، فصالحهم على مثل ذلك. وذلك فى مستهل شهر رمضان. وقرر الهدنه بينهم مده عشره سنين (2) وعشره اشهر وعشره أيام. ثم رحل [السلطان الملك الظاهر] ونزل بمرج صافيثا. ثم سار يوم الاحد رابع رمضان المعظّم حتى اشرف على حصن عكار. ثم عاد يوم الاربعا سابع الشهر الى المرج، فاقام. ثم سار ونزل على الحصن المدكور-حصن عكار-يوم الاثنين ثانى عشرين رمضان المعظم، ونصب المناجنيق، واصلحوا (6) العساكر الستاير، وجهزوا امرهم، ووقع الحصار. (140) دكر فتح حصن عكّار لما كان يوم الاحد ثامن عشرين شهر رمضان المعظّم رمى المنجنيق الدى مقابل باب (10) الشرقى رميا كثيرا، فخسف خسفا كبيرا الى جانب البدنه، ودامت الحجاره الى الليل حتى انفتحت واتسعت. فخاف اهل الحصن خوفا شديدا، فنفدوا رسولا الى السلطان يطلبون الامان. فآمنهم على انفسهم من القتل، ومكنهم من التوجه الى اطرابلس. وجرّد معهم الامير بدر الدين بيسرى ليوصلهم الى مأمنهم. ثم دخل السلطان الى الحصن، ورتب فيه نوابا. ورحل عنه بعد صلاة العيد، ونزل بمرج صافيثا، فأقام حتى تكامل العسكر ثلاثه ايام. وكتبت البشاير الى البلاد الاسلاميه بما فتح الله به. وكتب الى صاحب طرابلس كتابا (17) انشا القاضى محيى الدين بن عبد الظاهر -رحمه الله-ما هدا نسخته:

(2) عشره سنين: عشر سنين (6) واصلحوا: وأصلح (10) باب: الباب، م ف (17) كتابا: كتاب

«بسم الله الرحمن الرحيم». قد علم القومص بيمند-جعله الله ممن ينظر لنفسه، ويتفكر فى عاقبة يومه وأمسه-نزولنا [بعد حصن الأكراد] (2) على حصن عكار، وكيف نقلنا المنجنيقات اليها من جبال تستصعبها الطيور لاختيار الأوكار، وكيف صبرنا على جرها على مناكدة الأوحال ومكابدة الأمطار، وكيف نصبنا المنجنيقات على أمكنة يزلق النمل عليها إذا مشا (5)، وكيف هبطنا فى تلك الأودية التى لو أن الشمس من الغيوم ترى بها ما كان غير جبالنا لها (6) رشا، وكيف صابرت رجالك الذين ما قصرت فى انتخابهم، وحسنت بهم استعانة نايبك الذى انتخا (7) بهم. وكتابنا يبشرك بأن علمنا الأصفر قد نصب مكان علمك الأحمر، ولصوت الناقوس صار عوضه «الله أكبر». وإن من بقى من رجالك أطلقوا ولكن جرحا (9) القلوب والجوارح، وسلموا [و] (10) لكن من ندب السيف إلى بكاء النوايح. وما اطلقناهم إلاّ (141) ليحدثوا القومص بما جرى، وليحذروا أهل طرابلس لا يغتر بهم حديثك (12) المفترى، وليروهم الجراح التى أريناهم بها نفاذا ومنها تفادا، ولينذرونهم (13) لقاء يومهم هذا، فيقولون للضيوف الضيوف، والحتوف الحتوف، والسيوف السيوف، ويفهمونكم (14) انكم ما بقى من حياتكم إلى القليل، وليحققوا عندكم انهم ما تركونا إلا على الرحيل. فمن زهد فى حياته وذهاب ماله واولاده

(2) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 148 ب، تحقيق الخويطر ص 1187 - 1188، والنويرى، نهاية الأرب (مخطوطة مصورة بدار الكتب المصرية 549 معارف عامة) ج‍ 28 ص 103؛ انظر ايضا ملحق 4 لسلوك المقريزى، ج‍ 1 ص 972 - 973 (5) مشا: مشى (6) جبالنا لها: فى ابن عبد الظاهر والنويرى «جبالها» (7) انتخا: انتخى (9) جرحا: جرحى (10) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن عبد الظاهر والنويرى-- السيف: فى ابن عبد الظاهر والنويرى «السيوف» (12) لا يغتر بهم حديثك: فى ابن عبد الظاهر ق 148 ب، تحقيق الخويطر ص 1188، والنويرى ص 103 «من انهم يغترون بحديثك المفترى» -- تفادا: تفاد (13) ولينذرونهم: ولينذروهم، راجع القرآن 6:130 - -فيقولون: فيقولوا (14) ويفهمونكم: ويفهموكم--إلى: إلا

فهو يجرد سيفا او يقاتل، ومن ظلم نفسه وذريته بالعناد فما ربك بغافل. وهذا الصدق أول خبر تستمعه، وآخر حبل تقطعه. فتعرف كنايسك وأسوارك أن المناجنيق تسلم عليها إلاّ (3) حين الاجتماع بها عن قريب، وتعلم أجساد جنودك وفرسانك أن السيوف تقول لها (4) عن الضيافة تحذر أن تغيب، وذلك أن أهل عكار ما سدّوا لها جوعا، ولا قضت من ريّها بدمايهم الوطر، وانهم ما اطلقوا الاّ لما عافت شرب دمايهم، وكيف لا وثلثة أرباع عكار عكر. نعلم (7) القومص هذه الجملة المسرودة ويعمل بها أولا، ويجهز مراكبه ومراكب اصحابه، فقد جهزنا قيودهم وقيوده». وعمل بعض الفضلا فى دلك <من الرمل>: (10) … إن لسلطان البرايا زاده الله سعاده قهر الأعداء رعبا … وله بالنصر عاده حصن عكار فتوح … هو عكا وزياده (12) وفيها صالح السلطان البرنس؛ والسبب فى دلك انه لما فتح حصن عكار (13) بعث الى البرنس رساله مشافهه على لسان رجل من الاخوه الاسبتار يقول له: «اين تروح منى، والله لا بد ان آخد قلبك واشويه، وانت تنظر، وما ينفعك ابغا ابن (15) هلاوون».

(3) إلا: إلى (4) لها: فى ابن عبد الظاهر والنويرى «انها» --تحذر أن تغيب: فى ابن عبد الظاهر ق 149 آ، تحقيق الخويطر ص 1188، والنويرى ج‍ 28 ص 103 «لا تغيب» (7) نعلم: فى ابن عبد الظاهر ق 149 آ، تحقيق الخويطر ص 1189، والنويرى ج‍ 28 ص 103 «يعلم» --أولا، ويجهز: فى النويرى «وإلا فيجهز» (10 - 12) كذا فى الأصل وم ف؛ فى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 149 آ، تحقيق الخويطر ص 1189، وتاريخ أبى الفداء (ط. استانبول 1286) ج‍ 4 ص 6، والنويرى ص 103: يا مليك الأرض بشرا ك فقد نلت الإراده إنّ عكار يقينا هى عكا وزياده (13) حصن عكار: حصن الأكراد، م ف (15) ابن: بن

فلما بلغته هده الرساله، (142) اخد [البرنس] يحترس على نفسه، ولا عاد يركب ولا يتصيّد خوفا على نفسه من الاسماعيليه. وكان يحب الركوب للصيد، فامتنع من دلك. فلما بلغ السلطان الملك الظاهر دلك، سيّر اليه غزلان (3) مدبوحه، وضبعا حيا، وحمل ثلج، ورساله يقول له: «لما اتصل بنا امتناعك من التصرف خوفا على نفسك وهجرانك للصيد الدى هو غايه مرامك، بعثنا اليك نصيبا من الاجحاف بك والميل عليك». ثم رحل السلطان من مرج صافيثا، فنزل على طرابلس رابع شوال. فبعث اليه البرنس يقول: «لاى سبب قصدنا السلطان؟» فاجابه «لارعا (7) زرعكم، واخرب دياركم، واعود انشا الله فى السنه الاتيه اليكم لاخد ارواحكم». فبعث [البرنس] الى السلطان يستعطفه ويلافيه، ويساله ان يبعث اليه من يثق به. فسير اليه السلطان الامير فارس اتابك والامير سيف الدين بلبان الدوادار الرومى. حدثنى الوالد-سقى الله عهده-قال: كنت مع الامير مخدومى سيف الدين الدوادار، لما بعثه السلطان الى صاحب طرابلس. قال: فالتقاهم ملتقا (12) حسنا، وقام بواجب خدمتهما أتم قيام. وكان السلطان قد اقترح مقترحات شرطها عليه، وهى ان يكون للسلطان من كوم عينا (14) من اعمال طرابلس-نصفان بالسويه، وان يكون له دار وكاله، وزكاه، ونايب، ومشد، وديوان، وان يعطى العساكر النفقه من يوم خروجهم. قال [الوالد]: فلما وقف الابرنس على دلك، امتنع وعزم على القتال وقال لهما: «ان السلطان لما اخد انطاكيه منى بالسيف كان عدرى مبسوطا عند الفرنج، ولما قصد حصن عكار طلب منى ان انزل عن نصف بلادى، فلم اجبه خوفا من الفرنج ان

(3) غزلان: غزلانا (7) لارعا: لأرعى (12) ملتقا: ملتقى (14) من كوم عينا: كذا فى الأصل وفى م ف؛ فى اليونينى، ذيل مرآة الزمان، ج‍ 2 ص 450 «من مكان عينه» -- نصفان: كذا فى الأصل وفى م ف؛ فى اليونينى ص 450 «نصفا»

يعيرونى بتسليمى البلاد من غير (143) قتال. وانا اعلم انى لا اقدر به، ولكنى لا يحسن بى ان اسلم اليه البلد من غير قتال، حتى لا يكون دلك سبّة علىّ بين ملوك الفرنج». قال الوالد-رحمه الله-: فعدنا بتلك الرساله الى السلطان، واقام الامير فارس الدين عند البرنس. فنظر السلطان فى دلك بعين المصلحه المحاسنه. ثم أن الامير سيف الدين الدوادار تردد فى المراسله دفعات الا (6) ان وقع الاتفاق على ان تكون عرقه للبرنس وجبيل واعمالها، وان يكون ساحل انطرطوس وساحل المرقب وساحل بانياس مع جميع بلاد هده النواحى مناصفات بينه وبين الداويه والاسبتار، [و] (8) التى كانت خاصّا لهم-وهى فارس (9) وحمص القديمه-تعود خاصا للسلطان. وشرط السلطان أن تكون عرقا واعمالها، وهى سته وخمسين (10) قريه، صدقه من السلطان عليه، فلم يختر [البرنس] دلك. فلما بلغ السلطان امتناعه عن دلك، صمّم على الشروط الاوله (12). فلما لم يكن للبرنس بدّ من المطاوعه، لما دخله من الخوف، أجاب وعقد الصلح بينهم مده عشر سنين وعشره اشهر. وهدا البرنس كان من اشد ملوك الفرنج بأسا، وبدل (14) فى رضى التتار نفسه وماله، ولم يزل دلك دابه معهم الى ان نصر الله عزّ وجلّ المسلمين على يد السلطان الشهيد الملك المظفر قطز-رحمه الله-وساير ملوك المسلمين مع كافه امة محمد اجمعين. فلما حصل الاتفاق على دلك ورحل السلطان عايدا الى دمشق المحروسه، ركب البرنس البحر، وتوجه الى ابغا ملك التتار مستصرخا به على السلطان. فلما حضر عنده، دكر له ما فتحه الله على يد السلطان الظاهر من البلاد والحصون، ودكر قوة

(6) الا: إلى (8) أضيف ما بين الحاصرتين من اليونينى ص 450 (9) فارس: كذا فى الأصل وم ف؛ فى اليونينى «بارين» (10) سته وخمسين: ست وخمسون (12) الاوله: الأولى (14) وبدل: وبذل

ذكر غرقة دمشق هده السنه

نفسه وشجاعته وكثره جيوشه. (144) فامر به، فبطح وضرب بين يديه سبع عصى، وقال له [أبغا]: «انت ما جيت الا لتخوفنى منه، وتنفرنى عنه، وتملا قلوب عساكرى رعبا». فرجع [البرنس] الى بلاده خايبا مما رامه من نصره التتار له. ذكر غرقة دمشق هده السنه لما كان يوم الاحد [ثانى عشر شوّال] (6) -وهو يوم عيد عنصره اليهود-ثامن ساعه منه، دخل السيل الى دمشق من باب الفراديس، بعد ما اخرب الجسر، وجسر باب السلامه، وجسر باب توما. ولا (8) انكسر جسر باب توما كانت المدينه قد عمها الماء وغرقت. ووصل الما الى المدرسه الفلكيه، وصار فيها مقدار قامه وبسطه، ووصل الى المدرسة المقدميه. وبقى مقدار ثلث ساعات، ثم هبط بمشيه (10) الله عزّ وجلّ. وكان اصله انه انعقد غيم كثيف على جبال بعلبك يوم السبت حادى عشر شوال. ووقع مطر عظيم فحل الثلوج، وسال يوم الاحد كما دكرنا. وغرقت (12) خلقا كثيرا كانوا قد اتوا من العجم والعراق للحجاز. وغرق من الخيل والجمال شئ كثير، ومن جملتها جمال كثيره للامير عز الدين ايغان سم الموت. قال الوالد-رحمه الله-: وكدلك غرقت للامير سيف الدين الدوادار عده ثلثه عشر فرسا كانت على طوايلها مربوطه (15) فاعجلهم الما، وعجزوا عن حلهم فهلكوا (16).

(6) أضيف ما بين الحاصرتين من اليونينى ج‍ 2 ص 451 (8) ولا: ولما (10) بمشيه: بمشيئة (12) وغرقت خلقا كثيرا: وغرق خلق كثير (15 - 16) فاعجلهم. . . فهلكوا: فأعجلها الماء، وعجزوا عن حلها فهلكت

ذكر فتح القرين فى هده السنه

ذكر فتح القرين فى هده السنه لما كان يوم الجمعه بعد الصلاه ثامن وعشرين شوال (2) خرج السلطان من مدينه دمشق، فنزل على القرين. ونصبت المناجنيق، ولم تتمكن المسلمون عليها من الزحف، ولا من نصب المناجنيق لكثره اوعارها. ولم يكن بها غير رجال مقاتله من غير نساء ولا اطفال فقاتلوا اشد قتال. (145) ووصل رسول صاحب جزيره قبرس الى السلطان، وصحبته رسول صاحب طرابلس، بعد ما دخل الى اهل القرين ورغبهم فى الصلح. وكان اهل عكا -لما نزل السلطان على حصن الاكراد-قد سيّروا الى صاحب قبرس يطلبوا (8) منه النجده فاخرج اليهم عده مراكب، فهاج عليهم البحر فكسر منها ستين مركب (9). فلما وصل عكا من تبقى منهم، حفروا (10) اهلها خندقا خوفا من السلطان. ثم ان رسول صاحب طرابلس قال للسلطان: «البرنس غلام السلطان، وهو يشفع عندك فى هدا الحصن، ويسالك ان ترحل عنه». فقال السلطان: «كلامه عندى مقبول، ولو جانى رسوله قبل نزولى عليه ما خالفته، وقد نزلت عليه ولا يمكنى (13) الرحيل عنه». فقال رسول صاحب قبرس: «صاحبى سيرنى لانظر الى السلطان هل رحل ام لا، فانه بلغه ان العساكر تقدمت الى مصر». فقال السلطان: «رحلت من عساكرى الاثقال والضعفا»، ثم قال: «فهل لصاحبك عندنا من حاجه فتقضى، فانه عندنا ضيف».

(2) يوم الجمعه. . . ثامن وعشرين شوال: كذا فى الأصل وم ف؛ وفى اليونينى ج‍ 2 ص 453 «يوم الجمعة. . . خامس عشرى شوال»، ومن المعروف أن الرابع والعشرين من شهر شوال سنة 669 كان يوافق يوم الجمعة. (8) يطلبوا: يطلبون (9) ستين مركب: ستون مركبا (10) حفروا: حفر (13) يمكنى: يمكننى

فقال [رسول صاحب قبرس]: «لم يامرنى بشى». ثم مضا (1) وعاد، فقال: «حاجته عندك ان تدفع له بعلبك ونابلس». فقال السلطان: «صاحبك فى عقله ام لا، انا باخد منكم حصونكم اول (3) باول، تطلب منى بلادى». ثم صرفه من بين يديه. وفى اثناء دلك وصل بريدىّ من مصر عاشر شهر دو (4) القعده، وعلى يده كتاب من الامير شمس الدين اقسنقر الفارقانى يخبره ان الشوانى، التى خرجت من مصر ومن ثغرى اسكندريه ودمياط وقصدت جزيره قبرس، لما وصلت اليها اصابها ريح قبل دخولها المرسى، القت منها بعضها ببعض، فانكسر منها احدى (7) عشر مركبا، واخدت رجالها اسرا، ولم يسلم منها سوى سته مراكب عادت الى مصر. فكتب [السلطان] الجواب (146) بعماره غيرها والاهتمام بدلك. ولم يكن غير خروج البريد من المخيم المنصور حتى عاد رسول صاحب قبرس، وهو يقول: «ان صاحبى يسلم عليك، وقال لك قد اخدت مراكبك بمن فيها». فقال السلطان: «قل له لا تفرح بهدا، فما اخدتها بسيفك. ولو سلمت كانت اخدت جزيرتك بحول الله وقوته، وقد اخدت فى سفرتى هده اربعه عشر حصنا. ولا شك ان العين لها حق. والحمد لله الدى فدى عسكرى بالفلاحين ورعاع الناس. وارجوا (14) من الله تعالى تعويض دلك، فليكن على حدر». ثم جدّ فى حصار [القرين] الى ثالث وعشرين دى القعده اخر النهار طلبوا (15) الامان، فانزلهم وركبهم الجمال، وبعث معهم الامير بدر الدين بيسرى يوصلهم الى عكا، وتسلم الحصن المدكور بما فيه. وكان حصن (17) صعب المرام، بناؤه بالحجر الأصم، بين كل حجرين عمود حديد ملزوم بالرصاص، فأقاموا فى هدمه اثنا (18) عشر يوما، وفى حصاره خمسه عشر يوما. ورحل عنه سادس عشرين الشهر المدكور،

(1) مضا: مضى (3) اول: أولا (4) دو: دى (7) احدى: أحد--واخدت: وأخذ (14) وارجوا: وأرجو (15) طلبوا: فطلبوا (17) حصن: حصنا (18) اثنا: اثنى

ونزل على كردانه، وهى قريه من قرا (1) عكا، حتى اشرف عليها. ثم عاد الى منزله، ثم رحل وقصد الديار المصرية، وعيّد عيد الاضحى على منزلة الصالحيه، ودخل الى القاهره وقد زينت له. وفيها فى خامس عشر دى الحجه قبض على جماعه من الامراء، وهم: علم الدين سنجر الحلبى، جمال الدين اقوش المحمدى، جمال الدين ايدغدى الحاجبى، عز الدين ايغان سم الموت، شمس الدين سنقر المساح، سيف الدين بيدغان الركنى، علم الدين طرطج الامدى. واعتقلوا بقلعه الجبل المحروسه. وكان السبب فى دلك انهم كانوا اتفقوا على قتله لما كان على الشقيف، فخبأها لهم فى نفسه، بعد ما احترز منهم، الى ان دخل القاهره فقبض عليهم. وبعد خمسه عشر يوم (9) اخرج علم الدين طرطج (147) الامدى، ونادا (10) عليه فى باب القلعه، ثم اشتراه بالف دينار معامله، فاخدوها اولاد استاده صاحب امد. ثم بعد ايام اخرج بيدغان الركنى، واقطعه بالشام المحروس، (12) [ثم احضره وقلاجا الركنى واشتراهم، وجعلهم سلاح داريه. ثم توجه الى الشام على البريد] (13) (12_). وكان دلك فى سابع عشرين المحرم، ودخل الى الكرك، ثم خرج منه واخد معه عز الدين ايدمر.

(1) قرا: قرى (9) يوم: يوما (10) ونادا: ونادى--فاخدوها: أخذها (12 - 13) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (12_) واشتراهم: واشتراهما--وجعلهم: وجعلهما

ذكر [حوادث] سنة سبعين وستمايه

ذكر [حوادث] سنة سبعين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم سبعه ادرع واصبعان. مبلغ الزياده سبعه عشر دراعا وثلثه عشر اصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (5) العباس احمد امير المومنين. والسلطان الملك الظاهر سلطان الاسلام. وقد توجه على البريد الى الشام المحروس فى سابع عشرين المحرم، ودخل الكرك ثم خرج منه، وقدم حماه. وخرج الملك المنصور صاحبها الى لقايه، واجتمع به على ظاهر حمص، ونزل بها واقام يومين، ثم توجه الى حماه. وقرر على الملك المنصور ان يكون عسكر حماه ثمان مايه فارس-بعد ما كان ستمايه فارس-فامتثل دلك. وفيها توجه السلطان الى حلب وسبب دلك ان صمغوا (11) ومعين الدين البرونه وعساكر المغل والروم، لما عادوا من عند ابغا فى السنه الخاليه، وردت اوامره فى هده السنه بقصد الشام. وكان عدة العسكر الدى معهم عشره الاف فارس، فوصلو الى البلستين (14)، ثم الى مرعش. فبلغهم ان السلطان بدمشق، فبعثوا الف وخمس مايه فارس من اعيانهم يكشفوا (15) لهم الاخبار، ويغاروا على اطراف البلاد الحلبيه.

(5) ابى: أبو (11) صمغوا: صمغو؛ فى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر. ق 157 آ، تحقيق الخويطر ص 1203 «سمغانى» وفى ق 158 ب، تحقيق الخويطر ص 1205 «صمغار»؛ انظر ايضا بلوشيه فى P .O .Xll ص 545؛ وفى اليونينى، ذيل مرآة الزمان. ج‍ 2 ص 467،471 «صمغرا» --البروناه: البرواناه (14) البلستين: أبلستين (15) يكشفوا: يكشفون--ويغاروا: ويغيرون

وكان مقدمهم يسمى اقال ابن (1) بايجو نوين. (148) فوصلت غارتهم الى عنتاب، ثم الى قسطون، واخدوا جماعة من التركمان. فلما بلغ السلطان دلك جفّل الرعيه الى الحصون، وتقدم الى دمشق. وكان غرضه ان يستدرجهم، ويتمكن منهم. ثم بعث الى مصر يحث فى طلب العساكر، فخرجوا فى ليله واحده فى الليل بعد عشا الاخره. ولم تغلق فى تلك الليله للقاهره باب ولا دكان، وخرج مقدم الجيوش الامير بدر الدين بيسرى. وكان دخول اوايلهم الى دمشق تاسع يوم من الخروج من القاهره. فانظر الى مرسوم هدا الملك، والى هدا الجيش العظيم وازاحه اعداده، حتى خرج فى الليل من غير عدد. فلما تواصلت الجيوش خرج بهم السلطان الى ظاهر دمشق. فلما بلغ التتار دلك استعظموه، وولوا منهزمين. ثم وصل السلطان الى حماه، واستصحب معه صاحبها الملك المنصور. ثم نزل على حلب بالميدان الاخضر. ثم جرّد الامير شمس الدين الفارقانى فى عده من الجيش، وامره بالتوجه الى البلاد الشماليه، ولا يتعرض الى شى من البلاد. ثم جهز الامير علا الدين طيبرس الوزيرى فى عده اخرى، وامره بالتوجه الى حران. فاما الفارقانى، فانه سار حتى بلغ مرعش خلف التتار، فلم يدركهم. ثم عاد الى حلب فوجد السلطان طالبا للديار (16) المصريه، لما بلغه ان الفرنج غارت، منهم طايفه، على قاقون، وكان خروجهم من عتليت (17)، واخدوا جماعه من التركمان، فلحقهم العسكر واستردهم منهم. ثم غاروا ثانيه من ناحيه الفرمى (18)، فلحقهم اقوش الشمسى،

(1) ابن: بن--بايجو: فى الأصل وفى م ف «بانجو»: ويبدو ان الصيغة المثبتة هى الصحيحة، انظر اليونينى ج‍ 2 ص 467 وحاشية 6 لبلوشيه فى P .O .Xll ص 545 - - عنتاب: عين تاب (16) للديار: الديار. م ف (17) عتليت: عثليث (18) الفرمى: كذا فى الأصل وم ف؛ فى اليونينى ج‍ 2 ص 468 «القرين»

فاستاسر عشرين فارس (1) منهم. ولما دخل السلطان الى ديار مصر قبض على الامرا الدين كانوا مجردين على قانون ما خلا اقوش الشمسى، ثم اطلقهم بشفاعه الامرا فيهم. واما الامير علا الدين الوزيرى، فانه سار، ومعه جماعه (149) من العرب يقدمهم شرف الدين عيسى بن مهنا، فعبروا الفراه (5) وساق الى حران. فاتصل خبره باهلها من نواب [التتار] (6) فخرجوا اليه، فالتقاهم عيسى بن مهنا. فلم يزل يطاردهم الى ان وصل العسكر صحبه الامير علا الدين. فلما رأوه، نزلوا عن خيولهم، والقوا سلاحهم وقبلوا الارض، فمسكوا عن اخرهم، وكانوا ستين نفر (8_). ثم سار (8) [الأمير علا الدين] (9) الى حرّان، فلما اشرف عليها. غلقوا الابواب خلا باب واحد. فخرج اليه الشيخ محاسن ابن (10) المعوالى احد اصحاب الشيخ حيا-قدّس الله روحه-، وصحبته جماعه كبيره، واخرج طعاما يسيرا بحسب البركه. فتلقاه الامير علا الدين، وترجل له، وعانقه. فاخرج [الشيخ] له مفاتيح حرّان، وقال له: «البلد بلد مولانا السلطان». فطيب الامير علا الدين قلوب الناس. وكان قد عصى برج فيه؛ يعرف بباب يزيد، وفيه شحنه التتار. فطلبه علا الدين، فاحتج وقال: «ادا وصل السلطان خرجت الى خدمته». ثم عاد الامير علا الدين ولم يدخل البلد، وعدا الفراه (15)، وتوجه الى مصر. وبعد رجوعه، طلعوا (16) اكابر حران وخرجوا عنها خوف من التتار، ووصلوا الى دمشق. فلما كان الخامس والعشرين (17) من رمضان، وصل جماعه من التتار

(1) فارس: فارسا (5) الفراه: الفرات (6) أضيف ما بين الحاصرتين من م ف واليونينى ج‍ 2 ص 468 (8_) نفر: نفرا (8 - 9) أضيف ما بين الحاصرتين من م ف واليونينى ج‍ 2 ص 468 (10) ابن: بن--حيا: كذا فى الأصل وفى م ف؛ فى اليونينى ص 469 «حياة»؛ وذكر ابن تغرى بردى (النجوم الزاهرة، ج‍ 6، ص 100) أن اسمه «الشيخ حياة بن قيس الحرّانى العابد» وأنه توفى سنة 581 هـ‍ (15) وعدا الفراه: وعدّى الفرات (16) طلعوا: طلع-- خوف: خوفا (17) والعشرين: والعشرون

الى حرّان، فاخربوا سورها وكثير (1) من دورها واسواقها، واخربوا الجامع واخدوا اخشابه، ونهبوا من بقى فيها من الناس واستاسروهم، وخربت حران الى الان. وفيها وصل رسل بيت بركه الى دمشق من عند منكوتمر ابن (4) طغان ابن سردق ابن باتوا (5) ارسلهم فى البحر. وكانوا لما خرجوا من بلاد الاشكرى صادفهم مركب من الفرنج البشانين (6)، فاخدهم ودخل بهم عكا. فانكر صاحبها ومن بها من ملوكها عليهم وقالوا: «نحن حلفنا للسلطان ان لا نمنع احدا من الرسل الوارده (150) الى بابه». ثم جهزوه وسيروه الى دمشق. ولم تردّ البشانين ما اخدوه منهم، وكان معهم هديه حسنه للسلطان. فلما علم السلطان بدلك اعاق جميع من كان بالثغور الاسلاميه من البشانين من التجار عن التصرف والسفر حتى يعوضوا ما اخدوه (11) اصحابهم. وكان مضمون الرساله التى على ايدى رسل بركه، مكتوبا بجميع ما استولوا (12) عليه بيت هلاوون مما كان فى ايدى المسلمين من قبل، يكون فى ملك السلطان الملك الظاهر، وان يساعدهم على قلع اثار بيت هلاوون. فاحسن السلطان لهم الجواب فى دلك، ووعدهم ببلوغ المقصود.

(1) وكثير: وكثيرا (4) ابن: بن--سردق: سرتق، م ف؛ انظر حاشية 1 لبلوشيه فى P .O .Xll ص 549 (5) باتوا: باتو (6) البشانين: كذا فى الأصل، وفى م ف «الميشانيين»، وفى اليونينى «البيشانيين»؛ والمقصود «البيسانيين»، أى أهل مدينة بيزا» (11) اخدوه: أخذه (12) استولوا: استولى

ذكر [حوادث] سنة احدى وسبعين وستمايه

ذكر [حوادث] سنة احدى وسبعين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم سبعه ادرع واحد عشر اصبعا. مبلغ الزياده ثمانيه عشر دراعا واحد وعشرين (3) اصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله امير المومنين. والسلطان الملك الظاهر سلطان الاسلام وهو بدمشق، وتوجه على خيل البريد الى الديار المصريه، وصحبته من الامرا: بدر الدين بيسرى، جمال الدين اقوش الرومى، سيف الدين جرمك الناصرى، سيف الدين بلبان الدوادار الرومى. فوصل الى قلعه الجبل المحروسه ثالث عشر المحرم، ولعب الاكره بميدان اللوق. واقام الى ليله الجمعه السابع والعشرين (9) منه، ثم توجه على البريد-وصحبته الامرا المدكورون-الى مشق، فدخل قلعه دمشق رابع صفر. وفيها-الحادى والعشرين من المحرّم-وصلت جماعه من اهل النوبه من جهه صاحبها، فنهبوا عيداب (13)، وقتلوا جماعه كبيره، ومنهم قاضيها وواليها (151) وابن حلى (14) واولاده، وكان مشارفا على ما يرد من التجار.

(3) وعشرين: وعشرون (9) السابع والعشرين: فى اليونينى، ذيل مرآة الزمان، ج‍ 3 ص 1 «التاسع والعشرين» وهى الصيغة الصحيحة (13) عيداب: عيذاب (14) حلى: كذا فى الأصل وكذلك فى اليونينى ج‍ 3 ص 2 بينما ورد الاسم فى م ف «جلى»

ذكر نوبه الفراه المعروفه بوقعه جنقر

ذكر نوبه الفراه (1) المعروفه بوقعه جنقر لما كان خامس جمادى الاول (2) من هده السنه، اتصل بالسلطان الملك الظاهر-وهو يوميد بدمشق-ان فرقه من التتار قد قصدوا الرحبه، فبرز بالعساكر الى نحو القصير. فلما نزله بلغهم خروجه، فعادوا عن الرحبه ونزلوا البيره. فسار السلطان الى حمص، وتقدم باخد مراكب الصيادين الدين ببحيره قدس من عمل حمص، فاخدت وشيلت على الجمال. ثم سار حتى نزل الباب وبزاعه من عمل حلب. وبعثت جماعه من العسكر لكشف اخبارهم، فساروا الى منبج، وعادوا الى السلطان فاخبروه ان جماعه من التتار مقدارها ثلث (8) الاف فارس على شط الفراه مما يلى الجزيره. فرحل ثامن عشر جمادى الاولى حتى وصل شط الفراه (9). وامر بعمل جسر، ثم انتهز الفرصه، فامر العساكر بخوض الفراه (10)، وكان دلك باشاره الفارس اتابك؛ فانه قال: «اذ لم ندركهم بجميع العساكر، والا كل من طلع منا اخدوه». فكان اول من ارمى نفسه الفراه (12) يطلب بدلك الجزا من الله، المقر الاشرف السيفى قلاوون الالفى الصالحى، ثم الامير بدر الدين بيسرى الشمسى، ثم تبعهما السلطان بنفسه. ثم ارموا (13) العساكر انفسهم جميعهم، ولم يتاخر منهم رجل فرد. وكان التتار فى عده خمسه الاف من كبار المغل، يقدمهم جنقر، وهو يوميد اكبر التوامين التتريه. وقد صنعوا لهم ستاير على شط الفراه (14) من الاخشاب وغيرها، وهم خلفها بالنشاب. وظنوا ان المسلمين لا يصلون اليهم ولا يجسرون عليهم. (152) وكان السلطان قد استصحب معه عده مراكب-كما تقدم من القول-

(1) الفراه: الفرات (2) الاول: الأولى (8) ثلث: ثلاثة--الفراه: الفرات (9) الفراه: الفرات (10) الفراه: الفرات (12) الفراه: الفرات (13) ارموا: أرمى (14) الفراه: الفرات

وهى عشره مراكب. فارماها فى الفراه (1)، وركب فيها الأقجيه الجياد لكشف البر، فتراموا مع التتار. وكان التتار قد عملوا مكيده؛ ودلك انهم تركوا المخاضه السهله وتعدوا عنها الى جانب الفراه (4)، وصنعوا تلك الستاير. فظنوا الناس ان تلك هى المخاضه السهله. ثم ان التتار ترجلوا جميعهم من خلف دلك السيب لمنع من يطلع، وعادوا يقاتلوا (5) رجاله. فلما عبر الجيش بكماله الفراه (6)، فاض الماء حتى غرّق تلك الستاير، وكاد يغرّق التتار فولوا هاربين. وطلعت لهم جيوش الموحدين، مصطفّين كالجبال انافة وارتفاعا، وصادفهم الموج حتى كاد من قعقعة السلاح يصمّ منهم أسماعا، والتتار قد دعروا دعرا (8) شديدا، وعادوا بعد اجتماعهم كلّ منهم وحيدا فريدا. فنحمد الله على ما اولا (9)، وله المنه فى الاخره والاولى. وملك الجيش الاسلامى البر والبحر، وطلعت السناجق تنشر (10) بألسنة بنودها ان هلموا الى النصر. وطلع السلطان كالاسد الغضبان، ونور النصر على غرته الشريفة قد ظهر وبان. وساق الى منزلة العدو المخدول، فنزل وصلى ركعتين شكر الله على ما اولاه، وحمدا لمالكه ومولاه. وكان المقر السيفى قلاوون الالفى، والحاج علا الدين طيبرس الوزيرى قد فعلا عند (14) الاقتحام وفى موقف الزحام ما خلّد لهما به الدكر (15) الجميل والنبا الحسن الجليل، وكدلك ساير امر المسلمين وكبار الموحدين. وتفرقت العساكر يمينا وشمالا لبدل (16) السيف فى ارقاب التتار الى اخر دلك النهار. وقتل مقدمهم جنقر، واحضرت الاسارا (17) بين يدى السلطان (153) فى الحبال، دات اليمين ودات الشمال. والخيول تعثر برؤس ركّابها من التتار، حتى كأنّ ايدى الخيول صوالجه، والرؤس كالأكار.

(1) الفراه: الفرات (4) الفراه: الفرات؛ فى م ف «بالقرب منها»؛ وفى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 161 ب، تحقيق الخويطر ص 1210 «مكان بعيد الغور» --فظنوا: فظن (5) يقاتلوا: يقاتلون (6) الفراه: الفرات (8) دعروا دعرا: ذعروا ذعرا (9) اولا: أولى (10) تنشر: فى م ف «تبشر» (14) عند: فى، م ف (15) الذكر: الذكر (16) لبدل: لبذل (17) الاسارا: الأسارى

ثم ان السلطان رحل الى البيره، ولم يبات (1) تلك الليله الى فى بر الفراه من جهه الشام. ولما نزل على البيره انعم على نايبها بالف دينار، وعلى اهل القلعه بمايه الف درهم. ثم عاد الى دمشق مويدا منصورا متوّجا محبورا. وكان على البيره من عساكر التتار شرف الدين ابن (4) خطير، وامين الدين ميكاييل النايب بقونيه، ومن امرا الروم عده، وصحبتهم تقدير ثلث (5) الاف افارس، ومقدمهم الملك درياى. وكانت الوقعه مع جنقر وكسرته يوم الاحد ثامن عشر جمادى الاولى. فلما اتصل الخبر بهده العساكر التى كانت على البيره، رحلوا عنها بعد ان اشرفوا على اخدها. فلما بلغهم كسره جنقر، ولو (8) منهزمين، وتركوا جميع ما لهم من العدد والمناجنيق والامتعه، ونجو (9) بانفسهم، لا يلوى كبيرهم على صغيرهم. وسار السلطان اليها، ونزلها فى الثانى والعشرين من الشهر، وفعل مع اهلها من الجميل ما قد دكرناه. ثم عاد [السلطان] الى دمشق، ورحل طالبا للديار المصريه، التاسع (11) من الشهر، وصحبته الامير بدر الدين بيسرى، والوزير بها الدين بمصر. فلما اتصل خبره بولده الملك السعيد، خرج الى ملتقاه، وصحبته الامير المدكور والصاحب بها الدين، والتقوا (14) به من منزلة القصير. فلما وقعت عين الملك السعيد على ابيه ترجّل ومشا (15)، فترجل الملك الظاهر ايضا، واعتنقا طويلا ثم ركبا، وتسايروا جميعا. ودخل السلطان الظاهر الى القلعه بعد ان شق القاهره، وقد زينت له الزينه الماكنه، واسارا (16) التتار بين يديه يقادون فى القيود والاغلال. وفيها اعتقل السلطان الشيخ خضر فى ثانى عشر شوال كما ياتى خبره.

(1) يبات: يبت--الى: إلا--الفراه: الفرات (4) ابن: بن (5) ثلث: ثلاثة-- افارس: فارس--درياى: كذا فى الأصل وفى م ف؛ أما فى ابن عبد الظاهر ق 163 آ، تحقيق الخويطر ص 1212، وفى اليونينى ج‍ 3 ص 3، وفى المقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 607، فقد ورد الاسم «درباى» (8) ولو: ولوا (9) ونجو: ونجوا (11 - 14) التاسع. . . والتقوا: كذا فى الأصل، وبه تصحيف لاضطراب المعنى؛ والصحيح فى م ف «التاسع من جمادى الاخر [كذا]. قال المؤرخ: فلما اتصل خبره بولده الملك السعيد خرج الى ملتقاه فى تاسع عشر الشهر وصحبته الأمير بدر الدين بيسرى والوزير بها الدين ابن [كذا] حنا. فالتقوا. . .» (15) ومشا: ومشى (16) واسارا: وأسارى

(154) ذكر [حوادث] سنة اثنين وسبعين وستمايه

(154) ذكر [حوادث] سنة اثنين (1) وسبعين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم سته ادرع وأحد وعشرين (2) اصبعا. مبلغ الزياده سبع (3) عشر دراعا وثلثه عشر اصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (5) العباس امير المومنين. والسلطان الملك الظاهر سلطان الاسلام. والملوك بحالهم خلا صاحب صهيون، فانه توفى الى رحمة الله، وانتقلت صهيون الى ملك السلطان الملك الظاهر، فجعلها فى حصون الاسماعيليه. وفيها توجه السلطان من الديار المصريه الى الشام فى جماعه يسيره من امرايه وخواصه، منهم الامير شمس الدين سنقر الاشقر، والامير بدر الدين بيسرى، والامير سيف (10) ايتامش السعدى. فلما وصل عسقلان بلغه ان ابغا ابن هلاوون قصد بغداد، وقد خرج الى الركب (11) متصيدا. فعند دلك كتب الى الديار المصريه يطلب العساكر، فخرج فى الاول اربعه الاف فارس، على كل الف مقدم، وهم: الحاج علا الدين طيبرس الوزيرى، وجمال الدين اقوش الرومى، وعز الدين قطليجا، وعلم الدين طرطج. فرحلوا من البركه يوم الاثنين وتوجهوا الى الشام. ثم خرج من بعدهم الامير بدر الدين بيليك الخزندار ثامن عشر صفر. واقام الملك السعيد بالقلعه، ونايبه الفارقانى، والصاحب بها الدين وزيرا. ولحقت الجيوش للسلطان بيافا. ثم انه رتب الجيوش، وتوجه الى دمشق، واستصحب معه الامير عز الذين يغان (17) السلحدار،

(1) اثنين: اثنتين (2) وعشرين: وعشرون (3) سبع: سبعة (5) ابى: أبو (10) سيف: سيف الدين--ابن: بن (11) الركب: كذا فى الأصل وم ف؛ فى ابن الفرات (ط. بيروت 1942)، ج‍ 7 ص 3 «الزاب» (17) يغان: انظر ما سبق ص 107:7 «ايغان المعروف بسم الموت»

وابن صاحب سنجار. واقام الامير بدر الدين الخزندار على يافا، ثم تقدم مرحلتين. ولما قدم السلطان دمشق، بلغه عود ابغا عن قصده، فسير الامير سيف الدين ايتمش السعدى على البريد (155) الى الامير بدر الدين الخزندار ان يردّ العساكر الى الديار المصريه. وكان وصولهم الى القاهره المحروسه تاسع جمادى الاخره. وفيها كانت كسره بلبوش (5) امير عرب برقه من عمل المغرب. وكان المدكور قد منع العداد وما جرت به العاده من الحقوق السلطانيه، فجرد اليه عسكرا مع محمد الهوارى (7)، فكسروه، واحضروه الى القاهره اسيرا. واعتقل الى حين عودة السلطان من الشام، فاخرجه واحسن اليه، وكتب له بالامريه (8)، واستخلفه واعاده الى بلاده. وكان قد ناهز المايه من السنين، فادركته منيته قبل وصوله الى اهله فمات. وفيها-ما دكره القاضى بن (11) عبد الظاهر رحمه الله-ان ورد كتابا من ملك الحبشه على السلطان الملك الظاهر طى كتاب صاحب اليمن، وهو يقول: قد قصد المملوك فى ايصال كتابه الى السلطان. وكان ضمن كتاب ملك الحبشه يقول: «أقلّ المماليك محر املالك يقبّل الأرض، وينهى بين يدى السلطان الملك الظاهر- خلّد الله ملكه-أن رسولا وصل من والى قوص بسبب الراهب الذى جاءنا. فنحن ما جاءنا مطران مولانا السلطان، ونحن عبيده. فيرسم مولانا السلطان للبطرك يعمل لنا مطران (17) يكون رجلا جيدا عالما لا يجبى ذهبا ولا فضة، ويسيره الى مدينه عوان. فأقلّ المماليك يسير إلى الملك المظفر صاحب اليمن ما يلزمه، وهو يسيره الى الابواب العاليه. وما أخّرت الرسل إلى الأبواب إلا أنى كنت فى بيكار، فإن الملك

(5) بلبوش: فى الأصل «بلبوس»، انظر ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 166 آ، تحقيق الخويطر ص 1218 (7) محمد الهوارى: كذا فى الأصل وم ف؛ بينما ورد الاسم فى ابن عبد الظاهر ق 166 ب، تحقيق الخويطر ص 1218 «مقدّم بن عزّاز» (8) بالامريه: بالإمرة (11) بن: ابن (17) مطران: مطرانا

داود قد توفى، وقد ملك ولده. [و] (1) عندى فى عسكرى ماية الف فارس من المسلمين، وإنما النصارا فكثير (2) لا يعدّوا، كلهم غلمانك وتحت اوامرك. والمطران الكبير يدعوا (3) لك، وهذا الخلق كلهم يقولوا: آمين. وكل من وصل من (156) المسلمين إلى بلادنا نحفضهم (4) ونسفرهم كما يحبوا. والرسول الذى حضر الينا من والى قوص مريض. وبلادنا وخمة من مرض ما يطيق أحدا (5) يدخل اليه، فمن شم رايحته يمرض ويموت». قال القاضى محيى الدين-رحمه الله-: فرسم السلطان بجوابه فكتبت: «بسم الله الرحمن الرحيم. ورد كتاب الملك الجليل الهمام العادل فى مملكته، حطى ملك أمحرا، اكبر ملوك الحبشان، الحاكم على ما لهم من البلدان، نجاشى عصره، وفريد مملكته فى دهره، سيف الملة المسيحية، عضد دولة دين النصرانية، صديق الملوك والسلاطين، سلطان الأمحرا-حرس الله نفسه، وبنا (11) على الخير أسّه. فوقفنا عليها وفهمنا مضمونها. فامّا طلب المطران، فلم يحضر من جهه الملك أحد حتى كنا نفهم الغرض المطلوب، وانما كتاب السلطان الملك المظفر ورد مضمونه انه وصل من جهته كتاب وقاصد، وأنه أقام عنده حتى يعود اليه الجواب. وأمّا ما ذكره من كثرة عساكره، وأن من جملتها ماية الف مسلمين (15)، فالله تعالى يكثر فى عساكر المسلمين. وامّا وخم بلاده، فالآجال مقدرة من الله عزّ وجلّ، وما يموت أحد إلاّ بأجله. والسلام».

(1) أضيف ما بين الحاصرتين من م ف وابن الفرات ج‍ 7 ص 24 (2) وإنما النصارا فكثير: وأما النصارى فكثيرون--يعدّوا: يعدّون (3) يدعوا: يدعو--يقولوا: يقولون (4) نحفضهم: نحفظهم--يحبوا: يحبون (5) أحدا: أحد (11) وبنا: وبنى (15) مسلمين: مسلم

ذكر شئ من بلاد الحبشه

ذكر شئ من بلاد الحبشه قال القاضى محيى الدين بن عبد الظاهر-رحمه الله-: لما ذكرنا مكاتبه ملك الحبشه اردنا ان نذكر شى (3) من بلادها. امّا امحرا، فانه اقليم من اقاليم الحبشه، وهو الاقليم الاكبر. وصاحبه يحكم على اكثر الحبشه مثل بلاد الداموت والجزّلى (4). وصاحب اقليم امحرا يسمى حطّى (5)، يعنى الخليفه، وكل من يملكها يلقب بهدا اللقب. ومن ملوك (157) الحبشه يوسف بن ارسمايه، وهو صاحب بلاد حدايه وشوّا، وكلخور (7) واعمالها، وفوقهم ملوك مسلمين. واما الزيلع وقبايلها، فما فيها ملوك، الا انّهم سبع قبايل، وهم مسلمين (8) ملاح، وخطباءهم (9) يخطبون باسما مقدميهم السبع. وكان صاحب اليمن قد سير يقصد بناء جامع عندهم ليخطب له فيه، فارسل حجاره من مدينه عدن وجميع الالات، فاخد بعض قبايل الزيلع الحجاره ورما (11) بها البحر. وعوّق صاحب اليمن مراكبهم فى عدن مده سنه لاجل دلك. والدى يتوجه الى امحرا يتوجه الى مدينه عوان، وهو ساحل بلاد الحبشه. وعساكر هدا الملك كثيره جدا، وهو يحكم على اكثر ملوك الحبشه. وكان هدا الملك قد جهز رسولا الى السلطان الملك الظاهر، ومعه تحف وهدايا، من جملتها سباع سود مثل الليل الدامس، فوصل الى بلاد سحرت، فعصى ملكها على دلك، واخد الرسول وما معه.

(3) شى: شيئا (4) والجزلى: والحرلى، م ف؛ فى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 174 آ، تحقيق الخويطر ص 1231 «والجرل» (5) حطى: انظر القلقشندى ج‍ 5 ص 322 (7) وكلخور: فى م ف «وقلحور»؛ فى ابن عبد الظاهر ق 174 آ، تحقيق الخويطر ص 1232 «وكلجور» --مسلمين: مسلمون (8) مسلمين: مسلمون (9) وخطباءهم: وخطباؤهم-- السبع: السبعة (11) ورما: ورمى

ذكر [حوادث] سنة ثلث وسبعين وستمايه

ذكر [حوادث] سنة ثلث وسبعين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم خمسه ادرع واربعه اصابع. مبلغ الزياده سبعه عشر دراعا وسته اصابع. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بأمر الله ابى (5) العباس امير المومنين. والسلطان الملك الظاهر سلطان الاسلام. والملوك بحالهم. وفيها قدم الملك المنصور صاحب حماه الى خدمه السلطان الملك الظاهر بالديار المصريه فى سادس (8) المحرّم، وصحبته اخوه الملك الافضل نور الدين على بن الملك المظفر، وولد الملك المنصور الملك المظفر تقى الدين محمود. ونزلوا (158) الكبش المجاور لبركه الفيل. واحتفل السلطان لهم احتفالا كبيرا، ونفد اليه خوانه بكماله، وصحبته الامير شمس الدين الفارقانى استادارا. فوقف [الفارقانى] على راس الخوان، كعادته بين يدى السلطان، فخلف عليه الملك المنصور واجلسه. ثم وصل اليه من الخلع والدهب والانعامات شئ (13) كبير، ما لا ينهظ به شكره. واباح له ما لم يبحه لاحد من خواصه من شرب الخمر، وسماع الملاهى. وركب فى نيل مصر. وامر السلطان ان يقدوا (15) له البرين، [برّ] مصر والروضه. وفيها حضر صارم الدين ازبك، وصحبته عزاز وبنى (16) عمه الامرا ببرقه، ومعهم منصور صاحب قلعه طلميته (17). واحضر له مفاتيح القلعه، ودلك فى سابع وعشرين جمادى الاخره.

(5) ابى: أبو (8) سادس: كذا فى الأصل وم ف وابن الفرات ج‍ 7 ص 22؛ فى اليونينى ج‍ 3 ص 84 «سادس عشره» (13) شئ كبير: شيئا كبيرا--ينهظ: ينهض (15) يقدوا: يوقدوا--أضيف ما بين الحاصرتين من م ف--مصر والروضه: فى م ف «مصر والجزيرة» (16) وبنى: وبنو (17) طلميته: طلميثه--وعشرين: كذا فى الأصل وم ف؛ فى اليونينى ج‍ 3 ص 87 «عشر»

ذكر نوبه سيس وماتم فيها

ذكر نوبه سيس وماتم فيها توجه السلطان الملك الظاهر من الديار المصريه الى الشام بالعساكر المنصوره جميعها، واستخلف بمصر الامير شمس الدين الفارقانى. ورحل رابع شعبان المكرم، فوصل الى دمشق تاسع وعشرين شعبان. ثم خرج قاصدا من دمشق الى سيس، فعبر الدربند من على درب ساك الى باب اسكندرونه الى سيس، فملك أياس، وأدنه، ومصيصة. وكان دخول العساكر اليها فى حادى عشر (6) شهر رمضان المعظم، وكان خروجهم فى العشرين من شوال بعد ان قتلوا من الارمن خلق كثير (7)، واسروا اعظم. وغنموا من الغنايم والدواب والجوار (8) والمماليك عده كثيره، فوقف السلطان عند مضيق الدربند تحت بغراس، واخد من الناس جميع الكسب. ونزل على عمق حارم، واقسمها بين الناس بالسويه. واقام على العمق الى اخر شوال مع دى القعده، ثم رحل فى العشر الاول من دى الحجه، (159) ودخل دمشق واقام بها، وفرّق العساكر بالبلاد الى ان دخلت سنه اربع وسبعين. وكان سبب خروج السلطان هده النوبه ما دكره القاضى عز الدين بن شداد- رحمه الله-فى «الروض الزاهر فى سيره الملك الظاهر»: وذلك ان معين الدين البرواناه كتب الى السلطان يحرّضه على الدخول الى البلاد ويقصد الروم. ودلك انه لما ضاق درعه (16) من آجاى بن هلاوون اخى ابغا-وكان عزم آجاى على قتل معين الدين-فحمله [الخوف] (17) على مكاتبه السلطان الملك الظاهر فى السنه الخاليه، (12 - 8)

(6) عشر: كذا فى الأصل وم ف؛ وفى اليونينى، ج‍ 3 ص 88 «عشرين» (7) خلق كثير: خلقا كثيرا--اعظم: كذا فى الأصل وم ف؛ وفى اليونينى «خلقا كثيرا لا يحصى» (8) والجوار: والجوارى (16) درعه: ذرعه (17) أضيف ما بين الحاصرتين من م ف

(160) دكر شى من بلاد سيس واخبارها

وسير الى ابغا ودكر له امور (1) توجب ان يستدعى آجاى اليه، فسير ابغا وطلب آجاى، فتوجه اليه. ووافق خروج آجاى من البلاد دخول السلطان الملك الظاهر الى الشام. فافاق البرواناه على نفسه، واستدرك الفارط، وسير يقول للسلطان: «اقصد هده السنه سيس، ففى السنه الاتيه املكك البلاد». فقصد السلطان سيس، حسبما دكرناه. ولما استدعا (7) ابغا لاخيه آجاى وصحبته صمغوا، سير الى الروم بقو نوين، ومعه اربعين الف (8) من خواصه. وامره ان يكتب جميع اموال الروم ويضبطها، وان البرواناه لا يحكم بالروم الا بحضور بقو نوين. فلما وصل الى الروم حضر اليه جميع امرا الروم، وقدموا اليه الهدايا والتحف، الا البرواناه، فانه لم يهتم بأمره. وحصل بقو نوين الاموال، ويعدّها (11) الى ابغا. فلما راى معين الدين تمكّن بقو نوين، دل واستكان ودخل تحت الطاعة. قلت: ولما دكرنا دخول العساكر سيس، اردنا ان نتلوا (13) دلك بشئ من دكر بلاد سيس واحوالها ومبدا شانها، حسب الطاقه. (160) دكر شى من بلاد سيس واخبارها اما مصّيصه، فبناها عبد الله بن عبد الملك بن مروان-دكر دلك بن عساكر (16) فى تاريخه الكبير-ودلك فى ايام ابيه فى سنه اربع وثمانين هجريه. وامّا طرسوس، فانها من المدن القديمه، وقبر المامون بها؛ فانه كان غزاها مره بعد مره، فمات بمكان

(1) امور: أمورا (7) استدعا: استدعى--صمغوا: صمغو؛ انظر ص 164 حاشية 11 - -بقونوين؛ انظر حاشية 1 لبلوشيه فى P .O .XIV ص 391 (8) الف: ألفا (11) ويعدها: ونفذها، م ف--دل: ذل (13) نتلوا: نتلو (16) بن عساكر: ابن عساكر

يعرف بالبدندون (1) -قريب من طرسوس-فى سنه ثمان عشره ومايتين هجريه. وقد تقدم دكر دلك فى الجزء المختص بدكر بنى اميه-وهو الجزء الثالث من هدا التاريخ. وطرسوس وادنه وما يليهما يسميا (3) باللسان الارمنى قيلقيا. والمصيصه بلد ابقراط الحكيم. ويقال بل ان بلده حمص-والله اعلم-ذكر ذلك ابن الروميه فى شرح كتاب ديسقوريدس (5). واما نهر جاهان، فهو نهر جيحان، والارمن [تجعل] (6) الحاء هاء. وهدا النهر اجلّ الانهار الثلث (7)، وهم سيحان وجيحان وبردان، وهى انهار طرسوس والمصيصه وادنه، دكر دلك هبة الله بن الاكليلى فى كتاب صفه الارض. واما جيحون فهو نهر منحدر متبحرا الى خوارزم. واوله جرفا (9) ينحدر نحو الجنوب، حتى يمرّ بمدينه سيسمه من بلاد الروم، [و] يمر بين جبلين منحرفا عن (10) المغرب الى ان يصير الى مدينتين كانتا للروم، يقال لهما برسا وزبطره، فيمرّ فيما بينهما، ثم يمر بين جبلين راجعا الى ما كان عليه من قصد ناحيه الجنوب، حتى يمرّ بثغر المصيصه، ثم يصب الى البحر الشامى. وطول هدا النهر من اوله الى مصبّه سبع مايه وثلثون ميلا. والجبال المحيطه بسيس وبلادها هو (14) جبل اللكام، طوله مايه ميل. والميل من الارض منتها (15) مدّ البصر. والفرسخ ثلثه اميال-والله اعلم.

(1) بالبدندون: فى الأصل «بالبدندوب»، انظر حاشية 2 لبلوشيه فى P .O .XIV ص 392 - -ثمان: ثمانى (3) يسميا: تسمى--قيلقيا: ورد الاسم فى م ف وابن الفرات ج‍ 7 ص 26 «قيليقيا»؛ وفى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 178 ب، تحقيق الخويطر ص 1239 «قيليقا» (5) ديسقوريدس: فى الأصل «دتسقوريدس» (6) أضيف ما بين الحاصرتين من م ف وابن عبد الظاهر وابن الفرات (7) الثلث: الثلاثة-- وهم: وهى (9) جرفا: جرف (10) عن: كذا فى الأصل وم ف؛ فى ابن عبد الظاهر ق 178 ب، تحقيق الخويطر ص 1239، وابن الفرات ج‍ 7 ص 26 «نحو» (14) هو: هى (15) منتها: منتهى

(161) دكر استيلا بيت لاون صاحب سيس عليها

(161) دكر استيلا بيت لاون صاحب سيس عليها ودلك ما دكره العماد الكاتب-رحمه الله-فى البرق، تاريخه الدى سماه «البرق الشامى». قال: ان بيت هدا لاون هو بيت التكفور. وكانت هده البلاد يجمعها تملّك الروم، فاستولى عليها مليح بن لاون؛ ودلك ان الملك العادل نور الدين الشهيد كان يشدّ منه ويقويه ويعينه على مقاصده. وكان قصد نور الدين-رحمه الله-بدلك ان يسلط الكفره على الفجره، فكان يقويه على الفرنج المجاورين له. فلما قوى امر مليح بن لاون على البلاد، سيّر اليه ملك الروم نسيبه يسمى اندرنيقوس (8) فى جيش كثيف، فالتقاه مليح وكسره كسره شنيعه، وأسر من مقدميهم ثلثين مقدم (9). وكانت هده الوقعه بينهم فى اخر ربيع الاخر سنة ثمان وستين وخمس مايه. فلما بلغ دلك نور الدين الشهيد أحسن الى مليح، وخلع عليه، وسير الى بغداد يعظم امره ويشكره عند الخليفه. وعاد مليح يعرف بغلمانية نور الدين الشهيد. ومن دلك الحين قوى بيت هدا التكفور فى هده البلاد نيابة عن نور الدين الشهيد. وباب الدربند الدى لبلاد سيس يعرف بالدروب، وتعرف تلك الارض واعمالها بالعواصم. وفيها كان الغزو والحروب، واهلها هم اهل رباط (15) والغزو والجهاد. وكان امرها قديما مضاف (16) الى مملكة مصر، وقد اتاها احمد بن طولون صاحب مصر، المقدم دكره-فى الجزء المختص بدكر بنى العبّاس، وهو الجزء الرابع من هدا التاريخ

(8) اندرنيقوس: فى الأصل وم ف «اندرفيقورس»؛ انظر ابن عبد الظاهر ق 179 آ، تحقيق الخويطر ص 1240 (9) مقدم: مقدما (15) رباط: كذا فى الأصل وم ف؛ بينما فى ابن عبد الظاهر ق 179 ب، تحقيق الخويطر ص 1240، وابن الفرات ج‍ 7 ص 26 «الرباط» (16) مضاف: مضافا

المسمّى دلك الجز بالدره السنيه فى اخبار الدوله العباسيه-لما افتتح انطاكيه فى سنه خمس وستين ومايتى (2). (162) ومضا الى طرسوس، فدخلها فى ربيع الاول من السنه المدكوره، وهى يوميد للمسلمين، وولى عليها واليا من قبله يسمى بلخشى (3). وكان عزمه ان يقيم بهده الثغور لطيبة ارضها، ولاجل قربه من الجهاد، فبلغه خروج ولده عن طاعته-حسبما تقدم من دكر ذلك فى تاريخه-فعاد الى مصر، لا يلوى على شئ. وفى ايام كافور الاخشيدى صاحب مصر، المقدم ذكره ايضا، حصل التهاون فى امر الثغور. فقصدها الملك تكفور (8)، فعصت عليه، فاحرق ضياعها بالنار، وقطع اشجارها، واخرب جميع ما حولها من البلاد. واتصل دلك بكافور فتهاون. فرأى ليله من الليالى فى منامه كأنه طلع الى السماء ومعه قدوم، فصار يهدم فى السماء بيده، فانتبه مدعورا. وطلب معبرى الرويا، وقصّ عليهم، فقالوا له: «انت رجل تهدم الدين، وتبطل الجهاد». فعند دلك استيقظ لدلك، وجهز مقدما على جيش كثيف، يعرف بابن الزعفرانى، فدخل الثغور، وازاح عنها التكفور. انتهى الكلام فى دكر بلاد سيس، ولنعود (14) الى سياقه التاريخ بعون الله وحسن توفيقه. فمن تصنيف بن (15) عبد الظاهر نضما يمتدح السلطان الملك الظاهر فى فتحه لبلاد سيس قوله <من السريع>: يا ملك الأرض الذى جيشه … يملأ من سيس إلى قوصى (17)

(2) ومايتى: ومائتين--خمس وستين ومايتى: فى المتن «خمس وستين وخمس مايه» وكتب ابن الدوادارى «ومايتى» فى الهامش مصححا المتن--ومضا: ومضى (3) بلخشى: كذا فى الأصل وم ف؛ بينما ورد الاسم فى ابن عبد الظاهر ق 179 ب، تحقيق الخويطر ص 1241، وابن الفرات ج‍ 7 ص 26 «طخشى» (8) تكفور: كذا فى الأصل وم ف؛ بينما ورد الاسم فى ابن عبد الظاهر ق 180 آ، تحقيق الخويطر ص 1241، وابن الفرات ج‍ 7 ص 27 «الثقفور» (14) ولنعود: ولنعد (15) بن: ابن--نضما: نظم (17) قوصى: قوص

ذكر [حوادث] سنة اربع وسبعين وستمايه

مصيصة التكفور قالت لنا … بالله إقرارى وتخصيصى كم بدن فصّله سيفك لل‍ … فرأ والأكثر منه مصيصى وقوله <من السريع>: ياويح سيس أصبحت نهبة … كم غرّق (4) الجارى بها جاريه وكم بها قد ضاق من مسلك … يستوقف الماشى بها الماشيه وقوله <من السريع>: يا ملك الأرض الذى بعزمه (7) … كم عامر للكفر منه خرب (163) جعلت سيسا فوقها تحتها … والناس قالوا سيس لا تنقلب ذكر [حوادث] سنة اربع وسبعين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم خال، لم يكن به ما يدكر. مبلغ الزياده سبعه عشر دراعا وثلثه أصابع. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (13) العباس امير المومنين. والسلطان الملك الظاهر، سلطان الاسلام من حدود بلاد النوبه الى الفراه (14). وما ورا دلك فى ممالك التتار، والطايفه المجاوره للاسلام ملكهم يوميد ابغا ابن (15) هلاوون. وساير الملوك حسبما تقدم من دكرهم قبل. والسلطان مقيم بدمشق.

(4) غرق: فى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 178 آ، تحقيق الخويطر ص 1238 «عوق» (7) بعزمه: عزمه؛ انظر ابن عبد الظاهر، ق 177 آ، تحقيق الخويطر ص 1237، وابن الفرات ج‍ 7 ص 31 (13) ابى: أبو (14) الفراه: الفرات (15) ابن: بن

ذكر فتح القصير

ذكر فتح القصير وهو بين حارم وانطاكيه، كان فيه رجل قسيس معظم عند الفرنج. وكان السلطان الملك الظاهر قد امر التركمان مع عساكر حلب بالنزول عليه ومحاصرته. ثم بعث اليه الامير المرحوم سيف الدين بلبان الدوادار. فلم يزل يخادع القسيس، ويلاينه ويخاشنه، حتى انزله من الحصن وتسلمه منه بالملاطفه والمكايده وحسن التصرف وبراعه التلطف. ودلك فى الثالث والعشرين من جمادى الاولى. وفيها وفد على السلطان شكنده (7)، ابن عمّ داود ملك النوبه، متظلما من بن عمه داود. ودكر ان الملك كان له دونه. وكان داود ايضا قد تقدمت اساءته على اغارته على عيداب (9) -حسبما دكرناه. فلما استقر ركاب السلطان بالقاهره المحروسه جرّد الامير شمس الدين اقسنقر الفارقانى والامير عز الدين الافرم الى النوبه، (164) وصحبتهم (10) ثلثمايه فارس، وشكنده صحبتهم. وأمرهم ان ادا فتحوا البلاد يسلموها له على ان يكون لشكنده النصف والربع من البلاد، والربع يكون خالصا للسلطان. فخرجوا مستهل شعبان، فوصلوا نقله فى الثالث عشر من شوال. فلما أحس بهم الملك داود، خرج اليهم فى اخوته وبنى عمه وجيوشه، ركاب (14) على النجب بايديهم الحراب، وليس عليهم غير اكسيه سود يسمونهم (15) الدكاديك. فناوشوهم القتال، فلم تكن غير ساعه، وولوا (16) السودان منهزمين، بعد ما قتل منهم خلق كثير بالنشاب وغيره، واسروا منهم ما لا يقع عليه الحصر، حتى ابيع كل راس منهم بثلثه الدراهم (17).

(7) شكنده: كذا فى الأصل وم ف واليونينى ج‍ 3 ص 117؛ وورد الاسم فى النويرى، نهاية الأرب (مخطوطة مصوّرة بدار الكتب المصرية 549 معارف عامة) ص 108، وابن الفرات ج‍ 7 ص 48، والمقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 621 «مشكد» --بن عمه: ابن عمه (9) عيداب: عيذاب (10) وصحبتهم: وصحبتهما (14) ركاب: ركابا (15) يسمونهم: يسمونها (16) وولوا: وولى (17) الدراهم: دراهم

وانهزم الملك داود فيمن انهزم، وقطع بحر النيل الى البر الغربى، ثم هرب فى الليل الى بعض الحصون. فبلغ خبره الامير عز الدين والامير شمس الدين، فركبوا (2) بمن معهما، وساروا فى طلبه ثلاثه ايام مجدين. فلما احس [داود] بهم ترك امه واخته وابنة اخيه، ونجا بنفسه وابنه. فاخدوا (4) الامرا حريمه، ورجعوا الى مدينه دنقله، فاقاموا بها حتى ملكوا شكنده. ورتبوا على كل بالغ فى البلاد دينار (5) فى السنه جزيه، وان يحمل للسلطان فى كل سنه ما قرر عليه. وقرروا عليه ايضا ان دو وبريم-وهما قلعتان حصينتان قريبتان من اسوان بينهم (7) سبعه ايام-يكونا خاصا للسلطان، واقاموا بشى (8) نايبا بهما للسلطان. ثم عادت الامرا (9) الى الديار المصريه، ومثلوا بين يدى السلطان فى الخامس من دى الحجه، ومعهما اخو الملك داود أسيرا (10). فشكر لهما السلطان دلك، واخلع عليهما. ثم وصل بعد ايام الملك (11) داود، واخيه (11_) الآخر وابن اخيه، فحبسوا. ثم وصل السبى، فابيع بمايه الف درهم وعشره (12) الاف (165) درهم. وتقدم مرسوم السلطان ان لا يباع منهم شئ على دمى (13)، ولا يفرق بين الام والاولاد. وكان الملك داود لما هرب قصد ملك الابواب، وهو ملك من ملوك النوبه له اقليم متسع، فحمله الخوف من السلطان الملك الظاهر انه مسك الملك داود وسيره الى السلطان. فوصل فى قبضة الاسر فى الثالث عشر (16) من المحرم سنه خمس وسبعين وستمايه.

(2) فركبوا: فركبا (4) فاخدوا: فأخذ (5) دينار: دينارا (7) بينهم: بينهما--يكونا: يكونان (8) بشى: كذا فى الأصل وفى تاريخ ابن الفرات ج‍ 7 ص 46؛ فى م ف «كشى» (9) عادت الامرا: عاد الأميران--ومثلوا: ومثلا (10) أسيرا: أسير (11) الملك. . . وابن اخيه: كذا فى الأصل؛ وفى اليونينى ج‍ 3 ص 118 «أم داؤد وأخته وابنة أخيه» (11_) واخيه: وأخوه (12) وعشره: كذا فى الأصل وفى م ف؛ فى اليونينى ج‍ 3 ص 118 «وعشرين» (13) دمى: ذمى (16) الثالث عشر: كذا فى الأصل وم ف؛ وفى اليونينى ج‍ 3 ص 118 «ثانى»

ولما اجلسوا الملك شكنده حلفوه بما هدا نسخته: «والله والله والله، وحقّ الثالوث المقدّس، والإنجيل الطاهر، والسيدة الطاهرة العذراء أم الفرد (3)، والمعمودية، للأنبياء والرسل، والحواريين، والقديسين، والشهداء الأبرار، وإلا أجحد المسيح كما جحده يودس، واقول فيه ما قالت اليهود وأعتقد ما يعتقدونه، وإلاّ أكون يودس الذى طعن المسيح بالحربة-إنّنى أخلصت نيّتى وطويتى من وقتى هذا وساعتى هذه لمولانا السلطان الأعظم الملك الظاهر ركن الدنيا والدين بيبرس-خلّد الله ملكه-، وإننى أبذل جهدى وطاقتى فى تحصيل مرضاته، وإننى ما دمت نايبه لا أقطع ما قرّر علىّ فى كلّ سنه [تمضى] (8)، وهو ما تصل (9) من مشاطرة بلادى على ما كان يتحصّل لمن تقدّم من الملوك بالنوبه، وأن يكون النصف من المتحصّل لمولانا السلطان-عزّ نصره-مخلص (10) من كل فن، والنصف الآخر مرصّدا لعمارة البلاد وحفضها (11) من عدو يطرقها، وأن يكون علىّ فى كل سنة من الأفيلة ثلاثة، ومن الزرافات ثلاثة (12)، ومن إناث الفهود خمسة، ومن الصهب الجياد ماية، ومن الأبقار الجيدة أربع ماية رأس. وإنّنى أقرّر على كل نفر من الرعية الذين تحت يدى فى البلاد من العقلاء البالغين دينار (166) عين (15). وأنه مهما كان لداود ملك النوبة كان ولأخوه شنكوا

(3) الفرد: فى م ف والنويرى، نهاية الأرب، ص 109 (انظر ملحق 5 لكتاب السلوك للمقريزى ص 973 - 974)، وابن الفرات ج‍ 7 ص 47، والقلقشندى ج‍ 13 ص 290 «النور» --للأنبياء: والأنبياء (8) أضيف ما بين الحاصرتين من م ف والنويرى ص 109 (9) تصل: فى النويرى، وابن الفرات ج‍ 7 ص 48، والقلقشندى ج‍ 13 ص 291 «تفضل» -- بلادى: فى النويرى وابن الفرات والقلقشندى «البلاد» (10) مخلص: مخلصا--فن: كذا فى الأصل وم ف؛ وفى النويرى وابن الفرات والقلقشندى «حقّ» (11) وحفضها: وحفظها (12) ومن الزرافات ثلاثة: ومن الزرافات ثلاث--خمسة: خمس (15) دينار عين: دينارا عينا--ولأخوه: ولأخيه--شنكوا: شنكو، كذا بالأصل وفى ابن الفرات؛ بينما ورد الاسم فى اليونينى ج‍ 3 ص 117 «جنكو»، وفى النويرى ص 109 «سنكو»

ولأمه ولأقاربه، ومن عهد (1) من عسكره [بسيوف العسكر المنصور]، أحمله إلى الأبواب العالية، وإننى لا أترك شيا (2) منه قلّ ولا جلّ ولا أخفيه، ولا أمكن أحدا من إخفايه. ومتى خرجت عن جميع ما قررته وذكرته، أو عن شئ منه-من هذا المذكور أعلاه كلّه-كنت بريا من الله تعالى، ومن السيد المسيح، ومن السيدة الطاهرة، وأخسر دين النصرانية، وأصلّى إلى غير الشرق، وأكفر بالصليب ومن صلب عليه، وأعتقد ما يعتقدونه اليهود فى المسيح. ثم إننى لا أترك أحدا من العربان ببلاد النوبة صغيرا ولا كبيرا، ومن وجدته أحتطت عليه وأرسلته إلى الأبواب العالية. وإننى مهما سمعته من الأخبار الضارّة (8) والنافعة طالعت به مولانا السلطان فى وقته، وإنّنى لا أنفرد بشئ من الاشياء. وإنّنى عبد مولانا السلطان-عزّ نصره- وغرس صنايعه، وعتيق سيفه المنصور. وأنا ولىّ من والاه وعدوّ من عاداه، والله على ما أقول وكيل وشهيد». ثم حلفت ساير خواصه ورعيته. ثم حلف الملك شكنده (12) يمين ثانى أن متى ورد عليه مرسوم، فى ليل كان او نهار، صباحا او مسا، يطلبه الى الابواب الشريفه، ان يحضر لوقته وساعته، ولا يتاخر عن الحضور بوجه من الوجوه الاّ بمقدار ما يدبر ما يحتاج اليه من امور سفره. وتقررت هده الأيمان تاسع عشر دى الحجه من هده السنه المدكوره.

(1) عهد: كذا بالأصل؛ وفى النويرى ص 109 «قتل» --أضيف ما بين الحاصرتين من م ف (2) شيا: شيئا (8) الضارة: فى النويرى ص 109 «السارة» (12) يمين ثانى: يمينا ثانيا

ذكر من غزا النوبه من أول الاسلام

ذكر من غزا النوبه من أول الاسلام غزاها عبد الله بن ابى سرح (2) فى سنه احدى وثلثين هجريه. ودلك فى خلافه الامام عثمان بن عفان، رضى الله عنه. وكان دلك اول غزو غزيت فى الاسلام. (167) ثم غزيت فى زمن هشام بن عبد الملك بن مروان؛ ثم غزاها يزيد بن ابى صفره وهو يزيد بن ابى حاتم ابن (5) قبيصه بن المهلب بن ابى صفره؛ ثم غزاها ابو منصور [تكين التركى] (6) هى وبرقه فى عام واحد؛ ثم غزاها كافور الاخشيدى؛ ثم غزاها ناصر الدوله بن حمدان فى سنه تسع وخمسين واربع مايه؛ ثم غزاها شاهان شاه (8) ابن ايوب، اخو السلطان صلاح الدين، فى سنه ثمان وستين وخمس مايه، والله اعلم. وفيها عقد الملك السعيد على ابنه المقر الاشرف السيفى قلاوون الالفى-كما ياتى انشا الله تعالى. ذكر [حوادث] سنة خمس وسبعين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم سته ادرع وثلثه عشر اصبعا. مبلغ الزياده ثمانيه عشر دراعا وثلثه اصابع.

(2) عبد الله بن ابى سرح: كذا فى الأصل، فى النويرى، ج‍ 28 ص 109، وتاريخ ابن الفرات ج‍ 7 ص 44 «عبد الله بن سعد» (5) ابن: بن (6) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن الفرات ج‍ 7 ص 45 (8) شاهان شاه: توران شاه؛ انظر ابن الفرات ج‍ 7 ص 45 - - ابن: بن

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (2) العباس امير المومنين. والسلطان الملك الظاهر، سلطان الاسلام. والملوك حسبما تقدم من دكرهم. وفيها وفد على السلطان جماعه من اعيان المغل تقدمهم اميران؛ وهما سكتاى واخوه جاورجى. واخبرا ان الامير حسام الدين بيجار (5) البايبرى الرومى صاحب خرتبرت، وولده سيف الدين بهادر مع جماعه اهاليهم قاصدين (6) الابواب العاليه. وكان سبب حضور هدان الاميران (7) ان بهادر بن بيجار تزوج اختهما. وكان لهما أخ كافر، فوصل اليهما ومعه جماعه من اقاربه، فطلبوا منهما مالا، وقالوا لهما: «انتما هاهنا فى الراحه تسكنا (9) المدن، ونحن فى التعب وملازمه الاسفار. فاعطونا (10) شئ نستعين به، والاّ احضروا (10_) معنا الى (168) الاردوا بين يدى القان ابغا يحكم بيننا». فشاوروا (11) معين الدين البرواناه، فاشار عليهم ان يدفعوهم بشئ يعطونهم. فلما اخدوه ثم توجهوا الى الاردوا (12)، قال البرواناه لبهادر بن بيجار: «هولاء قد توجهوا الى ابغا، ولا تامن غايلتهم». فتبعهم بهادر واصهاره، فقتلوهم فى الطريق، واخدوا ما معهم. وكان رسل ابغا ترد فى كل وقت الى البرواناه يحثونه على الحضور، وهو يمنيهم ويسوّف بهم كل دلك، وهو ينتظر السلطان الملك الظاهر. فلما يأس (16) منه، توجّه

(2) ابى: أبو (5) بيجار: كذا فى الأصل، واليونينى، وأبو الفداء ج‍ 4 ص 9؛ بينما ورد الاسم فى م ف «بينجار» --البايبرى: لعل المقصود بهذا الاسم «البايبرتى»، انظر بلوشيه فى P .O .XIV ص 403 (6) قاصدين: قاصدون (7) هدان الاميران: هذين الأميرين (9) تسكنا: تسكنان (10) فاعطونا شئ: فأعطيانا شيئا (10_) احضروا: احضرا-- الى: مكرر بالأصل--الاردوا: الأردو (11) فشاوروا: فشاورا--عليهم: عليهما-- يدفعوهم: يدفعاهم--يعطونهم: يعطيانهم (12) الاردوا: الأردو (16) يأس: يئس

وصحبته اخت السلطان غياث الدين، ليدخل بها [الى] (1) ابغا. واستصحب البرواناه معه من الامول والتحف والهدايا شئ (2) كثير، وتوجه صحبته خواجا علىّ الوزير. فلما عزم على المسير، حرّض الامير سيف الدين بهادر بن بيجار على التوجه الى السلطان الملك الظاهر، لانه علم ان ابغا اطلع على قتله اوليك (4) التتار. فخاف على بهادر وابنه لا ينتقم منهم (5)، ويكون سببا لاخد نفوسهم. فتقدم بهادر لسكتاى وجاورجى بان يتقدماه ويعرفا السلطان ما تقرر من عزمهم. فلما وصلا (6) هدان الاميران الى السلطان احسن اليهما. وكان السلطان بدمشق، فانفد (7) بهما الى الديار المصريه، فتلقاهما الملك السعيد ملتقا (8) حسنا، واكرمهما واحسن اليهما، وردهما الى السلطان مكرمين. وفيها فى اواخر العشر الاول من المحرم سير السلطان الامير بدر الدين بكتيت الاتابكى، وصحبته الف فارس، الى بلاد الروم. وكتب على يده كتاب (11) الى الامراء بالروم، وهو يحثهم على طاعته والانقياد اليه. واول هده المكاتبه يقول: «{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَ [أَطِيعُوا] الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (13). فمن اطاعنى حقن دمه وماله وربح الجنه، (169) ومن عصانى فلا يلوم (14) الى نفسه». وكان سبب هده المكاتبه ان شرف الدين مسعود بن الخطير-بعد سفر البرواناه فى السنه الخاليه الى ابغا-كتب الى السلطان الملك الظاهر يحثه على العبور الى الروم بعساكره لينتظم فى سلكه. وبعث الكتاب الى الامير سيف الدين بن جندر (17)، مقطع البلستين، فبعثه الى السلطان ولده بدر الدين قوش (18). وكان ابوه قد اوصاه ان

(1) أضيف ما بين الحاصرتين من اليونينى ج‍ 3 ص 165 (2) شئ كثير: شيئا كثيرا (4) اوليك: أولائك (5) منهم: منهما--نفوسهم: نفوسهما--بهادر: فى الأصل «بهاد» (6) وصلا: وصل (7) فانفد: فأنفذ (8) ملتقا: ملتقى (11) كتاب: كتابا (13) القرآن 4:59 (14) يلوم الى: يلومنّ إلا (17) جندر: كذا فى الأصل وم ف واليونينى؛ بينما ورد الاسم فى ابن الفرات ج‍ 7 ص 65 «حيدر» (18) قوش: كذا فى الأصل وم ف؛ وفى اليونينى ج‍ 3 ص 166 «أقوش»

يتمسك به ولا ينفده (1). ثم ان شرف الدين بن الخطير، لما بعث الكتاب، داخله الندم وخاف انه إن خرج من الروم لا يعود اليها. فبعث الى سيف الدين بن جندر يقول له: لا تبعث الكتاب. فطلب [ابن جندر] ولده وساله عن الكتاب، فاخبره انه بعثه الى السلطان ليكون له بدلك عنده يد. فلما وصل بدر الدين [بكتوت] الاتابكى الى البلستين صادف من عسكر الروم جماعه من امراء الروم، وهم: الامير مبارز الدين سوارى الجاشنكير، والامير سيف الدين بن جندر، وبدر الدين قوش ولده، والامير بدر الدين مكاييل. فعندما وقعت عينه عليهم ترجلوا، ولم يترجل هو، ثم انه (8) ركبوا وسايروه، وانزلوه وسيروا له الاقامات الحسنه. وسالوه فى المهله عليهم حتى يقتلوا من فى البلستين من التتار. ويتوجهوا الى خدمه السلطان. فاجابهم الى دلك، فقتلوا جميع من كان هناك من التتار. وتوجهوا مع بدر الدين الاتابكى حتى قدم بهم على السلطان، وهو نازل على مرج حارم. فاقبل عليهم واحسن إليهم. وفيها قدم الامير حسام الدين بيجار وولده بهادر بالسبب المقدم دكره. وامر السلطان لجمال الدين محمد بن نهار (14) بالخروج اليهما. وكان وصولهما الى المخيم المنصور بباب الدهليز السلطانى بظاهر دمشق السابع (15) عشر (170) من شهر الله المحرّم. وانزلهما فى النيرب. وكان بهادر ولده قد تأخر بعد والده، ووصل الى ابيه بدمشق فى التاسع والعشرين من الشهر المدكور. وكان سبب تاخيره انه جمع اطرافه من البلاد. وكان مهدب (18) الدين علىّ بن معين الدين البرواناه نايبا عن ابيه فى البلاد. فلما بلغه رحيلهم، انفد (19) خلفهم عسكرا من التتار، وقدّم عليهم مقدم يسمى قنجى، فساق

(1) ينفده: ينفذه (8) انه: إنهم (14) نهار: كذا فى الأصل واليونينى ج‍ 3 ص 166؛ بينما ورد الاسم فى م ف «بهادر» (15) السابع: كذا فى الأصل وم ف؛ فى اليونينى ج‍ 3 ص 166 «التاسع» (18) مهدب: مهذب (19) انفد: أنفذ مقدم: مقدما

خلفهم الى خرتبرت، فلم يلحقهم (1) ولا وجد من اخبره عنهم، غير انه وجد خيلا كان بهادر قد قدمها بين يديه، فتاهت عن الطريق، وكان عدتها خمس مايه فرسا (2)، فاخدها وعاد الى مهدب (3) الدين. ولما اجتمعا (4) وحضرا بين يدى السلطان اقبل عليهما، ثم انفدهما الى الديار المصريه صحبه الامير بدر الدين بيسرى وشرف الدين ألجاكى، فالتقاهما الملك السعيد ملتقا (5) حسنا. واما تاثير الكتب التى كانت على يد الامير بدر الدين بكتوت الاتابكى، لما وصلت الى اربابها من امراء الروم، مثل شرف الدين مسعود بن الخطير، وتاج الدين كيوى (8) -وكانا هذان الاميران مقدّمان على العساكر الروميه من جهه البرواناه-فلما وصلت اليهم الكتب امروا لسنان الدين ابن (9) سيف الدين طرنطاى ان يقراهما (10) ويرد جوابهما. ثم ورد فى دلك الوقت قاصدا (11) اخر، وعلى يده كتب اليهم من السلطان مضمونها: ان نحن واصلين (12) اليكم عقيبها. فاجالوا قدح الراى بينهم، فاشار عليهم تاج الدين كيوى ان: «يكتب كل واحد منا كتاب (13) الى السلطان الملك الظاهر نعرفه ان نحن مماليكه، والبلاد بلاده، وان معين الدين قد توجه الى ابغا، والسلطان غياث الدين فى قيساريه، ونحن نتوجه اليه (15)، ونجتمع به وبمن فيها من الامراء، ونعرفهم بما وقع عليه الاتفاق، ونطالع السلطان بما يتحرر». فكتبوا بذلك

(1) يلحقهم: فى الأصل «يحلقهم» (2) فرسا: فرس (3) مهدب: مهذب (4) ولما اجتمعنا: اى حسام الدين بيجار وولده بهادر--انفدهما: أنفذهما (5) ملتقا: ملتقى (8) كيوى: فى الأصل «كفوى»، بينما ورد الاسم فى م ف «كفرى»، وصححه بلوشيه فى حاشية 3 فى P .O .XII ص 409 «كنوى»؛ والأرجح «كيوى» نسبة إلى كيا، انظر ابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة، ج‍ 7 ص 169 - -وكانا: وكان--مقدمان: مقدمين (9) ابن: بن (10) يقراهما: يقرأها، م ف--جوابهما: جوابها، م ف (11) قاصدا: قاصد (12) واصلين: واصلون (13) كتاب: كتابا (15) اليه: إلى قيسارية، م ف

(171) واما ما كان من السلطان، فانه توجه من حلب الى حمص، فوصل ثالث (1) شهر صفر. فوافا (2) بها الامير ضيا الدين محمود بن الخطير والامير سنان الدين بن طرنطاى. وكان السبب فى وصولهما ان الامراء الدين بالروم، لما اجابوا السلطان بدلك الجواب، شرع شرف الدين بن خطير (4) فى تفريق العساكر الروميه، وادن لهم فى نهب من يجدوه (5) من التتار وقتله. وانحاز الامير بدر الدين محمد بن قرمان واخوته واولاده بمن معه من التركمان الى السواحل بالروم، وباينوا التتار، وغاروا على من جاورهم منهم. وكاتب [الأمير بدر الدين] السلطان الملك الظاهر بدلك. ثم بلغ السلطان غياث الدين ومهدب (9) الدين ابن البرواناه ما فعله شرف الدين بن الخطير من اظهار العداوه للتتار، فبعثوا طلبوه (10) فحضر. فلما وصل أمر-دلك الوقت-مهدب ان يحضر جميع رسل التتار ونوابهم، ومن كان من المغل بقيساريه، فاحضروهم مكتفين مكشفين الرؤس، فاعتقلهم. ثم نفد مهدب (12) الدين الى شرف الدين بن الخطير ليحضر اليه ويستشيره، فلم ياتيه (13) واوجس منهم خيفه. فخرج اليه تاج الدين كيوى، وسيف الدين طرنطاى، فتاخر سيف الدين طرنطاى لحاجه وسبق تاج الدين. فلما اجتمع بشرف الدين، عنّفه واغلظ عليه فى القول لعدم حضوره. فامر شرف الدين لمن عنده من خاصته فوثبوا على تاج الدين وسنان الدين بن ارسلان طغمش فقتلوهما جميعا. ثم خشى عاقبه امره مع مهدب الدين، فتوجه من فوره الى الابواب السلطانيه، [ثم استمسك] (18).

(1) ثالث: كذا فى الأصل وم ف؛ وفى اليونينى ج‍ 3 ص 167 «ثالث عشر» (2) فوافا: فوافى (4) خطير: الخطير (5) يجدوه: يجدونه (9) مهدب: مهذب-- ابن: بن (10) فبعثوا طلبوه: فبعثا طلباه (12) مهدب: مهذب (13) ياتيه: يأته (18) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش

فلما بلغ مهدب (1) الدين قتل تاج الدين ورجوع سيف الدين طرنطاى الى منزله، بعث اليه يستدعيه فلم يجبه، فتخيّل انه مع شرف الدين [بن الخطير]. ثم بعث اليه شرف الدين فاتاه، فساله ان يوفّق بينه (172) وبين مهدّب (3) الدين. فعاد سيف الدين [طرنطاى] وسأل مهدب (4) الدين، فاجاب الى دلك. ثم خرج السلطان غياث الدين الى ظاهر قيساريه. فلما رآه شرف الدين وضياء الدين ترجلا وقبلا الارض، ثم نادوا فى البلد بشعار السلطان الملك الظاهر. واتفقوا مع السلطان غياث الدين انهم يتوجهوا (7) الى مدينه مكنده، يقيموا بها، ويبعثوا قصّاد (8) الى الملك الظاهر يستوثقوا (8_) منه بالأيمان للسلطان غياث الدين ولانفسهم. ثم استادنهم مهدّب (9) الدين ان يدخل قيساريه، ويحمل اثقاله ثم يخرج اليهم، فأدنوا له. فلما دخل اليها اخد امواله وحريمه، وخرج ليلا وقصد دوقاق فتحصّن بها. فلما تحققوا توجّهه الى دوقاق، بعث شرف الدين اخوه (11) ضيا الدين، وصحبته سبع وثلثون نفر، وبعث سيف الدين طرنطاى ولده سنان الدين، وصحبته عشرون نفر (12)، الى السلطان الملك الظاهر، يحثونه على العبور الى البلاد، ويعرّفونه بما جرا (13). وسار شرف الدين ابن الخطير والسلطان غياث الدين الى مكنده. فلما اجتمعا (14) الاميران المذكوران بالسلطان على حمص، وعرّفاه الاحوال، وحثاه على الدخول الى البلاد، كان جواب السلطان لهما: «انتم استعجلتم (16)، فانى كنت قد وعدت معين الدين البرواناه قبل توجهه الى الاردوا (17) انى فى اواخر السنه ادخل البلاد بعساكرى فانها فى مصر،

(1) مهدب: مهذب (3) مهدب: مهذب (4) مهدب: مهذب (7) يتوجهوا: يتوجهون--يقيموا: يقيمون (8) ويبعثوا قصاد: ويبعثون قصادا (8_) يستوثقوا: يستوثقون (9) استادنهم مهدب: استأذنهم مهذب (11) اخوه: أخاه-- سبع وثلثون: سبعة وثلاثين--نفر: نفرا (12) عشرون نفر: عشرين نفرا (13) جرا: جرى (14) اجتمعا: اجتمع (16) انتم استعجلتم: أنتما استعجلتما (17) الاردوا: الأردو

وما يمكنى (1) ادخل البلاد بمن معى من العساكر. واما رحيل مهدب الدين الى دوقاق، فنعم ما فعل، فانه كان مطلع (2) على ما كان بينى وبين والده». ثم ان السلطان انزلهما، فلما استقر بهما القرار طلب ضياء الدين ان يجتمع بالسلطان خلوة، فاجابه فقال: «الله يحفط (4) السلطان، متى لم يقصد البلاد فى هدا الوقت، لم آمن على اخى شرف الدين ان يقتل هو ومن معه (173) من الامراء الدين حلفوا للسلطان، وان تاخر ركاب السلطان فى هدا الوقت، فيتصدق السلطان، ويبعث من فيه نجدة حتى يكونوا له ظهرا، ويتمكن من الخروج والحضور الى خدمه السلطان». فقال [السلطان الملك الظاهر]: «الدى اراه من المصلحه ان ترجعوا الى بلادكم، وتتحصنوا بقلاعكم، وتحتموا بها الى ان ارجع الى مصر، واربع خيلى، واعود اليكم فى زمن الشتا؛ فان ابار الشام فى هدا الوقت قد غارت وقل ما بها، وعسكرى ثقيل لا يحمله». ثم ان السلطان استصحبهم معه، فلما وصل الى حماه استصحب معه صاحبها وسار الى حلب. ثم انه جهز سيف الدين بلبان الزينى (12) فى عسكر، وبعثه الى الروم ليحضر السلطان غياث الدين والامير شرف الدين بن الخطير ومن معهما من الامراء الروميين. فلما وصل الزينى (15) الى كينوك، وردت القصّاد واخبروا ان البرواناه قد عاد الى الروم، وهو فى خدمه منكو تمر واخوته، اولاد هلاوون، وهم فى ثلثين الف فارس من كبار المغل. فكتب الى السلطان وعرفه دلك، فظن السلطان ان التتار، ادا سمعوا انه عسكر قليل، يقصدونه، فعاد من حلب الى دمشق، ثم توجه الى مصر. وعاد الزينى بمن معه بمرسوم السلطان له فى دلك.

(1) يمكنى: يمكننى--مهدب: مهذب (2) مطلع: مطلعا (4) يحفط: يحفظ (12) الزينى: فى الأصل «الزيتى»؛ انظرم ف، واليونينى ج‍ 3 ص 170، وابن الفرات ج‍ 7 ص 67 (15) الزينى: فى الأصل «الزيتى» --كينوك: فى الأصل «كوك»؛ انظر ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 185 ب، تحقيق الخويطر ص 1255، واليونينى ج‍ 3 ص 170، وابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة، ج‍ 7 ص 167؛ وفى ابن الفرات ج‍ 7 ص 67 «كوكصو»

ولمّا وصل البرواناه فى خدمه منكو تمر اخو (1) ابغا الى الروم، ودلك فى اوايل شهر ربيع الاخر، وبلّغهم جميع ما جرا (2) من بن الخطير، فاظهر لهم المباينه، وعزم على ان يلتقيهم. فسفّه رايه من معه وقالوا: «كيف نلتقى باربعه الاف فارس، ثلثين الف (3) من خيار المغل». فعلم انه مقتول لا محاله، فقصد قلعه لولوه ليتحصّن بها، فلم يمكنه واليها ان يدخلها بجماعته بل بمفرده. فدخل اليها ومعه امير علم لا غير. وكان شرف الدين (174) قد أسى (6) الى هدا أمير علم من مده ست عشر سنه، فقال للوالى فى تلك الساعه: «احتفط (7) بغريم ابغا حتى تسلمه اليه». فقبض عليه [الوالى] وبعثه الى عند البرواناه. فلما وقع نظره عليه سبّه وشتمه وبصق فى وجهه، وأمر ان يحتاط عليه. وكان مع البرواناه فى دلك الوقت من مقدمين (9) التتار ثلاثه، وهم: تتاوون وكراى وبقونوين (10). فجلسوا هؤلاء المقدمين والبرواناه فى مجلس واحد، وحضّروا جميع التتار. واحضروا السلطان غياث الدين ومن وافقه من الامرا على طاعه السلطان الملك الظاهر. ثم قالوا لغياث الدين: «ما حملك على خلعك طاعه القان ابغا وانقيادك الى صاحب مصر؟» فقال لهم: «انا صبى، وما علمت الصواب حتى اتبعه. ولما رايت اكابر دولتى قد فعلوا دلك خشيت ان متى لم اوافقهم سلمونى». قال: فعند دلك نهظ (15) البرواناه الى شجاع الدين الالا، واسمه قايبا الحصنى، فقتله فى تلك الساعه بيده. ثم احضر (16) سيف الدين طرنطاى، ومجد الدين اتابك، وجلال الدين المستوفى، وسالوهم عن سبب انقيادهم الى طاعه صاحب مصر وخلعهم طاعه ابغا. فقالوا كلهم: «شرف الدين بن الخطير امرنا بدلك، وخففنا إن نحن خالفناه فعل بنا كما فعل بتاج الدين كيوى».

(1) اخو: أخى (2) جرا: جرى--بن: ابن (3) الف: ألفا (6) أسى: كذا فى الأصل وم ف، فى اليونينى ج‍ 3 ص 171 «اذاه» --عشر: عشرة (7) احتفط: احتفظ (9) مقدمين: مقدمى (10) وبقونوين: انظر ص 178 س 7 - - فجلسوا: فجلس--المقدمين: المقدمون (15) نهظ: نهض--شجاع--شجاع: فى الأصل «شاع»، انظر م ف، واليونينى ج‍ 3 ص 171 - -الالا: اللالا. (16) احضر: احضروا.

قال: فاحضروا شرف الدين بن الخطير وسالوه عن دلك. فقال شرف الدين للبرواناه: «انت الدى حرضتنى على دلك». ودكر له المكاتبات التى كاتب بها السلطان الملك الظاهر. فانكر البرواناه ما ادعاه ابن الخطير. فكتبوا بجميع دلك الى ابغا. ثم سالوا شرف الدين عن سيف الدين طرنطاى ومجد الدين اتابك هل كانا موافقان (5) للانقياد، فقال «انا كلفتهما كدلك». فامر عند دلك تتاوون بضربه بالسياط حتى يقر بمن كان معه. فاقر على نور الدين (175) جنجا؟؟؟ (6)، وسيف الدين قلاوز، وعلم الدين سنجر الجمقدار وغيرهم. فلما تحقق البرواناه انه مقتول باقرار شرف الدين عليه بعث اليه يقول: «متى قتلونى لم يبقوك بعدى، فاعمل على خلاص نفسك ونفسى بحيث ادا حضرت وضربت ثانى مره وسئلت عن الحال، فارجع عمّا قلت، واعتدر انك اعترفت من الم الضرب». فلما احضر وضرب، سئل فقال: «ما امرنى الا البرواناه». فبعث تتاوون الى بغا، وعرفه ذلك، وامر ان يضرب فى كل يوم مايه سوط حتى يعود جواب ابغا. فعاد جوابه بقتله، فقتل. وبعث الى قونيه براسه واحدى قدميه، وفرق جميع اعضايه فى ساير بلاد الروم. وقتل معه قلاوز، وسنجر الجمقدار، وشرف الدين محمد الاصبهانى نايب الروم، وجماعه كبيره من التركمان. وفدا (15) نفسه طرنطاى بمايتى فرس واربع مايه الف درهم، بعد ان دخل على بقو نوين، فشفع فيه حتى ابقوه. ثم خرج البرواناه الى البلاد، فطاف بها بعسكره، وقتل من وجد بها من ضواحيها من المفسدين. وكان لما قتل شرف الدين اتصل خبره باخيه ضياء الدين محمود، وهو فى خدمه السلطان بالقاهره المحروسه. فسأل السلطان عن خبره، فاخبره انه قد قتل. وقال له:

(5) موافقان: موافقين--فقال: فأنكر وقال، م ف (6) جنجا؟؟؟: كذا فى الأصل وم ف؛ بينما ذكر ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 187 ب، تحقيق الخويطر ص 1259، وابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة، ج‍ 7 ص 169 «جاجا» --قلاوز: فى الأصل «قلاون» (15) وفدا: وفدى

ذكر دخول السلطان الروم

«كان سبب قتله اقراره بمكاتبتى للبرواناه». ثم امر السلطان بالقبض على سنان الدين موسى بن طرنطاى، وعلى [نظام الدين] (2) يوسف اخى مجد الدين اتابك، وعلى الحاجى اخو (3) جلال الدين المستوفى، واودعهم الاعتقال وساير اتباعهم بخزانه البنود. ودلك يوم الثلثا سابع عشر جمادى الاولى. ولم يزالوا فى الاعتقال الى شهر ربيع الاخر سنه سبع وسبعين وستمايه، فافرج عنهم الملك السعيد بعد وفاه السلطان الملك الظاهر، والله اعلم. (176) وفيها كان عرس الملك السعيد على زوجته، بنت المقر السيفى قلاوون، ودلك عند عودة ركاب السلطان من الشام المحروس. ولبس الجيش جميعه، ولعب فى الميدان الاسود تحت القلعه. وكان مهم عظيم (9)، اخلع السلطان فيه على ساير الامراء والمقدمين واكابر الدوله. ذكر دخول السلطان الروم لما كان يوم الخميس-العشرين (12) من شهر رمضان المعظم من هده السنه المدكوره- برز الدهليز المنصور السلطانى متوجّها الى الشام المحروس. ورتب الامير شمس الدين الفارقانى نايبا بالديار المصريه فى خدمه الملك السعيد ولده، وترك عنده خمسه الاف فارس لحفظ (15) البلاد من طارق يطرقها. ثم رحل ثانى عشرين الشهر المدكور، وسار الى دمشق، فدخلها يوم الاربعا سابع عشر شوال. وخرج منها العشرين منه، فدخل حلب سابع عشرين (17) الشهر، وخرج منها يوم الخميس [ثانى ذى القعدة]، فنزل حيلان.

(2) أضيف ما بين الحاصرتين من اليونينى ج‍ 3 ص 173 (3) اخو: أخى (9) مهم عظيم: مهما عظيما (12) العشرين: العشرون (15) لحفط: لحفظ (17) سابع عشرين: فى اليونينى ج‍ 3 ص 175، والمقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 627، وابن تغرى بردى، النجوم، ج‍ 7 ص 166 «يوم الأربعاء مستهل ذى القعدة» --أضيف ما بين الحاصرتين من ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 185 آ، تحقيق الخويطر ص 1254

ورسم للامير نور الدين على بن مجلّى، نايب حلب، ان يتوجه الى الساجور، ويقيم على الفراه (2) بمن معه من العساكر الحلبيه لحفط المخايض لا يعبرها احد من التتار قاصدا الشام. ووصل الى الامير نور الدين بن مجلّى المدكور الامير شرف الدين عيسى بن مهنّا. فبلغ نواب التتار بالعراق نزولهم على الفراه (4)، فجهزوا لهم جماعه من عرب خفاجه تكبسهم. فوصل الخبر لنور الدين بن مجلى، فركب وداركهم، فالتقاهم وكسرهم، واخذ منهم الف (6) ومايتى جمل. ثم ان السلطان رحل من حيلان يوم الجمعه ثالث الشهر. فنزل عين تاب، ثم الى دلوك، ثم الى مرج الديباج، ثم الى كينوك، ثم الى النهر الازرق، ثم الى اقشادربند (9)، فوصله يوم الثلثا سابع شهر دى القعده، فقطعه (177) فى نصف نهار. فلما خرج منه انتشرت العساكر شبه الجراد المنتشر. فحينئد قدّم الامير شمس الدين سنقر الاشقر على جماعه من العساكر المنصوره، وامره بالمسير بين يديه. فوقع على طايفه من التتار، عدتها ثلث (12) الاف فارس، ومقدمهم يسمى كراى، فكسرهم، وأسر منهم طايفه، ودلك يوم الخميس تاسع الشهر. ثم وردت الاخبار على السلطان ان عسكر المغل والروم مع تتاوون والبرواناه، وانهم نازلين (15) على نهر جيحان. فلما اشرف العسكر المنصور على صحراه البلستين، شاهدوا التتار قد رتبوا عسكرهم اطلابا، فى كل طلب الف فارس. وعزلوا عسكر الروم عنهم ناحية لا يكن مخامرا عليهم، وجعلوا عسكر الكرج طلبا واحدا.

(2) الفراه: الفرات--لحفط: لحفظ (4) الفراه: الفرات (6) الف: ألفا (9) اقشا دربند: كذا فى الأصل وم ف؛ فى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 186 آ، تحقيق الخويطر ص 1256، واليونينى ج‍ 3 ص 176، وابن تغرى بردى ج‍ 7 ص 167 ورد الاسم «أقجا دربند» (12) ثلث: ثلاثة (15) نازلين: نازلون--جيحان: فى الأصل وم ف «صيحان»، انظر ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 186 آ، تحقيق الخويطر ص 1256 - -صحراه: صحراء

فلما التقا (1) الجمعان حملت ميسره التتار حملة واحدة وصدموا سنجقيه السلطان، وحملت منهم طايفه ووصلوا الى الميمنه. فلما رآهم السلطان كدلك اردفهم بنفسه، ولاحت منه التفاتة، فراى الميسرة وقد حملت عليها ميمنه التتار فكادت ان تتأخر. فاشار لصاحب حماه بان يردف الميسره، فحمل فى عسكره، وحملت العساكر تتلوا (4) بعضها بعضا، وقد فوضوا امرهم الى الله عزّ وجلّ بنيات صادقه، وقلوب على طلب الجهاد موافقه، فطحنوا التتار طحنا، وبدلوا فرحهم حزنا. فلما راى التتار لا ملجأ لهم من القتل والأسر، ولا منجا (7) من القهر والقسر، نزلوا عن خيولهم وقاتلوا قتالا عظيما، فلم يغنى (8) عنهم شيئا، وأنزل الله سكينته على المؤمنين، وخذل القوم الطغاة الكافرين، ففروا فرار الشاه من الديب (9)، وكان على التتار يوم عسير عجيب (10)، فطلبوا روس الروابى والجبال خوفا من السيوف الحداد والقيود والحبال. (178) واستشهد فى ذلك اليوم من الامراء شرف الدين قيران العلايى، وعز الدين اخو المحمدى، ومن المماليك السلطانيه سيف الدين قليج الجاشنكير، وعز الدين ايبك السقسينى (14). واما من أسر من الامراء الروميين وكبرايها (15) فعده اثنى عشر نفر، وهم: مهذب الدين بن معين الدين البرواناه، وابن بنته ايضا، ونور الدين جبراييل ابن جاجا (16)، وقطب الدين محمود اخو مجد الدين اتابك، وسراج الدين اسمعيل ابن جاجا (17)، وسيف الدين سنقر شاه الزوباشى، ونصره الدين اخو صاحب سيواس، وكمال الدين اسمعيل (18)،

(1) التقا: التقى (4) تتلوا: تتلو (7) منجا: منجى (8) يغنى: يغن-- شيا: شئ--وأنزل. . . المؤمنين: قارن القرآن 9:26 و 48:26 (9) الديب: الذئب (10) يوم عسير عجيب: يوما عسيرا عجيبا (14) السقسينى: السنقرى، م ف؛ وورد الاسم فى اليونينى ج‍ 3 ص 177، وابن تغرى بردى ج‍ 7 ص 169 «الشقيفى» (15) وكبرايها: وكبرائهم--نفر: نفرا--مهدب: مهذب (16) ابن جاجا: بن جاجا (17) اسمعيل ابن جاجا: اسماعيل بن جاجا (18) اسمعيل: اسماعيل

وحسام الدين كيكاوك (1)، وسيف الدين الجاويش، وشهاب الدين غازى ابن على [شير] (2) التركمانى. وأما من أسر من مقدمين التتار فعده خمس نفر، وهم: زيرك صهر ابغا، وسرطق، وجيركر (3)، وشركده، ونماديه. ونجا معين الدين البرواناه، وقطع المفاوز والآكام حتى دخل قيساريه ثانى عشر ذى القعده. واجتمع بالسلطان غياث الدين وبجماعه من الامراء، فاخبرهم بالحال، وعرفهم ان المغل المنهزمين، متى دخلوا قيساريه، قتلوا كل من بها حنقا من المسلمين، واشار عليهم بالخروج. فخرج السلطان غياث الدين باهله وماله الى دوقاق، وبينهما مسيره ثلاثة ايام. والدين حضروا تحت طاعه السلطان الملك الظاهر من امراء الروم عده اثنا (9) عشر نفر، وهم: سيف الدين صانش بن اسحق، وظهير الدين صبوح (10)، وشرف الملك، ونظام الدين، والاوحد بن شرف الدين بن الخطير، وولد ضيا الدين، واخوه سيف الدين بلبان المعروف بكجكنا (11)، وسيف الدين شاهنشاه، ومظفر الدين جحا فى، ونصره الدين، واولاد رشيد الدين صاحب ملطيه، وامير على، والقاضى (179) حسام الدين قاضى قضاه الروم.

(1) كيكاوك: كذا فى الأصل؛ وورد الاسم فى م ف، وابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 187 ب، تحقيق الخويطر ص 1259 «كياوك»؛ وفى ابن تغرى بردى ج‍ 7 ص 169 «كاوك» --ابن: بن (2) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن عبد الظاهر وابن تغرى بردى-- مقدمين: مقدّمى--خمس: خمسة (3) وجيركر: فى الأصل وم ف «وجيركر»؛ انظر حاشية بلوشيه--وشركده: كذا فى الأصل وم ف؛ بينما ورد الاسم فى اليونينى ج‍ 3 ص 177، وابن تغرى بردى ج‍ 7 ص 170 «سركده» --ونماديه: كذا فى الأصل وم ف؛ ورد الاسم فى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 188 آ، تحقيق الخويطر ص 1259، واليونينى ج‍ 3 ص 177، وابن تغرى بردى ج‍ 7 ص 170 «تماديه» (9) اثنا: اثنى-- نفر: نفرا--صانش: كذا فى الأصل؛ بينما ورد الاسم فى ابن عبد الظاهر ق 188 آ، تحقيق الخويطر ص 1259 «جاليش» (10) صبوح: كذا فى الأصل؛ بينما فى ابن عبد الظاهر واليونينى ج‍ 3 ص 180 «متوّج» --وشرف الملك: فى ابن عبد الظاهر «مشرف الممالك» -- ونظام: فى اليونينى «نظام» --والأوحد: كذا فى الأصل؛ بينما فى ابن عبد الظاهر واليونينى «الأوحد» (11) بكجكنا: كذا فى الأصل واليونينى؛ وفى ابن عبد الظاهر «بكجكا».

ولما ظفّر الله تعالى السلطان بالاعداء، جرّد الامير شمس الدين سنقر الاشقر فى جماعه من الجيوش المنصوره لادراك من فات من المغل، وامره بالتوجه الى قيساريه. وكتب على يده كتاب (3) بتأمين اهلها واخراج الاسواق والتعامل بالدراهم الظاهريه. ثم رحل بكره السبت حادى عشر دى القعده قاصدا الى قيساريه. فمرّ فى طريقه بقلعه سمند (5)، فنزل واليها مدعنا تحت الطاعه، وكدلك والى قلعه درندا، ثم قلعه دالوا (6)، الجميع نزلوا تحت الطاعه. ولم يزل فى سيره حتى نزل ليله الاربعا خامس عشر الشهر المدكور على قريه قريبه من قيساريه، فبات بها. فلما أصبح رتب العساكر المنصوره، ولبس الجيش، واقبل فى احسن شأوه وأزين صوره. فلما احسوا (8) اهل قيساريه به، خرجوا مستبشرين بقدومه، مسرورين بلقايه، مستمطرين سحايب كرمه وجوده وامتنانه. وكانوا قد اعدوا لنزوله الخيام بوطأة تعرف بكيخسروا (10). فلما قارب [السلطان الملك الظاهر] المنزله، ترجّل وجوه العساكر على طبقاتهم، ومشوا بين يديه حتى وصل ونزل. فلما كان يوم الجمعه سابع عشر الشهر ركب لصلاه الجمعه ودخل قيساريه. ونزل بدار السلطنه، وحبس على التخت، ووفا (14) بما وعده به عظيم البخت. وحضر بين يديه القضاه والفقها والمشايخ الصوفيه، وجلسوا فى مراتبهم على عاده ملوك السلجوقيه، فاقبل عليهم، واصغا (16) اليهم، ومدّ لهم سماطا، فاكلوا وانصرفوا. ثم حضر الجامع لصلاه الجمعه، وخطب الخطيب خطبه بليغه، ووصف فيها اوصافه ونعوته الحسنه، واعلنت الناس له بالدعا والنصر على الاعدا. فلما (180) قضّيت الصلاة وفرقت على الطيبين من خزاين رحمة الله الصلات، احضرت الدراهم التى

(3) كتاب: كتابا (5) سمند: سمندو؛ انظر ياقوت، معجم البلدان، وابن تغرى بردى ج‍ 7 ص 172 حاشية 4 - -مدعنا: مذعنا--درندا: فى الأصل «دربدار» -- (6) دالوا: دالو--الجميع: والجميع، م ف (8) احسوا: أحسّ (10) بكيخسروا: بكيخسرو (14) ووفا: ووفى (16) واصغا: وأصغى

وسمت وجوهها باسمه، وضربت سكتها برسمه. وحمل اليه ما كانت زوجه البرواناه كرجى خاتون قد تركته من الاموال التى لم تستطع حملها عند خروجها، وكدلك ممن كان نزح. ودكر الصاحب عز الدين بن شداد-فى السيره-ان البرواناه بعت الى السلطان يهنيه بالجلوس على التخت. فكتب اليه [الملك الظاهر] (5) يستوفده ليوليه مكانه، ويفيض عليه من كرمه واحسانه، فاجابه يساله ان ينتظره خمسه عشره يوم (6). وكان دلك مكيده منه ومكر حتى يحث ابغا على القدوم ليلحق السلطان فى البلاد. وكان تتاوون قد اجتمع بسنقر الاشقر وعرفه مكر البرواناه. فلما فهم السلطان دلك وتحقق ان ابغا واصل الى سيواس-وبين سيواس وقيساريه سته ايام او دونها-امر ان ينادا (10) فى العساكر: «خدوا اهبتكم، واحملوا عليقكم وزادكم خمسه ايام الى سيواس». فتوجهت (11) القصاد الى ابغا بدلك وأنه متوجها اليه. فاشاروا عليه كبار دولته ان يقيم بسيواس متى تلقاه (12) مستريح، والعدو تعبان. فلما كان يوم الاثنين [الثانى والعشرون من ذى القعدة] (13) ركب السلطان، والناس يظنون انه متوجها (14) الى نحو سيواس، فتوجه الى نحو الشام. وكان قصده بدلك بعد المسافه عن اللحوق به فى تلك الارض الغريبه، ولبين ما وصلت (15) القصاد الى ابغا واخبروه بتوجه السلطان الى نحو الشام، قطع السلطان اراضى بعيده. وكان على اليزك يومئد الامير عز الدين ايبك الشيخى. وكان السلطان قد ضربه بسبب سبقه له، فقفز الى التتار.

(5) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن تغرى بردى ج‍ 7 ص 173 (6) خمسه عشره يوم: خمسة عشر يوما (10) ينادا: ينادى (11) فتوجهت: فتوجه-- متوجها: متوجه--فاشاروا: فأشار (12) تلقاه مستريح: يلقاه مستريحا (13) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 191 آ، تحقيق الخويطر ص 1264، وتاريخ أبى الفدا، ج‍ 4 ص 10، والمقريزى، السلوك ج‍ 1 ص 631 (14) متوجها: متوجه (15) وصلت: وصل

وكان اولاد قرمان التركمان قد رهنوا اخاهم الصغير بقيساريه. فلما ملكها السلطان، (181) خرج اليه، فاحسن ملتقاه واقبل عليه، فطلب منه تواقيع وسناجق له ولا خوته، فانعم عليه بدلك. فتوجه الى اخوته، وكانوا مقيمين بجبل لارندا (4) الى اوشاك الى السواحل. ثم نزل السلطان بقيرلوا (5). فورد عليه بها رسول من جهه البرواناه، ر صحبته رجل آخر يسمى ظهير الدين [الترجمان] (6)، يستوقف السلطان عن الحركه، وما كانوا يعلمون أين يريد، غير أن الاخبار شايعه انه متوجها (7) الى سيواس، حسبما دكرناه. فلما احاطت العلوم السلطانيه بالرساله، اجابه يقول: «ان معين الدين والامرا الدين كانت رسلهم وكتبهم ترد الينا، وحثونا على الدخول الى البلاد، شرطوا شروطا لم يقفوا عندها. والآن فقد عرفت الروم وطرقه. وما كان جلوسنا على التخت رغبه فيه الاّ لنعلمهم (11) ان لا عايق لنا عن شئ نريده بحول الله وقوته. ويكفينا اخدنا أمّه، وابنه، وابن بنته، وما منحناه من النصر الوجيز، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (13)». ثم رحل السلطان، ونزل خان كيقباد. وبعث الامير علا الدين طيبرس الوزيرى بان يتوجه الى الرمّانه وصحبته عسكر. فقتل من كان بها من الارمن، وسباهم واحرقها؛ فانهم كانوا اخفوا جماعه من المغل. ثم رحل السلطان وجدّ فى سيره فى جبال واوديه وحوض انهار مجتهدا فيما يعود نفعه على الاسلام، حتى نزل ليله السبت السادس والعشرين من الشهر عند قرا حصار قريبا من بازار، وهو السوق الدى يجتمع فيه الناس من ساير الاقطار.

(4) لارندا: فى الأصل «لارندان»، انظر اليونينى ج‍ 3 ص 182، وابن تغرى بردى ج‍ 7 ص 173 - -اوشاك: فى الأصل «اوشال»؛ وفى م ف «اومناك»، وفى اليونينى «ارمناك» ولعلّ الصيغة المثبتة هى الصحيحة (5) بقيرلوا: بقيرلو (6) أضيف ما بين الحاصرتين من اليونينى ج‍ 3 ص 182 (7) متوجها: متوجه (11) لنعلمهم: فى اليونينى «لنعلمكم» --ان: أنه--ويكفينا: مكرر فى الأصل (13) القرآن 22:40

ثم رحل يوم السبت، فمرّ بالمعركه التى أعين فيها بالملايكة. فنظر الى اشلاء القتلاء، {كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ} (2)، فكشف عن عدتهم، فوجد قتلا (3) المغل خاصه سته الاف (182) وسبع مايه [وسبعين] نفر [ا] مطرحين، قد عادوا عبره لمن اعتبر، خارجا عن من (4) قتل من الروميين والكرج الملاعين مما يقارب عده المغل او يزيد. ثم ساق حتى بلغ اقشا دربند، فقدم الخزاين والاثقال والدهليز امامه صحبة الامير بدر الدين الخزندار. وتأخر السلطان ساقة حتى عبر الجيش بكماله يوم الاحد. ودخل السلطان الدربند يوم الاثنين، وحصل للناس مشقه عظيمه من المضيق والاوعار. ولما خلص منه نجيّا (9)، عبر النهر الازرق، الدى يسمى كك صو، وبات فى قبه الجبل، ثم رحل فنزل قريبا [من] (10) كينوك، ثم رحل وسار [الى] يوم الثلثا سادس شهر دى الحجه، فنزل بمرج حارم. ثم استدعا (11) بالعساكر، وانزلهم بتلك المروج، وقسم عليهم تلك الاراضى لرعى دوابهم، ودلك فى سابع ذى الحجه. واتاه هناك جماعه من التركمان المقيمين بالروم ومعهم خلق كثير، فاخلع عليهم، واحسن اليهم. واقام حتى قضى عيد الاضحى، ورحل طالبا لدمشق لما وصله ان ابغا عاد الى بلاده منهزما، فدخل دمشق سابع شهر المحرم سنه ست وسبعين وستماية. وأمّا ما كان عن ابغا وخبره، فان البرواناه لما راى ما حل بالمغل من الويل، كتب الى ابغا يعرفه بدلك ويستصرخه، ويحثه على اللحوق بالسلطان قبل خروجه من البلاد. وكان قد حصّن اهله وامواله بدوقاق. فلما بلغه توجّه ابغا الى البلاد،

(2) القرآن 69:7 - 8 (3) قتلا: قتلى--أضيف ما بين الحاصرتين من ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 192 ب، تحقيق الخويطر ص 1267، واليونينى ج‍ 3 ص 183 (4) عن من: عمن (9) خلص. . . نجيا: قارن القرآن 12:80 (10) أضيف ما بين الحاصرتين من اليونينى ج‍ 3 ص 183 - -أضيف ما بين الحاصرتين من م ف (11) استدعا: استدعى

خرج الى ملتقاه، فوفاه فى الطريق، وعاد فى خدمته الى ان وصل الى البلستين بمكان المعركه. فلما شارف ابغا دلك، وراى قتلاء المغل، بكا (2) حتى كاد يسقط عن فرسه. ثم سار الى منزلة السلطان، فقاسها بعصا الدبوس، فعلم عده الجيش الدى كان نازل (3) بتلك المنزله. فانكر على البرواناه كونه لم يعرفه بجليه (4) امرهم. فحلف (183) انه لم يكن عنده علم منهم حتى دار كوه فى البلاد. فلم يقبل منه هدا العدر (5)، واراه وجه الحنق وقال: «صدّق من قال انك باغى (6) علينا، وان لك باطنا مع صاحب مصر». فقال [البرواناه]: «يحفظ الله القان، لو كان لى معه باطن ما جردت سيف القتال، وبالغت فى الاجتهاد، وقتلت امرايه وجندى واكابر دولتى (8)، وأسر ابنى، وابن بنتى، وحريمى». فقال [أبغا]: «كل هذا من مكرك ودهاك (9)». ثم التفت الى ايبك الشيخ فقال: «ما تقول؟». فقال: «ما جسّر الملك الظاهر على العبور غيره». قال [أبغا]: «صدقت». ثم قال: «ارنى الميمنه والميسره ومكان القلب». فاوقف له فى كل مكان رمح (12). فلما راى بعد ما بين الرماح من المسافه، قال: «ما هدا عسكر يكفيهم ثلثون الف (13) الدين معى». وكان [أبغا] قد امر عساكره ان يتقدموا الى نحو الشام، فسير خلفهم من ردهم (14) من كينوك. ثم بلغه: «ان السلطان مقيم بحارم، وقد اجتمعت اليه عساكر وجيوش، وقد سمن خيله فى هده المده، الايام، وعلى عزم لقاك (16)». وكان ابغا قد تلفت اكثر خيوله، وهربت جيوشه المجمعه، فراى فى نفسه العجز عن الملتقا (17)، فرد راجعا الى قيساريه. فلما وصلها، سأل اهلها: «هل كان مع صاحب مصر جمال؟» قالوا: «لا لم نرا (18) معه

(2) بكا: بكى (3) نازل: نازلا (4) بجليه: فى الأصل «بجليله» (5) العدر: العذر (6) باغى: باغ؛ فى الأصل «ياغى» (8) وجندى. . . دولتى: كذا فى الأصل؛ ولعل الصيغة الصحيحة ما ورد فى م ف «وأكابر دولته» (9) ودهاك: ودهائك (12) رمح: رمحا (13) الف: ألفا (14) ردهم: فى الأصل «دهم» (16) لقاك: لقائك (17) الملتقا: الملتقى (18) نرا: نر.

غير خيل وبغال». فقال: «هل نهب لكم شئ (1)؟» قالوا: «لا الا اشترى بالدهب والفضه». فقال: «كم له عنكم (2) من يوم فارقكم؟» فقالوا: «خمسه وعشرون يوم». فقال: «هم الان عند اثقالهم». ثم عزم على قتل جميع من بقيساريه من المسلمين. فاجتمع اليه القضاه والفقها وقالوا: «هؤلاء رعيه، ولا طاقه لهم بدفع عسكر ادا نزل لهم، وهم [طول] (5) الزمان عبيد من ملك، لا يختص بدلك ملك دون ملك». فلم يقبل منهم لعظم حنقه من المسلمين، وامر بقتل جماعه من كبار (6)، (184) منهم قاضى القضاه بقيساريه. وامر عساكره ان تنبسط فى البلاد وتقتل من وجدوا. فقتلوا عالم عظيم (8) من الرعيه ما يزيد عن مايتى الف، وقيل خمس مايه الف، ما بين فلاح وعامى وجندى وغير دلك فى جميع بلاد الروم. ثم توجه الى الاردوا (10) بتوريز، واستصحب معه البرواناه. وفرّق العساكر فى البلاد للنهب والغارات. وكان على طريق ابغا قلعه تسمى قلعه كوغونيا (11)، وكانت خاصّ للبرواناه، وفيها له دخاير واموال، وبها والى (12) من جهته. فطلب ابغا من البرواناه تسليم القلعه، فاجابه الى دلك، وبعث رسولا الى النايب بها. فامتنع من تسليمها. وقال للبرواناه: «انت باغى (14)». فسال البرواناه لأبغا ان يتوجّه للنايب ليتسلمها. فادن (15) له فى دلك. ووكل به جماعه من المغل يمنعونه من الوصول الى القلعه والاعتصام بها. فلما وصلها وطلبها، امتنع النايب. فقال [البرواناه] له: «لهدا الوقت خبيتك (16) -يا فلان-حتى ادارئ عن نفسى بما فى هده القلعه؛ والا هو (17) مقتول لا محاله، إن لم تسلمها». فقال: «انما اسلمها لمن سلمنى اياها، معين الدين البرواناه». فقال له:

(1) شئ: شيئا (2) عنكم: كذا فى الأوصل وم ف؛ فى اليونينى ج‍ 3 ص 186 «عندكم» --وعشرون يوم: وعشرون يوما (5) أضيف ما بين الحاصرتين من م ف (6) كبار: كبار البلد، م ف (8) عالم عظيم: عالما عظيما (10) الاردوا: الأردو (11) كوغونيا: فى الأصل وم ف «كوغرنيا»؛ انظر» Enzyklopaedie des lslam II 787/ b قرا حصار»؛ وبلوشيه فى P .O .XlV ص 437 (12) والى: وال (14) باغى: باغ (15) فادن: فأذن (16) خبيتك: خبأتك (17) هو: أنا، م ف

ذكر [حوادث] سنة ست وسبعين وستمايه

«فانا معين الدين البرواناه». فقال: «انت الان اسير، ولا لك حكم، ولا اسلمها الاّ باولادى الدين استاسرهم صاحب مصر بتدبيرك، وانت كنت السبب فى دلك». فعاد البرواناه واخبر ابغا، فزاد حنقه عليه، وضاعف عليه الموكلين به، فعلم انه مقتول. ثم سار ابغا الى ان وصل الاردوا (5). فلما القى عصاة التسيار عن عاتق الدأب فى العشى والابكار، اجتمع (6) اليه الخواتين، وصرخوا فى وجهه، وشققوا الجيوب بين يديه على رجالهم (7) الدين قتلوا بالوقعه. ثم نظروا الى البرواناه وقالوا: «هدا كان سبب قتل رجالنا، ولا بد من قتله». فسّوف بهم (8) ابغا اياما وهن لا يرجعن عنه. (185) فلما اعياه دلك، امر بعض خواصه بقتله وقال: «خده الى موضع كدا وكدا، فاقتله به». فحضر اليه وقال له: «القان يريد الاجتماع بك ليعيدك الى مكانك». فقال [البرواناه]: «لو كان يريد خير (11)، بعث الىّ من معارفى، ولكن يريد قتله». فخادعه، وتوجه به الى دلك المكان مع عده جماعه من اصحابه، ثلثين نفر (12)، عينوا للقتل، فقتلوهم جميعهم. والله اعلم. ذكر [حوادث] سنة ست وسبعين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم سته ادرع واثنا عشر اصبعا. مبلغ الزياده ثمانيه عشر دراعا وثمانيه اصابع.

(5) الاردوا: الأردو (6) اجتمع: اجتمعت--وصرخوا: وصرخن--وشققوا: وشققن (7) رجالهم: رجالهن--نظروا: نظرنّ--وقالوا: وقلن (8) بهم: بهنّ (11) خير: خيرا--قتله: قتلى، انظر م ف (12) نفر: نفرا

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله امير المومنين ابى (2) العباس. والسلطان الملك الظاهر سلطان الاسلام الى ان توفى فى هده السنه فى تاريخ ما يدكر. وصاحب الحجاز نجم الدين ابو نمى. وصاحب المدينه-على صاحبها وساكنها افضل الصلاه والسلام- عز الدين جماز بن شيحه. وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف ابن (5) الملك المنصور نور الدين عمر بن على بن رسول. وصاحب حماه الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقى الدين عمر. وصاحب ماردين الملك المظفر قرا ارسلان ابن (7) الملك السعيد الارتقى. وصاحب الروم غياث الدين كيخسروا ابن (8) السلطان ركن الدين السلجوقى. والعراق بالشرق كله فى مملكه ابغا ابن (9) هلاوون. وما ورا دلك لملوك التتار من ولد جكز خان المقدم دكره فى هدا التاريخ المبارك. ذكر وفاه السلطان الملك الظاهر رحمه الله تعالى (186) لما كان يوم الخميس رابع عشر شهر الله المحرم من هده السنه، جلس السلطان الملك الظاهر بالقصر الابلق المطلّ على الميدان الاخضر بدمشق المحروسه لشرب القمز مع الامراء الكبار، وهو فى غايه الفرح والسرور والغبطه والحبور لما فتح الله على يديه من البلاد وملكه نواصى العباد. وبات على تلك الحاله، وشرب اكثر من طاقته. فاحسّ تلك الليله بفتور فى جسده. ثم اصبح نهار الجمعه، فشكا دلك للامير شمس الدين سنقر الالفى السلحدار.

(2) ابى: ابو (5) ابن: بن (7) ابن: بن (8) كيخسروا ابن: كيخسرو بن (9) ابن: بن

فاشار عليه بالقئ. فلما كان بعد صلاه الجمعه ركب من الجوسق الى الميدان ليزيل عنه وهم التمعّك وفتور الكسل، وهو لا يزداد الى توهج وتململ وقلق وتوعك (2). ثم عاد الى القصر، فبات بحراره شديده، واصبح كدلك ظاهره وباطنه. فصنع له بعض خواصه دواء بالتركى لم يكن عن راى طبيب، فلم ينجح واصبح كاشد من أمسه. فاحضر الاطبا، فلما راوه أنكروا على من صنع دلك الدواء، وأجمعوا رايهم على دواء مسهل يدفع ما فى جسده من الفضلات الرديه (6)، فسقوه فلم يجيبه شى. فحركوه بدواء اقوى منه كان سببا للافراط فى الاسهال، ودفع دما كثيرا فضعفت قواه لدلك. فتخيل خواصه ان كبده تتقطع وان دلك عن سقية سقيها، فعولج بالجواهر-ودلك يوم الثلثا-فما افاد شى (9): فلما كان يوم الخميس ثامن عشرين المحرم توفى الى رحمة الله تعالى. واخفا (11) الامراء دلك، ومنعوا من يدخل ومن يخرج. فلما كان اخر الليل حمله من اكابر الامراء الامير شمس الدين سنقر الاشقر، والامير بدر الدين بيسرى، والمقر السيفى قلاوون الالفى، والامير بدر الدين بيليك الخزندار، وعز الدين الافرم، والامير عز الدين (187) ايدمر الظاهرى ملك الامرا بدمشق، وتولوا غسله، وتحنيطه وتصبيره، وتكفينه. وكدلك معهم الامير سيف الدين بلبان الدوادار، والمهتار شجاع الدين عنبر، والفقيه كمال الدين المنبجى. ثم جعلوه فى تابوت، وعلقوه فى بيت من بيوت القلعه بدمشق حتى يحصل الاتفاق على مكان دفنه. ثم كتب الامير بدر الدين الخزندار كتابا الى الملك السعيد يطالعه بدلك. وسيره على يد الامير بدر الدين بكتوت الجوكندار الحموى والامير علا الدين ايدغمش

(2) الى توهج وتململ وفلق وتوعك: إلا توهجا وتململا وقلقا وتوعكا (6) الرديه: الرديئة-- يجيبه: يجبه [كذا] (9) شى: شيئا (11) واخفا: وأخفى

الحكيمى. فلما وصلا الى الملك السعيد، خلع عليهما وانعم على كل واحد منهما بخمسه الاف درهم، على ان دلك بشاره بعود السلطان الى مصر وهو طيب سالم. فلما كان صبيحه يوم السبت ركبوا (3) الامرا على عادتهم بسوق الخيل، ولم يظهروا شئ (4) من الحزن. ثم ان الامير بدر الدين الخزندار اخد العساكر المصريه، وتوجه الى الديار المصريه-فى مستهل شهر صفر-على عادتهم مع السلطان. واخرجوا محفه على انه فيها مريض، وجعلوا فيها مملوكا، والفراريج والاشربه يدخلوا (6) بها الى المحفه، ودلك المملوك ياكل ما يعبر اليه، والحكما ملازمين (7) المحفه الى ان وصلوا الى القاهره المحروسه. ودخل الامير بدر الدين الخزندار تحت السناجق، وطلع الى القلعه. وجلس الملك السعيد بالايوان، ثم اظهروا بعد دلك موت السلطان الملك الظاهر رحمه الله تعالى. وجددت الأيمان للملك السعيد، والامير بدر الدين الخزندار متولى دلك جميعه. ثم بعد دلك دخل الى الستاره الى خدمه ام الملك السعيد ليعزيها بالسلطان الملك الظاهر، ويهنيها بالسلطان الملك السعيد. قشكرت له دلك شكرا كثيرا، واخرجت له هنّاب سكر وليمون، وحلفت عليه ان يشرب (188) بعد ان اوهمته انها شربت منه. فشرب جرعتين لا غير، وفى الثالثه من كثره ما ألحّوا عليه تخيّل ودفعه من يده، وكانت القاضيه فيه. ثم عاد (16) الى داره، فتوعك بدنه، وحصل له تقطيع المعاء، وادعى انه قولنج. وكان حكيمه عماد الدين بن النابلسى، فسيّر اليه الف دينار (17)، وقالوا له: «تساعدنا (18) على هلاكه، وتكون لك عندنا اليد البيضاء، ولا تعرفه انه مسقى». فاخد الدهب، وتغافل عنه، ووصف له ما يقوى ويحرك فعل السقيه، فمات الى

(3) ركبوا: ركب (4) شئ: شيئا (6) يدخلوا: يدخلون (7) ملازمين: ملازمون (16) عاد: فى الأصل «عادا» (17) الف دينار: فى م ف وتاريخ ابن الفرات ج‍ 7 ص 94 «ثلاثة آلاف دينار» (18) تساعدنا: ساعدنا، م ف

ذكر نبد من اخباره رحمه الله

رحمه الله تعالى. وخلف والدته وبنتين، ولم يكن له دكر، فورثه السلطان. واشترى الملك السعيد جميع ما خص البنات من الضياع، واوقف دلك على مدرسه ابيه الظاهريه. ثم توجه بريد بسبب مدفنا (4) للسلطان الملك الظاهر بدمشق. فوجدوا المسجد الدى للمدرسه الكامليه، وفيه شباكا (5) الى الجامع الاموى. فافتى قاضى القضاه عز الدين ابن الصايغ ان هدا لا يجوز، واشار بمشترى دار العقيق (6)، وتبنا مدرسه. فكتبوا الى السلطان الملك السعيد بدلك، وان هده اشاره القاضى، فكان دلك سببا لعزله. فاشترى دار العقيق (8) بستين الف درهم، وكان يسكنها بدر الدين الاتابكى فانتقل منها، وكان له بها حصه فاشتروها منه. ثم بدوا (9) فى بنايه التربه خامس جمادى الاولى، وكان فراغ القبه فى اواخر جمادى الاخره. ثم ورد الامير علم الدين ابو حرص، والطواشى صفى الدين الامدى. فلما كان ليله الجمعه خامس شهر رجب، نقلوا السلطان الملك الظاهر من القلعه، ودفنوه فى مدفنه بالقبه المدكوره. وألحده القاضى عز الدين، ورتبوا له المقرئين، ثم شرعوا فى تتمه بنايه المدرسه. ذكر نبد (14) من اخباره رحمه الله كان مده مرضه ثلثه عشر يوما، وهده مدة مرض سيدنا رسول الله-صلّى الله عليه وسلم، (189) وكدلك مده مرض السلطان صلاح الدين يوسف بن ايوب رحمه الله. ومنها ان اول فتوحاته قيساريه بالساحل، واخر فتوحاته قيساريه بالروم. ومنها

(4) مدفنا: مدفن (5) شباكا: شباك (6) العقيق: كذا فى الأصل وم ف؛ وفى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 195 آ، تحقيق الخويطر ص 1271، واليونينى ج‍ 3 ص 246، وابن الفرات ج‍ 7 ص 97 ورد الاسم «العقيقى» --وتبنا: وتبنى (8) العقيق: انظر حاشية 6 (9) بدوا: بدؤوا (14) نبد: نبذ

أن [أول] (1) جلوسه فى دست المملكه يوم الجمعه سابع عشر دى القعده، واخر جلوسه على تخت الملك بقيساريه يوم الجمعه سابع عشر دى القعده. ومنها ان اول من بنا (2) انطاكيه الملك قلستما (3)، وقد شرحه بعض اليهود انه بالعربيه. الظاهر، واخر من اخربها هدا الظاهر. ومنها ان الدى قام بالدوله (4) التركيه السلجوقيه السلطان ركن الدين طغريل بك، وقام بهده الدوله التركيه المصريه السلطان ركن الدين بيبرس المشار اليه. وركن الدين طغريل بك الدى رد الخطبه لبنى العباس بعد ان قطعها عنهم فى تلك الايام البساسيرى-حسبما تقدم من دكر دلك-وركن الدين هدا الدى رد الخطبه لبنى العباس بعد انقطاعها من التتار. ومنها ان الاسكندر كان على مقدمه جيشه الخضر عليه السلام، وهدا السلطان الملك الظاهر كان على مقدمه جيشه الشيخ خضر رحمه الله. وفى دلك قال الشريف محمد بن رضوان يمتدح <من الكامل>: ما الظاهر السلطان إلاّ مالك ال‍ … دنيا بذاك لنا (12) الملاحم تخبر ولنا دليل واضح كالشمس فى … وسط السماء بكلّ عين تنظر لمّا رأينا (14) … الخضر يقدم جيشه أبدا علمنا أنّه الإسكندر. ومما امتدحه سيف الدوله المهمندار بالقصيده الطويله التى منها يقول <من البسيط>: يوما بمصر ويوما بالحجاز ويو … ما بالشام ويوما فى قرى حلب وتارة فى أرض سيس ينهبها … ومرة للتتار المغل فى الطلب.

(1) أضيف ما بين الحاصرتين من المقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 639، وابن الفرات ج‍ 7 ص 84 (2) بنا: بنى (3) قلستما: كذا فى الأصل (4) الدوله: فى الأصل «الدوليه»، والصيغة الصحيحة المثبتة من ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 194 ب، تحقيق الخويطر ص 1281، وابن الفرات ج‍ 7 ص 84 (12) لنا: فى الأصل «اتتنا» والصيغة المثبتة من ابن الفرات ج‍ 7 ص 102، واليونينى ج‍ 3 ص 265، وابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة، ج‍ 7 ص 277 (14) رأينا: فى الأصل «رينا»

ذكر فتوحاته رحمه الله

ذكر فتوحاته رحمه الله (190) الدى اقتلعهم (2) من الفرنج: قيساريه، ارسوف، صفد، طبريه، يافا، الشقيف، انطاكيه، بغراص (3)، القصير، حصن الاكراد، حصن عكّار، القرين، صافيتا، مرقيّة، حلبا. المناصفات بينه وبين ملوك الفرنج: المرقب، وبانياس، انطرسوس. واستعاد من صاحب سيس: دربساك، ودركوش، وتلميش، ورعبان والمرزبان. والدى صار اليه من ممالك المسلمين: دمشق، بعلبك، عجلون، بصرى، صرخد، الصلت، حمص، تدمر، الرحبه، زلوبيا (8)، تل باشر، صهيون، بلاطنس، برزويه، الكهف، القدموس، المينقه، العلّيقه، الخوابى، الرصافه، مصيات، الكرك، الشوبك، القدس. والدى انتقل اليه عن التتار: بلاد حلب الشماليه، شيزر، البيره. ومن بلاد النوبه المقدم دكرها: جزيره بلاق و [ما] (12) فيها من البلاد، ولهاسيه، وديودى (13)، وأرض الماء، والفينق، ودمهيت، وهندوا، ودرتين، والهرثه، ومن اقليم البريك ويعرف بالسبع قرى. ويحاديها (15) بلاد العلى، وفيها من البلاد: أدمه، وطمد، والدو، وابريم، ودندال، وبو خراص، وسما.

(2) الدى اقتلعهم: التى اقتلعها (3) بغراص: بغراس (8) زلوبيا: فى الأصل «رلوسا» والصيغة المثبتة من اليونينى ج‍ 3 ص 256؛ بينما ورد الاسم فى م ف «زلموسا» (12) أضيف ما بين الحاصرتين من م ف (13) ديودى: فى ابن الفرات ج‍ 7 ص 83 «ديوى» -- الفينق: فى ابن الفرات «الفتيق» --هندوا: هندو--الهرثه: فى م ف «الهريه» وفى ابن الفرات ورد الاسم «الهريسة» (15) ويحاديها: ويحاذيها

وجزيره ميكاييل، وفيها من البلاد: الجنادل، وانكر (1)، واقليم بكر، ودنقله، واقليم أشو (2) وهى جزاير عامره بالمدن. ولما فتحها انعم بها على الملك شكنده ابن عم الملك داود، وناصفه عليها-حسبما تقدم من خبر دلك فى تاريخه. وفتحه (191) هده البلاد ممّا فاق به على كل ملك تقدمه من ملوك مصر. وكان بيده من القلاع بمصر والشام سته واربعين (5) قلعه. وفى ذلك قيل <من البسيط>: يدبّر الملك من مصر إلى عدن (7) … إلى الفرات وارض الروم والنوبى. كان (8) مده ملكه-رحمه الله-سبع عشرة سنه واثنان وتسعون يوما. ودلك ان جلوسه بكرسى المملكه بالديار المصريه سابع عشر دى القعده سنه ثمان وخمسين وستمايه، ووفاته ثامن وعشرين المحرم سنه ست وسبعين وستمايه. كان ملكا هماما شجاعا بطلا مقداما، لا يرهب الموت، كثير التحيل، حسن السياسه، جميل التدبير، موفق الحركات، ميمون الحروب، مويد العزم. وكان عسوفا عجولا جبارا، جابى (13) للاموال. كثير المصادرات للرعيه والدواوين، خصوصا لاهل دمشق؛ فانه كان يكرههم ويكرهونه. وعزم مرتين على خلوها وحريقها. وساقته المقادير حتى توفى بها، ودفن فيها-رحمه الله تعالى وساير ملوك المسلمين مع كافه امه محمد اجمعين. ومما رثاه به القاضى محيى الدين بن عبد الظاهر <من الكامل>:

(1) وانكر: فى ابن الفرات «وأبكر» (2) أشو: فى ابن الفرات «باشو» (5) سته واربعين: ست وأربعون (7) عدن: فى ابن الفرات ج‍ 7 ص 83، والمقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 638 «يمن» --الفرات: فى ابن الفرات والمقريزى «العراق» (8) كان: كانت، م ف--واثنان وتسعون: واثنين وتسعين (13) جابى: جابيا

ما مثل هذا الرزء قلبا (1) … يحمل كلاّ، ولا صبر جميل يجمل كيف السبيل، ولا سبيل لسلوه … فى ذا المصاب ولا جفون تقبّل الله اكبر إنها لمصيبة … منها الرواسى خيفة تتزلزل عزّ العزاء لأن (4) … رزءا مثل ذا ما كان فى ذهن امرء يتشكّل ما للوجود علت عليه كآبة … أترى القيمة (5) عن قريب تقبل ما للجياد كييبة (6) … محزونة أبدا الأنين حنينها إذ تصهل ما للقسىّ تأنّ (7) … أنّة فاقد إنّ القسىّ لفيه أيضا ثكّل ما للسيوف قد انحنت أترى درت … أنّ المنون لحدّها تستفلل (192) ما للرماح تحوّلتها رعدة … ألتركها أن (9) ليس تقبل تقتل الخطب أعظم أن يقال فجيعة … إن الفجايع ربّما تتسهّل هذا هو الرزى (11) … الدى فذحت به الدنيا فأحشاء الزمان تقلقل هيهات يرجى للزمان إفاقة … من شرب كأس نهلها لا يمهل لهفى على الملك الذى كانت به ال‍ … دنيا تطيب وكلّ قفر منزل الظاهر السلطان من كانت له … منن على كلّ الورا (14) وتطوّل بيبرس ركن الدين والسمح الذى … من جوده جود السحايب تخجل لهفى على آرايه تلك التى … مثل السهام إلى المصابح ترسل لهفى على تلك العزايم كيف قد … غفيت وكانت قبل ذا لا تغفل لهفى على شمّ الحصون وكونها … من بعده قد أصبحت تتململ

(1) قلبا: قلب (4) لأن: فى الأصل «الان» (5) القيمة: القيامة (6) كييبة: كئيبة--أبدا: أبدى (7) تأنّ: تئنّ (9) أن: فى تاريخ ابن الفرات ج‍ 7 ص 90 «اذ» (11) الرزى: الرزء--الدى فذحت: الذى فدحت (14) الورا: الورى

أسفى على تلك الجيوش وقولها … أين الذى كنّا به لا نخذل أسفى على السير التى ألّفتها … كيف اغتدت بوفاته تتكمّل أسفى على الدرر التى نظّمتها … كيف انثنت برثاى فيه تفصّل أسفى على الغرر التى ثبّتّها … لم لا بدت بحياته تتجمّل أين الذى فتح البلاد فسيفه … مفتاح ما بيدى (5) الأعادى يقفل أين الذى هزم الجيوش وماله … إلاّ الملايك نجدة تتنزّل أين الذى عمر القلاع فأصبحت … من دون رفعتها السماك الأعزل أين الذى كم أنشدت وثباته … قلّ السحاب إذا حدته السمأل أين الذى فى أرض عكة (9) … مزمل منه، وفى أرجاء مكة مرقل والله، مات وفات منه كلّما (10) … كنّا له طول الزمان نؤمّل تعسا لها من نكبة وافا (11) … بها يوم الخميس إلى الخميس تولول (193) سمعا (12) … أصاب ومارمى من نبله سهم له فى كلّ قلب مقتل ثكلتك أمّك يا جبان أما ترى … قرن الفوارس (13) فى الفوارس يعلل من بعد ما قتل الألوف وصارع ال‍ … ‍أبطال جبلته الشديدة تبطل من بعد ما فلّ الجيوش وفلّل ال‍ … ‍أسياف تصرعه المنون وتفلل ما راعه سيف تجرّد حدّه … كلاّ ولا لدن قويم يعمل بل راعه القدر الذى لم تحمه … منه الجيوش ولا الحسام المفصل لله موقفه الذى فيه علا (18) … للنصر يذهب حيث كلّ يذهل

(5) بيدى: بيد (9) عكة: عكا (10) كلما: كل ما (11) وافا: وافى (12) سمعا. . . نبله: فى ابن الفرات ج‍ 7 ص 91 «سهم أصاب وما رؤى من قبله» (13) الفوارس: فى ابن الفرات «الفراش» (18) علا: فى ابن الفرات «غدا»

أسفى عليه وقد أتا (1) … من غزوه كاللّيث أقبل للفريسة ينقل وأتا (2) … دمشق وكلّ قايد جحفل متسلسل فى أسره متذلّل يحدو السلاسل فى الرقاب قلايدا … وبمثلها من مثله تتجمّل كم ذات حجل قد رأت مولا (4) … لها فى القيد ما بين المواكب يحجل قالت له هذا هو الملك الذى … ما كان يحمى منه يوما معقل خلف السعيد وفى (6) … الشهيد فأدمع منهلّة فى أوجه تتهلّل ملكان-هذا راحل وثنايه (7) … باق، وذا باق ثناه يؤجّل للناس من هذا ربيع آخر … ومن الشهيد لهم ربيع أوّل قمران هذا طالع لإنارة … يهدى بها من بعد بدء يأفل هذا إلى رضوان (10) … راح وذا له من خلفه الرضوان حبل يوصل أكرم به من ميّت وبنجله … حيّا بدا فى دسته يتمثّل (11) ملك سعيد فى محافل ملكه … نصر به صنع الإله موكّل قد جاءه الملك العقيم معجّلا … وليأتين منه إليه مؤجّل بعصابة شمّ الأنوف سيوفهم … سبقت ففى قتل العدا (14) لا تعدل (194) وخليلة من حزن قلبى أقبلت … عن شرح أحوالى الحقيقة (15) تسأل أفهمتها بثّى. وحزنى بعد من … كانت لديه مكانتى تتأثل (16) وشتات آمالى وأنّى بعده … لو أستطيع رحلت مع من يرحل لا زال يعتذر الزمان لديكم … ممّا جنا (18) ولديكم يتنصّل

(1) أتا: أتى (2) وأتا: وأتى--متسلسل: فى ابن الفرات «متدلل» (4) مولا: مولى (6) وفى: فى ابن الفرات ج‍ 7 ص 92 «لنا» (7) ثنايه: ثناؤه (10) رضوان: فى ابن الفرات «الرضوان» --خلفه: فى ابن الفرات «بيعة» (11) يتمثل: فى الأصل «يثمتل» (14) العدا: العدى (15) الحقيقة: فى ابن الفرات ص 92 «الخفية» (16) تتأثل: فى الأصل «تتأيل» (18) جنا: حنى

وله فيه أيضا <من الكامل>: ابدا عليك تحيتى وسلام … يا قبر من فجعت به الأيّام يا تربه لولا الحياء من الحيا … أمسى كسحل الدمع فيك سجام لكن لأنّ الغيث يسمى رحمة … حقّ عليه لمثلك الأكمام ولقربه من ربّه لا ينبغى … لسواه فى سقيا ثراك مرام ما دمع عين مثل دمع سحابة … هيهات بين الدمعتين زحام فسقيت كلّ سحابة هطّالة … يثنى عليها مندل وبشام ينهلّ منك نوال ساكنك الذى … من كفّه فوق السماح يسام الظاهر السلطان من لمصابه … هدّ الهدى وتألّم الإسلام وغدت دمشق بقبره وحلوله … فيها تتيه على الوجود الشام قبر (11) … به تستشفا الأجسام من أوصابها وتخفّف الأسقام قبر به تتضاعف الأقسام من … بركاته وتؤكّد الأقسام يستنصر الإقدام فى وثباته (13) … وتثبّت [. . .] الأقدام قبر به تتوسّل الآمال فى … حاجاتها وتصرّف الأحكام قبر الذى لو أنصفته قلوبنا … ما أصبحت لمسرّة تشتام قبر الذى قلع القلاع فأصبحت … سكّانها ولها الحصون خيام قبر الذى قهر التتار فأصبحوا … ولهم إذا ناح الحمام حمام.

(11) قبر: فى الأصل «فتر» --تستشفا: تستشفى (13) وثباته: فى الأصل «وتباتة» --[. . .]: بياض فى الأصل

(195) ذكر السلطان الملك السعيد ونسبه وما لخص من سيرته وخبره

(195) ذكر السلطان الملك السعيد ونسبه وما لخّص من سيرته وخبره هو السلطان الملك السعيد ناصر الدين محمد بركه خان ابن (2) السلطان الشهيد الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارى الصالحى. امه بنت الامير حسام الدين بركه خان الخوارزمى. ولد بمنزله العشّ من ضواحى القاهره فى شهر صفر سنه ثمان وخمسين وستمايه. جلس على تخت الملك بالديار المصريه بقلعه الجبل المحروسه يوم وصول الامير بدر الدين بيليك الخزندار بالجيوش فى تاريخ ما تقدم، وخطب له فى ساير الممالك الاسلاميه. واستقر بنيابه السلطنه الامير شمس الدين اقسنقر الفارقانى بعد وفاه الامير بدر الدين الخزندار بالسبب المقدم دكره. وله من الاخوه نجل السلطان الشهيد الملك الظاهر من الدكور: الملك المسعود نجم الدين خضر، كان سماه السلطان باسم الشيخ خضر لمحبته فيه، والملك العادل بدر الدين سلامش. ومن الخوات (10) البنات سبع. وكان السلطان الملك الظاهر قد تزوّج من النسا: ام الملك السعيد المدكوره، وبنت الامير سيف الدين نوكلى (12) التترى، وبنت الامير سيف الدين كراى التترى، وبنت الامير سيف الدين تماجى (13) التترى، وشهرزوريه اول ما قدم ديار مصر فى ايام الملك المظفر قطز رحمه الله. ولمّا استقر السلطان الملك السعيد بالملك قبض على الامير شمس الدين سنقر الاشقر يوم الجمعه [خامس وعشرين ربيع الأوّل] (16)، والامير بدر الدين بيسرى معه. وفى يوم السبت [ثامن عشر ربيع الآخر] (17) قبض على الامير شمس الدين الفارقانى مع

(2) ابن: بن (10) الخوات: الأخوات (12) نوكلى: كذا فى الأصل وفى المقريزى، السلوك ج‍ 1 ص 640؛ بينما ورد الاسم فى ابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة، ج‍ 7 ص 179 «نوكاى» (13) تماجى: كذا فى الأصل والمقريزى؛ فى ابن تغرى بردى «نوغاى» (16) أضيف ما بين الحاصرتين من اليونينى ج‍ 3 ص 234 (17) أضيف ما بين الحاصرتين من اليونينى ج‍ 3 ص 235

ذكر الشيخ خضر وبدو شانه الى وفاته

جماعه من الامرا، واعتقلهم بقلعه الجبل المحروسه، واقام فى النيابه الامير شمس الدين سنقر الالفى. وفى يوم الاحد تاسع عشر (2) الشهر أفرج الله عزّ وجلّ عن الاميرين (196) شمس الدين سنقر الاشقر، وبدر الدين بيسرى. وفى الجمعه الاخرى قبض على خاله الامير بدر الدين محمد بن بركه خان. وفيها فى سابع المحرّم توفى الشيخ خضر بن ابى بكر بن موسى العدوى المهرانى، شيخ السلطان الملك الظاهر بقلعه الجبل المحروسه فى الاعتقال. وكانت وفاته قبل وفاه السلطان باحد وعشرين يوم (7)، ودفن فى سفح الجبل المقطّم. ذكر الشيخ خضر وبدو (8) شانه الى وفاته كان مبتدا امره يخدم ببلد الجزيره أكابرها. وخدم عند نور الدين علىّ، ثم انتقل من عنده الى عند الشيخ شمس الدين محمد بن (10) اخت الشيخ جمل الحريرى الشاعر؛ وشمس الدين المدكور صاحب الملك المعظم صاحب الجزيره العمريه. ثم رتبه الشيخ شمس الدين المدكور لشيل زبايل دور السلطان والقلعه بجامكيه وجرايه، ومعه بهيمتين (12) يشيل عليهما. فاستمر على دلك مده، ثم انهم اطلعوا عليه انه قد افسد بعض جوار (14) الدار، فرسموا بقطع عصبه فهرب الى حلب، وخدم عند ابن قراطاى صوره بابا. ثم انه حصل منه ما لا يليق مع بعض الجوار (16)، فاطلع عليه فهرب الى دمشق، والتجا الى الامير ضياء الدين القيمرى، واستمر عنده بجبل المزه، واقام بمغاره فى زاويه. فيقال عنه انه اجتمع بجماعه من الصالحين وبشروه بما يكون منه، واطلعوه على كثير

(2) تاسع عشر: فى الأصل «عاشر»، والصيغة المثبتة من اليونينى ج‍ 3 ص 235. (7) يوم: يوما (8) وبدو: وبدء (10) بن: ابن--جمل الحريرى: كمال الجزيرى، م ف (12) بهيمتين: بهيمتان (14) جوار: جوارى (16) الجوار: الجوارى

من احواله مع السلطان الملك الظاهر. واتفق ان السلطان طلع يوما الى سطح المزه، فساق الى تلك المغار (2) التى فيها الشيخ خضر. فنظر اليه، فسلم عليه وتحدث معه، فبشره بالملك، وعرفه متى يصير اليه. فلما حصل للسلطان الظاهر المقصود، كان الشيخ خضر قد احتوى على عقل (197) الامير سيف قشتمر العجمى، احد الامراء البحريه من الصالحيه الكبار، وكان يخبره عن السلطان الملك الظاهر قبل تملكه بجميع ما يتم له. فلما ملك السلطان، قال له قشتمر العجمى: «عندى شخص فقير خبرنى عنك كيت وكيت». فتدكره السلطان. فلما نزل على الطور، نوبة توجه (8) الى الكرك، سأل من قشتمر عنه، فاخبره انه انقطع فى مغار عند قبر ابى هريره رضى الله عنه، فقصده السلطان واجتمع به، ودكره اجتماعه به بسطح المزه، فامره بملازمته. وكان يخبره بساير احواله قبل وقوعها، فلم يخرم شئ وكدلك فى ساير فتوحاته متى يكون فتحها، فلا يتعدا (12) دلك. فحيّر عقل السلطان، وعاد الغالب على امره فى جميع احواله؛ ومن جملة دلك: لما عاد السلطان من دمشق استشاره فى توجهه الى الكرك، فلم يشر عليه بدلك وقال: «ليس لك فى دلك خيره، بل اقصد مصر». فخالفه [السلطان الملك الظاهر] وتوجه الى نحو الكرك، فتقنطر وانكسر فخده (15). واتفقت له معه اشياء، إمّا عن اطلاع وإما صدفيات، والله اعلم. ثم ان السلطان اعتبق به اعتباقا عظيما، وبنى له زاويه على الخليج بظاهر القاهره، واوقف عليها احكار (18) عظيمة يجبا منها فى السنه فوق العشرين الف درهم، وكدلك بالقدس الشريف زاويه، وبدمشق زاويه، وببعلبك وبحماه، وبحمص،

(2) المغار: المغارة (8) توجه: توجهه (12) يتعدا: يتعدى (15) فخده: فخذه (18) احكار: أحكارا--يجبا: يجبى

فى كل منهم (1) زاويه وفقرا ومريدين ونواب. وكان يتصرف فى جميع مملكه السلطان الملك الظاهر تصرّف الحكام، وكتبه ممثّله لا تردّ فى ساير الممالك الاسلاميه الداخله فى سلطان الملك الظاهر. ثم انه هدم بدمشق كنيسه اليهود وبناها زاويه. وهدم بالقدس كنيسه النصارا، تعرف بالمصلبه، وكانت عظيمه عند النصارا (5)، وقتل قسيسها بيده، وعملها زاويه له. وكدلك (198) باسكندريه هدم كنيسه الروم، كانت كرسيا من كراسيهم، يعتقدون (7) فيها البتركيه، ويزعمون ان راس يحيى بن زكريا-عليهما السلام-مدفونا (8) بها، فصيرها مسجدا وسماها المدرسه الخضراء. وكان له فى كل مدينه زاويه، وله بها نايبا (9). وكانوا جميعهم على غير الطريق الحميده، يقطعون الطريق، ويحمون المفسدين، وياخدون المصانعات، ويرتكبون الفواحش، ويفسدون فى نساء العالم (11) واولادهم لهم وللشيخ خضر. ولم يزل دلك فعلهم القبيح حتى مسك. وسبب مسكه انه كان تسلط على الامير بدر الدين الخزندار، وعلى الصاحب بها الدين بن حنا تسليطا عظيما حتى لا عادت لهم (14) معه يد تبسط. وكان السلطان قد اطلق له شيا، فتوقف فيه الخزندار. فقال له بحضره السلطان: «كانك تشفق على السلطان واولاده مثلما فعل قطز باولاد استاده الملك المعز». فخافه الخزندار، وكدلك الصاحب بها الدين. فاتفقا عليه مع الامير عز الدين ملك الامراء بدمشق، فانه طلب نواب الشيخ خضر الدين بالشام؛ وهم الشيخ اسماعيل، والشيخ مظفر،

(1) منهم: منها--ومريدين: ومريدون (5) النصارا: النصارى--المصلبه: فى الأصل وفى ابن الفرات ج‍ 7 ص 103 «المصليه»، والصيغة الصحيحة المثبتة من م ف واليونينى ج‍ 3 ص 267 (7) يعتقدون: يعقدون، م ف--البتركيه: البطركية، م ف (8) مدفونا: مدفون (9) نايبا: نائب (11) العالم: الناس، م ف (14) لهم: لهما

واخر من اتباعه يسمى محمد بن بطيح، وخوّفهم ثم قال لهم: «اعترفوا على الشيخ بما صنع، وانا اصطنعكم واجعل لكم راتبا، وتكونوا (2) انتم اصحاب هده الزوايا، لا يغيّر عليكم فيها مغيّر». فدكروا عنه اشيا قباح (3) تسدّ المسامع، واشهدوا عليهم فى محاضر بعدّه من العدول مثبوته على قاضى دمشق. وكاتب النايب بالشام فى دلك للسلطان، فسير طلب هولاء المدكورين على البريد، وعقد لهم مجلسا (6) بين يدى السلطان. واحضر الشيخ خضر، وقالوا له: «هولاء نوابك، ايش تقول فيهم». فقال «مهما قالوه عنّى صحيح». فقابلوه على اشيا كثيره قبيحه مثل اللواط والزنا. ومن جمله دلك: كان (199) قد نفّد صاحب اليمن للسلطان هديه، فى جملتها كرّ يمنى ما رئ (9) مثله، فاخده الشيخ خضر من السلطان، ثم انه دفعه لبعض ملاح القاهره. فقابلوه ايضا على دلك، وربما احضروا التى أخدت دلك الكرّ، واحضرته، واعترفت على الشيخ بالزناء. فلما تبث (11) دلك عليه، وتحققه السلطان أمر بالحوطه عليه، واطلق اصحابه، وعادوا الى دمشق. واجتمع عند السلطان جماعه من الامراء، منهم الامير فارس الدين اتابك، والامير سيف الدين قلاوون، وقشتمر العجمى، وبيسرى، والامير بدر الدين الخزندار. فشاورهم السلطان فى امره فقال اتابك: «هدا مطلع على اسرار الدوله وبواطن احوالها، ولا يجب ابقاه (16) فى الوجود». ووافقوه الحاضرين على دلك. فلما تعين للشيخ خضر الموت قال: «يا بيبرس، انا اعلم ان اجلى (17) قد قرب وايضا اجلك، وبينى وبينك مده يسيره، ايام لا اشهر ولا اعوام. من مات منا قبل صاحبه، لحقه الاخر عن قريب. فافهم هدا، ولا تعجل على دهاب نفسك». فلما سمع السلطان دلك منه وجم، ولم يردّ جواب (20)، وقال للامرا: «ما ترون فى امره؟».

(2) وتكونوا: وتكونون (3) قباح: قباحا (6) مجلسا: مجلس (9) رئ: رئى (11) تبث: ثبت (16) ابقاه: ابقاؤه--ووافقوه الحاضرين: ووافقه الحاضرون (17) اجلى: فى الأصل «أجله» والصيغة المثبتة هى الصحيحة من م ف (20) جواب: جوابا

ذكر [حوادث] سنة سبع وسبعين وستمايه

فلم يجسر احد أن يشير عليه بشئ. فقال السلطان: «هدا يحبس فى مكان لا يجتمع به أحد، فيكون مثل من قبر». فقالوا: «راى السلطان المبارك». فاعتقله، وكان دلك فى ثالث عشر شوال سنه احدى وسبعين وستمايه. وتوفى [الشيخ خضر] فى تاريخ ما دكرناه، وقد نيف عن الخمسين سنه. وكان قد اطلق له الاطعمه الفخره، والملبوس، والتغيير، والفواكه، والاشربه. وقيل ان الصاحب بها الدين اتفق مع الملك السعيد، فى غيبه السلطان، على خنقه فى السجن فخنق، والله اعلم. وكان السلطان لما عاد من الروم ووصل (200) الى دمشق تدكره بمنام راعه. فسير بريدا باطلاقه واحضاره اليه، فوجده قد توفى. فحصل للسلطان من دلك اليوم التغير حتى لحقه بعد احد وعشرين يوم (9) -حسبما دكرناه. وفيها توفى الامير جمال الدين اقوش المحمدى، وعز الدين الدمياطى، والامير بدر الدين الخزندار، رحمهم الله تعالى. ذكر [حوادث] سنة سبع وسبعين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم سبعه ادرع واحد وعشرين (13) اصبعا. مبلغ الزياده ثمانيه عشر دراعا وثلثه اصابع. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابو العباس امير المومنين. والسلطان الملك السعيد سلطان الاسلام بالديار المصريه والبلاد الشاميه الى حدود الفراه (17).

(9) يوم: يوما (13) وعشرين: وعشرون (17) الفراه: الفرات

وفيها قتل الامير شمس الدين الفارقانى، عملوا عليه الخاصكيه حتى قتلوه. ثم تولى النيابه الامير شمس الدين سنقر الالفى المظفرى، فنظر الى احوال غير مرضيه، والنظام مفسود، والاحوال مختله بتحكم الصبيان من الخاصكيه، فطلب الاقاله من النيابه، فاقيل. وولى النيابه الامير سيف الدين كوندك احدى (5) الخاصكيه. وكان مع الملك السعيد فى المكتب، وكان دكيا فطنا، ولم يزل فى النيابه الى حين خروجهم [الى] (6) الشام فى دى القعده، حسبما ياتى من دكر دلك. ورسم للصاحب ان يجلس بين يديه ولا يوقع إلاّ بقلمه. ومكنه تمكينا لم يكن لاحد من قبله. ثم توجه [الملك السعيد] بالعساكر الى الشام، فوصل الى دمشق، ودخلها يوم الثلثا خامس دى الحجه، وصحبته والدته بنت بركه خان، واخوه الملك المسعود نجم الدين خضر. وكان دخوله الى دمشق يوم عظيم (11) ما راى الناس مثله. ثم انه جرّد عشره آلاف (201) فارس من المصريين والشاميين، وقدّم عليهم الامير بدر الدين بيسرى، ثم أردفه بالمقر السيفى قلاوون الالفى، وامرهم بالتوجه الى سيس كما ياتى تتمه خبرهم فى سنه ثمان وستين (14). وفيها توفى الصاحب بها الدين ابن (15) حنا، واحتاطوا على ولده تاج الدين بدمشق واخد خطه بمايه الف دينار، وخط اخوه (16) زين الدين بمايه الف دينار، وخط ابن عمه عز الدين بن محيى الدين بمايه الف دينار. وسيروا الجميع الى مصر تحت الحوطه. وتولى الوزاره الصاحب برهان الدين السنجارى.

(5) احدى: أحد (6) أضيف ما بين الحاصرتين من م ف (11) يوم عظيم: يوما عظيما (14) وستين: وسبعين (15) ابن: بن (16) اخوه: أخيه

ذكر [حوادث] سنة ثمان وسبعين وستمايه

وفيه قال النجم ابن (1) السحت كمال يهجوا الصاحب بها الدين <من الكامل>: خربت ديارك، يا بن حنّا، وانقضا (3) … زمنا به أسرفت فى الطغيانى ونقلت من دار النعيم الى لظا (4) … بفضاضة ملأت فضاء النيّران وتركت رهطك فى العذاب فلم يفد … ما نلت من عزّ بذا (5) الخسران كم ذا تزخرف باطلا (6) … لبطالة قام الدليل عليك بالبرهان وفيها كان الرخاء بالديار المصريه، حتى بلغ الاردب القمح سته الدراهم، والشعير والفول اربعه الى ثلاثه. حكى لى والدى-رحمه الله-قال: وصل لى مركب فول تقدير ثلثمايه اردب، فاعرضه السمسار بثلاثه نقره الاردب، وحسب ما عليه من الموجب السلطان (10)، واجرة المركب، ففضل لى خمسه وثمانين درهم نقره من ثمن ثلثمايه اردب فول. ذكر [حوادث] سنة ثمان وسبعين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم سته ادرع فقط. مبلغ الزياده ثمانيه عشر دراعا واصبع واحد. ما لخص من الحوادث (202) الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (16) العباس امير المومنين. والسلطان الملك السعيد، سلطان الاسلام الى حين خلعه فى هده السنه حسبما ياتى.

(1) ابن: بن--يهجوا: يهجو (3) وانقضا: وانقضى--زمنا: زمن-- الطغيانى: الطغيان (4) لظا: لظى (5) بذا: بذى (6) باطلا: باطل (10) السلطان: للسلطان--وثمانين درهم: وثمانون درهما (16) ابى: أبو

ذكر خلع الملك السعيد وتمليك أخوه الملك العادل سلامش

ذكر خلع الملك السعيد وتمليك أخوه (1) الملك العادل سلامش كان قد غلب عليه الخاصكيه، وعاد يطلق لهم الاموال بلا حساب. ولم يزل فى دمشق فى احسن الامور واطيب الاوقات حتى حصلت المنازعه بين كوندك (3) والخاصكيه، ودلك فى شهر ربيع الاول. والسبب فى دلك انه اطلق لبعض الخاصكيه مال كثير (4)، فتوقف الامير سيف الدين كوندك النايب فى دلك، فاجتمعوا (5) الخاصكيه اليه وعنّفوه، وسمّعوه ما يكره. ثم دخلوا الى السلطان فقالوا: «تعزل عنا كوندك». فأجابهم لدلك. ثم انهم خرجوا الى عند كوندك وقصدوا قتله او القبض عليه. وكان الامير شمس الدين سنقر الاشقر حاضر (8)، فخلّصه منهم، واخده اليه. ثم خرج له منشورا ثانى يوم بامريه اربعين فارس (9) فى حلب. فاقام عند سنقر الاشقر سبعه ايام، والدوله بغير نايب، والتشويش واقع. فلما كان ثامن يوم وصل الخبر ان العساكر الدين كانوا فى سيس قد وصلوا. فركب كوندك فى جماعه من جنسه التتار، والتقا (12) الامرا القادمين وقال لهم: «ان الملك السعيد عازم على القبض عليكم الجميع عند عودته الى مصر، وانه لا يبقى على احد من الامرا الكبار، وقد اعطى اخبازكم لمماليكه الخاصكيه». وعرفهم اماير صححوا بها قوله. فعندها احضروا المصاحف، وحلفوا لبعضهم البعض على مصالحهم. وكان المقر السيفى قلاوون قد ترك خلفه الفى فارس مجردين بحلب من عسكر الشام. فلما وصلوا الى عدرا (18)، سيروا راسلوا الملك السعيد (203) ان: «فرّق هولاء

(1) اخوه: أخيه (3) كوندك: فى المتن «كونك» والاسم مصحح بالهامش (4) مال كثير: مالا كثيرا (5) فاجتمعوا: فاجتمع (8) حاضر: حاضرا-- بامريه: بإمرة (9) فارس: فارسا (12) والتقا: والتقى (18) عدرا: عذراء

الخاصكيه الصبيان الدين قد لعبوا بعقلك، وأخرجهم من عندك، ونحن نحضر ونتفق معك على المصلحه». فاعتدر (2) انه خايف منهم، ولا يقدر على دلك. ولم يكن عنده من الامراء الكبار غير الامير شمس الدين سنقر الاشقر، والحلبى، وعز الدين ملك الامرا. واتا (5) الى المقر السيفى قلاوون من الامرا الشاميين سيف الدين الهارونى، وسيف الدين بيدغان الركنى، والباشقردى، وبيبرس المجنون، وبكتاش النجمى مع عده امرا اخر، وكدلك بقيه الامرا المصريين، والمقدمين، واعيان الدوله من الجيوش. وعاد الامير شمس الدين سنقر الاشقر وعز الدين ملك الامرا يمشون (9) فى الصلح بينهم. فاوعدوهم (10) انهم يدخلوا دمشق، ثم ساقوا من عدرا، ونزلوا مصطبه السلطان عند الكسوة. فسير السلطان الملك السعيد اليهم والدته، ومعها سنقر الاشقر، لتسترضيهم. فاوعدوها انهم فى غد يدخلوا (12) دمشق. فعند عودتها رموا خيامهم، وتوجهوا طالبين مصر. ونزلوا راس الما. وخرج السلطان يوم الخميس [سلخ شهر ربيع الأوّل] (14) حتى يلتقيهم، فوجد جماعه اخبروه برحيلهم من امس. فرجع الى دمشق، وطلب الامير علم الدين الحلبى، واستشاره. فقال: «المصلحه انك تتبعهم منزله بمنزله، ولا تدعهم يتمكنوا (16) من قلعه الجبل، والضمان عليه ان أوصلك القلعه وأجلسك مكانك». فخلع عليه (17)، وجمع الاموال وبقية الجيش، وخرج من دمشق يوم الجمعه ثانى شهر ربيع الاخر (18)،

(2) فاعتدر: فاعتذر (5) واتا: وأتى (9) يمشون: يمشيان (10) فاوعدوهم: فأوعدوهما--يدخلوا: يدخلون--عدرا: عذراء (12) يدخلوا: يدخلون (14) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة، ج‍ 7 ص 267 (16) يتمكنوا: يتمكنون (17) عليه: علىّ، م ف (18) ثانى شهر ربيع الاخر: كذا فى الأصل ومن ف؛ بينما فى اليونينى ج‍ 4 ص 3، وابن تغرى بردى ج‍ 7 ص 267 «مستهلّ ربيع الآخر»

وصحبته العساكر الشاميه. ولم يزل حتى وصل الى بلبيس، فخامر عليه العسكر الشامى صحبه عز الدين ملك الامرا، ورجع الى الشام. واما السلطان فان الامير علم الدين الحلبى اخده، وحطم به، وطلع القلعه، والعساكر جميعها مطليه (4) حول القلعه. وكان حال (204) وصول المقر السيفى قلاوون والامير بدر الدين بيسرى الى القلعه، سيروا طلبوا الامير عز الدين الافرم، وكان النايب بالقلعه، فامتنع عليهم. فلما وصل السلطان القلعه. فتح له وطلع، وغلق بابها، وأظهر الحرب. فعندها قطعوا الماء عن القلعه، وطمعوا فيه، وحاصروه ثلثه ايام، وخامر ايضا عليه بعض الخاصكيه. فسير [السلطان] الامام الحاكم بامر الله الخليفه الى الامرا يقول لهم: «ما الدى تريدونه، وما هو غرضكم؟» فقالوا: «يخلع نفسه من الملك، ونولى اخوه (10)، لان لابيه فى اعناقنا ايمان بان لا نقتله، وإن كان ما يصلح، نسيره الكرك فيخلع نفسه، ويتوجه فى دعة الله الى الكرك، وهو آمن على نفسه وحريمه وماله». فوقع الاتفاق كدلك. فتوجه الملك السعيد الى الكرك، وصحبته الامير سيف الدين بيدغان الركنى، بعد ما خلع نفسه بالقاضى والشهود، وأبرأ الناس من بيعته. ثم ان الامرا حلفوا لاخيه بدر الدين سلامش، ولقبوه الملك العادل، والمقر السيفى اتابك الجيوش. واستقر الامر كدلك حسبما ياتى من تتمته. واما العسكر الشامى فانه عاد الى دمشق، ودخل مستهل جمادى الاخره (17). وكان العسكر المجرد فى حلب، لما بلغهم هده الاخبار، وصلوا الى دمشق فى شهر جمادى الاولى (19)، والمقدم عليهم الامير ركن الدين بيبرس الجالق، والامير عز الدين

(4) مطليه: مطلبه، م ف (10) اخوه: أخاه--ايمان: أيمانا (17) جمادى الاخره: كذا فى الأصل؛ فى م ف وابن الفرات ج‍ 7 ص 148 «جمادى الأول [كذا]» (19) جمادى الاولى: كذا فى الأصل؛ فى م ف وابن الفرات «ربيع الآخر»

ازدمر العلايى، والامير شمس الدين قرا سنقر المعزى، والامير جمال الدين اقوش الشمسى وغيرهم. فاتفقوا مع الامراء الدين بدمشق ان يكون الامير جمال الدين اقوش الشمسى مقدما على الجيوش، ويمسكوا عز الدين [ايدمر الظاهرى] (3) النايب، المعروف بملك الامرا، كونه ترك ابن استاده وخامر عليه، ورجع من بلبيس. فلما كان يوم الاحد مستهل جمادى الاخره (5)، دخل عز الدين ملك الامرا، (205) وصحبته العسكر الشامى. فطلع الامرا المقيمين (6) ليلتقوهم. فلما وصلوا ميدان الحصا، ثم الى باب الجابيه قال الامير جمال الدين اقوش الشمسى لعز الدين ملك الامرا: «المصلحه انك تدخل معى دارى، ولا تكن (8) سبب الفتنه بين المسلمين الى حيث يرد مرسوم السلطان». فعلم الامير عز الدين انهم عملوا على مسكه، فما امكنه غير العبور الى دار الامير جمال الدين. فاقام عنده الى بعد صلاة العصر، فحضر العلايى، والحاج ازدمر، والجالق، ومسكوا عز الدين ملك الامرا من عند جمال الدين الشمسى وطلعوا به القلعه، وسلموه للامير علم الدين الدوادارى نايب القلعه يوميد. فجعله فى البحرة تحت الترسيم، ومكّنه من عبور الحمام. فبلغ دلك الامرا، وانكروا على الدوادارى فقال: «ما جانى مرسوم من السلطان فى امره بشئ، ولا لكم أيضا، وقد مسكتوه (15) انتم بايديكم». فاغلظوا عليه فى الكلام، وكان جالس (16) بينهم فى دركاة القلعه، فقفز من بينهم ودخل القلعه، وامر القلعيه والمقدمين، فجدبوا (17) سيوفهم. فخرجوا الامرا ايضا وقد جردوا سيوفهم. وغلقت ابواب القلعه، ووقع الجفل والتشويش فى الناس.

(3) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن الفرات ج‍ 7 ص 148. (5) جمادى الاخره: كذا فى الأصل؛ بينما فى م ف «جمادى الاول» وفى اليونينى ج‍ 4 ص 6 «جمادى الأولى» (6) المقيمين: المقيمون (8) ولا تكن: ولا تكون (15) مسكتوه: مسكتموه (16) جالس: جالسا (17) فجدبوا: فجذبوا--فخرجوا: فخرج.

ذكر سلطنه مولانا السلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون

وغلقت ابواب دمشق ايام (1) غير باب النصر، وباب الجابيه، وباب الفرج. وسبب دلك ان الخبر وصل ان كوندك قد هرب، ومعه الف (2) فارس من التتار، وانهم واصلين (3) ينهبون البلاد، وكانوا العسكر القادمين. ثم ان العشير ايضا هاج وقتل، وسفك فى جميع بلاد الشام. فلما كان يوم الجمعه سادس جمادى الاولى (5) حضروا الناس والامرا الجامع، وخطبوا للملك العادل بدر الدين سلامش، والاتابك (6) الجيوش المنصوره الامير سيف الدين قلاوون الالفى، والرحمه (7) على السلطان الملك الظاهر. وفى عشرين (8) منه وصل الامير سيف الدين الباخلى، وجمال الدين الكنجى (206) وجماعه من مماليك المقر السيفى قلاوون الالفى، وحلّفوا الامرا للملك العادل سلامش ولاتابك الجيوش المقرالسيفى قلاوون. ثم وصل الامير شمس الدين سنقر الاشقر الى دمشق نايبا، ونزل بدار السعاده. وعند استقراره بها طلب الامير علم الدين الدوادارى وامره ان يسلم القلعه للامير سيف الدين الصالحى الواصل صحبته، فسلمه. وحكم الامير شمس الدين سنقر الاشقر كعاده النواب. ذكر سلطنه مولانا السلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون لمّا كان يوم الاحد العشرين (16) من شهر رجب الفرد-سنه ثمان وسبعين وستمايه- جلس مولانا وسيدنا السلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون

(1) ايام: أياما (2) الف: الف وخمس مايه، م ف (3) واصلين: واصلون-- القادمين: القادم من حلب، م ف (5) الاولى: فى هامش المتن «الآخرة»، بينما فى م ف «الأول» وفى ابن الفرات ج‍ 7 ص 149 «الأولى» --حضروا: حضر (6) والاتابك: ولأتابك (7) الرحمه: بالرحمة، م ف (8) عشرين: العشرين (16) العشرين: العشرون

الالفى الصالحى على تخت الملك بالقلعه المحروسه بالديار المصريه. ووصلت البشاير الى ساير الممالك الاسلاميه. وساق بعض مماليكه على البريد من مصر الى دمشق فى يومين وسبع ساعات، وهدا لم يعهد من قبله. فعند دلك دقت البشاير، واستبشر البادى والحاضر، واستقامت الامور بعد الاعوجاج، واستقرت النفوس بعد الانزعاج، وسكنت الاحوال بعد الارتجاج، وعادت امور الاسلام الى الصلاح، ونادى مناديهم: حى على الفلاح. وزالت الاراجيف، واتضع السخيف، وارتفع الشريف. وعدل فى الرعيه، وعادت ارباب البيوت حقوقهم مرعيه. واطمأنت النفوس، وزالت العكوس، وقطع المكوس، واطلق الحبوس. ونفّس عن المكروب، وعزم كل جان على الهروب. ونظر فى مصالح الجيوش، ورعت فى ايامه المواشى مع الوحوش. وبدا للاسلام من اول ايامه (207) السعود، ومات الظلم رغم أنف الحسود. فيا لها من أيّام، قرّت فيها عيون الانام، بتاييد ملة الاسلام، بحامى حوزة امة النبى عليه السلام، الأسد الهصور، مولانا وسيدنا السلطان الملك المنصور. فلما كان يوم الجمعه [ثانى شعبان] (14) قرئ الكتاب الوارد على الامير شمس الدين سنقر الاشقر بملك مولانا السلطان ما هدا نسخته: «ولا زالت أيامه بمحيّاها (16) تهنأ، وترى من النصر ما كانت تتمنا، ويتأمل آثارها فتملأها حسنا، وتشاهد من أماير الظفر ما يوسع على العباد أمنا، ويستزيد الحمد على ما وهب من الملك الذى أولى كلاّ منّا منّا المملوك يهدى من لطيف ثنايه (19)، ووضايف دعايه، وما استقرت من عوارف الله لديه، وما حبا به من النعم

(14) أضيف ما بين الحاصرتين من اليونينى ج‍ 4 ص 8 (16) بمحياها: كذا فى الأصل، فى ابن الفرات ج‍ 7 ص 153 «بمحابها» --تتمنا: تتمنى (19) ثنايه: فى ابن الفرات ج‍ 7 ص 153، واليونينى ج‍ 4 ص 9 «أنبائه» --ووضايف: ووظائف

التى ملأت يديه ما يستروح بنسيمه (1)، ويستفتح [لسان] الحمد بتقديمه، وتزداد به مسرة وابتهاجا، ويزدان عقود السعود. وإنما تزين اللآلئ فى العقود ازدواجا، ويقوى به قوى العزايم، وتمثله الاعداء فى افكارها. فتكاد تجر ذيول الهزايم، وتبعث الآمال على تمسكها بالنصر، وتظهر منه المحابّ التى لو قصدت الأقلام لحصرها لعجزت عن الحصر. وهو أن العلم الكريم قد أحاط بالصورة التى استقرت من دخول الناس فى طاعة المملوك، ولم يختلف بحمد الله عن الدخول فيها غنى ولا صعلوك. فلما كان يوم السبت الثالث من شعبان المبارك سنة ثمان وسبعين وستمايه ركب المملوك بشعار السلطنة، وأبّهة الملك. وسلك المجالس العالية، الأمراء والمقدمين (10)، والمفاردة والعساكر المنصورة، من آداب الخدمة وإخلاص النيا وحسن الطاعة، كلّما (11) دلّ على انتظام الأمر، واتّساق (208) عقد النصر. ولما قضينا من أمر الركوب وطرا، وأنجزنا للأولياء وعدا من السعادة منتظرا، عدنا إلى قلعة الجبل المحروسة والأيدى بالأدعية الصالحة لنا مرتفعة، والقلوب على محبة أيامنا مجتمعة، والآمال قد توثقت بالعدل واستمراره، والأبصار قد استشرقت من التأييد مطلع (15) أنواره. وشرعنا من الآن فى أسباب الجهاد. وأخذنا فى كل ما يؤذن إنشاء الله تعالى لفتح ما فى أيدى العدو من البلاد، ولم يبق إلاّ أن نثنى الأعنّة، ونسدد الأسنّة، ونظهر ما فى النفوس من مضمرات المقاصد المستكنّة. [ورسمنا] (18) بأن تزين دمشق، وتضرب البشاير فى البلاد، وأن يسمعها كل حاضر وباد. والله تعالى يجعل أوقاته بالتهانى مفتتحة، ويشكر مساعيه التى

(1) بنسيمه: فى الأصل «تنسيمه»، انظر ابن الفرات--أضيف ما بين الحاصرتين من ابن الفرات ج‍ 7 ص 153، واليونينى ج‍ 4 ص 9 (10) والمقدمين: والمقدمون (11) كلما: كلّ ما (15) مطلع: فى ابن الفرات ج‍ 7 ص 153 «مطالع» (18) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن الفرات

ذكر تملك الملك الكامل شمس الدين سنقر الاشقر وما لخص من خبره

ما زالت فى كل موقف ممتدحة، إنشاء الله تعالى». وهدا من انشا القاضى المرحوم تاج الدين بن الاثير، وبخط يده رحمه الله تعالى. وفى اواخر شوال سفروا عز الدين ملك الامرا تحت الحوطه الى مصر. وفى العشرين من دى الحجه وصل الى دمشق الامير حسام الدين لاجين السلحدار المنصورى، وعلى يده مرسوم ان ينزل القلعه، فنزل بها، فتخيل منه الامير سنقر الاشقر. فاتفقوا (6) الامرا بدمشق مع الامير شمس الدين سنقر الاشقر على انهم يملكونه، فطلع الى الصيد، وحلفوا له. ذكر تملك الملك الكامل شمس الدين سنقر الاشقر وما لخص من خبره لمّا كان يوم الجمعه رابع عشرين شهر دى الحجه-سنه ثمان وسبعين وستمايه- ركب المدكور من دار السعاده بدمشق المحروسه الى القلعه بها فى دست الملك، وتلقب بالملك الكامل. ومسك فى تلك الساعه الجالق (209) وحسام الدين لاجين. وحلفوا له بقيه الامرا، وجميع العساكر الشاميه بحضور القضاة. ثم انه سيّر الامير سيف الدين بلبان الحبيشى الى جميع البلاد الشاميه وقلاعها وحصونها ليحلفهم، وكدلك الى صاحب حماه، والى حلب. ولم يزل مستقلاّ بمملكه الشام الى سنه تسع وسبعين وستمايه، حسبما ياتى من دكره انشا الله تعالى. وفيها الثانى والعشرين من شهر دى القعده ورد الخبر بموت الملك السعيد بالكرك متقنطرا. وعمل السلطان عزاه (18) بقلعه الجبل، ولبس عليه البياض.

(6) فاتفقوا: فاتفق (18) عزاه: عزاءه

ذكر [حوادث] سنة تسع وسبعين وستمايه

وفيها تسلم نواب السلطان الملك المنصور قلعه الشوبك من اصحابها بالامان، وهدمت. وكان انتقل منها صاحبها نجم الدين خضر بن السلطان الملك الظاهر الى عند اخيه الملك السعيد بالكرك من قبل منازلة العسكر المنصورى لها. وفيها توفى الامير بدر الدين محمد بن بركه خان، رحمه الله. ذكر [حوادث] سنة تسع وسبعين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم (6). . . مبلغ الزياده سته عشر دراعا وعشرون اصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (9) العباس امير المومنين. والسلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون الالفى الصالحى سلطان الاسلام. والمتغلب على الشام باسم الملك سنقر الاشقر، والملقب بالملك الكامل. وبقيه الملوك حسبما تقدم من دكرهم. ولما استهلت هده السنه بيوم الخميس ركب سنقر الاشقر من قلعه دمشق الى الميدان الاخضر بدست الملك. ثم رجع الى القلعه، وكان يوما مشهودا. (210) وكان لما خرج من باب السرّ والامراء مشاه بين يديه، اشار الى العامه بيده مسلّما عليهم، فدعوا له دعاء كثيرا. وفى ثانى عشر المحرم، وصل الامير سيف الدين المعروف «الله كريم (16)» رسولا من جهه السلطان الملك المنصور، وعلى يده كتاب فيه عتب كثير على ما اعتمده،

(6) القديم. . .: بياض فى الأصل (9) ابى: أبو (16) سيف الدين المعروف «الله كريم»: كذا فى الأصل وم ف؛ فى ابن الفرات ج‍ 7 ص 168 «سيف الدين بلبان الكريمى العلائى»؛ انظر أيضا حاشية 1 لبلوشيه فى P .O .XIV ص 478

وطلب الصلح والدخول تحت الطاعه. فلما احسّ بمجيه (1)، طلع الى لقايه، واكرمه، وانزله عنده فى القلعه. واكثر دلك خشيه منه لا يجتمع باحد من الامراء الشاميين فيفسده عليه. ثم تجهزت العساكر المصريه، وخرجت الى الشام. ووصل البريد يخبر بوصول العساكر الى غزه، والمقدم عليهم الامير علم الدين سنجر الحلبى، والامير بدر الدين بيسرى، والامير علا الدين كشتغدى الشمسى، والامير بدر الدين بكتاش النجمى، والامير بدر الدين بكتوت العلايى. ثم عاد الحبيشى من الحصون الشاميه. واخبر انه حلّف جميع القلاع، وولى فى كل قلعه نايبا من جهته. ولما كان خامس عشر شهر صفر التقا (10) عسكر مصر وعسكر الشام. فعند ما وقعت العين فى العين، خرج عسكر حماه والحلبيين (11) مع جماعه من الامراء الشاميه وطلب العساكر المصريه، مخامرين على سنقر الاشقر، وداخلين فى طاعه السلطان الملك المنصور. وكان الدين لم يقفزوا من الامراء الشاميين الى المصريين الحاج ازدمر، وعلا الدين الكبكى، وقرا سنقر لنعزى، والحبيشى. وكان قبل دلك من عشيه الجمعه [رابع عشر صفر] (15) قد سير سنقر الاشقر خزاينه والاولاد (16) الدى له مع استاداره الى قلعه صهيون، ثم ان الكسره كانت عليه. فلما انكسر اخدوه (17) العرب من الوقعه، وساروا به فى الغوطه، ودخلوا المرج، وقصدوا به بيوت الامير شرف الدين مهنا، فنزل عليه واستجار به، فاجاره. ثم توجه به الى الرحبه.

(1) بمجيه: بمجيئه (10) التقا: التقى (11) والحلبيين: والحلبيون-- وطلب: وطلبوا (15) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن الفرات ج‍ 7 ص 170 (16) والاولاد: فى الأصل «والاواد» --الدى: الذين (17) اخدوه: أخذه

ثم ان سنقر الاشقر (211) كاتب علا الدين الجوينى، صاحب الديوان ببغداد والمستولى على بلاد العراق، فكاتب الجوينى بخبره الى ابغا. وسير الجوينى الجواب لسنقر الاشقر، يطيب خاطره، ويعده، ويمنيه حتى يعود جواب القان بما يعتمده. فاستشار شرف الدين مهنا، فلامه فى دلك مع من كان معه، وقالوا له: «انت قد انقدك (5) الله من الكفر، ومنّ عليك بالاسلام، تعود ترجع الى الكفر معتمدا لدلك، وتكون سببا لمجى (6) الكفار الى المسلمين لاجل هوى نفسك ومصلحتك، ولا بد من الموت فكيف تلقا (7) الله عزّ وجلّ؟ والمصلحه ان تطلع الى صهيون الدى فيه اهلك واولادك». فسمع هدا الكلام، وعاد طالبا الى صهيون. وطلع الحاج ازدمر الى قلعه شيزر، والكبكى الى قلعه بلاطنس. وشرع يسعى فى الصلح مع السلطان كما يأتى دلك. واما ما كان من عسكر دمشق بعد هروب الامير شمس الدين سنقر الاشقر، فانهم التأموا بالمصريين. وتوجه الامير علم الدين الحلبى حتى نزل القصر الابلق بالميدان الاخضر، وعز الدين الافرم بداره التى على الميدان. ونزل كشتغدى الشمسى بالقلعه كونه كان استادارا، والايدمرى فى داره. وثانى يوم الوقعه حضر الامير سيف الدين الجوكندار-متولى القلعه كان من جهة سنقر الاشقر-واطلق الامير حسام الدين لاجين المنصورى، والامير ركن الدين بيبرس الجالق، وتقى الدين توبه بعد ان حلّفهم انهم لا يودونه (17). ثم فتح باب القلعه، وأمن الناس. ثم أن البشاير دقت، وزينت البلد. واستبشرت (19) الناس. ثم احتاطوا على وزير سنقر الأشقر، ابن كسيرات، وناظر الديوان جمال الدين بن صصرى. ورسموا

(5) انقدك: أنقذك (6) لمحبى: لمجئ (7) تلقا: تلقى (17) يودونه: يؤذونه (19) واستبشرت: واستبشر

ذكر تملك الملك الصالح ابن السلطان الشهيد الملك المنصور رحمه الله

على قاضى القضاة بدمشق شمس الدين بن خلكان، وعوقوه عند الامير علم الدين الحلبى بالميدان؛ (212) وسبب دلك انه كان افتى بقتال المصريين. ثم بعد دلك ورد كتاب بالعفو عن الجميع، بعد ما قيل فيه: «انتم جعلتمونا خوارج، فكان سنقر الاشقر من نسل العباس!». فلما كان يوم الاربعا حادى عشرين ربيع الاول وصل بريد، وعلى يده تقليد الامير حسام الدين لاجين المنصورى بنيابه دمشق، وتقى الدين توبه وزيرا بها. ولبسوا الامير حسام الدين لاجين خلعة النيابه، ورجعوا به من الميدان الى تحت القلعه. فلما وصلوا باب السر، ترجلوا جميعهم. وترجّل الامير حسام الدين، وقبّل عتبه باب السر ثلاث مرار. ثم اراد الحلبى ان يعضده حتى يركب فابا (9)، وحلف براس السلطان ما يفعل تواضعا منه للامير علم الدين الحلبى. وفيها فى يوم الاحد سادس عشر جمادى الاخره وصل اول الجفّل من حلب وحماه وحمص. وسبب دلك، لما وردت الاخبار بمجى (12) التتار والارمن الى حلب واحرقوا الجامع، واخد اهل سيس المنبر، ورجعوا سالمين. ذكر تملك الملك الصالح ابن (14) السلطان الشهيد الملك المنصور رحمه الله هو الملك الصالح علا الدين على بن مولانا السلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون الالفى النجمى الصالحى. ركب فى دست الملك فى حادى عشر شهر رجب (17) الفرد من هده السنه المدكوره، وجعله مولانا السلطان الشهيد ولى عهده. وحلف له ساير الامراء والجيوش المنصوره بمصر والشام.

(9) فابا: فأبى (12) بمجى: بمجئ (14) ابن: بن (17) حادى عشر شهر رجب: فى ابن الفرات ج‍ 7 ص 186 «سابع عشر جمادى الاخرة»

ثم تجهزت العساكر فى ركاب السلطان، وتوجهوا الى غزه بسبب تحرك التتار. فلما ورد الخبر بعد دلك برجوعهم، رجع السلطان الى الديار المصريه، ولم يدخل دمشق. وفيها فى يوم الجمعه (4) طلع الفرنج من المرقب، وكسروا بعض عسكر المسلمين. (213) وذلك ان كان قد جرّد من دمشق الف فارس الى ناحيه المرقب وحصن الاكراد. ونزل معهم الامير سيف الدين بلبان الطباخى فى عسكر حصن الاكراد ثمان مايه فارس، وثمان مايه من التركمان خيّاله، وتقدير الفى راجل. وتوجهوا نحو الفرنج، ودخلوا من مكان مضيق، فطلع عليهم الفرنج، فلم يلبثوا ان كسروا، وولوا (9) المسلمون منهزمين. وقتل منهم تقدير مايتى رجل. وفيها ورد الخبر ان اولاد اخو (10) الملك بركه طلعوا على التتار من ابغا، واخدوا بيوتهم، وكسروهم مرتين، وان بيت ابغا وعساكره معهم فى انحس حال. وفيها فى مستهل دى الحجه خرج السلطان الملك المنصور من الديار المصريه بالعساكر والجيوش، فنزل بمنزله الروحا، ووصل رسل عكا اليه. ثم اقام بهده المنزله حتى استهلت سنه ثمانين وستمايه. (14) [وفى يوم عرفة من سنه تسع وتسعين وقع بمصر برد كبار، فاتلف شى كثير (15_) من الغلال، وكان اكثره بالوجه البحرى] (15).

(4) الجمعه: كذا فى الأصل دون ذكر للتاريخ، ولم تمدنا المصادر المتداولة بمعلومات عن تاريخ هذه الواقعة. (9) وولوا: وولى (10) اخو: أخى (14 - 15) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (15_) شى كثير: شيئا كثيرا

ذكر [حوادث] سنة ثمانين وستمايه

ذكر [حوادث] سنة ثمانين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم (2). . . مبلغ الزياده ثمانيه عشر دراعا واربع (3) اصابع. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (5) العباس امير المومنين. والسلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون الالفى-برّد الله ضريحه-سلطان مصر والشام وما معهما. وسنقر الاشقر متغلب على صهيون وشيزر وبلاطنس واعمالهم. والنايب بمصر الامير حسام الدين طرنطاى، والنايب بالشام الامير حسام الدين لاجين المنصورى. وصاحب حماه بحاله، وكدلك ساير الملوك حسبما دكرناه من قبل. والسلطان متوجها (10) الى (214) دمشق. وفيها مسك كوندك، وغرق فى بحيره طبريه. وسبب دلك انه كان اتفق مع جماعه من الامراء، منهم ايتمش السعدى وبلبان الهارونى مع جماعه كبيره اكثرهم من التتار، واجمعوا رايهم على انهم، ادا وصلوا الى حمراه (13) بيسان عند المخاضة بالشريعه، يثبوا (14) على السلطان يقتلوه هناك. وكان امر الله بخلاف ما اجمعوا عليه من الفساد. فاطلع الامير بدر الدين بيسرى على دلك، فعرف به السلطان. فقصد مسكهم، فلم يظفر الا بكوندك، فقبض عليه. وامّا السعدى والهارونى، فانهما احسّا بدلك، فركبا على حميّة، وتوجها الى سنقر الاشقر. واما كوندك فان الامير حسام الدين طرنطاى اخده مقيدا على فرس، وتوجه به الى بحيره طبريه، فغرقه بها. واراح الله منه ومن فتنه. ولمّا مسكه قال له السلطان: «ادا كان فعلك فى استادك

(2) القديم. . .: بياض فى الأصل (3) واربع: وأربعة (5) ابى: أبو (10) متوجها: متوجه (13) حمراه: كذا فى الأصل، بينما فى ابن الفرات ج‍ 7 ص 207، والمقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 676 «حمراء» (14) يثبوا: يثبون--يقتلوه: يقتلونه

ذكر وقعه حمص المعروفه بمنكوتمر

وابن استادك، ومن ربيت معه فى المكتب وشاركك فى ملكه دلك الفعل، وكنت انت السبب فى زوال ملكه، فمادا أؤمّل انا منك؟». فلما قضى الله فيه بقضايه، نفدوا البطايق خلف المنهزمين من الامرا الى ساير البلاد. ثم نزل السلطان الى خربة اللصوص فى سابع الشهر (4). ووصل المجدى الى دمشق، مقدم البحريه، ومعه مايتى (5) فارس وصحبته بيبرس المجنون وخاص ترك واربعه عشر مقدما من مقدمين (6) الحلقه ممسوكين. فاعتقلهم بدمشق فى القلعه. ولما كان يوم السبت العشرين من المحرّم دخل السلطان الى دمشق-ودلك كان اول دخوله وهو سلطانا (8) ملكا-والامير بدر الدين بيسرى حامل الشتر، وكان يوما مشهودا. وفرحوا (9) به الدماشقه فرح كبير، فشكرهم على دلك. وامر ان لا تردّ عنه قصه (215) من الشاميين، وازال مظالمهم، واوسعهم برّا وعدلا. وقال: «السلطان الملك الظاهر كان يكره اهل دمشق، وانا أحبهم». وفيها فى اول صفر، وقع الصلح مع الملك المسعود نجم الدين خضر بن السلطان المرحوم الملك الظاهر، وكذلك مع الامير شمس الدين سنقر الاشقر. وجمع الله كلمة الاسلام. ذكر وقعه حمص المعروفه بمنكوتمر ولمّا كان سلخ ربيع الاخر من هده السنه المدكوره، وصل الى دمشق قصّاد، واخبروا ان التتار قاصدين (17) البلاد. فجمع السلطان الامراء، واستشارهم وأين يكون (16 - 8)

(4) فى سابع الشهر: يقصد شهر المحرّم (5) مايتى: مائتا (6) مقدمين: مقدمى (8) سلطانا ملكا: سلطان ملك (9) وفرحوا: وفرح--فرح كبير: فرحا كبيرا (17) قاصدين: قاصدون

الملتقا (1) مع العداء. فاتفقوا ان يكون فى مرج حمص. وكان قصد السلطان ان يكون فى مرج دمشق. هدا والاخبار تقوى وتتجدد بمجيهم (2). فلما كان مستهل جمادى الاخره، خرجت العساكر اولا فاولا الى يوم الاحد سادس عشرين الشهر المدكور سافر السلطان وخرج من دمشق مع بقيه الامرا الكبار. فنزل بالمرج، وضرب مشور ثانى (5)، وعرف الامرا ان القصاد خبروا ان التتار فى مايه الف فارس وان المصلحه تقتضى ان يلقاهم فى مرج دمشق. فلم يوافقوه على دلك. وكان علم الدين الحلبى فى مقدمه الجيش، فركب من ساعته وتقدم، وتبعه بيسرى. وكان من كلامهم للسلطان: «إنّ نحن-ما لم تجئ-التقيناهم نحن، فان كانت لنا، رجعنا وولينا علينا من نريد، وان كانت علينا فنموت كرام (9) مجاهدين». ثم رحلوا يد (10) واحده. وكان امرا قد اوقعه الله فى نفوسهم لنصره دينه. ثم حضر الى السلطان بدر الدين بكتاش الفخرى امير سلاح، واعلمه برحيل الامرا وقوة عزمهم على الملتقا (12)، وقال: «من المصلحه ان تلحقهم، والى راح (216) الملك منك فى هده الساعه». فامر بالرحيل فى ساعته وتبعهم. ووصل الى حمص، وسير طلب الامير سنقر الاشقر، فحضر اليه مع جماعه الامراء، فقام له قايما وعانقه. وجلسوا عند ضريح خالد بن الوليد-رضى الله عنه-، ووضعوا بينهم الكتاب العزيز، وتحالفوا انهم لا يودوا (16) بعضهم بعضا. ثم تحالفوا انهم لا ينهزمون، وانهم يموتون تحت ظلال السيوف، ولا يولون الادبار. واخلصوا عند دلك الوقت نياتهم لله وللجهاد فى سبيله. فاطلع الله تعالى على اخلاصهم، فايدهم بنصره وبالمومنين، {وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} (19).

(1) الملتقا: الملتقى (2) بمجيهم: بمجيئهم (5) مشور ثانى: مشورا ثانيا (9) كرام: كراما (10) يد: يدا (12) الملتقا: الملتقى--والى: وإلا (16) يودوا: يؤذون (19) وكان. . . رحيما: راجع القرآن 22:65 و 24:20

ثم تهييوا للملتقا (1). وكان مقدم جيوش التتار منكوتمر ابن هلاوون، اخو ابغا، فى مايه الف عنان. فلما كان يوم الخميس رابع عشر شهر رجب الفرد من هذه السنه التقا (3) الجمعان، فكسرت ميمنه التتار ميسره الاسلام، وكان فيها سنقر الاشقر والحلبى وابطال المسلمين. وكسرت ميمنه المسلمين ميسره الكافرين. وكان سبب كسره ميسرتهم ان الامير عيسى بن مهنا وعربه نهبوا اثقال التتار من خلفهم، فرجعوا اليهم. فركبوا (6) المسلمون رقابهم واقفيتهم، وشالوهم شيلا بين ايديهم. وامّا السلطان فانه امر بلف السناجق فى دلك اليوم على رماحها حتى لا يعلم بمكانه، وبقى قايم (8) وحده فى نفر يسير مقدار ثلثمايه فارس. حدثنى (9) والدى-سقى الله عهده-قال: لما كسرت ميمنتنا ميسرة التتار، نظرت الى من بقى مع السلطان تحت السناجق، فلم يكونوا يلحقوا (10) عده ثلثمايه فارس. وكنت فى ألف السلطان، وكان مقدمنا يوميد علم الدين زريق الرومى، فلم يبرح مع السلطان وانا معه. ثم ان منكوتمر لما راى كسره ميسرته نزل عن فرسه، (217) ونظر من تحت حوافر الخيول، فراى الاثقال والدواب قد سدت الارض، فظنّ ان دلك كله مقاتله. وارمى الله الرعب فى قلبه، فركب فرسه، وولا (15) هاربا، فتقنطر به الجواد، فنزلوا (16) حوله كبار المغل واخدوه بينهم. فلما راوهم المسلمين قد ترجلوا، حملوا عليهم حمله رجل واحد. فكان النصر فى تلك الحمله.

(1) ثم تهييوا للملتقا: ثم تهيئوا للملتقى--ابن: بن (3) التقا: التقى (6) فركبوا: فركب (8) قايم: قائما (9) حدثنى. . . عهده: فى م ف «ولقد حكى من حضر هذه الوقعه»؛ وفى تاريخ الجزرى (مخطوطة جوتا 1560) ق 17 آ «ولقد حكى الأمير شمس الدين نباء أمير جاندار المعروف بابن المحفدار»، انظر Haarmann,Quellenstudien,S .02,011 f ,491 (10) يلحقوا: يلحقون (15) وولا: وولى (16) فنزلوا: فنزل--راوهم المسلمين: رآهم المسلمون

ويقال ان الامير عز الدين الحاج ازدمر حمل بنفسه حتى وصل الى منكوتمر، فطعنه ارداه عن جواده الى الارض. فترجلت عند دلك المغل عنده، وحملت عليهم المسلمين (3)، فكان النصر، بمشيه الله تعالى وجميل لطفه. ثم ان منكو تمر ركب وولا هاربا مع من كان معه، وركبت المسلمين (4) اقفيتهم قتلا واسرا. فلما عادت ميمنه التتار التى كانت كسرت ميسرة المسلمين، طلبوا منكوتمر، فلم يجدوه، ولا لأصحابهم خبر. فولوا ايضا منهزمين، لا يلوون على شئ. وكان دلك لطفا من الله عزّ وجلّ فى نصره دينه، وإلاّ لو رجعوا على المسلمين ما كان وقف قدامهم أحد. فردهم الله على اعقابهم ناكصين، ونصر الله المسلمين وامة خير المرسلين محمد الامين-صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه اجمعين. ولما كان ثانى يوم الوقعه المدكوره المويده المنصوره، جرد السلطان الايدمرى فى خمسة الاف [فارس] (11). فساق خلف التتار الى النهر الاسود. قال والدى رحمه الله: كنت فيمن جرد مع الايدمرى خلف التتار. فسقنا خلفهم الى النهر الاسود، وقتلنا منهم خلق كثير (13)، واسرنا ما يزيد عن خمس مايه نفر. وإنّ التتار قتلوا بعضهم بعضا. ولولا عرب خفاجه اخدوا كبارهم ودلوا بهم (14) على الطريق والمخايض، لكنا اخدناهم عن اخرهم. هدا ما كان من التتار المنهزمين، (218) واما ما كان بدمشق، فانه لما كان يوم الجمعه بعد العصر خامس عشر رجب الفرد وقعت بطاقه مخلّقه من القريتين، مكتوب فيها ان التتار كسروا وخسروا. فدقت البشاير، وفرح الناس فرحا عظيما بعد ان ياست (19) الناس من اموالهم وانفسهم. ودلك ان اول هدا النهار كان قد وقع طاير

(3) المسلمين: المسلمون--بمشيه: بمشيئة--وولا: وولى (4) المسلمين: المسلمون (11) أضيف ما بين الحاصرتين من م ف--قال والدى رحمه الله: وذكر ابن المحفدار، م ف (13) خلق كثير: خلقا كثيرا (14) ودلوا بهم: ودلوهم، م ف (19) ياست: يئست

ملطخ بسواد. وكان دلك لسبب مرور المنهزمين من المسلمين من الميسره، فسرح دلك الطاير المسوّد. ثم ظهر النصر والفتح والفرج من الله تعالى بعد الياس {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ} (3). وحضرت بعد العصر البطاقه المخلّقه، ودقت البشاير. فلما كان الثلث الاول من الليل وصل الامير ركن الدين الجالق، ويمك الناصرى، والجاشنكير وجماعه كبيره من الدين كانوا بالميسره وانهزموا. فدقّ الجالق ويمك الناصرى باب القلعه، وطلبوا الاجتماع بنايبها، وهو يوميد قجقار المنصورى. ففتح لهم باب الفرج، وادخلهم اليه الى القلعه. فاخبروا انهم كسروا وقالوا: «والله، ما كسرنا نحن وبقى جيش ولا سلطان (8)». فبات الناس فى اسوء (9) حال. فلما كان عند صلاه الفجر وصل بريدى لصفد، وعلى يده كتاب البشاره. فاخدوا الكتاب من البريد (10)، وقروه على السدّه بجامع دمشق بحيث طابت نفوس الناس، فكان فيه ما هدا نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم {نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (12). نعلم الأمير ما جدّد الله تعالى من نصر، تهلّلت بمثله وجوه الأيام، وابتسمت به ثغور الأنام. وبدأ الإسلام أول مرة، وجعل الله على العدو المخذول الكسرة. فلمّا كان يوم الخميس رابع عشر شهر رجب المبارك (219) سنة ثمانين وستماية، حضر العدو المخذول فى مايه ألف أو يزيدون، وضربنا معهم مصافا دارت (16) فيه رحا (17) الحرب المنون. والتحم القتال، وتماسكت الأبطال بالأبطال، وتفاقم الأمر حتى أنّ الإسلام كاد أنّ، وكرّ العدو كرة فلم يلوعنّ. فعند ذلك أذن الله تعالى

(3) القرآن 30:4 (8) والله ما كسرنا. . . ولا سلطان: كذا فى الأصل؛ بينما فى م ف «والله ما كسرنا وبقى من العسكر احد، لا سلطان ولا غيره»؛ وفى تاريخ الجزرى (مخطوطة جوتا 1560) ق 17 ب «وما هربنا وقد بقى من العسكر أحد، لا السلطان ولا غيره» (9) اسوء: أسوأ (10) البريد: البريدى--وقروه: وقرؤوه (12) القرآن 61:13 (16) دارت: فى الأصل «فأدارت»؛ انظر الجزرى ق 18 آ (17) رحا: رحى

للملايكة المسومين فانجدت ووفيت للأمة المحمدية من النصر ما وعدت، وانكسر العدو المخذول وولا (2)، وفاز الإيمان [من النصر] بالقدح المعلا. وكتبنا كتابنا هذا، وقد نصر الله دينه، وأيّد معينه، وحمى حما (3) الأمة، وكشف عن الإسلام كل غمة. فليأخذ الأمير حظه من هذه البشارة التى عظم قدرها، وفاح نشرها، وفاق ذكرها. والحمد لله رب العالمين». فلمّا كان بعد صلاه الظهر من دلك اليوم ورد البريد بكتاب للامير سيف الدين قجقار المنصورى بما هدا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم. نعلم المجلس السامى الأمير سيف الدين-لا زال مبشرا بكل خير ونضر، تبتسم له ثغور الأنام، وتعدّ حسناته مسطرة فى صحايف الأيام، وتميس به كما ماست صدور الأقلام-إن الله تعالى فتح علينا ونصر، وأعزّ سلطاننا بمن آمن وأذلّ من كفر. ولما كان ليلة الخميس، رابع عشر رجب سنة ثمانين وستماية، وصل إلينا خبر العدو المخذول، أنهم ركبوا من ظاهر حماه ليضربوا معنا مصافا راكبين متن الجور لا إنصافا. وكانوا فى ماية ألف من تتار وكرج وأرمن ومرتدّة، أو ما يزيدون عن هذه العدة. فلما كان ضحوة نهار الخميس المذكور وقعت العين فى العين، وطلبهم الإسلام بثأر ودين. ونادا (15) بشتاتهم غراب البين، والتحم القتال، (220) واكتحلت الأعين بمراود النبال. فلم يكن غير أن أذن الله تعالى بالنصر فأيد الإيمان، وخذل أمة الكفر، وأنزل سكينته على راياتنا الصفر. وولا (18) العدو مخذولا مهزوما مكسورا. وأقبل الإسلام فى عزّ سلطاننا انه كان منصورا. وتجردت العدا (19) حتى من نفوسها، وبارك الله لخميسها فى خميسها.

(2) وولا: وولى--ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش--المعلا: المعلى (3) حما: حمى (15) ونادا: ونادى (18) وولا: وولى--مخذولا: فى الجزرى ق 18 آ «المخذول» (19) العدا: العدى

وكتابنا هذا من ظاهر حمص المحروسة، وقد ضرب دهليز النصر، والعدو قد ولا (2) يجرّ أذيال الهزيمة. فليأخذ حظّه من هذه البشرى العظيمة، ويشيعها إشاعة تعدوا (3) أحاديثها السارّة مبشرة مقيمة، إنشاء الله تعالى». فلما قرى هدا الكتاب فرحوا (4) الناس فرحا عظيما. وعاد كل من حضر من الهاربين يرسموا (5) عليه ويعيدوه الى حمص. وزينت دمشق زينه عظيمه. ودخل السلطان اليها يوم الجمعه ثانى عشرين رجب المبارك، وكان يوما مشهودا. وقدّامه اثنا عشر (7) عجله كانت مع التتار، على كل عجله اربع زيارات، كل زيار فيه ثلث شروخ (8) وخمس طبول صحاح وثلثه مقطعه. ثم قدمت التتار الماسورون اولا فاولا الى حين عودة الايدمرى بجملة الاسارا (9) ورؤس المقتّلين على اسنّه الرماح. ولما رحل السلطان من حمص ودعه الامير شمس الدين سنقر الاشقر، ورجع الى صهيون. حكى لى من اثق بقوله ان السلطان، لما رحل من [حمص طالبا] (11) دمشق، كان سنقر الاشقر راكبا الى جانبه، وهو يقصد الدستور من السلطان فى عودته، فتغافل عنه السلطان، وطاوله فى الحديث. فقال سنقر الاشقر للسلطان: «انظر، يا خوند، الى هدا الطراز الاخضر»، واشار الى ناحيه صهيون وما يحاديها (14) على ان السلطان يقول «باسم الله». فلم يقل شى (15)، فقال له الحلبى (221) بالتركى: «يا مير شمس الدين، ما يحسن هدا الطراز الاخضر الا ادا كان حافر فرسك عليه». فكأنه لغز له بالرجوع، وكان قصد السلطان غير دلك. فلما سمع سنقر الاشقر دلك، مسك راس فرسه وقال للسلطان: «غزاة مباركة عليك، يا خوند»، ورجع فى مماليكه وحفدته، والسلطان ينظر اليه.

(2) ولا: ولى (3) تعدوا: تعدو (4) فرحوا: فرح (5) يرسموا: يرسمون-- ويعيدوه: ويعيدونه (7) اثنا عشر: اثنتا عشرة--اربع: أربعة--ثلث: ثلاثة (8) شروخ: جروخ، م ف--وخمس: وخمسة (9) الاسارا: الأسارى (11) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (14) يحاديها: يحاذيها (15) شى: شيئا

واستصحب السلطان معه ايتمش السعدى والهارونى والجماعه الدين كانوا هربوا معهم، الدين تقدم فيهم القول. وردّ عليهم ما كان أخد لهم، واعاد اليهم اقطاعاتهم، ودخلوا معه الى الديار المصريه. وخرج السلطان من دمشق ثانى شهر شعبان المكرم، ودخل الى القاهره. فدخلها سادس عشرين شعبان المدكور. وزينت زينه عظيمه، وكان دخوله يوما ماراى الناس مثله. ولما كان ثالث عشرين شعبان وصل الى دمشق تقدير مايتى فارس من التتار مجمعه، واخبروا ان منكوتمر مات، وان ابغا كان نازلا مقابل الرحبه ينتظر ما يكون من امر منكوتمر وجيوشه. فوصل اليه اوايل المنهزمين واخبروه بحالهم، ثم وصل اليه منكوتمر مجروحا، فغضب عليه وقال: «لم لا متّ، ولا جيتنى مكسورا». وكدلك غضب على ساير المقدمين الدين كانوا معه، ثم ركب ورجع طالبا همدان. وسار منكوتمر الى نحو بلاد الجزيره الى عند امه؛ فان هلاوون كان لما فتح جزيره ابن عمر اعطاها لأم منكوتمر. وامّا سبب موت منكوتمر، فانه دكر ان القاضى جمال الدين بن العجميه سقاه سمّا فمات منه، واراح الله من شره. وعلم بدلك ضامن الجزيره، ابن القرقوى، فرافع القاضى جمال الدين، وعرف والدته بدلك. فقبضت على القاضى جمال الدين وجميع اولاده، ودبحتهم بيدها، واخدت جميع ما لهم. (222) وقدر الله تعالى بعد دلك ان التتار اخدوا ابن القرقوى الدى سعى فى القاضى جمال الدين، فقتلوه هو وجميع اهله واولاده. وامّا ابغا فانه وصل الى همدان، فتوفا (19) بها بين العيدين. وتولى الملك اخوه أحمد اغا، وكان مسلما ويحب المسلمين، كما ياتى دكر دلك فى السنه الاخرى-انشاء الله تعالى.

(19) فتوفا: فتوفى

ذكر [حوادث] سنة احدى وثمانين وستمايه

ذكر [حوادث] سنة احدى وثمانين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم (2). . . مبلغ الزياده سبع عشر دراعا وسبع عشر اصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (5) العباس امير المومنين. والسلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون الالفى-تغمده الله برحمته-، سلطان الاسلام من دنقله الا (7) حدود الفراه. وما ورا دلك فى مملكه التتار. والملك المجاور للاسلام من بيت هلاوون، احمد أغا. ووصل رسل من جهته، وهم قطب الدين محمود الشيرازى قاضى سيواس، وبها الدين اتابك السلطان مسعود صاحب الروم، وشمس الدين محمد بن التيتى وزير ماردين، وعلى يدهم كتاب الملك احمد اغا، وهو بلا عنوان ولا ختم، وفيه طمغات حمر ثلثه (12) عشره طمغه، يتضمن ما هذا نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم. بقوة الله، بإقبال [قآن] (13)، هذا فرمان أحمد إلى سلطان مصر. أمّا بعد: فإنّ الله سبحانه وتعالى لسابق عنايته، ونور هدايته، وعظيم رعايته، قد كان أرشدنا فى عنفوان الصبا وزمان (15) الحداثة إلى الإقرار بربوبيته، والاعتراف بوحدانيته، والشهادة بمحمد-صلّى الله عليه وسلّم-

(2) القديم. . .: بياض فى الأصل--سبع: سبعة (5) ابى: أبو (7) الا: إلى-- الفراه: الفرات (12) ثلثه: ثلاث (13) أضيف ما بين الحاصرتين من م ف وابن عبد الظاهر، تشريف الأيام والعصور فى سيرة الملك المنصور (ط. القاهرة 1961)، ص 6 (15) وزمان: كذا فى الأصل وفى م ف؛ فى ابن عبد الظاهر، تشريف الأيام، ص 6 «وريعان»

والتصديق برسالته وبنبوته، وحسن الاعتقاد فى اوليايه (223) الصالحين من عباده فى بريّته {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} (2). كلّ ذلك ببركات محمد عليه أفضل الصلاة والسلم (3). فلم نزل نميل إلى إعلاء كلمة الدين، وإصلاح أمور الإسلام والمسلمين، إلى أن قبض أبينا (5) الملك الجليل وأخينا الكبير، وأفضا (5_) الملك إلينا. فأفاض علينا من جلابيب ألطافه ما حقّق به آمالنا فى جزيل آلايه وعوارفه. وجلى (6) هدى المملكة علينا، وأهدى عقيلتها إلينا. فاجتمع عندنا فى قوريلتالى (8) المبارك-وهو المجمع الذى تنقدح فيه آراى-جميع الإخوان والأولاد والأمراء الكبار ومقدّموا (9) العساكر وزعماء البلاد، واتفقت كلمتهم على تنفيذ ما سبق به حكم أخينا الكبير، فى إنفاذ الجمّ الغفير من عساكرنا التى ضاقت بهم الأرض برحبها من كثرتها، وامتلأت رعبا لعظيم صولتها، وشديد بطشهم إلى تلك الجهة. بهمّة تخضع لها شمّ الأطواد وعزمة تلين لها الصمّ الجلاد (13). ففكرنا فيما تمخّضت زبدة عزايمهم عنه، واجتمعت أهواهم وآراهم (14) عليه، فوجدناه مخالفا لما فى ضميرنا من أنباء (15) الخير العامّ الذى هو عبارة عن تقوية شعاير الإسلام، وأن لا يصدر عن أوامرنا-ما أمكننا-إلا ما يوجب حقن الدماء،

(2) القرآن 6:125 (3) والسلم: والسلام (5) إلى. . . الينا: كذا فى الأصل وم ف؛ فى ابن عبد الظاهر، تشريف الأيام، ص 6 «إلى أن أفضى بعد أبينا الجيد وأخينا الكبير نوبة الملك إلينا» (5_) وأفضا: وأفضى (6) وجلى: وجلا (8) قوريلتالى: قوريلتاى--آراى: آراء (9) ومقدّموا: ومقدّمو (13) الصم الجلاد: كذا فى الأصل وم ف؛ فى ابن عبد الظاهر، تشريف الأيام، ص 7 «صمّ الصلاد» (14) أهواهم وآراهم: أهواؤهم وآراؤهم (15) أنباء: كذا فى الأصل وم ف؛ فى تشريف الأيام «اقتناء» --شعاير: شعار

وتسكين الدهماء، ويجرى به فى الأقطار رجاء (1) تسليم الأمن والأمان، وتستريح به المسلمون فى ساير الأقطار (2) فى مهاد الشفقة والإحسان، تعظيما لأمر الله، وشفقة على خلق الله. فألهمنا الله تعالى إطفاء تلك النايرة، وتسكين الفتن الثايرة، وإعلام من أشار بذلك الرأى بما أرشدنا الله اليه: من تقديم ما يرجى به شفاء مزاج العالم من الأدواء، وتأخير مما (5) يجب أن يكون آخر الدواء. وإننا لا نحبّ المسارعة (224) إلى هزّ النصال للنضال (6) إلا بعد إيضاح الحجة، ولا نأذن لها إلا بعد تبيين الحقّ وتركيب الحجّة. وقوّى عزمنا على ما ريناه (7) من دواعى الصلاح، وتنفيذ ما ظهرنا (8) به من وجوه النجاح، إذكار شيخ الإسلام قدوة العارفين كمال الدين عبد الرحمن-الذى هو نعم العون لنا فى أمورنا-أشار بذلك رحمة من الله لمن دعاه، ونقمة على من أعرض عنه وعصاه، فأنفذنا أقضى القضاة قطب الدين، والأتابك بهاء الدين، إذ هما من ثقاة (11) هذه الدولة الزاهرة والمملكة القاهرة، ليعرفاهم طريقتنا، ويتحقق عندهم ما تنطوى عليه لعموم المسلمين [جميل] (13) نيتنا. وبيّنّا لهم أننا من الله على بصيرة، وأن الإسلام يجبّ ما قبله، وأن الله تعالى ألقى فى روعنا أن نتبع الحق وأهله. ويشاهدون نعمة الله على الكافّة بما دعانا اليه من تقديم أسباب الإحسان، فلا يحرموها [بالنظر إلى سالف الأحوال] (16) ف‍ {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (17). فإن تطلّعت نفوسهم إلى دليل يستحكم بسببه دواعى الاعتماد؛

(1) رجاء تسليم: كذا فى الأصل وم ف؛ فى ابن عبد الظاهر ص 7 «رخاء نائم» (2) الأقطار: الأمصار، م ف (5) مما: ما (6) هز النصال: فى الأصل وم ف «هذه المضال» والصيغة المثبتة من ابن عبد الظاهر ص 7 - -الحجة: كذا فى الأصل وم ف؛ فى ابن عبد الظاهر «المحجة» (7) ريناه: رأيناه (8) ما ظهرنا: انظر فى ابن عبد الظاهر ص 7 «ما ظهر لنا» --إذكار: فى الأصل «ادكان»؛ انظر ابن عبد الظاهر (11) ثقاة: ثقات (13) أضيف ما بين الحاصرتين من م ف وابن عبد الظاهر ص 8 (16) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن عبد الظاهر ص 8 (17) القرآن 55:29

وحجّة نبلغ بها غاية المراد، فلينظر (1) إلى ما ظهر من أمرنا، ممّا اشتهر خبره، وعمّ أثر. فإننا ابتدأنا-بتوفيق الله تعالى-بإعلاء أعلام الدين وإظهاره فى إيراد كلّ أمر، وإصداره، وإقامة نواميس الشرع المحمّدى على مقتضى [قانون] (4) العدل الأحمدى، إجلالا وتعظيما، وتبجيلا وتكريما. وأدخلنا السرور على قلوب الجمهور، وعفونا عن كلّ من اجترح سيئة أو اقترف، قابلناه بالصفح وقلنا: عفا الله عما سلف. وتقدمنا بإصلاح أمور أوقاف المسلمين من المساجد والمشاهد والمدارس وعمارة بقاع البرّ والربط الدوارس، وإيصال حاصلها بموجب عوايدها القديمة على القاعدة المستقيمة لمستحقّها بشروط واقفها (225) بعد إصلاح تالفها. ومنعنا أن يلتمس شئ مما استحدث عليها، ولا يغيّر (10) شئ مما قرّر أولا فيها، وأسند إليها. وأمرنا بتعظيم أمر الحاجّ، وتأمين سبلها فى ساير الفجاج، وتجهيز وفدها وإطلاق سبلها، وتسيير قوافلها، وتسهيل فعلها. وأطلقنا أيضا سبيل التجار، الذين هم عمارة ساير الأمصار، وكذلك المتردّدين إلى البلاد ليسافروا بحسب اختيارهم تطمينا للعباد، آمنين على أنفسهم من حوادث الفساد. وحرّمنا على العساكر والقراول والشحانى فى الأطراف التعرّض بهم فى مصادرهم ومواردهم، وأن يمشون (15) حيث شاؤا (16) على أحسن ما كانت عادتهم من قواعدهم. وقد كان صادف قراول لنا جاسوسا فى زىّ الفقر (17). كان سبيل مثله أن يهلك، إذ سعا (18) إلى حتفه قدمه، فلم نهرق دمه، تحرمة مّا حرّم الله تعالى. ولا يخفى عنهم

(1) فلينظر: فلينظروا، م ف (4) أضيف ما بين الحاصرتين من م ف وابن عبد الظاهر (10) ولا يغير: وان لا يغير، م ف (15) يمشون: يمشوا (16) شاؤا: شاؤوا (17) الفقر: الفقير، م ف (18) سعا: سعى--تحرمة: كذا فى الأصل وم ف؛ فى ابن عبد الظاهر ص 9 «لحرمة»

ما كان فى إنفاذ الجواسيس من الضرر العامّ للخاصّ والعامّ من فقراء المسلمين وعباد الله الصالحين. فإن عساكرنا طال ما (2) رأوهم فى زىّ الفقراء والنسّاك وأهل الصلاح، فساءت ظنونهم حتى قتلوا من قتلوا من هذه الطوايف بغير حرمة ولا جناح. فإذا ارتفعت الحاجة بحمد الله تعالى إلى ذلك، تأمنت الطرق والمسالك، وتردّد التجار وغيرهم، وتطمأن (5) القلوب من الفكر فى هذه الأمور، ويأمن ساير الجمهور. وترتفع دواعى المضرة، التى كانت توجب المخالفة، فإنها إن كانت بطريق الدين والذبّ عن حوزة المسلمين، فقد ظهر بفضل الله تعالى فى دولتنا الفوز (7) المبين. وإن كانت لما سبق من الأسباب، ممن يجرى (8) الآن طريق الصواب، ف‍ {إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ} (9). (226) والآن فقد رفعنا الحجاب، وعرّفناهم ما عزمنا عليه بنية خالصة لله تعالى، لنعلم ما عندهم من الجواب. وحرّمنا على جميع عساكرنا العمل بخلافها، لنرضى الله والرسول، ويلوح على صفحاتها آثار الإقبال والقبول، وتستريح من اختلاف الكلمة هذه الأمه، وتنجلى بنور الإسلام (13) ظلمة الاختلاف والغمّة. فتسكن فى سابغ ظلها البوادى والحواضر، وتقرّ القلوب التى بلغت من الجهد الحناجر، وتعفى عن ما (14) سلف من الهنات والجراير، ونريح المسلمين من فكر تفتّت المراير. فإن وفّق الله سلطان مصر لاختيار ما فيه صلاح العالم، وانتظام أمور بنى آدم، فقد وجب علينا التمسك بالعروة الوثقى، وسلوك الطريقة المثلى، بفتح أبواب الطاعات والإنجاد (18)، وبذل الإخلاص بحيث تنعمر الممالك والبلاد. وتسكن الفتنة الثايرة،

(2) طال ما: طالما (5) وتطمأن: وتطمئنّ (7) الفوز: كذا فى الأصل وم ف؛ فى ابن عبد الظاهر ص 9 «النور» (8) ممن يجرى: كذا فى الأصل وم ف؛ فى ابن عبد الظاهر ص 9 «فمن تحرّى» (9) القرآن 38:25 (13) الإسلام: كذا فى الأصل؛ فى م ف وابن عبد الظاهر ص 9 «الائتلاف» (14) عن ما: عما (18) والإنجاد: كذا فى الأصل؛ فى م ف وابن عبد الظاهر ص 10 «والاتحاد»

وتغمد السيوف الباترة، وتحلّ الكافّة أرض الهوينا وروض الهتون (1)، وتخلص أرقاب (2) المسلمين من أغلال الذلّ والهون. فالحمد لله على الموافقة وإخماد البارقة. وإن غلب سوء الظنّ بما تفضل به واجب (3) الرحمة، ومنّع من معرفته قدر هذه النعمة، فقد شكر الله مساعينا، وأبلى عذرنا مقبولا {وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (5). والله الموفق للرشاد والسداد، وهو الممتنّ على البلاد والعباد، وحسبنا الله وحده. كتب فى أوسط جمادى الأولى. سنة إحدى وثمانين وستمايه». الجواب إنشا محيى (8) بن عبد الظاهر-رحمه الله-عن السلطان الملك المنصور: «بسم الله الرحمن الرحيم. بقوه الله تعالى، بإقبال دولة السلطان الملك المنصور. كلام قلاوون إلى السلطان أحمد بن هلاوون. أمّا بعد: (227) حمد الله الذى أوضح لنا وبنا الحق (11) منهاجا، وجاء بنا فجاء نصر الله، ودخل الناس فى الدين أفواجا. والصلاة على سيدنا محمد الذى فضّله الله على كلّ نبىّ نجا (13) به أمته، وعلى آله وصحبه وعترته. فقد وصل الكتاب الكريم المتلقّا (14) بالتبجيل والتكريم، المشتمل على النبأ العظيم، من دخوله فى الدين، وخروجه عمن سلف من العشيرة والاقربين. ولما فتح هذا الكتاب بهذا الإخبار، عطر شذاه حتى ملأ الأقطار. فالحمد لله على الإسلام المعلّم المعظّم والحديث الذى صح عند الإسلام إسلامه، وأصحّ الحديث ماروى عن مسلم.

(1) الهتون: فى م ف وابن عبد الظاهر ص 10 «الهدون» (2) أرقاب: رقاب (3) واجب: كذا فى الأصل وم ف؛ فى ابن عبد الظاهر «واهب» (5) القرآن 17:15 (8) محيى: محيى الدين (11) الحق: كذا فى الأصل وم ف؛ بينما فى ابن عبد الظاهر، تشريف الأيام، ص 10 «للحقّ» (13) نجا: نجىّ (14) المتلقا: المتلقى

وتوجّهت الوجوه بالدعاء إلى الله سبحانه ان تبثّه (1) على ذلك بالقول الثابت، وأن ينبت حبّ هذا الدين فى قلبه كما أنبته أحسن النبت من أزكى المنابت. وحصل التأمّل والفضل (3) المبدأ بذكره من حديث إخلاصه إليه فى أول العمر، وعنفوان الصبا إلى الإقرار بالوحدانية، ودخوله فى الملّة المحمّدية، بالاسم والقول والعمل والنيّة، فالشكر لله على أن شرح صدره للإسلام، وألهمه شريف هذا الإلهام، كحمدنا لله على أن جعلنا من السابقين الأولين لهذا الدين، وإلى هذا المقال، والمقام، وثبّت أقدامنا فى كلّ موقف اجتهادا وجهادا، وفعلا واعتمادا. وأما إفضاء النوبة فى الملك وميراثه بعد والده وأخيه الكبير إليه، و [إفاضة] (8) جلابيب هذه النعمة عليه، وتوقّله الأمر بالتى (9) طهّرها إيمانه، وأظهرها سلطانه، فلقد أورثها الله من اصطفاه من عباده، وصدّق المبشّرات له من كرامة أولياء الله وعبّاده. وأمّا حكاية اجتماع الإخوان والأولاد والأمراء الكبار والعساكر وزعماء البلاد فى مجمع قورلتالى (12) الذى تنقدح فيه زند الآراء، وأنّ كلمتهم اتفقت (228) على ما سبقت به كلمة أخيه الكبير فى إنفاذ العساكر إلى هذا الجانب، وأنه فكّر فى ما (14) اجتمعت عليه آراؤهم، وانتهت إليه أهواهم، فوجده مخالفا لما فى ضميره؛ إذ قصده الصلاح ورأيه الإصلاح، وأنّه أطفى (15) تلك النايرة وسكن تلك الثايرة. فهذا فعل الملك المتّقى، المشفق من قومه على من بقى، المفكّر فى العواقب بالرأى الثاقب، وإلاّ فلو تركهم ورأيهم حتى تحملهم الغرّة لكانت هذه الكرّة هى الكرّة. لكن هو ل‍ {مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى} (18) ولم يوافق قول، ولا هوى.

(1) يتبثه: يثبته (3) والفضل المبدأ: كذا فى الأصل وم ف؛ فى ابن عبد الظاهر ص 11 «وللفضل المبتدأ» (8) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن عبد الظاهر ص 11 (9) الأمر بالتى: كذا فى الأصل وم ف؛ فى ابن عبد الظاهر «الأسرّة التى» (12) قورلتالى: قورلتاى (14) فى ما: فيما--أهواهم: أهواؤهم (15) أطفى: أطفأ (18) القرآن 79:40 - -قول: قولا

وأما القول فيه: إنّه لا يحبّ المسارعة إلى المقارعة، إلاّ بعد إيضاح المحجّة وتركيب الحجّة، فبانتظامه فى سلك الإيمان صارت حجّتنا وحجّته المتركّبة على من غدت طواغيته عن سلوك هذه المحجّة متنكّبة. فإن الله سبحانه والناس كافّة قد علموا أن قيامنا إنّما هو لنصر هذه الملّة، وجهادنا واجتهادنا، إنّما هو على الحقيقة لله. وحيث قد دخل معنا فى الدين هذا الدخول، فقد ذهبت الأحقاد وزالت الذحول، وبارتفاع المنافرة تحصل المضافرة. فالإيمان كالبنيان يشدّ بعضه بعض (6)، ومن أقام مناره فله أهل بأهل فى كل مكان، وجيران بجيران فى كل أرض. وأمّا ترتيب هذه القواعد الحميدة على إذكار (8) شيخ الإسلام، قدوة العارفين، شجاع (9) الدين عبد الرحمن-أعاد الله من بركاته-قد أشار، فانّه نعم المستشار، فلم ير لولى قبله كرامة كهذه الكرامة. والرجاء ببركته وبركة الصالحين أن تفتح دار السلام وكلّ دار للإسلام وهى دار إقامة، حتى يتم شرايط الإيمان، ويعود شمل الإسلام مجتمعا كأحسن ما كان. ولا ينكر لمن لكرامته هذا الابتداء والتمكين فى الوجود أنّ كلّ حقّ إلى نصابه [ببركته] (13) يعود. (229) واما إنفاذ قاضى القضاة قطب الدين، والأتابك بهاء الدين المؤثرون (14) فى نقلهما رسايل هذه البلاغة، فقد حضرا وأعادا من ألفاظهما من كلّ قول حسن ممّا يزهوا (16) بحسنه على الصياغة، ومن كلّ ما يشكر ويحمد ويتعنعن حديثها فيه عن مسند أحمد.

(6) بعض: بعضا (8) إذكار: فى الأصل وم ف «ادكان» (9) شجاع الدين: كذا فى الأصل وم ف؛ فى ابن عبد الظاهر ص 12، وفى بيبرس المنصورى، زبدة الفكرة فى تاريخ الهجرة (مخطوطة المتحف البريطانى 1233) ج‍ 9 ق 134 ب (انظر أيضا ملحق 7 لسلوك المقريزى، ج‍ 1 ص 977 - 984) «كمال الدين»، انظر ما سبق ص 251:8 (13) أضيف ما بين الحاصرتين من م ف (14) المؤثرون: المؤثرين: فى ابن عبد الظاهر ص 12 «الموثوق» (16) يزهوا: يزهو

وأمّا الإشارة إلى أن النفوس إن كانت تتطلّع إلى إقامة دليل، يستحكم بسببه دواعى الودّ الجميل، فلينظر إلى ما ظهر من مآثره، فى موارد الأمر ومصادره من العدل والإحسان، بالقلب واللسان، والتقدم بإصلاح الأوقاف والمساجد والربط والمشاهد، وتسهيل السبل للحاج؛ فهذه صفات من لملكه الدوام. فلما ملك عدل، ولم يرجع إلى لؤم من عدى (5) ولا [لوم من] عذل، على أنها وإن كانت من الأفعال الحسنة والمثوبات التى تستنطق بالدعاء الألسنة، فهى واجبات تؤدّى، وقربات بمثلها يبدّا (7). وهو أكبر من أنه بإجراء [أجر] غيره يفتخر، وعليه يقتصر. إنما تفتخر الملوك الأكابر بردّ ممالك على ملوكها، ونظم ما كانت عليه من حسن سلوكها. وقد كان والده فعل شئ (9) من ذلك مع الملوك السلجوقيّة وغيرهم، وما كان أحد أخذ بدينه دين (10)، ولا دخل معه فى دين. واقرّ بهم فى ملكهم، بعد ما زحزحهم عن ملكهم (11). ويجب عليه أنه لا يرى حقّا مغتصبا ويأبا إلاّ ردّه، ولا باعا ممتدّا بالظلم ويرضى إلاّ صدّه، حتى ان أسباب ملكه تقوى، وأيّامه تتزيّن بأفعال التقوى. وأمّا تحريمه على الشحانى والعساكر والقراولات فى الأطراف [التعرّض] (13) إلى (14) الآخذ بالأيدى عن الأذى، وإصفاء موارد الواردين من شوايب العدا، فمن حين بلغنا أن تقدّموا بمثل ذلك، تقدّمنا أيضا بمثله، وقابلنا الجميل بالجميل من فعله. وأمرنا سائر النوّاب بالرحبة والبيرة (230) وعين تاب بأطراف ممالكنا بالكفّ عنما

(5) عدى: عدا--أضيف ما بين الحاصرتين من م ف، وابن عبد الظاهر ص 13 (7) يبدا: يبدّى--أضيف ما بين الحاصرتين من ابن عبد الظاهر ص 13 (9) شئ: شيئا (10) دين: دينا--بعد ما: كذا فى الأصل، فى ابن عبد الظاهر «وما» (11) ملكهم: فى الأصل «ملكم» --ويأبا: ويأبى (13) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن عبد الظاهر ص 13 (14) إلى. . . الأذى: كذا فى الأصل؛ فى ابن عبد الظاهر «إلى أحد بالأذى» -- العدا: العدى

كففتم عنه، وأن نسدّ هذا الباب. وإذا اتحد الإيمان وانعقدت الأيمان، تحتم هذه الحكاية، وترتب جميع الأحكام ممّا يجوز فى مجالس الحكّام. وأمّا الجاسوس الفقير الذى أمسك وأطلق، وكان سبيله أن يهلك، وأنّ بسبب من تزيّا من الجواسيس بزىّ الفقراء قتل جماعة من الفقراء، الصلحاء رجما بالظنّ، فهذا باب من تلقى (5) ذلك الجانب كان فتحه، وزند من ذلك الطرف كان قدحه. وكم من مزىّ (6) بزىّ الفقر من ذلك الجانب سيّروه، وإلى الاطّلاع سوّروه، ممّا ظفر منهم بجماعة كبيرة، فرفع عنهم السيف، ولم يكشف ما غطّوه بخرقة الفقر بكم (7) ولا كيف. وأمّا الإشارة التى أنّ باتّفاق الكلمة تنجلى ظلمة الاختلاف، وتدرّ بها من الجراير (9) الأخلاف، ويكون بها صلاح العالم، وانتظام شمل بنى آدم. فلا رادّ لمن فتح باب الاتّحاد وجنح للسلم، فقد جاد وما حاد. ومن ثنا (10) عنانه عن المكافحة كان كمن مدّ يده للمصافحة للمصالحة. والصلح وإن يكن سيّد الأحكام من أمور تبنى عليه قواعده، ويعلم من مداولته (12) فوايده. فالأمور المسطّرة فى كتابه هى كلّيات لازمة يعمر بها كلّ مغنى ومعلم. وثمّ أمور لا بدّ أن تعقد وتحكم، وفى سلكها عقود العهود تنظم، قد يحملها لسان المشافهة التى إذا وردت أقبلت عليها إنشاء الله النفوس، وأحرزتها صدور الرسايل كأحسن ما تحرز سطور الطروس. وأمّا الإشارة إلى قوله تعالى {وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (16)، فما على هذا النسق السبيل ينهج، ولا الودّ ينسج، بل الأفضل للمقدم فى الدين [و] (18) نصره عهود ترعا، وإفادات تستدعى. وما برح الفضل للأوّلية، وإن تناها

(5) تلقى: تلقاء (6) مزىّ: متزىّ--مما ظفر: فى ابن عبد الظاهر ص 14 «وأظفر الله» (7) بكم: كذا فى الأصل وم ف؛ فى ابن عبد الظاهر ص 14 «بلم» (9) الجراير: فى ابن عبد الظاهر ص 14 «الخيرات» (10) ثنا: ثنى (12) مداولته: فى ابن عبد الظاهر ص 14 «مدلوله» (16) القرآن 17:15 (18) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن عبد الظاهر ص 15 - -ترعا: ترعى--تناها: تناهى

العدد (231) الواحد (1) الأول. ولو تأمّل مورد هذه الآية أنها فى غير مكانها لتروّى وتأوّل. وعند ما انتهينا إلى جواب ما لعلّه يجب عنه الجواب من فصول الكتاب، سمعنا المشافهة التى على لسان أقضى القضاة قطب الدين، فكانت مما تناسب ما فى الكتاب من دخوله فى الدين، وانتظام عقده بسلك المؤمنين، وما بسطه من معدلة وطحسان، مشكور بلسان كلّ إنسان. فالمنّة لله على ذلك، فلا يشبها منه بامتنان. وقد أنزل الله على رسوله فى حقّ من امتنّ بإسلامه {قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ} (8). ومن المشافهة أن الله قد أعطاه من العطاء ما أغناه عن امتداد الطرف إلى ما فى يد غيره من أرض وماء من ممالك فسيحة تروى الظمأ، فإن حصلت للرغبة الموافقة، فالأمر حاصل. فالجواب أن ثمّ أمور (11) متى حصلت حصلت الموافقة، وابتنى على ذلك حكم المصاحبة والمصادقة، ورأى الله تعالى والناس كيف يكون تصافينا، وإذلال عدونا وإعزاز مصافينا، فكم من صاحب وجد حيث لا يوجود الأب والأخ والقرابة. وما تمّ هذا الدين فى صدر الإسلام إلاّ بمظافرد (14) الصحابة. وإن كانت له رغبة مصروفة إلى الاتّحاد، وحسن الإعتقاد، وكبت الأعادى ولأضداد، والاستناد إلى من يشدّ به الأزر عند الستناد-والرأى إليه فى ذلك. ومن المشافهد إن كانت الرغبة ممتدّة الأمل إلى ما فى يده من أرض وماء، فلاح حاجة إلى إنفاذ المغيرين الذين يؤذون المسلمين بغير فائدة. فالجواب عنه أنه إذا كفّ كفّ العدوان، وترك المسلمين وما لهم من ممالك، سكتت الدهماء

(1) الواحد: للواحد، انظر ابن عبد الظاهر ص 15 (8) القرآن 49:17 (11) أمور: أمورا (14) بمظافرة: بمضافرة، انظر ابن عبد الظاهر ص 15

وحقنت الدماء. وما أحقّه بأن لا ينه عن خلق (1) ويأتى مثله، (232) ولا يأمر ببرّ ويثنى (2) فعله. فهذا قنغرطاى بالروم، وهى بلاد فى أيديكم وخراجها يجبى إليكم، وقد سفك فيها وقتل (3)، وسبا وهتك، وأباع الأحرار، وأبا إلاّ التمادى على الإضرار والإصرار. ومن المشافهة أنّه إذا حصل التصميم على أن لا تبطل هذه الغارات ولا تغيّر هذه الإثارات، يعيّن مكانا يكون فيه اللقاء، ويعطى الله تعالى فيه النصر لمن يشاء. فالجواب عن ذلك أن الأماكن التى اتّفق فيها الملتقى للجمعان (7) مرّة ومرّة ومرّة قد عاف مواردها من سلم من أوليك القوم، وخاف أن يعاودها فيعاوده مصرع ذلك اليوم. فوقت اللقاء لا يحصر، وما النصر إلاّ من عند الله، فلا يقدر. ولا نحن ممّن ينتظر فلتة، ولا ممّن له إلى غير ذلك لفتة. وما أمر الساعة بالنصر إلاّ كالساعة التى لا تأتى إلا بغتة. والله الموفّق لما فيه صلاح هذه الأمّة والقادر (11) على إتمام كلّ خير ونعمة». وفيها فى خامس عشر ربيع الآخر توفى الصاحب نجم الدين بن الأصفونى رحمه الله. وفيها توفى القاضى شمس الدين بن خلكان صاحب التاريخ الحسن رحمه الله. وفيها استقرت الهدنة بين السلطان وبين أهل عكا مدة عشره (15) سنين.

(1) لا ينه عن خلق: فى الأصل «لا يابا [كذا] خلق [كذا]»، والصيغة المثبتة من بيبرس المنصورى، زبدة الفكرة، ج‍ 9 ق 136 ب (2) ويثنى: كذا فى الأصل وم ف؛ فى ابن عبد الظاهر ص 16 «وينسى» (3) وقتل: كذا فى الأصل وم ف؛ فى ابن عبد الظاهر ص 16 «وفتك» --وسبا: وسبى--وأبا: وأبى (7) للجمعان: للجمعين (11) والقادر: فى الأصل «والقاد» (15) عشره: عشر

ذكر [حوادث] سنة اثنتين وثمانين وستمايه

ذكر [حوادث] سنة اثنتين وثمانين وستمايه النيل المبارك فى هذه السنه: الما القديم (2). . . مبلغ الزياده سبع عشر دراعا وثمانيه اصابع. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (5) العباس امير المومنين. والسلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون الالفى، سلطان الاسلام. وكدلك ساير الملوك المقدم دكرهم فى السنين الخاليه على ممالكهم. (233) دكر وصول الشيخ عبد الرحمن دمشق فيها وصل الشيخ عبد الرحمن الى دمشق ليله الثلاثا ثانى عشر دى الحجه من هده السنه، فانزلوه بالقلعه بدمشق، واطلق له فى كل يوم ألف درهم نقره. وكان فى صحبته مايه وخمسين نفر (11)، وحضر فى خدمته ابن التيتى وزير صاحب ماردين. وكان هدا الشيخ عبد الرحمن له عند السلطان احمد اغا صوره عظيمه. وكان يركب فى ساير بلاد الشرق بالجتر على راسه، وسير يقول: «ما ادخل الى بلادكم وامشى الا بالنهار واجتر على راسى». فلما وصل الى الفراه (14)، سيروا اليه من حلب جمال الدين اقوش الفارسى فى عسكر يتلقونه. فلما عدا الفراه (15) وصار فى برّهم، ساروا به فى الليل، فأراد الرجوع، فلم يمكنوه وأغلظوا عليه فى القول، ولم يمكنوه من رفع الجتر. وأقام بدمشق الى ان هلت سنه ثلث وثمانين وستمايه، حسبما ياتى من تتمه خبره فيها.

(2) القديم. . .: بياض فى الأصل--سبع: سبعة (5) ابى: أبو (11) وخمسين نفر: وخمسون نفرا (14) الفراه: الفرات (15) عدا الفراه: عدى الفرات.

ذكر [حوادث] سنة ثلث وثمانين وستمايه

ذكر [حوادث] سنة ثلث وثمانين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم (2). . . مبلغ الزياده سبع عشر دراعا وثلثه اصابع. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (5) العباس امير المومنين. والسلطان الملك المنصور، سلطان الاسلام. والملوك بحالهم. (7) [من الأصل: وفى هده السنه، اعنى سنه ثلث وثمانين وستمايه، جاء سيل عظيم الى دمشق، وغرق بها عالم كثير، كما يدكر من امره فى تاريخه ان شا الله تعالى] (8). وتوجه السلطان من الديار المصريه طالبا للشام، وكان اكثر سفره لأجل الاجتماع بالشيخ عبد الرحمن. وهدا الشيخ المدكور تلميد شيخ الاسلام موفق الدين الكواشى رضى الله عنه. وكان عبد الرحمن فى مبتدأ امره قد رباه الشيخ، واشتغل عليه وخدمه. ويقال انه علمه الاسم الاعظم، وليس بصحيح. ويقال انه اخد من كتب [الشيخ] (13) (234) كتاب فيه علم السيميا. والصحيح ما حكاه الشيخ احمد ابن محمد الجزرى (14)، قال: سيّر الشيخ موفق الدين الكواشى مع عبد الرحمن هدا كتاب السيميا وقال له: «امض بهدا الى الشط واغسله». فاخده واودعه عند من يثق به، وعاد الى الشيخ واخبره انه غسله. ثم بعد دلك اشتغل به وتمهّر فيه.

(2) القديم. . . بياض فى الأصل--سبع: سبعة (5) ابى: أبو (7 - 8) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (13) أضيف ما بين الحاصرتين من الجزرى، حوادث الزمان، مخطوطة جوتا 1561، ق 18 ب--كتاب: كتابا (14) انظر ترجمة الشيخ احمد بن محمد الجزرى ابن الصهيبى فى تاريخ الجزرى، مخطوطة جوتا 1560، ق 45 آ

ذكر قتلة الملك احمد اغا وتمليك ارغون بن ابغا بن هلاوون

ودخل [الشيخ عبد الرحمن] على الخواتين بهدا العلم، وحضى (1) عندهم، وحضى عند ام الملك احمد اغا. والتاف (2) به احمد اغا من صغره حتى ملك بعد اخيه ابغا، فحكم الشيخ عبد الرحمن فى جميع ممالكه، ورسم له انه لا يركب فى ساير الشرق جميعه الاّ بالجتر. وكان السلطان الملك المنصور-تغمده الله برحمته-قد قال من المشافهه على لسان القاضى قطب الدين الرسول: «ما اثق الا بالشيخ عبد الرحمن وحضوره الينا». فوصل الى دمشق حسبما دكرناه. وعند وصول السلطان دمشق وردت القصاد بالاخبار ان الملك احمد اغا قد قتل وتولى مكانه اخوه ارغون ابن (8) ابغا ابن هلاوون. ذكر قتلة الملك احمد اغا وتمليك ارغون بن ابغا بن هلاوون كان الملك احمد اغا قد سير خلف ارغون-ابن اخيه-عسكر (10)، وهو يوميد مقيم بخراسان، وكان ابوه ابغا قد تركه بخراسان. فلما تولى الملك أحمد، عصى عليه ارغون، ولم يدخل تحت الطاعه، فسير اليه عسكر كثيف (12) كسره، وأخد اسيرا. واتوا به الى عمه الملك احمد اغا، فاشاروا عليه بقتله، فانه كان ملعون كافر (13)، شديد الباس، فارسا لا يطاق. حكوا عنه انه كان يصفّون له سبع (14) اروس خيل، فيقول لهم: «ايهم تريدون اركب؟» فيشيروا (15) الى أيهم شاؤا، ولو آخر السبع فيقفز من الارض يصير على صهوته.

(1) وحضى عندهم وحضى: وحظى عندهنّ وحظى (2) والتاف: كذا فى الأصل والجزرى، مخطوطة جوتا 1561، ق 18 ب؛ بينما فى ابن الفرات ج‍ 7 ص 278:21 «وتألف» (8) ابن: بن (10) عسكر: عسكرا (12) عسكر كثيف: عسكرا كثيفا (13) ملعون كافر: ملعونا كافرا (14) سبع: سبعة (15) فيشيروا: فيشيرون--شاؤا: شاؤوا

وكان الملك احمد اغا كثير التغفل، قليل التدبير. فدخلوا (1) عليه الخواتين وقالوا: «كيف تقتل (235) ابن اخوك (2)، وتنقص عظمك؟». ولم يزالوا به حتى تركه وسلمه الى امير كبير من المغل، امير تومان، يسمى قرونه مترسما عليه. فعاد ارغون يؤانس دلك الامير ويستميله. فلما علم انه مال اليه قال له: «هدا عمى احمد اغا قد اسلم، وغيّر ما اسسه (5) جكزخان، وقد ارسل الى المسلمين يصالحهم. وان ثم هدا عملوا عليه المسلمين (6) حتى ما يخلى احد من المغل. وقد سير خلف الاكراد، ويريد يقطع لهم البلاد جميعها. وهو يريد ان يفنى عظم هلاوون والقان الكبير». وما زال يداهنه، حتى صغا (8) اليه وقال: «ان انا اطلقتك واجلستك على التخت، ايش تجعلنى؟» قال [أرغون]: «تكون انت الحاكم فى جميع المملكه، واكون انا بحكمك». فلما كان فى بعض الليالى اجتمع قرونه بجماعه من المغل الكبار الدين هم مشوشين (12) على احمد اغا، ولم يكونوا دخلوا فى دين الاسلام. ودكر لهم ما قاله ارغون له، فقالوا له: «جميع ما قاله ارغون صحيح، وأنت ان قمت معه كنا جميعنا معك». فتواعدوا الى الليله الثانيه، وقاموا فى الليل على عسكر احمد اغا واصحابه، فانهزموا منهم، ولم يعلموا ما الخبر. ثم انهم دخلوا على احمد اغا، فاخدوه من تخته، وقصفوا ظهره، وارموه على الطريق، واجلسوا ارغون عوضه من ساعته. واصبح الصباح، وجميع العساكر متفرقه مشتته. وعاد كل من سارع ودخل فى طاعه ارغون ابقوه، ومن خالفه قتلوه. واستقر الملك لارغون، وتوفى احمد اغا.

(1) فدخلوا: فدخلت--وقالوا: وقلن (2) اخوك: أخيك--يزالوا: يزلن (5) ما اسسه: فى الجزرى، حوادث الزمان، مخطوطة جوتا 1561، ق 19 آ Haarmann,Quellenstudien) ص 36:2)، وابن الفرات ج‍ 8 ص 3 «ياسة» -- ثم: تم (6) عملوا عليه المسلمين: عمل عليه المسلمون--احد: أحدا (8) صغا: أصغى (12) مشوشين: مشوشون

واما ما كان من السلطان الملك المنصور، فانه لما استقر بقلعه دمشق استحضر الشيخ عبد الرحمن فى الليل. وقد البس الف (2) وخمس مايه مملوك اقبيه حمر بكلاوت زركش وحوايص دهب، واوقد الف (3) وخمس مايه شمعه. واحضر الشيخ عبد الرحمن، ورفيقه الامير [صمداغو] (4)، وابن التيتى، وسمع رسالتهم، (236) واعادهم الى مكانهم. ثم احضرهم مره اخرا (5) وسمع كلامهم وردهم، ثم احضرهم ثالثه. فلما استوعب جميع كلامهم قال لهم بعد دلك: «ان صاحبكم قتل، وجلس مكانه ارغون بن ابغا». وكانوا انزلوهم فى دار رضوان بالقلعه، فنقلوهم الى بعض دور القلعه، وقللوا عنهم الراتب، وتركوا لهم ما يكفيهم. وقالوا لهم: «مهما كان معكم من اموال احمد اغا اعطونا»، فلم يعترفوا بشئ. فسير لهم شمس الدين سنقر الاعسر، وهو يوميد استادار، وقال: «قد رسم السلطان ان ينقلكم الى مكان اخر، فعزّلوا حوايجكم». فلما جمعوا حوايجهم، فتشوهم واخدوا منهم جمله كبيره. واخدوا من يد الشيخ عبد الرحمن سبحه لولو عده خمس مايه، قوّمت بجمله كبيره. واستقروا بعد دلك بالدار المدكوره. وفيها كان السيل بدمشق فى شهر شعبان المكرم، ودخل الى دمشق، واخرب شى كثير (15)، نظير دلك السيل المقدم دكره فى سنه تسع وستين وستمايه. وفيها عاد السلطان الى الديار المصريه. وفيها توفى الملك المنصور صاحب حماه. وهو الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقى الدين محمود بن الملك المنصور صاحب المناقب، والفاضل المقدم دكره ناصر الدين محمد بن تقى الدين عمر بن شاهنشاه ابن (19) ايوب ابن شادى ابن مروان

(2) الف: ألفا--حمر: حمرا (3) الف: ألفا (4) أضيف ما بين الحاصرتين من تاريخ ابن الفرات ج‍ 8 ص 6 (5) اخرا: أخرى (15) شى كثير: شيئا كثيرا (19) ابن: بن

ذكر بعض شئ من محاسنه رحمه الله

-المقدم دكرهم فى الجزء المختص بهم-ودفن بحماه. ووصل التقليد الى ولده الملك المظفر تقى الدين محمود على عاده ابيه ومستقر قاعدته، وان يكون اتابك عسكره الامير عز الدين ابو خرص، واستقر الامر كدلك. ذكر بعض شئ من محاسنه رحمه الله كان ملكا شجاعا مقداما بطلا جوادا سمحا، كثير البر والصدقه والمعروف (237) الى جميع الناس ممن يقصده خصوصا ارباب البيوت وابناء الناس ودوى الحاجات، وكان لا يبقى فى خزاينه شئ (7)، بل يستدين على دمته ويهب الناس، قليل الظلم والاذى، محبا للعلماء والفضلا. وكان يتتبع آثار محاسن جده وسميه فى افعاله الحميده. وكان اكثر العلماء والفضلاء مقيمين ببلده، وقد اجرا (9) عليهم الجرايات والجامكيات. وما من احد من فضلاء عصره إلاّ وصنّف فيه كتاب (10)، او مدحه بقصيده جيده. ملك حماه عند وفاه ابيه يوم السبت لثمانى (12) مضين من جمادى الاول سنه اثنتين واربعين وستمايه. وكان عمره يوم وفاته ثلث (13) وستين سنه (13_)، وشهر واحد، وثلثه عشر يوم (14)، فان مولده كان فى الساعه الخامسه من يوم الخميس الثامن والعشرين من ربيع الاول سنه اثنتين وثلثين وستمايه بقلعه حماه.

(7) شئ: شيئا--دمنه: ذمته (9) اجرا: أجرى (10) كتاب: كتابا (12) لثمانى: لثمان--الاول: الأولى (13) يوم وفاته ثلث وستين سنه. . .: كذا فى الأصل؛ فى تاريخ الجزرى، مخطوطة جوتا 1561، ق 75 ب (نشر Haarmann ص 46)، «يومئذ عشر سنين. . .» وهو تصحيف (13_) ثلث: ثلاثا-- وشهر واحد: وشهرا واحدا (14) يوم: يوما

وقام بتدبير مملكته الامير سيف الدين طغريل استادار والده، والمشير الشيخ شرف الدين عبد العزيز، والطواشى مرشد، والوزير بها الدين بن تاج الدين. والجميع يرجعون الى ما تأمر به الصاحبه غازيه خاتون والدته، ابنة السلطان الملك الكامل ابن العادل الكبير. (5) [قال ابن واصل ان مولانا السلطان الملك المنصور قلاوون-نوّر الله ضريحه- لما كان بالشام رفعت له عده قصص من اهل حماه فى حق الملك المنصور صاحبها. قال: فامر للامير سيف الدين بلبان الدوادار ان يجمعهم ويوصلهم للملك المنصور، ويحلف له انه لم يقف عليهم (7) ولا علم ما مضمونهم. فاوصلهم اليه، وحلف له انه ايضا لم يقف عليهم (8). قال: فتناولهم الملك المنصور، وامر بهم فاحرقوا جميعهم بالنار، ولم يقف ايضا عليهم (9) ولا علم من هم اربابهم. فانظر الى هدين الملكين الجليلين، ما اكرم طباعهما، وكيف نزها عن المكروه سماعهما، وموافقه الدوادار لمحاسن هده الآثار. نكته: كان فى عصر مولانا السلطان الشهيد الملك المنصور قلاوون-برّد الله ضريحه-الشيخ قطب الوقت ابراهيم ابن (10) معضاد الجعبرى-رضى الله عنه-فانفد رساله الى مولانا السلطان بسبب شى انكره بالديار المصريه. فقام فيه مولانا الشهيد وازاحه. فكان من دعى (14) الشيخ له ما هده نسخته: «اللهم ثبت قواعد ملكه، واجعلها كلمه باقيه فى عقبه». فاختصت هده الدعوه بمولانا السلطان الملك الناصر، خلد الله ملكه] (16) (18).

(5 - 18) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (7) يجمعهم ويوصلهم: يجمعها ويوصلها (8) عليهم: عليها--مضمونهم: مضمونها--فاوصلهم: فأوصلها (9) عليهم: عليها-- فتناولهم: فتناولها--بهم فاحرقوا جميعهم: بها فاحرقت جميعها (10) عليهم: عليها-- اربابهم: أربابها (14) ابن: بن--فانفد: فأنفذ (16) دعى: دعاء--ثبث: ثبت

ذكر [حوادث] سنة اربع وثمانين وستمايه

ذكر [حوادث] سنة اربع وثمانين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم (2). . . مبلغ الزياده سبع عشر دراعا واحد عشر اصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (5) العباس امير المومنين. والسلطان الشهيد الملك المنصور، سلطان الاسلام. والملوك بحالهم حسبما سقناه من دكرهم. وفيها سافر السلطان الملك المنصور طالبا للشام. (238) دكر فتح حصن المرقب دخل السلطان المنصور-رحمه الله-الى دمشق يوم السبت ثانى عشرين المحرم من هده السنه المباركه بجميع العساكر المصريه، ورسم بخروج عسكر دمشق الى نحو حصن المرقب. ثم نفد المناجنيق، ونزل عليها بالجيوش جميعها. ووقع الحصار والحرب، وقاس (12) الناس عليها شده عظيمه. ولم يزل الامير كدلك ثمانيه وثلثين يوم حتى يسر الله تعالى فتحها يوم الجمعه ثامن عشر ربيع الاول. وورد البشاير الى ساير القلاع والحصون. وورد الى دمشق المحروسه كتاب الى الامير شمس الدين، ما هدا نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذه المكاتبة إلى المجلس السامى الأمير شمس الدين- أدام الله عليه ورود التهانى، وخصّه من المبشّرات ما تعود بالسبع المثانى، وأسمعه من

(2) القديم. . .: بياض فى الأصل--سبع: سبعة (5) ابى: أبو (12) وقاس: وقاسى--يوم: يوما

البشاير ما يستوعب وصفه الألفاظ والمعانى-نعلمه بفتح المرقب الذى طال ما طاولته الهمم فقصرت، وحاولت على عقده التى نفث فيها كفرهم فعسرت. فما زلنا نحصرهم بكلّ منجنيق رماهم من حجارته بكلّ صاعقة، ونتبعه بكلّ سابقة ولا حقة، وبكلّ صايبة لأنفس تتلوا (4) عند معاينها {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ [الْمَوْتِ]}. واحتاطت بأردافه النقوب حتى انقلب (5) خصره من كثرة العلايق، وثقلت عن إسرار أسواره ما ظهر للخلايق. فما زالت السهام تشافههم بأسنّة النصول، وتكلّمهم حيث لا يوجد من غيرها للكلام وصول. فلما تعلقت أسوارها، وسلبت من معصم (8) أبراجها من الشرفات سوارها، وطرقتها طارقات الطوارق (9) ففتحت (239) أبوابها، وأبدت المعاول من عويل سكّانها، ما شققت عليه القلوب قبل أن تشقّ أثوابها. وزحفنا عليها، ولكن قياما على ظهور الخيل، وطاف بها من عساكرنا طوفان، لا قوة لمقاومة، ولا حيلة ولا حيل. وتسوّرنا أسوارها، فكان اندفاع الأسنّة فى النحور كما يندفع فى المسير السيل. وكان أنجاهم من الحى إلى القيد أسيرا، وأرجأهم من أعمل إلى طلب الأمان مسيرا. وكتابنا هذا وقد فتح الله علينا من هذا الحصن الفتح الأسنا (14)، والمنح الذى أنام العيون وسنا (15). لأنّ الإسلام المجاورين له كانوا من كفره فى اليم من الجور. وطال ما سرت سراياه فغدت وعادت على الفور. وما زالت الفرنج تطمعهم آمالهم انه لا يقصد لبعده، ولا ينازل لتحصّنه (17) بجبله الذى كمرسل صارم كيده من غمده، ولا يسلك غوره الوعول، ولا تعطى دحّاله لذوى الدخول إذنا فى الدخول، حتى جينا فافترشت

(4) تتلوا: تتلو--معاينها: معاينتها. انظر الجزرى، حوادث الزمان، مخطوطة جوتا 1560، ق 33 آ--القرآن 3:185؛21:35؛29:57 (5) انقلب خصره: كذا فى الأصل، فى الجزرى «اثقلت حصره» (8) معصم: فى الأصل «بعضهم»؛ انظر الجزرى ق 33 ب (9) الطوارق: كذا فى الأصل، فى الجزرى «الحوادث» -- المعاول: فى الأصل «المعاون»، انظر الجزرى (14) الأسنا: الأسنى (15) وسنا: وسنى (17) لتحصنه: فى الجزرى «لتحصينه»

سنابك جيادنا جباله، وافترشت فوارسنا أسده وأشباله. وملكنا أقطاره ملك استحقاق، وأدار (2) عليه بانتظامه فى ثغور الإسلام من صدق نطاق. وبعد أن كان يخشى ويرهب، أصبح بحلول الإيمان يرصا (3) ويطلب. فليأخذ من هذه البشرى حظه، ويتلوا (4) سور آياتها على المنابر، ليعلم خبرها كل باد وحاضر، والله الموفق بمنّه وكرمه». وكان النايب بالديار المصريه الامير علم الدين سنجر الشجاعى. فلما فتح المرقب كتب اليه القاضى المرحوم فتح الدين بن عبد الظاهر فى جمله مكاتبه يقول <من البسيط>: أصدرتها والعوالى فى الطلى تردوا (9) … فى موقف فيه ينسا الوالد الولد (240) وما نسيتك والأرواح سايلة … على السيوف ونار الحرب تتقّد ثم كتب اليه اخره بعد هدا التصدير يقول <من الكامل>: ولقد ذكرتك والحياة كريهة … والموت يرقب تحت حصن المرقب والبيض من خلل السهام كأنها … برق تألّق فى غمام صيّب والحصن من شفق الدروع كأنّه … عذراء ترفل فى رداء مذهب ساما (15) … السماء، فمن تطاول نحوه للسمع مسترقا رماه بكوكبى والموت يلعب بالنفوس، وخاطرى … يلهوا (16) بذكر حديثك المستعذب

(2) وأدار: فى الجزرى ق 33 ب «ودار» --صدق: فى الجزرى «حدق» (3) يرصا: يرصى، فى الجزرى «يرجى» (4) ويتلوا: ويتلو--سور آياتها: كذا فى الأصل، فى الجزرى «آيات سورها» (9) تردوا: ترد--ينسا: ينسى (15) ساما: سامى--بكوكبى: بكوكب (16) يلهوا: يلهو

(241) دكر المولد الشريف السلطانى الملكى الناصرى عز نصره بشاير النصر لاوحد ملوك العصر

ثم ان السلطان اقام على الحصن، ورتب جميع ما يحتاج اليه، وجرّد عليه جماعه من العسكر لاجل عمارته. وتوجه الى دمشق، فدخلها يوم الاثنين ثالث جمادى الاولى. وهدا حصن المرقب من الحصون المشهوره بالمنعه والتحصين، ولم يفتحه السلطان الشهيد صلاح الدين بن ايوب، ولا السلطان الشهيد الملك الظاهر، بل ادخره الله ان يكون فى صحيفه مولانا السلطان الشهيد الملك المنصور. وكان منه ضرر كبير على المسلمين. وحصل فى هده السنه المباركه الاستيلا عليه وعلى جميع اعماله، مثل بلنياس ومرقيّه وغيرهما. وهده مرقيه بلده صغيره على البحر قريب (9) من الحصن. وكان صاحبها قد بنا فى البحر برجا عظيما لا يرام ولا تصله حجاره منجنيق ولا سهام. واتفق حضور رسل صاحب طرابلس يطلبون مراحم السلطان ويتضرعون الى عفوه ويقصدون رضاه بما شا. فرسم لهم بخراب هدا البرج، واحضار من كان اسروه (12) من الجبليه. ففعل صاحب طرابلس دلك لمرضاه السلطان، وخوفا من السطوات الشريفه السلطانيه المنصوريه. (241) دكر المولد الشريف السلطانى الملكى الناصرى عزّ نصره بشاير النصر لاوحد ملوك العصر: [البشارة] الأوله (16) حدثنا الشيخ الصالح العارف القدوه شعبان الهروى المقيم كان بالجامع الاموى بباب الكلاسه بدمشق المحروسه فى سنه ثلث عشره وسبع مايه يوم الجمعه

(9) قريب: قريبة--بنا: بنى (12) من كان اسروه: فى الجزرى «من كان اسر» --الجبليه: كذا فى الأصل؛ فى الجزرى ق 33 ب «الجبيليين» (16) الاوله: الأولى

بعد الصلاه، ونحن جلوس فى حضرته، وقد اجرى ذكر مولانا السلطان الاعظم الملك الناصر ناصر الدنيا والدين محمد بن مولانا السلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون الالفى النجمى الصالحى، اعزّ الله بدوام ايامه الايام، كما اعزّ بخلود سلطانه الاسلام. قال: حدثنى الشيخ شرف الدين السنجارى التاجر السفّار قال: كنت بالموصل فى سنه اربع وثمانين وستمايه ليله النصف من شهر المحرم، وقد ظهر كوكب عظيم الشعاع له ثلاث دوايب (6) طوال الى جهه الغرب، والناس قيام ينظرون اليه. وكان فى الجمله عماد الدين بن الدهان ريس (7) المنجمين يوميد بالموصل، فسالوه (8) كبار الناس وانا اسمع: «مادا يدل عليه طلوع هدا الكوكب؟» فقال: «يا قوم، احدثكم بعجيب: هدا الكوكب، ظهر فى سنه عشرين واربع مايه، وله دوابتان (10) فى طول هولاء الدين ترونهم الثلث، فكان فى الثالثه قصر كثير، فولد فى دلك التاريخ المستنصر، خليفه مصر، فعاش سبع (11) وستين سنه، واقام خليفه ستين سنه، [وخطب له بمصر والشام والعراق] (12). ثم ان هدا الكوكب ظهر أيضا فى سنه تسعين واربع مايه، فكان دلك مولد عبد المومن صاحب الغرب، فعاش سبعين سنه، وملك خمسين سنه. وكان هدا الكوكب لما ظهر له دوابتان طوال (15)، كما تروهما هدا الوقت، والثالثه اطول من ثالثة المستنصر. ثم غاب فلم يظهر الاّ فى سنه ثلاث وخمسين وخمسين مايه، فكان دلك (242) مولد الامام الناصر لدين الله، خليفه بغداد، فعاش تسع (17) وستين سنه، واقام خليفه سبع واربعين سنه. وكانت الخطبه له فى ساير ممالك الاسلام بالدنيا. وهدا الكوكب فقد ظهر فى هدا الوقت، وله ثلاث دوايب كامله يدل على ان يولد فى هده الليله مولود سعيد يملك مصر والشام والعراق، ويعيش من العمر ثلاثه ثلثين ثلثين ثلثين؛

(6) دوايب: ذوائب (7) ريس: رئيس (8) فسالوه: فساله (10) دوابتان: ذؤابتان (11) سبع: سبعا (12) ما بين الحاصرتين مكتوب بالهامش (15) طوال: طويلتان-- تروهما: ترونهما (17) تسع: تسعا--سبع: سبعا

البشاره الثانيه

فان قد (1) جربنا كل دوابه من دوايب هدا الكوكب بمده ثلثين سنه حياه. فان نقص منهن شى، نقص من احدى الثلثين. وهولاء فنراهن كاملات، لا نقص منهن (2). فاعتبروا يرحمكم الله من يولد فى هده الليله». قال الشيخ السنجارى: فاعتبرنا دلك، فلم نجد غير مولد الملك الناصر صاحب مصر ولد فى تلك الليله المباركه. ودلك فى صباح يوم السبت المبارك خامس عشر (5) شهر المحرم سنه اربع وثمانين وستمايه. ووصلت البشاير لمولانا السلطان الملك المنصور، وهو نازل على خربة اللصوص متوجها الى المرقب. فكان من اول بركه مولده السعيد اخد هدا الحصن العظيم الدى عجزت عنه الملوك الاول. البشاره الثانيه حدث الشيخ الصالح العالم العامل الشيخ شمس الدين محمد بن قوام-قدّس الله روحه ونوّر ضريحه-فى سنه اثنتى عشره وسبعمايه لوالدى-سقى الله عهده-وانا اسمع، قال، وقد اجرى دكر مولانا السلطان-خلد الله نعمته، وجعل للاولياء حنوّه ورحمته، وللعداء (14) سطواته ونقمته-: لما كان السلطان بالكرك المحروس نوبة البرجيه، ودخل شهر شعبان المكرم، واخبار السلطان شايعه بقدوم ركابه الى دمشق، فلما كانت ليله النصف من شعبان، (243) والاخبار قد تزايدات، والناس (18 - 8)

(1) فان قد: فإنا قد (2) منهن: منها--وهولاء فنراهن: وهذه فنراها-- منهن: منها (5) خامس عشر: فى الجزرى، مخطوطة جوتا 1560، ق 48 آ «سادس عشر» (14) وللعداء: وللأعداء

البشاره الثالثه

بين مكدب ومصدق، قمت وقام الشيخ ابراهيم. وكان من عاده الشيخ محمد -رضى الله عنه-ادا اراد يتحدث بكلام ينسبه ويعزيه للشيخ ابراهيم، فيفهم منه انه هو لمن له به معرفه وصحبه. قال [الشيخ محمد]: فلما كان وقت الفجر الاول زنق الشيخ ابراهيم غمضه، ثم قال: «شيخ محمد». قلت: «لبيك». قال: «كنت الساعه فى مهد عيسى بالقدس الشريف، فرايت الامام على بن ابى طالب رضى الله عنه، وصحبته رجلين (6) سمر الالوان لا اعرفهما؛ فسلمت عليه وصافحته وقلت: من اين والى اين؟ فقال [الامام على]: من الحجاز لنعيد محمد بن قلاوون الى ملكه ثالث مره، فانه فاتح بغداد بعد كدا-وصفق بكفيه خمس مرات واثنى ثلاث (9) اصابع من كفه اليمين- فما للناس سلطان غيره»، يقول الشيخ ابراهيم. قال الشيخ محمد: فلما كان بكره النهار، حدثت الفقرا بدلك فبلغ محمد الادرعى (11)، فحضر الى عندى وسمع. ثم كتب بدلك عن نفسه للسلطان غفر الله له. قلت: هدا نص كلام الشيخ محمد بن قوام رضى الله عنه لوالدى رحمه الله وانا اسمع. البشاره الثالثه حدث الشيخ محمد بن قوام-رضى الله عنه-لوالدى-رحمه الله-وانا اسمع قال: «يا جمال الدين، هدا الملك الناصر هو الملك الثلاثى». فقال له الوالد: «كيف يا سيدى الملك الثلاثى؟» قال: «يملك ثلاث مرار، وثلاث (18) اقاليم، مصر والشام والعراق. ويعيش ثلثه ثلثين ثلثين ثلثين وثلث سنين، وثلثه اشهر، وثلثه جمع (19)،

(6) رجلين: رجلان (9) ثلاث: ثلاثة (11) الادرعى: الأذرعى (18) وثلاث: وثلاثة (19) وثلثه جمع: وثلاث جمع

(244) البشاره الرابعه

وثلثه ايام». فقال الوالد: «يا سيدى، هدا عن صفه ملحمه او ما يناسب دلك». فقال الشيخ: «لا اله الاّ الله، كيف لى بقبول الملاحم، (2) [انما هدا عن رجل مبارك لا اشك فى قوله».] (3) (244) البشاره الرابعه ودلك ما اورده العبد فى الجزء المختص بدكر بنى ايوب المسمى بالدر المطلوب فى اخبار ملوك بنى ايوب، وهو الجزء السادس من هدا التاريخ. وهو ما دكره الملك الكامل ناصر الدين محمد من ولد اسمعيل بن العادل، وهو الملك الصالح مجد الدين اسمعيل المعروف بابى الجيش. وتوفى هدا الملك الكامل المدكور فى سنه عشر الثلثين والسبع مايه (9). وقد تقدم من دكره ما يغنى عن اعادته هاهنا. ودلك ما كان من حديث السلطان صلاح الدين يوسف بن ايوب، لما امره الملك العادل نور الدين الشهيد-رحمه الله-فى ليله نصف شعبان بان يتوجه مع ولده الملك الصالح اسمعيل الى مغارة الجوع بجبل الصالحيه، وامرهما ان يحييا تلك الليله، ويحفظا ما يستمعانه وقت السحر. وان اسمعيل بن نور الدين نام، ولم يفعل ما امره به أبيه (14)، وان يوسف امتثل دلك، فسمع وقت الفجر الاول حس هفيف كهفيف طاير وقايل يقول من تلقايه: «الناصر للصليب كاسر، وللفرنج خاسر، وللقدس طاهر، من كل رجس فاجر؛ الظاهر بالله ظاهر، قاتل كل كافر، وللتتار قاهر، من كلّ فاجر وعاهر؛ الناصر النور الباصر، بالشرق ظافر، يطيها (18) بالخف والحافر، بعد ثلاث تواتر».

(2 - 3) ما بين الحاصرتين مكتوب بالهامش (9) عشر الثلثين والسبع مايه: المقصود به «سبع وعشرين وسبعمائة»، انظر Haarmann,Quellenstudien,S .032 (14) ابيه: أبوه (18) يطيها: يطؤها--ثلاث: ثلاثة

ذكر [حوادث] سنة خمس وثمانين وستمايه

فكان «الناصر» الاول السلطان صلاح. وسموا «الظاهر» ولده ليكون صاحب الرمز، فلم يكن إلا حيث شا الله انه الملك الظاهر البندقدارى. (245) وسموا «الناصر» داود، والناصر قليج ارسلان بن صاحب حماه، والناصر يوسف بن العزيز. فابا (4) الله ان يكون الاّ مولانا وسيدنا السلطان الملك الناصر. فان بنى ايوب تحيروا فى الرمز «بعد ثلاث ثواثر (5)» ما هى. فلما ملك السلطان ثلاث مرار متواثره، علم انه صاحب دلك الرمز، [والله اعلم] (6). وفيها يوم الاثنين [ثامن عشر جمادى الأولى] (7) توجه السلطان الشهيد الملك المنصور من دمشق عايدا للديار المصريه. فنزل على منزلة تل العجول، وخيّم عليها اشهر (9). ودخل الى القاهره يوم الثلثا تاسع عشرين شعبان المكرم. وفيها [فى رابع عشر ربيع الآخر] (10) توفى الامير علا الدين ايدكين البندقدار رحمه الله. ذكر [حوادث] سنة خمس وثمانين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم (13). . . مبلغ الزياده سبع عشره دراعا واربعه اصابع.

(4) فابا: فأبى (5) تواثر: تواتر--متواثره: متواترة (6) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (7) أضيف ما بين الحاصرتين من الجزرى، مخطوطة جوتا 1560، ق 48 آ (9) اشهر: أشهرا، فى الجزرى، مخطوطة جوتا 1560، ق 48 آ، وفى ابن الفرات ج‍ 8 ص 22 «مدّة» (10) أضيف ما بين الحاصرتين من الجزرى، ق 51 آ (13) القديم. . .: بياض فى الأصل

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بأمر الله ابى (2) العباس امير المومنين. والسلطان الشهيد الملك المنصور، سلطان الاسلام، مقيما (3) بالديار المصريه. وفيها توجه الامير حسام الدين طرنطاى، نايب السلطنه المعظمه بالديار المصريه، وصحبته اكثر الجيوش المنصوره من العساكر المصريه، الى نحو الكرك المحروس. وما برح هو و [بدر الدين] (6_) الصوابى يراسلوا صاحب الكرك (6) [الملك المسعود نجم الدين خضر] (7) ابن الملك الظاهر، وتوعدوه (7_)، ويفسدوا من عنده الى ان تسلم الكرك منه، ودلك فى اوايل شهر صفر. ثم توجه من الكرك الى نحو الديار المصريه، وصحبه (9) نجم الدين خضر، وجميع عيال السلطان الملك الظاهر رحمه الله، ودريته (10) واتباعه، كما فعل الملك الظاهر بالملك المغيث وعثرته وساير (246) أهله. ورتب فيها الامير حسام الدين طرنطاى جميع ما ازال بها ضروراتها، وانزل منها اكثر اهلها، واستخدم من القلاع ثلثمايه رجل، واستقر بهم فيها. وكان وصوله الى الديار المصريه بمن معه العشر الاخير من صفر. وخرج السلطان الى لقايهم، وانزلهم بالقلعه عنده، ورتب لهم راتبا كثيرا. وعادوا يركبون وينزلون مع الملك الصالح والملك الاشرف، اولاد السلطان. نكته جرت فى هده السنه. ودلك لما كان سابع عشر شهر صفر من هده السنه، ورد كتاب الى دمشق من الامير بدر الدين بكتوت العلايى الى الامير

(2) ابى: أبو (3) مقيما: مقيم (6_) أضيف ما بين الحاصرتين من تاريخ ابن الفرات، ج‍ 8 ص 35 - -يراسلوا: يراسلان (6 - 7) ما بين الحاصرتين مكتوب بالهامش (7_) وتوعدوه: ويتوعدانه--ويفسدوا: يفسدان (9) وصحبه: وصحبته (10) ودريته: وذرّيته--وعثرته: وعترته

حسام الدين لاجين ملك الامرا بدمشق-وكان العلايى مجرد (1) على حمص، وصحبته من عسكر دمشق الفى (2) فارس-يتضمن ما هدا نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم. يقبل الارض وينهى انه، لما كان بتاريخ يوم الخميس رابع عشر صفر سنه خمس وثمانين وستمايه وقت العصر، حصل بالغسولة الى جهه عيون القصب غمامه سودا شديده السواد، وارعدت رعدا كثيرا زايدا. ثم ظهر من تلك الغمامه السوداء شبه دخان اسود متصل بعنان السماء الى الارض (6)، ثم تصور من دلك صوره حيّه أصله فى مقدار العمد (7) الكبير الدى لا تحظنه الجماعه من الناس، وهى متصله بعنان السماء تلعب بدنبها (8)، فيتصل بالارض. تحمل الحجاره الكبار المقادير، وترفعها فى الهوى (9) كرمية السهم النشاب وازيد. وعند وقع الحجاره يلاطم بعضها ببعض، يسمع لها صوتا (10) هايلا من المكان البعيد. ولم يزل دلك مستمرا حتى اتصلت بطرف العسكر المنصور. وما صادفت شئ (11) إلاّ رفعته فى الهوى (12)، وحدفته (247) فى الجوء كرميه النشاب. واخدت شئ كثير من العدد مثل الجواشن، والسيوف، والتراكيش، والشاشات بكلاوتها، والاصطال (14) النحاس وغير دلك. وعاد جميع دلك طايرا فى الهوى كالعصافير الطايره. ومن جمله دلك انه [كان] (15) فى اصطبل المملوك خرج أديم ملا تطابيق نعال ومسامير بيطاريه حملته وحدفته كرميه النشاب. ومن جمله ما رفعت عده من الجمال قدر رمح واكثر، وحملت جماعه من الجند والغلمان. وتلف شئ كثير من العدد طحن طحنا.

(1) مجرد: مجرّدا (2) الفى: ألفا (6) متصل بعنان السماء الى الأرض: فى الجزرى، مخطوطة جوتا 1560، ق 55 ب «من السماء متصل بالأرض» (7) العمد: العمود--تحظنها: يحضنها (8) بدنبها: بذنبها (9) الهوى: الهواء (10) صوتا هايلا: صوت هائل (11) شئ: شيئا (12) الهوى: الهواء--الجوء: الجو--شئ كثير: شيئا كثيرا (14) والاصطال: والاسطال--الهوى: الهواء (15) أضيف ما بين الحاصرتين من الجزرى، ق 55 ب--ملا: انظر Dozy--ll 906 a

وضاع شى كثير للناس من سلاحهم وعددهم لمقدار مايتى نفر من الجيش. ثم غابت تلك الحيه فى الجو، وتوجهت نحو البريه بناحيه المشرق. ثم ان المملوك ركب وشاهد جميع دلك بعينه. ووقع بعد دلك مطر يسير. فلما كان دلك طالع به المملوك». وفيها توفى الشيخ شهاب الدين التلّعفرى الشاعر المشهور رحمه الله. فمن جمله شعره القصيده التى اولها يقول <من الخفيف>: أىّ دمع على الخدود أساله … إذ أتته مع النسيم رساله مرّ فيه (8) … والزهر أزهر زاه ساحبا فوق النسيم أذياله منها: أين تلك المراشف العسليا … ت وتلك المعاطف العسّاله وليال قضيتها كلآل (11) … بغزال تغار منه الغزاله ما كسانى ثوب السقام رقيق الن‍ … سج الاّ جفونه الغزّاله من بنى الترك كلّما جذب القو … س رأينا (13) فى وجهه بدر هاله يقع (14) … الوهم فما تدرى حين يرمى يداه امن عينه النبّاله وهى طويله، وهدا احسنها فدكرته، واختصرت باقيها.

(8) مرّ فيه: فى الأصل «مرقها»؛ ورد هذا البيت فى ديوان التلعفرى (ط. بيروت 1326) ص 36: مرّ فيه والروض زاه فأضحى ساحبا فوق نوره أذياله (11) كلآل: الأصل «كلاأل» (13) رأينا: فى الأصل «رأيت»، انظر الديوان (14) كذا فى الأصل؛ وورد البيت فى الديوان: أوقع الوهم حين يرمى فلم ند ر يداه ام عينه النباله

(248) ذكر [حوادث] سنه ست وثمانين وستمايه

(248) ذكر [حوادث] سنه ست وثمانين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم (2). . . مبلغ الزياده ثمان عشر دراعا فقط. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (4) العباس امير المومنين. والسلطان الملك المنصور، سلطان الاسلام. وفى اوايل هده السنه سير المناجنيق وآلات الحصار من دمشق الى صهيون. ثم خرج الامير حسام الدين طرنطاى بالعساكر المصريه، فوصل الى دمشق، ونزل بالقصر الابلق. ثم خرج وصحبته الامير حسام الدين لاجين ملك الامرا بعساكر الشام. فنزلوا على صهيون، وفيها يوميد الامير شمس الدين سنقر الاشقر. ولم تزل الرسل تتردد بينهم حتى حصل الاتفاق والتراضى. ونزل الامير شمس الدين سنقر الاشقر عن جميع ما كان فى يده من القلاع والحصون، وتسلمها الامير حسام الدين طرنطاى؛ وهى صهيون، مصيات (12)، الخوابى، شيزر. وحلفوا له انهم لا يدونه، وقرروا له اقطاع ثلاث امراء وزادوها خاصّا كبيرا. ثم رتب بهده الحصون نواب (13) ونقبا ورجال (14) واسبهسلاريه ومعتمدين، ورجعوا الى دمشق والامير شمس الدين صحبتهم. وكان دخولهم الى دمشق يوم الاحد سادس وعشرين ربيع الاول، ونزل الامير حسام الدين والامير شمس الدين، القصر الابلق. وثانى يوم طلب الامير حسام الدين طرنطاى اكابر دمشق، ورسم عليهم، وطالبهم باموال غيط (18) عليهم كونهم لم يكونوا خرجوا اليه ولا قدموا له شئ. ثم اخد خطوطهم ان متى خرج السلطان الى غزاة ساعدوه من اموالهم.

(2) القديم. . .: بياض فى الأصل--ثمان: ثمانية (4) ابى: أبو (12) مصيات: مصياث-- يدونه: يؤذونه (13) نواب: نوّابا (14) ورجال: ورجالا (18) غيط: غيظا--شئ: شيئا

ذكر [حوادث] سنة سبع وثمانين وستمايه

(249) ثم توجه الى الديار المصريه، وصحبته الامير شمس الدين سنقر الاشقر. فدخلا القاهره يوم السبت ثالث عشر ربيع الآخر. وخرج السلطان بنفسه الى لقايهما، واجتمع بالامير شمس الدين، وعانقه، وكارسه (3)، واقبل عليه، وكان يوما مشهودا. ثم اخلع عليه، وانعم عليه انعام (4) كثير. وفيها خرج السلطان فى شهر شعبان متوجها الى الشام فوصل غزه. واقام مده، ثم عاد الى مصر بالعساكر المصريه. ذكر [حوادث] سنة سبع وثمانين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم (8). . . مبلغ الزياده ثمان عشر دراعا، وثلث (9) اصابع. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (11) العباس امير المومنين. والسلطان الملك المنصور، سلطان الاسلام بمصر والشام الى حدود الفراه (12). وما ورا دلك فى مملكه التتار، والملك عليهم يوميد من الطايفه المجاوره للاسلام ارغون بن ابغا ابن (13) هلاوون. وباقى الملوك حسبما دكرناه قبل. وفى هده السنه سير السلطان الملك المنصور احضر الدماشقه، وسلمهم للامير علم الدين سنجر الشجاعى الوزير-وهو اول المكلوتين من الوزراء بمصر- فاستخرج منهم جمله مال. ثم ان الشاميين والمصريين اتفقوا على الشجاعى بمباطنه

(3) وكارسه: كذا فى الأصل (4) انعام كثير: إنعاما كثيرا (8) القديم. . .: بياض فى الأصل--ثمان: ثمانية (9) وثلث: وثلاثة (11) ابى: أبو (12) الفراه: الفرات (13) ابن: بن

ذكر [حوادث] سنة ثمان وثمانين وستمايه

بعض الامرا الكبار، واقاموا من بينهم شخص (1) يعرف بابن الجوجرى كاتبا. فرافع الشجاعى، فمسكه السلطان، وعصره بين يديه. واخد منه فى يوم واحد سبعه وعشرين الف دينار، ثم انه كمل خمسين الف دينار. ثم ولى الوزاره الامير بدر الدين بيدرا، وهو ثانى (250) المكلوتين من الوزرا بمصر. وفيها فى شهر رجب تجهز السلطان الملك المنصور بالعساكر طالبا للشام، ونزل مسجد التبن. وفوض امر الديار المصريه لولده الملك الصالح. فمرض الملك الصالح، وتعوّق السلطان بسببه. فاقام الى ليله الجمعه رابع شهر شعبان المكرّم، فتوفى الملك الصالح الى رحمة الله تعالى. وحصل على السلطان من الحزن ما لا يحدّ بقياس. ودفن فى تربه والدته المجاوره للسيده نفيسه رضى الله عنها. فلما كان يوم الاثنين حادى عشر شوال من هده السنه، سلطن السلطان الملك المنصور ولده السلطان الملك الأشرف صلاح الدنيا والدين خليل عوضا عن السلطان الشهيد الملك الصالح رحمه الله. وركب من قلعه الجبل المحروسه، وزينت له القاهره، وشقها من باب النصر الى باب زويله، وطلع القلعه راكبا فى دست المملكه. وكان يوما مشهودا، دقت البشاير ثلثه ايام، واخلع وانعم انعاما كثيرا. ذكر [حوادث] سنة ثمان وثمانين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم (16). . .: مبلغ الزياده سبع عشر دراعا وعشره اصابع.

(1) شخص: شخصا (16) القديم. . .: بياض فى الأصل--سبع: سبعة

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (2) العباس امير المومنين. والسلطان الملك المنصور، سلطان الاسلام. وتوجه طالبا للشام، فدخل دمشق يوم الاثنين ثالث عشر شهر صفر من هده السنه. فاقام الى العشرين منه، ووجه قدّامه المناجنيق وآلات الحصار الى نحو طرابلس. ذكر فتح طرابلس الشام (251) خرج السلطان الملك المنصور رحمه الله من دمشق العشرين من شهر صفر، فنزل على طرابلس، ورتب المناجنيق والحجارين برسم النقوب. حكى لى والدى (9) -رحمه الله-ان كان عده المناجنيق على طرابلس تسع عشر، منها افرنجيه ست (10)، وقرابغا ثلثه عشر. وكان عده الحجارين والزرّاقين الف وخمس مايه نفر. وكان مده الحصار لها اربعه وثلثين يوم (11). ويسّر الله عزّ وجلّ فتحها يوم الثلثا رابع عشر (12) ربيع الاخر سنه ثمان وثمانين وستمايه فى سابع ساعه من دلك اليوم المبارك. ووصلت البشاير بدلك الى ساير الحصون والقلاع بالممالك الاسلاميه. واستشهد عليها من امرا المسلمين نفرين (14)، وهما عز الدين معن، ومنكورس الفارقانى، [وبكجا العلايى-ختم الله بالسعاده] (15). ومن اجناد الحلقه المنصوره خمسه وخمسين نفر (16).

(2) ابى: أبو (9) حكى لى والدى: كذا فى الأصل؛ فى تاريخ الجزرى، مخطوطة جوتا 1561، ق 26 آ «حكى الأمير سيف الدين ابن المحفدار امير جاندار» --تسع: تسعة (10) ست: ستة--الف: ألفا (11) يوم: يوما (12) رابع عشر: فى الجزرى ق 26 آ، وابن الفرات ج‍ 8 ص 80، والمقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 747 «رابع» (14) نفرين: نفران (15) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (16) وخمسين نفر: وخمسون نفرا

ذكر اطرابلس ونبد من اخبارها

وقال رحمه الله (1): لما رسم السلطان بهدمها، طلعت فرأيت بنايها بناء عجيب، عرض السور مقدار مشى ثلاث (2) خيّاله جميع. قال: وكانت اشبه المدن باسكندريه. ذكر اطرابلس ونبد (3) من اخبارها لما دكرنا فتحها اتبعناه بطرف من اخبارها-حسبما اشترطناه ووضعناه فى جميع الحصون التى قبلها من فتوحات الاسلام فى الدوله التركيه. وجدت فى مسوداتى ان هده اطرابلس من المدن القديمه من قبل الاسلام، وكانت فى قديم الزمان ثلث مدن مجتمعه. فلما ولى معويه (8) ابن ابى سفيان-رضى الله عنه-فى خلافه الامام عثمان -رضى الله عنه-وجه سفيان ابن (9) مجيب الازدى الى طرابلس هده، وهى ثلث مدن، فبنا برج (10) على اميال منها، وسماه حصن سفيان. (252) وقطع عن اهل اطرابلس الماده، وقوّى عليهم الحصار. فلما اشتدّ بهم الامر، كتبوا الى ملك الروم يسالوه (11) ان يمدهم او ينفد مراكب يهربون فيها؛ فقد فنى صبرهم، وعدم جلدهم. فوجه اليهم مراكب، فركبوا فيها ليلا وهربوا. فلما اصبح سفيان، عاودهم القتال، فلم يجد بها احد (14)، فملكها وكتب بالفتح الى معويه (15). فاسكنها معويه بعد دلك لجماعه من اليهود. وكان ينفد اليهم فى كل سنه جيش (16) اليها يحفضونها الى ان يغلق البحر المالح فيعودون، ويسير فى قابل غيرهم.

(1) وقال رحمه الله: فى الجزرى ق 26 آ «هكذا حكى لى الأمير سيف الدين احسن الله اليه وحكى لى ايضا قال» --بنايها بناء عجيب: بناءها بناء عجيبا (2) ثلاث: ثلاثة (3) ونبد: ونبذ (8) معويه ابن: معاوية بن (9) ابن: بن--مجيب: فى الأصل «نجيب»، والصيغة المثبتة من البلاذرى، فتوح البلدان (ط. القاهرة)، ص 150، والجزرى، حوادث الزمان، مخطوطة جوتا 1561، ق 26 ب (10) فبنا برج: فبنى برجا (11) يسالوه: يسألونه (14) احد: أحدا (15) معويه: معاوية (16) جيش: جيشا--يحفضونها: يحفظونها

فتقدم اليه بطريق من الروم، وساله الاقامه بها، وانه يدى (1) الخراج ويحفضها، فاجابه الى دلك. فلم يلبث الملعون على دلك الا سنين يسيره، ثم انه اغلق بابها، وقتل واليها الدى بها من قبل المسلمين وجماعه اليهود، واسر جماعه من المسلمين، وهرب الى الروم. فلحقوه (4) المسلمون وقتلوه وخلصوا الاسرا منه. وحكى المداينى رحمه الله قال: فتح طرابلس سفيان بن مجيب (5) يوم نقض [اهلها] العهد ايام عبد الملك بن مروان. ولم تزل فى ايدى المسلمين الى ان ملكها جلال الملك [على بن محمّد بن عمّار] (7) المقدم دكره. وما زال حاكما فيها حتى خرج الفرنج فى سنه تسعين واربع مايه، وفتحوا انطاكيه فى مستهل رجب سنه احدى وتسعين واربع مايه، فنزل عليها الملك صنجيل-لعنه الله-، واسمه ميمنت (9). قال القاضى عز الدين بن عساكر رحمه الله فى تاريخه ان نسبه صنجيل الى صنجله (10)، وهى مدينه بالمغرب. فنزل بجموعه على اطرابلس فى رجب سنه خمس وتسعين واربع مايه، وعمّر قبالها حصنا، وضايقها مده طويله. فلما طال مقامه، خرج صاحبها يستغيث بالمسلمين، بسلطان بغداد يوميد (253) ابن بويه. وترك ابن عمه ابو (14) المناقب، ورتب معه رجلا يعرف بسعد الدوله بن الاغر. فاتفق انه جلس يوما فى مجلسه، وعنده جماعه من كبار الدوله واهل البلد، فشرع يتحدث (16) ويخلط فى حديثه، فنهاه سعد الدوله، فلم يقبل منه، فحذفه بالسيف فقتله.

(1) يدى: يؤدّى--ويحفضها: ويحفظها (4) فلحقوه: فلحقه (5) مجيب: فى الأصل «مجيب» انظر ما سبق ص 284 - -أضيف ما بين الحاصرتين من الجزرى، ق 26 ب، وابن عبد الظاهر، الروض الزاهر (مخطوطة استانبول)، ق 107 آ (7) أضيف ما بين الحاصرتين من الجزرى وابن عبد الظاهر (9) ميمنت: كذا فى الأصل وابن الفرات، ج‍ 8 ص 77؛ فى الجزرى وابن عبد الظاهر ق 107 آ «ميمنث» (10) صنجله: فى ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر، ق 107 آ «صنجيلية»، وفى الجزرى ق 26 ب «صنجيله» (14) ابو: أبا (16) يتحدث: فى الجزرى، ق 26 ب، وابن عبد الظاهر ق 107 ب «يتجنن»

فقام اهل البلد عليه ومسكوه، ونادوا بشعار الافضل امير الجيوش بمصر. وحموا البلد الى ان مات صنجيل وهو فى حصار طرابلس. ولم تزل الفرنج عليها حتى تسلموها بعد حصار سبع سنين جدّ. واخدوها (3) الفرنج يوم الثلثا ثالث دى الحجه سنه اثنتين وخمس مايه. وتولاها مقدم منهم يعرف بالسرتانى (5). فملكها مده، حتى قدم مركب من بلاد المغرب، وفيه صبى من اولاد صنجيل اسمه تبران (6)، ومعه جماعه شيوخ من اصحاب ابيه يخدمونه. فحضروا عند (7) السرتانى وقالوا له: «هدا ولد الملك صنجيل، وهو يريد مدينه والده». فقام السرتانى، ورفسه برجله، رماه من على السرير، واخرجه. فاخدوه (9) اصحاب صنجيل، وطافوا به على الفرسان من الفرنج. فرحموه، وتدكروا الأيمان الدى (10) لابيه، وقالوا: «ادا كان غد، احضروه، ونحن جلوس عند السرتانى». فلما حضروا وخاطبوه فيه، قام الفرسان كلهم على السرتانى، واخرجوه من مملكته، وسلموها للصبى ابن صنجيل. فاقام مالكها الى ان قتله مرواج (13) فى يوم الاحد رابع رجب سنه احدى وثلثين وخمس مايه، وقتل اكثر اصحابه. واستخلف فى طرابلس ولده القمص. فلم يزل مالكها الى ان كسر نور الدين الشهيد الفرنج على حارم، وقتل منهم مقتله عظيمه، وقتل القمص فى الجمله، ودلك فى سنه تسع وخمسين وخمس مايه. فيكون ما (254) بين ملكها الفرنج وعودها للمسلمين مايه سنه واربع وعشرون (17) سنه، واربعه اشهر،

(3) واخدوها: وأخذها (5) بالسرتانى: كذا فى الأصل وم ف؛ فى الجزرى ق 27 آ، وابن عبد الظاهر ق 107 ب، وابن الفرات ج‍ 8 ص 79 «السردانى» (6) تبران: فى الأصل «تيران»، والصيغة المثبتة من الجزرى وابن عبد الظاهر؛ بينما ورد الاسم فى حاشية بلوشيه فى P .O .XlV ص 529 «بتران (Bertrand) « (7) عند: فى الأصل «عيد» (9) فاخدوه: فأخذه (10) الدى: التى--غد: غدا (13) مرواج: كذا فى الأصل وم ف؛ فى الجزرى ق 27 آ، وابن عبد الظاهر ق 108 آ «برواج»؛ بينما فى ابن الفرات، ج‍ 8 ص 79 «بزواج» (17) واربع وعشرون: كذا فى الأصل وم ف؛ فى الجزرى ق 27 ب «وخمسة وثمانون»

ذكر شى من نسخ البشاير

واحد عشر يوم (1). ومن الاتفاق: اخدها الفرنج من المسلمين يوم الثلثا، واستعادها المسلمون من الفرنج يوم الثلثا. وامرها يوم داك لخليفه مصر، وفاتحها الآن ملك مصر. فلله الحمد. ومن نظم محمد بن الحسن بن سبّاع العزارى [الصايغ] (4) فى فتح طرابلس يقول <من الكامل>: طلبت (6) … طرابلس الشآم ببحرها منك الخلاص فأبدت الناموسا فجعلت خندقها كطود شامخ … وشققته فتلوت معجز موسى وصدمته بحرا ببحر معلن … بمحمد، فقهرت ملّة عيسى مهلا سليمان الزمان فإنها … كانت (9) كما [قد] قيل عن بلقيسا فعلى لسان المنجنيق وعدتها … هدما فاصبح عرشها منكوسا وفيها سافر شمس الدين بن السلعوس من دمشق الى مصر لخدمه السلطان الملك الاشرف. وكان دخوله القاهره فى اواخر المحرم من هده السنه. ذكر شى من نسخ البشاير إنشاء الساده الموالى، فضلاء العصر، الدى (14) جلت بلاغتهم عن الاحصاء والحصر. فمن دلك ما انشاه المولى تاج الدين بن الاثير رحمه الله تعالى، وكتبه بخطه للملك المظفر صاحب اليمن ما هدا نسخته:

(1) واحد عشر يوم: واحد عشر يوما (4) أضيف ما بين الحاصرتين من الجزرى، حاشية ق 27 ب (6) طلبت: فى الجزرى «ظنت» (9) كانت: فى الجزرى «جاءت» --أضيف ما بين الحاصرتين من الجزرى (14) الدى: الذين

«بسم الله الرحمن الرحيم. أعز الله نصر المقام العالى المولوى السلطانى الملكى المظفرى الشمسى، ولا زالت أولياه (2) فى نصرة الإسلام، مشمرة الذيل، ملحقة الخيل بالخيل، مقبلة على الجهاد إقبال السيل، مايلة إلى جهة النصر كلّ الميل، عاقدة سنابك جيادها سماء نجومها الأسنة وعجاجها الليل، تنشد للإسلام صواكم الشوارد، (255) وتخلى من أعدايه المعاقل، وتحلّ منهم المعاقد، وتجلوا (5) عليهم مواقف الحروب مستعرة المواقد، وتبعث إليهم من الرعب خيلا فى المراقب وخيالا فى المراقد، إلى أن يبلغ أقاصى المراد، ويملك نواصى العباد، ويفترع صياصى البلاد، ويطيع (8) من فى الأرض عواصى التلاع والوهاد. التهانى من عاداتها ان تستدعى سرور القلوب، وتستخرج من الحمد خبايا الألسنة إذا استخرج سواها خبايا الجيوب. وتسرى فى النفوس سرىّ الأرواح فى الأجسام، ويقبل على الأملاك (11) إقبال الأنوار على الأظلام. لا سيّما تهنية دلّت على إدالة الحقّ على الباطل، وأعادت الحلى إلى العاطل، وتقاضت الديون المنسية، وأذكرت الإسلام وقايعه الأمسية. واستأدت (13) من فى خدّه صعر، أو فى أنفه شمم، أو فى لحظه حور، أو فى لوثه لمم. فإذا كانت بهذا الوصف كانت فى المدح أبرع، وإلى القلوب (16) أسرع، ولمرعى القلوب أمرع، ترتاح إليها الأسماع والأبصار، وتودّ كل جارحة لو كانت فيها من المهاجرين والأنصار. ومن حقّها أن ترتفع (17) لها الحجب، وترفل بها المحامل أرقاب النجب (18). وتستدعى المزيد من لطف الله بدينه الذى ارتضاه، وتحمده على الإعانة (18_) بسيفه الذى جرده لنصره وانتضاه.

(2) أولياه: أولياؤه (5) وتجلوا: وتجلو (8) ويطيع: فى الأصل «وتطيع»، انظر الجزرى، مخطوطة جوتا 1561، ق 29 آ--التلاع: فى المتن «القلاع» وصححه المؤلف فى الهامش (11) الأملاك: فى الجزرى ق 29 آ «الآمال» (13) واستأدت من: فى الجزرى «واستفادت ممن» (16) القلوب: فى الجزرى «القبول» (17) ترتفع: فى الجزرى «ترفع» (18) وترفل. . . النجب: فى الجزرى «وترقل بها المحامل إرقال النجب» (18_) الإعانة: فى الجزرى «الإغاثة»

وهذه الخدمة تقصّ من إنباء البشرى كلّما يسرى ويسرّ، ويمرى أخلاف النصر ويمرّ (2). ويظهر منه عناية الله بهذه الأمة التى خصّها منّه [بالمقة]، وخص عدوها بالمقت، وأنّ حقوقها لا تضاع وإن اغتصبت فى وقت. وهو الهناء بما تسنّى من فتح طرابلس الشام وانتقالها بعد الكفر إلى الإسلام. وهذا فتح طال عهد (256) الإسلام بمثله، وقدح زناد (5) فى عضد الشرك وأهله. ولم نجد أمره فى خلد ولا فكر، ولا ترقّت اليه همة عوان ولا بكر، طريدة دهر ساقتها (6) العزايم، ما نشدتها الأمانى إلاّ عادت عنها وقد جردت (7) ذيول الهزايم، مرت عليها الأيام والليالى، وعجزت عنها الملوك فى العصور (8) الخوالى، لم تزل تتحاماها وإذا أحضرتها الظنون فى بال تخشى أن تمرّ بحماها (9). وكنا لما أفضا (10) الله تعالى [الينا] بالملك وأنقذ بنا من هلك، عاهدناه على أن نغزوا (11) أعداءه برا وبحرا، ونوسع من كفر به قتلا وأسرا، ونجعل شعاير الجهاد منصوبة، ونسترجع حقوقا للإسلام مغصوبة (12)، ونجليهم عن البلاد، كما أمر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-بإجلاء طوايف المشركين عن جزيرة العرب. فلما (13) أمكننا الله تعالى منهم بالفرصة (14)، وأخذناهم بالعزيمة فى أمرهم دون الرخصه، بمثل السيل إذا طما، والسحاب إذا هما، والبحر وأمواجه، والبر وفجاجه، والليل وهجومه،

(2) ويمر: فى الأصل «ويمرى» --مكان ما بين الحاصرتين بياض فى الأصل، والإضافة من الجزرى ق 29 آ (5) زناد: فى الجزرى «فت» --نجد: فى الجزرى «يجد» (6) ساقتها: مصحح بهامش المتن (7) جردت: فى الجزرى ق 29 ب «جرت» -- وعجزت: فى الجزرى «وعجز» (8) العصور: فى الجزرى «القصور» --أحضرتها: فى الجزرى، ق 29 ب «أخطرتها» (9) تمرّ بحماها: فى الجزرى «تحلّ حماها» (10) أفضا: أفضى--ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (11) نغزوا: نغزو (12) حقوقا للإسلام مغصوبة: فى الجزرى «حقوق الإسلام المغصوبة» (13 - 14) فلما أمكننا. . . بالفرصة: فى الجزرى «فلما أمكنت الفرصة»

والضباب وغيومه. فزلزلنا أقدامهم، وأزلنا إقدامهم. وأذقناهم بأسنا مرّة ومرّة، وعرفناهم أن ما كلّ بيضاء شحمة، ولا كلّ سوداء فحمة، ولا كلّ حمرة ثمرة (2)، ولا كلّ حمراء خمرة. وبرزنا إليهم لشقايهم وسباقهم (3)، وسددنا عليهم أنفاق نفاقهم. وقصدناهم فى وقت جمعت (4) فيه أشتات الشتاء، ولبّت الأندية نداء الانداء، فى طرق خفيّة المدارج، أبيّة المخارج، ملتبسة المسالك، ممتنعة على السالك، صيفها شتاء، وصباحها مساء، شايبة المفارق بالثلوج، مزرّرة (6) الجيوب على أكمام الغيوم [التى ما لملابسها] (7) من فروج. ولم تزل (8) أقران الزحف فى غدران (257) الزعف، نرميهم بالقوارص، ونأتيهم من البأس (9) بما ترعد من هوله الفرايص. ونقلب لهم ظهر المجنّ، ونطرق أقبيتهم من الحرب بكلّ فنّ. ونقرب الأسواء من الأسوار، ونمزج لهم الأدواء فى الأدوار. ونبعث إليهم السهام برسل المنايا، ونحذّرهم أن يغتروا بما يسمعونه من حنوّ (12) الحنايا. ونجمع لهم من جفوة الجفاتى وزيارات الزيارات. ونريهم من قساوة القسىّ ما شغلهم (13) عن مدارات نوب النوب المدارات. ونسلك بهم من المضايقة كلّ مسلك، ونجلو عليهم صور المنازلة، فنخرجهم من مطلب إلى مهلك (14) إلى أن وهى سلكها، ودنا هلكها، وسفل منها ما علا، ورخص بها ما غلا. وفتحناها وأبحناها، وخليناها وقد أخليناها مقفرة المغانى، خالية الألفاظ من المعانى، {خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها} (17)، موحشة من أنيسها، آنسة بوحوشها.

(2) ثمرة: تمرة (3) لشقايهم وسباقهم: فى الجزرى ق 29 ب «بشقايهم لشقاقهم» (4) جمعت: فى الجزرى «تجمعت» --ولبت: فى الأصل «لبست»، والصيغة المثبتة من الجزرى (6) مزررة: فى الجزرى ق 29 ب «مزوّرة» (7) أضيف ما بين الحاصرتين من الجزرى (8) ولم تزل: فى الجزرى «ولم يزل» --نرميهم: فى الجزرى «ترميهم» (9) البأس: فى الجزرى «الناس» (12) حنوّ: فى الجزرى «حنين» (13) ما شغلهم: فى الجزرى «ما يشغلهم» --مدارات: مداراة (14) إلى مهلك: فى الجزرى ق 29 ب «ويدخلهم فى مهلك» (17) القرآن 2:259

وقد أمست ك‍ {الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ} (1)، وأصبحت {حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} (2). وأمّا ما (3) بقى من العدو بالساحل، فقد تركناهم مسلوبين المزايا، مشغولين بالزّزايا، أذلهم عدم النصير، وأصارهم الخوف حتى (4) نصير. وتبدلوا بليل الهم الطويل عن يوم اللهو القصير. وهذه المدينة لها ذكر فى البلاد، ومنعة كانت قد ضربت دون القصد بالاسداد. فتحت فى صدر الإسلام، فى زمن الصحابة الكرام، فى ولاية [معوية] (7) ابن أبى سفيان. وتنقلت فى أيدى الملوك من ذلك الزمان. وعظمت فى زمن بنى عمّار، حتى اشتهت ولو بتطليق الأعمار، وبنو (9) بها دار العلم المشهورة. فلما كان فى آخر الماية الخامسة المذكورة، (258) ظهرت طوايف الفرنج بالشأم، واستولوا على البلاد، وعادوا بها حكام (11). ولم تزل هذه المدينة بأيديهم إلى الآن. وكانت الخلفاء والملوك فى ذلك الوقت كلّ منهم فى شأن، ما منهم إلا من هو مشغول بنفسه، مرابط على (14) مجلس أنسه، يصطبح فى لهوه ويعتبق، ويجرى فى مضمار لعبه ويستبق. يرى السلامة غنيمة، وإذا عنّ له وصف الحرب يوما لم يسأل منها إلاّ على طرق الهزيمة. قد بلغ أمله من الرتبة، وقنع من ملكه كما يقال: بالسكة والخطبة. أموال تنهب، وممالك تذهب، ونفوس قد تجاوزت الحد فى إسرافها. وبلاد يأتيها (16) الأعداء، فتنقصها من أطرافها، لا يبالون بما سلبوا. وهم كما قيل فيهم وفى أمثالهم:

(1) القرآن 2:285. (2) القرآن 10:24 (3) ما: فى الجزرى «من» (4) حتى نصير: فى الجزرى ق 29 ب «شرّ يصير» (7) أضيف ما بين الحاصرتين من الجزرى ق 30 آ (9) وبنو: وبنوا--المشهورة: فى الجزرى «المشهورة فى التواريخ» (11) حكام: حكاما--وعادوا بها حكام: فى الجزرى ق 30 آ «امتنعت هذه المدينة عليهم مدّة ثم ملكوها فى سنة ثلثو خمسماية» (14) على: فى الجزرى ق 30 آ، والسيوطى، تاريخ الخلفاء (ط. القاهرة 1959) ص 482 «عن» (16) يأتيها: فى الجزرى والسيوطى «تأتيهم»

إن قاتلوا قتلوا، أو طاردوا طردوا … أو حاربوا حربوا، أو غالبوا غلبوا إلى أن أوجد الله من ادّخره (2) لنصرة دينه، وإذلال الشرك وشياطينه، فأحيا فريضة الجهاد بعد موتها، وردّ ضالّة العزّ للإسلام بعد فوتها. ونرجوا (3) من الله ولطفه أن نفترع ممالكهم ذروة ذروة، ونأتى إلى عقد قراهم (4) فنحلّها عقدة عقدة، ونخلى ديارهم من ناسهم، ونطهر الأرض من أدناسهم وأرجاسهم، ونجدد للأمة قوة سلطانها، ونعيد كلمة الإيمان إلى أوطانها، إلى أن نلقى الله عزّ وجلّ بيض الوجوه، ونجد فى مجازاته ما نرجوه. والله تعالى يثبت (8) فى صحايف المولى أجر السرور بهذه المتجددات التى يعظم بها أجر الحامد الشاكر. ويجعل له أوفا (9) نصيب من ثواب الغزوات التى أنجد فيها بهمته العالية، والإنجاد بالهمم مثل الإنجاد بالعساكر، إنشاء الله تعالى». (259) ومن انشا المولى فتح الدين ابن (11) عبد الظاهر-رحمه الله-لصاحب اليمن أيضا فى بشاره كسر التتار على حمص. أخّرناها حتى اثبثناها هاهنا (12) لتكون هده البشاير تتلو بعضها بعضا فى مكان واحد بحول الله وقوته. «بسم الله الرحمن الرحيم. أعزّ الله أنصار المقام العالى المولوى الملكى المظفرى الشمسى، وأعلا (15) مناره، وضاعف اقتداره. إعلامه أنه لمّا كان بتاريخ الرابع عشر من شهر رجب الفرد سنة ثمانين وستماية، فتح الله بنصر المسلمين على أعداء الدين <من الكامل>: من كلّ (18) … من لولا تسعّر بأسه لاخضرّ جود فى يديه الأسمرى.

(2) ادّخره: فى الجزرى «أوجده» (3) ونرجوا: ونرجو (4) قراهم: فى الجزرى ق 30 آ «قواهم» --عقدة عقدة: فى الجزرى «عروة عروة» (8) يثبت: يثبت (9) أوفا: أوفى (11) ابن: بن (12) اثبتناها هاهنا: اثبتناها ههنا (15) وأعلا: وأعلى (18) من كل: فى الأصل «بكل»، والصيغة المثبتة من القلقشندى، صبح الأعشى، ج‍ 7 ص 360 - -جود: جودا

فصدرت هذه التهنية رواية الصدق الأبرّ، عن اليوم المحجّل الأغرّ <من الكامل>: يوم غدا بالنقع فيه يهتدى (3) … من ضلّ فيه بأنجم الخرصانى. ففى عرنين الدهر من نقعه شمم، وفى أذن البدر من وقعه صمم. ترفعه راوية الأسل عن الأسنّة، وتسنده مجرا (5) العوالى عن مجرا الأعنّة. وأما النّص (6) الذى شهد الضرب بصحّته، والطعن بتصحيحه أنّ التتار-خذلهم الله تعالى-استطالوا على الآنام حتى خاضوا بلاد الشأم، واستجاشوا بقتالهم على الإسلام <من الطويل>: سعى (9) … الطمع المردى لهم بحتوفهم ومن يمتثل أمر المطامع يعطبوا. فعتاضوا (10) عن الصحّة بالمرض، وعن الجوهر بالعرض، وقد أرخت الغفلة فى زمامهم (11)، حتى عثروا بخطامهم، وعاد كيدهم فى نحرهم، وذاقوا من العاجلة وبال أمرهم {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ (12)} لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ (13). <من البسيط>: راموا أمورا فمذ لاحت عواقبها … بضدّ ما أملوا بالورد والصدر (260) ضلّوا حيارا (15) … وكأس الموت دايرة عليهم بزعاف الرعب والحذرى وأضعف الرعب أيديهم فطعنهم … بالسمهرىّ كمثل الوغز (16) بالإبرى

(3) يهتدى: فى الأصل «مهتدى» والصيغة المثبتة من القلقشندى--الخرصانى: فى القلقشندى «المرّان» (5) مجرا: مجرى، فى القلقشندى «مجرّ» (6) النص: فى القلقشندى «النصر» --بتصحيحه: فى القلقشندى ص 361 «بنصيحته» (9) سعى: فى الأصل «يدنى»، والصيغة المثبتة من القلقشندى--بحتوفهم: فى الأصل «بحتفهم»، والصيغة المثبتة من القلقشندى (10) فعتاضوا: فاعتاضوا (11) فى زمامهم: كذا فى الأصل؛ فى القلقشندى «زمامهم» (13) القرآن 33:25 (12) بغيظهم: فى الأصل «بغيضهم» (15) ضلوا حيارا: ظلوا حيارى (16) الوغز: الوخز

لا جرم أنهم لأسنّة الندم قارعون، وعلى مقابلة إحساننا بالإساءة نادمون. {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (2). <من البسيط>: تدرّعوا ثوب نعى ساء ملبسه … والمرء (3) [يحصد] من دنياه ما زرعا. اقتعدت بهم طلايع الضلال، فأقلعت بهم مراكب أمانيهم فى بحار الآمال. تلك آمال خايبة، ومراكب الضنون (5) عاطبة. من كلّ مرعى عزمه وهمومه روض الأمانى لم يزل مهزولا. هذا وقد استعدّوا للبر بمواكبه، وللبحر بمراكبه. وساروا وللشيطان فيهم وساوس تغرّهم منه الضنون (7) الحوادس. وقد جعلوا حرمتهم على كلّ مرقب، فما وسوس الشيطان كفرا إلاّ وأحرقه الإيمان بكوكب. ومع ذلك، وعساكر المسلمين فى مواطنها رابظة (9) آسادها فى غيل آجامها، كامنة عقبانها فى وكور آكامها. وما تزلزل لمؤمن قدم إلاّ وقدم إيمانه راسخة، ولا أثبت أحدا (10) لأحد حجّة إلاّ وكانت الجمعة له (11) ناسخة. ولا عقد برجمه ناقوس إلاّ وأحلّه الأذان، ولا نطق لهم كتاب إلاّ أخرسه القرآن. ولم تزل أخبار المسلمين تنتقل إلى الكفّار (13) على ألسنة جواسيسهم الفجار، واخبار الكفّار تنتقل إلى المسلمين على ألسنة الناصحين من المؤمنين، إلى أن تراءت العين بالعين، وأضرمت نار الحرب بين الفريقين، وصاح بالقوم غراب البين. فلم ترا (16) إلاّ ضرب يجعل البرق نضوا، ويترك فى كلّ بطن من المشركين شلوا، إلى أن صارت المفاوز دلاصا، ومراتع الضباء (17) للضبا عراصا. واقتنصت آساد

(2) القرآن 26:227 (3) والمرء: فى الأصل «للمرء» --أضيف ما بين الحاصرتين من القلقشندى ص 361 (5) الضنون: الظنون (7) الضنون: الظنون (9) رابظة: رابضة؛ فى المتن «كامنه» والكلمة مصححة بالهامش (10) أحدا: أحد. (11) له: لها: انظر القلقشندى ص 361 - -برجمة: فى الأصل «ترجمة» (13) الكفار: فى المتن «المسلمين»، والكلمة مصححة بالهامش (16) ترا: تر--ضرب: ضربا-- البرق: فى الأصل «الزق»، والصيغة المثبتة من القلقشندى ص 362 (17) الضباء للضبا: الظباء للظبى

(261) المسلمين لخنازير المشركين اقتناصا، ولم يجدوا لهم من أيديهم خلاص (1)، ولا ذوا فلم يكن لهم من القتل مناص (2). وازدحمت الكتايب فى ذلك الفضاء، فجعلته مضيقا. وعاد الفارس بالدماء غريقا، وحال تلوّن (4) حصباء الأرض عقيقا، وضرب النقع فى السماء طريقا. وعاد الوجود من القتلا (5) ملا، وضاقت الأرض حتى ضلّ هاربها وكلّ شئ رآه ظنّه رجلا. وقتل من المغل كل جبّار عنيد، وذلك بما قدّمت يداه {وَما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ} (6). ولم ينجو (7) منهم سوى نفر يسير. ولكن كيف، من منسر الرمح الى جناح السيف. وعادت خيولهم خالية من ركابها، تجمز عن جيفهم جمزا، ف‍ {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ (9_)} رِكْزاً (9). وحمايم الحمام فوق رؤسهم حايمة، ومصابتهم لشدّة المصاب قايمة. قد ضربت عليهم الذلّة والمسكنة، وضاقت بهاربهم الأمكنة. واختطفوا من كلّ مكان، وبدلوا بعد العزّ بأشرّ الهوان. وسنأخذ إنشاء الله تعالى بالسيف معاقلهم، ونؤاخذ عاقلهم بجاهلهم وجاهلهم بعاقلهم. ونترك ديارهم كالرمس، خاوية {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} (13). <من الكامل>: ونبيد قوم (14) … بعد قوم منهم ويعضّ كلّ مصمصم فى الهام وتقمن ربّات الخدود حواسرا … يمسحن عرض ذوايب الأيّام فليأخذ حظّه من هذه البشرى، لا زال السرور يسرى به كلّ مسرا (16)». ومن نظم المولى شهاب الدين محمود كاتب الانشا، يمدح السلطان الملك المنصور عند فتحه طرابلس، فقال <من الطويل>:

(1) خلاص: خلاصا (2) مناص: مناصا (4) تلوّن: فى الأصل «بلور»، والصيغة المثبتة من القلقشندى ص 362 (5) القتلا: القتلى (6) القرآن 41:46 (7) ينجو: ينج (9) القرآن 19:98 (9_) لهم: فى الأصل «له» (13) القرآن 10:24 (14) قوم: قوما--مصمصم: فى الأصل «مصصمم» (16) مسرا: مسرى

علينا لمن أولاك نعمته الشكر … لأنّك للإسلام ياسيفه ذخر ومنّا لك الإخلاص فى صالح الدعا … إلى من له فى أمر نصرتك الأمر (2) (262) فلله فى اعلام (3) … ملكك فى الورى مراد وفى التأييد يوم الوغا سرّ ألا هكذا يا وارث الملك فليكن … جهاد العدى قهرا (4) ما بقى الدهر ومثل الذى أعطاك ربّك فابتهل … إليه يكون الفتح إن قست والنصر فإن تك [قد] (6) … فاتتك بدر فهذه بما أنزل الرحمن من نصرة بدر نهظت (7) … إلى عليا طرابلس التى أقلّ عناها أنّ خندقها البحر وقد ضمّها كالطوق إلاّ بقيّة … كنحر وأنت السيف لاح له نحر ممنّعة بكر وهل (9) … فى جميع ما تملّكته إلاّ ممنّعة بكر وكم من حصون قد فتحت شواهق … مصابيحها فى الأفق أنجمه زهر ومن دون سوريها عقاب منيعة … تزلّ إذا ما رام أوطاءها الذرّ وما برحت ثغرا ولكن على العدا (12) … عليها بحكم الدهر فانثغر الثغر وكانت بدار العلم تعرف قبلها … فمن أجل ذا للسيف فى نظمها نثر ولما غدت لا فخر مثل افتتاحها … أبى (14) الله إلاّ أن يكون له الفخر ولا أجر عند الله مثل فكاكها … فبشراك يا من خصّه ذلك الأجر وكم مؤمن دهرا وما مسّها أذى … وكم راح من عصر وما راعها حصر

(2) الأمر: فى المتن «النصر» والكلمة مصححة بالهامش (3) اعلام: فى الجزرى، حوادث الزمان، مخطوطة جوتا 1561، ق 30 آ «إعلاء» --الوغا: الوغى (4) قهرا ما بقى الدهر: فى الجزرى ق 30 آ «لا ما توالى به الدهر» (6) أضيف ما بين الحاصرتين من الجزرى (7) نهظت: نهضت (9) وهل: يضيف المؤلف هنا كلمة «كان» فى الهامش؛ والصيغة الصحيحة المثبتة من الأصل والجزرى (12) العدا: العدى (14) أبى: فى الأصل «الى»

وكم ليث غاب رامها فى جيوشه … وراح ولم يبرد له بالمنا (1) صدر ففاجيتها (2) … بالجيش كالمرج فانثنت تميد وقد أربى على بحرها البرّ فظلّت لدى بحرين أنكاهما (3) … لها وأقتله العذب الذى جرّه النصر وأقسم ما فاجأتها (4) … بل تقدّمت إليها سرايا جيشك، الرعب والذعر وأنذرها ما كان من فتح غيرها … وحذّرها لو كان ينفعها الحذر وما كتمتها (6) … ركض جيشك أرضها ولا سكتت إلاّ وفى نفسها أمر بلى إن تكن لم تسمع (7) … الركض كونها مسالكها صمّ، فذاك لها عذر (263) كأنّ المجانيق التى أوترت ضحى … عليها لها فى شمّ أبراجها وتر تحلّق فى وجه (9) … السماء وترتمى اليهم كما ينقضّ من حالق نسر أصابعها (10) … تومى اليهم فيسجدوا فيقبل منها دون سكّانها الجدر وتمطرهم من كلّ قطر حجارة … لقد خاب قوم جادهم ذلك القطر مسلّطة ورهاء تقتل (12) … فى العدى وليس على أحجارها [منهم] حجر وليست بخنساء (13) … العزائين إن بدت لناظرها يوما وفى قلبها صخر لها شرر كالقصر ترمى عليهم … ولا برج يستعلى عليه ولا قصر تخلّق وجه السور منهم كأنّما … غدت وعليها فى الذى فعلت نذر

(1) بالمنا: بالمنى (2) ففاجيتها: ففاجأتها (3) انكاهما: فى الأصل «انكا» (4) فاجأتها: فى الأصل «واجتها»؛ والصيغة المثبتة من الجزرى ق 30 ب (6) كتمتها: فى الأصل «لتمها»، والصيغة المثبتة من الجزرى--سكتت: فى الأصل «سلبت»، والصيغة المثبتة من الجزرى (7) تكن لم تسمع: فى الأصل «يكن لم تستمع» والصيغة المثبتة من الجزرى (9) وجه: فى الجزرى ق 30 ب «جو» (10) أصابعها: فى الأصل «اصانعها» -- تومى: فى الأصل «يومى»؛ فى الجزرى «ترمى» (12) تقتل: فى الجزرى «يفتكّ» -- وليس: فى الأصل «وليس لها»، انظر الجزرى ق 3 ب--أضيف ما بين الحاصرتين من الجزرى (13) بخنساء: فى الأصل «بجيش» --العزائين: العزاءين

ومن تحتها تلك الثغور (1) … كأنّما إذا ما تمشّت فى ضمير النوى سرّ بروض الثّرى كالرّاح فهى بلطفها … يلين لها القاسى ويستسلم الوعر إلى أن غدت فوق الفضا وهى تحته … معلّقة فى الجوّ ليس لها قعر (3) فزلزلتها بالرّكض فانهدّ ركنها … ولم يبق من دون المنايا لها ستر وألقت أعاليها المجانيق تحتها … ففى كلّ قطر من خنادقها جسر فهاجمتها فى أوّل الجيش فاحتوى … عليها وباقى الجيش خلفك لم يدروا (6) وأطلقت فيها طاير السيف فاغتذى … وليس له إلا رؤوسهم وكر كأنّ شعاع الشمس فوق احمراره … على زرقة فيه لناظره جمر لقيتهم صفر الوجوه فما اتا (9) … لها الليل إلا وهى من دمهم حمر ولا ذوا بباب البحر منك فما نجا … إليه سوى من جرّه من دم (10) نهر ولم ينج إلاّ من يخبّر قومه … ليدروا وإلاّ من تغمّده (11) الأسر فلله كم بيض وسمر كواعب … على رغمهم قد حارت البيض والسمر وكم فارس من قيده ودمايه … مراكبه (13) دهم وألوانها شقر (264) تميل (14) … كما مال النزيف وإنّما به سكرات الخوف والموت لا السّكر تبلّج (15) … ثغر الدين فيها وأشرقت أسرّته وانجاب عن نوره الكفر

(1) الثغور: فى الجزرى ق 30 ب «النقوب» (3) قعر: فى الأصل «قتر»، والصيغة المثبتة من الجزرى ق 30 ب (6) يدروا: يدر (9) اتا: أتى (10) دم: فى الأصل «دمه»؛ والصيغة المثبتة من الجزرى ق 30 ب (11) تغمده الأسر: فى الأصل «بعده القتل والأسر»، والصيغة المثبتة من الجررى ق 30 ب (13) مراكبه: فى الجزرى ق 30 ب «مواكبه» (14) تميل: فى الجزرى ق 30 ب «يميل» (15) تبلج: فى الأصل «تفلج»، الصيغة المثبتة من الجزرى ق 30 ب--نوره: فى الأصل «فورده»، الصيغة المثبتة من الجزرى ق 32 آ

وولّى ضلال الشرك عنها ووجهه … عبوس ووافاها (1) الهدى ولها بشر وفى نعتك «المنصور» سرّ لو انّهم … وعوه، لما قاموا أمامك بل فرّوا وفى هلّكم يوم الثلاثا إشارة … الى أنّ فى الدارين تثليثهم (3) خسر أما سمعوا إذ لم يروا كسرك العدى … بحمص إلى أن ليس يخشى لهم جبر (4) وكانوا كموج البحر لا حدّ يحتوى … عليهم ولا يأتى على عدّهم حصر وكان لهم فى الأرض صيت وسمعة … فلم يبق فى الدنيا لهم بعدها ذكر بلى سمعوا اخبار جيشك قبلها … فلما التقوه صغّر الخبر الخبر أمدّهم جيرانهم بحماتهم … ويعجب ذاك المدّ من دأبه الجزر فلم يغن عنهم ذاك شيئا ولو أتوا … [إليهم] (9) كموج البحر أفناهم البحر قسمتهم شطرين غير غريقهم … فللسيف شطر والقيود لها شطر محوت شعار الكفر عنها فما عسى … يقوم به فى وصف أفعالك الشعر وماذا به يثنى عليك مفوّه … ولا قدره يأتى بذاك ولا عشر (12) ولكن دعاء وابتهال فإنّه … يقرّ على رغم الأعادى لك النصر وإن تملك الأقطار شرقا ومغربا … فلا برّ يستعصى عليك ولا بحر ثم ان السلطان رحمه الله بعد خراب طرابلس قدم عليه رسل صاحب سيس يطلبون مرضاه الخواطر الشريفه بجميع ما يقدرون عليه، وان صاحبهم داخل فى كل ما يرسم له به. فاقبل عليهم السلطان وقال لهم: «يسلمنا القلاع المجاوره (17) لنا،

(1) ووافاها: فى الأصل «ووفا بنا» الصيغة المثبتة من الجزرى ق 32 آ (3) تثليثهم: فى الأصل «تقلبهم»، والصيغة المثبتة من الجزرى ق 32 آ (4) يخشى لهم جبر: فى الأصل «يسمع له خبر»، والصيغة المثبتة من الجزرى (9) أضيف ما بين الحاصرتين من الجزرى ق 32 آ (12) ولا قدره يأتى بذاك ولا عشر: فى الجزرى ق 32 آ «ولا قدره ياتى نداك ولا قدر» (17) القلاع المجاوره: القلعتين المجاورتين

ذكر [حوادث] سنة تسع وثمانين وستمايه

وهما مرعش وباهسنا، ونقوم بالقطيعه». واقترح اقتراحات كثيره. فتوجهوا ثم عادوا بعد رحيل السلطان (265) من طرابلس ونزوله حمص. واحضروا هديه جليله، واعتدر صاحبهم عن تسليم هتين القلعتين المدكورتين، وانه لا يمكنه دلك بسبب التتار. وبدل عوضهما للسلطان جمل كبيره (4). فقبل السلطان دلك، والله اعلم. ذكر [حوادث] سنة تسع وثمانين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم (6). . . مبلغ الزياده خمس عشر دراعا وسبع عشر اصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (9) العباس امير المومنين. والسلطان الملك المنصور سلطان الاسلام الى ان توفى الى رحمة الله عزّ وجلّ فى هده السنه حسبما ياتى فى تاريخه. وفيها احضر السلطان الامير شمس الدين سنقر الاعسر من الشأم. والتزم انه يحمل فى كل يوم الى بيت المال عشرين الف درهم. فخلع عليه، وسفره الى الشام. وكتب على يده تداكر شريفه، واضاف اليه شاد الشأم بكماله مع بلاد حلب وساير الحصون، وشاد ديوان الجيوش المنصوره بالممالك الشاميه. وفيها رسم السلطان للامير عز الدين الافرم بالتوجه الى دمشق، وتجهيز المناجنيق والزردخاناه لاجل حصار عكا. وسبب دلك انه وردت عليه الاخبار ان

(4) جمل كبيره: فى الأصل وم ف؛ فى الجزرى، مخطوطة جوتا 1561، ق 32 ب «جملة من المال فى كل سنة» (6) القديم. . .: بياض فى الأصل--خمس: خمسة--وسبع: وسبعة (9) ابى: أبو

ذكر وفاته رحمه الله تعالى

الفرنج بعكا قد نكثوا المهادنه، وقتلوا فى عكا جماعه من المسلمين من التجار والفقرا المجردين المسافرين. واصل ذلك ما حكاه والدى رحمه الله قال: ورد فقير من المسافرين عكا، ونزل المسجد المجاور لعين البقرة، وهو مكان مبارك، فوجد فيه جماعه فقرا. فلما كان وقت الأذان، ادنوا خفيه ولم يفتحوا للمسجد طاقات. فانكر عليهم دلك (266) الفقير، فقالوا: «انها بلد كفر، ونخشى الفرنج». فقال الفقير: «الآن كما طاب الجهاد فى سبيل الله. يا فقرا، اما قرأتم قوله تعالى {وَتَخْشَى النّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ}؟ (8)». ثم ان الفقير صبر الى ادان الظهر، وفتح طاقات المسجد، وعلى (8_) علوه، واعلن بالاذان. وكان قد ورد عكا افرنج من داخل البحر غنم، ليس (10) من اهلها. فلم سمعوا الادان اجهار (11)، لعب فيهم الشيطان، ووثبوا من فورهم، فقتلوا دلك الفقير، وطرطشوا دمه فى حيطان المسجد مع ثلاثه فقرا اخر. ثم خرجوا، وعادوا لا يلتقوا مسلم (13) فى البلد الا اوقعوا به القتل. فلما بلغ السلطان دلك تجهز واهتم لاخدها بمعونه الله تعالى وخرج فى الثامن عشر من شوال من هده السنه، فنزل فى الدهليز المنصور بمسجد التبن. ذكر وفاته رحمه الله تعالى حكى لى والدى رحمه الله، قال: ركب السلطان الملك المنصور من قلعه الجبل المحروسه، وهو فى احسن حال واثم (18) عافيه. فلم يزل حتى نزل الدهليز المنصور، فاحس بالتوعك من تلك الليله. فاقام فى الدهليز تسعه عشر يوم (19)، الى يوم السبت السابع

(8) القرآن 23:37 (8_) وعلى: وعلا (10) ليس: ليسوا (11) اجهار: إجهارا (13) يلتقوا مسلم: يلتقون مسلما (18) واثم: وأتم (19) يوم: يوما

ذكر بعض شى من محاسنه رحمه الله وصفته

من دى القعده توفى الى رحمة الله تعالى. وانتقل من دار الشقا الى دار البقا بجوار الرحمن مع الحور والولدان. وكيف لا يكون كدلك، وقد فعل من المعروف ما ينفق عليه فى كل يوم الاف الالوف: ودلك ما اسسه فى هدا البيمارستان، الدى لم يلحقه فى صنيعه ساير من تقدم من ملوك الازمان خلا نور الدين الشهيد، الدى عاد بما استسنه من الحسنه فى دار البقا سعيد (5)، لكن بون بين المعروفين وفرق بعيد. وسياتى طرفا من دكر دلك فى موضعه انشا الله تعالى. (267) ولما قضى السلطان الشهيد نحبه، والتحق بربه، كان مولانا السلطان الشهيد الملك الاشرف ولده حاضرا. ودخلت (8) الامرا الكبار، فنظروا السلطان الملك المنصور مسجى (9)، والانوار عليه لايحه، وروايح الجنان من روايحه فايحه. فلما نظره الملك الاشرف بكى ورمى شاشه. فنهظ (10) الامير شمس الدين سنقر الاشقر، واخد الشاش ولبسه وقال له فى السر عند ما لبسه شاشه: «اركب من ساعتك واملك القلعه، فهو مصلحه». فركب السلطان الملك الاشرف على الفور وطلع القلعه. ووقف الامير حسام الدين طرنطاى، ورفع الخزاين. وركب الجيش جميعه وطلع القلعه. وكان مده ملك السلطان الملك المنصور رحمه الله احدى عشر سنه وثلثه اشهر ويومين. ذكر بعض شى من محاسنه رحمه الله وصفته كان ملكا جليلا جميلا كبيرا اثيرا رحيما حليما رووفا شفوقا لا عسوفا، تام الخلق، حسن الخلق، وافر الكمال، بديع الجمال، حسن الهيبه فى الرجال، تام القامه، عظيم الهامه، مليح الوجه، ظاهر اللون، وافر الهيبه، عظيم الشان،

(5) سعيد: سعيدا--طرفا: طرف (8) ودخلت: ودخل (9) مسجى: فى الأصل «مشجى» (10) فنهظ: فنهض

ذكر سلطنة السلطان الملك الاشرف صلاح الدنيا والدين خليل

كثير الاحسان. كان ادا ركب فرسه لا يشاكله غيره لحسن ركبته وتمام قعدته. وكان كثير الحلم، عظيم الوقار، دو (2) سطوه وباس على مماليكه، لا يحسن لهم فعل قبيح (3) قط. وكان قليل سفك الدماء، قليل الغضب، ضحوك السن، كثير الانعام على الامرا الكبار، وعلى المشايخ القدما من المقدمين واعيان الحلقه، يخلع عليهم من على كتفه البغالطيق الخارا بالفرو السرسيناه وغيره، وعلى المماليك كثير الانعام، شفوق (6) على الرعيه. وكان ادا غضب على احد اعتقله ولا يرى قتله. جمع اولاد البحريه من ساير الاماكن، حتى من باب اللوق ومن حانوت (268) الشرايجى ومن مستوقد الحمام، واطلعهم القلعه، وانعم عليهم بلبس القماش والحوايص والسيوف، واجرا (9) لهم الجوامك، وانعم عليهم بالاخباز فى الحلقه المنصوره، واجلسهم على باب القلعه، وسماهم البحريه باسماء آباهم (10). وكان دلك كله بغير رضى الامير حسام الدين طرنطاى، فانه كان يكره اولاد الناس. ولو دكرت جمله محاسنه رحمه الله لخرجت عن شرط الاختصار. رحمه الله وبرّد ضريحه وجعل الجنه مأواه بمحمد وآله. ذكر سلطنة السلطان الملك الاشرف صلاح الدنيا والدين خليل لما كان الخامس عشر من دى القعده سنه تسع وثمانين وستمايه ركب السلطان الملك الاشرف صلاح الدنيا والدين خليل بن مولانا السلطان الشهيد سيف الدنيا والدين قلاوون الالفى الصالحى كعاده ركوب المملكه من قلعه الجبل المحروسه الى الميدان تحت القلعه، بعد ان اخلع على جميع الامرا والمقدمين والقضاه واعيان الناس من كل طبقه. وجددت الأيمان، وطلع وجلس فى الايوان على تخت الملك.

(2) دو: ذا (3) فعل قبيح: فعلا قبيحا (6) شفوق: شفوقا (9) واجرا: وأجرى (10) آباهم: آبائهم

(1) [نكته: لما ركب السلطان الملك الاشرف ونزل من القلعه لابس! (1_) الخلعه الخليفتيه السوداء ووقف تحت القلعه، وترجل الجيش بكماله، وقبلوا الارض جمله واحده، فكانت ساعه عظيمه مهوله. وكان شخص فقير يسمى الشيخ على ويعرف بالجمال، فلما عاين تلك العظمه صاح باعلا (4) صوته «لله، لله، لله»، ووقع ميتا لوقته. فحمل وغسل ودفن، رحمة الله عليه] (5). فلما كان سادس يوم مسك الامير حسام الدين طرنطاى والامير زين الدين كتبغا. وفى دلك النهار هرب امير على بن قرمان، ونزل بصاحب كان يعتقد عليه، من عرب العايد بالاعمال الشرقيه من عمل بلبيس يقال له غراره. فوثق [أمير على] به، فنهط (10) عليه، بعد ما غيب عنه خيله، وقتلوه. قتله شخص من العرب العايد يسمى عشيش بعد ما قتل امير على غراره مع عده من العرب بالنشاب. ثم حملت راسه الى السلطان الملك الاشرف. وامّا ما كان من الامير حسام الدين طرنطاى فانه قتل عاجلا، واوقع الحوطه على بيته وعلى جميع موجوده فى ساير البلاد. واقام ثمانيه ايام فى محبسه ميتا، ثم اخرج من القلعه (269) ليله الجمعه سادس وعشرين دى القعده محمول (15) على جنويه الى زاويه (16) سيدى الشيخ ابى السعادات بن ابى العشاير، والشيخ بها يوميد على رفيق الشيخ عمر (17). فغسل، وكفّن، ودفن ظاهر الزاويه. فلما ملك الامير زين الدين كتبغا نقله الى مدرسته التى بجوار داره بخط المسطاح بالقاهره المحروسه.

(1 - 5) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (1_) لابس: لابسا (4) باعلا: بأعلى (10) فنهط: فنهض (15) محمول: محمولا (16 - 17) سيدى. . . عمر: الشيخ عمر المسعودى، م ف

ذكر [حوادث] سنة تسعين وستمايه

وحكى الامير نجم الدين ابو المعالى ان جمله ما اخد من دار الامير حسام الدين طرنطاى-عند ايقاع الحوطه عليه-وحمل الى القلعه ونفق فى الجيش من الدهب العين الدنانير المصريه ستمايه الف دينار، ومن الدراهم النقره مايه وسبعين قنطار مصرى (3). واخد السلطان جماعه كبيره من مماليكه، وفرق البقيه على الامرا. واما الخيول والهجن والجمال، فما يقع عليه حصر، ومن النحاس الكفت والاوانى الفضه من صناعه الفرنج وغيره، فشئ كثير، وغلال وأبقار وحواصل، فاكثر من ان يدكر. واما الضياع الملك بالشأم، فعده كثيرة. اكثرها اخدها من املاك الامير المرحوم سيف الدين بلبان الدوادار الرومى مخدومنا؛ لما توفى وخلف ولده ناصر الدين محمد عمل عليه انسان (9) من خشداشيتنا، يقال له قرطلمش، وبيعه اكثر املاكه للامير حسام الدين طرنطاى بطمع انه يخلص له امره. فاشتراهم (10) منه بدون الطفيف، ومات ناصر الدين ابن الامير الدوادار قبل مسك طرنطاى، ولم يحصل له شئ غير الجنديه. فسبحان الحاكم العدل بين عباده. ذكر [حوادث] سنة تسعين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم اربعه ادرع وثلث (14) اصابع. مبلغ الزياده سبع عشره (15) دراعا فقط.

(3) وسبعين قنطار مصرى: وسبعون قنطارا مصريا (9) انسان: إنسانا (10) فاشتراهم: فاشتراها (14) وثلث: وثلاثة (15) سبع عشره: سبعة عشر

ما لخص من الحوادث

ما لخص من الحوادث (270) الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (2) العباس امير المومنين. والسلطان الملك الاشرف سلطان الاسلام من دنقله الى حدود الفراه (3). وما ورا دلك فى مملكه التتار، والملك عليهم فى هده السنه ارغون بن ابغا بن هلاوون، وهو ملك الطايفه المجاوره للاسلام بحدود الفراه (5). وصاحب مكه-شرفها الله تعالى-نجم الدين ابو نمى محمد بن ادريس بن قتاده الحسنى. وصاحب المدينه-على ساكنها الصلاه والسلام-عز الدين جماز بن شيحه الحسينى. وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن الملك المنصور تقى الدين عمر [بن على بن رسول] (8). وصاحب الروم السلطان غياث الدين كيخسروا ابن (9) ركن الدين قليج ارسلان السلجوقى. وصاحب ماردين الملك المظفر قرا ارسلان بن الملك السعيد ايلغازى الارتقى. وصاحب حماه الملك المظفر تقى الدين محمود بن الملك المنصور ناصر الدين محمد. وصاحب المغرب بتونس ابى (11) عبد الله محمد ابن يحيى بن محمد المقدم دكره. وصاحب الهند بدلى شمس الدين ايتامش المعروف بالغازى. وفيها يوم الثلثا العشرين من المحرم وصل الى الديار المصريه الصاحب شمس الدين ابن السلعوس من الحجاز الشريف على الهجن، واجتمع بمولانا السلطان الملك الاشرف. فلما كان اليوم الثالث من وصوله نزلت اليه الخلع بتقليد الوزاره بالممالك الاسلاميه، وجلس من يومه، وحكم ونفّد الاشغال. وكتب تقليده القاضى المرحوم محيى الدين بن عبد الظاهر بخطه. وركب فى دست وموكب عظيم، ما ركب مثله الى (18) الخلفا. وفى خدمته الامير بها الدين بغدى الدوادار الاشرفى، والطواشى شهاب الدين مرشد، وجميع اكابر الدوله واعيانها وقضاتها وحكامها.

(2) ابى: أبو (3) الفراه: الفرات (5) الفراه: الفرات (8) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (9) كيخسروا ابن: كيخسرو بن (11) ابى: أبو (18) الى: إلا

وفيها سابع (1) صفر قبض السلطان على الامير شمس الدين سنقر الاعسر والامير سيف الدين جرمك الناصرى. (271) وافرج (2) عن الامير زين الدين كتبغا، ورد عليه ما كان له (3) من الاقطاع. وفى سلخ شهر صفر وصل الامير عز الدين الافرم الى دمشق المحروسه لتجهيز المناجنيق والزردخاناه لاجل حصار عكا. ونودى فى جامع دمشق يوم الجمعه الغزاه الى عكا. وشرع الناس من العشر الاول من ربيع الاول فى خروج المناجنيق، وسافر اولها مع الامير علم الدين الدوادارى. وفى العشرين من الشهر خرج الامير حسام الدين لاجين ملك الامرا بالجيش الشامى، ووصل الملك المظفر صاحب حماه بزردخاناه ورجال كثيره. وفى يوم الاثنين رابع وعشرين الشهر وصل الامير سيف الدين الطباخى، وصحبته عسكر طرابلس مع حصن الاكراد. وترادفت (10) الناس والنواب يتلوا (11) بعضها بعضا. واما مولانا السلطان فانه عمل ليله الجمعه الثامن والعشرين من صفر (12) ختمه عظيمه بالمدرسه (13) المنصوريه، ومهم عظيم (14) انفق فيه اموال جمه. ونزل السلطان بنفسه الكريمه لزياره ضريح والده السلطان الشهيد، وفرق فى الفقرا والقرّا، وعلى جميع اهل المدارس

(1) سابع: كذا فى الأصل وتاريخ الجزرى، مخطوطة جوتا 1560، ق 78 آ، وتاريخ ابن الفرات ج‍ 8 ص 110؛ بينما فى م ف «سابع عشر» --الاعسر: فى م ف والجزرى وابن الفرات «الأشقر» (2) وأفرج عن الامير زين الدين كتبغا: فى الأصل «وافرج عن الامير بدر الدين بيسرى والامير زين الدين كتبغا»، ويبدو أن ابن الدوادارى تحقق من خطئه فوضع فوق اسم «الامير بدر الدين بيسرى» علامات الحذف، انظر ما يلى ص 312 وم ف والجزرى ق 78 آ، وابن الفرات ج‍ 8 ص 110 - -عليه: فى الأصل «عليهما» (3) له: فى الأصل «لهما» (10) وترادفت: وترادف (11) تتلوا بعضها: يتلو بعضهم (12) صفر: فى المتن «ربيع الأول»، وذكر اسم الشهر مصححا بالهامش (13) بالمدرسه: فى الجزرى ق 78 ب «بالقبة» (14) ومهم عظيم: ومهما عظيما--اموال: أموالا

ذكر فتح عكا وماجرا عليها من الحروب

والزوايا والخوانق تقدير خمسه واربعين الفم (1) والف قميص. ثم توجه طالبا الغزاه ثالث ربيع الأول (2)، ونزل عليها ووقع الحصار. ذكر فتح عكا وماجرا (3) عليها من الحروب كان نزول السلطان عليها يوم الخميس ثالث شهر ربيع الاخر من هده السنه، الى ثامن جمادى الاولى حصل للعسكر تشويش عظيم، سببه هروب الامير حسام الدين لاجين وعلم الدين ابو (6) خرص. وكان ابو خرص قد قال للامير حسام الدين: «احترز، فان السلطان يمسكك». فخاف القبض عليه، فركب وطلب (272) ناحيه السواد، وكان نازلا بالقرب من الامير علم الدين الدوادارى. فلما احس بهروبه، ركب وساق خلفه الى قرب عجلون، فلحقه وقال له: «بالله عليك لا تكن سبب هلاك المسلمين. فان الفرنج ان علموا بالأمر خرجوا على المسلمين، وهم فى هدا التشويش من جهتك. فلن تكن (11) لهم اقامه، وتكن انت السبب فى دلك». ولم يزل به حتى رجع به. فلما كان ثانى يوم احضره السلطان، واخلع عليه، وطيب قلبه يومين. ثم ان السلطان رسم فى اليوم الثالث ان يلبس الجيش جميعه لاجل الزحف على عكا. فركب الجيش بكماله، وحضروا الى باب الدهليز المنصور. وفى تلك الساعه مسك الامير حسام الدين لاجين، وقيده وسيره الى صفد صحبه الامير فارس الدين البكى.

(1) الفم: كذا بالأصل، ويقصد المؤلف «الف درهم» كما ورد فى م ف والجزرى ق 78 ب (2) ثالث ربيع الأول: فى الأصل وفى م ف «ثالث شهر دى القعدة»، وهو تصحيف والصيغة الصحيحة هى المثبتة من الجزرى ق 78 ب (3) جرا: جرى (6) ابو: أبى (11) تكن: تكون--وتكن: وتكون

حكى لى مملوك فارس الدين البكى، كان جار (1) لنا ونحن بدمشق، يسمى طقطاى، كان متزوج (2) بنت امين الدين العجمى الدى كان محتسب دمشق، قال: لما سلم السلطان الملك الاشرف-رحمه الله-لاجين، وهو ممسوكا (3)، لاستادى الفارس البكى، توجهت معه. فوقع علينا فى تلك الليله مطر عظيم، فلبسنا جميعنا البرانس الجوخ والطراطير البلغارى، ولاجين بقباء ابيض بغير برنس ولا طرطور. فقت لاستادى وكنت ادلّ عليه: «والله، متى صار من هدا شئ لا بد ان ينالك منه ما تكره». فقال لى استادى: «يا مجنون، تريدنى اشفق عليه والبسه، ومعنا من هو عين للسلطان علينا يحدثه بجميع ما نحن فيه. وانى اخشى ان يبلغ السلطان عنى ما افعله معه، فيمسكنى ايضا. وهدا ملك لا يلعب معه. فان صار من هدا شى كما تزعم، كان (10) الارض لنا واسعه». قال: فلما تسلطن لاجين هرب البكى مع المقفزين (11) الى التتار-كما ياتى دكرهم انشا الله تعالى. وكان هدا اكبر ذنوبه (273) وأؤكد اسباب هروبه. ولنعود (13) الى دكر حصار عكا لم يزل مستمرا عليها، والحرب قايمه على ساق وقدم. ولم يغلق لها باب الى سادس عشر جمادى الاولى عزم السلطان على الزحف، فرتب الكوسات على ثلثمايه جمل. ثم اصبح يوم الجمعه سابع عشره، فزحف عليها بالجيوش بكره النهار قبل طلوع الشمس. وضربت الكوسات مع طبلخانات الامرا مع الطنابك الجماليه مع صراخ الابطال وصهيل الخيل وقعقعه السلاح. فخيّل لاهل عكا ان القيامه قد قامت فى تلك الساعه. فلم تطلع الشمس من الابراج الا والسناجق السلطانيه الاسلاميه على البدن والابراج، والفرنج-خدلهم الله-قد ولوا الادبار، وركنوا الى الفرار، وركبوا المراكب طلبا للنجاة. وقد داركهم الموت فجاه،

(1) جار: جارا (2) متزوج: متزوّجا (3) ممسوكا: ممسوك (10) كان: كانت (11) المقفزين: فى الأصل «المفقزين» --دنوبه: ذنوبه (13) ولنعود: ولنعد

ذكر نبد من اخبار هده القلاع

فقتل منهم عالم لا يحصى بعدد الرمل والحصى، وهلك فى المراكب خلق عظيم. وعادوا يقتلون بعضهم بعضا لازدحامهم، وقرب حمامهم. وهجموا (2) المسلمون الديار، ووضعو السيف فيمن تبقى من الكفار. وسبوا النسا الاحرار، وهتكوا منهم (3) الاستار. واسروا الاولاد الصغار، واعادوهم مماليكا (4) وامهاتهم جوار. فسبحان من قضى وحكم، الجارى قضاه (5) وحكمه على ساير الامم من العرب والعجم. والحمد لله الدى مكن ايدى المومنين من صياصى نواصى الكافرين وملكت عكا. والحمد لله رب العالمين. وشرع فى هدم اسوارها من اول يوم السبت صبحه الفتح المبارك، وابدل الله الكفر بالايمان، وضرب الناقوس بصوت الاذان (9). وفى نهار الاحد تاسع عشره وردت البشاير بتسليم مدينه صور، وهروب الفرنج منها. وفى العشرين منه وردت البشاير بتسليم صيدا. (274) وفى حادى عشرين منه جرد السلطان لشمس الدين نبا (12) ابن المحفدار، وهو يوميد امير جاندار، وامره بهدم صور ولا يدع بها سور (13). ذكر نبد من اخبار هده القلاع نقل عن الشيخ عماد الدين الاصفهانى-رحمه الله-من تاريخه ان فى سنه ثمان عشر (16) وخمس مايه هبت ريح حملت رمل الرصافه الى قلعه جعبر. وفى تلك السنه

(2) وهجموا: وهجم (3) منهم: منهن (4) مماليكا: مماليك--جوار: جوارى (5) قضاه: قضاؤه (9) الادان: الأذان (12) نبا: فى المتن «تبا»، والصيغة المثبتة من تاريخ الجزرى، مخطوطة جوتا 1560، ق 91 آ (وفيات سنة 692)، وتاريخ ابن الفرات ج‍ 8 ص 113 - -ابن: بن (13) سور: سورا (16) ثمان عشر: ثمانى عشرة

فتحت الفرنج مدينه صور. وكان واليها يسمى عز الدين نبا (1)، من قبل الخلفا المصريين، فهرب الى دمشق. ثم كان هدمها على يد نبا، سمى دلك الوالى. واخدت من صاحب مصر، واستعادها صاحب مصر، فهدا من الاتفاق. ولما توجه السلطان الى دمشق زينت زينه عظيمه، ودخل فى دست سعيد ووقت مبارك، وصحبته الصاحب شمس الدين بن السلعوس. وكان مدة حصار عكا، حتى يسر الله، اربعه واربعين يوم (6). واستشهد عليها من الامرا: الامير علا الدين كشتغدى الشمسى، وبدر الدين بيليك المسعودى، وجمال الدين أقوش الغتمى، وعز الدين ايبك العزى نقيب الجيوش المنصوره، واستقر عوضه الامير سيف الدين بلبان الفاخرى. وقتل ايضا شرف الدين قيران السكزى، ومن مقدمى الحلقه المنصوره اربع نفر (10)، وجماعه قليله من الجند بالحلقه المنصوره. وكان دخول السلطان دمشق المحروسه يوم الاثنين ثانى عشر جمادى الاخره. وتولى نيابه الشام الامير علم الدين الشجاعى عوضا عن الامير حسام الدين لاجين. وزاد اقطاع النيابه قريه حرستا (13)، وهى من خواص ضياع الشام، ولم تبرح فى خاص المملكه الى دلك الوقت. ورسم له ان يطلق من الخزانه بقلمه مهما اختار من غير اعتراض عليه.

(1) عز الدين نبا: فى الأصل وفى م ف «عز الدين تبا» والصيغة المثبتة من تأريخ ابن الفرات ج‍ 8 ص 113، بينما ورد الاسم فى تاريخ ابن الأثير ج‍ 10 ص 488،620 «عز الملك الأعز» (6) يوم: يوما--واستشهد. . .: من هنا الى نهاية الجزء الثامن من ابن الدوادارى يطابق النص-الى حدّ كبير-النص الوارد فى؛ Zettersteen,Beitrage وسوف يشير المحقق الى نص Zettersteen بحر فى زت (10) اربع: أربعة (13) حرستا: فى الأصل «حربا»، وفى م ف «خرتبا»؛ والصيغة الصحيحة المثبتة من Sauvaget,La chronique de Damas d'al-Jazari,S .6,No .53

وفى يوم الاحد ثامن عشر جمادى الاخره تولى الامير شمس الدين سنقر (275) الاعسر شاد الدواوين بالشام الولايه الثانيه على عادته. وسببه انه توصّل بالصاحب شمس الدين بن السلعوس وتزوج ابنته، فاعاده الى رتبته. وفى يوم الاربعا تاسع عشر رجب توجه السلطان من دمشق طالب (4) الديار المصريه. وكان لما فتح عكا جعل على هدمها الامير علم الدين الشجاعى والامير سيف الدين طغريل الشبلى. ثم تجهز الشجاعى الى صيدا وبيروت وبقيه بلاد الساحل، ففتحها ونضف (7) الساحل من الفرنج-حسبما دكرناه. وعده الحصون التى اخدت فى هده السفره المباركه سبع (8)، وهم: صيدا، بيروت، عتليت، انطرطوس، جبيل، صور. وأما عكا فهم (9) أم هده الحصون. وفى هده السنه لم يبق للفرنج بالساحل حصن ولا معقل. وملك الله الاسلام ممالك عبدة الصلبان والاصنام ببركة النبى عليه السلام. وكان دخول السلطان الى القاهره المحروسه، وقد زينت زينه عظيمه لم يعهد قبلها مثلها، يوم الاثنين تاسع شهر شعبان المكرم. وكان دخوله من باب النصر وخروجه من باب زويله، فى يوم مشهود لم يروا (13) الناس مثله. وفيها ثامن عشر شعبان افرج الله تعالى عن الامير بدر الدين بيسرى من الحبس، وكان له مدة تسع سنين معتقل (15). واعاد [السلطان] اليه اقطاعه وامرته التى كانت فى ايام السلطان الشهيد الملك المنصور. وفى رابع رمضان افرج الله عن جماعه من الامرا، وهم: الامير شمس الدين سنقر الاشقر، والامير حسام الدين لاجين، وركن الدين طقصوا (18)، وشمس الدين سنقر الطويل، وردّ عليهم اقطاعاتهم.

(4) طالب: طالبا (7) ونضف: ونظف (8) سبع: سبعة، فى المتن «خمس»، والعدد مصحح «سبع» بالهامش--وهم: وهى--عتليت: عثليث (9) فهم: فهى (13) يروا: ير (15) معتقل: معتقلا (18) طقصوا: طقصو

وفيها قطع [السلطان] جماعه من الامرا عند عودته من عكا وهم: سيف الدين طغريل الشبلى، وفخر الدين اياز المقرى، وسيف الدين بكتمر الساقى العزيزى، وصاحب العباسه، وعز الدين الاطروش، (276) وشرف الدين قيران الشهابى، وعلم الدين سنجر المسرورى المعروف بالخياط، وجمال الدين بن نهار، وجمال الدين الهمام الحاجب. ثم رتب لهم راتب (5) جيد، كفايتهم من جميع ما يحتاجون اليه. وكدلك قطع الامير علم الدين سنجر الحلبى. ولنعود (7) الى دكر نبد القلاع المدكوره: امّا عكا ففى سنه سبع وستين واربع مايه فتوحها كان على يد التركمان من الفرنج، ثم عادوا (8) الفرنج غلبوا عليها فملكوها. فلما كان فى سنه اثنتين وثمانين واربع مايه، جهز بدر الجمالى-المقدم دكره فى دوله العبيديين المعروف بامير الجيوش نصير الدوله-فى جيوش كثيفه الى الساحل ففتح عكا وصور وصيدا وجبيل، ونزل على بعلبك. وفى تلك السنه فتح تاج الدوله تتش حمص بالامان من ابن ملاعب. واستمرت عكا فى ايدى المسلمين الى سنه ست وتسعين واربع مايه، نزل عليها الملك بغدوين، صاحب القدس يوم داك، فحاصرها وضايقها فملكها يوم الجمعه خامس عشر جمادى الاولى بالسيف عنوة. واستقرت فى ايدى الفرنج الى حين فتحها السلطان صلاح الدين-حسبما سقناه فى الجزء المختص بدكر ملوك بنى ايوب. ومن عجيب الاتفاق ان السلطان صلاح الدين ابن (16) ايوب فتحها من الفرنج يوم الجمعه فى شهر جمادى، والسلطان صلاح الدين الملك الاشرف هدا فتحها يوم الجمعه فى شهر جمادى، وكدلك اخدوها (18) الفرنج من المسلمين من قبل دلك فى يوم الجمعه فى شهر جمادى. فيكون ما بين تسليمها للفرنج واستقرارها بايديهم عند اخدهم لها

(5) راتب جيد: راتبا جيدا (7) ولنعود: ولنعد (8) عادوا: عاد (16) ابن: بن (18) اخدوها: أخذها

فى يوم الجمعه سابع عشر جمادى الاخره سنه سبع وثمانين وخمس مايه، الى حين فتحها مولانا السلطان الشهيد الملك الاشرف من المده: مايه سنه وسنه واحده (277) واحد عشر شهر (3) ويوم واحد. وهده عكا يعظموها النصارا (4) جميعهم من ساير طوايفهم فى المله النصرانيه لاجل الناصرة؛ وهى القريه التى خرج منها المسيح-عليه السلام-وامه مريم-عليها السلام. والناصره قريه بظاهر عكا، فلهدا السبب لا يزال الفرنج يقصدونها ويطلبوا (6) اخدها من المسلمين وتعظمونها (7) كتعظيمهم بيت المقدس. وبها ايضا عين ماء تسمى عين البقر تزورها (8) المسلمون والنصارا واليهود، يقولون ان البقره التى ظهرت لآدم عليه السلام فحرت (9) عليها، انما خرجت له من هده العين. وفيها ايضا مشهد صالح النبى عليه السلام. وكان فتحها فتحا مبينا وامرا عظيما. وأما صور، فبقيت فى ايدى المسلمين الى سنه ثمان (11) عشره وخمس مايه، فضعف امر المسلمين الدى (12) كانوا بها، وعلموا بدلك الفرنج-خدلهم الله-فتأهبوا لفتحها ونزلوا عليها وضايقوها حتى عدم القوت عند اهلها. وكان بها يوم داك ظهير الدين، فلما علم ان لا قدرة له بهم وتحقق عجزه عن حفظها، كاتب الفرنج وقرر امره معهم ان يسلمهم البلد بالامان؛ على ان من اراد الخروج منها لا يمنع ومن اراد الاقامه بها لا يكره. ثم فتح الباب ونادى فى الناس بدلك، فخرج اهلها وقد حمل كل منهم ما قدر على حمله وترك الباقى، ولم يبق بها الا ضعيف لا يطيق الحركه. وتسلمها الفرنج، فلم تزل فى ايديهم الى ان فتحها السلطان صلاح الدين بن ايوب-حسبما سقناه من دكر دلك. ودكرنا سبب عودها الى الفرنج بما يغنى اعادته هاهنا، والله اعلم.

(3) شهر: شهرا--ويوم واحد: ويوما واحدا (4) يعظموها النصارا: يعظمها النصارى (6) ويطلبوا: ويطلبون (7) وتعظمونها: ويعظمونها (8) تزورها: يزورها--والنصارا: والنصارى (9) فحرت: فحرث--مشهد صالح النبى عليه السلام: مشهد الامام على بن أبى طالب كرم الله وجهه، ز ت (11) ثمان: ثمانى (12) الدى: الذين--وعلموا: وعلم

ومن ما ورد من المدايح الحسنه فى السلطان الملك الاشرف على ما يسره الله على يديه من فتح عكا، نظم محمد ابن الحسن بن سباع-رحمه الله-قوله (2) [من جمله قصيده طويله] (3) <من الكامل>: (278) يا أشرف الدنيا تهنّ فإنّه … فتح سواك بمثله لم يحلم (4) أشبهت معتصم الخلايف همّة … بالروم فيك ديارها لم تعصم فأريت (6) … عكّا ما بعمّوريّة رأت الفوارس بالزمان الأقدم قابلت بلق جيوشه (7) … بسوابق غرّ عليها الرمح لم يتقدّم ولأنت من صبح دليل لم تزل … تردى الكماة بأشهب وبأدهم (8) كم رعتها بسواد ليل أليل … فصدمتها ببياض يوم أيوم وأعدتها للمسلمين ولم يكن … منهم يرى القطمير إلاّ بالدّم ولئن صلاح الدين بكرا نالها … فالبكر فى التجريب دون الأيّم فالجمعة الغرّاء كان صباحها … وجه الزمان بمثله لم يرقم لم تمل خندقها وقد داروا به … طعنا بغير شظا (13) القنا المتحكّم فغدت ومن فيها بما أوليتها … خبرا يقصّ لمنجد أو متهم ومن نظم المولى شهاب الدين محمود كاتب الانشا الشريف-رحمه الله <من البسيط>: الحمد لله زالت (17) … دولة الصلبى وعزّ بالتّرك دين المصطفى العربى

(2 - 3) ما بين الحاصرتين مكتوب بالهامش (4) يحلم: يحكم، ز ت (6) فأريت: فى الأصل «فأرايت» --بعمورية: كلّ حدّ باتر، ز ت (7) جيوشه: ذكر ابن الدوادارى فى الهامش أمام هذه الكلمة «قلت لعلها خيوله» --الرمح: الريح، ز ت (8) وبأدهم: فى الأصل «وبالأدهم» (13) شظا: شظى (17) زالت: كذا فى الأصل وفى ابن الفرات ج‍ 8 ص 115؛ بينما فى ز ت وابن شاكر الكتبى، فوات الوفيات (ط. القاهرة 1951)، ج‍ 1 ص 305 «ذلت»

هذا الذى كانت الآمال لو طلبت … رؤياه فى النوم لاستحيت من الطلبى ما بعد عكا وقد هدّت قواعدها … فى البحر للشرك عند البرّ أربى عقيلة ذهبت أيدى الخطوب بها … دهرا وشدّت عليها كفّ مغتصبى لم يبق من بعدها للكفر اذ خربت … فى البرّ والبحر ما ينجى سوا (4) الهرب كانت تخيّلنا آمالنا فترى … أنّ التفكّر فيها (5) أعجب العجب أمّ (6) … الحروب فكم قد أنشأت فتنا شاب الوليد بها هولا ولم تشب سوران برّ وبحر حول ساحتها … دارا وأدناهما أنأى (7) من القطبى خرقاء أمنع سوريها وأحصنه … قلب (8) الكماة وأقواه على النوبى (279) مصفّح بصفاح حولها شرف … من الرماح وأبراج من القضبى (9) مثل الغمامة تهدى من صواعقها … بالنبل أضعاف ما تهوى (10) من السحبى كأنّما كلّ برج حوله فلك … من المجانيق ترمى الارض بالشهبى ففاجأتها (12) … جنود الله يقدمها غضبان لله لا للملك والنشبى ليث أبا (13) … أن يردّ الوجه عن أمم يدعون ربّ الورى سبحانه بأبى كم رامها ورماها قبله ملك … جمّ الجيوش فلم يظفر ولم يصبى لم يلهه ملكه بل فى أوايله … نال الذى لم تنله الناس فى الحقبى لم ترض همّته إلاّ التى قعدت … للعجز عنها ملوك العجم والعربى

(4) سوا: سوى (5) فيها: فى الأصل «فيها من»؛ والصيغة الصحيحة المثبتة من ز ت، وابن الفرات ج‍ 8 ص 116، وابن شاكر ج‍ 1 ص 305 (6) أمّ: كذا فى الأصل وابن الفرات؛ بينما فى ز ت، وابن شاكر «أما» (7) أنأى: فى الأصل «أناأى» (8) قلب: فى ز ت وابن الفرات «غلب» (9) القضبى: فى ز ت وابن الفرات وابن شاكر «اليلب» (10) تهوى: فى ابن الفرات وابن شاكر «تهدى» (12) ففاجأتها: فى الأصل «ففاجئتها» (13) أبا: أبى

فأصبحت وهى فى بحرين مايلة … ما بين مضطرم نار (1) ومضطربى جيش من الترك ترك الحرب عندهم … عار وراحتهم ضرب من الوصبى خاضوا إليها الرّدى والبحر (3) … فاشتبه ال‍ أمران واختلفا فى الحال والسببى تسنّموها فلم يترك منايهم (4) … فى ذلك الأفق برجا غير منقلبى تسلّموها فلم تخل الرقاب بها … من قتل (5) منتقم أو كفّ منتهى أتوا حماها فلم تدفع وقد وثبوا … عنها مجانيقهم شيّا (6) ولم تثبى يا يوم عكّا لقد أنسيت ما سبقت … به الفتوح وما قد خطّ فى الكتبى لم يبلغ النطق جهد (8) … الشكر فيك فما عسى يقوم به ذو الشعر والخطبى كانت تمنّا (9) … بك الأيام من أمم والحمد لله شاهدناك عن كثبى أغضبت عبّاد عيسى إذ أبدتهم … لله أىّ رضا (10) فى ذلك الغضبى وأطلع الله جيش النصر فابتدرت … طلايع الفجر (11) بين السمر والقضبى وأشرف [المصطفى] (12) … الهادى البشير على ما أسلف الأشرف السلطان من قربى فقرّ عينا بهذا الفتح وابتهجت … ببشره الكعبة الغرّاء فى الحجبى (280) وسار فى الأرض مسرى الريح سمعته … فالبرّ فى طلب والبحر فى هرب (14) وخاضت البيض فى بحر الدماء فما … أبدت من البيض إلاّ ساق مختضبى

(1) نار: نارا (3) والبحر: كذا فى الأصل وفى ابن الفرات؛ بينما فى ز ت وابن شاكر ص 306 «والهجر» --فاشتبه--: فى الأصل «فاشتبها ل‍» (4) منايهم: كذا فى الأصل؛ بينما فى ز ت وابن شاكر «تسنمهم»، وفى ابن الفرات «ثباتهم» (5) قتل: فى ز ت وابن الفرات «فتك» (6) شيا: شيئا--ثتبى: تثب (8) جهد: فى ز ت وابن الفرات وابن شاكر «حدّ» (9) تمنا: تمنى (10) رضا: رضى (11) الفجر: فى ز ت، وابن الفرات ج‍ 8 ص 117 «الفتح»، وفى ابن شاكر ج‍ 1 ص 306 «النصر» (12) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (14) فى طلب والبحر فى هرب: فى ز ت وابن الفرات ج‍ 8 ص 117 وابن شاكر ص 1 ج‍ 306 «فى طرب والبحر فى حرب»

وغاض زرق القنا فى زرق أعينهم … كأنّها شطن تهوى إلى قلبى توقّدت وهى تروى (2) … فى نحورهم فزادها الرىّ فى الإشراق واللهبى أجرت إلى البحر بحرا من دمايهم … فراح كالراح إذ غرقاه كالحبى وذاب من حرّها عنهم حديدهم … فعبّدتهم به دعوى (4) يد الرهبى تحكّمت فسطت فيهم قواضبها … قتلا وعفّت لحاويها عن السلبى كم أبرزت بطلا كالطود قد بطلت … حواسّه فغدا كالمنزل الخربى كأنّه وسنان الرمح يطلبه … برج هوى ووراه كوكب الذنبى بشراك يا ملك الدنيا لقد شرفت … بك الممالك واستعلت على الرتبى ما بعد عكا وقد لانت عريكتها … لديك شئ تلاقيه على تعبى فانهض إلى الأرض فالدنيا بأجمعها … مدّت إليك نواصيها بلا نصبى (10) كم قد دعت وهى فى أسر العدى زمنا … نحو (11) الملوك فلم تسمع ولم تجبى لقيتها (12) … يا صلاح الدين معتقدا بأنّ ظنّ صلاح الدين لم يخب أسلت فيها كما سالت دمايهم (13) … من قبل إحرازها بحرا من الذهبى أدركت ثأر صلاح الدين إذ عصيت (14) … لسرّ طواه الله فى اللقبى وجئتها بجيوش كالسيول على … أمثالها بين آجام من القضبى

(2) تروى: فى المتن «تهوى» والفعل مصحح بالهامش بقلم ابن الدوادارى (4) فعبدتهم به دعوى: فى ز ت وابن الفرات وابن شاكر «فقيدتهم به ذعرا» (10) بلا نصبى: فى المتن «بلا تعبى»، وكتب ابن الدوادارى فى الهامش «لعله بلا نصبى»، وهى الصيغة الصحيحة، انظر ز ت وابن الفرات وابن شاكر (11) نحو: فى ز ت وابن الفرات وابن شاكر «صيد» (12) لقيتها: فى الأصل «لبقيها»؛ بينما فى ز ت وابن شاكر «أتيتها» وفى ابن الفرات «لبيتها»؛ والصيغة المثبتة من Zettersteen S 73 (13) دمايهم: دماؤهم (14) عصيت: فى ز ت وابن الفرات «غضبت»؛ وفى ابن شاكر ج‍ 1 ص 307 «غصبت»

وحطّها (1) … بالمجانيق التى وقفت أمام أسوارها فى جحفل لجبى مرفوعة نصبوا معانها (2) … فبنت للجزم والكسر منها كلّ منتصبى ورضتها بنقوب ذلّلت سهما (3) … منها وأبدت محيّاها بلا نقبى وبعد صبحتها بالزحف فاضطربت … رعبا وأهوت بخدّيها الى الترب (281) وغنّت البيض فى الأعناق فارتقصت … [أجسادها] (5) لعبا منها مع اللعب وخلّقت بالدم الأسوار فابتهجت … طيبا ولولا دماء القوم لم تطب وأبرزت كلّ خود كاعب نثرت … لها الرؤوس وقد زفّت بلا طرب بانت وقد جاورتنا ناشزا (8) … وغدت طوع الهوى فى يدى جيرانها الجنب ظنّوا بروج البيوت تعقلهم … فاستعقلتهم ولم تطلق ولم تهب فأحرزتهم ولكن للسيوف لكى … لا يلتجى أحد منهم إلى هرب (10) وجالت النار فى أركانها وغلت (11) … فأطفأت ما بصدر الدين من كربى أضحت أبا لهب تلك البروج وقد … كانت بتعليقها {حَمّالَةَ الْحَطَبِ} (12) وأفلت البحر منهم من يخبّر من … يلقاه من قومه بالويل والحربى وتمّت النعمة العظمى (14) … وقد ملكت بفتح صور بلا حصر ولا نصبى

(1) وحطها: فى ز ت وابن الفرات وابن شاكر «وحطتها» --لجى: فى الأصل «محبى»؛ والصيغة المثبتة من ز ت وابن الفرات وابن شاكر (2) معانها: فى ز ت وابن الفرات «أضعافها» (3) سهما: فى ز ت وابن الفرات وابن شاكر «شمما» (5) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن الفرات ومن حواشى؛ Zettersteen S .73 وفى ز ت وابن شاكر «أبراجها» (8) ناشزا: فى الأصل «ناشرا» والصيغة المثبتة من ز ت (10) للسيوف. . . هرب: كذا فى الأصل وابن الفرات ج‍ 8 ص 118، بينما فى ز ت وابن شاكر ج‍ 1 ص 307 «السيوف. . . الهرب» (11) أركانها وغلت: فى ز ت وابن الفرات وابن شاكر «أرجائها وعلت» (12) القرآن 111:4 (14) العظمى: فى الأصل «العظماء» --ملكت: كذا فى الأصل وابن الفرات؛ بينما فى ز ت وابن شاكر «كملت»

أختان فى أنّ كلّ (1) … منهما جمعت صليبة الكفر لا أختان فى النسبى لمّا رأت أختها بالأمس قد خربت … كان الخراب لها أعدى من الجرب إن لم يكن ثمّ لون البحر منصبغا … بها (3) إليها وإلاّ ألسن اللهبى فالله اعطاك ملك البرّ (4) … وابتدأت لك السعادة ملك البحر فارتقبى من كان مبدأه عكا وصور معا … فالصين أدنى إلى كفّيه من حلب علا بك الملك حتى إنّ قبّته … على الثريّا غدت ممدودة الطنب فلا برحت عزيز النصر مبتهجا … بكلّ فتح قريب المنح مرتقب ومن مكاتبه السلطان الملك الاشرف لصاحب سيس يعلمه بفتح عكا: «بسم الله الرحمن الرحيم. نعلم الملك أرجون سرمان وفّقه الله فى سرّه وجهره، وجعله ممّن يلتقى المصيبة فى أهل ملّته إذا عجز أن يلتقيها بصدره، أما بعد: فإنّا فتحنا عكا التى هى دين الصليب، (282) فى هذا الأمد القريب. فلو رأيت خندقها العميق مردوما، وكلّ برج كان بها منيعا قد عاد مهدوما، وفرسانها فى خنادقها جاثيه، قد أصبحوا بسيوفنا {صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ} (14). ولما احاط بها ركابنا المنصور، كما يحيط بها السور. أظهروا الجلادة فى القتال، ورموا بالمجانيق والنبال، وحسبوا أنّ بأسهم يصونهم، وأن مانعتهم حصونهم (16)، فما نفعهم الحديد، ولا كثرة العدد والعديد، لما قوّمنا لهم كل سنان،

(1) كل: كلا، انظر ز ت وابن شاكر (3) بها: بما، ز ت--ألسن: فى الأصل «الألسن»، انظر ز ت (4) البرّ: فى المتن «المحر»، والكلمة الصحيحة المثبتة «البر» ذكرها ابن الدوادارى فى الهامش وكذلك فى ابن الفرات (14) القرآن 69:7 - 8 (16) مانعتهم حصونهم: قارن القرآن 59:2

وجاهم (1) الموت من كل مكان. أشرفنا عليهم من الأسوار، وأحطنا بهم كما يحيط بالزند السوار، فولّوا [من] (2) بين أيدينا منهزمين، وأصبحوا على ما فعلوا نادمين. فكل منهم يرى طريحا او أسيرا، لما دمّرناهم وديارهم تدميرا. وأما الديويد فما منعهم طارقة ولا جنويّة، وأما الاسبتار فأفناهم سيفنا البتّار، وأما الزنادقة البنادقة، ألقوا بأنفسهم فى البحر لمّا رأو (5) حملاتنا الصادقة. وأنت، أيّها الملك، إذ لم تعتبر بعكا لأنكيناك على أقصى وجودك، وأعدمناك بعد وجودك، وتندم ندامة أهل عكا حيث لا نفعهم الندم، وتصبح بعد الوجود فى العدم. فتحمل القطيعتين الأولة (8) والثانية، وتحضر بنفسك إلى أبوابنا العالية، وإن خالفت وأطعت إبليس لنطيلنّ حزنك على بلاد سيس، ويكون رأيك على نفسك وبيس (9). فكل منكم يقل (10): لم يبق بعد عكا إلا أنا، فانجو بنفسك قبل ان تقع فى الويل والعناء، وافهم هذا الكلام والسلام». ومما وجد مكتوبا على ابواب كنايس عكا شعرا <من الكامل>: جمع (13) … الكنايس إن [تكن] عبثت بكم أيدى الحوادث أو تغيّر حال (283) فلطال ما سجدت على أبوابكم … شمّ الأنوف جحاجح الأبطال (14) صبرا على هذا المصاب فإنّه … يوم بيوم والحروب سجال وفيها توفى سلامش ابن (16) السلطان الشهيد الملك الظاهر بمدينه اصطنبول.

(1) وجاهم: وجاءهم--الموت: المنون، ز ت--بالزند: اليد، ز ت (2) أضيف ما بين الحاصرتين من ز ت (5) رأو: رأوا (8) الأولة: الأولى (9) وبيس: وبئس (10) يقل: يقول--فانجو: فانج (13) جمع: كذا فى الأصل وفى ز ت؛ بينما فى المقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 767 «أدمى» --أضيف ما بين الحاصرتين من ز ت والمقريزى (14) الأبطال: كذا فى الأصل، بينما فى ز ت والمقريزى «أبطال» (16) ابن: بن

ذكر [حوادث] سنة احدى وتسعين وستمايه

وفيها هلك ارغون بن ابغا ملك التتار، يقال انه سقى. واتهموا به اليهود انهم سقوه، ونصوا دلك على سعد الدوله (2) وزيره، وكان المستولى على ملكه والغالب على امره. فقيل ان بعض خواتين أرغون وقعت معه، فخشى لا يطلع ارغون على أمره فسقاه. فلما تحققوا (4) المغل الامر قتلوا اليهود عن آخرهم، ونهبوا جميع اموالهم، وكانت اموال (5) عظيمه لا يقع عليها الحصر. ثم اختلفت كلمه التتار على الملك، فمالت طايفه الى بيدوا (6) ولم يوافقوا على كيختوا. ثم اجتمع الامر على كيختوا، ووصل الى الروم، وجلس على التخت ثلاثه ايام. وكان قد وصل الخبر الى السلطان الملك الاشرف بدلك، وهو على حصار عكا. وكان هدا ارغون قد عظم شانه عند المغل مد (9) قتل عمه احمد اغا، وكان-كما تقدم من دكره-شجاعا بطلا مقداما، حسن الصوره، سفاكا للدماء، كافرا، شديد البطش، قوى النفس. فاراح الله من شرّه وكفره، فلله الحمد والمنه. ذكر [حوادث] سنة احدى وتسعين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم سبعه ادرع وسته عشر اصبعا. مبلغ الزياده سبعه عشر دراعا واثنا عشر اصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (16) العباس امير المومنين. والسلطان الملك الاشرف، سلطان الاسلام، والملوك حسبما تقدم من دكرهم.

(2) سعد الدوله: فى الأصل وم ف «سعيد الدوله»، والصيغة الصحيحة هى المثبتة من Spuler,Mongolen S .148. (4) تحققوا: تحقق (5) اموال: أموالا (6) بيدوا: بيدو-- كيختوا: كيختو (9) مد: مذ--كما تقدم من دكره: انظر ما سبق ص 263 والترجمة الألمانية فى HaaRmann,S .112 (16) ابى: أبو

(284) دكر فتح قلعه الروم

(284) دكر فتح قلعه الروم لما كان حادى عشرين شهر ربيع الاول من هده السنه عمل بالمدرسه المنصوريه بالقاهره المحروسه مهما عظيما (3)، وقريت الختمه الشريفه. ونزل السلطان الملك الاشرف صبحة تلك الليله، وزار ضريح والده السلطان الشهيد، وتصدق بمال جليل. فلما كان يوم السبت ثامن ربيع الآخر توجه الركاب الشريف السلطانى الى نحو الشأم بجميع العساكر، وصحبته الصاحب شمس الدين بن السلعوس، ودخل دمشق يوم السبت سادس شهر جمادى الاولى. وفى ثامن الشهر المدكور فتح الخزاين، ونفق فى الجيوش المنصوره المصريه والشاميه، ووصل صاحب حماه، ثم اعرض الجيوش، وسيرهم أمامه. وخرج السلطان من دمشق يوم الاثنين سادس عشر جمادى الاولى، ودخل حلب فى الثامن والعشرين منه، ثم توجه منها رابع شهر جمادى الاخره، ونزل على قلعه الروم يوم الثلثا ثامن الشهر المدكور، ووقع الحصار، وكان بها يوميد خليفه الارمن. فلم يزل الحصار والقتال الشديد الدى لا عليه مزيد الى يوم السبت حادى عشر شهر رجب، ففتحها الله تعالى على يديه بمنه وكرمه عليه. وكتبت البشاير الى ساير الممالك الاسلاميه. فمن دلك ما كتب به الى الامير شمس الدين سنقر الاعسر، وهو يوميد النايب بدمشق، (18) [وكتاب الى قاضى القضاه بدمشق، وهو يوميد القاضى شهاب الدين الخويّى،] (19) نسخته:

(3) مهما عظيما: مهم عظيم (18 - 19) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش

«بسم الله الرحمن الرحيم. أخوه خليل بن قلاوون. هذه المكاتبة إلى المجلس السامى القاضى الأجلّ الكبير، الإمام العالم العامل، الفاضل الأثير، الأكمل الأوحد، الرئيس الزاهد العابد، شهاب الدين جمال الإسلام، فخر الأنام، شرف العلماء، جلال الرؤساء، عز الأكابر، شمس الشريعة، صفوة الملوك والسلاطين، خصه الله بأنواع التهانى، وأتحفه بالمسرّات التى تعود بالسبع (285) المثانى، وأورد على سمعه بشاير نصرنا وظفرنا ما يستوعب فى وصفه الألفاظ والمعانى. نبشّره بما فتح الله به على الإسلام، ما سطّرته فى صدور الطروس الأقلام، مما لم تسطّر إلى الأقاليم بأعظم من بشايره، ولا سرت برد المسرّات بأحسن من إشاراته وأشايره، ولا تفوّهت ألسنة خطباء هذا العصر من النصر على المنابر بأفصح من معانيه فى سالف الدهر وغابره، وذلك البشرى بفتح قلعة الروم، والهناء لكلّ من رام للإسلام نصرا ببلوغ ما رام وما يروم. ومن أحسن قصص هذا الفتح المبين، والمنح الذى تباشر به ساير المؤمنين، وتساوى فى الإعلان والإعلام به كلّ من قرّ عينا من الأبعدين والأقربين، ويخصّ (14) فى ذلك بشرا تسرّ به الحكام، ثم تعمّ البشرا عامة الناس، ويفرض لكلّ ذى مرتبة عليّة منه نصيب يجمع من الابتهاج الأنواع والأجناس. وذلك أنّا ركبنا بنية غزوها من مصر لقصد عداها، وقد كان [من] (16) قبلنا من الملوك يستبعد مداها، ويناديها فلا يجيب إلاّ بالصدّ والإعراض صداها، ويسايل النسيم عن جبالها فيحيل (17)

(14) ويخص. . . عامة الناس: فى الجزرى، حوادث الزمان (مخطوطة باريس 6739، نشر، (Sauvaget,Chronique de Damas,S 901 - 011 وفى النويرى ج‍ 29 ص 65 (انظر ملحق 11 لسلوك المقريزى ج‍ 1 ص 1005 - 1007)، وفى ز ت «ويخص بمسرى مسرّاته الحكام ليعموا بنشرها عامة الناس» --البشرا: البشرى (16) أضيف ما بين الحاصرتين من الجزرى ص 110، والنويرى ص 65، وز ت (17) فيحيل: فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «فتحيل»

فى الجواب على النسور المحوّمة (1)، ويستشيروا أولى الرأى فى حصرها فلا يسمع إلاّ الأقوال المتلوّنة والآراء المتلوّمة. وما زلنا نصل السرى بالسير، ونرسل الأعنّة إلى نحوها فتمدّ (3) الجياد أعناقها إليها مدا ينقطع بين قوّتها وقوّته السير، واستقبلنا من جبالها كلّ صعب المرتقى، وعز المتقى (4)، شاهق لا يلقى به مسلك ولا يلتقى. فما زالت العزايم الشريفة تسهّل حزونه، والشكايم تفجر بوقع السنابك [من حجارته] (6) عيونه، والجياد ترتقى مع امتطاء متونها بدروع الحديد شؤونه (7). فلما أشرف عليها منّا أشرف سلطان جعل جبلها دكّا، وحاصرناهم حصار (8) (286) ألحقها بعكّا وأخواتها، وإن كانت أحصن من عكّا، ونصبنا عليها عدة مجانيق تنقضّ حجارتها انقضاض النسور، وتقتنص الأرواح من الأجسام، وإن ضرب بينها وبينهم بسور، ونفترس (10) أبراجها بصقور صخور، افتراس الأسد الهصور. هذا والنقوب تسرى فى بدناتها سريان الجبال (12) وإن كانت جفونها المسهّدة، وعمدها الممدّة (13)، وحفظتها المجنّدة، ورواسيها على جبل الفرات موطّدة. وقد خندقوا عليها خندقا جرت فيه الفرات من جانب، ونهر مرزبان من جانب، ووضعها واضعها

(1) المحوّمة: فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «المهوّمة» --ويستشيروا: ويستشير (3) فتمدّ: كذا فى الأصل وز ت والنويرى وابن الفرات ص 138، بينما فى الجزرى «فتميل» (4) وعز المتقى: فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «وعر المنتقى» (6) ما بين الحاصرتين مكتوب بالهامش--والجياد: فى الجزرى: ص 110، والنويرى ص 65، وابن الفرات ص 138، وز ت «والجياد المطهرة». (7) شؤونه: فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «متونه» (8) حصار: حصارا (10) ونفترس: فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «وتفترس» (12) الجبال: كذا فى الأصل، بينما فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «الخيال» (13) الممدة: الممددة، انظر الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت

على ذروة جبل تزاحم الجوزاء بالمناكب، وسفح صرحها الممرّد فكأنّه عرش لها على الماء، وإذا رمتها (2) طرف رأيها اشتبهت عليه بأنجم السماء. وما زالت المضايقة تقصّ من جبلها أطرافه، وتستدرّ بحلبها أحلافه، وتقطع بمسايل جلاد مقاولها (4) وجداله خلافه، ونورد عليها من سهامها كلّ إيراد لا يجاوب إلاّ بالتسليم، ونقضى عليها بكلّ حكم لا يقابل ثبوته إلاّ بالتحكيم. ولمّا أذن الله بالفتح الذى أغلق على الأرمن والتتار أبواب الصواب، والمنح الذى أضفا (7) على أهل الإيمان من المجاهدين أثواب الثواب، فتحت هذه القلعه بقوّة الله ونصره فى يوم السبت حادى عشر رجب الفرد، فسبحان من سهّل صعبها، ويسّر كسبها، وأمكن منها ومن أهلها، وجمع شمل الممالك الإسلامية بشملها. فالمجلس السامى يأخذ حظّه من هذه البشرى التى بشّرت بها ملايكة السماء ملك البسيطة وسلطان الأرض، وثكاثر (11) على شكرها كل من أرضى الله طاعته، وأغضب من لم يرض من ذوى الإلحاد، وممن حادّ الله حادّ، وممن ينتظر من هذا الإيعاد إنجاز الميعاد (13)، فلا ينجيه الأقصا (13_) هربا ولا الإبعاد. فإنّه بفتح هذه القلعة وتوقّلها، (287) وحيازة نقرها (14) ومعقلها، تحقق من بسيحون وجيحون أنّهم-بعد فتح باب الفراه (15) بكسر أقفالها إقفال هذه القلعة-لا يرجون أنهم ينجون. وما يكون بعد

(2) رمتها: كذا فى الأصل؛ فى الجزرى ص 111، والنويرى ص 65، وابن الفرات ص 138، وز ت «رمقها» --رأيها: رائيها (4) مقاولها وجداله: كذا فى الأصل؛ فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «معاولها وجدالها» (7) أضفا: أضفى (11) وثكاثر: وتكاثر--كل: فى الأصل «دل على» والصيغة الصحيحة المثبتة من الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت (13) الإيعاد إنجاز الميعاد: فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «الإيعاز إنجاز الإيعاد» (13_) الأقصا: الأقصى، بينما فى الجزرى «الأفظا» [كذا]، وفى النويرى وز ت «الإفضاء» (14) نقرها: فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «ثغرها» (15) الفراه: الفرات--بكسر: فى الأصل «تكسر»، انظر النويرى وابن الفرات وز ت

هذا الفتح انشاء الله إلا فتح المشرق والروم والعراق، وملك البلاد من مغرب الشمس إلى مطلع الإشراق. والله تعالى يمدّنا من دعواته الصالحة بما يغدوا (2) به عقود الأيمان (3) حسنة الإنساق، إنشاء الله تعالى. كتب فى يوم الفتح المبارك، حسب المرسوم الشريف». وكدلك كتب الامير علم الدين الشجاعى الى القاضى المدكور كتاب (5) نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم. ضاعف الله منار (6) الجناب العالى المولوى القضايى الإمامى، العالمى العاملى، العادلى الزاهدى، العابدى الورعى، الشهابى ضياء الإسلام، شمس الشريعة، قاضى القضاة، مفتى الأمّة، حجّة الأيمّة، سيّد الحكّام، قدوة العلماء، ولىّ أمير المؤمنين. ولا زالت وفود البشاير إليه تترا، وعقود التهانى تفض لديه نظما ونثرا، وفواتح الفتح تتلى عليه بكلّ آية نصرا، يسجد لها القلم فى الطرس شكرا، وتشتمل على أسرار الظفر فتأتى الأسماع من غرابتها بما لم تحط به خبرا، وتتحفه بظهور أثر المساهمة بالهمّة فتهدى إليه سرورا وأجرا. المملوك يستفتح من حمد الله على ما منح من الايه، وفتح على أوليايه، ورهب أعدايه (14)، ويسرّ من الظفر الذى أيّد فيه بنصره وبملايكة سمايه، ما يستديم الإنجاد بحوله، ويستزيد به الإمداد من فضله وطوله، ويوالى من الصلاة على سيّدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم ما يستدّ (16) به أخلاف الفتوح، ويسترهب بيمنه الصوارم

(2) يغدوا: يغدو (3) الأيمان: فى الجزرى ص 112، والنويرى ص 66، وابن الفرات ص 138، وز ت «الآمال» (5) كتاب: كتابا (6) منار: فى الجزرى، نشر Sauvage ; ص 112، والنويرى ج‍ 29 ص 66 (انظر ملحق 11 لسلوك المقريزى ج‍ 1 ص 1007 - 1010)، وابن الفرات ج‍ 8 ص 139، وز ت «مسارّ» (14) ورهب أعدايه: فى الجزرى «ورهب من الاعدا على اعدايه»، بينما فى ز ت والنويرى وابن الفرات «ووهب من الاعداء على اعدايه» (16) يستدّ: كذا فى الأصل والجزرى ص 113، بينما فى ز ت والنويرى وابن الفرات «يستدرّ» --ويسترهب: كذا فى الأصل وفى حواشى؛ Zettersteen S .14 بينما فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «ويسترهف» -- بيمنه: فى الأصل «نيمنه»

التى هى [على] (1) من كفر بالله ورسوله دعوة نوح، ويهدى من البشاير ما يتشرف به أعطاف المنابر سرورا، (288) وينقطر (2) بذكره أفواه المحابر حبورا، وترشف الأسماع موارد وارده فتستحيل فى قلوب الأعداء نارا، وفى قلوب (3) الأولياء نورا، ويبادر مساهمة الحاضر فى استماعه كل ناد فينقلب إلى أهله مسرورا. وينهى أنّه أصدرها والنصر قد خفقت بنوده، وصدقت وعوده، وسار بمخلقات البشاير فى كلّ قطر بريده. والأعلام الشريفة السلطانية قد امتطت من قلعة الروم صهوة لم تذلّ لراكب، وحلّت من قبّتها وقلبها (7) بين الذروة والغارب، وأراقت من أسنّتها (8) من دماهم (8_) ما ترك الفرات لا تحلّ لشارب. ومدّ الإيمان بها أطنابه، وأعجلت السيوف المنصورة للشرك أن يضمّ للرحلة ثيابه (9). واستقرّت بها قدم الإسلام ثابتة [إلى] الأبد، بأرجايها بسيوف أهل الحمية (10)، حتّى رقّ أهل السبت لأهل الأحد، فأذهب الله عنها رسوم التثليث حتّى كاد حكم الثلاثة أن يسقط من العدد، وتبرّأ منهم من كان يمدّهم بإمداده حتّى الفراة (12) بمجاورتهم أودّت النقص خوفا أن يطلق على زيادتها اسم المدد. ونطق بها الأذان، فخرس الجرص (13)، وعلت بها كلمة الإيمان، فأصبحت لها بعد الابتدال آية الحرس، وأسمعت دعوة الحقّ ما حولها من الجبال فسمعت وهى صمّ، ولبّت الداعى بلسان الصدى الناطق عن شوامخها الشمّ.

(1) أضيف ما بين الحاصرتين من الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت (2) وينقطر: وينقطر؛ فى الجزرى والنويرى وابن الفرات «يتعطر» --وترشف: فى الجزرى «وترتشف» (3) قلوب: فى المتن «القلوب»، والكلمة مصححة بخط ابن الدوادارى بالهامش (7) وقلبها: فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «وقلتها» (8) من أسنتها: فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «أسنتها» (8_) دماهم: دمائهم (9) ثيابه: فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «أثوابه» --أضيف ما بين الحاصرتين من الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت (10) بأرجايها بسيوف أهل الحمية: فى الجزرى ص 113 «وسطت بارجايها سيوف اهل الجمعة»، وفى النويرى وز ت «وقتلت بأرجائها سيوف اهل الجمعة» (12) الفراة: الفرات--بمجاورتهم: فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «لمجاورتهم» -- أودّت: كذا فى الأصل؛ بينما فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز وت «ودّت» (13) الجرص: الجرس

وكانت هذه القلعة المذكورة للثغور الإسلامية بمنزلة الشجا فى الحلق، والتشويه فى الخلق، والغلّة فى الصدر، والخسوف الطارئ على طلعة البدر، لا تخلوا (2) من غلّ تضمره، فى لين تظهره، وغدر تستره، فى عذر تورده وتصدره، وقد سكن أهلها إلى مخادعة الجار، وموادعة التتار، وممالأتهم على الإسلام بالنفس والمال، ومساواتهم (289) لهم حتى فى الزىّ والحال، يمدّونهم بالهدايا والألطاف، ويدلّونهم على عورات الأطراف. وهم يتقون (6) بمسالمة الأيام، ويدّعون أنّ قلعتهم لم تزل من الحوادث فى ذمام، ويغترّون بها ولولا السطوات الشريفة لحق مثلها (7) أن يغترّ، ويسكنون إلى حصانتها كلّما أومض فى ذلك (8) السحب برق ثغرها المفترّ. وهو حصن صاعد متحدّر، بارز متستّر (9)، لا يطأ إليه السالك إلاّ على المحاجر، ولا تنظره العيون حتى تبلغ القلوب الحناجر، كأنّه فى ضماير الحال حيث يقبل (10) وهو كامن، ويحرق (11) وهو باطن، قد أرخت عليه الجبال الشواهق ذوايبها، ومدّت عليه الغمايم أطنابها ومضاربها، وقد تنافست فيه الرواسى الرواسخ، والشم الشوامخ (12)، وتقاسمته العناصر فهو فى الرفعة (13_) والثبات مجاوزا للفرات، (13) [مشترك بين النار والهواء والماء والأرض. وقد امتدّت الفرات] (14) من شرقها كالسيف فى كفّ طالب ثأر، واكتنفها

(2) تخلوا: تخلو (6) يتقون: كذا فى الأصل وفى النويرى ص 66؛ فى الجزرى ص 114، وابن الفرات ج‍ 8 ص 140 «يثقون» (7) مثلها: فى الجزرى «لمثلها»، فى النويرى وابن الفرات وز ت «بمثلها» (8) ذلك: فى الجزرى والنويرى وز ت «خلل»، بينما فى ابن الفرات «حلك» (9) متستر: فى ابن الفرات «مستنير»، وفى النويرى وز ت «مستدير» (10) فى ضماير الحال حيث يقبل: فى الجزرى وفى ابن الفرات «فى ضماير الجبال حب يقتل»، وفى ز ت والنويرى «فى ضمائر الخيال خبء يقتل» (11) ويحرق: فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «ويحرف الظاهر» (12) والشم الشوامخ: فى الجزرى والنويرى وابن الفرات «فأخفاه بعضها عن بعض» (13_) فى الرفعة: فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «للنكاية والرفعة» --مجاوزا للفرات: فى الجزرى ص 115، والنويرى ص 66، وابن الفرات ص 140، وز ت «ومجاورة الفرات» (13 - 14) أضيف ما بين الحاصرتين من النويرى وابن الفرات وز ت؛ انظر أيضا حواشى Zettersteen S .14

من جهة الغرب نهرا (1) آخر مستدار نحوها كالستور، وانعطف معها كالسور. وفى قلّة قلّتها جبل يردّ الطرف وهو كليل، ويضلّ النظر فى تخيّل هضابه فلا يهتدى إلى تصوّرها بغير دليل، وكذلك من شرقها وغربها فلا تنظرها الشمس ولا القمر وقت الشروق، ولا يشاهدها وقت الأصيل، وحولها من الأودية خنادق لا يعرف فيها الهلال إلاّ بوصفه، ولا الشهر إلاّ بنصفه. وأمّا الطريق إليها فيزلّ الذرّ عن متنها ويكلّ طرف الطرف عن سلوك سهلها فضلا عن حزنها. وبها من الأرمن عصب جمعهم التكفور، من كلّ فاجر كفور، ومن التتار فوق (8) زيادتهم قد بذلوا دونها النفوس، وتدرّعوا للذبّ عنها لبوس. وأقدموا على شرب كأس الحمام خوفا أن يكفرّهم التكفور أو يحرمهم (290) خليفتهم الحاكم بها كيتاغيوس (10). وإذ زيّن لهم الشيطان أعمالهم، وفسّح فى ميدان الضلالة آمالهم، {فَلَمّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ} (11)، وترك كلّ منهم يعضّ من الندم على يديه. وحين أمر السلطان-خلّد الله ملكه-الجيوش المنصورة بالنزول عليها، والهجوم من خلفها ومن بين يديها، ذللّت مواطئ جيادها صهوات تلك الجبال، وأحاطت بها

(1) نهرا: نهر--مستدار: فى الجزرى ص 115، والنويرى ص 66، وابن الفرات ص 140، وز ت «استدار» --كالستور: كذا فى الأصل وز ت، بينما فى الجزرى والنويرى وابن الفرات «كالسور» --كالسور: كذا فى الأصل وز ت، بينما فى الجزرى والنويرى وابن الفرات «كالسوار» --قلة: فى الجزرى «قبلة»، وفى النويرى وز ت «قنة»، وفى ابن الفرات «قبة» (8) فوق: كذا فى الأصل وز ت؛ بينما فى الجزرى ص 115، والنويرى ج‍ 29 ص 87، وابن الفرات ص 140 «فرق» (10) كيتاغيوس: فى الأصل وم ف «كيناعوس»، والصيغة المصبتة من حواشى، Zettersteen S .14 بينما ورد الاسم فى الجزرى «كتباعنكوس»، وفى النويرى «كعاعيكوس»، وفى ابن--الفرات «كساعكوس»، وفى ز ت «كيتاغيكوس»؛ انظر حاشية 1 لبلوشية فى P .O .XIV ص 554 فى هذا الاسم (11) القرآن 8:48 - -كلّ: كلا

من كلّ جانب إحاطة الهالة بالهلال، وسلكوا إليها تلك المحارم (1)، وقد تقدّمهم الرعب هاديا، وأقدموا على قطع تلك المسالك والمهالك (2) بالأموال والأنفس ثقة منهم بأنهم {لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ اادِياً} (3). فلم يكن بأسرع من أن طار إليهم الحمام فى أجنحة السهام، وخضبت الأحجار تلك الغادة (4) العذراء بالدماء للضرورة وللضرورات أحكام. وأزالت النقّابة عنها نقاب احتشامها، ودبّت فى مفاصلها دبيب السقم فى عظامها، مع أنّها مستقرّة على الصخر الذى لا مجال فيه للحديد، ولكن أعزّ الله بالنصر سلطاننا فجاءت أسباب الفتح كما (7) يريد. وأقيمت المجانيق المنصورة أمامها، فأيقنوا (8) بالعذاب الأليم، وشاموا بروق الموت من عواصف أحجارها التى ما تذر من شئ أتت عليه إلاّ جعلته كالرميم، وساهموها صلاة الحرب فلسهامها الركوع، ولبروجها (10) السجود، وللقلعة التسليم. ولم نزل نشنّ عليهم غارة بعد غارة، ونسقهم (11) على الضمار عيون أحجارها وإنّ من الحجارة، وهى مع ذلك تظهر الجلد والجدّ، وتغضب غضب الأسير على القدّ، وتخفى ما تكابد من الألم، وتشكوا (13) بلسان الحال شكوى الجريح إلى الغربان والرخم، إلى أن جاءت (14) من الإنجاز ما كانوا يأملون، وسطت مجانيقنا على (291) مجانيقهم

(1) المحارم: فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «المخارم» (2) والمهالك: فى الجزرى ص 116، والنويرى ص 87، وابن الفرات ص 140، وز ت «والممالك» (3) القرآن 9:121 (4) الغادة: فى الأصل «الجاده»، والصيغة المثبتة من الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت (7) كما: فى الجزرى ص 116، والنويرى ص 87، وابن الفرات ص 141، وز ت «على ما» (8) فأيقنوا: فى المتن «وساهموها»، وصحح ابن الدوادارى الكلمة بالهامش (10) ولبروجها: فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «ولبروجهم» (11) ونسقهم: ونسقيهم--الضماء: الظمأ--عيون: فى الجزرى وابن الفرات وز ت «صوب» (13) وتشكوا: وتشكو--الغربان: كذا فى الأصل وفى الجزرى، بينما فى النويرى وابن الفرات وز ت «العقبان» (14) جاءت: فى الأصل والجزرى «جآت»، بينما فى النويرى وز ت «خاب» --الإنجاز: فى الجزرى والنويرى وابن الفرات «الإنجاد»

{فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} (1). وكلّما سقطت أسوارها، وتهتّكت بيد النقوب أستارها، وتوهّم الناظر أنها هانت، ورآها المباشر فى تلك الحالة أشدّ ممّا (2) كانت، وثبتت على الرمى والارتماء، وعزّت على من اتّخذ نفقا فى الأرض أو سلّما (3) فى السّماء، واستغنت عن مكان السور (4)، وانقضّت أحجارها على أسود الحرب انقضاض النسور. وكان الفتح المبارك فى صباح يوم السبت حادى عشر رجب الفرد سنة إحدى وتسعين وستماية بالسيف عنوة. فشفت الصوارم من أرجاس الكفر الغلل بقمع العدى وكبتها، وسطا خميس الأمة يوم السبت على أهل الأحد، فبارك الله لخميس الأمّة فى سبتها. فليأخذ حظّه من هذه البشرا (8) التى [أصبح] الدين بها عالى المنار، بادى الأنوار، ضاربا مضارب دعوته على الأقطار، ذاكرا بهذا (9) الفتوح أيّام الصدر الأول من المهاجرين والأنصار، وليشعها على رؤس (10) الأشهاد، ويجعلها فى صحف الفتوح السالفة بمنزلة المعنّا (11) فى القرينة والمثل فى الاستشهاد، ويملك الجيش بهمّته التى ترهف الهمم، وأدعيته التى تساعد المساعد، وتؤيّد السيد (12)، وتقدّم القدم، ويشارك بذلك فى الجهاد حتّى يكون فى نكاية الأعداء على البعد كسهم أصاب وراميه بذى سلم. ويستقبل البشاير بعدها ما تكون له هذه بمنزلة عنوان الكتاب (14)، والآحاد فى الحساب، وركعة النافلة بالنسبة إلى الخمس، والفجر الأوّل قبل طلوع الشمس. والله تعالى

(1) القرآن 7:118 (2) مما: فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «ما» (3) سلما: فى الأصل «سلم»، انظر القرآن 6:35 (4) عن مكان السور: فى الجزرى ص 117 «فكان السور عن السور»، بينما فى النويرى ص 87، وابن الفرات ص 141، وز ت «بمكان السور» (8) البشرا: البشرى--أضيف ما بين الحاصرتين من الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت (9) بهذا: بهذه، فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «بموالاة» (10) رؤس: رؤوس (11) المعنا: المعنى--ويملك: فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «ويمدّ» (12) السيد: كذا فى الأصل والجزرى؛ فى النويرى وابن الفرات وز ت «اليد» (14) عنوان الكتاب: فى الجزرى والنويرى وابن الفرات وز ت «العنوان فى الكتاب»

يجعل شهاب فضله لامعا، ونور علمه فى الآفاق ساطعا، ويتحفه من مفرّقات التهانى بكلّ ما يغدو والشمل (2) بالمسرّات جامعا-انشاء الله تعالى». (292) قال والدى-رحمه الله وسقى عهده (3): كان مده الحصار والمقام على قلعه الروم ثلثه وثلثين يوم (4). وعده ما نصب عليها من المناجنيق تسعه عشر، وهم افرنجيه خمس (5)، قرابغا وشيطانيه اربعه عشر، خارجا عن منجنيق صاحب حماه نصبه على راس الجبل المطل على القلعه بعد مشقه كبيره حتى نصب هناك وعاد يرمى فى وصط (6) القلعه. وكان من جهه الفراه (7) -من بحرى-الامير عز الدين الافرم، ومن تلك الجهه منجنيقين (8)؛ ومن جهه الشرق واحد افرنجى، وهى منزله السلطان؛ وعلى جانب الفراه الامير بدر الدين بيسرى بمنجنيق واحد افرنجى؛ ومن جهه الغرب خمسه قرابغا وشيطانيه؛ وفى الوادى البقيه تكمله العده المدكوره. واستشهد عليها الامير شرف الدين بن الخطير، وشهاب الدين احمد بن الركن امير جاندار، ومن البرد داريه (12) السلطانيه عز المصرى، وخليل بن شمعه، وراس نوبه- رحمهم الله تعالى-مع جماعه يسيره من اجناد الحلقه واجناد الامرا. ولما عاد السلطان الى دمشق المحروسه بسطوا (14) له الدماشقه [الشقق الحرير]، ولم يكن لهم عاده بدلك الا عند قدومه من مصر، وانما استسنها ابن السلعوس. وكان دخوله دمشق ثانى ساعه من يوم الثلثا العشرين من شعبان المكرم، وبين يديه الاسرا من الارمن، وخليفتهم كيتاغيوس (17) صاحب قلعه الروم، ونزل السلطان بالقلعه.

(2) والشمل: فى الجزرى «الشمل» (3) قال والدى رحمه الله وسقى عهده: فى م ف وز ت «وحكى الأمير سيف الدين ابن المحفدار»، انظر أيضا، Sauvaget,Chronique,S .51 - 61(Nr .78) وحاشية 2 لبلوشه فى P .O .XlV ص 553 (4) يوم: يوما--وهم: وهى (5) خمس: خمسة (6) وصط: وسط (7) الفراه: الفرات (8) منجنيقين: منجنيقان--الفراه: الفرات (12) البردداريه: فى الأصل وكذلك فى م ف «البردادريه» والصيغة المثبتة من ز ت؛ انظر القلقشندى ج‍ 5 ص 468 و Sauvaget S .16 (14) بسطوا: بسط--أضيف ما بين الحاصرتين من م ف (17) كيتاغيوس: فى الأصل «كياعسوس»، انظر ما سبق ص 330 حاشية 10

فلما كان العشرين (1) من رمضان رسم للضعفا من العسكر المنصور بالتوجه الى الديار المصريه. وكان حصل للامير بدر الدين بيدرا ضعف، ثم عوفى، وعمل ختمه شريفه بالجامع الاموى، واوقد الجامع شبه ليله النصف من شعبان. ومن نظم المولى شهاب الدين محمود كاتب الانشا الشريف يمدح السلطان <من الطويل>: لك الراية الصفراء يقدمها النصر … فمن كيقباذ إن رآها وكيخسروا (6) (293) إذا خفقت فى الأفق هدّت بنودها … هوى الشرك واستعلى الهدى وانجلا (7) الثغر وإن نشرت مثل الأصايل فى وغا (8) … جلا النقع من لألاء مطلعها البدر وإن يممّت زرق العدا (9) … سار نحوها كتايب خضر دوحها البيض والسمر كأنّ مثار النقع ليل وخفقها … بروق وأنت البدر والفلك الجتر لها كلّ يوم أين … سار لوايها (11) هديّة تأييد يقدمها الدهر وفتح اتا (12) … فى إثر فتح كأنّما سماء بدت تترى كواكبها الزهر فكم وطيت (13) … طوعا وكرها معاقلا مدى الدهر عنها وهى عابسد بكر بذلت لها عزما ولولا مهابة … كستها الحيا جاءتك تسعى ولا مهر فإن رمت حصنا سابقت‍ [ك] (15) … كتايب من الرعب أو جيشا يقدّمك النصر ففى كلّ قطر للعدى وحصونهم … من الخوف أسياف تجرّد أو خضر (16)

(1) العشرين: العشرون (6) وكيخسروا: وكيخسرو (7) وانجلا: وانجلى (8) وغا: وغى--مطلعها: فى الأصل «مطالعها»، انظر ابن شاكر الكتبى، فوات الوفيات، ج‍ 1 ص 308، وز ت (9) العدا: العدى--نحوها: فى ابن شاكر وز ت «تحتها» (11) لوايها: لواؤها (12) اتا: أتى (13) وطيت: وطئت--مدى: كذا فى الأصل وحواشى، Zettersteen, S .34 بينما فى ز ت وابن شاكر «مضى» --عابسة: فى ز ت وابن شاكر «عانسة» (15) أضيف ما بين الحاصرتين من ز ت وابن شاكر-- جيشا يقدّمك: فى ز ت وابن شاكر «جيش تقدّمه» (16) خضر: كذا فى الأصل وابن شاكر؛ وفى ز ت «حصر»

ولا حصن إلاّ وهو سجن لأهله … ولا جسد إلاّ لأرواحهم قبر يظنّون أنّ الصبح فى طرّة الدجا (2) … عجاج تراات فيه أسيافك الحمر قصدت حما (3) … من قلعة الروم لم يبح لغيرك أو غرّتهم المغل فاغترّوا فوالوهم سرّا ليخفوا أذاهم … وفى آخر الأمر استوى السرّ والجهر وما المغل أكفاء فكيف سواهم … ولكنّه غزو وكلّهم كفر وأيضا لإرغام التتار الذى بهم … تمسّكهم إذ قهرهم لهم قهر صرفت إليهم همّة لو صرفتها … إلى البحر لاستولى على مدّه جزر (7) ففرّوا ومن كان‍ [وا] (8) … يرجّون نصرهم وآلو لقد عزوهم ولقد برّوا ومن كان يرجوا (9) … النصر من عند كافر لقد خاب ذلك الرجاء وما النصر وولّوا وقد ضاق الفضاء عليهم … إلى أن غدا فى الضيق كالخاتم البرّ وما قلعة الروم التى حزت فتحها … وإن عظمت إلاّ إلى غيرها جسر (294) طليعة ما يأتى من الفتح بعدها … كما لاح قبل الشمس فى الأفق الفجر (12) محجّبة بين الجبال كأنّها … إذا ما تبدّت فى ضمايرها سرّ تفاوت مرقاها (14) … فللحوت فيهما مجال وللنسر [ين] بينهما وكر فبعض رسا حتّى علا الماء فوقه … وبعض سما حتّى هما دونه القطر يخطّ (16) … بها نهران تبرز فيهما كما لاح يوما فى قلايده النحر

(2) الدجا: الدجى--تراات: تراءت (3) حما: فى الأصل «حماء» --أو: فى ز ت «إذ» (7) جزر: فى ز ت «الجزر» (8) أضيف ما بين الحاصرتين من ز ت-- وآلو: وآلوا--عزوهم: فى ز ت «غرّوهم» (9) يرجوا: يرجو--ذلك: فى ز ت «فى ذاك» (12) الفجر: فى المتن «البدر»، وصحح ابن الدوادارى الكلمة بالهامش (14) مرقاها: فى ز ت وابن شاكر ص 309 «وصفاها» --أضيف ما بين الحاصرتين من ز ت وابن شاكر (16) يخطّ: فى ز ت وابن شاكر «يحيط»

ويعصمها العذب الفرات وإنّه … لتحصينها كالبحر بل دونه البحر سريع يفوت الطرف جريا وحدّه … كريح سليمان التى يومها شهر لها قلّة لم ترض سقيا فراتها … وفى روضها ماء المجرّة ينجرّ تحاض بنون (4) … السحب فيها كأنّها إذا ما استدارت حول أبراجها نهر على هضب صمّ يكلّم صخرها ال‍ … حديد وفيها عن إجابته وقر لها طرق كالوهم أعيا سلوكها … على الفكر حتّى ما يخيّلها الفكر إذا خطرت فيها الرياح تعثّرت … أو الذرّ يوما زلّ عن مثلها (7) الذرّ يظلّ (8) … القطا فيها ويخشى عقابها ال‍ ‍عقاب ويهفوا فى مراقبها النسر فصبّحتها بالجيش كالروض بهجة … صوارمه أنهاره والقنا الزهر وأخطأت لا بل كالنهار فشمسه … محيّاك والآصال راياتك الصفر ليوث من الأتراك آجامها القنا … لها كلّ يوم فى ذرى ظفر ظفر فلا الريح تسرى بينهم لاشتباكها … عليهم ولا ينهلّ من فوقهم قطر عيون إذا الحرب العوان تعرّضت … لخطّابها بالنفس لم يغلها (13) مهر ترى الموت معقود (14) … بهدب نبالهم إذا ما رماها القوس والنظر الشزر ففى كلّ سرج غصن بان مهفهف … وفى كلّ قوس مدّه ساعد (15) بدر إذا ضربوا صمّ الجبال تزلزلت … وأصبح سهلا تحت خيلهم الوعر (295) ولو وردت ماء الفراة (17) … خيولهم لقيل هنا [قد] كان فيما مضى نهر أداروا بها نهر (18) … فأضحت كخنصر لدى خاتم أو تحت منطقة خصر

(4) تحاض بنون: كذا فى الأصل؛ فى ابن شاكر «فخاض منون» (7) مثنها: متنها (8) يظل: يضل--ويهفوا: ويهفو (13) يغلها: فى ز ت «يعلها» (14) معقود: معقودا (15) مدّه ساعد: فى ز ت وابن شاكر ص 309 «مدّ ساعده» (17) الفراة: الفرات--أضيف ما بين الحاصرتين من ز ت وابن شاكر (18) نهر: نهرا، فى ز ت وابن شاكر ص 310 «سورا»

وأرخوا (1) … إليها من بحار أكفّهم سحاب ردى لم يخل من قطره قطر كأنّ المجانيق التى قمن حولها … رواعد سخط وبلها (2) النار والصخر أقامت صلاة الحرب ليلا صخورها … فأكثرها شفع وأقتلها وتر لها أسهم مثل الأفاعى (4) … طوالها قواتل إلاّ أنّ أقتلها البتر سهام حكت سهم اللحاظ لقتلها … وما فارقت جفنا وهذا هو السحر تزور كناسا عندهم أو كنيسة … فلا دمية تبدى حذارا ولا حذر ودارت بها تلك النقوب فأشرفت … وليس عليها فى الذى فعلت حجر فأضحت بها كالصبّ يخفى غرامه … حذار أعاديه وفى قلبه جمر وتبّت لها (9) … النيران حتّى تمزّقت وباحت بما أخفته وانهتك الستر فلاذوا بذيل العفو منك ولم يخب … رجاهم [و] (10) لو لم يستبن قصدهم مكر أمرت اقتدارا منك بالكفّ عنهم … ليلاّ (11) يرى فى غدرهم لهم عذر فراموا به أمرين: تستير ما هوى … من الستر (12) أو عود التتار وقد فرّوا لهم ويلهم إنّ القتار الذى رجوا … إعانتهم لم [يحو هاربهم] (13) قفر ألم يسمعوا إذ (14) … لم يرو حال مغلهم بحمص وقد أفناهم القتل والأسر إذا اندملت تلك الجراح فإنّهم … متى ذكروا [ما مرّ] (15) ينغصها الذكر (22 - 8)

(1) وأرخوا: فى ز ت وابن شاكر «وأجروا» (2) وبلها: كذا فى الأصل وابن شاكر؛ فى ز ت «ويلها» (4) مثل الأفاعى: فى الأصل «كالأفاعى»؛ والصيغة الصحيحة المثبتة من ز ت--أنّ: فى الأصل «إن» --أقتلها: فى ز ت «أكثرها» (9) وتبت لها: فى ز ت «وشبت بها» (10) أضيف ما بين الحاصرتين من ز ت (11) ليلا: لئلا (12) ما هوى من الستر: فى ز ت «ما وهى من السور» (13) ما بين الحاصرتين بياض فى الأصل والإضافة من ز ت (14) إذ: فى ز ت «أو» --يرو: يروا (15) ما بين الحاصرتين بياض فى الأصل والإضافة من ز ت--ينغصها: فى ز ت «ينقضها»

وما كره المغل اشتغالك عنهم … بما عندنا فرّوا ولكنّهم سرّوا وأحرزتها بالسيف قسرا (2) … وهكذى فتوحك فيما قد مضى كلّه قسر غدت بشعار الأشرف الملك الذى … له الأرض دار وهى من حسنها قصر وأضحت بحمد الله ثغرا ممنّعا … تبيد الليالى والعدى وهو مفترّ (296) وكانت قذا (5) … فى باطن الدين فانجلى وذخرا لأهل الشرك فانعكس الأمر فيا أشرف الأملاك بشراك غزوة … تحصّل منها الفتح والذكر والأجر ليهنيك عند المصطفى أنّ دينه … توالى به فى برّ دولتك النصر (7) وبشراك أرضيت المسيح وأحمد (8) … وإن غضب التكفور فى ذاك والكفر فرحت بما تختار والأرض كلّها … بحكمك والأمصار كلّ غدت (9) مصر ودم وابق للدنيا ليحيى بك الهدى … ويزهى على ماضى العصور بك العصر فلله فى تخليد ملكك نعمة … علينا وآلاء تضيق بها الشكر وفيها فى شهر شعبان وصل الامير بدر الدين بيدرا نايب السلطنه المعظمه، وصحبته اكثر الجيوش المصريه؛ ومن الامرا الامير شمس الدين سنقر الاشقر وشمس الدين قرا سنقر المنصورى وبدر الدين بكتوت العلايى وبدر الدين بكتوت الاتابكى وغيرهم، وتوجهوا الى جبل الكسروان. وخرج اليهم من الامرا الشاميين سيف الدين طقصوا (16) وعز الدين ايبك الحموى وغيرهما، واجتمعوا على جبل الكسروان.

(2) قسرا: فى ز ت وابن شاكر ص 310 «قهرا» --وهكذى: وهكذا (5) قذا: قذى--باطن: فى ابن شاكر وز ت «ناظر» (7) به فى برّ دولتك النصر: فى الأصل «به فى برّ دوامك للنصر»؛ والصيغة المثبتة من Zettersteen,S .54 (8) وأحمد: وأحمدا--ذاك: فى الأصل «دلك» (9) كل غدت: فى الأصل «كلها»، والصيغة المثبتة من، Zettersteen,S .54 وفى ز ت «أجمعها» (16) طقصوا: طقصو

وحصل من الامير بدر الدين بيدرا فتور عظيم فى امرهم، فنالوا من العسكر، وعادت كالكسره (2). فحصل لاهل الجبل طمع عظيم؛ فانه بعد ذلك احضر جماعه من اعيانهم ومشايخهم وخلع عليهم، واجابهم الى جميع ما قصدوه، حتى فى محابيس لهم بسجن دمشق كانوا فى غايه الفساد. وكان اصل دلك كله طمع نفس بيدرا وميله الى الدنيا. ثم عاد بيدرا الى دمشق، وتلقاه السلطان الملك الاشرف. وعتب عليه فى دلك، فاحتج حجج (6) بارده، فعنفه السلطان تعنيف كثير، فحمل على نفسه، وادعى انه متمرض، ثم عوفى. وفيها توفى الملك المظفر صاحب ماردين وجلس ولده. وفيها قبض السلطان على الامير شمس الدين سنقر الاشقر (297) وعلى طقصوا (9). وطلب الامير حسام الدين لاجين، فهرب. فامر السلطان بالمبادره اليه، وركب خلفه بنفسه مع جميع الخاسكيه، فلم يقعوا له على اثر، وعاد السلطان بعد صلاه العصر. ونفد سنقر الاشقر وطقصوا (12) مقيدين على البريد الى مصر، ودلك فى رابع شوال من هده السنه. واما لاجين، فان العرب مسكوه من ناحيه صرخد، واحضره الشريفى والى الولاه، وقيل مسكه بارض عجلون. فلما احضره قيّد وسير الى مصر، ودلك فى سادس شوال. وفيها تولى نيابه الشام الامير عز الدين الحموى عوضا عن الامير علم الدين الشجاعى. وخرج السلطان متوجها للديار المصريه من دمشق يوم الاثنين تاسع شوال، ودخل القاهره المحروسه يوم الاربعا ثانى شهر دى القعده. وشق القاهره، وهى مزينه احسن زينه.

(2) كالكسره: فى ز ت «شبه المكسور»، وفى ابن الفرات ج‍ 8 ص 142 «شبه المنهزم» (6) حجج: حججا--تعنيف كثير: تعنيفا كثيرا (9) طقصوا: طقصو (12) وطقصوا: وطقصو

ذكر [حوادث] سنة اثنتين وتسعين وستمايه

(1) [وفى شهر دى الحجه من هده السنه توفى الامير شمس الدين سنقر الاشقر، وطقصوا (2)، وجرمك الناصرى، وابو خرص، والهارونى. وكانت وفاتهم بالسجن. وفيها افرج عن الامير حسام الدين لاجين] (3). ذكر [حوادث] سنة اثنتين وتسعين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم سته ادرع وعشره اصابع. مبلغ الزياده تسع (6) عشر دراعا وثمانيه عشر اصبعا. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (8) العباس امير المومنين. والسلطان الشهيد الملك الاشرف، سلطان الاسلام بساير الممالك الاسلاميه. وبقيه الملوك على حالهم خلا صاحب ماردين؛ فانه توفى وولى ولده حسبما دكرناه. وفيها عاد السلطان الى دمشق المحروسه على الهجن، ودخل دمشق يوم الاحد تاسع جمادى الاخره. ثم امر بتجهيز العساكر الى سيس. وحضرت رسل سيس، ودخلوا فى مراحم السلطان بمهما رسم، وان صاحبهم طايع لجميع ما يرسم له. وشفّعوا الامرا فيه، واتفق الحال ان يسلموا (14) النواب (298) مولانا السلطان ثلث قلاع من اجلّ حصون صاحب سيس، وهم (15) بهسنا، ومرعش، وتلّ حمدون. وهده بهسنا قلعه حصينه، ولها ضياع كثيره وهم (16) فم الدربند وباب حلب. وكانت فى زمان الملك الناصر صاحب الشام داخله فى ديوانه، فلما ملكوا (17) التتار حلب

(1 - 3) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (2) وطقصوا: وطقصو (6) تسع: تسعة (8) ابى: أبو (14) يسلموا: يسلم (15) وهم: وهى (16) وهم: وهى (17) ملكوا: ملك

كان فى بهسنا نايبا (1) يقال له سيف [الدين] العقرب، فاباعها لصاحب سيس بمايه الف درهم، فاعطاه ستين الف (2) وتسلم القلعه، ومنعه الباقى. واستمرت فى ايدى الارمن الى هدا التاريخ. وكان على المسلمين منها ضرر كبير. فلما كان فى السنه الخاليه وفتح السلطان قلعه الروم، واخد خليفه الارمن-حسبما دكرنا-حصل لصاحب سيس خوف كثير، واختشى على بلاده، فلم يمكنه الاّ المصانعه عن نفسه وبلاده. فان (6) كان وقع فى انفس العالم من السلطان الملك الاشرف هيبه عظيمه، نسبه الملك الظاهر واعظم. ثم ان صاحب سيس ضاعف ايضا الجزيه والحمل، وكثّر فى الهدايا والتحف من كل شى. ثم ان السلطان سير صحبه رسل سيس سيف الدين طوغان والى برّ دمشق بسبب تسليم القلاع المدكوره. واقام السلطان فى دمشق الى مستهل شهر رجب، ثم توجه الى حمص باكابر الجيش، ثم الى سلميّه، مظهرا ان يقصد الصيد. ثم اضاف الامير حسام الدين مهنا بن عيسى، امير العربان ملك طىّ. وكان، لما اضافه، راى من احواله ما ينافر العقل من الخول والأنعام ما لا يقع عليه حصر، فاستعظم دلك وهاله. فلما انقضت الضيافه قال لمهنا والملوك من اقاربه: «انا قد اكلت ضيافتكم، ولا بد ان تاكلون (14) ضيافتى»، فامتثلوا دلك. فلما كان فى اثناء الطريق، قبض عليهم. فلما كان بكره يوم الاحد سابع شهر رجب وصل الامير حسام الدين لاجين الى دمشق، وصحبته (299) الامير حسام الدين مهنا ابن (17) عيسى، وجماعه من اقاربه تحت الحوطه. وولى السلطان مكانه محمد بن ابى بكر [بن على] (18) بن حديثه. واعتقل مهنّا بقلعه دمشق.

(1) نايبا: نائب--أضيف ما بين الحاصرتين من م ف وز ت (2) ستين الف: ستين ألفا (6) فان: فإنه (14) تاكلون: تأكلوا (17) ابن: بن (18) أضيف ما بين الحاصرتين من م ف وز ت وتاريخ الجزرى، مخطوطة جوتا 1560، ق 84 آ--حديثه: كذا فى الأصل وم ف وز ت والمقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 784؛ بينما ورد الاسم فى الجزرى وفى النويرى، نهاية الأرب، ج‍ 29 ص 71، وابن الفرات ج‍ 8 ص 156 «حذيفة»

وفى دلك النهار دخل السلطان دمشق، ثم رسم للامير بدر الدين بيدرا ان ياخد بقيه العساكر ويتوجه الى الديار المصريه، وان يكون بيدرا تحت السناجق [عوض السلطان] (3). واختلى بالسلطان بنفسه مع خواصه. فخرج بيدرا من دمشق يوم الخميس حادى عشر رجب، وصحبته الصاحب شمس الدين بن السلعوس. وتوجه السلطان من دمشق الى مصر يوم السبت ثالث عشر رجب، فوصل الى غزه سابع عشر رجب. وكان قبل خروج السلطان من دمشق قد عاد سيف الدين طوغان، واخبر انه تسلم القلاع المدكوره من الارمن، وسلمها للنواب (7) السلطان. وضربت البشاير بسبب دلك. ووصل صحبته جمله كبيره من هدايا وتحف. ثم دخل السلطان الى الديار المصريه. وفيها رسم السلطان للامير عز الدين الافرم ان يتوجه الى قلعه الشوبك ويخربها، فعاوده فى دلك قهره (11). وكان هدا الملك طالعه يقتضى بالخراب، كما ان طالع مولانا السلطان الاعظم الملك الناصر-عزّ نصره-يقتضى بالعماره. وهنا نكته لطيفه: اعتبرت ساير من تضمنه هدا التاريخ المبارك من ملوك الدنيا مند اول زمان، فرايت كل ملك كانت همته الخراب، كانت مدته قصيره، وكل ملك كانت همته العماره، كانت مدته طويله. فلدلك يقال: العماره طبع الحياه، والخراب طبع الموت. وان برهنت عن كل من خرب فقصرت مدته، وعن كل من عمر طالت مدته، خرجت عن الغرض المطلوب، وكان كلام يطول شرحه. لكن الفطن اللبيب، ادا طالع جميع هدا التاريخ، ظهر له صحه الدعوى فى دلك.

(3) أضيف ما بين الحاصرتين من الجزرى ق 84 آ (7) للنواب: لنوّاب (11) فعاوده فى دلك قهره: فى م ف وز ت «فعاوده فى بقائها فنهره»، بينما فى الجزرى ق 84 ب «فعادوه فى بقايها فانتهره» --بالخراب: فى م ف وز ت «الخراب»

(300) والدى اخربه السلطان الشهيد الملك الاشرف من الاماكن، شى كثير فى قلعتى مصر والشام، وكدلك بظاهر دمشق من الميدان الى تحت القلعه. وكان على يده خراب الساحل بكماله. وتعطلت البلاد من الاصناف التى كانت تحمل فى البحر. حكى الامير جمال الدين اقوش الرومى المعروف بهيطليه لوالدى-رحمهما الله- وانا اسمع، قال: حدثنى الامير عز الدين الافرم، لما رجع من هدم الشوبك، انه وجد بها من جمله ما نقلوه من قلعتها اربعين الف ختمه شريفه بخطوط منسوبه مدهبه، وربعات كثيره كدلك، وكتب (8) عظيمه مدخره من عهد بنى ايوب، وزردخاناه عظيمه القدر. ووجد فى جمله دلك سيف عرضه شبر واربعه اصابع مفتحه، طوله اربعه ادرع، يقال انه سيف خالد بن الوليد رضى الله عنه. وقيل بل صمصامه عمرو ابن معدى كرب الزبيدى، التى تقدم دكرها فى هدا التاريخ عند دكر قتل الخليفه جعفر المتوكل العباسى؛ فى الجزء المختص بدكر بنى العباس. وفيها كان الختان الشريف الناصرى. وعمل السلطان الشهيد الملك الاشرف مهما عظيما ما راى الناس مثله. ولعب القبق عند قبّه النصر، ولبس الجيش جميعه احمر حتى الغلمان. وكان مهما ما شهد مثله من قبله. وكان الختان المبارك يوم الاثنين الثانى والعشرين من شهر دى الحجه. واخلع السلطان على ساير الامرا والمقدمين واعيان الجيش من المفارده وغيرهم. ونفق فى هدا المهمّ ما لا يحصى كثره من الاموال. ولم تبرح ساير احوال مولانا السّلطان الاعظم الملك الناصر سعيده الحركات، كبيره النعم والبركات، من حال سن الطفوليه الى سن الفحوليه، متصله بالسعد والتوفيق والنصر على الاعدا على طول المدا (20)، ليس لدلك وقت ولا انتها، (301) انشا الله تعالى.

(8) وكتب: وكتبا (20) المدا: المدى

وفيها توفى الامير علم الدين سنجر الحلبى، وكان السلطان قبل دلك قد اعاد عليه امرته بعد قطعه حسبما تقدم. وفيها مسك الامير عز الدين الافرم بعد عودته من خراب الشوبك. ولما افرج قبل دلك عن الامير حسام الدين لاجين بشفاعه بيدرا، سلمه له وقال: «يكون هدا من جملة مماليك يمشى فى خدمتك». وقفت على نسخة وصيه السلطان الشهيد الملك المنصور-نوّر الله ضريحه- لولده الملك الاشرف رحمه الله، فكان من جمله فصولها يقول: «واذا اردت ان تفعل أمرا فاستشر الامير شمس الدين الحاج سنقر المسّاح، فانا اعرفه رجلا جيدا عاقلا ديّنا، واذا اشار بشى، ارجع اليه فيه. واحترز من لاجين الاشقر، ولا تغضبه، وإن أغضبته لا تبقيه (10)». قلت: قلوب الملوك حساسه بوقايع الزمان وحوادث الايام، فلدلك ملكهم الله رقاب الآنام. ينظرون الى حوادث الدهر من خلف ستر رقيق، ويلاقونه بتدبير السداد والتوفيق. فادا حتم الامر المقدور، بطل حدر المحدور (12)، حتى تنفد فيه تصاريف الامور. وفيها سير الامير عز الدين ايبك الخزندار الى الساحل نايبا عوضا عن الامير سيف الدين طغريل اليوغانى (15).

(10) تبقيه: تبقه (12) حدر المحدور: حذر المحذور (15) اليوغانى: فى ز ت «الويغانى»، بينما فى الجزرى، مخطوطة 1560، ق 85 آ، وفى المقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 782 «الإيغانى»

ذكر [حوادث] سنة ثلث وتسعين وستمايه

ذكر [حوادث] سنة ثلث وتسعين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم اربعه ادرع فقط. مبلغ الزياده خمسه عشر دراع (3) وخمسه اصابع. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (5) العباس امير المومنين. والسلطان الملك الاشرف سلطان الاسلام الى ان قتل فى هده السنه، فلا حول ولا قوه الا (6) [بالله العلى العظيم] (7). (302) ذكر استشهاد السلطان الملك الاشرف كان توجه ركابه الشريف طالبا للصيد بناحيه الاسكندريه من قلعه الجبل المحروسه ثالث شهر المحرم من هده السنه، وصحبته ساير الامرا ومقدمين (10) الحلقه المنصوره، وخرج فى ركابه الصاحب بن (11) السلعوس. وكان قبل دلك لما فرّغ الامير علم الدين الشجاعى الايوان الاشرفى وصوّر فيه جميع الامرا، كل امير ورنكه على راسه، وجلس السلطان به، وفتح الخزاين ونفق الاموال، واعطا (14) وانعم واسرف فى الجود، وهو من الفرح والسرور لا تسعه الوجود، وقلوب اكثر امرايه تتقطع من الحقود، والأمر بينهم على الفسالة معقود، ادهم ل‍ {ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} (16)، وقد اضمروا بضمايرهم ما يفتت الكبود،

(3) دراع: ذراعا (5) ابى: أبو (6 - 7) ما بين الحاصرتين مكتوب بالهامش (10) ومقدمين: ومقدّمى (11) بن: ابن (14) واعطا: وأعطى (16) القرآن 85:7.

ويشيب لهوله المولود، ومولانا السلطان لم يعلم انه بايديهم يكون شهيد (1)، {وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاّ (2_)} أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (2). وليكن لهم فى الدنيا خزى وفى الآخره عذاب اليم، فلا حول ولا قوه الا بالله العلى العظيم. كان السلطان الشهيد قد اعتقل بعض الامرا، ثم افرج عنهم (4)، فبقى فى قلوبهم منه. وكان السلطان شديد الهيبه، عظيم السطوه، زايد النخوه، وكان قد مكن الوزير بن (6) السلعوس تمكينا عظيما. وحصل بينه وبين بيدرا تنافس على امور المملكه؛ وكان ادا اراد بيدرا امرا عطل عليه الوزير. وكان السلطان ادا غضب على امير احسن اليه بيدرا واستماله اليه حتى لف عليه جماعه كبيره من الجوانيه ومن البرانيه. وتفاقم الامر بين الوزير وبين بيدرا، وعاد كل منهم (9) يبلغه عن الاخر عده اقاويل رديه (10)، وكان السلطان يشد ازر الوزير وينصره بالدايم على النايب بيدرا حتى تزايد الشر بينهما. وكان لما يريده الله تعالى (303) من نفاد قضايه وقدره، لما توجه السلطان ونزل الاهرام، حصل له غيظ من بيدرا، فضربه بالمقرعه على راسه بين الناس وشتمه ونهره، وقيل ان دلك لاجل الوزير. فكان هدا اكبر أسباب الفتنه للامر المقدّر. وتوجه السلطان بعد دلك فنزل الطرّانه. فلما كان ثانى عشر المحرم ركب السلطان بعد ما كان اعطا (16) ساير الامرا دستور ان كل منهم يتوجه حيث شاء. قال الامير شهاب الدين بن الاشل امير شكار: كنت فى خدمه السلطان، انا والامير مبارز الدين سوار امير شكار، والسلطان راكب حجره شهبا، وقد شد

(1) شهيد: شهيدا (2) القرآن 85:8 (2_) إلا: فى الأصل «الى» (4) عنهم: فى الأصل «عنه» (6) بن: ابن (9) منهم: منهما (10) رديه: رديئة-- بالدايم: فى الأصل «بالدائم» (16) اعطا: أعطى--دستور: دستورا

فى وصطه (1) شمله بغير سيف ولا سلاح، وانّما السلاح مع انغاى-خانه الله-وفى يد السلطان زخمة طبل باز، لم نشعر الى (2) والغبره ثايره قاصده الى نحونا. وكان سبب مجيهم ان انغاى-قاتله الله-كان من المخامرين على السلطان، فسير فى تلك الساعه الى لاجين يقول: «متى لم تدركوه فى هده الساعه لا عدتم قدرتم عليه بعدها». حكى لى من اثق بقوله قال: كنا جلوس (5) ناكل الطعام عند بيدرا، فدخل عليه لاجين، وزحم حتى جلس حداه (6)، ومد يده لياكل. فسارّه فى ادنه كلمتين، ثم نهظ، ومسح يده فقال بيدرا: «بسم الله، يا امرا، لنا شغل»، ونهظ (7) دخل خيمه صغيره خلفت (8) الجتر، ثم خرج وهو ملبس الزرد تحت قماشه، وركبوا من ساعتهم. قال شهاب الدين بن الاشل: فلما راى السلطان الغبره أنكرها فقال لبعض المماليك: «سوق (10) اكشف». فساق ولم يرجع، وكدا اخر، واخر، واخرهم كنت انا. فلما وصلت الى القوم مسكونى ولا علمت ما جرا (11) بعدى. قيل انهم لما وصلوا اليه اول من جسر عليه بيدرا، فضربه جرحه جرح يسير (12). ثم ان لاجين ضربه [ضربة]، فاتقاها (13) بيده (304) فقطعها بالزخمه التى كانت فى يده، وثنى عليه باخرى على كتفه نزلت الى صدره، فانجدل صريعا. ثم تخاطفته السيوف من بقيه الامرا الخاينين، قاتلهم الله. وكان الامرا المخامرين (16) عليه عقدوا بينهم الأيمان: لاجين، قراسنقر، طرنطاى الساقى، انغاى السلحدار، اقسنقر الحسامى، أروس الجمدار، بهادر راس نوبه، اقوش الموصلى الحاجب، الطنبغا الجمدار، محمد خواجا، [واناق] (17) مع عده اخر،

(1) وصطه: وسطه (2) الى: إلا--مجيهم: مجيئهم (5) جلوس: جلوسا (6) حداه: حذاءه--نهظ: نهض (7) ونهظ: ونهض (8) خلقت: كذا فى الأصل (10) سوق: سق (11) جرا: جرى (12) جرح يسير: جرحا يسيرا--أضيف ما بين الحاصرتين من ابن الفرات ج‍ 8 ص 167 (13) فالتقاها: فتلقاها، م ف (16) المخامرين: المخامرون (17) ما بين الحاصرتين مكتوب بالهامش.

نكروا انفسهم انهم لم يكونوا معهم لما فرط الامر. وكانوا جميعهم كلمتهم مجتمعه على بيدرا، فانه كان اوحى لهم ان السلطان يريد مسكهم باسكندريه. فلما قضى الامر واستشهد السلطان-تغمده الله برحمته واسكنه اعلا (3) الدرجات فى جنته-تبرأ منهم ابليس اللعين وقال: {إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ} (4)، فتفرقت كلمتهم ولم يجتمع لهم راى. ثم انهم اختشوا غبّ ما وقعوا فيه، فملكوا من بينهم بيدرا على رغم من اكثرهم، ولقبوه الملك القاهر. قلت: لا، بل هو الملك العاهر لا القاهر. وركب فى دست المملكه، وصاح بين يديه الجاويش، وهو يوميد حسام الدين الشيرازى النقيب. ووقع النهب فى الدهليز، وعظم الصايح، وعاد الوقت كالقيامه ادا قامت. ونهبت العربان ما قدروا عليه بعد ما قتلوا وسفكوا وفعلوا كل قبيح. وعاد السلطان ملقى فى تلك الفلاة، لم يقم عنده بشر. حكى سعد الدين كوجبا-وهو يوميد متولى الاعمال (11) البحيره-قال: رايت فى منامى قبل هده الواقعه بمده كأنى راكب فرسى والسلطان الملك الاشرف مطروح قتيلا (13) بين يدى. فو الله لقد كان الامر كدلك. (305) ولما وصل الخبر الى القاهره غلقت الابواب، ووقع النهب من الحرافيش والسواد، وغلقت الدكاكين باسرها، واحتمى كل انسان فى منزله. وشربت الناس الما المالح من آبار القاهره، وعدم الخبز وساير الماكول، وقاسا (16) الناس شده عظيمه. فنعود بالله من شر مثلها. واما الامير حسام الدين استادار، فانه لما بلغه دلك جمع العساكر والجنايب والعصايب ومماليك السلطان من الخاصكيه الدين لم يكن لهم هوى مع غير السلطان،

(3) اعلا: أعلى--الدرجات: فى الأصل «الدجات» (4) القرآن 59:16 - - فتفرقت: فى الأصل «فتفرقرت» (11) الاعمال: أعمال (13) قتيلا: قتيل (16) وقاسا: وقاسى

ومنهم الامير سيف الدين طغجى، والامير سيف الدين برلغى، والامير سيف الدين قطبيه، وسيف الدين قطقطيه، وبقيه المماليك السلطانيه. وركبوا شاكّين فى السلاح، طالبين القلعه المنصوره، وسار الحسام استادار مقدما على الجيش. حكى لى والدى-رحمه الله-قال: كان السلطان قد انعم علىّ بتقدمة فى الحلقه، وزاد اقطاعى خمس مايه دينار، وكنت فى خدمته. فلما جرى الامر المقدر كنت فى جملة طلب السلطان مع الامير حسام الدين استادار، وكان بينى وبينه انسه. قال: فو الله انه لراكب فى الطلب، وهو لا تنشف له دمعه، واقام تلك الليله مع دلك اليوم لا يدوق طعاما. فلما كان ثانى يوم عند طلوع الشمس توافا (8) العسكران على الطرّانه. وكان الجيش الدى مع بيدرا أضعاف جيش السلطان، لكن كما قال الله عزّ وجلّ فى كتابه العزيز {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّى} (10)، فكان منهم من هو معه، وهو عليه، وآخر مغصوب، وآخر مجمع. فلما تراا (11) الفريقان، اول من قفز من الامرا الدين كانوا مع بيدرا الامير بدر الدين بيسرى، فجا الى الامير حسام الدين فى طلب السلطان، ثم تبعه الامير زين الدين كتبغا. ولما وصل الى السناجق السلطانيه الاشرفيه، احطاطوا (14) به الامرا الخاصكيه، وارادوا قتله، وقالوا له: «انت كنت (306) سبب هده الفتنه، وانت احد الغرماء». فنزل عن فرسه، وجلس على الارض، وحلف اربعين يمين (16)، من جملتها الطلاق الثلث من زوجته، انه لم يعلم شيا ممّا جرى: «وها انا بين ايديكم ومعكم، فمتى شهد علىّ طفل واحد اننى كنت حاضرهم او موافقهم فدمى لكم حلال، انا واولادى، وادبحوا حريمى واولادى قدامى، ثم ادبحونى». وبكى بكا كثيرا، فرقوا عليه، واوقفه الحسام استادار الى جانبه.

(8) توافا: توافى (10) القرآن 59:14 - -شتى: فى الأصل «شتا» (11) تراا: تراءى (14) احطاطوا: احتاط (16) يمين: يمينا--الثلث: الثلاثة

وكان الامرا الدين تحت السناجق السلطانيه الاشرفيه: الامير حسام الدين استادار، وزين الدين كتبغا، وسيف الدين بكتمر السلحدار، وقتال السبع، وصاطلمش بن سلغيه، والردادى امير طبر، مع الامرا الخاصكيه المقدم دكره (3)، مع جماعه اخر فى تعدادهم طول. ثم التقوا (4) العسكران، فتشتت شمل جيش بيدرا. وقتل فى معمعه الحرب، وقتل معه جماعه، منهم شخص يسمى المسعودى، وايبك مملوك طقصوا (6). وكان بيدرا يثق بهما لشجاعتهما، فقتلا معه جميعا بعد ما ابدلوا المجهود ونصحوا فى القتال. وهرب لاجين فى طريق، وقرا سنقر فى اخرى، وكل احد من تلك (8) الامرا المخامرين اخد لوجهه. واجتمعت الناس تحت السناجق السلطانيه الاشرفيه، ثم رفع راس بيدرا على رمح عالى (9)، ودخلوا به القاهره مع المشاعليه ينادون عليه، ونصب بعد دلك على باب القلعه مده. ولما وصلوا (11) الامرا الى القلعه المحروسه ارادوا الطلوع، فمنعهم علم الدين الشجاعى. وجرى بينهم امور يطول شرحها. وقيل ان الشجاعى كان يتعلم (12) بالامر وهو من جمله المخامرين، وانه كان زوج ام بيدرا. ثم اتفق الحال ان يقيموا مولانا وسيدنا ومالك رقنا السلطان الاعظم الملك الناصر عز نصره، ويكون كتبغا نايبا، والشجاعى وزيرا، والحسام استادار اتابكا. وحلفوا على (307) دلك، واستقر الامر كدلك اربعين يوما. ثم ان الشجاعى حدتثه (16) نفسه الظالمه بان يكون صاحب الملك. فاستمال جماعه من الامرا البرجيه وأحسن إليهم وقال لهم: «انتم منى وانا منكم»، فقالوا: «ما لنا خروج عنك». ثم اجمعوا (19) الامرا الكبار مع الامرا الخاصكيه ان يمسكوا الامرا المخامرين على السلطان الشهيد، وتقطع ايديهم، ويسمروا وايديهم معلقه فى حلوقهم. فمسكوا

(3) دكره: ذكرهم (4) التقوا: التقى (6) طقصوا: طقصو (8) تلك: هؤلاء (9) عالى: عال (11) وصلوا: وصل (12) يتعلم: يعلم (16) حدتثه: حدثته (19) اجمعوا: أجمع

ذكر بعض شى من محاسنه رحمه الله

سبع (1) نفر؛ وهم انغاى السلحدار، واروس، وطرنطاى الساقى، واقسنقر الحسامى، والطنبغا الجمدار، واناق، ومحمد خواجا. وسمروا، وقطعت ايديهم وعلقت فى حلوقهم، وطيف بهم على الجمال بالقاهره ومصر. وكان بالقاهره صراخ وبكى وعويل ما لا يمكن شرحه. واما بهادر راس نوبه واقوش الموصلى، فقتلا واحرقا فى المجاير بباب المحروق. واما لاجين وقرا سنقر، فانهما تغيبا بالقاهره، ووقع عليهما الطلب والمناداه. وكان كتبغا مايل (6) اليهما، فكان يسدّد، ولا يشدّد، والله اعلم. كان مده مملكه السلطان الشهيد الملك الاشرف ثلاث سنين وسبعه وخمسين يوم (7). فانه جلس فى الملك بعد وفاه السلطان الشهيد والده فى النصف من شهر دى القعده سنه تسع وثمانين وستمايه، واستشهد ثانى عشر المحرم سنه ثلث وتسعين وستمايه، رحمه الله تعالى وساير ملوك المسلمين. ذكر بعض شى من محاسنه رحمه الله كان ملكا جليلا جميلا، سمحا جوادا، شجاعا مقداما جسورا، عجولا لا يفكر فى عواقب الامور، ولا فى نكبات الدهور. ادا عنّ له امر، اقدم عليه من غير رويه ولا نظر ولا مشوره. دو هيبه عظيمه زايده جدا، لا يخرج الامرا من بين يديه وفيهم عين تطرف، ولا يعبر اليه احد منهم (308) ويظن انه يعود يرجع الى اهله سالما. حكى والدى رحمه الله قال: سمعت الشجاعى يقول ذات يوم فى خلوة من مجلسه «هدا السلطان»، الداخل اليه مفقود، والخارج من عنده مولود». قال والدى: فعلمت ان انفسهم منه ملآنه خوف.

(1) سبع: سبعة (6) مايل: مائلا (7) يوم: يوما

ذكر سلطنه مولانا السلطان الاعظم الملك الناصر عز نصره وهى الاوله

وكان السلطان الملك الاشرف-رحمه الله-سمحا جوادا جدا، انفق على الجيش فى مده ثلاث سنين ثلاث نفقات. الاوله (2) لما ملك، فنفق من مال طرنطاى. قال والدى: لما اخدنا نفقه السلطان الاوله (3)، كان اكثر الدراهم خضر خزين قد ركبها الصدأ، فكانت من مال طرنطاى الخزين. والنفقه الثانيه عند خروجه الى عكا. والنفقه الثالثه نوبه قلعه الروم. وهدا ما عهد من ملك قبله قط ان ينفق ثلاث نفقات فى مده ثلاث سنين. وكان يعطى الخاسكيه بالهمل نسبة عطايا الخلفاء الاجواد والاكاسره من ملوك العجم. ما ركب الفرس بعد ابيه احسن شكلا منه، رحمه الله تعالى. ذكر سلطنه مولانا السلطان الاعظم الملك الناصر عز نصره وهى الاوله (8) لما كان يوم السبت سادس عشر شهر الله المحرّم (9) من هده السنه جلس مولانا وسيدنا ومالك رقنا السلطان الاعظم والسيد الاكرم السلطان الملك الناصر ابو المعالى ناصر الدنيا والدين محمد بن مولانا السلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون، واخى (12) مولانا السلطان الشهيد الملك الصالح نور الدين على، واخى السلطان الشهيد الملك الاشرف صلاح الدنيا والدين خليل، واستاد الملك العادل زين الدين كتبغا، واستاد الملك المنصور حسام الدين لاجين، واستاد الملك المظفر ركن الدين بيبرس. فهده محاسن ما جمعت فى ملك من الملوك قط ان يكون ملك ابن ملك (15)،

(2) الاوله: الأولى (3) الاوله: الأولى (8) الاوله: الأولى (9) يوم السبت سادس عشر. . . المحرم: كذا فى الأصل وفى المقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 794؛ ويلاحظ ان السادس عشر من المحرم سنة 693 لا يوافق يوم السبت، واختلفت المصادر فى تحديد تاريخ هذا اليوم ففى ز ت «حادى عشر المحرم»، وفى ابن الفرات ج‍ 8 ص 172 «يوم السبت خامس عشر شهر الله المحرّم»، وفى ابن تغرى بردى، النجوم الزاهرة، ج‍ 8 ص 41 «يوم الاثنين رابع عشر المحرّم وقيل يوم الثلاثاء خامس عشر المحرم»، وفى ابن كثير، البداية والنهاية، ج‍ 13 ص 334 «يوم الرابع عشر» (12) واخى: وأخو (15) ملك: ملكا

ذكر قتلة الشجاعى وسببها

اخى (1) ملكين، استاد ثلاث ملوك، كلهم ملوك مصر. فتعدّ من المناقب التى (309) افترد بها هدا الملك دون غيره من ساير الملوك، اولهم واخرهم، بدوهم وحاضرهم. ومنها انه لم يعدّ قط الا فى طبقات ابناء الملوك واخاء الملوك وطبقات الملوك. ومنها انه لم يعى (4) نفسه قط الا ملك، فكان مبتداه منتهى غيره من الملوك. فهو الدى قيل فيه <من الكامل>: ملك بدايته نهاية غيره … كالبدر أوّل ما يكون هلالا كمل الشجاعة والفصاحة والحجى … فالله يكفيه الزمان كمالا ذكر قتلة الشجاعى وسببها كان قد استمال الامرا البرجيه-حسبما دكرناه-واستعبدهم بالاموال والعطايا والمواعيد. وكان من جمله الامرا الدين استمالهم: اللقمانى، والدكر الشجاعى، وبيبرس الجاشنكير، والبندقدارى، وبرلغى، مع جماعه اخر. فلما علم انهم عادوا قاتلين معه مقتولين عليه، اتفق معهم وقال: «لا يتم لنا ما نريد حتى تقتلوا هولاء الثلثه: كتبغا، والحسام استادار، وبيسرى». فاتفقوا انهم يكبسوا (13) عليهم ويقتلوهم فى بيوتهم. فلما كان نصف الليل خرجوا (15) الامرا البرجيه شاكين فى سلاحهم فقصدوا دار كتبغا. وكان قد بلغه خبرهم من النهار، فاوقف لهم خلف بابه جماعه من مماليكه لابسه، فى ايديهم السيوف والرماح، ومن فوق السطح بالنشاب وقوارير النفط،

(1) اخى: أخا--ثلاث: ثلاثة (4) يعى: يع--ملك: ملكا (13) يكبسوا: يكبسون--ويقتلوهم: ويقتلونهم (15) خرجوا: خرج

فلم يصلوا اليه. واما الحسام استادار، فانه بلغه دلك فى تلك الساعه، فخرج من فوره يعدوا (2)، وهجم على اللقمانى فمسك ادياله، واستجار به، فاجاره ومنع عنه وقال: «هدا رجل غريب منا، ولا يحل لنا قتله بلا ذنب صدر منه». واما بيسرى فانه سيب منزله وهرب. فهجموا بيته، وهتكوا حريمه، وجرا (4) فى بيته كل شى ردى، ونهبوا ماله، ولم يقعوا به لأجله. (310) فلم يظفروا تلك الليله باحد من الامرا المدكورين. فلما كان من الغد، خرج الامرا الى سوق الخيل كجارى العاده. وفتح باب القلعه، ونزل الامرا بالقلعه. وقعد الشجاعى والحسام استادار بباب القلعه، وقال الشجاعى للبرجيه: «ان كنتم ما قدرتم عليه فى الليل، فاقضوا شغلكم (9) فى النهار». واتقن الامر معهم على قتل الامرا فى سوق الخيل هدا. والامرا ايضا ما ركبوا الا معتدّين بساير مماليكهم ومن يعتقدون عليه. فعندما استقر بالقوم الوقوف، حملوا (11) البرجيه على كتبغا وبيسرى وارادوا (12) قتلهما. فقتل فى تلك الساعه البندقدارى، وكان حاميتهم وأشرهم. وخرج كتبغا وبيسرى سوقا، وطلبوا (13) قبة النصر. ودارت النقبا والحجاب على الجيش من الامرا والمقدمين والجند، فخرجوا كالجراد المنتشر، ثم احاطوا بالقلعه كالبياض بسواد العين. ووقف بكتوت العلايى فى جماعه من الامرا محاصرين للقلعه من جهه سوق الخيل، ويعقوبا وجماعه من الامرا من جهه باب القرافه. وجدّوا فى الحصار، وقطعوا الماء عن القلعه، ومنعوا من يطلع ومن ينزل. واقام الحال على دلك يومين وليلتين، ثم اتفق الحال بينهم ان يكون كتبغا نايبا بحاله، والشجاعى وزيرا كعادته.

(2) يعدوا: يعدو (4) وجرا: وجرى--ردى: ردئ (9) شغلكم فى الأصل «شغلهم» (11) حملوا: حمل (12) وارادوا: فى الأصل «واردوا» (13) وطلبوا: وطلبا

فلم يقف عند دلك الشجاعى لاجله المحثوث، وحدثته نفسه بقتل الحسام استادار. فلما احس الحسام استادار بدلك، وظهر له من عيونهم الغدر، ولى منهزما الى نحو باب الساعات، ثم جلس عند باب الستاره التى للحريم. ثم ان الامرا المحاصرين القلعه بعثوا الى مولانا السلطان-عز نصره-ووالدته يقولون: «نحن مماليكك، ومماليك السلطان الشهيد والدك والسلطان الشهيد اخوك (5)، ونحن تحت الطاعه. ولنا (311) غريم، وهو الشجاعى، امسكه واعتقله، ونحن عبيدك». فاتفق الحال على مسكه وحبسه، ويكون أمنا على نفسه. ولما بلغ الشجاعى دلك، ولى منهزما وطلب باب الستاره، فوجد الحسام استادار جالسا فجلس الى جنبه. قال والدى-رحمه الله-ان مولانا السلطان-عز نصره-وزين الدين كتبغا والحسام استادار وبيسرى لم يقصدوا قتل الشجاعى، ولكنه قتل نفسه بيده. وسبب دلك انهم لما مسكوه وأتوا به الى السجن، كان صحبته الحسام استادار ومعه ألاقوش وصمغار، وارادوا اعتقاله لا غير. وسلموه للجانداريه، وارادوا تقييده داخل الزردخاناه. فقال له بعض الجانداريه: «اقعد، ومد رجلك، ما كان اظلم نسمتك». قال: فلكم الشجاعى لدلك الجاندار، كسر صف اسنانه، ثم قفز يدور فى الزردخاناه على سلاح. فخافوا منه، وجدبوا سيوفهم. فتناول رمحا وحمل عليهم، فضربه بعض الحاضرين بسيف قطع يده. فلما احس بالبلا هرب الى داخل البرج الدى كان فيه الافرم، فوقف حتى تصفى دمه. ولم يستجرى (17) احدا عليه حتى شكّوه بالرماح عن بعد منه، خوف (18) منه لما راو من شجاعة نفسه. ثم انهم قتلوه، وقطعوا راسه، واتوا بها كتبغا. فرفعت على رمح، ونودى عليها بالقاهره: «هده راس الملعون». وقيل ان الدى ضربه اولا كان الأقوش.

(5) اخوك: أخيك (17) يستجرى: يستجر (18) خوف: خوفا--راو: رأوا

ذكر [حوادث] سنة اربع وتسعين وستمايه

ثم مسكوا جماعه البرجيه واعتقلوهم بثغر الاسكندريه، وهم بيبرس الجاشنكير، واللقمانى، والدكر الشجاعى، وبرلغى. واستقر الامير زين الدين كتبغا نايبا لمولانا السلطان الملك الناصر-عز نصره-طول هده السنه. وفيها قتل كيختوا (4) ملك التتار، وجلس بيدوا بن هلاوون على التخت بمملكه التتار. فكان فى هده السنه هلاك ثلاث (5) ملوك: قتل السلطان (312) الملك الاشرف رحمه الله، وقتل كيختوا (6) ملك التتار حسبما ياتى من دكره، وموت صاحب ماردين رحمه الله. وفيها ظهر الامير حسام الدين لاجين من عند الامير زين الدين كتبغا، وحضر الاخوان (9) وقبل الارض بين يدى المواقف الشريفه السلطانيه. واخلع عليه، وطيب قلبه لاجل كتبغا. وفيها تولى القضا تقى الدين بن بنت الاعز. وفيها تحركت الاسعار بالديار المصريه، وكان بدو (12) الغلاء-لا اعاده الله على المسلمين. ذكر [حوادث] سنة اربع وتسعين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (17) العباس امير المومنين. والسلطان مولانا الملك الناصر-عز نصره-الى حين تغلب كتبغا على الامر، حسبما ندكره.

(4) كيختوا: كيختو--بيدوا: بيدو (5) ثلاث: ثلاثة (6) كيختوا: كيختو (9) الاخوان: الخوان (12) بدو: بدء (17) ابى: أبو

ذكر تغلب الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى على الملك

ذكر تغلب الملك العادل زين الدين كتبغا المنصورى على الملك لما كان يوم الخميس ثالث عشر المحرم من هده السنه ركب زين الدين كتبغا فى دست الملك، ولقب نفسه بالملك العادل. فكان كما قيل: يا ظالما لقب بالعادل … وناقصا لقب بالكامل هدا والدهر يضحك من غروره، ويضمر له بخلاف ما فى ضميره، وينطق له بلسان الحال: دع ما قد زيّنته لك نفسك من المحال، فان لهدا الامر اهل وآل، وبهم يكون تدبير الاحوال. لكن بعد أن تكون فى ايامك اهوال، ليعلم الدانى والقاصى والطايع والعاصى، انها كعوب ونواصى. وكانت ايام (8) مقدره، وامور مسطره، اراد الله تعالى (313) ان تنقضى تلك الايام فى غير ايام سيد ملوك الأنام. فكان الامر كما قيل <من الطويل>: فلّله أيام تجور وإنّما … تجود ولكن بعد فت المراير وكان كتبغا فى كل وقت يقول لمولانا السلطان-عز نصره-بعد تغلبه على الامر: «انا مملوكك، ومملوك ابوك واخوك (13)، وانت صاحب الملك. فلا تخف منى، فانما انا احفظه لك حتى تكبر وتدبر ملكك وتعرف احوالك». هكدا سمعت من الامير سيف الدين بهادر الحموى راس نوبه الجمداريه (15). وفيها كانت الوقعه العظيمه بين التتار وخلفهم على بيدوا (16) [ابن هلاوون] وغازان محمود بن ارغون بن ابغا ابن (17) هلاوون. وقتل بينهم عالم عظيم، حسبما ياتى من دكر دلك.

(8) ايام: أياما--وامور: وأمورا (13) ابوك واخوك: أبيك وأخيك (15) الجمداريه: فى الأصل «الجمداره» (16) يبدوا: بيدو--ما بين الحاصرتين مكتوب بالهامش--ابن: بن (17) ابن: بن

ذكر ما جرا بين ملوك اليمن

وفيها طلع النيل المبارك سته عشر دراعا حسبما دكرنا، ثم انه هبط من ليلته، ولم يثبت ولا عاد، ووقع الغلا على ما ندكره انشاء الله. وفيها مسك كتبغا-الملقب بالعادل-الامير عز الدين ايبك الخزندار من نيابه طرابلس واعتقله ببرج الساقيه، وافرج عن عز الدين ايبك الموصلى وولاه طرابلس. فمن نكت التاريخ ان الملك العادل كتبغا مسك عز الدين ايبك (5) الموصلى اولا واعتقله ببرج الساقيه، فاقام ثلثه وتسعين يوم (6)، واخرجه الى طرابلس، ومسك عز الدين ايبك الخزندار، من طرابلس واعتقله ببرج الساقيه، فاقام ثلثه وتسعين يوم (7) نظير المده التى كانت لايبك الموصلى. وهدا ايبك الموصلى وهدا ايبك الخزندار، والولايه واحده، ومده السجن لهما واحده. وفيها توفى الملك المظفر شمس الدين يوسف ابن (10) الملك المنصور، صاحب اليمن. وتولى ملك اليمن الملك المويد هزبر الدين داود بن الملك المظفر شمس الدين يوسف ابن (11) الملك المنصور نور الدين عمر (314) بن على بن رسول بعد اخيه الملك الاشرف. ذكر ما جرا (13) بين ملوك اليمن ودلك انه لما توفى الملك المظفر مسموما-وكان له جاريتان يحبهما فتغايرا (14) عليه فسماه (15) فتوفى الى رحمة الله تعالى-واقام يومين، فاتوا الخدام الى نايب السلطنه بقلعه عرقا، وعرفوه الامر وقالوا له: «تنفد خلف احد من اخوته حتى يتولى الملك». فقال: «ليس هدا برايى، لان اخوته كل منهما بيننا وبينه خمسه ايام، ويجى

(5) ايبك: الاسم مكتوب فوق السطر (6) يوم: يوما (7) يوم: يوما (10) ابن: بن--المنصور: فى الأصل «المسعود»، والاسم مصحح بالهامش (11) ابن: بن (13) جرا: جرى (14) فتغايرا: فتغايرتا (15) فسماه: فسمتاه--فاتوا: فأتى

فى مثلها، هدا إن حملونى على الصدق فى دلك، والاّ يظنوا (1) انها مكيده من اخيهم. والمويّد فى الاعتقال، والمصلحه ان نخرجه ونوليه الملك قبل ان يشيع الخبر، ويعلموا (2) الزيديه فيثوروا علينا، فنتعب بهم ونحن بغير ملك». فقالوا: «كيف نولى عدونا علينا؟» فقال: «انا احلّفه لكم، وضمانه علىّ بكل ما تريدون منه». فوافقوه على دلك. ثم انه اجتمع بالشمسيه عمّه الاشرف والمويّد، وهى المشار اليها من زمان اخيها المظفر، فوافقت ايضا على دلك. فاتى النايب من ساعته الى باب الجب، وطلب طلوع المويّد اليه، وقال: «تطلع تحلف لنا وتعطينا الأمان لجميع الحاشيه». فخاف المويّد وقال: «انما تريدوا (8) قتلى». فحلف له النايب على دلك، فطلع واعتنقه النايب، وقبل يده، واستحلفه لجميع الحاشيه ولساير حاشيه اخيه الاشرف. ودخل الى الدار التى فيها المظفر، فوجده ميتا وقد انتفخ. فامر بتغسيله وتكفينه. فلما كان وقت السحر زفّت حراس القلعه على جارى عادتهم، وصبحوا للملك المويّد ورحّموا على المظفر، فسمعوا (12) الناس، فضجوا بالبكا، وكانوا يحبونه. وفى دلك اليوم حضر الوزير والامرا وحلفوا للمويّد. وسيروا نسخه اليمين الى ساير ممالك اليمن والحصون. (315) واستقر الملك المويّد هزبر الدين، وحسن حاله وسيرته، وكان يحب اهل الفضيله. وله ثلاث (15) اولاد، وهم: الملك المظفر قطب الدين عيسى، وضرغام الدين محمد، والملك المسعود اسد الاسلام. وهدا ملخص حديثهم. ووجدت فى مسوداتى ان وفاه الملك المظفر صاحب اليمن فى سنه ست وتسعين والله اعلم. وفيها عزل الحموى عن نيابه دمشق، واستناب العادل بها مملوكه أغرلوا (19).

(1) يظنوا: يظنون (2) ويعلموا: ويعلم (8) تريدوا: تريدون (12) فسمعوا: فسمع (15) ثلاث: ثلاثة (19) أغرلوا: أغزلو.

وفيها توفى جمال الدين بن مصعب-رحمه الله-بدمشق. وكان له اقطاعا (1)، وهو لابس بالفقيرى. وكان ضريفا (2) لطيفا فاضلا شاعرا. فمن شعره، يتشوق الى دمشق وقد اتى الى مصر، من قصيده طويله يقول <من الطويل>: دمشق سقاها من دموعى سحايب … وحيّا رباها مدمع لى ساكب ولا برحت أيدى النسيم عواطف … غصون لأعطاف الحبيب المناسب فحيث تمدّ (6) … الظلّ فاضل برده على الغوطة الفيحا وتصفوا المشارب فيا حبّذا واد [ى] المقاسم واديا … لقد جمّعت فى جانبيه العجايب ترى السبعة الأنهار فيه جواريا … فهذا لهذا صاحب ومجانب يجرّ على ثورا يزيد، وينثنى … إلى بردا (9) من نهر باناس جانب وفى النيرب الممعور روض بنفسج … به عطّرت تلك الربا (10) والربايب كذا المزّة الخضرا وطيب نسيمها … يزيّن مسراها الطلا والكواعب وجسر بن شوّاش (12) … وطيب زلاله وجبهة واديه وتلك الملاعب مواطن أترابى ودار أحبّتى … ولا عجبا يصبوا (13) المحبّ الحبايب وفيها تولى الوزاره الصاحب فخر الدين بن الخليلى الدارى، وهى اول وزارته. وفيها كان المصاف بين بيدوا (15) ملك التتار وبين محمود غازان. وانكسر بيدوا وعسكره، وهرب ولحق بالكرج، وكان قد تنصّر. وجلس مكانه (316) محمود غازان ابن (17) ارغون ابن ابغا ابن هلاوون، واسلم واظهر اسلامه. وكان سبب اسلامه

(1) اقطاعا: اقطاع (2) ضريفا: ظريفا (6) تمد: يمد--الفيحا: فى الأصل «الفيحاء» --وتصفوا: وتصفو (9) بردا: بردى (10) الربا: الربى (12) وجسر بن شواش: وجسر ابن شواش، انظر ياقوت، معجم البلدان (شوّاش) (13) يصبوا: يصبو (15) بيدوا: بيدو (17) ابن: بن

ذكر دخول الاوراتيه مصر

وزيره النوروز، وكان مسلما فاضلا عالما باحوال الناس وتواريخهم وسيرهم. فلم يزال (1) بغازان حتى اسلم فى حديث طويل هدا زبدته. وفيها كان دخول الاوراتيه (3) الى الديار المصريه. ذكر دخول الاوراتيه مصر ودلك ان البريد وصل الى الملك العادل كتبغا من الشأم المحروس يدكر فى كتبه: ان قد وصل الى الفراه (6) بالرحبه من عسكر التتار تقدير عشره الاف بيت بحريمهم واولادهم ومواشيهم، وانهم راغبين (7) فى دين الاسلام، وانهم كانوا من عسكر بيدوا، فلما انكسر، خافوا من غازان فقصدوا بلاد الاسلام، وان المقدم عليهم يسمى طرغاى، ومعه اميران يسمى احدهم ككتاى واخر يسمى اركاوون. وكان طرغاى زوج بنت هلاوون. فعند دلك سير الملك العادل الى الامير علم الدين الدوادارى بان يتوجه يلتقيهم، فإنه حنّ بجنسه؛ فانه كان اوراتى (11)، وهولاى قبيلته وقومه. فتوجه الدوادارى من دمشق عشر (12) ربيع الاول. ثم سيروا بعده الامير شمس الدين سنقر الاعسر لاجل ملتقاهم ايضا، ثم وصل شمس الدين قرا سنقر المنصورى الى دمشق بسببهم ايضا، وان يحضر صحبته المقدمين منهم والاعيان.

(1) يزال: يزل (3) الاورانيه: فى م ف (حوادث سنة 694)، وفى الجزرى (مخطوطة جوتا 1561) ق 6 آ، وابن الفرات ج‍ 8 ص 203، والمقريزى ج‍ 1 ص 812 (حوادث سنة 695) «الأويراتية»؛ وفى ز ت (حوادث سنة 695) «العويراتية» (6) الفراه: الفرات--عشره: كذا فى الأصل وم ف وز ت، بينما فى الجزرى وابن الفرات والمقريزى «ثمانية عشر» (7) راغبين: راغبون--بيدوا: بيدو (11) اوراتى: اوراتيا (12) عشر: عاشر

ذكر [حوادث] سنة خمس وتسعين وستمايه

فلما كان يوم الاثنين ثالث عشرين ربيع الاول عاد شمس الدين الاعسر (1) [الى دمشق] (2) وصحبته من مقدميهم واعيانهم مايه فارس وثلثه عشر فارس (2_)، تقدمهم الثلاثه المذكورون: طرغاى، وككتاى واركاوون. واحتفلوا (3) الناس لدخولهم، وخرج نايب السلطان وجميع العسكر الشامى فى احسن زى. فالتقوهم وانزلوهم بالقصر الابلق بالميدان، ورتبوا لهم راتب جيد (5). واما الدوادارى فانه تاخر مع بقيتهم ما (317) يزيدون على عشره الاف نفر. ولم تزل المقدمين (6) بدمشق الى يوم الاحد سابع ربيع الاخر، فحضر الامير سيف الدين الحاج بهادر امير حاحب يستدعيهم الى الابواب السلطانيه، فتوجه شمس الدين قرا سنقر بالمقدمين الى الديار المصريه. ثم ورد مرسوم على الدوادارى بان ينزل ببقيتهم بالساحل فى ارض عتليت (9). فعبر بهم على دمشق من على المرج، ولم يمكن احد (10) من دخول دمشق. وخرج اليهم السوقه والمتعيشين (11) من كل صنف. ذكر [حوادث] سنة خمس وتسعين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (15) العباس امير المومنين. والسلطان المتغلب على الملك زين الدين كتبغا الملقب بالملك العادل، وامره نافدا (16) فى ساير الممالك الاسلاميه الى حدود الفراه (17). وما ورا دلك فى مملكه التتار، والملك عليهم يوميد محمود غازان.

(1 - 2) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (2_) وثلثه عشر فارس: وثلاثة عشر فارسا (3) واحتفلوا: واحتفل (5) راتب جيد: راتبا جيدا (6) تزل المقدمين: يزل المقدّمون (9) عتليت: عثليث (10) احد: أحدا (11) والمتعيشين: والمتعيشون (15) ابى: أبو (16) نافدا: نافذ (17) الفراه: الفرات

[دكر العلاء العظيم فى هده السنه-لا اعاده الله]

وملك اليمن المويد هزبر الدين داود (1) المقدم دكره. وصاحب مكه-شرفها الله تعالى- ابو نمى بحاله. وصاحب المدينه-على ساكنها السلام-جماز بن شيحه بحاله. وصاحب حماه الملك المظفر تقى الدين محمود المقدم دكره. وصاحب ماردين الملك السعيد شمس الدين داود الارتقى. وصاحب الروم غياث الدين مسعود ابن كيخسروا (4) السلجوقى. وامير العربان بالشام حسام الدين مهنا بن عيسى، وقد افرج عنه وعاد الى امرته. وصاحب سيس لاوون، وهو تحت الطاعه. والنايب بمصر الامير حسام الدين لاجين المنصورى. والنايب بدمشق الامير سيف الدين اغزلوا (7) [العادلى] (8). [دكر العلاء العظيم فى هده السنه-لا اعاده الله] (9) (318) وفيها كان الغلاء العظيم الدى ما عهد دلك الجيل مثله؛ بلغ الاردب القمح مايه وثمانين درهم، والشعير والفول ثمانين درهم (11)، وعدم ساير الحبوب. ووقع مع الغلاء والقحط وباء عظيم وموت كثير جدا فى السعداء والفقراء. اما الفقراء فاكثرهم من الجوع؛ كان يقول الانسان الفقير: لله لبابة، لله لبابة، ويموت مكانه. وعادوا يخرجون الى الكيمان يلتقطون ما يكون مدفونا بها من حبة قمح او حبة شعير او فول وما اشبه دلك. ولقد نظرت بعينىّ برا باب البرقيه ظاهر القاهره، فى الخندق برا السور، جماعه كبيره شبه الوحوش الضاريه؛ قد تغيرت عنهم معالم الانسانيه، وكل جماعه عندهم قدر ينتظرون الميتات التى تخرج وترمى بكيمان البرقيه، فياخدونها بالضراب بينهم

(1) داود: فى الأصل «دواد» (4) ابن كيخسروا: بن كيخسرو (7) اغزلوا: أغزلو (8) ما بين الحاصرتين مكتوب بالهامش (9) ما بين الحاصرتين مكتوب بالهامش (11) درهم: درهما

من قوى على صاحبه، فيطبخونها وياكلونها. وكانوا ياكلون الكلاب والقطاط وساير ما يجدون حتى بعضهم البعض. حكى لى رجل عدل (3) كان يخدم بديوان شمس الدين سنقر السعدى نقيب المماليك السلطانيه، قال: طلعت فى الغلا دات يوم الى القلعه فى صحبه حسام الدين لاجين اخو (5) الامير المدكور. فنظرت تحت القلعه الى جماعه كبيره مجتمعين وبينهم شى. فاتيت اليهم، فوجدت ثلاث (6) نفر قد مسكهم متولى القاهره، واحد مع الجانداريه صغير (7) سباعى العمر، قد قطّع يديه ورجليه، وجوف ودهن بزعفران، وقد شوى كما يشوى الجدى او الخروف. فسالت، فقيل لى: ان هولاء الثلث (8) وجدناهم، وهدا الصغير قدامهم على ما يده عليها خلّ وبقل وليمون مالح، وهم جلوس حوله يريدون اكله. فهجمنا عليهم، وقررناهم، فاعترفوا انهم فعلوا بالامس بأخرى مثله هدا الفعل. قال العدل: فرسم بشنقهم، فشنقوا بباب زويله. ولم يصبح (319) منهم شى، بل اكلوهم (12) غيرهم، فكما أكلوا أكلوا، وهده من غرايب البلايا. وكانوا يدفنون فى كل جوره واحده الميتين من الآدميين على بعضهم البعض، بغير غسل ولا كفن. ويسندون الكبار بالصغار، ويسمون الصغار التقشوم، اعنى الحجاره الصغار. واما الاغنياء من الناس، فوقع فيهم الوباء والفناء حتى بلغت الاوقيه الشراب ثلث (16) دراهم نقره، والفرّوج ثلثين درهم نقره واكثر واقل. وكان للعبد-واضع هدا التاريخ-اخوين (17) اسنّ منه. وكان قد جرّد الوالد والاخوه والعم الى برقه فى تلك السنه معمن (18) جرّد، فرجعوا الجميع مرضا. فامّا الاخ الكبير، فحضّروا

(3) حكى لى رجل عدل: فى ابن الدوادارى (درر التيجان وغرر تواريخ الأزمان، مخطوطة آل داماد ابراهيم باشا 913، حوادث 695) «حكى لى فخر الدين الحميرى» (5) اخو: أخى (6) ثلاث: ثلاثة--واحد: وواحدا (7) صغير: صغيرا--يديه ورجليه: يداه ورجلاه (8) الثلث: الثلاثة (12) اكلوهم: أكلهم (16) ثلث: ثلاثة--درهم: درهما (17) اخوين: أخوان (18) معمن: مع من--مرضا: مرضى

ذكر خلع الملك العادل كتبغا وولايه الملك المنصور لاجين

الحكماء الدين كانوا يباشرونهم، فاجمعوا رايهم ان يصنع للاخ فى تلك الساعه اربع (1) فراريج، ويهروا (2) ويسقى مرقهم لما راو من سقوط القوه. ولم يكن فى تلك الساعه عندهم فراريج حاصله. فقصدت الوالده تفتح صندوق النفقه، فلم تجد المفتاح، والحكما يلحوا (4) فى دلك، وكان وقت المغرب. ففكت الوالده من يدها زوج اسورة خمسين دينار عين (5)، وسيروهم حتى رهنوهم على اربعه فراريج. ثم أنه لم يعش حتى استووا رحمه الله تعالى وساير اموات المسلمين. وكانت سنه صعبه زايده الشده، فنعود (6) بالله من مثلها او مما يقاربها، انه بالاجابه جدير، وهو على كل شئ قدير. وفيها خلع الملك العادل كتبغا من الملك، وتولى حسام الدين لاجين، ونعت بالمنصور. ذكر خلع الملك العادل كتبغا وولايه الملك المنصور لاجين لمّا كان يوم السبت سابع عشر شوال من هده السنة خرج الملك العادل من الديار المصريه طالبا للشام. فوصل الى دمشق بجميع العساكر، (320) ونزل القصر الابلق كعاده الملوك، واقام الى رابع عشر ربيع الآخر. فرسم بتجريد اربعين الف فارس يقدمهم الامير حسام الدين استادار والامير بدر الدين بكتاش الفخرى امير سلاح، وان يتوجهون (15) الى بلاد السويديه من عمل ماردين، وكان قد رحل ونزل حمص. ثم ورد مرسوم ثانى (16) ان يقيم الجيش المدكور بدمشق مزاحين الاعدار (17) الى حيث يرد عليهم المرسوم بما يعتمدونه. وقدم الامير سيف الدين بلبان الطباخى، وهو يوميد نايبا (18) بحلب الى خدمه السلطان وهو على حمص، ومعه تقادم كثيرة

(1) اربع: أربعة (2) ويهروا: ويهرؤوا--راو: رأوا (4) يلحوا: يلحون (5) دينار عين: دينارا عينا--رهنوهم: رهنوها (6) فنعود: فنعوذ (15) يتوجهون: يتوجهوا (16) ثانى: ثان (17) الاعدار: الأعذار (18) نايبا: نائب

ذكر [حوادث] سنة ست وتسعين وستمايه

وتحف. وكدلك قدم رسول صاحب سيس، وصحبته اشيا عظيمه من الاموال والتحف والتقادم مصانعة عن بلاده ومملكته. ثم ورد مرسوم بتوجه العساكر الى حمص، وهم المجردين (3) مع الاميرين المذكورين، فاقاما بحمص. ورجع كتبغا من حمص الى دمشق. وفيها توفى الملك السعيد ايل غازى صاحب ماردين، وهو شمس الدين داود. وملك اخوه الملك المنصور، وتوفى أيضا فى تلك السنه. ذكر [حوادث] سنة ست وتسعين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (10) العباس امير المومنين. والسلطان المتغلب الملك العادل كتبغا، وهو مقيم بدمشق الى ان خلع من الملك فى هده السنه. ودلك انه خرج من دمشق متوجها الى الديار المصريه فى ثالث عشر (12) المحرم من هده السنه، فوصل الى منزله بدّعرش. فلما كان يوم الاثنين الثامن والعشرين (13) من الشهر المدكور وقت القايله، ركب (321) نايبه الامير حسام الدين لاجين، وشمس الدين قراسنقر، وسيف الدين قفجق مع جماعه كبيره من الامرا كانوا تحالفوا عليه، فوصلوا الى الدهليز السلطانى. فلما أحسّ بهم كتبغا، ركب فرسا كان يسمى عنده ابن قمر، وهرب نحو الشام، وطردوه من الملك طردا. ولو قصد لاجين قتله قتله،

(3) المجردين: المجرّدون (10) ابى: أبو (12) ثالث عشر: فى ز ت، وابن الفرات ج‍ 8 ص 220، والمقريزى ج‍ 1 ص 818 «ثانى عشرين» (13) والعشرين: والعشرون

لكن دكر له صنيعه معه، ففسح له فى الهرب. وقتلوا مماليكه، منهم بكتوت الازرق وبتخاص. وفى تلك الساعه جلس الامير حسام الدين لاجين بدست الملك. واحضرت الختمه الشريفه، والسيف والخبز، وحلّف لنفسه. فاول من وضع يده على المصحف المطهر الامير بدر الدين بيسرى. فلما فرغ من يمينه اخد السلاح، وحمله على راس لاجين. ثم تقدم شمس الدين قراسنقر وحلف. ولما فرغ اخد العصاه، ووقف فى منزله النيابه فى صفه امير جاندار. ثم طلب الامير سيف الدين قفجق ليحلف، فقال: «والله، ما احلف ان (8) تحلف لى ان اكون نايبك بدمشق». فحلف [لاجين] له على دلك، وحلف قفجق بعد دلك. ثم حلفت الامرا وساير الجيوش، ولقب بالملك المنصور، وركب فى دست الملك، وطلب الديار المصريه. واما كتبغا فانه لم يتبعه احد من الجيش، ولم يزل على وجهه حتى دخل دمشق. ونزل القلعه، وكتب كتبا الى ساير الامرا مثل الامير حسام الدين استادار، والامير بدر الدين امير سلاح، وركن الدين الجالق، فلم يلتفت احد اليه ولا اجابه. وكتب كتابا الى الطباخى، فلم يفتح الكتاب ولا قراه جمله كافيه. وكان دلك خدلان (14) من الله عزّ وجل، فنعود (15) بالله من زولان النعم. ثم ان الامراء المجردين استصحبوا معهم من وافقهم من الامرا الشاميين وتوجهوا من حمص طالبين الديار المصريه على طريق بعلبك على وادى التيم. ووصل السلطان لاجين (322) الى الديار المصريه سلطانا مستقلا، وجلس على تخت الملك، وتصرف تصرف الملوك. ولما وصل الامير حسام الدين استادار وبدر الدين امير سلاح، تلقاهما السلطان لاجين ملتقا (20) حسنا، وقام لهما قايما واكرمهما

(8) ان: أو (14) خدلان: خذلان (15) فنعود: فنعوذ (20) ملتقا: ملتقى

اكراما زايدا، وقال للامير حسام الدين استادار: «لا تبث (1) هده الليله حتى تعود وتنفى كتبغا عن دمشق وتعطيه (2) صرخد»، فامتثل دلك. وخرج كتبغا من دمشق يوم الثلثا تاسع عشر ربيع الاول، ووصل الى صرخد بعد ما اخلوها من العدد والمجانيق والحواصل. فسبحان من لا يزول ملكه. ورايت فى مسوداتى (5) ان لما فتح هلاوون البلاد ووصل الى حلب، احضر شخص منجما يسمى نصير الدين الطوسى، وقال: «تنظر من من الاسماء من مقدمين (6) عساكرى وقرابتى وعظمى يملك مصر، فان البخشى قال لى انى لا املكها انا». قال: فنظر فلم يجد من الاسما من يملك مصر غير كتبغا. وكان كتبغا نوين صهر هلاوون، فانفده على العسكر الدى كسره الله تعالى على عين جالوت، نوبة السلطان الشهيد الملك المظفر قطز. قال: ولم يحسبوا فى اى وقت يكون تملك هدا الاسم مصر، فكان بين كتبغا نوين داك وكتبغا هدا من المده خمس وثلثين (11) سنه. وملك هدا الاسم لكن من ملوك الاسلام، وإن كان كان من التتار فقد شرفه الله بالاسلام، فلله الحمد والمنه. وكان مده ملك كتبغا سنتان كاملتان (13) وسبعه عشر يوم، والله اعلم. وفيها كان نيابه الامير قفجق المنصورى دمشق، دخلها نايبا سادس عشر ربيع الاول. وفيها تولى الوزاره الامير شمس الدين سنقر الاعسر الوزاره الثانيه عوضا عن الصاحب فخر الدين بن الخليلى، وسلّم اليه، وأخد خطه مع اتباعه بمايه الف دينار.

(1) تبث: تبت (2) وتعطيه: وتعطه (5) ورايت فى مسوداتى: فى تاريخ الجزرى (مخطوطة جوتا 1561، ق 50 آ) «حكى لى الشيخ ابو الكرم النصرانى»، انظر أيضا ابن تغرى بردى، النجوم، ج‍ 8 ص 55 - -شخص: شخصا (6) مقدمين: مقدمى (11) وثلثين: وثلاثون (13) سنتان كاملتان: سنتين كاملتين--يوم: يوما

ذكر [حوادث] سنة سبع وتسعين وستمايه

وفيها قبض على شمس الدين قراسنقر المنصورى (323) يوم الثلثا النصف من ذى القعده، ثم قبض على شمس الدين الاعسر فى ثالث عشر دى الحجه. وفيها تولى النيابه منكوتمر مملوك السلطان لاجين عوضا عن قراسنقر، ودلك فى العشر الاخير من دى القعده. وفيها كان امير ركب الحجاز عز الدين ايبك الخزندار. ولما جلس لاجين سير يحثه على سرعة الحضور سرعة من غير تاخير. ذكر [حوادث] سنة سبع وتسعين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (10) العباس امير المومنين. والسلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين حسبما دكرناه. والملوك بحالهم على ما تقدم من دكرهم. وفيها جردت العساكر عشره الاف فارس تقدمهم الامير حسام الدين استادار والامير بدر الدين امير سلاح الى سيس، فدخلوا اليها واخربوا وقتلوا ونهبوا واحرقوا زروعها، ثم رجعوا الى حلب. فورد مرسوم ثانى (15) ان يعبروا ايضا الى سيس، ويشددوا الفعل بأهلها. فدخلوا اليها، وفتحوا فى هده الدخله اربع قلاع، وهم (16):

(10) ابى: أبو (15) ثانى: ثان (16) وهم: وهى

تل حمدون، والنقير، وقلعه نجم (1)، وحجر شغلان. وهده القلاع جميعها فتحت بالامان. واستقر الامير سيف الدين اسندمر نايبا بهده الفتوحات. وكان مده اقامه العساكر المصريه والشاميه ببلاد سيس وما حولها عشرين شهرا. وفيها توجّه الركاب الشريف الناصرى-عزّ نصره-الى الكرك المحروس، وديار مصر متعلقه بادياله، ولسان حال الدهر ناطق بعودة ركابه ببلوغ آماله. (324) وكان توجهه باشاره السلطان لاجين له فى دلك. وتوجّه فى خدمته الامير سيف الدين سلار امير مجلس كان فى دلك الوقت. وفيها سير السلطان لاجين الامير سيف الدين تمربغا الى طرابلس نايبا، فاقام حتى توفى بها. وفيها سير السلطان طلب الامير حسام الدين استادار على البريد من الشام. فلما حضر، اكرمه غايه الاكرام، ورسم له ان يتجهز لفتح اليمن. وامر بعمل الروايا والقرب والآلات لدخول اليمن. وكان امر الله غير ارادته. وفيها توفوا (13) جماعه من الامرا مثل: طقطاى الساقى، والباسطى محمد بن سنقر الاقرع، وكيكلدى بن السريه عين الغزال، وقطباى، وجماعه كبيره من كبار الناس وامراء الجيش. وفيها وقع التشويش بين المماليك المنصوريه والاشرفيه. وسير السلطان يطلب الامرا المجردين على البريد، فتشوشت خواطرهم لدلك. وضربوا بينهم مشور (17)، فاتفقوا على الدخول للتتار، وان يستجيروا بغازان-حسبما ندكره مفصلا انشاء الله تعالى.

(1) قلعه نجم: كذا فى الأصل وم ف؛ بينما فى ز ت والمقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 839 «قلعة نجيمة» (13) توفوا: توفى (17) مشور: مشورا

وفيها كان عمل الروك الحسامى بالديار المصريه، وكان ابتداه (1) فى جمادى الاولى. وفيها مسك القاضى بها الدين بن الحلى ناظر الجيوش المنصوره، وسلم لاقوش الرومى، فعدبه بانواع العداب، وجلس مكانه ابن مندر (4). وفيها حضر وعاد الملك خضر بن الملك الظاهر من بلاد الاشكرى، والتقاه السلطان واقبل عليه، ورسم له بالحجاز حسب سواله. وفيها حج الامام الحاكم بامر الله امير المومنين. وفيها تقنطر السلطان لاجين بالميدان وانكسرت يده، وانقطع ايام (8)، ثم عوفى وركب فى الحادى عشر من صفر. وقد دكر شمس الدين محمد بن الببّاعة -فى تاريخه-انه لما تقنطر السلطان لاجين كان كما قيل هدا البيت <من البسيط>: حويت بطشا وإحسانا ومعرفة … وليس يحمل هذا كلّه الفرس (325) ومن نثره فيه: فلما كان الحادى عشر من صفر، اسفر ثغر صاحبه عن محيّا القمر الزاهر، وبطش الأسد الكاسر، وجود البحر الزاخر، فيا له يوما نال به الإسلام على شرفه شرفا، وأخذ كلّ مسلم من السرور العامّ طرفا، فمليت كلّ النفوس (16) سرورا، وزيدت قلوب المؤمنين وأبصارهم بيانا ونورا. <من البسيط>: فأشرق البدر من السرار ب‍ … ‍عليا السعادة فالرحمن مشكور (18)

(1) ابتداه: ابتداؤه (4) ابن مندر: المقصود «عماد الدين بن منذر»، انظر المقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 836 (8) ايام: أياما (16) النفوس: كذا فى الأصل وابن تغرى بردى ج‍ 8 ص 89؛ فى ز ت «القلوب» (18) الشطر الأول مضطرب الوزن

ذكر [حوادث] سنة ثمان وتسعين وستمايه

فمصر والشام كلّ الخير عمّهما … وكلّ قطر علت فيه التباشير فالكون مبتهج والوقت (2) … مبتسم والخير متّصل والدين مجبور وليس فى الناس إلاّ باسم جذل … وكلّهم بحمد الله مسرور (3) وكيف لا وعدوّ الله (4) … منكسر بالله والملك المنصور منصور [والشرك] (5) … قدمات رعبا حيث صاح به ال‍ توحيد هذا حسام الدين مشهور ذكر [حوادث] سنة ثمان وتسعين وستمايه النيل المبارك فى هده السنه: الما القديم. ما لخص من الحوادث الخليفه الامام الحاكم بامر الله ابى (9) العباس امير المومنين. والسلطان الملك المنصور لاجين ملك الاسلام الى حين قتل فى هده السنه، حسبما ياتى من دكر دلك. وملك التتار محمود غازان بن ارغون المقدم دكره. وباقى الملوك بحالهم. والنايب بمصر منكوتمر، وبالشام قبجق الى حين دخوله التتار بالسبب الآتى دكره انشاء الله تعالى. وفيها افرج عن الامير شمس الدين سنقر الاعسر، واعيد الى الوزاره على عادته ومستقر قاعدته [بعد قتلة لاجين] (15).

(2) والوقت: فى ابن تغرى بردى ص 89 «واعلق» (3) الشطر الثانى مضطرب الوزن (4) الله: فى ابن تغرى بردى «الدين» (5) أضيف ما بين الحاصرتين من ابن تغرى بردى (9) ابى: أبو (15) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش

(326) دكر سبب تقفيز الامراء الى غازان

(326) دكر سبب تقفيز الامراء الى غازان ودلك لما كان يوم السبت خامس ربيع الاخر من هده السنه ورد مرسوم السلطان لاجين على الامير سيف الدين بكتمر السلحدار، وهو مجرد على حلب، بان يسيّر طلبه الى طرابلس، ويتوجه بنفسه على البريد المنصور الى عند السلطان ليوصيه بما يعتمده فى امر طرابلس ويكون نايبا بها. وقرى المرسوم بسوق الخيل بحلب المحروسه، وفرح بذلك. وكان قد ورد مرسوم فى الباطن الى الطباخى نايب حلب وللامير سيف الدين كجكن يتضمن مسك بكتمر السلحدار والفارس ألبكى. فلما كان الليل ركب كجكن والطباخى وايدغدى شقير مملوك لاجين السلطان، ومعهم جماعه من الامراء، وسيروا خلف بكتمر السلحدار والبكى يقولوا لهم (9): «قد وقعت بطاقه من البيره يخبروا (10) فيها ان التتار قد غارت عليهم، فتحضروا للمشوره». وكان الامر قد سبق اليهم (11) بما يراد منهم، فقالوا للرسول: «ارجع، فنحن واصلين خلفك». وركبوا من ساعتهم (12) وساير من يلود بهم، وتوجهوا نحو حمص. وكان الامير سيف الدين قفجق على حمص بعسكر دمشق، فراسلوه وحلفوه انه لا يوديهم (13). فحلف لهم على دلك، وركب والتقاهم وانزلهم، ثم انه استحلف جميع الناس للسلطان ومن بعده له، وانهم سامعين مطيعين (15). ثم انه سير الامير سيف الدين بلغاق الى السلطان، فعبر دمشق فى طريقه وخبر الامير سيف الدين جاغان-وكان نايب قلعه دمشق- وقال له ان الجيش كله مختلف، على حمص. ثم توجه الى الديار المصريه.

(9) يقولوا لهم: يقولون لهما (10) يخبروا: يخبرون--فتحضروا: فاحضرا-- للمشوره: فى المتن «للموسره» والكلمة مصححة بالهامش (11) اليهم: إليهما-- منهم: منهما--فقالوا: فقالا--واصلين: واصلان (12) وركبوا من ساعتهم: وركبا من ساعتهما--يلود: يلوذ--بهم: بهما (13) يوديهم: يؤذيهم (15) سامعين مطيعين: سامعون مطيعون

وفى يوم الاثنين سابع ربيع الاخر قدم علا الدين الجاكى (1) الى دمشق من عند قبجق الى جاغان يطلب منه ان يسيّر اليه خلع ومال (2) لاجل العسكر. فلم يجبه الى دلك وسير يقول له: «كيف تجير (327) اعداء السلطان، وانت قادر على مسكهم». وكدلك بعث اليه كجكن [والطباخى] (4) وايدغدى شقير يقولوا: «متى لم تمسكهم حضرنا اليك ومسكناك معهم». فعند دلك علم انه تشوش بسببهم، وانه قد حلف لهم، ومتى لم يمسكهم مسكوه معهم. وعاد عسكر دمشق يتسحّبوا (6) اولا فاولا، ويدخلوا (7) دمشق، فيشكرهم جاغان على دلك. وعاد قبجق يسيّر الى جاغان يقول له: «لم يبق عندى عسكر. فترسم عليهم وتنفد بهم اليّه (8)، وتسيّر نفقه بسببهم». وجاغان يتغلظ به (9)، ويسوّف بالجواب. فلما راى قبجق هده الاحوال الناقصه، وبلغه ان عسكر حلب طالبينه (10) ليمسكوه، وابطا عليه جواب السلطان، ركب يوم الثلثا ثامن شهر ربيع الاخر، وصحبته الامرا المدكورون، وهم: بكتمر السلحدار، وبزلار، والالبكى، وبنغار (12)، وهم فى عده خمس مايه فارس تقدمهم الامير سيف الدين قبجق. وطلبوا طريق سلميّة نحو الفراه (14). فتبعه عز الدين بن صبره والملك الاوحد مع جماعه مشايخ من الامراء ومقدمين، على انهم يسترضونه، فلم يقبل منهم بل ركب هواه لامر اراده الله عزّ وجلّ. ولما وصل الخبر الى جاغان مع جمال الدين المطروحى امر لابن النشّابى-متولى دمشق يوميد-بالحوطه على دار قبجق من غير قبض لكن احترازا على اهله وولده واتباعه.

(1) الجاكى: بن الجاكى، ز ت (2) خلع ومال: خلعا ومالا (4) ما بين الحاصرتين مكتوب بالهامش--يقولوا: يقولون (6) يتسحبوا: يتسحبون (7) ويدخلوا: ويدخلون (8) اليه: الىّ (9) يتغلظ به: فى الأصل بدون تنقيط؛ فى ز ت «يغالظ» (10) طالبينه: طالبوه (12) بنغار: فى الأصل «ببغار»، والصيغة المثبتة من ز ت (14) الفراه: الفرات--بن صبره: كذا فى الأصل وز ت؛ فى ابن تغرى بردى، النجوم، ج‍ 8 ص 96 «بن صبرا»

واما قبجق فانه سار لا يلوى على شئ الى ان وصل الفراه (1). وكان كجكن وايدغدى شقير قد توجهوا (2) من حلب ليدركوهم، فوجدوهم قد قطعوا الفراه. ولحقوا بعض اثقالهم، فاخدوه (3). وفى دلك الوقت وصل الخبر بقتلة السلطان لاجين رحمه الله، (328) فعند دلك انحلت عزايمهم عن اللحوق بهم. ولما وصل قبجق الى راس العين وبلغ شحانى التتار بوصوله، وكان المقدمين عليهم يوميد بولاى وجنكلى ابن (6) البابا فى الف من المغل، فخافوهم. ثم تحققوا امرهم، فالتقوهم واحسنوا نزلهم. وكدلك صاحب ماردين، فانه التقاهم ملتقا (7) حسنا، وقدم لهم اشياء كثيره خوفا منهم لا ينهون (8) عليه انه يكاتب صاحب مصر فصانعهم. ثم ان بولاى اراد ان يسيّرهم على خيل البريد الى غازان، فلم يوافقوه على دلك وقالوا: «ما نسير الا على خيلنا مطلّبين على ما نحن عليه». فتنافسوا فى الكلام، وخشى بولاى ان يعمل معهم فتنه بغير مرسوم من غازان، فاحتاج يوافقهم، وساروا مطلّبين. وعبروا على الموصل والتقاهم اهلها. ثم دخلوا ايضا بغداد كدلك، فالتقتهم عساكر المغل وخواتينهم. ثم توجهوا الى غازان، وهو مقيم يوميد بالاردوا (14) بارض سيب من اعمال واسط. فتلقاهم ملتقا (15) حسنا واكرمهم، ووعدهم الاحسان ومنّاهم، وانعم على كل امير منهم بعشره الاف دينار، وصرف كل دينار اثنا عشر درهم (16) قازانيه. وانعم على مماليكهم كل نفر الفومايتى (17) درهم، وللصغار مع الغلمان ستمايه درهم. واقطع لقبجق همدان، فلم يقبل وقال: «ليس لى قصد سوى خدمة القان، والنظر الى وجهه

(1) الفراه: الفرات (2) توجهوا: توجها--ليدركوهم: ليدركاهم--فوجدوهم: فوجداهم--الفراه: الفرات--ولحقوا: ولحقا (3) فاخدوه: فأخذاه (6) ابن: بن (7) ملتقا: ملتقى (8) ينهون: ينبهون، ز ت (14) بالاردوا: بالأردو-- سيب: فى الأصل «ست» والصيغة المثبتة من ز ت وابن تغرى بردى ج‍ 8 ص 97 (حاشية 2) (15) ملتقا: ملتقى (16) درهم: درهما (17) الفومايتى: ألفا ومائتى

(329) ذكر قتلة السلطان لاجين رحمه الله والسبب فى دلك

فى كل وقت». فاعجب غازان دلك منه، واجيب اليه. ودكر ان قبجق وجد ابوه (1) وجدّه واخوته يعيشون، وهم سلاح داريه قازان. ثم استمر بهم الحال عند قازان مكرمين الى حين عودهم الى الشام-حسبما ياتى دلك ودكره فى تاريخه انشا الله تعالى. (329) ذكر قتلة السلطان لاجين رحمه الله والسبب فى دلك كان السلطان لاجين رحمه الله لما تولى الملك عاد متدينا، كثير الخير، مواضب (6) الصوم، زايد التقشّف، وآلا (7) على نفسه انه لا يوذى لاحد الا ببينة واضحه. وكان قد استناب الامير سيف الدين منكوتمر، وفوّض اليه الامور كلها. وكان منكوتمر صبى العقل، عظيم الكبر، طامع النفس فى الملك، لا يرى احدا من الامرا عنده بشئ متسلطا على الاذى والوساطه الرديه (10) عند السلطان؛ فمقتته الانفس من الامرا وغيرهم، وكرهوا ايام استاده بسببه لا غير. وجرى من منكوتمر اشياء فضيعه (12) فى حقوق الامراء واعيان الناس، أضربت عنها طلبا للاختصار. فلما زاد البلاء على الناس من جهه منكوتمر اجتمع راى جماعه من الامراء على قتل السلطان لاجين، لا لدنب (14) سبق منه لاحد الا لاجل نايبه منكوتمر فقط. واطّلع منكوتمر على دلك، فاطلع السلطان عليه، فربما نهره السلطان وقال له: «كل هدا من نحس تدبيرك، وقله احسانك الى الناس، وقصدك انى اهلك الناس على السماع دون الحقيقه». فعاد منكوتمر يعبر الى الخدمه ووجهه عبوس مقطب ويخرج كدلك. وعاد السلطان لاجين بين مكدب ومصدق لاجله المحتوم، وعاد قليل الركوب محترزا على نفسه يفكر فيما يفعله، وهو يطاول الامر لفروغ الاجل.

(1) ابوه: أباه (6) مواضب: مواظب (7) وآلا: وآلى (10) الرديه: الرديئة (12) فضيعه: فظيعة (14) لدنب: لذنب--فقط: الكلمة مكتوبة فوق السطر

حدثنى الامير بهاء الدين ارسلان الدوادار-رحمه الله-وكان بينى وبينه اخوه من حال الصغر، قال: لما كان يوم الاربعا تاسع ربيع الاخر من هده السنه انقطع منكوتمر دلك اليوم عن الخدمه وادعى انه متوجع. (330) وركب السلطان يوم الخميس، ولم يركب منكوتمر. واطّلع السلطان على ان ما به وجع (4) الاّ تغير خاطر وتشويش باطن. فلما طلع السلطان الى القلعه بعد الركوب، طلب سيف الدين سلار-وكان يوميد امير مجلس وكان يعرف بالحاج سلار-فقال له: «يا حاج اشتهى تروح الى هدا الصبى العقل منكوتمر، وتقول له ما سبب انقطاعك وتعبيسك ودخولك معبس (8) وخروجك كدلك؟ قد فوضت اليك ساير الامور، وانا معك شبيه الماسك البقره وانت تحلبها، فايش هده الفعايل وهدا الخلق الردى (10)». قال [الأمير بهاء الدين]: فتوجه اليه سلار وبلغه الرساله. فقال له منكوتمر: «يا حاج، كيف لا اعبس وروحى وروحه رايحه، والله قد اتفقوا على قتله وقتلى بعده». فقال سلار: «يا خوند، فان سالنى السلطان من هم، من ادكر؟» وكان هدا من سلار مكر (13) بمنكوتمر، فانه كان يعلم منه الصبى وقله العقل. فقال له منكوتمر: «وما تتعرفهم، يا حاج، هم فلان وفلان وفلان»، وعدّد جماعه، ثم قال: «وانت والله، يا حاج، معهم ومطلع على جميع امورهم». فقال سلار: «لا حول ولا قوة الاّ بالله العلى العظيم، ادا كان الامير يتهمنى انا ايضا، فكيف العمل». وخرج من عنده، واعاد الرساله على السلطان، وقال عن نفسه ايضا. فقال السلطان: «وهم من صبيته ايضا اتهامك انت، يا حاج، فما علمتك الا شفوق ناصح (18)». قال: فقبل الارض وخرج اجتمع بالامرا وقال لهم: «تعشوا به قبل ان يتغدى بكم، والسلام». يقول بهاء الدين ارسلان صاحب هدا النقل، وكان يوميد بشمق دار (20) عند الامير سيف طقجى ومطلع (21) على (331) جميع الاحوال.

(4) وجع: وجعا (8) معبس: معبسا (10) الردى: الردئ (13) مكر: مكرا (18) شفوق ناصح: شفوقا ناصحا (20) بشمق دار: بشمق دارا (21) ومطلع: ومطلعا

فلما كان عشيه تلك الليله-وهى ليله يسفر صباحها عن يوم الجمعه حادى عشر شهر ربيع الآخر من هده السنه-بعد صلاه عشا الاخره، كان السلطان لاجين صايما دلك اليوم. دخل عليه كرجى مقدم المماليك البرجيه، وعند السلطان قاضى القضاه حسام الدين الحنفى وابن العسّال المقرى، والسلطان لاجين يلاعب ابن العسال بالشطرنج. وكان كرجى قد اتقن الامر مع البرجيه ومع جماعه من الخاصكيه وسلاح دار النوبه، واوقف اكثر البرجيه فى الدهليز. فلما وقف بين يدى السلطان، ساله عما صنع، فقال: «بيّتت (7) المماليك البرجيه وغلقت عليهم». فشكره السلطان واثنى عليه وكدلك الحاضرين. ثم انه تقدم ليصلح الشمعه، وكان السلطان قد قام لصلاه عشاء الاخره. فتناول كرجى النمشاه، وضرب السلطان لاجين وهو مولى عنه، فقطع كتفه حتى حله. فبادر السلطان من حلاوة الروح يطلب النمشاه، فلم يجدها، فقبض على كرجى وعاركه، وقيل انه رماه تحته، فضربه السلحدار قطع رجله، فانقلب يخور فى دمه. ثم ان كرجى ثنى عليه فقتله. فقال القاضى: «هدا ما يحلّ»، فارادوا قتله، ثم عفوا عنه. وقيل ان الضرب الدى كان فى السلطان الشهيد الملك الاشرف-رحمه الله-وجدوه فى السلطان لاجين لا يختل ضربه واحده. فلما فرط الامر اغلقوا عليه الباب وتركوه ومضوا الى برا باب القله. نكته: كان السلطان لاجين متزوجا بنت السلطان الملك الظاهر، وكانت من الديانات الخيرات. فحدثنى من اثق به انها فى تلك الليله-وهى ليله الخميس التى صبيحتها قتل السلطان-فى عشيته رأت فى (332) منامها كأن السلطان جالس فى المكان الدى قتل فيه، وكأن عده غربان سود على اعلا (19) المكان. وقد نزل منهم غراب فضرب عمامة السلطان رماها عن راسه، وهو يقول: «كرّج كرّج (20)».

(7) بيتت: بيتّ، انظر م ف وز ت (19) اعلا: أعلى (20) كرّج كرّج: كذا فى الأصل وابن تغرى بردى ج‍ 8 ص 101، وفى المقريزى، السلوك، ج‍ 1 ص 862 «كرجى»

فلما اصبحت، واراد السلطان يخرج تلك الليله من عندها، وكان صايما حسبما دكرنا، فقالت: «يا خوند، اشتهى الليله تفطر عندنا ولا تخرج مكان (2)». فقال: «يا خوند، ايش السبب؟ فما عندى غير القاضى حسام الدين وابن العسّال المقرى». فقالت: «رايت منام (4)، وانا وجله منه»، وقصّته عليه. فقال: «ما يكون الاّ ما يريد». هدا حديث القاضى مجد الدين حرمى (5) وكيل بيت المال المعمور ووصى بيت الملك الظاهر، ينقل دلك عن بنت الملك الظاهر صاحبه المنام. ثم انها لم تعش بعده-السلطان-الا يسيرا وتوفت (7) الى رحمة الله تعالى. ولما خرجوا من بعد قتلة السلطان-رحمه الله-كان سيف الدين طغجى قد جلس مع البرجيه فى الدركاه ينظر ما يفعلوه (9). فلما حضروا قال لهم: «قضيتم الشغل؟» قالوا: «نعم». ثم توجهوا باجمعهم الى دار النيابه التى كان بها منكوتمر، فطرقوا عليه الباب، وقالوا له: «اجب السلطان الساعه»، فانكر حالهم وتحقق انهم فعلوها كما كان مقرر (12) عنده. فقال لهم: «بالله عليكم، قتلتوا السلطان؟» فقال له كرجى: «نعم، يا مأبون، قتلناه وقد جينا اليك نلحقك به» فقال: «ما اسلّم نفسى حتى يجيرنى الامير سيف الدين طغجى»، فاجاره وحلف له انه لا ياديه (15) ولا يمكن من اديته. وكان عند منكوتمر فى دلك الوقت نيف واربع مايه ضارب سيف، كلهم معتدين (17)، لكن خدله الله تعالى، فنعود بالله من الخدلان. ثم فتح الباب وخرج بسلام، فاخدوه ومضوا به الى الجبّ، فانزلوه عند الامرا (333) المحبوسين.

(2) مكان: مكانا (4) منام: مناما (5) القاضى مجد الدين حرمى: فى ابن تغرى بردى ج‍ 8 ص 101 «الشيخ مجد الدين الحرمى» (7) وتوفت: وتوفيت (9) يفعلوه: يفعلونه (12) مقرر: مقرّرا--قتلتوا: قتلتم (15) ياديه: يؤذيه--اديته: أذيته (17) معتدين: معتدّون--خدله: خذله--فنعود: فنعوذ--الخدلان: الخذلان

فيقال ان الاعسر قام اليه وتلقاه، وان عز الدين الحموى قام اليه وشتمه واراد قتله، فمنعه الاعسر، فان منكوتمر كان سبب مسك الامرا. واستقر منكوتمر فى الجب ساعه رمليه. وراح طغجى الى داره يتوضى (3)، فاغتنم كرجى غيبته فتوجه، وصحبته جماعه من البرجيه، الى باب الجب. واحتال على منكوتمر وقال لشخص معه «قول (4) له: اطلع اجب الامير سيف الدين طغجى حتى ياخدك الى بيته لا يقتلوك (5) هاهنا بغير امره، واسرع قبل ان يعلم بك كرجى». فطلع فى اسرع من لمحه، فدبحه كرجى بيده على باب الجب، ثم نهبوا داره وامواله. ورجع [كرجى] فعتبه طغجى، فقال: «نحن ما قتلنا السلطان الا لاجل هذا المابون فندعه، والا ايش فعل معنا السلطان من الردى (9)». ثم اجالوا الحديث بينهم فيمن يكون ملكا، فاتفق رايهم ان يكون الملك لمولانا السلطان الاعظم الملك الناصر عز نصره، وينفدوا يحضروا (11) ركابه الشريف من الكرك المحروس، ويكون طغجى نايبا له. وحلفوا على دلك تلك الليله واصبحوا يوم الجمعه يحلّفوا (12) الناس على دلك. وركب طغجى يوم السبت فى دست النيابه والتفّت عليه العساكر، ثم طلع الى القلعه وجلس فى دار النيابه، ومد الاخوان (14) على جارى العاده ثم ان كرجى نقض دلك وقال: «انا قتلت السلطان ونايبه وخاطرت بنفسى، فاذا كان طغجى نايبا والملك الناصر سلطانا، فايش يكون وضعى انا؟» فاختلفوا، ثم وقع الاتفاق ان يكون طغجى سلطانا مستقلا وكرجى نايبا له. ولما بلغ الامرا الكبار دلك، عظم عليهم، ووقع التشويش. وبعد خمسه ايام حضر الامرا المجردين (19) تقدمهم الامير بدر الدين بكتاش الفخرى امير سلاح مع عده

(3) يتوضى: يتوضأ، وفى ز ت «يقضى شغل» (4) قول: قل (5) لا يقتلوك: لئلا يقتلوك! (9) الردى: الردئ (11) يحضروا: يحضرون (12) يحلفوا: يحلفون (14) الاخوان: الخوان (19) المجردين: المجردون--الفخرى: فى الأصل «النجمى»، والصيغة الصحيحة المثبتة من ز ت والمقريزى ج‍ 1 ص 867

من الامرا المصريين والشاميين. وذلك (334) ان السلطان لاجين-رحمه الله- كان سير فى حياته يحث على حضور امير سلاح. فانه كان خصيص (2) به، وقصد يستشيره فيما كان يريد يفعله فى امر الامرا الدين كان بلغه عنهم ما بلغه. وكان يتطاول المده الى حين حضوره، فعاجله الاجل قبل وصول امير سلاح. فلمّا كان عشيه نهار الاحد ثالث عشره وصل امير سلاح بالعساكر الى مدينه بلبيس على ان يدخل يوم الاثنين، فوصل اليه جماعه من الامرا المصريين وخبروه بما جرى من قتل السلطان، وان هذا الامر لم يكن برضاهم ولا عن ادنهم (7). واتفقوا معه على قتل طغجى وكرجى. ثم خرج الامرا الكبار من المصريين لملتقى امير سلاح، وهم: الحسام استادار، وبكتمر امير جاندار، وبيبرس الجاشنكير، والجالق، وسلار، واقوش، والافرم، وايبك الخزندار، وقتال السبع، وابن برواناه، وسنقر العلايى كشكار، مع جماعه من البرجيه. ولم يزالوا يحسنوا (11) لطغجى خروجه لملتقى امير سلاح حتى وافقهم بعد الامتناع. واما كرجى فوقف بباب القلعه تحت الطبلخاناه ومعه جمع كبير من البرجيه وغيرهم. واجتمع الامراء جميعهم القادمين والمقيمين (14) عند قبة النصر. فقال امير سلاح لطغجى: «كان لنا عاده ان السلطان ادا قدمنا من السفر يخرج يلقانا (15)، وما اعلم دنبى النوبه (16) ما هو حتى انه لم يخرج الينا». فقال له طغجى: «وما علمت ايش جرى، قد قتل السلطان». قال: «من قتله؟» قال: «قتله المفسدين المخامرين (17)». قال: فتقدم كرت الحاجب وقال لطغجى: «انت الدى قتلت السلطان، وانت سبب جميع الفتنه». فقال امير سلاح: «ايش هده الفعايل القبيحه، تريدوا (19)

(2) خصيص: خصيصا (7) ادنهم: اذنهم (11) يحسنوا: يحسنون (14) القادمين والمقيمين: القادمون والمقيمون (15) يلقانا: يتلقانا، ز ت (16) النوبه: فى هذه النوبه، م ف (17) المفسدين المخامرين: المفسدون المخامرون (19) تريدوا: تريدون

(335) لكم كل يوم سلطان جديد (1). ابعد عنى، لا صح الله لكم بدن، لا تلتزق بى اصلا». وخرج عنه امير سلاح، فعلم طغجى انه مقتول. فاراد ان يخرج من الحلقه، فضربه قراقوش الظاهرى رماه، وقتل مكانه. وشالوه من هناك بعد دلك فى مزبلة حمار. وتموا (5) الامرا على حميّه الى تحت القلعه، فوجدوا كرجى راكبا والبرجيه حوله، وقد لبسوا السلاح، لما بلغهم قتلة طغجى ساعة وعادت جموعه تنفل اولا فاولا، وعادوا ياتون الى نحو امير سلاح. فلما بقى فى نفر يسير ولى هاربا الى نحو القرافه، فلحقوه فقتلوه اخر القرافه الكبيره. وقيل ان الدى قتله شهاب الدين بن سنقر الاشقر. وقتل معه انغاى (9) الكرمونى السلحدار الذى كان وافق على قتلة السلطان لاجين. ثم اتفق الحال على ان يحضر الركاب الشريف الناصرى-عز نصره-من الكرك المحروس. واستقرت الكتب والمراسيم تخرج بعلايم ثمان (11) امرا، وهم: الامير سيف الدين سلار، وركن الدين بيبرس الجاشنكير، وعز الدين ايبك الخزندار، وعبد الله السلحدار، وبكتمر امير جاندار، واقوش الافرم، والحسام استادار، وكرت الحاجب، الى حين حلول الركاب الشريف من الكرك المحروس حسبما ياتى ذكر ذلك فى الجزء الثامن المختص بسيرته المباركه. واما ما كان بدمشق المحروسه، فان بلغاق كان لما حضر الى الديار المصريه برساله قبجق-حسبما سقناه من قبل-فوصل الى القاهره يوم السبت [ثانى عشر ربيع الآخر] (17)، وطغجى راكب فى موكب النيابه بعد قتلة السلطان لاجين، فعرّفه صوره الحال فقال: «اقم حتى نكتب معك كتبا بتطييب قلوب الامرا، وعرّفهم ان الدى كانوا

(1) سلطان جديد: سلطانا جديدا--لا تلتزق: لا تلتصق، م ف (5) وتموا: وتمّ (9) انغاى: نغى، ز ت (11) ثمان: ثمانية (17) أضيف ما بين الحاصرتين من ز ت

يخشونه قد قتل». (336) فلما كان يوم الاثنين، وجرا (1) ما قد دكرناه من قتل طغجى وكرجى، كتبوا (2) الامرا المقدم دكرهم على يده كتاب الى الامير سيف الدين قبجق والى ساير الامرا-كل امير بمفرده كتاب (3) -بتطييب خواطرهم، وعلى كل كتاب ثمان (4) علايم حسبما دكرنا. ووصل [بلغاق] الى دمشق واخبر بقتل السلطان لاجين، ونايبه منكوتمر، وطغجى وكرجى، واتفاق الكلمه على مولانا السلطان الاعظم الملك الناصر عز نصره. وكان المثحدث (6) يوميد بدمشق الامير سيف الدين جاغان. فقام الامير بهاء الدين قرا ارسلان واظهر الفرح، وثحدث (7) فى الدوله، ورسم على نواب طغجى وعلى والى البر حسام الدين لاجين، واحضر العسكر الشامى وحلّف لمولانا السلطان الملك الناصر عز نصره. فلما كان يوم الثلثا ثانى عشرين ربيع الاخر مسك قرا ارسلان للامير (10) سيف الدين جاغان واحضره هو ولاجين والى البر الى القلعه، وسلمهما للامير علم الدين ارجواش فاعتقلهما. ولم تزل دمشق بغير نايب ولا مشد ولا من يحكم بها غير قرا ارسلان الى مستهل جمادى الاولى ثار عليه قولنج، وكان من قبل قد سقى وخلص، فنقض عليه، فتوفى يوم الاثنين ثانى الشهر. واستقرت دمشق بغير حاكم يحكم بها، والناس محفوظين (15) بعناية من الله تعالى الى حين حضور الامير جمال الدين اقوش الافرم، حسبما ياتى من دكره انشا الله تعالى. وكان مده مملكه السلطان لاجين-رحمه الله-سنتان ونصف وشهران واثنين وعشرين يوم (18). ودلك انه جلس فى الثامن والعشرين من المحرم سنه ست وتسعين وستمايه، وقتل فى العشر الاول من ربيع الآخر.

(1) وجرا: وجرى (2) كتبوا: كتب--كتاب: كتابا (3) كتاب: كتابا (4) ثمان: ثمانى (6) المثحدث: المتحدث (7) وثحدث: وتحدث (10) للامير: الأمير (15) محفوظين: محفوظون (18) سنتان ونصف وشهران واثنين وعشرين يوم: سنتين ونصفا وشهرين واثنين وعشرين يوما، فى م ف: «سنتين ونصف وشهرين واثنين وعشرين يوما اظنها سنتين وشهر واحد وثلاثه وعشرين يوما»

ذكر الساده الاجلاء الايمه الفضلاء الدين ادركهم العبد بالمولد

والى هاهنا انتهى بنا الكلام، لما لم يسع هدا الجزء بقيه مناقب (337) سيد ملوك الاسلام، سيدنا ومولانا السلطان الأعظم الملك الناصر، المثنى بهز كفه الرماح السمر، أمدّه الله بطول البقاء الى اقصى نهايه العمر. والان فقد خرجنا عن شرط عدة الأجزاء السبع الى الثمان (4)، لما اتسع بنا القول فى سيره اشرف ملوك الزمان، فديّلنا على هدا الجزء السابع بجزء ثامن. فمن تعلق به كان من حدوث زمانه امن (5)، فان السعد لعمرى يسرى ادا تعلق به اللسان، ونطق بدكر بعض ما يصل اليه الفهم من محاسن مولانا السلطان، فليس عندى شك ان السعاده تشمله فى عصره، ادام الله ايامه واعلا (8) فى درجات الجنان محله وقصره. ذكر الساده الاجلاء الايمه الفضلاء الدين ادركهم العبد بالمولد قلت: هولاء الموالى المدكورون فى اول الاسماء، ايمة فضلاء علماء، يجلوا (10) ان يطلق عليهم اسم الشعراء، لكون محلهم يعلو على الشعراء. وقد ادركهم العبد وفاز بمشاهدتهم، وجنا (12) هده الثمار الجنيه من فكاهتهم. فخصصت هدا الجزء المبارك بدكرهم، ورصعته بما التقطته من فرايد نظمهم ونثرهم. والوصف فى صفاتهم الجميله، فقد ضاق حتى عاد الى الحصر، ومن دا يطيق ان يصل فى مدحه الى بعض محاسن علماء العصر.

(4) الثمان: الثمانى (5) امن: آمنا (8) واعلا: واعلى (10) يجلوا: يجلو (12) وجنا: وجنى

الشيخ صدر الدين المعروف بابن المرحل رحمه الله

الشيخ صدر الدين المعروف بابن المرحّل رحمه الله قرّة العيون، وسلوة المحزون، وجامع الفنون، الدره اليتيمه، وجامع اخبار الامم الحديثه الى الامم القديمه. (338) فمن قوله يتشوق للامير جمال الدين الافرم <من السريع>: قد زادنى العذل عليكم جنون (5) … وصبوة تعجّب منها العاذلون ماذا يريد العذل من مغرم … متيّم حلف الأسا (6) والشجون سكّان أهل السفح أجريتم … لمّا نأيتم من عيونى عيون هوّنتم الهجر وحاشا بأن … أصعب ما يروى عليكم يهون غبتم فلا والله ما غبتم … بقدر ما تطرف منّى الجفون وظلت فى (10) … الأطلال من بعدكم أعلّل القلب بما لا يكون لا تحسبوا أنّى سلوت الهوى … لا عاش من يسلوا (11) ولا من يخون ومن قوله فى الغزل-عفا الله عنه- <من الطويل>: سقا (13) … الله ذاك الشعب من أرض حاجرى من المزن منهلّ السحايب هامرى وحيّا ربا (14) … نجد فلى بربوعه لويلات وصل والحبيب مسامرى ولى بالحمى من آل خاقان أهيف … له مقلة تغنيه عن حمل باترى

(5) جنون: جنونا--البيت الثانى مضطرب الوزن (6) الأسا: الأسى (10) فى: فى المتن «من» والكلمة مصححة بالهامش (11) يسلوا: يسلو (13) سقا: سقى (14) ربا: ربى

نبىّ جمال والملاح صحابة … وصاحب برهان وناه وآمرى مشرّع شرع الحبّ والقول قوله … فما ضرّه لو كان يوما مناظرى إذا كان خصمى حاكمى كيف حيلتى … وإن رام خذلانى فمن لى ناصرى ومن قوله ايضا فى الغزل <من الكامل>: وافا (5) … يصول بصارم الأجفان ويتيه من هيف على القضبانى صاح يميل بعطفه سكر الصبا … أسمعتم بالصاحى السكران قاس على العشّاق يثنى قدّه … لين الصبا أحوى لطيف معانى أو ما رأيت قوامه لمّا انثنى … من لينه خجلت غصون البان ولقد وقفت لكى أشاهد نظرة … فضممت أحشايى من الخفقانى (339) فرأيت بدرا (10) … لاح تحت دجنّة يمشى به غصنا من الأغصان لله ورد فوق وجنته التى … شقّت قلوب شقايق النعمان إذ لم أسحّ عليه فيض مدامعى … من سحب أجفانى فما أجفانى ومن قوله ايضا فى الغزل <من البسيط>: يا ليلة السفح ألاّ عدت ثانية … سقا (14) زمانك هطّال من الديمى ماض من العيش لو يفدا (15) … بذلت له كرايم المال من حلّ ومن نعمى ردّوا علينا ليالينا التى سلفت … لم أنسهنّ وما فى العهد من قدمى بتنا ضجيعين فى يومى هوى وتقا (17) … يضمّنا الشوق من فرق إلى قدم

(5) وافا: وافى--القضبانى: فى المتن «الاغصان» والكلمة مصححة بالهامش (10) بدرا: فى الأصل «بدر» (14) سقا: سقى (15) يفدا: يفدى (17) تقا: تقى

وبات بارق ذاك الثغر يوضح لى … مراشف اللّثم فى داج من الظلم وبتّ ألثم (2) … خدا ليس يعرفه غير العفاف وغير الجود والكرم ومن قوله ايضا فى الغزل <من الكامل>: إن كان دينك فى الصبابة دينى … أرح المطىّ بزملتى تبرينى والثم ترا (5) … لو عاينته مقلتى يوم الفراق لثمته بجفونى إن كان قد ضاعت عهودى عندكم … فأنا الذى استودعت غير أمينى أو رحت مغبونا فما أنا فى الهوى … منكم بأوّل عاشق مغبونى ونشيدتى بين الخيام وإنما … عرّضت عنها بالضبا (8) العينى ومن قوله ايضا فى الغزل <من الطويل>: سرا (10) … وستور الهمّ بالكأس تهتك وساكن قلبى بالغنى يتحرّك وأقسم لولا نار قلبى ترفّعت … له فى الدياجى ما اهتدى كيف يسلك وعاطيته خمرا فحيّا بمثله … ومازج ذاك الخمر ريقا ممسك ودارت علينا الراح حتّى تملّكت … عقول رجال مثلها ليس تملك (340) ولما رأيت القوم بالكأس صرعا (14) … وأنّ ابنة المطران بالقوم تفتك أرقت دما الراووق حلاّ لأنّنى … رأيت صليبا فوقه فهو مشرك وسالت دموع العين منه فكلّما … جرى بالدما ممّا جرى منه أضحك فيا لك من لذّات دهر قطعتها … على مثلها يفنى التقا (17) والتنسّك

(2) ألثم: فى الأصل «اللثم» (5) ترا: ترى (8) بالضبا: بالظبا (10) سرا: سرى (14) صرعا: صرعى (17) التقا: التقى

قلت: وهدا الشعر جميعه مما يكون فى طبقه المقبول ولعل فيه ابيات (1) تحتمل ان تكون فى طبقه المطرب، وليس فيه شئ يصل الى طبقه المرقص. ومما يجوز ان يكون فى طبقه المطرب ايضا قوله عفا الله عنه <من الكامل>: قبّلته ولججت فى تقبيله … حتى استحالت صبغة الرحمن يا خدّه عذرا إليك فإنّنى … أذبلت فيك شقايق النعمان وقوله <من الوافر>: أراق دمى بسيف اللّحظ عمدا … وها أثر الدماء بوجنتيه فلمّا خاف من طلبى لثأرى … أقام عذاره زردا عليه ومن مستطرفاته، وقد امطرت دمشق حتى كادت تغرق، فقال <من الرمل>: إن يدم ذا الغيث شهرا واحدا … جاء بالطّوفان والبحر المحيط ما هم من قوم نوح يا سما … أقلعى عنهم فهم من قوم لوط وله فى من عدر (12) وكان عن الوصل استعدر <من المتقارب>: أتاك العذار على بغتة … فإن كنت فى غفلة فانتبه وقد كنت تأبا (14) … زكاة الجمال فهذا شجاع طوقت به وقوله <من البسيط>: لإن (16) … غاب عنى شخصك يأسولى فمسكنه على الدوام بقلب الواله العانى هو المقدّس لمّا أن حللت به … لكنّه ليس فيه عين سلوان نجز ما اختير من شعره-عفا الله عنه.

(1) ابيات: أبياتا (12) عدر: عذر--استعدر: استعذر (14) تابا: تأبى (16) لإن: كذا فى الأصل والشطر الأول مضطرب الوزن ولعلّ الصيغة الصحيحة هى «إن غاب شخصك يأسو لى فمكنه»

(341) الشيخ شمس الدين بن تازمرت المغربى

(341) الشيخ شمس الدين بن تازمرت المغربى علامة العصر، الدى تشرفت باقدامه مصر، نسيج وحده، فاق من قبله واربا (2) على من بعده، بقية السلف، وخير الخلف. الشيخ اثير الدين ابو حيان المغربى شيخ العربيه، وجامع العلوم الدينيه الى العلوم الادبيه، سيبويه الزمان، الفايق نحوه الأخفشان (6). (342) القاضى ناصر الدين شافع بن عبد الظاهر-رحمه الله اعجوبة الزمان، وبديع الأوان، الفاضل الفاصل، العامل الكامل، عبد حميد البلاغه، وابن عميد الصياغه. (343) القاضى شهاب الدين محمود كاتب الانشا-رحمه الله فاضل الزمان، المفترد بعلم البديع والبيان، الدى تشرفت بأنامله اليراعه، وجمع بين محاسن التجنيس الى تخلص البراعه. (344) القاضى فتح الدين بن سيّد الناس-رحمه الله دو الحظ الأسنى، فى حسن صياغة اللفظ الى ابتكار المعنى، ألطف خلق الله خلقا وخلقا، وأرقّهم شعرا غربا وشرقا.

(2) واربا: وأربى (6) الأخفشان: الأخفشين

فمن قوله (345) فى الغزل مما انشد منه رحمه الله <من البسيط>: ما زال يشرب من شمس الطلا قمرى … حتّى حكت وجنتاه حمرة الشفق وقام يرقص والأرداف تقعده … سكرا وحاول أن يسعى فلم يطق شمايل فعلت صرف الشمول بها … فعل الشمال بغصن البانة الورق وقال لى فى فتور من لواحظه … إنّ العناق لإثم قلت فى عنق وقوله <من الطويل>: أتى بشفيع ليس يمكن ردّه … دراهم بيض للجروح مراهم تصيّر صعب الأمر أسهل ما يرى … تقضّى لبانات الفتى وهو نايم وقوله <من الكامل>: إنّ الدراهم والنساء كلاهما … لا تأمننّ عليهما إنسانا ينزعن ذا الدين المتين (11) … عن التقى فيرى إساءة فعله إحسانا ونظير الاول فى رقة الغزل لغيره <من الكامل>: ومورّد الخدّين فى وجناته … ورد يحاكى الورد فى شجراته كتب الربيع بخطّ [. . .] عذاره … يا ربّ نجّ الناس من لأماته (14) البدر يشبهه لبهجة وجهه … والغصن يحسده على حركاته قالوا تسلاّ (16) … عن هواه بغيره واعشق سواه فقلت لا وحياته

(11) المتين: الكلمة مكتوبة فوق السطر (14) الشطر الأول مضطرب الوزن-- لأماته: فى المتن «شاماته» والكلمة مصححة فى الهامش (16) تسلا: تسلّ

(346) الحكيم شمس الدين بن دانيال رحمه الله

(346) الحكيم شمس الدين بن دانيال رحمه الله اللطيف المثال، صاحب كتاب «طيف الخيال»، من ظنّ انه يدانيه فى خلاعته ولطف معانيه، فقد كذبته امانيه، وطمعته نفسه بالمحال، وتعلق من الشمس بالحبال. فما انشدنيه لنفسه-رحمه الله-فى الخاتم قوله <من الخفيف>: بالتزامى لصاحبى طول دهرى … وبلثمى أنامل الأكياس صرت من صولة الملوك أمانا … وأمينا لهم على الأكياس ومما انشدنى لنفسه-عفا الله عنه-يخاطب بعض اصحابه ويداعبه <من الكامل>: خبّرت أنّك قد صحبت خليلة … أنستك لذّة صحبة المردان لا غرو إن أمسيت فى أشراكها … إنّ النساء حبايل الشيطان (347) الحكيم شهاب الدين الصفدى العالى الهمّة الجامع نور الأدب إلى نور الحكمة. القاضى شهاب الدين بن النويرى رحمه الله الدى فاق بفصاحته العرب فى تاريخه المسمّى «نهاية الأرب فى فنّ (14) الأدب».

(14) فن: فنون

(348) شرف الدين بن أسد

(348) شرف الدين بن أسد صاحب المعانى المبتكره والالفاظ المسكره، السكر الحلال وبغية الآمال، الدى تثوق (3) الأنفس الى خلاعته، ويجل عن المقت، ابن حجاج الوقت. فمن قوله فى الغزل الخالى من المجون <من السريع>: أزرى بغصن البان لمّا انثنا (5) … وأخجل الغزلان لمّا رنا وسلّ من أجفانه صارما … إن قلت يوما قد دنا قد [د] نا وقال بدر التمّ لمّا رأى … جبينه الوضّاح هذا أنا [لكنّ ذا فى جفنه يرهف … وفى القوام اللّدن سمر القنا] (8) وفى لمى فيه مدام وفى … وجناته ورد حوى سوسنا وعقرب الصدغ به حارس … قد جعل الضرب له ديدنا وأسهم الأجفان قد وكّلت … بالقتل والفتك بمن قد جنا (11) فسهم ذاك اللحظ لا يتّقى … وورد ذاك الخدّ لا يجتنا (12) وقوله <من البسيط>: لولا تعرّضت للأعطاف والمقل … ما متّ صبّا قتيل البيض والأسل ما كنت أعلم أنّ الغيد قاتله … حتى أصبت بسهم الأعين النجل ما زلت فى البعد من قرب على حذر … وفى التقرّب من بعد على وجل تحكّم الحبّ فى روحى وفى جسدى … يا ليته لو قضى يوما علىّ ولى

(3) تثوق: تتوق (5) انثنا: انثنى (8) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش-- القنا: القنى (11) جنا: جنى (12) يجتنا: يجتنى

وقوله على روية، ووزنه ناقص عنه <من البسيط>: مهفهف القدّ ساحر المقل … حكاه غصن الأراك بالميل ناديته والفؤاد فى يده … رفقا بقلبى فقال لا وعلى تريد وصلى فمت فقلت له … ها مهجتى قد دنت من الأجل فقال إن صحّ ما تقول فقد … سلكت فى الحبّ أرشد السبل كم من محبّ قتلته عبثا … واحييته بالعناق والقبل (349) رميت سهما من العيون فلم … أترك قلبا من الغرام خلى وله زجل فيه من اسماء الخدام خمسه واربعين اسم (8) وهو: يا مالك الحسن أرفق بالمستهام العليل … حياته قربك ولكن ما يلتقى له سبيل خدّام حسنك كثير هم سبحن من صوّرك … وصفك جميل ووجهك صبيح ما أزهرك ياقوت وجوهر بثغر، ريحان عذارك شرك … كافور خدّك وعنبر خالك أهاجوا الغليل بمهجتى يا معيشق وصيّرونى ذليل سعيد مسرور مرشّد رشيد من قد رآك … مقبل عليه بعد هجرك محسن إليه بلقاك مختصّ بالوصل منك فايز بمفتاح رضاك … يا نصر قلب المعنّى مغيث كربى قليل مالى شفيع عند حسنك غير البكا (17) والعويل سرور قلبى إذا ما أتى بشير الرضا … وألقاك فى إقبال يا فاتن وأترك جميع ما مضى وأركب المسرّة وأسلك وسيع الفضا

(8) واربعين اسم: وأربعون اسما (17) البكا: البكى

وأصبح بقربك مفلح، وبافتخارى أميل … نجاح أمرى فى شربة من ريقك السلسبيل صواب رأى فى عشقك يا أحسن العالمين … دينار منقوش، حسنك ظهير، عزيز عن يقين مثقال من بعض عشقى يرجح على العاشقين … فاخر بحسنك يا محفوظ، أى ما مليح لك مثيل فرقك منير، وشعرك سنبل وخدّك أسيل … قدّك رشيق، وحبّك مختار دون الأنام (350) نشرك عبير وصندل، والوجه بدر التمام … بلال أذّن بخدّك: استيقضوا (9) يا نيّام فالراح فى الكأس تجلاّ (10) … مع ظبى أغيد كحيل واستغنموا لذّة العيش فالعمر ما هو طويل ومما اختير من قوله فى المجون <من الخفيف>: رصدت غفلة الأعداء … وأتت فى حنادس الظلماء (13) توسع المشى فى الخطا … خوف واش وحذار من الأعداء (14) قلت: أهلا ومرحبا (15) … بحياتى ومرادى ومنيتى ومنائى وأماطت لثامها عن محيّا … فأرتنى الصباح وقت المساء وتثنّت بقامة ذات عجب … كقضيب أو صعدة سمراء فاستطار الفؤاد منّى سرورا … وارتياحا وفرحة باللقاء

(9) استيقضوا: استيقظوا (10) تجلا: تجلى (13) الشطر الأول مضطرب الوزن (14) البيت مضطرب الوزن (15) ومرحبا: فى المتن «وسهلا» والكلمة مصححة فى الهامش

واعتنقنا فأسبلت راحتيها … وبدت بالشهيق قبل البكاء كشفت عن حر شذاه كمسك … ناعم اللمس وافر الأرجاء ثمّ قالت عجّل علىّ ودعنى … أختفى فى الظلام قبل الضياء فاعترانى من فرحتى بالتلاقى … هيضة أوجبت حضور خرائى فتزحزحت عن (5) … ذراها قليلا ثم سارعت نحو بيت الخلاء واستهلّت مدامع السرم تجرى … بسلاح ينهلّ كالأنواء وأطلت الجلوس فاستبطأتنى … واسترابت بحالتى الغبراء ورأت صبحها وقد حان منها … وتبدّى فى حلّة بيضاء طلبت حيّها حذار الأعادى … وأرادت مسيرها فى الخفاء ودّعتنى وأعلنت بوداعى … من بعيد وأوسعت فى الخطاء وهى تومى إلىّ بالصّفع منها … أىّ صفع باللفظ والإيماء [ثم قالت: لا أوحش الله عينى … من سنا وجه عاشق الحرّاء] (12) (351) ومن دلك قوله ايضا <من مخلّع البسيط>: شبّت من النوم فى سحير … رأتنى فى فرحة بأيرى وكان بالبول قد تمطّى … واشتدّ أو صار كالوتير قالت: حبيبى ونور عينى … أراك مستبشرا بخير قلت: الذى مات قد تحايا … وفرّ من ضيقة القبير قالت: أتاه المسيح عيسى … قلت: كلاّ ولست غيرى (18)

(5) عن: فى المتن «على» والكلمة مصححة بالهامش (12) ما بين الحاصرتين مذكور بالهامش (18) الشطر الثانى مضطرب الوزن

قومى انظريه وصافحيه … بكفّك الناعم الحريرى لمّا رأته نادته (2) …: أهلا ومرحبا طلعة القمير قامت لبيت الخلا (3) … وعادت فى ساعة الوقت للسرير هذا وقد كدت فى فراشى … أبول أو ينقطع ظهيرى فقمت بدّدت حشو أيرى … وجيت فرشى وفى ضميرى أنّى أجيها أنال منها … ما نلت فى أوّل العمير فقابلتنى بفقحتيها … وشفر كالشهد والخمير مصلّع الرأس ذو نساف … محلّق الذقن بالفقيرى مددت إيدى إلى قضيبى … وجدته انشال فى صديرى ألقيت ذقنى بفقحتيها … وجلت أنفى على السفير وصرت مستنشقا فساها … ونكهة البول كالعبير أشيل بوزى أحطّ ذقنى … إلتذّ بالشمّ كالحمير أصيح: أيرى فلم يجبنى … إلاّ بنبرات كالأمير لمّا رأت حالى تناهى … وصرت فى أقبح الأمور قالت: وأين الذى تحايا … يا بارد الذقن يا صميرى (352) وأمسكت طرغمان ذقنى … كمسكة الجاهل الضرير واستحضرت خفّها وجاءت … تزبدّ بالغيظ كالبعير طرطب طرطب أىّ صفع … ما الحال فى العين كالخبير فاسودّ ما ابيضّ من قذالى … وابيضّ ما أسودّ من بصير

(2) نادته: ندته (3) الخلا: فى الأصل «الخلاء»

قلت: وهذا القدر من هذا الباب كاف، إذ له من هذا النوع كثير جدا. وله القصيده المعرّبه بالبيان عن احوال الانسان، وهى هده <من الكامل>: أصبحت بين شوامت وحواسد … ومحاور ومخادع ومعاند ومحارب ومسالم ومقاصص … ومسامح ومخاذل (4) ومساعد ما بين أعداء علىّ كثيرة … والجمع يقهر للضعيف الواحد دنيا ونفس تستشبّ مع الهوى … وتحيّل من كلّ باغ مارد ما بين يوم يستجدّ وليلة … تمضى ومولود يشيب ووالد قد مزّقته يد البلا وتقسّمت … أجزاه بين سحايب وجلامد وإذا قصدت من الزمان قضيّة … أرضى بها جاءت بغير مقاصدى وإذا انفردت بخلوة فى منزلى … لى فيه أعداء يرمن مناكدى بقّ وبرغوث وناموس له … ضرب كضربات أتت من فاصد وخنافس سود وحمر معهما … نمل يدبّ على سبيل واحد والوزغ والثعبان أشنع ما يرى … والعقرب المسموم ثمّ مراصدى والعرس والسنّور والفيران فى ال‍ … ‍أوطان بين تحارب وتطارد والعنكبوت مع الرثيلة والذى … يسمى أبا صوفان ليس براشد والعثّ والزنبور بينهما أرى … سوسا يطير مع الذباب الفاسد والدود والقردان والكلب الذى … يعوى علىّ ولا يزال معاود (353) والقمل والصرصار والسحلى وما … لم يسم عندى فى الديار مناكدى كلّ يكدّر صفو وقت تلذّذى … ويشوب بعض مصالحى بمفاسدى هذا وكم علل تفرّق نوعها … فى الجسم بين تناقص وتزايد

(4) ومخاذل: فى المتن «ومخالد» والكلمة مصححة بالهامش

وعوارض مورودة (1) … من خارج يرد اللبيب بها أشرّ موارد فمنعّم يردى بثوب نعيمه … فتراه يصبح كالحزين الفاقد ومنغّص ولّى زمان شبابه … ودنى إليه الحين بعد تباعد هيهات ما وصل الأحبّة نافع … بعد المشيب ولا الشباب بعايد ألم البداية والولادة حسبنا … من ضيق أحشاء وعسر توالد وتحكّم الآباء فى تأديبنا … إمّا بضرب أو بوجه تحارد وتتّبع الأسباب أىّ معيشة … حمدت تذمّ على لسان الحامد ما بعد نيل الملك فى الدنيا غنى … إلاّ القناعة من فقير زاهد وإذا احتوى الإنسان ملكا فى الورى … وأتت له الدنيا بكلّ مقاصد خاف انتزاع الملك فالتزم العنا … وأتى مقام الخوف حلف تواجد كالملك والأمراء وابناء الورى … كلّ تكلّف حفظ شئ شارد يا خيبة المسعى ويا تعب الذى … يغترّ بالجسم الضعيف الفاسد والمرء فى الدنيا على أحواله … ما بين كتّاب عليه وشاهد فإذا انقضت أيّام حال حياته … ورقى وجاوز رتبة المتصاعد وقفت هنالك نفسه مسئولة … فى حيرة ومواعد وتواعد إمّا إلى جنّات عدن أو إلى … نار الجحيم بخزية وتباعد ومن قوله فى المفردات <من البسيط>: بقيّة العمر تقضى بأىّ حال يكون … إمّا تصعّب أمر أو صعب أمر يهون (18)

(1) مورودة: فى الأصل «مورود» (18) البيت مضطرب الوزن

(354) وقوله <من البسيط>: يا من يروم الغنى والمال يجمعه … إقنع وقد صرت أغنى الناس كلّهم وقوله <من البسيط>: يا من ولى الأمر من بعد الذى ظلما … أعدل فقد أبصرت عيناك عقباه وقوله <من البسيط>: ما حاصل المرء غير عمر … مصروفة الليل والنهار ينفق منه وليس يدرى … فإنّ ساعاته قصار وقوله <من الطويل>: فرغت عن الدنيا لفرغتها عنّى … وأحسنت فى الأخرى بمالكها ظنّى فلو جاءت الدنيا إلىّ بأسرها … ولم أك مكتوبا سعيدا فما تغنى نجز الجزء الثامن ولله الحمد والمنة بخط يد واضعه ومصنفه وجامعه ومولفه اضعف عباد الله وافقرهم الى الله ابو (13) بكر بن عبد الله ابن ايبك صاحب صرخد كان، تغمدهم الله برحمته، واسكنهم جنته بمنه وكرمه ورحمته

(13) ابو: أبى

يتلوه فى الجزء التاسع منه آخر اجزا هدا التاريخ، ما مثاله بعد الخطبه: ذكر حلول ركاب مولانا السلطان الاعظم الملك الناصر-عز نصره-من الكرك المحروس، المملكه الثانيه. ادام الله أيام مولانا مالكها، وادام اقتداره. ووافق الفراغ منه العشرين من شهر دى القعده سنه اربع وثلثين وسبعمايه. احسن الله عاقبتها بخير وحسبنا الله وكفى. والحمد لله وحده وصلواته على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلّم (6).

(6) مكتوب فى الهامش بخط مخالف: «طالعه واستفاد منه ابراهيم بن دقماق عفا الله عنه»

9 - الدر الفاخر، فى سيرة الملك الناصر

الجزء التاسع تصدير فى الفترة التى أعقبت افتتاح المعهد الألمانى للآثار بالقاهرة انجز وعد قطع منذ نحو ثلاثين سنة، فكان أن أنشئ فى هذا المعهد قسم للدراسات الإسلامية فى أواخر سنة 1956، ومن ذلك الحين تكونت مكتبة خاصة بتلك الدراسات وصحّ العزم على القيام بنشر الأسفار العلمية الدائرة فى فلك هذا القسم المنشأ، وفى العام الذى سلف بدئ فى نشر سلسلة من الرسالات العلمية الإسلامية باللغة الألمانية، ثم رؤى الاهتمام بإخراج سلسلة أخرى خاصة بنصوص عربية، فكان استهلالها هذا الكتاب الذى نصدر له وإنها لمناسبة طيبة نزجى فيها آيات المحبة والثناء والشكر إلى أصدقائنا العلماء العرب، فللدكتور حسين الهمدانى والأستاذ رشاد عبد المطلب والأستاذ فؤاد سيد على ما أسدوا من نصح وما قدموا من عون بروح عالية وقلب شفوق، وللأستاذ محمد أبى الفضل إبراهيم لقراءته معنا البروفة الأخيرة للكتاب، وللأستاذ محمود محمد الطناحى لما بذله من جهد طيب مشكور فى قراءة الأصل وفى ملازمته لنا عند مراجعة البروفات كلها، وللدكتور صلاح الدين المنجد مدير معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية- بصفة خاصة-لتوجيهه نظرنا إلى تأريخ ابن الدوادارى وتقديمه لنا نسخة مصورة عن مخطوطة الكتاب الموجودة فى استانبول والمأخوذ على فيلم محفوظ بالمعهد المذكور. وإلى جانب ذلك نسدى عميق الشكر إلى زملائنا العلماء الألمان، فللدكتور ألبرت ديتريش والدكتورة سوزانه ديوالد لقيامهما -مشكورين-بالبحث لنا عما نريد فى مكتبات استانبول، وللدكتور

هانس إيرنست لمساعدته فى إعداد الفهارس، وخاصة للمدير الأول للمعهد الألمانى للآثار بالقاهرة الدكتور هانس شتوك لتهيئته لنا الجو الذى يسر لنا العمل فى القاهرة وساعد بالتالى على إخراج الكتاب، ثم لجمعية المستشرقين الألمانية ووكيلها العام الدكتور هانس قير اللذين أتاحا لنا الفرصة منذ سنة لاستمرار العمل فى القاهرة بالاشتراك مع إدارة الثقافة بوزارة الداخلية الاتحادية وجمعية البحوث الألمانية وهيأ لنا من الإمكانيات والمساعدات ما ساعد على ظهور هذا الكتاب. القاهرة فى أول يناير سنة 1960 هانس روبرت روبمر

المحتويات

المحتويات تصدير هـ‍ مقدمة المؤلف 2 ذكر حلول ركاب مولانا السلطان الأعظم الملك الناصر عز نصره من الكرك وهى المملكة الثانية 6 ذكر الوقعة التى كانت بين التتار ودخول سلامش الديار المصرية 9 ذكر سنة تسع وتسعين وست ماية 13 ذكر وقعة نوبة غازان بوادى الخزندار 15 ذكر ما جرى لدمشق من الأحوال الناكدة 18 ذكر رجوع غازان إلى الشرق 31 ذكر عودة جيوش الإسلام بالنصر إلى بلاد الشام 37 ذكر سنة سبع ماية هجرية 41 ذكر عودة غازان خايب الآمال 45 ذكر لباس النصارى واليهود الأزرق والأصفر 47 ذكر ما جرى فى هذه السنة بين ملوك الهند 57 ذكر سنة إحدى وسبع ماية 64 ذكر ما جرى للمجيرى عند حضوره بين يدى غازان 71 ذكر خلافة الإمام المستكفى بالله أبى الربيع سليمان بعد وفاة أبيه رحمه الله 79 ذكر سنة اثنتين وسبع ماية 80 ذكر نصرة الإسلام على التتار الليام 82 ذكر حدوث الزلزلة فى هذه السنة 100

ذكر ما جاء من القول فى حدوث الزلزلة 104 ومن كتاب عجايب المخلوقات وبدايع الموجودات 107 ذكر سنة ثلاث وسبع ماية 109 ذكر دخول العساكر الإسلامية سيس 110 ذكر وفاة غازان وتملك خدابنداه 112 ذكر سنة أربع وسبع ماية 118 ذكر سنة خمس وسبع ماية 130 ذكر ما كان بين عسكر حلب وأهل سيس 131 ذكر واقعة الشيخ تقى الدين بن التيمية رحمه الله 133 ذكر ما جرى للشيخ تقى الدين بمصر المحروسة 137 ذكر السبب الموجب لهذه الفتن المذكورة 143 ذكر سنة ست وسبع ماية 146 ذكر سنة سبع وسبع ماية 147 ذكر ما كان بين التتار وبين أهل كيلان 149 ذكر سنة ثمان وسبع مايه 155 ذكر تغلب بيبرس الجاشنكير على الممالك حتى عاد بسوء تدبيره هالك 156 ذكر سنة تسع وسبع ماية 161 أشاير البشاير 161 ذكر عودة الركاب الشريف السلطانى المالكى الناصرى إلى محل ملكه بالديار المصرية وهى المملكة الثالثة 167 ذكر دخول مولانا السلطان عز نصره دمشق المحروسة 172 ذكر توجه الركاب الشريف إلى الديار المصرية 176

ذكر سبب توجه القاضى علاء الدين بن الأثير فى ركاب مولانا السلطان إلى الكرك 185 ذكر نزول بيبرس عن الملك وهروبه 187 ذكر ما اتصل بنا من مدايح التهانى البديعات الألفاظ والمعانى 190 ذكر القبض على بيبرس من الطريق وعودته إلى الأبواب العالية 197 ذكر سنة عشر وسبع ماية 206 ذكر سنة إحدى عشرة وسبع ماية 210 ذكر سبب مسك بكتمر الجوكندار وكراى وبقية النواب 212 ذكر سبب تقفيز قراسنقر وآقوش الأفرم ومن معهما ووصولهم إلى التتار 218 ذكر تعدية قراسنقر إلى التتار 225 ذكر سنة اثنتى عشرة وسبع ماية 242 ذكر توجه الركاب الشريف عز نصره إلى الشام المحروس بنية الغزاة 245 ذكر سبب مأتى التتار إلى الرحبة والسبب فى عودتهم خايبين 251 ذكر سنة ثلاث عشرة وسبع ماية 264 ذكر ما كان من أمر قراسنقر بالبلاد والواقعة بين خدابنداه وطقطاى فى هذه السنة 267 ذكر الوقعة التى كانت بين الملكين خدابنداه وطقطاى 272 ذكر ما جرى لعسكر طقطاى لما عادوا هاربين 279 ذكر سنة أربع عشرة وسبع ماية 282 ذكر أخذ ملطية وصفتها 284

ذكر الروك المبارك الناصرى 286 ذكر سنة خمس عشرة وسبع ماية 287 ذكر سنة ست عشرة وسبع ماية 288 ذكر تملك أبى سعيد الملك وجلوسه على التخت بملك التتار 289 ذكر سنة سبع عشرة وسبع ماية 290 ذكر سنة ثمان عشرة وسبع ماية 293 ذكر سنة تسع عشرة وسبع ماية 294 ذكر سنة عشرين وسبع ماية 269 ذكر تملك الملك عماد الدين حماة وركوبه 297 ذكر سنة إحدى وعشرين وسبع ماية 305 ذكر سنة اثنتين وعشرين وسبع ماية 307 ذكر سنة ثلاث وعشرين وسبع ماية 309 ذكر سنة أربع وعشرين وسبع ماية 314 ذكر سنة خمس وعشرين وسبع ماية 317 ذكر سنة سبع وعشرين وسبع ماية 321 ذكر سبب دخول المأمون على بوران 323 ذكر سنة ثمان وعشرين وسبع ماية 344 ذكر سنة تسع وعشرين وسبع ماية 349 ذكر سنة ثلاثين وسبع ماية 352 ذكر سنة إحدى وثلاثين وسبع ماية 356

ذكر سنة اثنتين وثلاثين وسبع ماية 359 ذكر سنة ثلاث وثلاثين وسبع ماية 371 ذكر سنة أربع وثلاثين وسبع ماية 373 ذكر سنة خمس وثلاثين وسبع ماية 379 ذكر ما تجدد فى هذه السنة المباركة 382 ذكر عدة ما استجد من الجوامع المعمورة بذكر الله تعالى فى أيام مولانا السلطان 384 ذكر الجوامع المباركة التى أنشئت فى دولة مولانا السلطان عز نصره 388 ذكر المستجد أيضا من الجوامع المباركة بالممالك الشامية 390 ذكر تتمة الحوادث 392 ذكر سبب دخول سيس 398 ذكر عمارة قلعة جعبر فى هذا الوقت 400 الفهارس 403 فهرس الأعلام والأمم والطوائف 404 فهرس الأماكن 446 فهرس الاصطلاحات والكلمات 465 فهرس الشعراء والمؤلفين والكتب 503 استدراك 506

[مقدمة المؤلف]

بسم الله الرحمن الرحيم ربّ اختم بخير الحمد لله الملك الناصر لمولانا السلطان الملك الناصر مستحقّ فرايض الفرض بتقبيل مرابض الأرض مالك الأرض وأقطارها حيث صبّت أنهارها وقطّرت أمطارها وأنورت أزهارها بما حوت من الأشقصات العناصر لمولانا السلطان الملك الناصر مالك نواصى ملوكها وغنيّها وصعلوكها بمشارقها ومغاربها ومسالمها ومحاربها مسلمها وكافرها وباديها وحاضرها ولا مدرك ولا حاصر لملك مولانا السلطان الملك الناصر الذى ملأت هيبته الأوهام وحيّرت صفاته الأفهام وتشرّفت بأيّامه الأيّام والجمع والشهور والأعوام وعلت همّته على الأفلاك وخضعت له ملوك الأملاك

من الأكاسرة والقياصر بجلال مولانا السلطان الملك الناصر المؤيّد بالملايكة والقرآن الذى ليس فى طالع سعده قران فلو كان لبشر فى الفلك مكان لكان ظهر جواده السما كان والمجرّة له ميدان وكيوان له إيوان وكلّ ذلك والله قاصر فى حقّ مولانا السلطان الملك الناصر سيّد ملوك الإسلام وسمىّ النبىّ عليه السلام مروّع الكفرة فى الأحلام من عبدة الصلبان والأصنام حتى عادوا لملكه خدّام وافدين على الرءوس لا على الأقدام كلّ عن رأسه حاسر طاعة لمولانا السلطان الملك الناصر ناظم أشتات العلا فالعادى من الأرض خلا والموالى بها ملا واسمه الشريف على ساير منابرها علا فإن رمت خلوّا فلا حتى نطق البادى والحاضر بملك مولانا السلطان الملك الناصر لا زالت الأرض التى تملكها عزايمه المنيفة منقلة والأرض التى بين يدى مواقفه الشريفة مقبلة والأرض التى تلقى فيها أعدايه المكسورة مقتلة والأرض التى يجرّ عليها عساكره المنصورة مثقلة حتى تعود الشمس مكحولة الطّرف بإثمد غبار الطّرف

تحت كلّ أسد كاسر من أرقّاء مولانا السلطان الملك الناصر وزاد دولته الشريفة فى علاء السعد شبابا ونموا كما زاده فى شرف الملك بقاء وارتقاء وعلوّا حتى تكون السعادات عادات وفد أبوابه المنيفة وساير البشاير قرى مسامعه الشريفة ومن جميع ذلك يكون وافر حظّ مولانا السلطان الملك الناصر ويتراءى أمامه الإقبال والسعود بنيل الأمانى والمقصود إلى حيث لا يدركه أمل ولا يقطعه أجل ليعمّ بجوده الوجود وقد عمّ ويتمّ له الإقبال غاية الآمال وما تمّ إنّه ولىّ ذلك وعليه قادر لدوام أيّام مولانا السلطان الملك الناصر آمين يا ربّ العالمين وصلى الله على محمّد وآله

وبعد: فإنّ الألفاظ مخلوقة، والمعانى مسبوق إليها ومسروقة، والإنسان، فقصير اللسان، عن بديع البيان، والاعتراف بالعجز إنصاف، ويقوم مقام الإدراك بلا خلاف. فالواجب على الأديب الحرّ أن يقبل العذر، ويسامح بالسقطات، ولا يؤاخذ بالغلطات. فالعاقل من عدّت زلاتّه، والفاضل من أحصيت هفواته. وليعلم أنّ الإنسان-وإن كان بفصاحة قسّ وسحبان، وبلاغة قدامة بن حطّان، أو بديع الزمان-فلا بدّ أن ينظر فى أحواله، ويؤخذ عليه فى أقواله. وهذه حالة لم ينج منها من فتح عليه باب، وعرض نفسه لتأليف كتاب. وقد قيل: من صنّف، فقد استهدف. والعبد، فقد استعذر إلى الله وإلى كلّ واقف عليه. وتشفّعت بفضله إليه أن يسامحنى بما اجترحت، ولا يؤاخذنى بما شرحت، ويسبل ذيل الفتوّة فى الإغضاء، على ما يقع عليه من أخطاء، أقال (1) الله عثرته، بمحمد وآله وعترته! وقد أجمع الناس أنّه ليس ببيت واحد سالم من الطعن فيه فى الإسلام، إلا بيت واحد والسلام. وهو قول بعضهم <من الطويل>: وما حملت من ناقة فوق رحلها … أبرّ وأوفى ذمّة من محمّد صلى الله عليه وسلّم! ثمّ إنّ هذا هو الجزء الأكيس، من قسمة للفلك الأطلس، وهو الجزء التاسع التابع الثامن، القادح من زند القريحة ما كان كامن، المسمّى ب‍ «الدرّ الفاخر، فى سيرة الملك الناصر» التالى لبشاير النصر، لسيّد ملوك العصر، وذلك لمّا

(1) أقال: اقل

ذكر حلول ركاب مولانا السلطان الأعظم الملك الناصر عز نصره من الكرك وهى المملكة الثانية

لم يسع الجزء الثامن الاشتراك، لذكر مناقب سيّد ملوك الأتراك، التى تضيق عن حصر جملتها الخواطر. فكيف تحصرها الأقلام والدفاتر؟ فاخترنا الله تعالى، وأنشأنا هذا الجزء اللطيف المعان، يشتمل على بقيّة ذكر بعض مناقبه الحسان، التى جملتها كعدد نجوم الآفاق، وكضياء الشمس بهجة وإشراق. فكيف يسعها دفاتر وأوراق؟ وإنّما لمّا وفّقنا الله تعالى أن ننبّه على هذه المآثر، التى هى فرض واجب على كلّ أديب وفاضل وشاعر وناثر، لتقتدى بها الملوك الأكابر، ونستملى ذلك من ألسنة الأقلام وأفواه المحابر. وإن وفّقوا لتتبّع هذه الآثار، فكيف لهم بمساعدة الأقدار، وخدمة الفلك الدوّار؟ فهو كما قلت <من الكامل>: حلف الزمان بأنّه فى طوعه … لا شكّ فى ذاك اليمين ولا مرا يا دهر، ما أهناك فى أيّامه … يا عمر، طل فى عصره لن تقصرا وهذان البيتان من جملة القصيدة التى تضمّنها أوّل الجزء السابع. وقد تقدّمت بكمالها وأشرقت أنوارها بذكر محاسن سلطانها. ففاق جمالها. ونستفتح الآن بذكر ما كان فى بقيّة سنة ثمان وتسعين وستّ ماية ذكر حلول ركاب مولانا السلطان الأعظم الملك الناصر عزّ نصره من الكرك (16) وهى المملكة الثانية كان يوم الأحد خامس جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وستّ ماية وتشرّفت الديار المصريّة والممالك الإسلامية بحلول ركاب ملك الأرض.

(16) عزّ نصره من الكرك: من الكرك عز نصره

فى طولها والعرض. ورجع الحقّ إلى نصابه، وعاد الأسد إلى غابه، واستقرّ المهنّد فى قرابه، واطمأنّت النفوس، واستقرّت الأرواح وزالت العكوس، واستمرت الأفراح. وجلس مولانا السلطان الأعظم الملك الناصر- ناصر الدنيا والدين محمد بن مولانا السلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون الألفى النجمىّ الصالحىّ-على تخت الملك بالديار المصريّة وما معها من الممالك الإسلاميّة، نشر الله أعلامها فى الآفاق، وأدام أيام سلطانها إلى يوم العرض والتلاق، يوم الاثنين سادس الشهر المذكور، وأخلع على الأمير سيف الدين سّلار خلعة النيابة بالديار المصريّة، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستادارا، والأمير حسام الدين أستادار أتابكا، والأمير بدر الدين أمير سلاح رأس مشور، والأمير شمس الدين سنقر الكمالىّ حاجبا، والأمير سيف الدين بكتمر أمير جاندارا، والأمير جمال الدين آقوش الأفرم نايبا بالشأم المحروس بدمشق المحروسة، والأمير سيف الدين بلبان الطبّاخىّ نايبا بحلب المحروسة، والأمير سيف الدين أسندمر نايبا بطرابلس المحروسة، والأمير شمس الدين سنقر شاه المنصورىّ بعد الآلدكزىّ (14) نايبا بصفد، والأمير آقجبا المنصورىّ نايبا بغزّة، ونقل الأمير زين الدين كتبغا من صرخد إلى نيابة حماة المحروسة بعد وفاة صاحبها الملك المظفّر بن الملك المنصور فى هذه السنة رحمه الله تعالى، وأخلع مولانا السلطان فى ذلك اليوم على جميع الأمراء من أرباب الوظايف (18) أو غيرهم. وفى ثامن عشر الشهر المذكور ركب نصره الله تعالى بأهبة الملك المبارك، وقبّل الجيش جميعه الأرض بين يديه الشريفتين

(14) بعد الالدكزى: بالهامش--بصفد: بحلب، مصحح بالهامش (18) الوظايف: الوضائف

ثمّ توجّه الأمير جمال الدين الأفرم إلى دمشق المحروسة، فكان دخوله إليها يوم الأربعا ثانى وعشرين جمادى الأولى، وأصبح يوم الخميس ركب فى دست النيابة، واستقرّ الحال على ذلك فلمّا كان العشر الآخر من شهر رجب الفرد من هذه السنة المذكورة وصل الشيخ شهاب الدين أحمد القصّاص المعروف بابن العماد من البيرة. وكان بها نايبا سيف الدين طوغان، وبقلعة الروم فخر الدين أياز، وبالرحبة الغتمى. وأخبر ابن العماد المذكور أنّ غازان بن أرغون بن أبغا بن هلاوون ملك التتار كان قد عزم على قصد الشأم فى تشارين فى سبعين ألفا من المغل. فسيّر سلامش بن باكبوا بن باجوا فى خمسة وعشرين ألف فارس إلى الروم، على أنّه يأخذ جيوش الروم ويتوجّه إلى الشأم من جهة بلاد سيس، ويكون مجى غازان فى بقيّة المغل من ناحية ديار بكر، وينزلوا الفراة، ويغاروا على البلاد، بنواحى البيرة وقلعة الروم والرحبة. ثمّ يكون اجتماعهم على حلب، فإن التقاهم أحد (13) التقوه، وإلاّ دخلوا البلاد الشأميّة. هذا ما كان استقرّ عليه عزمهم، وكان أمر الله تعالى غير ذلك فاتّفق عند عبور سلامش إلى الروم أطمعته نفسه بالملك، فإنّه أقرب إلى عظم جكز خان من غازان. فتملّك الروم وأخلع على أمرايها، وخلع طاعة غازان واستخدم ونفق، وسيّر كتبا (17) إلى أولاد قرمان، وكانوا قد أطاعوه، ونزلوا فى خدمته فى عشرة آلاف فارس. ثمّ إنّه كاتب إلى مصر يطلب النجدة والمساعدة على غازان. فوصلوا رسله إلى دمشق فى العشر الأوسط من شهر رجب، فسيّروا إلى الديار المصريّة

(13) أحد: احدا (17) كتبا: كتب

ذكر الوقعة التى كانت بين التتار ودخول سلامش الديار المصرية

قلت: وهذا الخلف الذى كان وقع بين التتار فى ذلك الوقت ممّا يعتدّ به من جملة بركات تملّك مولانا السلطان الملك الناصر عزّ نصره، وبركة أوّل حلول ركابه الشريف. وإلاّ لو كان تهيّأ لهم ذلك العزم بغير خلف وقع بينهم، كان الأمر بخلاف ما اتّفق لما كانوا عليه من الكثرة والقوّة فى ذلك الوقت ثمّ إنّ غازان وصل إلى بغداد. فذكروا له نوّاب بغداد أنّ أهل السيب بواسط قد نهبوا التجّار القادمين من البحر وقطعوا السابلة فى البحر، فتوجّه نحوهم بالعساكر وقتلهم قتلا ذريعا ونهبهم، وأقام بأرض دقوقا حتى ثبت عنده فعل سلامش ذكر الوقعة التى كانت بين التتار ودخول سلامش الديار المصريّة فلمّا ثبت عند غازان خلع سلامش طاعته وطلب الأمر لنفسه، انثنى عزمه عن طلب الشأم، وشرع فى تجهيز العساكر إلى بلاد الروم لملتقى سلامش. فجهّز فى أوّل شهر جمادى الآخرة ثلاثة مقدّمين من المغل الكبار فى عدّة خمسة وثلاثين ألف فارس، وهم سوتاى وقيل اسمه سنتاى، مقدّم عشرة آلاف، وهندوغاق مقدّم عشرة آلاف، وخمسة عشر ألف مع بولاى، وهو المقدّم على الجميع. ثمّ أمرهم بالتوجّه إلى الروم وملتقى سلامش. ورحل غازان طالبا نحو توريز، وصحبته الأمرا الإسلاميّة قبجق ورفقته. وتوجّهوا العساكر المجرّدين طالبين الروم. فنزلوا سنجار مع رأس العين وماردين. فأنزل إليهم صاحب ماردين الإقامات والعلوفات

بالهمل، وقدّم لهم تقادم عظيمة وجهّز عسكره معهم ولم ينزل إليهم خوفا منهم لا يكون (2) نبّه عليه قبجق ورفقته أنّه مكاتب صاحب مصر. واعتذر أنّه ضعيف عاجز عن الحركة، فقبلوا عذره بسبب ما ملأ أعينهم به من التقادم والتحف. وكان ادّخر عنده قبل وصول العسكر إليه مؤونة سنتين بماردين لأجل الحصار. فسهّل الله تعالى أنّهم تعدّوه ولم يتعرضوا له بأذيّة. ونزلوا مستهلّ رجب على آمد، وهم متوجّهون إلى الروم. فلمّا كان يوم السبت الخامس والعشرين منه التقى الجيشان، وكان سلامش قد عصوا عليه أهل سيواس، وهم محصورين معه. فلمّا وصل عسكر قد عصوا عليه أهل سيواس، وهم محصورين معه. فلمّا وصل عسكر بولاى ورفقته إلى قربه، كان عسكر سلامش ستّين ألف فارس، فخامروا عليه وقفزوا إلى جهة بولاى عند ما وقعت العين فى العين وتخلّوا عن سلامش. وأمّا التركمان فتعلّقوا بالجبال كعادتهم. ولم يبق مع سلامش إلاّ نفر يسير من خواصّه، تقدير خمس مائة فارس، فولّى هاربا، وطلب نحو بلاد سيس ووصل إلى باهسنا سلخ رجب ومن كان قد ورد من مصر مرسوم شريف أن يجرّد من دمشق خمسة أمرا ومن جميع العساكر خمسة عشر ألف فارس ويسيّروهم نجدة لسلامش. فلمّا كان يوم الخميس خامس شعبان ورد الخبر إلى دمشق أنّ سلامش وصل إلى باهسنا مكسورا (17)، فتوقّف أمر التجريدة. فلمّا كان يوم الخميس دخل سلامش بن باجوا (18) بن هلاوون إلى دمشق المحروسة. وكان لدخوله همّة كبيرة، وتلقّوه الأمرا بالعساكر ووصل صحبته (19) نايب بهاسنا وهو بدر الدين

(2) يكون: يكن (17) مكسورا: مكسور (18) باجوا: باكبوا، مصحح بالهامش (19) نايب: النائب

الزردكاش. ودخل إلى دمشق فى موكب عظيم، ونزّلوه فى خانقاه النجيبىّ على الميدان ورتّبوا له راتبا كبيرا (2). ولمّا كان ليلة النصف من شعبان أنزلوه جامع بنى أميّة. وكذلك صلّى به يوم الجمعة، ولمّا فرغ من الصلاة أخذه شمس الدين محمد المهمندار مع مشارف الجامع وصلّوا به فى جميع المزارات المباركة. وفى يوم الأحد توجّه إلى الديار المصريّة على البريد المنصور، واجتمع بمولانا السلطان عزّ نصره فى يوم الاثنين خامس عشر رمضان المعظّم. وأقام بالديار المصريّة ثمانية أيّام. ثمّ عاد إلى دمشق. فدخلها ثالث عشرين رمضان. وصحبته بدر الدين الزردكاش نايب باهسنا. وعلى يده مراسم أن يجرّد صحبته عسكرا يدخل معه إلى الروم ليحضر أهله. فوصل إلى حلب، وبها يومئذ الأمرا المصريّين المجرّدين يقدمهم الأمير سيف الدين بلبان الحبيشىّ. فاجتمع الأمرا فى دار السعادة بحلب، وقرئ ذلك المرسوم عليهم. فقال الأمير سيف الدين الطبّاخىّ للأمير سيف الدين الحبيشى: هذا مرسوم السلطان أن يجرّد مع سلامش جيش يحضر أهله فأيش تقول؟ -فقال الحبيشىّ: أنت نايب البلاد وخبير بطرقها وتأكل منافعها، فأحقّ ما توجّه معه عسكرك. -ونهض. خرج من عنده. وركب من وقته وتوجّه إلى نحو عين تاب. فاحتاج الطبّاخىّ أن جرّد صحبته أميرين من أمرا حلب وهما ابن جاجا أمير ماية مقدّم ألف وبكتمر الجلمىّ. فلمّا دخلوا مع سلامش خرجت عليهم التتار. فقتل أحدهما وسلم الآخر وهو ابن جاجا (19). وذلك عند خروجهم برأس الدربند. وقتل أيضا سلامش وانقطع خبره

(2) راتبا كبيرا: راتب كبير (19) وهو ابن جاجا: بالهامش

وفيها أفرج الله تعالى عن الأمير شمس الدين سنقر الأعسر فى يوم الاثنين تاسع وعشرين شوّال، وولى الوزارة بالديار المصريّة وهى الوزارة الثانية وفيها فى العشر الأوّل من شعبان وصل إلى بيروت مراكب كثيرة بطش تقدير ثلاثين بطشة فى كلّ بطشة سبع ماية نفر من الفرنج قاصدين السواحل وأن يغاروا على المسلمين. وقرب دخولهم إلى الساحل أرسل الله عزّ وجلّ عليهم ريحا (6) مختلفة، ففرّقت جموعهم وغرق بعضهم ورجعوا خائبين {وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ (7)} لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ (8) وكان قد جرّدوا من دمشق عسكرا لأجلهم. فورد الخبر بتفرّقهم، فاستقرّ الأمر على ذلك وفيها فى شهر رمضان وصلوا تجّار من سوداق، وخبّروا أنّ الملك أنغاى الذى على تخت مملكة بركة فى هذه السنة، وصل فى شهر ربيع الأوّل إلى سوداق ومعه عسكر ثقيل، وأنّه أمر لأهل سوداق أنّ كلّ من كان من جهته فليطلع إلى ظاهرها بجميع أهله وولده وماله. فطلع جميع من كان متعلّقا (14) به وهم أكثر من الثلثى. ثمّ أمر العساكر أن يحتاطوا بها وعاد يطلب واحدا واحدا (15)، فيعاقبه ويأخذ جميع ماله. ثمّ يقتله إلى أن قتل جميع من كان تبقّى فى البلد، وبعد ذلك ألقى فيها النار حتى تركها دكّا كأن لم تكن شيئا. وسبب ذلك أنّ سوداق كان حقوقها يقسّم بين أربعة ملوك من التتار، أحدهم أنغاى هذا وهو بيت باتوا فى الأصل، فذكروا أن الملوك

(6) ريحا: ريح (7) بغيظهم: بغيضهم (8) السورة 33 الآية 25 (14) متعلقا: متعلق (15) واحدا واحدا: واحد واحد

ذكر [حوادث] سنة تسع وتسعين وست ماية

شركته تعدّوا على نوّابه فى الحقوق المختصّة به، فحمله الغيظ منهم على ما فعل وفيها ترادفت الأخبار فى شهر ذى الحجّة بحركة التتار، وتوجّه غازان إلى نحو الشأم. ووصلت القصّاد وأخبروا بذلك وصحّ الأمر فجرّد مولانا السلطان عزّ نصره بعض الجيوش المصريّة رديفا للمجرّدين بالشأم وهما مقدّمان: الأمير سيف الدين قطلو بك الحاجب والأمير سيف الدين نوكاى فى ألفى فارس، وتقدّموا قبل حركة الركاب الشريف وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيبك الموصلىّ نايب طرابلس، وتولّى أسندمر حسبما ذكرناه، وتوفّى الأمير بدر الدين بيسرىّ رحمهما الله تعالى ذكر [حوادث] سنة تسع وتسعين وستّ ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما يخصّ من الحوادث الحليفة: الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر سلطان الإسلام، وسمىّ النبىّ عليه السلام، أعزّ الله أنصاره، وضاعف اقتداره والملوك فى هذه السنة والنوّاب حسبما نذكره: صاحب مكّة شرّفها الله تعالى: أبو نمىّ محمد بن إدريس (18) بن قتادة بن حسن المقدّم

(18) محمد بن إدريس: بالهامش

ذكره بحاله، صاحب المدينة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام: جمّاز بن شيحة (1) بحاله، صاحب اليمن: الملك المؤيّد هزبر الدين داود بعد وفاة أخيه الملك الأشرف ممهّد الدين عمر بن الملك المظفّر شمس الدين يوسف بن الملك المنصور نور الدين عمر بن علىّ بن رسول المقدّم ذكر جدّهم فى هذا التأريخ، صاحب الهند: إيتمش الملقّب بالغازى مملوك الغورىّ المقدّم ذكره، صاحب الصين: قآن (6) الكبير من عظم جكز خان أصل التتار المقدّم ذكره، صاحب بلاد بركة: فى هذه السنة أنغاى المقدّم ذكر فعله فى سوداق، صاحب الشرق بكماله مع خراسان إلى بلاد تمرقابوا: غازان محمود، صاحب ماردين: يومئذ الملك المنصور شمس الدين داود بن الملك المظفّر المقدّم ذكره، صاحب الروم: السلطان غياث الدين كيكاوس بن فرامرز ابن كيقباد السلجوقىّ وحماة: لم يكن بها فى هذه السنة أحد من ملوكها بحكم وفاة صاحبها الملك المظفّر رحمه الله تقىّ الدين محمود بن الملك المنصور ناصر الدين محمد بن المظفّر محمود بن المنصور محمّد بن المظفّر تقىّ الدين عمر (14) بن شاهنشاه بن أيّوب. ولمّا توفّى الملك المظفّر آخرهم نفذ إليها الأمير سيف الدين بهادر آص. فأقام بها أياما (16) حتى قدم عليه الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورىّ نايبا. فأقام بها إلى بعد الكسرة لا أعادها الله، فتوجّه إلى حلب. وانتقل الأمير زين الدين كتبغا من صرخد إلى حماة، فاستقرّ إلى أن توفّى إلى رحمة الله تعالى حسبما يأتى من تأريخ وفاته إنشا الله تعالى

(1) جماز بن شيحة: شيحة ابن جماز، مصحح بالهامش (6) قآن: قآن--جكز خان: سنكز خان (14) بن المظفر تقى الدين عمر: بالهامش (16) أياما: ايام

ذكر وقعة نوبة غازان بوادى الخزندار

النوّاب فى هذه السنة حسبما سقناه من ذكرهم فى السنة الخالية بمصر والشأم إلى حين دخول التتار البلاد-لا أعادهم الله تعالى-حسبما يأتى من ذكرهم فى تأريخهم مفصلا إنشاء الله تعالى ولمّا صحّت أخبار التتار وقصدهم الشأم المحروس توجّه الركاب الشريف السلطانىّ من الديار المصريّه بجميع الجيوش المنصورة إلى نحو الشأم، ونزل بمنزلة تلّ العجول. فاتّفقت الأوراتيّة، وهم طايفة من التتار الذين كانوا دخلوا الديار المصريّة فى أيّام كتبغا وقد تقدّم ذكرهم، على قتل الأمير سيف الدين سلاّر والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، فاطّلعوا على أمرهم، فمسكوهم وشنقوهم واعتقلوا بقيّتهم. (9) (وقتل برنطاى لكندغدى النقيب ومسك برنطاى ووسّط فى فرقته) (10). ثم رحل الركاب الشريف من منزلة تلّ العجول ونزل عسقلان، وذلك فى شهر المحرّم إلى ثامن شهر ربيع الأوّل فتواترت (12) الأخبار، بوصول التتار، فتوجّه الركاب الشريف إلى دمشق المحروسة، ونفق فى الجيوش المنصورة ذكر وقعة نوبة غازان بوادى الخزندار ولمّا وردت الأخبار، وصحّت أنّ التتار، عدّوا الفراة إلى ناحية الشأم خرج الركاب الشريف من دمشق المحروسة نهار الأحد سابع عشر شهر ربيع الأوّل. ولم يكن عند المسلمين فى تلك النوبة اكتراث (17) بالتتار، ولا كأنّهم عندهم عدوّ، بل مشمّرين الذيول، كانحدار السيول، لملتقى العدوّ

(9 - 10) وقتل. . . فى فرقته: بالهامش (12) فتواترت: تواترت (17) اكتراث: اكتراثا

المخذول {وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً} (1)، ولبس الجيش قبل الملتقى بثلاثة أيّام، ولم يزالوا على ظهور الخيل فى تلك المدّة ليلا ونهارا (2)، وحصل التعب والملال، للخيل والرجال. ثمّ وردت الأخبار أنّ التتار ولّوا هاربين، وإلى وراهم راجعين، وبأنفسهم ناجعين، وذلك لما بلغهم من كثرة الجيوش الإسلاميّة، والعساكر المحمّديّة، وما هم عليه من العدّة والسلاح، وقوّة عزمهم على طلب الكفاح، وكان هذا كلّه مكرا منهم وخديعة للإسلام، وغشا (7) لأمّة محمد عليه السلام. فظنّ المسلمون أنّ ذلك حقّا، وأنّ التتار قد عجزوا عن الملتقى فلمّا كان نهار الأربعا تاسع وعشرين ربيع الأوّل التقى الجيشان، والتحم الضرب والطعان، وذلك أنّ المسلمين (10) ركبوا بعد صلاة الصبح من ذلك اليوم بالحدّ والحديد، والجدّ الأكيد، ركضا بالمقرعة والمهماز، وعاد الأمر حقيقة لا مجاز. وكان الطالع فى ذلك اليوم أنّ الطالب مغلوب، دون المطلوب، لكن عمّيت للأمر المقدّر القلوب، ليكون ما كان كامنا من المقدور فى الغيوب. ولم يزل (14) المسلمون على ذلك المشوار، إلى الخامسة من ذلك النهار. فأشرفوا على جموع التتار، وهم نزول على مواقد النار، مستريحون الخيول والأبدان. ولا يشكّ أنّ الراحة والتعب ضدّان، وبون بين المستريح والتعبان، وكلّ ذلك للأمور المقدّرة والأحكام المدبّرة. وحملت ميمنة المسلمين (18) على ميسرة التتار فأفنوهم

(1) السورة 33 الآية 38 (2) ليلا ونهارا: ليل ونهار (7) غشا: غش (10) المسلمين: المسلمون (14) ولم يزل: ولم تزال (18) المسلمين: المسلمون

بالصارم البتّار، وركنوا إلى الفرار، ولم يعدم من ميسرة (1) المسلمين إلاّ النادر القليل، وكذلك القلب من المسلمين، فإنّه فعل فعلا (2) جميل. ثمّ حصل تخاذل من الله عزّ وجلّ، فهربت ميمنة (3) المسلمين وتبعها من كان ورا السناجق السلطانيّة، فصاروا من المنهزمين، وانتصرت الطغاة الباغون ف‍ {إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} (5) وذلك بعد العصر، وحصل للمسلمين حصر، وأيّما حصر! وساق مولانا السلطان فى طايفة يسيرة نحو بعلبكّ، والجيش بأمره قد اشتبك، وعادت الغنايم والأموال، والعدد والأثقال، ملقاة ملو الأرض، فى طولها والعرض، ورموا الجند ساير عددهم ليخفّوا عن خيولهم. وقد تحيّرت لتلك النازلة عقولهم، وتفرّقوا ثلاث فرق، وتمزّقوا كلّ ممزّق. فأمّا الفرقة التى سلكت البرّيّة هلكت بأسرها، وكذلك التى طلبت السواحل بالمالح لم ينجو منهم إلاّ من كان فى أجله تأخير، وذلك النادر. ونفذ فيهم مقدور القادر. ولم يسلم من هذه الطايفة التى سلكت الساحل إلاّ من رافق الأمير سيف الدين بلبان الطبّاخىّ. فإنّه جمع مماليكه وثقله وعبر فى تلك الطريق على حميّة فى فارس وسبع ماية، والتأم به خلق كثير من الجند، فسلم من شرور الجبليّة. وأمّا الفرقة التى سلكت الجادّة فإنّها سلمت، ولم يعدم منها إلاّ القليل. وكان الجبليّة والعربان على الناس أشدّ من التتار، حتى كأن كان لهم على الإسلام تار ثم إنّ التتار ظنّوا أنّ تلك الهزيمة مكيدة من المسلمين، وكان ذلك لطفا من ربّ العالمين. فإنّهم لم يتبعوا تلك الليلة للإسلام، إلى أن انقضى

(1) ميسرة: كان أصلها «ميمنة» وصححها الناسخ (2) فعلا: فعل (3) ميمنة: كان أصلها «ميسرة» وصححها الناسخ (5) السورة 2 الآية 156

ذكر ما جرى لدمشق من الأحوال الناكدة

حكم الظلام. هنالك تحقّقوا أنّ الهزيمة حقّا، فتبعوا هنالك المسلمين غربا وشرقا وكان وصول الركاب الشريف السلطانىّ عزّ نصره وطلوعه إلى قلعة الجبل المحروسة ثالث عشر شهر ربيع الآخر كما يأتى ذكر أخباره السارّة بعد ذلك، إنشا الله تعالى (5) ذكر ما جرى لدمشق من الأحوال الناكدة ولمّا تحقّق الأمر عند أهل دمشق اشتدّ خوفهم وكثرت الأراجيف واختلفت الأقوال. فمنهم من قال إنّ غازان مسلم، وإنّ غالب جيوشه كذلك، وإنّهم لم يتبعوا المسلمين من المنهزمين، وبعد انفصال الوقعة لم يقتلوا أحدا (10). وكثرت الأقاويل فى ذلك. فلمّا كان يوم السبت رابع اليوم من الوقعة وقعت صيحة عظيمة بالبلد، وخرجت النسا مهتّكات لمّا بلغهم أنّ التتار دخلوا البلد. ولم يكن لذلك ضجّة، وانفرجت فى ساعة، لكن بعد ما مات فى ذلك اليوم على أبواب دمشق جماعة نحو من عشرين نفر، منهم شخص يسمّى النجم المحدّث البغدادىّ. وذلك لعظم الازدحام بالأبواب. وكان ليلة السبت قد خرج من البلد جماعة من أعيان الناس وكبار البلد وهم قاضى القضاة إمام الدين، والقاضى جمال الدين المالكىّ، وتاج الدين بن الشيرازىّ، ووالى البلد ووالى البرّ والمحتسب مع جماعة كبيرة من بياض الناس، وتوجّهوا إلى الديار المصريّة. وفى ليلة الخميس، أحرقوا المحابيس، باب سجن باب الصغير، وخرجوا منه فى عدّة مايتى

(5) إنشاء الله تعالى: بالهامش (10) أحدا: أحد

وخمسين نفر، وتوجّهوا إلى باب الجابية وكسروا الأقفال وفتحوا الباب وخرجوا. وأصبح الناس يوم الأحد لا يدرون ما هم فيه، ولا ماذا يفعلون واجتمع الناس فى ذلك اليوم فى مشهد علىّ، وتشاوروا فى أمر الخروج إلى غازان. فكان ممّن اجتمع ذلك اليوم من يذكر وهم: القاضى بدر الدين ابن جماعة، والشيخ زين الدين الفارقىّ، والشيخ تقىّ الدين بن التيميّة، وقاضى القضاة نجم الدين بن صصرى، والصاحب فخر الدين بن الشيرجىّ، والقاضى عزّ الدين بن الزكىّ، والشيخ وجيه الدين بن منجى، والصدر عزّ الدين بن القلانسىّ، وأمين الدين بن شقير الحرّانىّ، والشريف زين الدين بن عدنان، والشيخ نجم الدين <بن> أبى الطيّب، وناصر الدين عبد السلام، والصاحب شهاب الدين بن الحنفىّ، والقاضى شمس الدين بن الحريرىّ، والشيخ الصالح شمس الدين قوام النابلسىّ، وجماعة كبيرة من القرّا والفقها والعدول، وأجمعوا رأيهم على الخروج إلى غازان. فلمّا كان نهار الاثنين صلّوا صلاة الظهر وتوجّهوا إلى الله عزّ وجلّ وخرجوا ليتقنوا أمر صلاح البلد وعقيب خروجهم من البلد نادى مناد بدمشق من قبل أرجواش نايب القلعة المحروسة: بأمره ألاّ يباع شئ من عدّة الجند، فسلطانكم صاحب مصر. وأبيعت الخيل بدمشق بخمسين وستّين درهم الفرس، وبلغ الجوشن الذى قيمته مايتى درهم عشرين درهم. ولم يبق للناس سوق معروف، بل ينادون حيث شاؤا، ولا عاد فى البلد حاكم يرجع إلى حكمه، وعاد الناس يأكلون بعضهم بعضا، ومن كان فى نفسه من أحد شئ وقوى عليه أتلفه. فلمّا كان يوم الجمعة لم يفتح للبلد باب، فعند وقت الصلاة كسرت أقفال باب توما، تولّى ذلك نوّاب الولاة. ثمّ أقيمت الصلاة ولم يعيّن فى الخطبة اسم سلطان

وبعد صلاة الجمعة وصل إلى ظاهر دمشق جماعة من التتار، ويقدمهم منهم شخص يسمّى إسمعيل، وقيل إنّه قرابة غازان. ونزلوا بستان الظاهر من طريق القابون، وعلى يدهم فرمان غازان بالأمان، وسيّروه إلى المدرسة البادرائيّة (4)، وحمل وطيف به على الأعيان، وهو فى كيس جلد. واجتمع الناس ليقرأ، فلم تهيّأ ذلك اليوم له قراية بالمدرسة المذكورة. ثمّ قيل للناس: اجتمعوا بالجامع! -فاجتمع الناس حتى امتلأ الجامع. ثمّ خرجوا ولم يقرأ. ثمّ وصلوا تلك الأعيان المذكورون الذين كانوا توجّهوا إلى غازان بعد غيبة أربعة أيّام. وذكروا أنّهم التقوا غازان فى الليل وهو ساير بجيوشه. فنزلوا بين يديه، وقبّل بعضهم الأرض، فوقف لهم وترجّل جماعة من المغل بين يديه ووقف الترجمان وتكلّم بينهم بما مضمونه: إنّ الذى طلبتوه من الأمان قد أرسلناه إليكم قبل حضوركم ومن قبل سؤالكم. -وكان المتكلّم من الجماعة الصاحب نجم الدين الشيرجىّ. ثمّ إنّ غازان نزل المرج. وذكروا أنّه لا يدخل البلد إلاّ يوم (13) الجمعة، ولا يفتح إلاّ باب واحد لأجل منع من يتعبّث من التتار. ثمّ لمّا كان يوم الجمعة لم يدخل غازان البلد. وحضر الأمير إسمعيل ورفيقه الأمير محمد، ومعهم جماعة من التتار، إلى مقصورة الخطابة وصلّوا الجمعة. واجتمع تلك الأعيان المذكورون، وأخرج الفرمان، وتولّى قرايته (17) رجل من الواصلين مع التتار، وكان يبلّغ عنه المجاهد المؤذّن وهذه نسخته: بقوّة الله تعالى وإقبال دولة السلطان محمود غازان ليعلم أمرا التوامين والآلاف (20) والمئين مع عموم العساكر المنصورة من المغل

(4) البادرائية: البادرئيه (13) إلا يوم: إلى يوم (17) قرايته: قرآئه (20) الآلاف: والاف

والتتار والأرمن والكرج وغيرهم ممّن داخل تحت ربقة طاعتنا: أنّ الله لمّا نوّر قلوبنا بنور الإسلام، وهدانا إلى ملّة النبىّ عليه السلام {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (4) ولمّا أن سمعنا أنّ حكّام مصر والشأم، خارجون عن طريق الدين، غير متمسّكين بأحكام الإسلام، ناقضون لعهودهم، حالفون بالأيمان الفاجرة، ليس لديهم وفا ولا ذمام، ولا لأمورهم التيام، ولا انتظام، وكأنّ أحدهم {إِذا تَوَلّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ} (9) وشاع شعارهم بالحيف على الرعيّة، وأضاعوا الحقوق المرعيّة، ومدّوا أيديهم العادية إلى حريمهم وأموالهم وأولادهم وعيالهم. والتخطّى عن جادّة العدل والإنصاف، وارتكابهم الجور والإعساف، حملتنا الحميّة الدينيّة والحفيظة الإسلامية على أن توجّهنا إلى هذه البلاد، لإزالة هذا العدوان، وإماطة هذا العصيان. مستصحبين الجمّ الغفير من العساكر التى ضاق بهم الفضاء ونسلّطهم على العصاة لله من الله قضاء، ونذرنا على أنفسنا إن وفّقنا الله تعالى لفتح البلاد. أزلنا الفساد، عن العباد. ممتثلين (15_) للأمر الإلاهىّ {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ} (16) فلله علينا بذلك الامتنان، وإجابة لما ندبه إليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم (إنّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون فى حكمهم) (18) وحيث كانت طويّتنا مشتملة على هذه المقاصد الحميدة والنذور الأكيدة، منّ الله علينا بتبلّج

(4) السورة 39 الآية 22 (9) السورة 2 الآية 205 (15_) ممتثلين: ممتثلا --الإلاهى: الاهى (16) السورة 16 الآية 90 (18) الجامع الصغير 1:145

تباشير النصر المبين والفتح المستبين، وأتمّ علينا نعمته، وأنزل علينا سكينته، قهرنا العدوّ الطاغية والجيوش الباغية، وفرّقناهم أيدى سبا {وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} (2) حتى {جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً} (3) فازدادت صدورنا انشراحا للإسلام، وقويت نفوسنا بحقيقة الأحكام، منخرطين فى زمرة من حبّب إليهم الإيمان وزيّنه فى قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان أوليك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة (5)، فوجب علينا رعاية تلك العهود الموثّقة والنذور المؤكّدة (7) فصدرت مراسمنا العالية ألاّ يتعرّض أحد (8) من العساكر المذكورة على اختلاف طبقاتها، وتباين أجناسها واختلاف لغاتها، لدمشق وأعمالها وساير البلاد الشأميّة الإسلاميّة، وأن يكفّوا أظفار المتعدّى عن أنفسهم وأموالهم وحريمهم، ولا يجولوا حول حماه بوجه من الوجوه، حتى يشتغلوا بصدور مشروحة، وآمال مفسوحة، لعمارة البلاد، وتطهير الفساد، وتطمين العباد، بما هو كلّ واحد بصدده من تجارة وزراعة وغير ذلك من كلّ صناعة. وكان هذا الهوج العظيم وكثرة هذه العساكر، وتزاحم هذه الدساكر، تعرّض بعض نفر يسير إلى نهب بعض الرعايا وأسرهم، فأمرنا بقتلهم كيف رموهم بشرّهم، ليعتبر الباقون ويقطعوا أطماعهم عن النهب والأسر وغير ذلك من جميع الفساد. وليعلموا أنّا لا نسامح بعد هذا الأمر البليغ البتّة فى أذيّة أحد من العباد، ولا يتعرّضوا لأحد من أهل الأديان على اختلاف أديانهم من اليهود والنصارى والصابئة (19)، فكلّ منهم قد عاد منّا

(2) السورة 34 الآية 19 (3) السورة 17 الآية 81 (5) قارن السورة 49 الآية 7 و 8 (7) المؤكدة: الماكده (8) أحد: أحدا (19) والصابئة: والصابة

فى أمان. فإنّهم إنّما يؤدّون (1) الجزية. ليكون لهم أمان فى أموالهم ودماهم، والسلاطين موصون على أهل الذمّة، كما هم موصون على المسلمين من أهل هذه الأمّة. فإنهم من جملة الرعايا، قال صلّى الله عليه وسلّم (3) (كلّكم راع وكلّ راع مسئول عن رعيّته) (4) فسبيل القضاة والخطباء والمشايخ والعلماء، والأكابر والشرفا والمشاهير (5) وعامّة الرعايا، الاستبشار بهذا النصر الهنىّ، والفتح السنىّ، وأخذ الحظ الوافر من السرور. والنصيب الأكبر من البهجة والحبور، مقبلين على الدعاء لهذه الدولة القاهرة والمملكة الطاهرة، آناء الليل وأطراف النهار وكتب خامس ربيع الأوّل سنة تسع وتسعين وستّ ماية وكان قرايته (10) على السدّة بالجامع المعمور بذكر الله تعالى، المعروف بجامع بنى أميّة بدمشق المحروسة. فلمّا قرئ هذا الفرمان صاحت العوامّ ورعاع الناس ودعوا للملك، وأكثروا الضجيج كعادتهم فى ذلك. وحصل للناس بذلك سكون وطمأنينة (13). ثمّ استمرّ أوليك النفر من التتار بالمقصورة، إلى صلاة العصر فصلّوا. ثمّ توجّهوا إلى منازلهم. وفى يوم الأحد تاسعه أهانوا جماعة الدماشقة بمدرسة القيمريّة بسبب تحصيل الخيل ولمّا كان يوم الاثنين عاشره تقرّبوا من البلد وأحدقوا بدمشق واحتاطوا بالغوطة من كلّ مكان. وكثر العبث والنهب والفساد. وأخذت ذخاير الناس، وقتلوا جماعة من أهل القرى والضياع، وعمّ الأذى. ولم يعود

(1) يؤدون: بدون--أمان: أمانا (3 - 4) الجامع الصغير 2:158 (5) والمشاهير: بالهامش (10) فرأيته: قرآته (13) طمأنينة: اطمانينه

أحد (1) يطيق الخروج من البلد. وعاد الناس ينظرون من أسوار البلد (إلى ما حلّ بالحواضر) (2) البرّانيّة مثل العقيبة والشاغور وقصر حجّاج وحكر السمّاق من النهب وكسر الأبواب. وفى هذا اليوم اشتهر أن كثيرا (3) منهم يمرّون بظاهر البلد، ويتوجّهون إلى ناحية الكسوة، فظنّ الناس أنّهم مأمورون بالتوجّه إلى مصر وفى آخر هذا اليوم المذكور وصل الأمير سيف الدين قبجق والأمير سيف الدين بكتمر السلحدار إلى البلد ونزلوا فى الميدان. وتكلّموا فى طريقهم مع الأمير علم الدين أرجواش نايب القلعة، وأشاروا عليه بتسليمها: وإنّ دماء المسلمين فى عنقك. -فأجابهم: إنّ دماء المسلمين فى أعناقكم أنتم لأنّكم كنتم السبب فى مجى التتار. -ولم يجيبهم إلى التسليم. وجرى بينهم كلام كثير، هذا ملخّصه. وفى بكرة يوم الثلاثا خامس عشرة ورد مثال من إسمعيل النايب، مضمونه أنّ الجماعة الأعيان يجتمعون ويقفون لأرجواش ويحسّنون له تسليم القلعة، ففعلوا ذلك فلم يجيبهم إلى شئ. وجرى بينهم كلام كثير ولمّا كان يوم الجمعة خطب الخطيب بما صورته حسبما رسم له به من الدعاء فى الخطبة للسلطان الأعظم سلطان الإسلام والمسلمين، مظفّر الدنيا والدين محمود غازان، وصلّى فى المقصورة جماعة من المغل. فلمّا كان عقيب الصلاة حضر المقصورة الأمير سيف الدين قبجق. ثمّ إنّه صعد وصحبته الأمير إسمعيل إلى السدّة. واجتمع جماعة كبيرة من العالم تحت قبّة

(1) أحد: احدا (2) الى ما حل بالحواضر: مكرر فى الأصل (3) كثيرا: كثير

النسر. وذكر عبد الغنىّ إنعام الملك غازان. ثمّ دعا له. ثم قرئ عليهم مكتوب (2) بتولية قبجق نيابة الشأم، بكماله وما معه وما هو مضاف إليه، فكان ما هذا نسخته: بقوّة الله تعالى وميثاق الملّة المحمّديّة فرمان السلطان محمود غازان الحمد لله الذى أيّدنا بالنصر العزيز، والفتح المبين، ونصرنا بالملايكة المقرّبين، وجعلنا من جنده الغالبين، نحمده على الهداية إلى سبيل المهتدين والإرشاد إلى إحيا معالم رسوم الدين، حمدا يوجب المزيد من فضله كما وعد الحامدين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، شهادة بنصّها فى سلك المجاهدين. وأن محمدا عبده ورسوله، سيّد الأنبيا والمرسلين، صلّى الله عليه وعلى آله. صلاة تصله إلى يوم الدين أمّا بعد: فإن الله تعالى لما ملّكنا البلاد، وفوّض إلينا بلطفه أمور العباد. وجب علينا أن ننظر فى مصالحهم. ونهتمّ بنصايحهم. وأن نقيم عليهم نايبا، يتخلّق بأخلاقنا فى كرم السجايا. ويبلّغنا الأعراض من مصالح الرعايا. فأعملنا الفكر فيمن نقلّده هذه الأمور. ويكون آمرا على جميع هذه الممالك الإسلاميّة لا مأمور، وأنعمنا النظر فيمن نفوّض إليه مصالح الجمهور. واخترنا لها من يحفظ نظامها (17) المستقيم. ويقيم ما هوى من قوامها (18) القويم. يقول فيسمع مقاله. ويفعل فتتّقى أفعاله، يكون أمره من أمرنا. وحكمه من حكمنا. وطاعته من طاعتنا. ومحبّته هى الغرض إلى محبّتنا. فرأينا أنّ الجناب العالى الأوحدى المؤيّدى العضدى

(2) مكتوب: مكتوبا--مضاف مضافا (17) نظامها نصامها (18) قوامها: قومها

النصيرىّ العالمىّ العادلىّ الذخرىّ الكفيلىّ الممهّدىّ المشيّدىّ المجاهدىّ المشيرىّ الأثيرىّ العمامىّ النظامىّ السيفىّ سيف الدين ملك الأمرا فى العالمين، ظهير الملوك والسلاطين قبجق، وهو المخصوص بهذه الأوصاف الجميلة، والمحتوى لهذه السمات الجليلة، فإنّه أذخرته المهاجرة إلى أبوابنا. ووصله القصد إلى ركابنا، فرعينا له هذه الحرمة، وقابلناه بهذه النعمة. ورأينا أنّه لهذا المنصب حفيظ مكين، وخاطبنا لسان الاختيار أنّ نعم {مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (7) وعلمنا أنّه يبلغ الغرض من صون الرعايا، ويقوم مقامنا فى ساير القضايا. فلذلك رسمنا أن نفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالممالك (9) الشأميّة والحلبيّة والحمويّة والحمصيّة. وشيزر وبغراس وأنطاكية، مع ساير الممالك الطرابلسيّة. وجميع الحصون والأعمال الفراتيّة، وقلعة الروم، والبيرة وباهسنا. وما أضيف إليها من الأعمال والثغور والقلاع والحصون، نيابة تامة عامة كاملة شاملة. يؤتمر فيها بأمره، ويطاع فيها نهيه. ولا يخرج أحد عن حكمه، له الأمر التامّ. والحكم العامّ. وحسن التدبير. وجميل التأثير بالإحسان لأهل البلاد. واستجلاب الولاء والوداد. ومؤمّن (16) مرتبطين الآمال ناظرا، إلى من دخل تحت الطاعة بالامتنان. مشفقا فى الاستخدام والتأمين، مع ملك الأمرا والوزرا ناصر الدين. فإنّ اجتماع الأمر بركة، والهمم تؤثّر إذا كانت مشتركة. فليبق كلّ من يؤمّناه بأمانهما. فإنّه أماننا أجريناه على قلبهما ولسانهما. وقد أنعمنا عليه بالسيف والسنجق الشريف والكوس والبايزة الذهب رأس السبع

(7) السورة 28 الآية 26 (9) بالممالك: بالتمالك (16) مؤمن: مامن

وسبيل الأمرا والمقدّمين وأمرا العربان والتركمان والأكراد والدواوين والصدور، بالأعمال والجمهور، أن يتحقّقوا أنّه نايبنا الذى فوّضنا إليه النيابة الشريفة والمنزلة المنيفة، أن يطيعونه سرا وجهرا، ولا يعصون له أمرا، وأنّ أمرهم إليه وقربهم لديه، ممّا يحصل لهم به رضاه عنهم وقربه منهم، وليلزموا عنده من الأدب والخدمة ما يجب. وليكونوا معه فى الطاعة والموافقة على المصالح كما يجب وعلى ملك الأمرا سيف الدين، تقوى الله تعالى فى أحكامه، ونقضه وإبرامه، وتقوية يد قضاته للشرع وحكّامه، وتنفيذ قضيّة كلّ قاض على قول إمامه. وليتعاهد الجلوس للعدل فى ساير أيّامه، بطريقة العدل والإنصاف، وأخذ الحقّ للمشروف من الأشراف، وليقم الحدود والقصاص على كلّ من وجب عليه، وليكفف الكفّ العادية على كلّ من يرد إليه، والله تعالى يعجّل له إلى الخيرات سبيلا، ويوضّح له إلى مرضاة الله تعالى ومراضينا دليلا، إنشاء الله وكتب فى عاشر جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وستّ ماية ولمّا فرغوا من قراية الفرمان نثروا عليه الذهب والفضّة، وفرح الناس بولاية قبجق عليهم ظنّا منهم أنّه يرفق بهم. وذكر القاضى جلال الدين أنّه اجتمع به، فشكا إليه ما هو فيه من التعب ومداراة التتار، وأنّه يريد لأجل هذا التقليد ألفى دينار معجّلة سرعة. فقال له القاضى جلال الدين: عندى فرس وبغلة، أحملهما إليك تسعّر بهم. فقال: الخيل والبغال لهم، ليس لكم فيها مؤنة (19)، وإنما يطلبون الذهب الذهب ثمّ نزل شيخ الشيوخ بالمدرسة العادليّة فى يوم الجمعة المذكور، وأحضر إليه ضيافة. فأظهر العتب على أهل البلد لكون أنّهم لم يتردّدوا إليه. وادّعى

(19) مؤنة: مأنة

أنّه يصلح أمرهم، ويتّفق معهم على ما يعود نفعه عليهم فى أمر القلعة. فقال بعض الجماعة: إنّ قبجق هو يخبر أمر القلعة. -فكان جوابه: إنّ خمس ماية من قبجق ما يكونون فى فصّ خاتمى. -وظهر منه (تعظيم كبير) (4) لنفسه ثمّ إنّ التتار طلعوا إلى جبل الصالحيّة، وفعلوا فيه من الأفعال القبيحة ما يطول شرحه ممّا تقشعرّ لهول سماعه الأبدان. فخرج الشيخ تقىّ الدين بن التيميّة إلى عند شيخ الشيوخ وصحبته جماعة من أهل البلد، وشكوا إليه الحال. فخرج إليهم فى يوم الثلثا وسط النهار. فلمّا بلغ التتار الذين كانوا بجبل الصالحيّة مجى شيخ الشيوخ هربوا بعد أن أخربوا جميع مساكنه ونهبوا ساير أمواله وسبوا حريم أهله وأولادهم وبناتهم، وجرت عليهم أمور عظام لا يطاق سماعها، أضربت عن ذكر جميع ذلك ثمّ إنّهم أحرقوا فى دمشق نفسها عدّة أماكن التى بجوار القلعة بسبب الحصار. ونزلوا التتار بباب البريد والجامع الأموىّ، وشربوا فيه الخمور وفجروا بحريم المسلمين، وفعلوا كلّ فاحشة من العظايم، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلىّ العظيم قلت: الناس يستعظموا ما جرى على دمشق وأهلها من فعل التتار الكفّار الذين ليس لهم دين ولا مذهب يرجعون إليه، فقد جرى على دمشق وأهلها من المغاربة، أصحاب المعزّ، أوّل الخلفا الفاطميّين، بزعمهم بمصر، ما إذا قابل به القارئ له فى الجزء السادس من هذا التأريخ، وهو الجزء المختصّ بذكر الخلفا العبيديّين من المصريّين، استقلّ عنده فعل التتار هذا واستصغره،

(4) تعظيم كبير: تعظيما كبيرا

هذا وهم مسلمون وخلفاهم يدّعون أنّهم علويّون وفاطميون، ف‍ {إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} (2) ثمّ إنّ التتار أخذوا من دمشق تقدير عشرة آلاف فرس. ثمّ قرّروا على أهلها الأموال، فكان المقرّر على أسواق دمشق ما يذكر: سوق الخوّاصين ماية ألف وثلاثين ألف درهم، وعلى الرمّاحين ماية ألف درهم، سوق علىّ ماية ألف درهم، سوق النحّاسين ستّين ألف درهم، قيساريّة الشرب ماية ألف درهم، حتى وصل التقرير على سوق الذهبيّين مع صغره وقلّة أهله وقرّر عليه ألف وخمس ماية (8) درهم. ثمّ لم يقنعوا بذلك حتى قرّروا على جميع أسواق دمشق مع أعيان سعدايها وأكابرها، تتمّة ثلاث ماية ألف دينار، وجبيت على حساب أربع ماية ألف دينار. ورسم على أهل البلد طايفة من شرار المغل، وألزموهم بالمبيت فى المشهد الجديد بالجامع، وفيه كان الاستخلاص، ومنعوا من يدخل إليهم، وأمروا بعصر ابن شقير، ووعد بذلك ابن منجّى وابن القلانسىّ وغيرهم من كبار البلد، وعادوا يضربوهم على ظهورهم ويمسكون أكمامهم، وكذلك جرى على قاضى القضاة نجم الدين بن صصرى. هذا وقد كثر النهب فى البلد وزاد البلاء على الناس وعظم الأمر. وعادوا يتسوّرون على الناس من الأسطحة وكسروا الأبواب، وكان ذلك فى يوم الجمعة ثامن وعشرين الشهر، لا سيّما وقت الصلاة، وتهاربت الناس من سطح إلى سطح، ووقع من الناس جماعة، وكسرت أرجلهم وأضلاعهم. ثمّ جبى على الرءوس وكان المطلوب شيئا كثيرا (19) لا تحمّله البلد ولا تقاربه، فعسر الأمر على الناس. وكان متولّى الطلب الصفىّ السنجارىّ وعلاء الدين أستادار قبجق وأبناء (20) الشيخ

(2) السورة 2 الآية 156 (8) ألف وخمس ماية: الفو خمس مائة (19) شيئا كثيرا: شى كثير (20) وأبناء: وآبناى

الحريرىّ. وعملوا الشعراء فى هذه النازلة أشعارا (1) كثيرة، فمن ذلك للقاضى كمال الدين بن الزملكانىّ يقول <من البسيط>: لهفى على جلّق يا سوء ما لقيت … من كلّ علج له فى كفره فنّ بالطمّ والرمّ جاءوا لا عديد لهم … والجنّ بعضهم والحنّ والبنّ غيره <من الطويل>: دهتنا أمور لا يطاق احتمالها … فسلّمنا منها الإله له المنّ أتتنا تتار كالرمال تخالهم … هم الجنّ حتى معهم الحنّ والبن الكمال ماجد الشافعىّ <من الطويل>: أقم عذر جيش طالما قتل العدا … بدارهم قهرا وكم غارة شنّوا إذا ولّوا الأدبار من كلّ كافر … كريمه بغض قد (10) حكى وجهه سنّوا أتى جيشهم بالمغل والكرج عصبة … وأصحاب سيس فيه والحنّ والبنّ ابن البيسانىّ <من الطويل>: أتى الشام جيش كالرمال عرمرم … فلم يبق أرض من نواحيه ما جنّا ولازم قوما فى دمشق بسبيه … ونهب وقتل ثمّ أموالنا جنّا وقد رجعوا تلك الطموم وخلّفوا … بقاياهم بولاى والحنّ والبنّا عبد الغنىّ الحريرىّ <من الطويل>: بلينا بقوم كالكلاب أخسة … علينا بغارات المخاوف قد شنّوا هم الجنّ حقّا ليس فى ذاك ريبة … ومع ذا فقد والاهم الحنّ والبنّ

(1) أشعارا: اشعار (10) كريمه بغض قد: بياض فى الأصل، أضيف من زت 72

ذكر رجوع غازان إلى الشرق

ابن قاضى صرخد <من الطويل>: رمتنا صروف الدهر منها بسبعة … فما أحد منّا من السبع سالم غلاء وغازان وغزو وغارة … وغدر وإغبان وغمّ ملازم ذكر رجوع غازان إلى الشرق لمّا كان يوم الجمعة ثانى عشر جمادى الأوّل عزم غازان على الرجوع إلى بلاده، لا ردّه الله. وأنّه يترك نايبا وعسكرا من التتار بالشأم. ثمّ رحل بطغاته وجيوشه وترك عدّة من التتار، واليزك لم يبرح حول القلعة، وكان الحصار ظاهر البلد حول القلعة وكذلك من داخل، ويرمون من القلعة بحجارة كبار، ويكثرون من رفع الأصوات، بذكر الله تعالى والصلاة على محمد صلّى الله عليه وسلّم. ولمّا رحل غازان ترك بهاء الدين قطاو شاه نايبه مع جمع كثير ورسم يوم السبت بإخلاء المدرسة العادليّة، ووقف التتار على بابها، فخرج أهلها وعاد كلّ من خرج فتّشوه ويأخذون ما يختارون أخذه. وأحرقوا جامع العقيبة، وعادت التتار تعمل فيه أيّاما وسقطت منارته. ولمّا كان يوم الأحد الحادى والعشرين منه أحرقوا المدرسة العادلية، واحترق بها كتب كثيرة. فلمّا رأوا (16) أهل المدرسة الظاهريّة ذلك انتقلوا منها، وعادوا يرمون قماشهم من سطح حمام أسد الدين وحمام العقيقىّ، ولا ينزلون من الباب خوفا من اليزكيّة. وأمّا باب البريد فما عاد

(16) رأوا: راو

يعرف ما حوله من الأماكن لحرابها. وأمّا دار السعادة فخربت جملة كافية. ولم يزل الحال مستمرّا إلى يوم الثلثا توجّه أيضا قطلو شاه، وخرج قبجق إلى وداعه. وفى أثناء هذا اليوم دقّت البشاير بالقلعة وهربت جماعة من التتار ليلة الأربعا، وأصبح يوم الأربعا قطعت أخشاب المنجنيق. واشتدّ الطلب على من كان يلوذ بالتتار، وحمل القمىّ وغيره إلى القلعة، وطلب أبناء الشيخ الحريرىّ فاختفيا. وفى ذلك اليوم نودى بالبلد: طيّبوا قلوبكم وافتحوا دكاكينكم وتهيّوا لملتقى سلطان الشأم سيف الدين قبجق، واخرجوا له بالشموع! وفى مناداة أيضا: قد دفع الله عنكم العدوّ المخذول! -فتعجّب الناس من ذلك وحكى الشيخ علم الدين البرزالىّ (10)، قال: اجتمعت يوم الخميس الخامس والعشرين من الشهر بالشيخ تقىّ الدين بن التيمية، فذكر أنّه اجتمع بهاء الدين قطلو شاه، وذكر له أنّه من عظم جكز خان، ولحية (12) قطلو شاه أجرود ولا شعرة بوجهه أصلا، وأنّه كان له فى ذلك العهد من العمر اثنتين وخمسين سنة، وأنّه ذكر له أنّ الله عزّ وجلّ ختم الرسالة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وأنّ جكز خان جدّه كان مسلما (15)، وكلّ من خرج من ذرّيّته مسلمين، ومن خرج من طاعته فهو خارجىّ، وذكر أيضا اجتماعه بالملك غازان، والوزير سعد الدين، ورشيد الدولة الوزير المتطبّب، وكذلك بالشريف قطب الدين ناظر الخزانة، والكاتب صدر الدين، والنجيب الكحّال اليهودىّ، وشيخ الشيوخ نظام الدين محمود، وأصيل الدين بن النصير الطوسىّ ناظر الأوقاف، وهؤلاء كانوا أعيان دولة الملك غازان، وذكر أيضا أنّه

(10) البرزالى: الورالى (12) ولحية: وحلية (15) مسلما: مسلم

رأى عند قطلو شاه صاحب سيس الملعون. وهو أشقر أزرق كثّ اللحية ومعه طايفة من الأرمن عليهم الذلّة والمسكنة. وكان سفر قطلو شاه ظهر يوم الثلثا الثالث والعشرين من الشهر. وكان سبب اجتماع الشيخ تقىّ الدين بهؤلاء الأسرا، وقال إنّهم يكتبون فى جميع فرامينهم بقوّة الله وبميثاق الملّة المحمّدية! وذكر أنّه اجتمع بشخص منهم فيه دين وسكون وصلاة حسنة. فسأله: ما السبب فى خروجك وقتالك المسلمين وأنت كما أرى منك؟ - فقال: أفتانا شيخنا بتخريب الشأم وأخذ أموالهم. لأنّهم لا يصلّون إلاّ بالأجرة ولا يؤذّنون (13) إلاّ لذلك ولا يتفقّهون إلاّ بمثل ذلك وذكر وجيه الدين بن منجىّ وابن القطنة (14) أنّه هلك لكلّ منهما ماية وخمسين ألف درهم. وذكر ابن منجّى أنّ الذى حمل إلى خزانة غازان من المال ثلاثة آلاف ألف وستّ ماية ألف درهم سوى ما لحق ذلك من التراسيم والبراطيل والاستخراج لغيره من الأمراء والوزراء وغير ذلك. وأنّ الصفىّ السنجارىّ الذى كان على مستخرج، جبى لنفسه ثمانى ماية ألف درهم وحصّل لشيخ الشيوخ ستّ ماية ألف درهم. وأصيل الدين مايتى ألف درهم والأمير إسمعيل مايتى ألف درهم والوزير نحو من أربع ماية ألف درهم خارجا عن جماعة أخرى وعن البراطيل والتراسيم وفى يوم الخميس عاد الأمير سيف الدين قبجق من توديع قطلو شاه ودخل من باب شرقىّ وخرج من باب الجابية فتحوهما بسببه. ثمّ نزل القصر الأبلق. وفى يوم الجمعة نودى فى البلد اخرجوا إلى بلادكم وضياعكم! وكان قبل ذلك نودى لا يغرّر أحد بنفسه! -فتعّجب الناس

(13) يؤذنون بأدنون (14) ابن القطنة ابن قطينة رت

من ذلك. وغلت الأسعار بدمشق ووصل القمح كلّ غرارة بثلاث ماية درهم وستّين درهما، والشعير إلى ماية وخمسين، والخبز رطل بدرهمين ونصف، وما أشبه ذلك من الأصناف المأكولة وفى تاسع عشرين الشهر دخل قبجق والجماعة الذين معه إلى البلد ونزلوا تحت مأذنة فيروز بدار بهادر رأس نوبة ودار المطروحىّ وامتلأت تلك الناحية بهم، والأمير يحيى بدار طوغان داخل باب توما. ونودى فى آخر النهار: يا أهل القرى والضياع، اخرجوا إلى أماكنكم! رسم بذلك سلطان الشأم سيف الدين قبجق. -ثمّ استهلّ شهر جمادى الآخرة أوّله الثلثا، وهم ينادون كذلك. ثمّ إنّ قبجق أمّر من جهته أمرا، منهم علاء الدين أستاداره، وولاّه البرّ عوضا عن ابن الجاكىّ، وانضاف إليه جماعة كبيرة من الجند وكثر الناس على بابه. وفتحت أبواب البلد خلا الأبواب التى بجوار القلعة. وفى يوم الجمعة الرابع منه ضربت البشاير بقلعة دمشق وقيل: وضربت (13) على باب قبجق أيضا. -وصلّى فى ذلك اليوم الأمير يحيى بجامع دمشق وتصدّق بشى من المال على الفقرا. وكان قبجق يقوم بوظايف (14) السلطنة فى ساير أحواله، وركب بالعصايب والجاويشيّة، واجتمع عليه خلق كثير من أجناد دمشق وغيرها، وكتب التواقيع لأرباب الولايات، وعاد سلطانا مستقلاّ وفى العشر الأوسط من هذا الشهر جرت عدّة أحوال. منها أنّه أمر ثلاثة نفر وركبوا بالشرابيش ومنها أنّه نادى فى البلد بإدارة الخمر والفاحشة بدار ابن جرادة ظاهر باب توما، وضمن ذلك كلّ يوم بألف درهم نقرة

(13) وضربت: مكرر فى الأصل (14) بوظايف: بوضايف

ومنها أنّه نادى: من كان من غلمان مصر وعنده قماش لأستاذه فليحفظه ومنها أنّ جماعة من القلعة ركبوا وساقوا إلى مسجد الذباب ظاهر باب الجابية، ورجعوا وبين أيديهم نفر من التتار. فظنّ العوامّ أنّ المصريّين قد وصلوا والتتار هاربين منهم، فقاموا على جماعة من التتار فقتلوهم، ولم يظهر لما ظنّوه خبر، فتشوّش البلد أيضا وغلّق باب الصغير وأرجف الناس بسبب الطلب بدم التتار المقتولين ومنها أنّ الأمير سيف الدين قبجق جبى لنفسه أيضا مبلغا، ولم يعف منها أحد ومنها أنّه اشتهر رجوع بولاى المقدّم من الأغوار بالعسكر الذين كانوا معه، وتخوّف الناس منهم وفى العشر الأخير من الشهر المذكور نزل أيضا جماعة من القلعة وقتلوا جماعة من التتار وحصلت خبطة عظيمة. ومسك جماعة من الذين كانوا ينسبون إلى المشى مع التتار، وجبيت أيضا جباية أخرى (14) لبوليه مقدم التتار ودخل الخطيب بدر الدين بن جماعة والشيخ ابن التيميّة إلى القلعة ومشوا فى الصلح بين أرجواش ونوّاب التتار. فلم يوافق أرجواش رحمه الله على ذلك، ولم يزل الأمر كذلك إلى مستهلّ شهر رجب الفرد وفى الثانى من الشهر طلب قبجق أعيان البلد وحلّفهم للدولة المحموديّة بالنصح (19) وعدم المداجاة

(14) أخرى: الاخرى (19) بالنصح: بالبضح

وفى يوم الخميس توجّه الشيخ تقىّ الدين بن التيميّة إلى مخيّم بولاى مقدّم التتار يسأل فى المأسورين، وكانوا خلقا (2) كثيرا. وتحدّث بولاى فى أمر يزيد بن معاوية مع الشيخ، وسأله: هل يجوز لعنته أم لا؟ -ففهم الشيخ أنّ فيه موالاة، فكلّمه بما لاق بخاطره بغير شى يكره. فقال: هؤلاء أهل دمشق هم قتلة الحسين بن علىّ صلوات الله عليه. فقال له الشيخ: إنّه لم يكن من أهل دمشق من حضر قتلة الحسين عليه السلام (6)، وقتل عليه السلام بأرض كربلا من العراق. فقال: صحيح. وكانوا بنو أميّة خلفا الدنيا، وكانوا يحبّون سكنى الشأم. فقال الشيخ: وماذا يلزم من ذلك فى قتلة الحسين، وهذه الشأم ما برحت أرضا (9) مباركة ومحلّ الأوليا والصلحا بعد الأنبيا صلوات الله عليهم. -ولم يزل به حتى سكن غضبه على أهل الشأم. ثمّ ذكر للشيخ أنّ أصله مسلم من أهل خراسان. وجرى بينه وبين الشيخ كلام كثير وفى عشيّة السبت رابع الشهر صحّ أنّه لم يبق بالطرقات ولا فى ضواحى دمشق أحد من التتار. ونودى بذلك، فاستبشر الناس بذلك. فسافرت الناس يوم الخميس إلى تاسع الشهر حصل تشويش بسبب رجوع طايفة من التتار. وكان الناس قد خرجوا إلى غياض السفرجل، فرجعوا مسرعين فزعين. ونهب بعضهم ورمى بعضهم نفسه فى النهر وحصل للناس تشويش أيضا يوم الأربعا خامس عشر الشهر، وخرج الأمير سيف الدين قبجق وطلب الأبواب الشريفة السلطانيّة والناصريّة أعلاها الله تعالى، وصحبته الأمير سيف الدين بكتمر السلحدار وبقيّة الأمرا. وعادت دمشق خالية بغير من يحكم فيها. فنودى فى البلد من جهة أرجواش:

(2) خلقا كثيرا: خلق كثير (6) السلام: السلم (9) أرضا: ارض

ذكر عودة جيوش الإسلام بالنصر إلى بلاد الشام

احفظوا البلد والزموا الأسوار! -وعادت الناس فى وجل كثير، إلى يوم الجمعة أعيدت الخطبة باسم مولانا السلطان الأعظم الملك الناصر عزّ نصره، وأدامها باسمه آخر الدهور، وإلى يوم البعث والنشور. وكان قد خطب باسم غازان بدمشق ماية يوم إلى ذلك اليوم المبارك. فحصل للناس من السرور ما لا يمكن شرحه، فلله الحمد والشكر والثنا الحسن الجميل ذكر عودة جيوش الإسلام بالنصر إلى بلاد الشام وأمّا ما كان من عودة ركاب مولانا السلطان إلى الديار المصريّة فإنّه عند عوده من حمص حسبما ذكرنا، وطلع إلى القلعة المحروسة يوم الأربعا ثانى عشر ربيع الآخر، وتبعه الجيوش متفرّقة، وأحوالهم ممزّقة، ضعاف عراة مشاة إلاّ القليل منهم. ففتح الخزاين المعمورة، ونفق فى الجيوش المنصورة لا المكسورة. وسخا بالأموال. واستخدم الرجال، واستكثر من العدّ والعديد. والحدّ والحديد. ومنّ الله تعالى فى ذلك الوقت بوجود العدد والخيول، حتى عادوا كالسيول، لكن تحسّنت العدد تحسينا عظيما (15) بغير قياس، حتى بلغ الجوشن الذى كانت قيمته فى غير ذلك الوقت عشرة دراهم نقرة فبلغ مايتى درهم وأكثر، وجميع العدد على هذه النسبة، وبلغ صرف الدينار ثمانى عشرة درهم نقره. ولقد سمعت من إنسان جندىّ كان اسمه سنقر شاه الحسامىّ من مماليك الأمير حسام الدين طرنطاى رحمه الله يحكى للأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير. وهو يومئذ نازل بالعبّاسة

(15) تحسينا عظيما: تحسين عظيم

يرمى بندقا (1) فى سنة أربع وسبع ماية فى الليل، وأنا أسمع، قال عن نفسه: أنا كسبت فى فرد صنف واحد سبع ماية ألف درهم نوبة غازان. اشتريت الذهب سعر ثمانية عشر درهم الدينار، وأبعته بعد ذلك بخمسة وعشرين الدينار، فشريت ماية ألف دينار، كسبت فيها سبع ماية ألف درهم. -وهذا سنقر شاه المذكور الذى كان سبب سعادة الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، فإنّه كان مدّعى أنّه أخوه. فلمّا مات سنقر شاه أوصى (7) بجميع ماله للأمير سيف الدين بكتمر الحاجب. وكان سنقر شاه المذكور يتّجر فى كلّ صنف ولنعود إلى سياقة الكلام! واستعدّت الناس وخرجوا فى ركاب مولانا السلطان عزّ نصره، وقد أباعوا أنفسهم لله تعالى بالجنّة وهى دار الأبد، وخرجوا وقد خرجوا عن المال والولد. فعرف الله عزّ وجلّ صدق نيّاتهم، فمحا عنهم سيّئاتهم، وكشف عنهم تلك النوازل والكرب، وأرمى فى قلوب أعدايهم الرعب والرهب، حتى لم ينجيهم غير الهرب! وذلك لمّا سمعوا بعود العساكر المنصورة، فى أحسن زىّ وأليق صورة، تعجّبوا لذلك كلّ العجب، وتهيّوا للهرب، لينجوا من العطب. فإنّ عادة التتار إذا كسروا لم ينجبروا إلاّ بعد مدّة كبيرة، وأخذتهم لذلك الحيرة، وأرمى الله تعالى فى قلوبهم الرعب. فولّوا الأدبار، وتركوا لأهلها الديار، ورجعوا إلى بلادهم قاصدين، وعلى أرضهم واردين. وضرب بهزيمتهم عند ذلك المثال {وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ} (19) وتوجّهوا الأمرا الذين كانوا مقفرين، إلى خدمة ركاب مولانا السلطان طايعين، وفى إحسانه طامعين، وبجوده إليه متشفّعين. فأحسن إليهم وأقبل

(1) بندقا: بندق (7) أوصى: وأوصى (19) السورة 33 الآية 25

عليهم وجمع شمل الإسلام، ببركات نبيّه عليه السلام. وكان اجتماعهم بالركاب الشريف السلطانىّ عزّ نصره بمنزلة الصالحيّة، وأشاروا بالعود إلى الديار المصريّة. فعاد ركابه الشريف إلى قلعة الجبل المحروسة فى يوم السبت خامس شهر شعبان المكرّم. ثمّ توجّه بقيّة الجيش المنصور مع من يذكر من الأمرا إلى دمشق المحروسة لتطمئنّ (5) بقدومهم النفوس، وتزول تلك النحوس والعكوس. فأوّل من دخل دمشق الأمير جمال الدين آقوش الأفرم فى جيوش الشأم. وخرج الناس ليروهم، وشكروا الله عزّ وجل وهو المستحقّ لذلك. ثمّ وصل يوم الأحد الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورىّ فى جيوش حلب. ثمّ الأمير سيف الدين أسندمر فى عسكر طرابلس. ودخل يوم الاثنين ميسرة الجيوش المصريّة يقدمهم الأمير بدر الدين بكتاش الفخرىّ أمير سلاح. ودخل يوم الثلثا ثالث عشره ميمنة الجيوش المصريّة يقدمهم الأمير حسام الدين الحسام أستادار. ودخل يوم الأربعا القلب المصرىّ، وفيه الأمير سيف الدين سلاّر، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وزين الدين كتبغا، وسيف الدين الطبّاخىّ. ونزلت الجيوش المنصورة بالمرج بظاهر دمشق المحروسة. ونزل الأمير سيف الدين سلاّر بالميدان بالقصر الأبلق. وجلس يوم السبت وأخلع على عزّ الدين ابن القلانسىّ قريب والده شاهد الخزانة المعمورة. وكان الإقامة بدمشق ثمانية أيّام. وتفرّقت الجيوش إلى بلادها، مع أمرايها ونوّابها. وعادت الجيوش المصريّة فى خدمة نايب السلطنة المعظّمة الأمير سيف الدين سلاّر رحمه الله إلى الديار المصريّة. وكان دخولهم يوم الثلثا ثالث شهر شوّال

(5) لتطمش: لتاطمين

وأمّا الأمير جمال الدين نايب الشأم فإنّه توجّه يوم الجمعة العشرين من شوّال بالعسكر الشأمىّ وصحبته من الرجّالة والفلاّحين جمع كثير، وقصد جبل الكسروان والدرزيّة، فقتلهم قتلا ذريعا بسبب ما كانوا اعتمدوه فى حقّ الجيوش الإسلاميّة حسبما تقدّم من فعلهم الذميم، وكسرهم كسرة شنيعة، وذلك فى ثانى شهر ذى القعدة. ودخلوا تحت الطاعة قسرا وقرّر عليهم مال كثير، والتزموا بذلك وبجميع ما أخذوه من العساكر، وأقطعت أراضيهم وبلادهم. ثمّ عاد الأمير جمال الدين بالعساكر ودخل دمشق يوم الأحد ثالث عشر ذى القعدة. وخرج أهل دمشق والتقوه وأمّا الذى احترق بدمشق فى أيّام التتار مع ضواحيها: فمن البيمارستان النورىّ إلى الناصريّة، ومسجد صابون، ودار الحديث الأشرفيّة، وتربة الصاحب نور الدين، ومسجد الأسديّة. وسلّم الله تعالى الجامع. وأمّا جبل الصالحيّة، فلم يبق به شى على حاله، مع شى كثير فى جميع ضواحى دمشق، والله أعلم. وهذا آخر ما وصلت إليه القدرة فى ذكر أخبار التتار وفى هذه السنة توفى الأمير علم الدين الدوادارىّ رحمه الله بحصن الأكراد، وصلّوا عليه بدمشق يوم الجمعة رابع وعشرين شهر رجب، وكان رحمه الله من الأمرا الكبار الأعيان الفضلاء الحافظين الدايبين الورعين وقيل فى هذه السنة كان وفاة الملك المظفّر صاحب حماة المقدّم ذكره والله أعلم (18)

(18) والله أعلم: بالهامش

ذكر [حوادث] سنة سبع ماية هجرية

ذكر [حوادث] سنة سبع ماية هجريّة النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم الخليفة: الإمام الحاكم بأمر الله أبو (3) العبّاس أمير المؤمنين، ومولانا السلطان: الملك الناصر، عزّ نصره، سلطان الإسلام من حدود بلاد دنقلة إلى شاطى الفراة، أدام الله أيّامه والنوّاب: الأمير سيف الدين سلاّر نايب السلطنة المعظّمة بالأبواب الشريفة، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستادار ومشارك (7) فى الأمور، والوزير الأمير شمس الدين سنقر الأعسر (8)، والأمير سيف الدين بكتمر أمير جاندار (9)، والأمير شمس الدين سنقر الكمالىّ حاجب، والأمير علاء الدين طيبرس الخزندارىّ أمير نقبا الجيوش المنصورة بالأبواب العالية، وقاضى القضاة بالديار المصريّة الشيخ تقىّ الدين بن دقيق العيد رحمه الله، وناظر الجيوش المنصورة القاضى بهاء الدين بن الحلّىّ، وصاحب الديوان وكتابة المماليك السلطانيّة كرّمها (13) الله تعالى القاضى فخر الدين، وصاحب ديوان الإنشا الشريف القاضى شرف الدين بن فضل الله والنوّاب بالممالك الإسلاميّة: الأمير جمال الدين أقوش الأفرم ملك الأمرا بدمشق المحروسة، والأمير شمس الدين قراسنقر المنصورىّ نايب حلب، والأمير زين الدين كتبغا نايب حماة. والأمير سيف الدين قطلوبك نايب طرابلس، والأمير جمال الدين آقوش الأشرفىّ نايب الكرك المحروس، والأمير سيف الدين بلبان طرنا نايب صفد، والأمير سيف الدين قبجق

(3) أبو: ابى (7) أستادار مشارك: استادارا مشاركا (8) شمس الدين سنقر الأعسر: عز الدين أيبك البغدادى، مصحح بالهامش (9) جاندار: جاندارا--حاجب: حاجبا (13) كرمها: كرم

نايب الشوبك، وبدر الدين الزردكاش نايب باهسنا. وسيف الدين طوغان نايب البيرة، وفخر الدين أياز نايب قلعة المسلمين، والغتمىّ نايب الرحبة، وأمير العربان الأمير حسام الدين مهنّا بن عيسى بن مهنّا وملوك الأقطار، بالأقاليم والأمصار: صاحب مكّة شرّفها الله تعالى أبو نمىّ محمد بن إدريس بن قتادة بن حسن الحسنىّ. صاحب المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام (6): جمّاز بن شيحة الحسينىّ، صاحب اليمن: الملك المؤيّد هزبر الدين داود بن الملك المظفّر المقدّم ذكره. صاحب دلى بالهند: الملك المسعود محمود بن سنجر عتيق إيتامش مملوك الغورىّ، صاحب الصين بتخت مملكة التتار: قآن (9) واسمه قلاصاق شرمون بن منغلاى ابن قبليه بن طلوا (10) بن جكز خان تمرجى صاحب أصل عظم التتار المقدّم ذكره، صاحب ما ورا النهر من ملوك التتار: جبارا بن قيدوا بن قنجى ابن طلوا بن جكز خان تمرجى المقدّم ذكره وكرسىّ مملكته بأرض صراى، صاحب البلاد الشماليّة من ملوك التتار أيضا: طقطاى بن (13) منكوتمر بن طغان ابن باتوا، تملّك بعد أنغاى المقدّم ذكره وكرسىّ مملكته سوداق وباتوا ابن جكز خان، وهم بيت باتوا الذين كان لهم الخمس من الفتوحات، وصاحب البلاد الشرقيّة من ملوك التتار أيضا: منغطاى بن قنجى (16) بن أردوا بن دوشى خان بن جكز خان تمرجى، وهؤلاء كلّهم من عظمه. وقد كانت هذه الممالك جميعها مملكة واحدة فى حياته. وكان آباء هؤلاء كالنوّاب له فى هذه النواحى. فلمّا هلك تغلّب كلّ واحد وبنيه على ناحية وتملّك بها، وعادت الحروب والوقايع بينهم لطفا (20) من الله عزّ وجلّ، وإلاّ

(6) والسلام: والسلم (9) قآن: قآان (10) طلوا: قطلوا (13) بن: ابن (طغان)، مكرر فى الأصل (16) قنجى: قنجى--أردوا. اردبوا (20) لطفا: لطف

والعياذ بالله! لو كانت كلمتهم مجتمعة كأوّل حال، لكان الحال بخلاف هذا الحال، وصاحب العراقين وخراسان: غازان بن أرغون بن أبغا بن هلاوون، وهذا البيت عندهم لا يعتدّون به من عظم جكز خان، وإنّما هؤلاء من التتار المغربة الذين كان وجّههم جكز خان فى طلب السلطان علاء الدين خوارزم شاه حسبما تقدّم من القول فى ذلك، فتغلّبوا على الملك، وصاحب ماردين: الملك المنصور إيلغاى بن الملك المظفّر قرا أرسلان بن الملك السعيد ملوك المغرب: صاحب مرّاكش: أبو الربيع سليمان بن عبد الله بن يوسف بن يعقوب من ولد عبد المؤمن المقدّم ذكره فى تأريخه وأصله وسبب ملكه، صاحب المغرب الأقصى: أبو البقا خالد بن يحيى بن أبى زكريا حفص عمر. صاحب تونس وإفريقيّة: أبو الجيوش نصر بن محمّد ابن الأحمر المتغلّب على الملك وليس من بيت ملك، وهو يومئذ محاصر مدينة سجلماسة، صاحب جزيرة الأندلس: موسى بن عثمان بن ربّان المتغلّب أيضا. وكان جدّ أبيه (14) من نوّاب بنى أميّة ملاّك الأندلس، وهو يومئذ كرسىّ مملكته غرناطة قلت: إنّما ذكر العبد فى هذه السنة جملة من أسماء هؤلاء الملوك الذين اتّصل به أسماهم على هذا المثال فى الأسما والممالك، كون أنّ هذه السنة آخر قرن، فأحببت أن يفهم من فيها من الملوك المتّصلة أخبارهم بنا والواردة رسلهم إلى أبواب سلطاننا وما عدا ذلك، فإنّ علمهم عند الله عزّ وجلّ، فإن أرض الله تعالى لا يدرك لها غاية، ولا يحصر لها نهاية، وكذلك ملوكها لا يحصيهم إلاّ الذى ملّكهم، بيده الملك وإليه المصير {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (21)

(14) أبيه: أبوه (21) السورة 6 الآية 103 والسورة 67 الآية 14

ولنذكر الآن ما يخص حوادث الزمان

ولنذكر الآن ما يخصّ حوادث الزمان: فيها كان الاستخراج بدمشق من أرباب الأملاك أربعة أشهر أجرة وكذلك من القرى والضياع والأملاك (3). والسنة التى وقع الاتّفاق على استخراج ثلث مغلّها، هى سنة تسع وتسعين وستّ ماية، وكان المغلّ فى تلك السنة مغلاّ خسيسا (5) لأجل ما كان من التتار وكونهم كانوا فى البلاد. ولم يحصّل لأحد إلاّ ما فضل عنهم. فحصل على الناس من ذلك شدّة كبيرة وتسحّب (6) أكثر أرباب الأملاك واستحفّوا، والذى وقع بأيديهم ألزموه حتى قطع الأشجار بثمرها وأباعها حطبا، بحيث بلغ الحطب كلّ قنطار الدمشقىّ بثلاثة دراهم (9) نقرة، ولا وجدوا من يشتريه. وكان ذلك على أهل دمشق أشدّ من كلّ شى مرّ بهم من أوّل حال وإلى ذلك التأريخ. ثمّ استخدم بما جمع من ذلك المال جماعة من الأكاريد والأجناد البطّالة ونفقوا فيهم كلّ واحد ستّ ماية درهم ولم يقيموا لهم ضمانا لما كانوا فيه، لمّا وردت الأخبار أنّ غازان قد طمّعته نفسه الكاذبة وآماله الخايبة بدخوله الشأم، وأنّ الشأم قد عاد فى قبضته. ثم إنّ أكثر أوليك المستخدمين تسحّبوا (14) وأخذوا ما نفق عليهم، ولم يقم منهم إلاّ القليل النادر. ولم يصل من ذلك المال شئ إلى بيت المال، وأكثره سرقوه الكتّاب السمرة قلت: هذا جميعه نقل الشيخ صدر الدين ابن وكيل بيت المال المعروف بابن المرحّل رحمه الله تعالى، حكاه للمملوك بالديار المصريّة لمّا كان قد حضر إليها صحبة الركاب الشريف لمّا عاد من الكرك المحروس

(3) والأملاك: املاك (5) مغلا خسيسا: مغل خسيس (6) وتسحب: وتستحب (9) دراهم: الدراهم--وجدوا: ووجدوا (14) تسحبوا: تستحبوا

ذكر عودة غازان خايب الآمال

ذكر عودة غازان خايب الآمال وذلك لمّا كان ثالث عشر شهر الله المحرّم من هذه السنة المذكورة. وردت الأخبار بقصد التتار إلى الشأم المحروس، ووقع الجفل فى البلاد. وكثرت الأراجيف بجميع تلك الديار. ووصلت القصّاد إلى الأبواب وأخبروا أنّ غازان حشد حشودا (5) كثيرة، ونادى الغزاة إلى الديار المصريّة. وعند ذلك وقع الجفل العظيم فى ساير الممالك الشأميّة. وتوجهوا إلى الديار المصرية. وكان ذلك من أوّل شهر صفر، واستمرّ كذلك إلى سلخ جمادى الأولى من الفراة إلى غزّة. فمنهم من قصد الحصون. مثل الصبيبة وعجلون وصرخد وغيرهم. ومنهم من طلب الديار المصريّة وهم الأكثر من الناس. وعادت الأخبار تزيد وتنقص: هذا <ما> جرى بالشأم وأمّا ما كان بالديار المصرية: فلمّا بلغ ذلك المسامع الشريفة السلطانيّة الناصرية لازالت موفورة ببشاير النصر، فى كل حين ووقت وعصر، برزت المراسم الشريفة بخروج العساكر المنصورة، وبرز الدهليز المنصور وخيّم بمسجد التبن. وخرجت العساكر كالجراد المنتشر، وخيّموا حول الدهليز المنصور. كأنّهم القشاعم والنسور. وكان توجّه الركاب الشريف طالبا للغزاة المبرورة ورحيله من مسجد التبن طالبا للغزاة بنيّة صادقة، وقلوب من جيوشه على ذلك موافقة، يوم السبت ثالث عشر صفر، فوصل إلى منزلة بدعرش، وخيّم بها الدهليز المنصور. فأقام بهذه المنزلة إلى سلخ شهر ربيع الآخر فحصل للناس فى هذه السنة مشقّة عظيمة من البرد العظيم الزايد عن حدّ القياس، حتى أقامت تمطر على الناس، أربعين يوما ليلا ونهارا (21)،

(5) حشودا: حشود (21) ليلا ونهارا: ليل ونهار

لا ينظرون الشمس. وانقطع الجالب للأوحال العظيمة بالطرقات. ووقع الغلاء الزايد حتى بلغ الحمل التبن الذى أكثره تراب لا ينتفع به أربعين درهما، وخمسين درهما، ولا كان يحصّل إلاّ بالدبابيس وأىّ من قوى أخذه. ولم يقدروا على الوصول إلى دمشق البتّة هذا ما جرى للجيوش الإسلاميّة. وأمّا التتار، فإنّ غازان لم يزل على طغيانه وسيره حتى نزل على مصطبة السلطان بحلب. ووصل يزكيّته إلى قرون حماة وإلى بلاد سرمين والمعرّة. ونفذ أكثر الجيوش إلى بلاد أنطاكيّة وجبال السماق، فنهبوا من تلك النواحى شيئا عظيما (8) من الأغنام والأبقار، وسبوا عالما عظيما (9) من النسا والأطفال. وذلك أنّه فى سنة تسع وتسعين كان قد التجأ (10) إلى هذا الجبل عالم كثير واختلفوا فيه ولم يشعروا بهم التتار ولا قصدهم منهم أحد. فلمّا كان هذه السنة طلع إلى هذا الجبل أكثر من تلك العالم بأضعاف، طمعا فى السلامة بالنسبة إلى تلك السنة. فلمّا أقام غازان ببلاد حلب سيّر أكثر الجيوش، ففعلوا ما ذكرناه بحيث أباعوا الأسير بعشرة دراهم (14). واشترى صاحب سيس منهم خلقا كثيرا. وأوسقوا مراكب، وسيّروهم إلى بلاد الفرنج بالجزاير. ثمّ أرسل الله تعالى على التتار من الأمطار والثلوج بحيث أقامت عليهم أحدا وأربعين يوما ليلا ونهارا. وذكر أن وقع عليهم ثلج أحمر لم يعهدوا بمثله. وتلف من جيوش التتار خلق عظيم، ولحق الدوابّ الذين لهم طابق كثير. ورجعوا إلى بلادهم أنحس

(8) شيئا عظيما: شئ عظيم (9) عالما عظيما: عالم عظيم (10) التجأ: التجا (14) دراهم: الدراهم--خلقا كثيرا: خلق كثير

ذكر لباس النصارى واليهود الأزرق والأصفر

من مكسورين، لطفا من الله عزّ وجلّ وتدبيرا (1) من الحكمة حتى عجّزهم الله عمّا كانوا عليه عازمين {وَرَدَّ اللهُ <الَّذِينَ> كَفَرُوا <بِغَيْظِهِمْ> لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ <الْمُؤْمِنِينَ> الْقِتالَ} (3) ووصل أخبار رجوعهم فى شهر جمادى الأولى (4). وكان قد أخليت دمشق بأسرها مع جميع بلاد الشأم من سكّانه وأهله وقطّانه إلاّ من عجز عن الحركة ضعفا. وكان قبل رحيل الركاب الشريف وعوده إلى الديار المصريّة قد جرّد الأمير سيف الدين بكتمر السلحدار والأمير بهاء الدين يعقوبا بألفى فارس إلى دمشق. فكان دخولهم إليها سابع شهر جمادى الأولى. ثمّ حضرت القصّاد وأخبروا برحيل غازان وعوده إلى بلاده، وقطع الفراة حادى عشر جمادى الأوّل، وصحّت الأخبار بذلك، والله أعلم ذكر لباس النصارى واليهود الأزرق والأصفر السبب فى ذلك وصول وزير صاحب الغرب يريد الحجّ (12) إلى بيت الله الحرام، فوجد النصارى واليهود بالشاشات البيض السلعانيّة واللبس الحرير والبقايير، ولا يفرّق بينهم وبين المسلمين إلاّ الزنّار، واليهودى (14) العلامة الصفرا فى عمامته وقيل: كانت هذه الواقعة أنّه كان رأى الصاحب أمين الدين أمين الملك ابن العنّام (17)، وهو يوم ذاك نصرانىّ وعليه بقيار ولبس حرير. وكان يخدم

(1) تدبيرا: تدبير (3) السورة 33 الآية 25 (4) الأولى: كان أصله «الاخره»، مصحح بالهامش--أخليت: اخلت (12) الحج: الحاج (14) واليهودى: واليهود (17) العنام: يرد فى الأصل أحيانا «الغنام»

يومئذ مستوفى الصحبة الشريفة. ونظر الأمراء والناس من الكبار يبجّلونه ويقفون له قياما. فسأل عنه <فقيل:> إنّه نصرانى. فصعب عليه ولحقته الغيرة الإسلاميّة فتحدّث مع الأمير سيف الدين سلاّر والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير. وأحضر بين يدى المواقف الشريفة السلطانيّة أعزّ الله أنصارها. واستحضر أحاديث صحيحة مرويّة عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم من «كتاب الوظايف» وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضى الله عنه، أنّ عهد ذمّتهم قد انقضت من سنة ستّ ماية هجريّة. فكان ممّا أورد قال: إنّ أوّل من وضع الديوان فى الإسلام الإمام عمر بن الخطاب رضى الله عنه حين أحضر له أبو هريرة رضى الله عنه مالا كثيرا من عمل البحرين. فقام إليه رجل من الأنصار وقال: رأيت الأعاجم تدوّن ديوانا فدوّن أنت أيضا ديوانا! -وقال خالد بن الوليد رضى الله عنه: قد كنت بالشأم ورأيت ملوكها دوّنوا ديوانا. فدوّن أنت ديوانا! -وإنّما سمّى الكتبة ديوانا لأنّ كسرى نوشروان رآهم يحسبون مع أنفسهم. فقال: هؤلاء ديوانه. والديوان باللغة الفارسيّة هى أمّ الشياطين. فسمّى الكتّاب بذلك لحذقهم ووقوفهم على الجلىّ والخفىّ. ثمّ سمّى مكانهم باسمهم. فقيل ديوان. ومن شرط من ينصّب فى الديوان ان يكون مسلما أمينا ضابطا سؤسا شفوقا على الإسلام. قال الله تعالى {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (19) وقال تعالى {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} (20) وقال صلّى الله عليه وسلّم: لا تؤمّنوهم وقد خوّفهم الله ولا تقرّبوهم وقد أبعدهم الله

(19) السورة 3 الآية 28 (20) السورة 5 الآية 51

وروى أنّ المتوكّل على الله أقصى اليهود والنصارى ولم يستعملهم وأذلّهم وخالف بين زيّهم وزىّ المسلمين، وجعل على أبوابهم علامات بالدهان مثل الشياطين ولمّا استقدم عمر بن الخطّاب رضى الله عنه أبا موسى الأشعرىّ من البصرة-وكان عاملا عليها للحساب-دخل على عمر رضى الله عنه وهو فى المسجد. فاستأذن عليه لكاتبه وهو نصرانىّ. فقال له عمر رضى الله عنه: قاتلك الله! وضرب بيده على فخذه، ولّيت ذمّيّا على المسلمين. أما سمعت قول الله تعالى: (8) {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) (9)} مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ (10) ألاّ اتّخذت حنيفا. فقال: يا امير المؤمنين، لى كفايته وله دينه. فلا أكبرهم إذ أهانهم الله، ولا أعزّهم إذ أذلّهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله! وقال عمران بن أسد: أتانا كتاب عمر بن عبد العزيز إلى محمد ابن المبشّر، وهو يقول فيه: أمّا بعد، فإنّه بلغنى أنّ فى عملك رجلا يقال له حسّان يروى على غير دين الإسلام، والله تعالى يقول (16) {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفّارَ أَوْلِياءَ وَاِتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (19) فإذا أتاك كتابى هذا فادع حسّان إلى الإسلام! فإن أسلم فهو منّا ونحن منه، وإن أبى فلا تستعن

(8 - 10) السورة 5 الآية 51 (9) ومن يتولهم: فمن يتوله (16 - 19) السورة 5 الآية 57

به، ولا تأخذ من غير أهل الإسلام على شئ من عمل المسلمين. فقرأ الكتاب على حسّان فأسلم وعلّمه الطهارة والصلاة ولمّا خرج النبىّ صلّى الله عليه وسلّم إلى غزاة بدر تبعه رجل من المشركين، فلحقه عند الحرّة، فقال: إنّى أريد أن أتبعك وأصيب معك-. قال: تؤمن بالله ورسوله؟ -قال: لا. -قال: ارجع! فلن أستعين (5) بمشرك. -ثمّ لحقه عند الشجرة، ففرح به أصحاب النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وكانت له قوّة وجلد، فقال: جيت لأتبعك وأصيب معك. - قال: تؤمن بالله ورسوله؟ -قال: لا. -قال: ارجع! فلن أستعين (8) بمشرك. - قال: ثمّ لحقه على ظهر البيدا فقال له مثل ذلك. فقال تؤمن بالله ورسوله؟ -قال: نعم، -فخرج به. وهذا دليل عظيم فى أنّ الاستعان <بمشرك> لا يكون البتّة. هذا وقد خرج معه صلّى الله عليه وسلّم، يقاتل ويراق دمه. فكيف استعماله على رقاب المسلمين؟ وحكى عن علىّ بن حمزة الكسائىّ أنّه كان يقرئ بعض الخلفاء من وراء حجاب، فوصل إلى قوله تعالى {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ} (15) الآية، فدقّ الكسائىّ بيده على الأرض، وكانت عادته ألاّ يدقّ بيده إلاّ إذا غلط الخليفة. فأعاد الخليفة الآية صحيحة، فأعاد الكسائىّ الدقّ، كذلك ثلاث مرار، ففهم الخليفة. وكان عنده ذمّىّ قد ولاّه أمور الرعيّة. فقام الخليفة لوقته وأحضر رأس الذمّىّ وأخرجها للكسائىّ من تحت الستارة، وقرأ فلم يعاود الدقّ

(5) أستعين: استعن (8) أستعين: استعن (15) السورة 5 الآية 51

وشرح وزير المغرب من هذا التأكيد لعدم الاستعانة بالذمّة فى أمور المسلمين شيئا (2) كثيرا جدا بروايات صحيحة من عدّة وجوه فأثّر ذلك عند مولانا السلطان عزّ نصره وعند الأمرا، فأمر أن يلبسوهم الأزرق والأصفر والأحمر للسمرة من اليهود. وأسلم منهم فى تلك النوبة جماعة، منهم أمين الدين أمين الملك بن العنام. وكان لبسهم ذلك يوم الخميس العشرين من شهر رجب من هذه السنة وفيها فى تاسع ذى القعدة وصل من الشأم المحروس أمير (7) يسمّى أنص، يخبر بحركة غازان وأنّه قد أرسل قدّامه رسولا (8)، وكان هذه عادتهم من قبل هذا الوقت الذى وضعت فيه هذا التأريخ: إذا أرسلوا رسولا يكونون خلفه. وإنّما فى هذا الوقت المبارك لما حصل من الصلح معهم لما دخل فى قلوبهم من الهيبة السلطانيّة الناصريّة عادت لا تكاد رسلهم (تنقطع، بل (12)) واصلين إلى الأبواب الشريفة بالتحف والهدايا الحسنة كما يأتى ذكر ذلك فى تأريخ سنيه إنشاء الله تعالى ولقد أذكر فى وقت. وكان قد وصلت رسل التتار، وكان الوالد سقى الله عهده فى ذلك التأريخ مهمندارا بدمشق المحروسة، وذلك فى سنة عشر وسبع ماية. وكان النايب بدمشق يومئذ الأمير سيف الدين كراى المنصورىّ رحمه الله. فحصل من الوالد فى حقّهم خدمة جيّدة فى وقت ورودهم وعند مصدرهم وعودهم من الأبواب الشريفة. وكان قد أعجبهم الوالد رحمه الله واستحسنوا شكله وفعله، فأوعدوه الإحسان عن عودتهم من الأبواب العالية. فعرّف الوالد للأمير سيف الدين كراى ملك الأمرا ذلك، حتى عاد فى كلّ

(2) شيئا كثيرا: شئ كثير (7) أمير: اميرا (8) رسولا: رسول (12) تنقطع بل: بالهامش

وقت يمازح الوالد ويقول له: يا جمال الدين، لا تأكل الهديّة وحدك وأشركنا فيما أوعدوك به. فلمّا عادوا وتلقّاهم الوالد من الكسوة وخدمهم أتمّ خدمة، وهم كثيرين الإعجاب به والثناء عليه، ولم يزل معهم إلى القابون يشيّعهم. فضربوا بينهم مشورا زمانا طويلا. ثمّ أخرجوا للوالد ثلاثة طوامير عظم وحلقتين طسما (5) وقالوا له: اشكر إحسان القآن إليك. -فلمّا عاد إلى ملك الأمرا أحضر إليه ذلك الإنعام العظيم. فضحك كراى وقال: يا جمال الدين، والله لولا أنت عندهم تشبه تومان ما أعطوك هذا. -فقال: يا خوند، الهديّة لمن حضر. -فأخذهم منه وأخلع عليه خلعة كاملة مصمت (9). وإنّما ذكرت هذه الواقعة لما كانوا عليه التتار من كبر الأنفس فى ذلك الوقت ولما تهذّبوا فى أيّام مولانا السلطان وعادوا يحضرون بالأموال الجليلة، والجوارى الحسان الجميلة، حسبما نذكر من ذلك إنشاء الله تعالى ثمّ وصل بعد أيّام البريد المنصور وأخبر أنّ رسول التتار دخل دمشق ليلة الثلثا الثالث والعشرين من ذى القعدة، وأنزلوهم بالقلعة وأنّهم فى دون العشرين نفر. فأقاموا بدمشق أيّاما وتركوا أثقالهم وغلمانهم بدمشق. وأحضروا على البريد المنصور، وصحبتهم المعتمد وكانوا ثلاثة نفر وهم القاضى ضيا الدين بن بهاء الدين بن يونس الشافعىّ، خطيب الموصل. وقاضيها، وصحبته آخر من المغل. ومعهما غلام لهم. فوصلوا القلعة المحروسة ليلة الاثنين خامس عشر ذى الحجّة (19)، فأقبل عليهم مولانا السلطان غاية الإقبال وأحسن نزلهم وأوفر (20) رواتبهم. فلمّا كان عصر

(5) طما: كذا فى الأصل (9) مصمت: كذا فى الأصل ولعل صوابه «مسمّطة» (19) ذى الحجة: ذى القعدة، مصحح بالهامش (20) وأوفر: واوفروا

يوم الثلثا لبسوا الأمراء والمقدّمين وأكابر الحلقة ومماليك مولانا السلطان أفخر الملابس، وأوقدت الشموع واستحضروا بعد عشا الآخرة. وحضر القاضى ضيا الدين وعلى رأسه طرحة. وقام وخطب خطبة بليغة، وذكر فى أثنايها آيات كثيرة من القرآن العظيم تتضمّن معانى الصلح واتّفاق الكلمة، وأردف ذلك بأحاديث صحيحة. ثمّ إنّه بسط يديه ودعا لمولانا السلطان الملك الناصر عزّ نصره، ثمّ لغازان من بعده، ثمّ للأمرا، ثمّ لكافّة المسلمين. ثمّ أدّى الرسالة، ومضمونها أنّ ما قصدهم إلاّ الصلح. ثمّ دفع من يده كتابا مختوما (8) بخطّ مغلىّ بغير عنوان، قطع نصف البغدادىّ، فأخذ منه، ولم يقرأ فى تلك الليلة. وعاد الرسول إلى مكانه المهمانخاناه (10). فلمّا كان ليلة الخميس أحضر مولانا السلطان الموالى الأمرا من أرباب المشور، وقرئ الكتاب، فكان ما هذا نسخته: بقوّة الله تعالى وإهداء السلام إليكم! إنّ الله تعالى جعلنا وإيّاكم من أهل ملّة واحدة، وشرّفنا بالإسلام وأيّدنا بنصره لإقامة مناره وتكبير شعاره وما كان بيننا وبينكم إلاّ بقضاء الله وقدره، وما ذاك إلاّ بما كسبت أيديكم {وَما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ} (16) وسبب ذلك أنّ عساكركم غاروا على ماردين وبلادها فى شهر رمضان المعظّم الذى يعظّمه الأمم فى ساير الأقطار، ويغلّل فيه الشيطان وتغلّق فيه أبواب النار. فطرقوا البلاد {عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها} (19) وهتكوا محارم الله عزّ وجلّ سرعة بغير مهلة، وأكلوا الحرام، وركبوا الآثام، وفعلوا ما لا تفعله عبّاد الأصنام، فأتونا أهل

(8) كتابا مختوما: كتاب مختوم (10) المهمانخاناه: المهماخاناه (16) السورة 41 الآية 46 (19) السورة 28 الآية 15

ماردين، وبلادها مستصرخين، مسارعين ملهوفين، بالأطفال والحريم. وقد استولى عليهم الشقا بعد النعيم، فوقفوا بأبوابنا، ولاذوا بجنابنا فهزّتنا نخوة الكرام، وحرّكتنا حميّة الإسلام، فركبنا على الفور بمن كان معنا، ولم يسعنا أن نجمع بقية جيوشنا، وقدّمنا قدّامنا النيّة، وعاهدنا الله على ما يرضيه عند بلوغ الأمنيّة، وعلمنا أنّ الله لا يرضى لعباده أن يسعوا فى الأرض بالفساد. وأنّه ليغضب لهتك الحريم والأولاد، فما كان إلاّ أن لقيناكم بنيّة صادقة، وقلوب على حميّة الدين موافقة {وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} (8) والذى ساقنا إليكم، هو الذى نصرنا عليكم، فما مثلكم إلاّ كمثل {قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً} (9) فولّيتم الأدبار، وركنتم إلى الفرار، واعتصمتم من سيوفنا بالفرار، فعفونا عنكم بعد الاقتدار، ورفعنا عنكم السيف البتّار، وتقدّمنا إلى جيوشنا أن لا يسعوا فى الأرض كما سعيتم، وأن ينشروا من العدل ما طويتم، ولو قدرتم ما عفيتم ولا عفّيتم، ولا نقلّدكم بذلك منّة، بل حكم الإسلام فى البغاة كذلك. وكان جميع ما جرى فى سابق القدم. ومن قبل كونه جرى به القلم ثمّ لمّا أن رأينا (15) أنّ الرعيّة قد تضوّروا بمقامنا فى الشام. لكثرة جيوشنا لمشاركتهم فى الشراب والطعام. ولما حصل فى قلوب الرعيّة من الرعب، عند معاينة جيوشنا التى هى كطبقات السحب. فأردنا (17) أن نسكّن روعهم برحيلنا من أرضهم بالنصر والتأييد، والعلوّ والمزيد. وتركنا عندهم من جيشنا من يتونّس بهم، ويعود فى أمرها إليهم، ويحرسهم من التعدّى بعضهم على بعض، بحيث إنّكم {ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ} (20)

(8) قارن السورة 34 الآية 19 (9) السورة 16 الآية 112 (15) رأينا: رينا (17) فأردنا: فادنا (20) السورة 9 الآية 25 - -عليكم: بكم

إلى أن يستقرّ جأشكم، وتبصروا أرشادكم، وتسيروا إلى الشأم تحفظونه من أعدايكم المتقدّمين، وأكرادكم المتمرّدين، فقدّمنا أمرنا إلى مقدّمى تومانين من جيوشنا، أنّهم متى سمعوا بقدوم أحد منكم أن يعودوا إلينا بسلام، ويلحقوا ركابنا بدار السلام، فعادوا إلينا بالنصر المبين، والحمد لله ربّ العالمين والآن فإنّا وإيّاكم على كلمة الإسلام مجتمعين. وما كان بيننا ما يفرّق كلمتنا إلاّ من فعلكم فى ماردين. وقد أخذنا منكم بالقصاص، وهذا جزا كلّ عاص. فلنرجع الآن إلى إصلاح الرعايا، ونجتهد نحن وأنتم فى العدل فى ساير القضايا! فقه انضرّت بيننا وبينكم حال البلاد وسكّانها، ومنع الرعيّة الخوف القرار فى أوطانها، وتعذّر سفر التجّار، وتوقّف حال المعاش لانقطاع البضايع والأسفار، ونحن نعلم أنّا نسأل عن ذلك ونحاسب عليه، وأنّ الله لا يخفى شى فى الأرض ولا فى السماء عليه (12)، وأنّ كلّ ما كان وما يكون فى كتاب مبين {لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها} (14) وأنت تعلم أيّها الملك الجليل، أنّنى أنا وأنت مسئولون عن الكثير والقليل، وكذلك فإنّا مسئولون ومطالبون عمّا جناه، أقلّ من ولّيناه. وإنّ مصيرنا إلى الله، فإنّا معتقدون الإسلام سرّا وعلانية، عاملون بفروضه فى كلّ وصيّة وقد حمّلنا قاضى القضاة حّجة الإسلام بقيّة السلف ضيا الدين أبا (19) عبد الله محمدا أعزّه الله تعالى شفاهة يعيدها على سمع الملك، والعمدة

(12) قارن السورة 14 الآية 38 (14) السورة 18 الآية 49 (19) أبا: ابى--محمدا: محمد

عليها. فإذا عاد من الملك الجواب، فليسيّر إلينا هدية الديار المصرّية كهدايا الأحباب، لنعلم أنّ بإرسال الهدّية، قد حصل منكم فى إجابتنا إلى للصلح نيّة، ونهدى من بلادنا ما يليق أن يهدى إليكم، والسلام الطيّب منّا عليكم إنشا الله تعالى! ولمّا حصل الوقوف على هذا الكتاب استشار الموالى الأمرا فى الجواب. فطلبوا قاضى القضاة ضيا الدين الرسول المذكور وقالوا له: أنت من كبار الأيمّة والعلماء ومن خيار المسلمين، وتعلم ما يجب عليك وعلى كلّ مسلم من النصح للإسلام ولهذا الدين، وتعلم أنّ نحن ما نتعاهد الحرب والقتال إلاّ لقيام دين الإسلام، فإنّ هذا الأمر قد فعلوه حيلة ودهاء. فنحن نحلف لك بالله، الذى {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} (10) ما يطّلع أحد من خلق الله تعالى على نصحك للإسلام. ورغّبوه فيما فيه الرغبة. فحلف أيمانا مؤكّدة (12) أنّه ما يعلم من غازان وخواصّه غير الصلح وحقن الدماء ورواح التجّار ومجيهم وصلاح الرعيّة. ثمّ قال لهم فى أثناء كلامه: ومن المصلحة أنّكم تتقوّوا وتبقوا على ما أنتم عليه من الاحتراز والاهتمام لعدوّكم، وأنتم فلكم عادة فى كلّ سنة تخرجون الجيوش لحفظ أطراف بلادكم تجاريدا، فتكونون على عادتكم فى ذلك. فإن كان هذا الأمر صحيحا (16) أو خديعة ظهر لكم بعد ذلك. فلمّا سمعوا منه هذا الكلام تحقّقوا أنّه كلام ليس فيه غشّ ولا مكر منه. ثمّ شرعوا فى تجهيز رسول، وجواب غازان على يده، كما يأتى ذكر ذلك فى سنة إحدى وسبع ماية إنشا الله تعالى.

(10) السورة 9 الآية 129 - -أحد: احدا (12) مؤكدة: مأكده (16) صحيحا: صحيح

ذكر ما جرى فى هذه السنة بين ملوك الهند

ذكر ما جرى فى هذه السنة بين ملوك الهند وذلك أنّه لمّا كان فى أواخر شهر ذى القعدة من هذه السنة قدم التجّار الكارم من اليمن إلى الديار المصريّة، فأخبر العدل بهاء الدين محمد بن العدل تاج الدين المعروف بأبى سعد البغدادىّ، وهو ابن أخى (4) العدل شهاب الدين أحمد بن الكوّيك الكارمىّ التكريتىّ ممّا أخبرنا به نور الدين ابن أخيه أنّ صاحب إقليم دلّى-وهو يومئذ الملك المسعود ناصر الدين محمد بن علم الدين سنجر عتيق شمس الدين إيتامش وشمس الدين إيتامش عتيق السلطان شهاب الدين وأخوه السلطان غياث الدين الغورى المقدّم ذكرهما فى هذا التأريخ-كان قد سيّر جيوشه فى سنة تسع وتسعين وستّ ماية إلى نواحى إقليم كنبايت (10). فلمّا بلغ التتار الذين بجواره-وهم طايفة يقال لهم المنكدمريّة عرفوا باسم ملكهم منكوتمر-أنّه ليس ببلاد دلّى عساكر طمعوا فى أخذها، فجمعوا وحشدوا وتوجّهوا نحو مدينة دلّى وأغاروا على أطراف بلادها وأعمالها، فنهبوا وسبوا وأسروا وملكوا منها تقدير نصف أعمالها. ثمّ إنّهم قصدوا المدينة نفسها التى هى كرسىّ المملكة. ولم يكن عند الملك المسعود المذكور يومئذ سوى ثلاثين ألف فارس والتتار فى جمع كثير. فاستشار وزراه فى ما يفعل وكذلك كبار دولته. فاتّفق رأيهم أن يأخذوا الأفيلة التى عندهم جميعها، وتركب عليها المقاتلة، ويركب الجيش من ورا الأفيلة. فإن ظهرت التتار على الأفيلة فسوف يشتغلون بها ويهرّب الملك المسعود وخاصّته إلى مكان عيّنوه بينهم بحيث أنّهم لا يحصرون فى قلعة ولا مدينة فيؤخذون. وكانت الأفيلة ثلاث ماية

(4) أخى: احمى (10) كنبايت زت: كبانت

فيل. وركب الملك مع خواصّه فى جيوشه ورا الأفيلة. فعند ما نظرت خيول التتار إلى الفيلة ولّت هاربة على أدبارها لا يلوون على شئ. فركب جيوش الملك المسعود أقفيتهم قتلا وأسرا، وقتلوهم قتلا ذريعا، ونصرهم الله عليهم، ولم ينجوا منهم إلاّ كلّ طويل العمر. واتّبعوهم مسافة خمسة عشر يوما حتى أخرجوهم من ديارهم أنحس خروج وأمّا ما كان من الجيش الذى سيّره الملك المسعود إلى إقليم كنبايت (6) فإنّهم ساروا والتقوا ملك ذلك الإقليم وكسروه كسرة صعبة شنيعة وأسروه. فلمّا أحضر بين يدى مقدّم جيوش الملك المسعود أحضر له قيدا حديدا (9) وأراد تصفيده بذلك القيد الحديد. فلمّا رآه ذلك الملك قال له: لمثلى تقيّد بقيد حديد، فأنا كنت صنعت لك لو ظفرت بك قيد ذهب. فأمر بإحضاره، فإذا قيد ذهب مرصّع بالجواهر. فقال له القايد: فأنا أقيّدك به، وأحمد الله تعالى الذى عافانى منه وابتلاك به. فقيّده به. ثمّ طلب منه الأموال، فدلّ بهم على طميرة فيها ذهب كثير، فأخذوها. ثم طلب منه أيضا المال فقال: أو ما كفاك الذى أخذت؟ -قال: لا. -فقال: وحقّ معبودى. لا أظهركم بعدها إلاّ على طميرة أخرى لا غيرها ولو متّ. -ثمّ دلّ بهم على طميرة أخرى، فأخذوا ما كان فيها بعد ما عاهده ألاّ يعود يطلب منه شيئا (17) آخر. فأقاموا ينقلون منها ثمانية عشر يوما، كلّ يوم خمسة عشر حملا. فلمّا فرغوا من ذلك السرب طلبه أيضا بالمال وقال: افدى نفسك وإلاّ قتلتك، وأخافه. فقال له: وأنا ممّن أخاف القتل؟ وحقّ ما أعبده، لا عدت أظهرتك على

(6) كنبايت زت: كبانت (9) قيدا حديدا: قيد حديد (17) شيئا: شئ

شئ آخر وافعل ما شيت أن تفعل. -فسيّر ذلك القايد يعرّف الملك المسعود بصورة الحال ومن عجيب الاتّفاق أنّه كان قد حضر للسلطان علم الدين سنجر أبى (4) الملك المسعود سبى من هذه البلاد، فاتّخذ لنفسه من ذلك السبى جارية حسنا هنديّة فتسرّى بها، فحملت منه بهذا الملك المسعود. فلمّا وصل الخبر من قايد الجيش بما كان من أمر الملك المستأسر ويستأذنه فيما يفعل فى أمره، فاستشار والدته فيما يفعله فى أمر الملك. فبكت وقالت: يا ولدى، أو ما تعرف من هو هذا الملك؟ -فقال: لا والله. -فقالت: هو والله خالك وأنا أخته. -فلمّا ثبت ذلك عنده أمر أن يكتب إلى مقدّم عساكره أن يطلق الملك ويحسن إليه. وبعث إليه بخلع كثيرة، وكتب إليه بردّ بلاده عليه، وأن يكون نايبا له بها. فلمّا وصل إلى الملك ذلك علم الأمر الخفىّ فى ذلك، واطّلع على جليّة الخبر، وعلم أن الملك المسعود ابن أخته. ففرح فرحا شديدا. ثمّ إنّه توجّه إلى بعض بلاده وأظهر من مواضع خفيّة عدّة مطامير بها أموال عظيمة مكتنزة من عهد آبايه وجدوده. وأضاف إلى ذلك هدايا جليلة لا يعلم لها قيمة، وبعث بجميع ذلك للملك المسعود، وبعث يقول له: إنّ لك عندى عدّة مطامير من عهد آبايى وأجدادى ومهما اعتزت من الأموال والجواهر، أنا أمدّك به، فاستخدم الرجال وانتصر بهم على جميع أعداك وأنا خالك ونايبك ومملوكك. وعندى أربعين سربا أقلّها مثل الذى أخذه مقدّم جيشك والسلام

(4) أبى: أبو--سبى: سبيا

وذكر أيضا نور الدين المذكور بحضور الصدر جمال الدين بن سعادة الكارمىّ، وكان قدومه من اليمن وصدّقه على جميع ذلك، وقال: إنّ فى سنة ثمان وتسعين وستّ ماية قام شخص يقال له الشيخ محمد ويكنى أبا عبد الله بأرض الحبشة، واجتمعوا إليه عالم عظيم. وقال لهم: إنّ الملايكة تكلّمه وأنّهم قد أمروه بفتح بلاد الحبشة. -فاجتمع عليه مايتى ألف رجل. فعند ذلك جمع الأمحرا ملك الحبشة جميع جيوشه، فكانوا نحو من أربع ماية ألف فارس وراجل. وخرج لملتقى الشيخ محمد المذكور. وشرع ملك الحبشة فى الباطن يراسل أصحاب الشيخ محمد ويفسدهم بالمال، فجاءوا إليه كبار جموعه وقالوا له: نريد منك برهانا (9) عمّا تدّعيه من كراماتك حتى تطيب قلوبنا ونقاتل معك وبين يديك بقلوب طيّبة، فقال لهم: أنا أدع الملايكة تكلّمكم من البير الفلانىّ. فلمّا انفضّوا من عنده على ذلك أمر بعض الخصيصين به أن يصنع له فى تلك البير مكانا فى جانبها ويختفى فيه، ويجاوب الشيخ بما أوصاه به. فلمّا تهيّأ أمره نفذ الشيخ إلى أعيان القوم المطالبين له بالبرهان فى جمع كثير من جماعته. فلمّا وصلوا إلى تلك البير تقدّم الشيخ إلى عندها وقال: يا ملايكة ربّى، أو قال: يا جبريل، ما أنا على الحقّ؟ -فجاوبه ذلك الرجل الذى رتّبه فى أسفل البير: نعم، أنت على الحقّ المبين، والويل كلّ الويل لمن خالفك أو ناوأك. -ثمّ أمره ونهاه بما قررّ معه من الكلام ساعة زمانيّة والناس يسمعون. فلّما علم أنّهم طابت نفوسهم وصفت قلوبهم له قال لهم: ما تقولون؟ -قالوا: يا سيّدنا، ظهر لنا صدقك، ونحن نستغفر الله من تعرّضنا عليك بما طلبناه منك. -فقال:

(9) برهانا: برهان

أتعلموا ما أقول لكم وآمركم به؟ -قالوا: نعم. -قال: تعلنوا أصواتكم بالتكبير، وتردموا هذه البير، فى هذه الساعة! -وكان قصده بإعلانهم بالتكبير حتى لا يسمع لذلك الرجل الذى فى البير عياط (3) ولا يجيبوا له تداء إذا رأى ما حلّ به. فلم يكن بأسرع أن طمّوا تلك البير على ذلك الرجل، وتساوت مع الأرض. وكان لذلك الرجل الذى هلك فى البير وطمّ عليه أخ، فطال عليه غيبته، فأتى إلى الشيخ وسأله عنه، فنكر علمه به. وكان قد سأل قبل ذلك من جماعة من خواصّ الشيخ قبل اجتماعه به. فقالوا له: قد سيّره الشيخ فى مهمّ له. فلمّا سأل الشيخ ونكره استراب الرجل، ولم يزل يبحث عن أمره حتى استصحّ الخبر. فتوجّه مع جماعة كبيرة إلى البير ونبشوها وأخرجوا ذلك الرجل ميّتا. فعند ذلك توقّفوا عن متابعة الشيخ وتفرّقوا عنه بعد أن كاد يظهر على الأمحرا ملك الحبشة. وكان له مصافّ (11) لملك الحبشة على شاطى النيل ستّة أشهر. فلمّا رأى أمره انحلّ وبرمه انتقض، راسل لملك الحبشة وطلب الصلح. وأعطاه الأمحرا أرضا تزرع له ولخاصّته المرتبطين عليه، وأقطعها لهم إقطاعا وألاّ يكلّفوا شيئا. وأن يعطيهم ملك الحبشة فى كلّ سنة مالا غير تلك الأرض، ويكونون تحت طاعته واتّفق أمرهم على ذلك والله أعلم وذكر أيضا أنّ الملك المؤيد هزبر الدين داود صاحب اليمن وقع الخلف فى سنة تسع وتسعين وستّ ماية بينه وبين الزيديّة، وأنّهم تحوّلوا عن طاعته وقالوا: هذا الذى تعطينا ولنا مقرّر (19) لا يكفينا. -وكان لهم فى كلّ سنة مقرّر عشرين ألف دينار عين مصريّة. على أنّهم يحموا الطرقات

(3) عياط: عياطا (11) مصاف: مصافف (19) مقرر: مقررا

ويخفروا المسافرين من التجّار وغيرهم، وألاّ يؤذوا أحدا وأن يكونون تحت الطاعة له، متى طلبوا لحرب حضروا. فلمّا كان فى سنة تسع وتسعين وستّ ماية سيّروا يقولون له: لا عدنا نوافقك حتى تقرّر لنا ماية ألف دينار فى كلّ عام. فإنّ نحن عمارة البلاد، وبنا الصلاح والفساد. -ثمّ اجتمعوا فى عدد كثير وعزموا على قتاله، وجمع هو أيضا عساكره وقصدهم. ولم يبق غير الملتقى، فعند ذلك دخلوا مشايخ بلاد اليمن والمتطوّعة والفقها والعلماء وأصلحوا بينهم، وانفصلوا على غير قتال كان بينهم وحكى الشيخ الصالح سيف الدين أبو الحسن علىّ الآملى، قال: كنت مع الملك المؤيّد صاحب اليمن لمّا أراد الزيديّة، فكنت فيمن مشى بينهم فى الصلح. وزادهم الملك المؤيّد عشرة آلاف دينار فى كلّ سنة على معلومهم، ووقع الصلح بينهم، وانعقدت الأيمان على ذلك. ثمّ توجّهت إلى الحجاز بعد ذلك. وقال أيضا: إنّ جملة الأمر أن كان فى سنة سبع وتسعين وستّه ماية الخلف واقعا (14) بين ساير ملوك الدنيا شرقا وغربا وكذلك ذكر الحاجّ إبراهيم بن محمد المسعودىّ التاجر السفّار والحاجّ معتوق الماردانىّ والشمس محمد السنجارىّ، أجمعوا جميعهم وذكروا بالقاهرة فى سنة سبع ماية أنّ الملك أنغاى وهو ابن أخى بركة المقدّم ذكر فعله فى سوداق اتّفق (18) مع الملك بختاى وكان بينهما وقعة عظيمة. وأنّ أنغاى انتصر على بختاى واستولى على مملكته ببلاد القفجاق. وهذا بختاى لم يبلغ فى ذلك الوقت من العمر ثلاثين سنة، وكان قد صالح

(14) واقعا: واقع (18) اتفق: ابقع

غازان وهو مجاور (1) لبلاده. والمتّفق عليه أنّ ساير الملوك الذين اتّصل بنا أخبارهم الواردة رسلهم وتجّارهم إلى الديار المصريّة، كانوا فى ذلك التأريخ جميعهم شبابا (3) لم يلحقوا فى السنّ ثلاثين سنة، والله أعلم وفيها توفّى عزّ الدين ملك الأمرا الذى كان نايبا بدمشق فى الأيّام الظاهريّة. وكذلك الأمير سيف الدين بلبان الطبّاخىّ، وجمال الدين آقوش الشريفىّ، والأمير سيف الدين كرجىّ رحمهم الله تعالى وساير أموات المسلمين وفيها توجّه الأمير سيف الدين سلاّر نايب السلطنة المعظّمة بجماعة كبيرة من الأمرا والمقدّمين ورءوس المدارج من الحلقة المنصورة، وطلع أرض الصعيد بالديار المصريّة بسبب العربان ونفاقهم. وكان قد تسلّطوا تسلّطا عظيما حتى منعوا الجند والأمرا إقطاعاتهم وخراجاتهم بجميع الصعيد. فطلع إليهم الأمير سيف الدين سلاّر بهذه العدّة، فنهبوا وسبوا وقتلوا وقطعوا عالما كثيرا (13) حتى كان إذا أمسك منهم جماعة استنطقهم، فمن عقد فى كلامه القاف أتلفه ومن قالها مستقيما أطلقه. والذى أحضر إلى الأبواب الشريفة من المواشى والنّعم، خارجا عمّا ذبح ونهبوه الجيش وذبحوه فى مدّة إقامتهم بالصعيد. ما جملة عدّته ماية ألف رأس وسبعة وعشرين ألف رأس ومايتى رأس، تفصيله: المحضر إلى الإصطبلات المعمورة: خيول أربعة آلاف فرس، والمحضر إلى المناخات المعمورة: جمال اثنا عشر ألف وستّ ماية جمل، والمحضر إلى المطابخ المعمورة: أغنام ماية ألف وعشرة ألف ومايتى رأس. وقطع أيدى وأرجل

(1) مجاور: مجاورا (3) شبابا: شباب (13) عالما كثيرا: عالم كثير--إذا: إذ

ذكر [حوادث] سنة إحدى وسبع ماية

خلق لا تحصى، وكذلك وسّط وشنق عالم كثير ومهّد الصعيد إلى حين تسطير هذا التأريخ لم يسمع فيه ما كان يعهد من النفاق ومنع الحقوق للمقطعين، وتوطّد الصعيد بكماله، ولله الحمد ذكر [حوادث] سنة إحدى وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما يخصّ من الحوادث الخليفة: الإمام الحاكم بأمر الله أبو (7) العبّاس أحمد إلى حين وفاته فى هذه السنة حسبما يأتى من ذكر وفاته فى تأريخ ذلك إنشا الله تعالى، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر سلطان الإسلام أدام الله أيّامه إلى آخر الأبد وكفاه {شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ} (10) بمحمد وآل محمد، وكذلك النوّاب والملوك حسبما تقدّم من ذكرهم فى السنة التى قبلها فيها وزر الأمير عزّ الدين أيبك البغدادىّ الديار المصريّة عوضا عن الأمير شمس الدين سنقر الأعسر، وذلك فى يوم الجمعة عاشر المحرّم من هذه السنة. وهو الرابع من الوزرا المكلوتين بالديار المصريّة من أوّل زمان وإلى ذلك التأريخ. ولم يكن ذلك يعرف بالديار المصريّة من قبل. وإنّما أوّل من استنّ ذلك مولانا السلطان الشهيد الملك المنصور نوّر الله ضريحه، فوزر الأمير علم الدين الشجاعىّ وهو أوّل المكلوتين. ثمّ كان بعده الأمير بدر الدين بيدرا، ثمّ الأمير شمس الدين الأعسر، ثمّ فى هذه السنة الأمير عزّ الدين البغدادىّ. هؤلاء المكلوتين، خارجا

(7) أبو: ابى (10) السورة 113 الآية 5

عمّا كان بينهم من الوزرا المتعمّمين. وهذه كان عادة وزرا العراق إن يكونوا أمرا وتضرب على أبوابهم الطبلخاناه، وكذلك كان فى أيّام الخلفاء، وكان الشجاعىّ قد وزر بعد الصاحب برهان الدين السنجارىّ وعزل بنجم الدين بن الأصفونىّ. ثمّ عاد تولّى بعده، ولمّا غضب عليه مولانا السلطان الشهيد الملك المنصور وقبض عليه وعصره حسبما سقناه فى تأريخه المتقدّم جلس فى دست الوزارة بيدرا. ثمّ انتقل بيدرا إلى النيابة فى الدولة الأشرفيّة ورجع الشجاعىّ، فأقام أيّاما (7) قلايل حتى وصل الصاحب شمس الدين بن السلعوس من الحجاز الشريف، فاستوزره مولانا الشهيد الملك الأشرف برّد الله ضريحه، فاستمرّ وزيرا حتى استشهد السلطان الأشرف. فوزر الصاحب فخر الدين بن الخليلىّ الدارىّ. فلمّا تملّك لاجين وزر الأعسر عوضا عن ابن الخليلىّ. ثمّ قبض عليه وعاد ابن الخليلىّ. ثمّ عاد الأعسر حتى وزر البغدادىّ وفى يوم الأحد تاسع عشر المحرّم من هذه السنة رسم لساير الأمرا والمقدّمين والأعيان من الحلقة أن يتوجّهوا إلى الصيد بجهة ناحية العبّاسة من الأعمال الشرقيّة بالديار المصريّة، وأن يأخذون معهم عليق عشرة أيّام. ثمّ خرج الركاب الشريف السلطانىّ من قلعة الجبل المحروسة يوم الاثنين العشرين منه مبرّزا إلى بركة الحجّاج، وطلب الأربعة قضاة الأيمّة إلى البركة واجتمعوا بمولانا السلطان. وضرب مشور فيمن يسيّر رسولا إلى غازان صحبة رسله، فوقع الاختيار من الأمرا على الأمير حسام الدين أزدمر المجيرىّ ومن القضاة القاضى عماد الدين بن السكّرىّ.

(7) أياما: ايام

ثمّ انتقل الدهليز المنصور إلى منزلة الصالحيّة. ودخل مولانا السلطان عزّ نصره والأمرا فى ركابه إلى البرّيّة بسبب الصيد. فلمّا كان يوم الاثنين ثامن عشرين المحرّم عاد مولانا السلطان إلى الدهليز المنصور بالصالحيّة. وأخلع على ساير الأمرا بحضرة الرسل، فذهلوا لما عاينوا من ترتيب السلطنة المعظّمة وحسن هيئة الجيوش الإسلاميّة ما لا نظروا إلى (6) شى أحسن منه. ثمّ إنّ مولانا السلطان أخلع على الرسل وأنعم عليهم كلّ منهم (7) بعشرة آلاف درهم وتعابى قماش وغير ذلك. وسفروا صحبة الأمير حسام الدين أزدمر المجيرىّ والقاضى عماد الدين بن السكّرىّ، وعلى يدهم كتاب ما هذا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم بقوّة الله وإقبال دولة السلطان الملك الناصر قد علمنا ما أشار به الملك الجليل وندب إليه، وما عوّل فى قوله وفعله عليه. فأمّا قول الملك: قد جمعنا وإيّاكم كلمة الإسلام، وملّة النبىّ عليه أفضل الصلاة والسلام، وإنّه لم يطرق ولا قصد إلاّ لما سبق به القضاء المحتوم، فهذا أمر غير مجهول، بل هو عندنا معلوم وإنّ (16) السبب فى ذلك إغارة جيوشنا على ماردين، وأنّهم سبوا وفسقوا وهتكوا الحريم، وفعلوا فعل من لا له دين، فالملك يعلم أنّ ما برحت غاراتنا فى بلادكم، من عهد آبايكم وأجدادكم، وأنّ الذى فعل ما فعل من الفسّاد، لم يكن برأينا ولا من أمرانا والأجناد، بل هو من الأطراف الطمّاعة ممّن لا يؤبه إليه، ولا يعوّل فى قول ولا عمل

(6) إلى: إلا (7) منهم: منهما (16) وإن: مكرر فى الأصل

عليه، وأنّ معظم جيوشنا كان فى تلك الغارة التى فى تلك الأيّام، فى الليل قيام، وفى النهار صيام، طاوين لمّا لم يجدون ما يشترونه من القوت، فصاموا وطووا (3) ليلا يأكلوا ما فيه شبهة وحرام ولا يجب على الملك ابن الملك الذى أصله من عظم القآن جكز خان، أن يقول قولا ويقع عليه الردّ فيه قريب، ولا يظن أنّه ساعة واحدة عن أعيننا يغيب، وليعلم أنّه لو تقلّب فى مضجعه من جانب إلى جانب، أو خرج من منزله راجلا كان أو راكب، لكان عندنا علم ذلك على البريد، ونطّلع من جميع أخباره على ما نحبّ ونريد، ممّن هو إليه (8) (أقرب من حبل الوريد (9))، فإنّ أقرب بطانته إليه، هو العين لنا عليه، وإن كبر ذلك لديه، وقد تحقّقنا أنّ الملك أقام عامين يجمع الجموع، ويستنصر بالبيعة والطموع، حتى جمع وحشد، من كلّ أرض وبلد، واعتضد بالنصارى والكرج والأرمن، واستنجد بكلّ من ركب فرسا من فصيح وألكن (13)، وطلب من الموشمات خيولا وركاب، وكثّر سوادا وعدّد أطلاب ثمّ إنّه لمّا علم أنّه ليس له بجيوشنا قبل فى معركة ولا نزال، عاد إلى التلفيق بقول الزور والمحال، والخديعة والاحتيال، وأبطن خلاف ذلك، حتى ظنّ معظم جيوشنا أنّ الأمر كذلك. فلمّا التقينا كان أكثر جيوشنا يمتنع من قتاله، ويفنّد عن نزاله، ويقولوا لا يحلّ قتال المسلمين. ولا يجوز قتل من تظاهر بهذا الدين. فلهذا كان منهم ذلك الفشل، وتأخّروا عن قتالك حتى حصل ما حصل. وأنت تعلم أنّ الدايرة كانت عليك، وليس من أصحابك إلاّ من شكا

(3) طووا: طوو (8 - 9) أقرب. . . الوريد: قارن السورة 50 الآية 16 (13) وألكن: واللكن--سوادا: سواد

إليك، والحرب سجال: فيوم لك ويوم عليك، وليس هذا ممّا تعاب به الجيوش، ولا أشدّ الوحوش، فإنّ لمن قهر لابدّ أن يقهر، وهذا كان بالقضاء والقدر وأمّا قول الملك: إنّه لمّا التقينا معه مزّق جيوشنا كلّ ممزّق، فهذا مثل بكم كان أليق. وإن كان الملك كان غايب الجأش لعظم هيئة جيوشنا وصولته، فليسأل من أصحابه وكبار دولته، كيف لم يحضرهم من جيوشنا إلاّ (7) البعض، وكيف طرحوا معظم مغلكم على الأرض، وليس ينكر هذا لوقايع جيوشنا ومواقع سيوفنا من رقاب آبايه وأجداده، وما من حوى بيتكم إلاّ من هو إلى الآن لابس حداده، وسيوفنا فإلى الآن تقطر من دمايهم، وخيولنا فإلى الآن حفاة من دوس جماجمهم (10)، وإن كان جيشك قد داس أرضنا مرة، ودخل بلادنا كرّة، فبلادك لغاراتنا مقام، ولسيوفنا ذمام، فلا تغترّ بالزمان، فكما تدين تدان وأمّا قول الملك إنّه ومن معه يعتقدون قولا (13) سرّا وعلانية، فإنّ الذى جرى بدمشق فى جبل الصالحيّة. فليس يخفى على الملك إن كان مثل هذا يكون من فعل المسلمين بالمسلمين، أو عمل من هو متمسّك بهذا الدين، فأين وكيف وما الحجّة؟ وحرم بيت الرحمن الهناء يشرب فيه الخمور، وتهتك فيه الستور، وتطمث فيه البكور، وتقتل فيه المجاورون، وتؤسر (18) الخطبا والمؤذّنون، ثمّ على رأس خليل الرحمن، تعلّق الصلبان، وتهتك النسوان، ويدخل الكافر نجسا (19) سكران. فإن كان ذلك عن علمك

(7) إلا: الى (10) جماجمهم: جمايهم (13) قولا: قولاو (18) تؤسر: تاسر (19) نجسا: نجس

ورضاك، فيا خيبة مسعاك، فى دنياك وأخراك، ويا ويلك فى معادك، وعن قريب يخرّب عمرانك (2) وبلادك، وتقتل أمرايك وأجنادك. وإن كان عن غير رضاك، ولم يبلغ أذناك، فقد أعلمناك، أن ليس مطلوب به سواك، فإن كنت فى قولك صحيح الكلام، وفى عقدك وفىّ النظام، فاقتل التوامين الذين فعلوا هذا الفعال، وأوقع بهم غاية النكال، لنعلم أنّك أوضحت الحجّة، وأنت على طريق المحجّة وليعلم الملك أنّ عساكرنا لمّا وصلوا إلى الديار المصريّة وقد تحقّقوا ما تظاهرت به وما أضمرت من النيّة، وبدّلكم الميل عن الإيمان، وانتصرتم على قتالهم بعبدة الصلبان، اجتمعوا وتأهّبوا وخرجوا بعزمات محمديّة، وهمّات بدريّة، ونخوات إسلاميّة، وقلوب من الشرك بريّة، وهمم عند الله تعالى عالية مرضيّة، ووجوه بين يديه إنشاء الله بيض ضوئية، ونادوا بلسان الاستغفار، يا أمّة محمد، البدار البدار، اطلبوا من الكفّار بالثار، الحقوا أعدايكم ما داموا فى البلاد، لتشفوا منهم غلل الصدور والأكباد. فما وسع جيشكم إلاّ الفرار، وما كان لهم على الملتقى صبر ولا اقتدار. فاندفعت عساكرنا، وهى كالموج الزخّار، يجدّون فى السير الليل والنهار، إلى أن وصلوا إلى بلاد الشام، ثمّ قصدوا أن يقصدوكم فى بلادكم ليظّفروا بنيل المرام، فخشينا على رعيّتكم أن تهلك، ولا تجدون إلى النجاة مسلك. فأمرناهم بالمقام. ولزوم الاهتمام، حتى {لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً} (19)

(2) عمرانك: عمرك (19) السورة 8 الآيتان 42 و 44

<وأمّا> ما تحمّله قاضى القضاة من المشافهة فسمعناه، وجميع ما ذكره فهمناه، وأقمنا مقامه من يكون نسبته بعد ما عذرناه. وهو المشهور بدينه وعلمه، وسكينته وحلمه، لكنّه غريب منكم، بعيد (3) عنكم، لم يطّلع على بواطنكم، ولا ما انعقدت عليه ضمايركم. وإن كنتم تريدون الصلح والإصلاح، وبواطنكم كظواهركم متتابعة الصلاح، فأنت الطالب لذلك على التحقيق، ما لم يكن فى قولك تشويه ولا تمليق، فنحن نقلّدك البغى الذى من سلّه به قتل. وبهذا سار المثل، وبه أيضا شهد القرآن العظيم بمثله {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ} (8) فترسل إلينا شخصا من كبار دولتك وحكّام عشيرتك، ليكون إذا قطع أمرا أو فصل حكما، عوّلتم عليه، وأنهيتم إليه، ويكون له فى دولتكم تمكين، وهو فيما يفعله ويفصله ثقة أمين، لنتكلّم معه بما فيه صلاح ذات البين، وإن لم يكن كذلك رددناه (12) بخفّى حنين وأمّا طلب الملك الهديّة، من الديار المصريّة، فليس نبخل عليه وقدره عندنا أجلّ مقدار. وجميع ما يهدى إليه دون قدره. وإن تغالينا فى الإكثار. وإنّما الواجب أن يهدى إلينا من العراق بأصنافها، لنقابل هديّته إنشاء الله بأضعافها. ونتحقّق صدق نيّته، وما انعقدت عليه طويّته، لنفعل بعد ذلك ما يرضى الله عزّ وجلّ وإن كنّا فاعلين. ويكون محلّه عندنا أشرف محلّ {وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} (18)

(3) بعيد: بعيدا (8) السورة 35 الآية 43 (12) رددناه: والارددناه (18) السورة 1 الآية 2 وفى سور أخر

ذكر ما جرى للمجيرى عند حضوره بين يدى غازان

ذكر ما جرى للمجيرى عند حضوره بين يدى غازان كان الأمير حسام الدين أزدمر المجيرىّ بينه وبين الوالد سقى الله عهدهما صحبة أكيدة وخشداشيّة من قديم الزمان. فلمّا عاد بعد طول مدّة إقامته عند التتار، حتى هلك غازان، وتملّك خدابنداه حسبما يأتى ذكر ذلك فى تأريخه إنشا الله تعالى، فحضر عنده فى داره الوالد رحمه الله وأنا معه أسمع قال: لمّا حضرت بين يدى محمود غازان أوقفنى بعيدا منه وكلّمنى من أربعة حجّاب. فكان أوّل كلامه لى: ما اسمك؟ -قلت: أزدمر. - قال: وما لقبك وأيش تعرف؟ -قلت: لقبى حسام الدين، وأعرف بالمجيرىّ. -فقال: أنتم لكم ثلاثة أسماء لكلّ واحد حتى تكثروا فى العدّة. -قال المجيرىّ: فقبّلت الأرض وقلت: يحفظ الله القآن، نحن يشترونا التجّار من البلاد صغارا (13). ويجلبونا إلى الديار المصريّة، فيكون لنا اسم واحد. ثمّ ننتسب لاسم التاجر الذى يجلبنا (14)، فإذا كبرنا عاد لنا لقب. فالمملوك اسمه أزدمر، وكان اسم تاجرى مجير الدين، فعرف المملوك بالمجيرىّ. فلمّا كبرت وصرت من الناس معروفا لقّبت حسام الدين. -قال المجيرىّ، فأسمعه يقول: صدق. ثمّ قلت: وإنّما ننسب للتاجر لكثرة تشابه أسماينا بعضنا ببعض، فما يفرّق بيننا إلا (18) النسبة

(13) صغارا: صغار (14) يجلبنا: يجلبا (18) إلا: الى

لتجّارنا الذين جلبونا. -فقال: أيش جنسك؟ -قلت: قفجق. - قال: صدق ثمّ أمر بتقريبى إليه وكلّمنى من حاجب واحد، وذلك بعد مسايل كثيرة سألنى وأنا أصدقه وأخرج له عن أجوبتها بمعونة الله تعالى. فمن جملة ذلك قال لى: ما محلّك عند ملك مصر؟ -قلت: جندىّ. -قال: جندىّ؟ -قلت: نعم. -قال: فنظر إلى الحاجب مغضبا وقال: قل له: ملك مصر يسيّر إلى مثلى جنديّا؟ (7) ما أنت أمير عنده؟ -قلت: نعم. -قال: على بابك طبلخاناه؟ -قلت: نعم. -قال: فكيف تقول جندىّ؟ -قال: قبّلت الأرض وقلت: يحفظ الله القآن! والأمير جندىّ السلطان، والجندىّ جندىّ السلطان، ونحن عندنا كلمة تكون جندىّ، ما هو أمير، ونحن نفتخر باسم الجنديّة، وكلّنا جند الله عزّ وجلّ. قال: فأعجبه وعند ذلك الوقت قرّبنى. ثمّ قال: أنت مملوك هذا السلطان شراء ماله؟ -قلت: أنا مملوكه ومملوك أبوه وأخوه، وهو الذى عمل معى خيرا (14)، وجعل على بابى طبلخاناه. وإنّما أنا مملوك الملك الظاهر بيبرس البندقدارىّ رحمه الله ثمّ قال لى فى جملة كلام: كم رأيت مصافّا؟ -فقلت فى نفسى: ما لسكوتى محلّ، وأنا فقد بايعت الله تعالى، قال: فقبّلت الأرض وقلت: يحفظ الله القآن! أنت تصبى عمّا أقوله-. وإنّما (18) الذى قال للقآن: دعه يكلّمنى حتى أجيبه فأنا كنت مع جدّك نوبة تمر قابوا. -

(7) جنديا: جندى (14) خيرا: خير (18) وإنما. . . أجيبه: إنما الذى قال لك هذا القول يتحدث معك بين يديك، زت

قال المجيرىّ: فأطرق إلى الأرض وتكلّم مع شيخ من المغل كان قريبا منه ثمّ قال: كيف هربتم منّا؟ -قال: فقبّلت الأرض وقلت: يحفظ الله القآن! عسكر التتار لهم ستّين سنة يهربون منّا ونحن هربنا مرة واحدة، قال. ثمّ استثبتّ فى كلامى وقلت: بمرسوم القآن أتكلّم. - قال: قول! -قلت: يحفظ الله القآن! ما هربنا منكم خوفا (6) من كثرتكم ولا من عظم حزبكم، ولكن استهونّا بكم. -قال: كيف؟ - قلت: نحن كسرناكم مرّات عديدة مدّة ستّين سنة من أيّام جدّك هلاوون وأبغا ومنكوتمر وأرغون وإلى ذلك التأريخ، فبقى ملتقاكم علينا سهلا (10) من أهون ما يكون. وإنّ عساكر مولانا السلطان عساكر كثيرة وخلق عظيمة لا يعلم عدّتهم، وأعداه كثيرة من أربع جهات. فإقليم قوص مجاور (12) لبلاد السودان، تركنا فيه عسكرا. ثمّ إقليم آخر يسمّى ثغر الإسكندريّة مجاور (13) لبلاد المغاربة والإفرنج، تركنا فيه عسكرا كبيرا. وإقليم آخر (14) يسمّى ثغر دمياط مجاور للإفرنج أيضا، تركنا فيه عسكرا. ولم نخرج إليكم فى ربع جيوشنا لقلّة اكتراثنا بكم. وكان سعادة القآن كبيرة، فإنّك نلت ما لا ناله أحد (16) من جدودك و {كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً} (17) قال المجيرىّ: كلّ هذا أقوله وهو يسمع، ولم يكن بينى وبينه غير حاجب واحد، وهو يسمع كلامى وأعجبه قولى «ونلت ما لا نالته

(6) خوفا: خوف (10) سهلا: سهل (12) مجاور: مجاورا--إقليم آخر: اقليما اخرا (13) مجاور: مجاورا (14) وإقليم آخر: واقليما اخرا--مجاور: مجاورا (16) أحد: احدا (17) السورة 17 الآية 58 والسورة 33 الآية 6

جدودك» ولم يحصل له منّى حرج إلاّ فى كلام واحد، وذلك أنّه قال لى: كيف يتركون أمرايكم الرجال <النساء> ويستخدمون الشباب؟ -يعنى بذلك: المردان. قال: فعلمت أنّه يريد قتلى وأذيّتى، إذ لابدّ لى عن الجواب، قال: فقلت فى نفسى: ما من الله إلاّ وإليه، فقلت: يحفظ الله القآن! إنّ أمرانا ما كانوا يعرفون شيئا (5) من هذا، وإنّما هذا استجدّ فى بلادنا لمّا جاء إلينا طرغاى من عندكم، فإنّه ورد إلينا بشباب من أولاد التتار فاشتغل الناس بهم عن النساء. قال: فلمّا سمع هذا الجواب عظم عليه وأسخطه، والتفت إلى أعيان المغل الذين من حوله وتحدّث معهم بالمغلىّ. وأنا قد علمت أنّى مقتول، لا محالة، وأنا واقف بين يديه ثمّ قال للحاجب: قل لرفيقه: يا قاضى، تشهد على صاحبك بما قال فى مجلس القآن؟ -فأعاد الحاجب على عماد الدين بن السكّرىّ، فقال: نعم، سمعته يقول. -قال المجيرىّ: والله لم يتكلّم غازان منذ حضرنا بين يديه مع عماد الدين السكّرىّ غير هذه الكلمة ثمّ قال غازان للحاجب: قل له: ما تقول فى نساينا ونساكم؟ - قال: فعلمت أنّه يريد التأكيد فى قتلى. فتشاهدت فى نفسى وأخلصت النيّة فى لقاء الله عزّ وجلّ وقلت: يحفظ الله القآن! أنت ملك الشرق، ويقبح أن تذكر النسا فى هذا المجلس! إنّ نساءنا يستحين (17) من الله تعالى ومن الناس، ويسترن وجوههنّ (18)، ونساكم، أنتم أخبر بهنّ وبحالهنّ، - قال: فأطرق غازان إلى الأرض ساعة ورفع رأسه وقال للحاجب: أخرجهم! أرميهم فى المنجنيق!

(5) شيئا: شئ (17) يستحيين: يستحيون (18) ويسترن وجوههن: يسترون وجوههم.

قال المجيرىّ: فسحبونا من بين يديه سحبا عنيفا، وخرجنا. وقالوا لنا: أوصوا بما تختاروه لأهلكم! -قال المجيرىّ: فقمت أتوضّأ للموت، وقام القاضى عماد الدين أيضا. فسمعت حسّ طقطقة أسنانه وهو يرعد كالقصبة فى الريح البارد، قال: فتبسّمت. -فقال لى: يا حسام الدين، هذا وقت الضحك؟ -فقلت: يا قاضى {قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا} (6) قال المجيرىّ: وكان من سؤال غازان لنا قبل ذلك: كم يكون فى عسكر مصر مثلك تركىّ؟ -قلت: نيّف وعشرة آلاف. -قال: فالتفت غازان إلى أمير علىّ بن كرابك (9) بن بركة خان وكان بعيدا منه، فطلبه وقال: تسمع ما يقول، صحيح قوله؟ -وكان قد سمع قولى، فقال: وحقّ رأس القآن! ما قال صحيح، ما فى عسكر مصر مثله خمسة نفر. -فقال لى: اسمع قوله! -قلت: ومن هو ذا؟ فإنّى لا أعرفه. -فقال: هذا أمير علىّ ابن بركة خان الذى كان عندكم. -فقبّلت الأرض وقلت: يحفظ الله القآن! الذى قال هو غير الصحيح. وهو من جملة الذين ما رضى مولانا السلطان يستخدمه فى عسكر مصر. وأعطاه أربعة آلاف درهم فى حلب. ثمّ تشفّع بالأمرا حتى أنعم عليه بعشرة فى حلب. ولو وجد أربعة آلاف درهم فى مصر ما هرب إليكم. -قال: فالتفت إليه وقال له: يا علىّ، أنت من عسكر مصر أو من عسكر الشأم؟ -قال، فسكت. فقال غازان: ما قال لنا إنّه إلاّ من عسكر مصر. -فقال المجيرىّ: وحقّ رأس القآن، هو أقلّ من فى عسكر الشأم بحلب، لا بدمشق، وإن كان من مصر يخرج

(6) السورة 9 الآية 51 (9) ابن كرابك: بالهامش

منشوره بإمرته، بيان صدقه من كذبه، قال: فأمر الحاجب فأخرج أمير علىّ من قدّامه قال المجيرىّ: ولمّا خرجنا على أنّهم يرمونا فى المنجنيق خرج مرسوم ثان بأن يحبسونا فى المدرسة، ولا يمكّنوا أحدا من العبور إلينا، ولا نخرج ولا نعبر. وضيّقوا علينا غاية الضيقة فى طول تلك المدّة، قال: فعلمنا أنّ نحن من المغضوب عليهم من جهة غازان قلت: وتمام كلامه يأتى عن ذكر خلاصه ومجيه إلى الديار المصريّة إنشاء الله تعالى وفيها كان فتنة فتح الدين بن البققىّ، وذلك أنّه كان رجلا متضرّعا (9) بعلم جيّد. وكان فيه مقافزة وشمم وتطوّل على الناس بلسانه. وتسلّط على أعراض الكبار من القضاة وغيرهم. وكان كثيرا (11) ما يلعب بلسانه فى حقّ الشرع المطهّر خلاء وملاء. فلمّا كان نهار الاثنين الرابع والعشرين أحضر المذكور من السجن، وهو فتح الدين أحمد بن البققىّ الحموىّ، إلى بين القصرين، وأوقف (14) قدّام شباك دار الحديث، وهى المدرسة الكامليّة، والموالى القضاة الأربعة جلوس داخل الشباك، وجماعة العدول والفقها والمشايخ، وهو يلفظ بالشهادتين. وكانت البيّنة قامت عليه من قبل ذلك بمدّة. وكان يستحرم لتعلّقه بخدمة الأمير شمس الدين سنقر الكمالىّ أمير حاجب. فإنّه كان يلاعبه بالنرد فحصل بينهما ذات يوم فى الملاعبة مخالفة، فشطح ابن البققىّ بكلامه. وكان ربّما أنّ الأمير شمس الدين عوتب فى الباطن بسببه وتقريبه، فجعل ذلك الكلام فى ذلك الوقت سببا

(9) رجلا متضرعا: رجل متضرع (11) كثيرا: كثير (14) وأوقف: واقف

لإبعاده. وربّما تحدّث مع القاضى زين الدين بن مخلوف المالكىّ بسببه، وقال: أنا ما أحمى رجلا كافرا (2)، -فكان هذا سبب اعتقاله. فلمّا حضر ذلك (3) اليوم من السجن قامت عليه البيّنة بين يدى الموالى القضاة ممّا يوجب إهراق دمه من تنقيصه للقرآن العظيم والوقوع فى حقّ سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والاستهانة بالعلماء وغير ذلك من تحليل المحرّمات. وقد كان قبل ذلك أحضر محضرا فى سنة ستّ وثمانين وستّ ماية يتضمّن أشياء قباح لا يليق بنا ذكرها. ثمّ حضروا جماعة أخر، وشهد كلّ واحد عليه شهادة بقول قبيح من أنواع الزندقة، فنعوذ بالله من الخذلان. وكان الشهود فى ذلك الوقت أكثر من ثلاثين نفرا. فعند ذلك حكم القاضى زين الدين المالكىّ رحمه الله بقتله، وإن أسلم لا يقبل منه، وعاد يصيح: يا مسلمين، أنا أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمدا رسول الله، البعيد كافر وقد أسلم. -فلم يقبل القاضى توبته، وأمر بضرب عنقه فضربه شخص كان يسمّى علاء الدين آقبرس الموصلىّ. وحمل رأسه على قصبة، وسحب بدنه إلى ظاهر باب زويلة. فعلّق هناك. وكان قبل ذلك قد كتب فتوى وهو فى السجن، ونفّذها إلى قاضى القضاة الشيخ تقىّ الدين بن دقيق العيد رحمه الله وساير علما المسلمين فكتب عليها، (16) (إن يتوبوا يغفر لهم ما قد سلف (17)). فقالوا المالكيّة: هذه الآية نزلت فى حقّ الكفّار إذا رجعوا، ثمّ أسلموا، ثمّ رجعوا، وقتل. ولم تفده الفتوى ولا الإسلام فى ذلك الوقت. وكان الأعزازىّ الشاعر قد عمل فيه يقول <من السريع>:

(2) رجلا كافرا: رجل كافر (3) ذلك: مكرر فى الأصل (16 - 17) إن. . . سلف: قارن السورة 8 الآية 38

قل للإمام المرتضى كاشف (1) … ال‍ مشكل بين الناس والمبهم لا تمهل الكافر واعمل بما … قد جاء فى الكافر عن مسلم وقم لذات الدين واغضب له … واقض بما جئ (3) به واحكم واسفك دماء (4) … البققىّ الذى يعرف بالزنديق والمجرم فإنّه والله والصادق ال‍ … مبعوث فى الناس (5) حلال الدم وفيها وصلت القصّاد من الشرق فى شهر صفر وخبّروا أنّ غازان قد عزم على الركوب لقصد الشأم، وأنّ بولاى قد قارب الفراة. فبرز المرسوم بتجهيز العساكر المنصورة ثمّ وصل الأمير علاء الدين الفخرىّ وأخبر عن (9) الأمير زين الدين كتبغا النايب يوم ذاك بحماة المحروسة أنّ فى شهر المحرّم من هذه السنة وقع ما بين حماة وحمص برد (11) وفيه شئ على صورة بنى آدم إناث وذكور وعلى صورة قرود مع صور مختلفة. ووردت مطالعته إلى الأبواب العالية بذلك وفيها توفّى الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين أحمد إلى رحمة الله تعالى، وبويع ولده أبو الربيع سليمان

(1) كاشف زت: وكاشف--المشكل: المبهم، مصحح بالهامش--بين الناس زت: - (3) وافض بما جئ زت: واقضى بما أمر (4) دماء زت: دم --والمحرم زت: وبالمجرم (5) فى الناس زت: - (9) أخبر عن: اخبر ان (11) برد: بردا

ذكر خلافة الإمام المستكفى بالله أبى الربيع سليمان بعد وفاة أبيه رحمه الله

ذكر خلافة الإمام المستكفى بالله أبى (2) الربيع سليمان بعد وفاة أبيه رحمه الله توفّى الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى لأولى وقت السحر بالكبش المطلّ على بركة الفيل، وخطب باسمه فى ذلك اليوم صبيحة وفاته، ولم يعلم بموته، رضى الله عنه. ثمّ بعد ذلك سيّر الأمير سيف الدين سلاّر نايب السلطنة المعظّمة طلب المشايخ والصوفيّة أرباب الخوانق والزوايا بمصر والقاهرة. وتولّى غسله وتكفينه الشيخ كريم الدين شيخ الشيوخ بخانقاه سعيد السعداء، وحمل من الكبش إلى جامع ابن طولون، ونزل نايب السلطان وجميع الأمرا ومشوا فى الجنازة. ثمّ حمل إلى تربته بجوار ضريح الستّ نفيسة رضوان الله عليها وكان قد أوصى بولاية عهده لولده الإمام المستكفى بالله أبى (11) الربيع سليمان، وكان له من العمر فى ذلك الوقت عشرين سنة. وكان يوم الأربعا سادس عشر الشهر المذكور قد أحضر الإمام الحاكم جماعة الأيمّة القضاة مع عدّة من العدول، وأشهدهم عليه بولاية العهد من بعده لولده المشار إليه، وأشهد عليه أنّه ولّى مولانا السلطان الأعظم الملك الناصر خلّد الله ملكه جميع ما كان أبوه قد ولاّه فى حياته وفوّض إليه جميع ما كان أبوه قد فوّضه إليه. ثمّ لبس خلعة الخلافة وأخلع على إخوته وأولاد أخيه، وكان ذلك بالقلعة المحروسة، ورتّب له ما كان لأبيه من جميع رواتبه والله أعلم

(2) أبى: أبو (11) أبى: ابو

ذكر [حوادث] سنة اثنتين وسبع ماية

وفيها توفّى السيّد الشريف أبو نمّى نجم الدين محمد بن إدريس ابن قتادة بن حسن الحسنىّ صاحب مكّة شرّفها الله تعالى، وخلّف من الأولاد الذكور أحدا وعشرين ولدا، ومن الإناث اثنتى عشرة بنتا. وتولّى مكانه ولداه حميضة ورميثة وفيها توفّى الأمير علم الدين أرجواش نايب قلعة دمشق، رحمه الله تعالى ذكر [حوادث] سنة اثنتين وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما يخصّ من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو الربيع سليمان، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر أدام الله أيّامه. ونشر فى الخافقين أعلامه، سلطان الإسلام، والملوك حسبما تقدّم من ذكرهم، وكذلك النوّاب وفيها فتح جزيرة أرواد (13) بالسيف عنوة على يد الأمير سيف الدين كهرداش والأمير سيف الدين أسندمر نايب طرابلس. وهذه الجزيرة بالقرب من أنطرطوس فتحت بتيسير (15) الله تعالى يوم الأربعا ثانى شهر صفر المبارك، ووصلت البشاير بذلك. وأسر منها ما يزيد عن ألفى نفر خارجا عن القتلى. وكان منها مضرّة كبيرة على المسلمين ببلاد الساحل. وفيها ظهرت دابّة عجيبة من النيل بالديار المصريّة، يقال إنّها تعرف بفرس البحر، وكان ظهورها بالمنوفية يوم الخميس رابع جمادى الآخرة

(13) أرواد: اروا (15) بتيسير: بتيسر

الآخرة بين ثلاث بلاد وهم: منية المسوّد واصطبارى والراهب. وصفتها: لون الجاموس، جلدها بغير شعر، وآذان كآذان الجمل، وعيناها وفرجها مثل الناقة، ولها ذنب يغطّى فرجها طول شبر ونصف، طرفه شبه ذنب السمك، ورقبتها غلظ التلّيس المحشى تبن، وشفتاها شبه الكربال، ولها أربعة أنياب، اثنان من فوق واثنان من أسفل، طولهم دون الشبر وعرض إصبعان، وفى فيها ثمان وأربعين ضرسا (6) وسنا شبه بيادق الشطرنج الكبير، وطول يديها من بطنها إلى الأرض شبرين ونصف، ومن ركبتها (8) إلى حافرها شبه بطن الثعبان أصفر مجعّد، ودور حافرها قدر السكرجة بأربعة أظافر شبه أظافر الجمل، وعرض ظهرها ذراعين ونصف، وطولها من فرطوسها إلى ذنبها خمسة عشر قدما، ووجد لها لمّا قتلت وشقّ جوفها ثلاث كروش، ولحمها أحمر وزفرته كزفرة السمك. وقالوا إنّ طعمه مثل لحم الجمل. وغلظ جلدها أربعة أصابع ما يعمل فيه السيف شيئا. ولمّا حملوها حملت على خمسة جمال، وأحضروها إلى القلعة المحروسة. وجعلوها كالبوّ وحشوا جلدها تبنا، وأقامت كذلك مدّة كبيرة على باب الخزانة المعمورة وفيها كان المصافّ مع التتار، والأخذ منهم بالثار. وهى نوبة شقحب

(6) ضرسا: طرسا (8) ركبتها: ركبها

ذكر نصرة الإسلام على التتار الليام

ذكر نصرة الإسلام على التتار الليام لمّا كان العشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة برزت المراسم الشريفة السلطانيّة الناصريّة أعلاها الله تعالى، بتجهيز عشرة آلاف فارس من أعيان الناس بالجيوش المنصورة، يقدمهم الأمير حسام الدين أستادار والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، ويتوجّهون لحفظ الشأم المحروس، وذلك لمّا صحّت الأخبار بقصد التتار إليه، لتطمئنّ قلوب أهله. فتقدّمت هذه التجريدة فى ذلك التأريخ ثمّ وردت الأخبار أنّ التتار عدّوا الفراة البعض منهم، وغاروا على أطراف البلاد. فعند ذلك برز الدهليز المنصور السلطانىّ، وكان توجّه الركاب الشريف من الديار المصريّة العشرين من شهر رجب الفرد من هذه السنة، والسعد قدّامه، والنصر أمامه، والتوفيق رفيقه، والرفيق الأعلى قد سهّل طريقه، والملايكة قد حفّت أعلامه وصناجقه. وقد توكّل على الله خالقه، وروايح النصر قد عطّرت بشذاها الآفاق، ولوايح القهر قد ظهرت بقدرة العزيز الخلاّق، فنزل بالدهليز المنصور، وقد أحاط به الظفر بأعداه إحاطة كإحاطة السور. وليس فى الجيش إلاّ من هو فى إلفه وحلفه {لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} (17) فاستقرّ أيّده الله بالملايكة المقرّبين، وبكتابه المبين، إلى الخامس من شعبان المكرّم، فركب طالبا للعدوّ المخذول. وقد جعل

(17) السورة 13 الآية 11

النوم على جفنه الشريف محرّما (1)، إلى أن يبلّغه الله فى أعداه، غاية قصده ومنتهى مناه وكان بيبرس الجاشنكير لم تبرح آرايه معكوسة، وأحواله منحوسة، لما كان يضمره ويخفيه، من مكره الذى كان فيه، حتى عاد وكلّ رأى يظنّ أنّه ينجح، يلقى من تلقايه لا أفلح. فكان من عكس رأيه وسوء تدبيره أنّه كان مقيما بالتجاريد التى خرجت صحبته بدمشق، وهو يهدر ويرعد، ويرغى ويزبد، ويقول: وما هم التتار؟ أنا ألقاهم (7) وأبدّد شملهم بهذا الصارم البتّار. -وهو يظنّ أنّهم لا يقدمون على البلاد، إذا بلغهم أنّه فى تلك العدّة والسواد. فلمّا تحقّق مأتاهم، وتعيّن له لقياهم، أدركه الزّمع، وظهر عليه الهلع، وتزايد اصفراره، ودخلت فكوكه وطال منقاره. وخرج من دمشق وصناجقه ملفوفة، وطبوله مكفوفة، وأهل دمشق يسبّوه على هذه (12) الفعال، وكونه منع الجفّال، من الجفل فى أوّل حال، وغرّه لهم بالمحال، وخرجت فى أثره الأهل والعيال، والنسا والأطفال مع البنات ربّات الحجال، فى أنحس الأحوال، لا تعى الرجال على النسا ولا النسا على الرجال. وليس فيهم إلاّ من يدعو عليه، وهو يسمع ذلك منهم بأذنيه. فلم يزل ذلك دابه. وقد غاب صوابه، ولا يردّ على أحد جوابه وما برح على هذه الصورة، حتى ظهرت السناجق المنصورة، التى عليها آيات النصر بالتلاوة مقصورة، فلمّا عاين الجيوش الناصريّة سكن جأشه بعد الفرق. ولمّا شاهد العساكر المحمديّة حمد الله تعالى ربّ الفلق، وزال ما كان قد اعتراه من القلق، ولم يزل كذلك حتى

(1) محرما: محرم (7) ألقاهم: للقاهم (12) هذه: هذا

وقعت عينه على الأسد الهصور، والليث الكسور. والعقاب الجسور، الملك الناصر المنصور، وشاهد من وجهه سواطع النور، وهو كاللبؤة (2) إذا فارقت أشبالها، وجيوشه المنصورة قد طبّقت سهول الأرض مع جبالها، قد حفّت به الملايكة المقرّبين من كلّ ملك كريب (4)، وقد كتب بالنور على تاجه {نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} (5) فلمّا عاين من قدرة الله تعالى ما لعقله قد حيّر، وللبّه قد أبهر، ونظر، فإذا مكتوب بقلم النور على علمه الأصفر {إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} (8) ثمّ حقّق النظر عن يمينه، فإذا على طرازه مكتوب: فتح الله ونصر، وعلى يساره مكتوب: الله أكبر، هذا الملك المؤيّد بالظفر. هنالك علم أنّ هذا ليس فى قدرة البشر، وأنّه تأييد إليه تعالى فقدّر، ليحيّر فى لطايف صنعه العقول والفكر، ليعتبر بذلك كلّ من بغى عليه ولنعمته كفر، فلم يملك نفسه دون أن رمى بها، ولثم التراب. ثمّ بعدها قبّل الركاب، وهو يقرأ فى نفسه {هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ} (14) والحسد من حينئذ قد داخله. ولم يزل به حتى كان قاتله، فلله درّه ما أعدله. بدا بصاحبه فقتله. فلو كان له فى نفسه بصيرة، لألقى معاذيره (16). وإنّما أراد الله تعالى أن يقضى مقاديره، لتكون سيرته الشريفة أعظم من كلّ سيرة. وكان ملتقى العساكر الإسلاميّة بعضهم ببعض، وامتلأت بهم الأرض، نهار السبت مستهلّ شهر رمضان المعظّم أوّل النهار المبارك، وفيه كان النصر للإسلام مشارك

(2) كاللبؤة: كالبوه (4) من كل ملك كريب: بالهامش، هكذا بالأصل ولعله كروب (5) السورة 61 الآية 13 (8) السورة 48 الآيتين 1 و 2 (14) السورة 38 الآية 39 (16) نفسه. . . معاذيره: قارن السورة 75 الآيتان 14 و 15

فلمّا كان بعد صلاة الظهر ظهرت جيوش المغل تتعثّر، كالجراد الأحمر، وذلك أنّهم لمّا بلغهم أنّ بيبرس الجاشنكير خرج عن دمشق وأخلاها، وأنّها لهم خلاّها، ظنّوا أنّ ذلك منه خدعة حتى يدخلون إليها ويشتغلون بنهبها. فيعود عليهم سرعة، وكان هذا ممّا أرماه الله تعالى فى قلوبهم من الهيبة، حتى يعودوا مكسورين بالخيبة، وصان دمشق وحماها بلطفه وكلأها ثمّ التقى الجمعان، وعمل الضرب والطعان، وصبر الشجاع وفرّ الجبان، وعمل الصارم، وليمته فى الجماجم، وخطر الأسمر، يميس فى لباسه الأحمر، وغنّى الحسام، وانقطع الكلام، لمّا زادت الكلام، ورقصت الخيول، على دقّات الطبول، وهاجت بلابل الشجعان، لمّا عاد الجبان، خرسان من الخرسان (11)، وسهام الحداق فى الأحداق، والمهنّد قد {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ} (12) وعاد الأسمر بين الصفوف فى الحىّ (12_) يميل، فكم عاد له من حىّ قتيل. فلمّا تهيّأت الجزور، بعد فوران تلك القدور، تقدّمت إلى تلك الدعوة الوحوش والنسور، فأمعنوا من لحوم لا عاد لها نشور، إلاّ يوم النشور. وكلّ من الجنسين عاد للجيشين شكور، ولهذا اليوم المذكور ذكور، مع علمه أنّه فى شكره قاصر، لما فعله فى ذلك اليوم السلطان الأعظم الملك الناصر. فلمّا نظر الأسد إلى صبره وثباته، صغرت عند نفسه وثباته، وعلم أنّ ثباته بإقدامه، أعظم من وثباته وأقدامه. ولمّا عاين الذئب هذه الجسارة، علم أنّ جسارته بعدها خسارة، فقال الضبعان: لسان حالى يقصر عن وصف شجاعة هذا السلطان، وإنّما أدعو له إذا مشيت، وأنا من وليمة أسيافه

(11) خرسان من الخرسان: خرصان من الخرصان (12) السورة 38 الآية 33 (12_) فى الحى: بالهامش

شبعان. -فقال النسر للعقاب: ما آن لنا أن نروى من دم هذه الرقاب، وكيف نلام إذا حلّقنا على صفر الأعلام؟ وكيف لا يكن كلّ منّا لهذا الملك الإمام غلام؟ -فقال العقاب: أنا من قبلك بهذا البيت أتشرّف، إذ كنت لم أزل (4) غلام أعلام أخيه الأشرف، فعرف لى هذه الحقوق، ولم يبرح بارّا لا عقوق. - (5) فقال لسان الحال، فهو صاحب هذا المقال <من الكامل>: ذو راحة وكفت ندا وكفت ردى … تقضى بهلك عداته وعداته كالغيث فى إروايه وروايه … والليث فى وثباته (7) وثباته ولم تزل هذه الوليمة بين جيوش بنى يافث، وهم فى غاية الازدحام، إلى أن فرّقت بينهم جيوش حام. والجيوش الناصريّة قد أشرفت، وفى إهراق دما التتار قد أسرفت، إلى أن التجئوا إلى تلّ هناك، وقد تعيّن لهم عين الهلاك. وأحاطت بهم الجيوش إحاطة من آمن بمن كفر، لا إحاطة الهالة بالقمر. وباتوا بليلة مسودّة شيّبتها بوارق السيوف، طويلة قصّرها عندهم انتظار الحتوف. وقد يروى أنّ ليالى الهموم طوال، وهذه الليلة مع همومهم كانت عليهم أقصر من طيف الخيال. وإن {سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ} (15) وكان صباحهم كثامن يوم عاد، كأنّهم كانوا وهم على ميعاد، فأصبحوا جاثمين و {فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ} (17) فلمّا نظروا إلى ما حلّ بهم من الويل. وقد انحدرت عليهم الجيوش الإسلاميّة انحدار السيل، تحقّقوا أن لا مناص. ولا من الموت خلاص، لاموا بعضهم بعض، وقالوا: أما كان لنا معتبر (19)

(4) لم ازل: مكرر بالهامش--أخيه: أخوه (5 - 7) فقال. . . وثباته: بالهامش (15) السورة 69 الآية 177 (17) السورة 37 الآية 177 (19) معتبر: معتبرا

بما تمّ على أصحابنا بعرض؟ وأين غازان؟ لقد عرّضنا للهوان. فلو كان بهذا المكان، لطلب الأمان، من سيّد ملوك الزمان. ولم يبق منهم إلاّ من ندم وتاب، وأقلع وأناب فلمّا نظر الله تعالى إلذى ذلّهم وكسرهم، أوحى إلى قلب مولانا السلطان بجبرهم، فحنى عليهم بقلب رءوف، وأجارهم من حتوف السيوف، وعلم أنّ الإيمان من الكفر قد اشتفى، وأنّه قد قدر وعفى <من البسيط>: شمس العداوة حتى يستقاد لهم … وأكثر الناس أحلاما إذا قدروا (8) وذلك بعد ما استشار الأمرا الكبار. فلمّا علموا الأمرا أنّه داخلته الرحمة، وأنّه رأى إطلاقهم شكران هذه النعمة، أشاروا بإطلاقهم، وفك خناقهم. وذلك عند وقت الهاجرة، ففتحوا وعتقوا تلك الأمّة الفاجرة. فلمّا علموا أنّهم عادوا عتقا، ومن قبضة بأسه طلقا، صرخوا صرخة عظيمة، وولّوا الأدبار بالهزيمة، ولم يلوى منهم الوالد على الولد، ولم يزل السيف يعمل فيهم إلى آخر يوم الأحد. وعلى الجملة: فإنّه لم يصل إلى بلادهم (15) إلاّ النادر، والنادر لا حكم له، والذى وصل لم يقم إلاّ أيّاما وهلك بمرض اعتراه كالوله وكان فى يوم السبت، وهو أوّل الملتقى، حملت ميسرة التتار-وكان جمرتهم-على ميمنة المسلمين، فكسرت وقتل من أمرا المسلمين بها وأعيانهم

(8) البيت: بالهامش--شمس: شم، انظر ديوان الأخطل طبع بيروت 1891 ص 104. (15) إلى بلادهم: الا بلادهم--حكم: حلم

من يذكر، وهم: الأمير حسام الدين أستادار، وأولياء بن قرمان، وأمير علىّ بن دودا، وسنقر الكافرىّ، وأيدمر الرفا، وأيدمر النقيب، وأيدمر القشّاش، وآقوش أمير آخور، ولاجين الموصلىّ الخطّابىّ، والحسام بن ناخل مع جماعة أخر من أمرا الشأميّين، ختم الله لهم بالسعادة، وفازوا بالشهادة، عوّضهم الله الجنّة ونصر الله تعالى هذه الأمّة المحمّديّة، والعساكر الناصريّة المحمديّة، وأيّد الله الإسلام، واطمأنّت نفوس أهل الشام. ودخل مولانا السلطان خلّد الله ملكه مؤيّدا بالنصر والظفر، على رغم أنافى التتر، إلى دمشق يوم الثلثا ثالث يوم الوقعة المباركة بأرض شقحب. وزيّنت دمشق لدخوله وكان يوم عظيم بدمشق. ثمّ عاد الركاب الشريف إلى الديار المصريّة، فى جيوشه الناصريّة. وزيّنت القاهرة زينة عظيمة، ما شهد مثلها فى الأزمنة القديمة. وأقام الفرح والسرور، والغبطة والحبور، بالديار المصريّة، وبالقاهرة المعزّيّة، ما ينيف عن خمسين يوم، وكأنّها كانت فى النوم. ولمّا حلّ ركاب مولانا السلطان، وأيّده الله بالقرآن، شقّ القاهرة المحروسة، والقاهرة بزينتها كالعروسة، والأمرا من التتار بين يديه على خيولهم مجنوبة، وطبولهم البعض مشقوقة والبعض مقلوبة. وكان يوما مشهود، لم ير مثله مذ كان الوجود. وكان دخول مولانا السلطان عزّ نصره إلى القاهرة المحروسة، وشقّها وطلوعه إلى قصره واستقرار ركابه الشريف بكرسىّ مملكته وديار مصره <الثالث والعشرين (19) > من شوّال من هذه السنة العظيمة الأمن والبركة، السعيدة الإقبال والحركة

(19) الثالث والعشرين: أضيف من زت

<من الطويل>: وألقت عصاها واستقرّ بها النّوى … كما قرّ عينا بالإياب المسافر <من الكامل>: وتآنست (4) … بالقادمين منازل كانت عليها وحشة مذ بانوا ونطقت بعد ذلك ألسن أهل الفضل من الأكابر، الذين لأقدامهم صيغت رءوس المنابر، فممّا استحسن واستجيد، قصيدة القاضى شرف الدين ابن الوحيد، ابن عميد الوقت أو عبد الحميد، التى أوّلها، يقول <من الطويل>: لقد تمّت النعمى وأوضحت البشرى … وقد أعبق الفتح المبين لنا نشرا حبانا إله الخلق بالنصر والهدى … على الشرك والإيمان قد غلب الكفرا ولمّا غزا غازان عقر ديارنا … وأعطاه من يعطى ومن يمنع النصرا تمرّد طغيانا وتاه تجبّرا … ولم يرتفق سعيا ولم يستفيق سكرا وجاءت ملوك المغل كالرّمل عدّة … وقد ملأت (13) سهل البسيطة والوعرا فأنصفت الأيّام فى الحكم بيننا … فكانت له الأولى وكانت لنا الأخرى وأقبل سلطان الزمان مؤيّدا … يقود الجياد الجرد والعسكر المجرى وكان نهار السبت بالنصر شاهدا … بصدق وكان الوقت قد قارب العصرا فلله درّ الترك كم سفكوا دما … وكم قطعوا رأسا وكم جزروا نحرا فولّت ولاذت بالجبال تحصّنا … ولولا تخاف القتل لاختارت الأسرا فحمد لسلطان الزمان (19) … محمد وشكر لمولى قد أباد العدى قسرا

(4) وتآنست. . . بانوا: بالهامش--منازل: منازلا (13) ملأت: ملكت زت (19) لسلطان الزمان: لسان الزمان--العدى: الاعادى، مصحح بالهامش

أجلّ ملوك الأرض والناصر الذى … أذاق العدى ضيقا وأوسعنا صدرا فلا زالت الأقدار تحت مراده … ولا زال يعلو فوق هام السّهى قدرا وقال الآخر <من الخفيف>: ملك أينما توجّه تلقا … هـ سحاب ورحمة ورخاه فهو غيث الثّرى وغوث البرايا … أينما حلّ حلّت النّعماء وقال الآخر <من الخفيف>: ما سمعنا من قبلهم بملوك … يسبق الريح وفدهم حين يسرى بينما قيل إنّهم فى شآم … فإذا (8) هم يرون فى أرض مصر كيف راحوا وكيف جاءوا ترانا … حيرة فى أمورهم ليس ندرى نحن معهم وليس معنا حديث … عنهم بالذى من الأمر يجرى أتراهم ملايكا أم ملوكا … فى عفاف وفى اختفاء ونصر (11) وكقول الآخر <من البسيط>: بيض العوارض طعّانون من لحقوا … من الفوارس سلاّلون للنّعم (13) قد بلّغوا بقناهم فوق طاقتهم … وليس يبلغ ما فيهم من الهمم (14) فى الجاهليّة إلاّ أنّ أنفسهم … من طيبهنّ به فى الأشهر الحرم

(8) فاذا زت: واذا (11) ونصر: ونصرى (13) للنعم: النعمى (14) الهمم: الهممى

ومن ذلك قصيدة نجم الدين بن العينىّ التى منها يقول <من الكامل>: وإذا نظرت إلى السهول رأيتها (2) … تحت الضّباب فوارسا وجنايبا فكأنّما كسى النهار بها دجى … داج وأطلعت الرماح كواكبا خيل فوارسها (4) … الأسود يقودها أسد تصير لها الأسود ثعالبا ومن ذلك قصيدة محمد البزّاز المنبجىّ يمدح مولانا السلطان عزّ نصره وهى <من البسيط>: وافى على قدر ما يختاره القدر … وجاء عمّا جناه الدهر معتذر وإن أساءت لياليه التى سلفت … ظلما فقد أحسنت أيّامه الأخر وبعد إدراكك الثارات منتصرا … فكلّ ذنب جناه قبل مغتفر بشاير طار بالإقبال طايرها … لمثلها كانت الأيّام تنتظر فتح على جبهة الإسلام أسعده … بالجدّ والسعد والتأييد منتظر (11) ما شاهد الناس فتحا مثله أبدا … إلاّ فتوحا تولّى أمرها (12) عمر سارت بأخبارها الركبان واقعة … لم تحو أمثالها الأخبار والسير وفى الليالى إذا عدّت محاسنها … أسمار فى كلّ ناد ذكرها سمر عمّ السرور بها كلّ النفوس فما … للناس فى لذّة من بعدها وطر إنّ البغاة بنى خاقان أقدمهم … على هلاكهم الطغيان والأشر

(2) رأيتها: رئيتها (4) فوارسها: فورسها (11) منتظر: مقتطر (12) أمرها: أمره

راموا، وقد حشدوا، غلبا فما غلبوا … وحاولوا النصر تضليلا فما نصروا أتوا وقد مكر الله العزيز بهم … فردّ طغيانهم بالغيظ إذ مكروا وضيّقوا الأرض من سهل ومن جبل … كأنّما هم جراد فيه منتشر داسوا بلادك لا يثنى أعنّتهم … عن قصدها جهلهم والتّيه والبطر غرّتهم فلتة فى الدهر عن غلط … منها فخلّت بهم من بعدها العبر وأمّلوا أنّها مثل التى (6) … ذهبت فعوّدوا ودماهم فى الفلا غدر قابلتهم بجيوش ما لهم (7) … قبل ببأسها فلقد قلّوا وإن كثروا أفنيتهم بليوث منك باسلة … وهل تقاوم آساد الشرى الحمر فكم قتيل له من بعد صولته … تحت السنابك أمسى وهو منعقر عصابة لم تزل بالحقّ ظاهرة … فى الحرب بالله والأملاك تنتصر من سيّد الرسّل بالتأييد قد وعدت … فالنصر يخدمها ما زال والظفر يا وقعة المرج مرج الصفّر افتخرت … بك الوقايع فى الآفاق والعصر رفعت بالنصر أعلام الهدى ولقد … جرّدت للشرك كسرا ليس ينجبر يوم تدارك جمع المسلمين به … من لم يزل فى يديه النفع والضّرر يا من أوامره والله يعضده … بها الليالى مع الأيّام تأتمر لولا يثبّتك الله العزيز به … لم يبق للناس (16) لا سمع ولا بصر قرّت به أعين الإسلام وابتهجت … به القلوب وكادت قبل تنفطر يا مخجل السيف عزما وهو منصلت … والمرعب الليث بأسا وهو منتصر والثابت الجأش والأقدام فى دحض … فيه التشبّت إلاّ أنّه عسر

(6) التى زت: الذى (7) لهم زت: لها (16) للناس زت: للدين

يا ناصر الدين يا من حسن دولته … أمست على دول الماضين تفتخر أوقدت نيران حرب أصبحوا حطبا … للجمر منها لها شوك القنا شرر دارت عليهم رحاء الموت فانهزموا … فما لهم (3) بعدها عين ولا أثر وضاقت (4) … الأرض مذ ولّوا بما رحبت عليهم فهم بالخوف قد حصروا وألبسوا الذّلّ حتى إنّ أشجعهم … يأتى إليك بألف منهم نفروا وبعدها قد أمنّا كلّ حادثة … فما لنابية ناب ولا ظفر السيّد الناصر المنصور جحفله … زهت برونقه (7) الآصال والبكر هزّت معاطفها الدنيا به فرحا … وطاب بالأمن فى أيّامه العمر (9) … (أزال عنّا مخافات النفوس (9_) فما يدور بالخوف أوهام ولا فكر يا من به راقت الأوقات وابتسمت … بعد العبوس فما فى صفوها كدر لا زال ملكك ملكا لا نفاد له … ما شقّ شقّة جلباب الدجى سحر) (11) ومن قصايد البشاير ما نظم القاضى جمال الدين أبو بكر قاضى عجلون، نيّف وماية وخمسة عشر بيتا. وقد أثبتّها هاهنا بكمالها بحول الله وقوّته وهى <من البسيط>: الله أكبر: جاء النصر والظفر … والحمد لله، هذا كنت أنتظر

(3) لهم زت: بجمعهم (4) وضاقت: زت وجافت (7) بروفقه زت: بروفقها (9 - 11) أزال. . . سحر: بالهامش (9_) مخافات النفوس زت: مخافات فى النفوس

وأبرز القدر المحتوم بارثه … سبحانه بيديه النفع والضرر وهوّن الصعب بالفتح المبين لكم … ربّ يهون عليه المقفل العسر ولم تزل شرعة الإسلام ظاهرة … اجزم به فبهذا صحّح الخبر أين النجوم وتأثير القران وما … تخرّصوا فيه من إفك وما زجروا قد دبّر الله أمرا (5) … غير أمرهم وخاب ما زخرفوا فينا وما هجروا وأقبل العسكر المنصور يقدمه … من الملايك جند ليس تنحصر وقد أحفّوا (7) … به والأرض من زجل ترتجّ إن سبّحوا لله أو ذكروا كنانة الله مصر جندها ثبتت … لا ريب فيه وجند الله تنتصر (8) ثاروا سراعا إلى إدراك ثأرهم … وهجّروا فى طلاب المجد وابتكروا وأسهروا أعينا فى الله ما رقدت … أكرم بقوم إذا نام الورى سهروا لله كم ديّنوا فى نصر دينهم … وأنفقوا فى سبيل الله ما ادّخروا صانوا الجياد وسنّوا كلّ ذى شطب … وجدّدت للقسىّ النّبل والوتر حماهم الله كم حاموا وكم منعوا … وكم أغاثوا وكم آووا (13) وكم نصروا وخلّفوا خلفهم لذّات أنفسهم … وهاجروا ولذيذ العيش قد هجروا وأوجفوا نفرا بالخيل ملجمة … وبالركاب ولا ملّوا ولا فتروا حتى أتوا (16) … جلّقا فى يوم ملحمة فيه الأسود أسود الغاب تهتصر

(5) الله أمرا زت: الله (7) أحفوا زت: حفوا--زجل: رحل--لله زت: الله (8) تنتصر: تنتصروا (13) آووا زت: اوو (16) أتوا: اتو

لها (1) … السنابك فى الميدان قد حنيت صوالجا ولها روس العدا أكر وكوثر الحرب قد راقت مشاربه … تحت العجاجة والأبطال تعتكر (2) والنّبل ينقط والأقلام كاتبة … والضرب يعرب والأبدان تستطر حتى إذا عبّ مثل البحر جحفلنا … ومدّ فيضا على أعداينا جزروا أصلوهم جاحما (5) … يشوى الوجوه وقد حمى الوطيس ونار الحرب تستعر وأحرقتهم سراعا كلّ صاعقة … من السيوف بنيران لها شرر لاذو بشمّ شماريخ الجبال فما … حمتهم قلل منها ولا صور ومزّقوا شردا بين الزحام فكم … شلو تنازع فيه الذئب والنّمر أين المفرّ وقد حام الحمام بهم … هيهات لا ملجأ يرجى ولا وزر نادى بهم صارخ أغرى الفناء بهم … فإن سألت فلا خبر ولا خبر كم قد سهرتم دجى من خوفهم حذرا … فالآن ناموا فلا خوف ولا حذر قولوا لغازان يا ذا ما لعلّك أن … تروع من مخلب الريبال يا بقر تلك الجموع التى وافى يذلّ بها … تالله ما بلغوا سؤلا ولا نصروا جاءوا وقد حفروا من مكرهم قلبا … ألقاهم الله قسرا فى الذى حفروا

(1) لها زت: --أكر زت: اكروا--بعد هذا البيت بيتان ذكرا فى زت وهما: والجو أغبر والأتراك راجفة مثل الجراد على الدنيا قد انتشروا وددت لو كنت بين الصف منجدلا قد ارتوت من دمى الخطية السمر (2) تعتكر: تعتكروا (5) جاحما زت: حماحما

وشكّروا فى أراضينا مباذرة … والآن قد حصدوا أضعاف ما بذروا وافى بهم أجل يمشى على مهل … حتى محاهم فلا عين ولا أثر لم ينفروا خيفة من كلّ قسورة … وفرّ جمعهم إلاّ وهم حمر أمّوا الفراة وقد راموا النجاة فكم … حلّت بهم عبر فيها وما اعتبروا مرائر (5) … القوم من خوف قد انفطرت والكلّ من قبل عيد الفطر قد نحروا جميعهم قتلوا صبرا وأعظمهم … جميعها بضواحى جلّق صبروا لم يقبروا فى نواويس ولا جدث … وإنّما فى بطون الوحش قد قبروا والطير ترعى نهارا لحمهم (8) … فإذا ما الليل جنّ ففى أقحافهم تكر فخذ عزاءك فيهم إنّهم أمم … هم اللعاوس إن قلّوا وإن كثروا كم كابروا الحسن فى قصد الشآم وكم … قد جرّبوا حظّهم بالشأم واختبروا (10) هبّوا إلى سيس من أحلام رقدتكم … وسارعوا فى طلاب الثأر وابتدروا بكلّ غيران أخذ الروح همّته … فى غير نفس الردّى ماله وطر أيرقد الليل فى أمن وفى دعة … عن كيد قوم لهم فى شأنكم سهر (13) إن تتركوهم فإنّ القوم ما تركوا … يوما عليكم ولا أبقوا ولم يذروا أما رأيتم وعاينتم وقد فعلوا … فى الصالحيّة ما لا تفعل التتر

(5) مرائر زت: امراير (8) لحمهم: فى لحومهم، مصحح بالهامش «نصفه: لحمهم فإذا» (10) بعد هذا البيت بيت ذكر فى زت وهو: فقاتلوهم جميعا إنهم تتر كم أرسلوا رسلهم تترى وكم مكروا (13) سهر زت: سهروا

اشفوا صدروكم إن كنتم غيرا … على نسايكم يا قوم وادّكروا كم من عجوز ومن شيخ ومكتهل … ومن فتاة نماها الحسن والخفر بيضاء خرعوبة بكر (3) … محجّبة لا الشمس تنظرها صونا ولا القمر وذات بعل مخبّأة مخدّرة … من دونها تضرب الأستار قد أسروا ومطفل أثكلوا وجدا بواحدها … وحامل أخمصت خوفا وقد ذكروا ومربع أقفر من بعد ساكنه … وعقد شمل نظيم جامع نثروا وكم أراقوا وكم ساقوا وكم هتكوا … وكم تملّوا بما نالوا وكم فجروا وحرّقوا فى نواحيها فوا حربا … وخرّبوا الشامخ العالى وكم دثروا وجامع التوبة المحروق مهجته … يشير: لا توبة للقوم إن ظفروا إشارة تترك الأنفاس صاعدة … لها الدموع من الآماق تنحدر لهم حزازات فى قلبى مخبّأة (11) … تكاد من حرّها الأكباد تنفطر فما قعادكم عن أخذ ثأركم … هبّوا سراعا وخافوا اللوم يا غير وفّوهم الحرب إنصافا ومعدلة … وحرّروا نوب الأيّام واعتبروا لا يظلمن بعضكم بعضا بخردلة … ولا يدع عنده حقا ولا يذر وسارعوا واقتلوهم إنّهم قتلوا … وبادروا وأسروهم مثلما أسروا وخرّبوا (16) … دارهم واسبوا حريمهم وأوقروا ضعف ما أوعوا وما وقروا سجلا بسجل فإنّ الدهر ذو نوب … من ذا يغالب ما يأتى به القدر بزّوهم الملك قهرا عن جواركم … وخرّبوا كلّ ما شادوا وما عمروا

(3) بكر زت: بكرا (11) مخبأة زت: مخيبة (16) وخربوا دارهم: خربوا ديارهم

وسارعوا واقتلوهم إنّهم قتلوا … وبادروا وأسروهم مثلما أسروا (1) فما يفكّر فى الإدبار عاقبة … ويحزم الأمر إلاّ من له نظر ولا يعاف شراب الذلّ عن ظمإ … ويومق العزّ إلاّ من له خطر فمهّدوا بالظّبا مجرى سوابقكم … ما يرفع الذكر إلاّ الصارم الذكر وخلّدوا بالظّبا مجرى سوابقكم … ما يرفع الذكر إلاّ الصارم الذكر وخلّدوا فى المعالى ما نعنعنه … عنكم وتروى به الأخبار والسّير فكلّ ذنب جناه الدهر معتمدا (6) … فى جنب ما أبقت الأيام مغتفر يا أهل جلّق أمنا فى مساكنكم … وعاملوا الله ربّ العرش وانزجروا صوموا وصلوا وزكوا وارحموا وصلوا … وابغوا النجاة وحجوا البيت واعتمروا دعوا التكاثر بالدنيا لمن رويت … فى جنب ما وعد الرحمن تنجبروا فالوقت أقرب والأنفاس سايرة … والعيش منصرم والعمر مختصر ولا تخافوا من التتار مجلبة … من بعد ما ارتفع التدليس والعور لم يطلبوا جلّقا بغيا بظلمهم … إلا وردّوا على الأعقاب وانكسروا حاشا دمشق من الأسواء تطرقها … أو أن تغيّرها عن وصفها الغير ملايك الله (15) … تحميها وتحرسها تعاقبا ولها من ربّها خفر وفى جوار خليل الله ما برحت … وحضرة القدس قل لى: كيف تحتقر بالله عدوى على من رامها بأذى … وبالخليفة والسلطان أنتصر هما ملاذكم فى كلّ نايبة … بالروح أفديهما والسمع والبصر لمّا تأمّلت (18) … فحوى سرّ حملهما لم أدر أيّهما فى عدله عمر

(1) البيت مكرر فى الأصل (6) معتمدا: مغتفر، مصحح بالهامش (15) الله: الرحمن--تحتقر: تتحقر. مصحح بالهامش (18) لما تأملت: تأملت-- حلمهما: بالهامش عدلهما--لم أدر: م درى

ولو رأيتهما (1) … يوما لخالك أن موسى بن عمران قد وافاك والخضر <هما> رضيعا لبان عفّة وتقى … وحسن ذكر شذاه فائح (2) عطر فذاك (3) … ملك لكم طابت أرومته وذا أمير بأمر الله يأتمر أبو الربيع سليمان الذى شهدت … بفضله المستقام البدو والحضر وزمزم والصّفا والمأزمان معا … والبيت يعرفه والحجر والحجر خليفة الله فى الدنيا وطاعته … فرض عليكم وهذا القول مختصر ما زال مستكفيا بالله معتصما … مستنصرا مستعينا وهو منتصر لولاه فى الأرض قد (8) … مادت جوانبها وما سقاها إذا غيث ولا مطر خليفة من بنى العبّاس باقية … به إلى الله نستسقى فنمتطر ضاهت يداه عماد الغيث فانهملت … والغيث مندفق الشؤبوب منهمر لو مسّ عودا يبيسا بطن راحته … أعاده وهو رطب يانع خضر ماذا (12) … أقول بمدحيه وقد تليت فى مدح آبايه الآيات والسور جاءت بنعتهم التوراة معربة … ومحكم الذكر والإنجيل والزّبر به إلى الله ضحّوا فى حوايجكم … وبعده بالمليك الناصر انتصروا ملك أعيد به عصر الشباب لكم … مستوردا صافيا واستوفق العمر ترى الملوك صفوفا حوله زمرا … من فرط هيبته لا يرجع البصر تذلّ أعناقهم صغرى لطاعته … وليس يعصونه أمرا إذا أمروا صونوا جيادكم اللاّتى بكم هميت … فى بارق الحرب والرّمضاء تستعر إنّا لنرجوه من بغداد ينهلها … بماء دجلة يرويها فتصطدروا

(1) رأيتهما: ريتهما (2) فائح: فائحا (3) فذاك: فذا (8) قد: أضيف لأجل الوزن (12) ذا: بالهامش

ذكر حدوث الزلزلة فى هذه السنة

ويجمع الشمل فى دار السلام بمن … يودّها ويؤدّون الذى نذروا يؤمّها (2) … وإمام المسلمين معا ثقوا بقولى فهذا منه منتظر فالشأم وافاه مع بغداد فى قرن … ومصر فى ملكه والبرّ والبحر والعرب والعجم فى ميمون قبضته … ومن سطى (4) بأسه قد حارت التتر تنشّروا فى الفلاسود الوجوه وقد … طوى بأبيضه البتّار (5) ما نشروا فدام للدين والدنيا يسوسهما … فكن فيه له حرز (6) ومستتر وعمره الجمّ أعيادا (7) … مجددة وأشهر بعزيز النصر تشتهر على الدوام ولا زالت مدايحه … تفشى وغرّ القوافى فيه تبتكر وافاكم بعزيز النصر فى نفر … وقاهم الله ما أوفاهم نفر قد أبطنوا أنّهم جادوا بأنفسهم … من أجل ذا ظهر الإسلام مذ ظهروا كم فرّجوا مأزقا ضنكا بمعترك … وكابدوا فى مجال الموت واصطبروا فبيّض الله منهم أوجها كرمت … فإنّهم بالأيادى البيض قد غمروا وحاطهم أينما كانوا ولا برحوا … فى ذمّة الله إن غابوا وإن حضروا ذكر حدوث الزلزلة فى هذه السنة لمّا كان يوم الخميس الثالث والعشرين من شهر ذى الحجّة قبل طلوع الشمس زلزلت الأرض زلزالا شديدا لم يعهد بمصر مثلها من

(2) يؤمها: يامها (4) سطى: سطو (5) البتار: التتار (6) حرر و: سر، مكتوب بالأصل فوق سر «تحرر» (7) أعيادا: هكذا فى الأصل ولعل صوابه أعياد

قبل. ثمّ امتدّت فى جميع البلاد بالشأم ومصر، وأقامت تهتزّ تقدير ربع ساعة فلكيّة. وكان لها دوىّ كدوىّ الرعد. ثمّ إنّها هدمت مناير الجوامع، منها منارة الجامع الحاكمىّ. وسقطت أكثر جدرانه وخرّب هذا الجامع خرابا شنيعا، لم تكن أثّرت فى شى أكثر منه. وانشقّت المنارة التى للمدرسة المنصوريّة بالقاهرة التى بين القصرين إلى أن احتيج بعد ذلك إلى هدمها وعمرت كأحسن ما يكون. واختصّ بعمارة الجامع الحاكمىّ الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، وأصرف عليه من ماله شى كثير، وعاد كأحسن ما كان وأجدّ. وانهدمت أيضا منارة جامع الفاكهانيّين وهو إنشا الظاهر بن الحاكم الفاطمىّ. وانهدمت أيضا منارة جامع الصالح ابن رزيك الذى ظاهر باب زويلة وبعض جدرانه. وتشقّقت جدر جامع مصر، وهو جامع عمرو بن العاص رضى الله عنه، وتشعّب فيه شى كثير. وهدمت شيئا كثيرا (12) من منابر الجوامع والمساجد بمصر والقاهرة، وأكثر ما أثّرت فى الجوامع والمساجد. وعمروا بعد ذلك كأحسن ما كانوا. واختصّ بعمارة جامع مصر الأمير سيف الدين سلاّر نايب السلطنة المعظّمة وهدمت منارة إسكندريّة. وخرّبت أكثر دمنهور الوحش بالبحيرة خرابا شنيعا. وكذلك مدينة أبيار بالمنوفيّة، والجزيرة بالديار المصريّة. وحصل الخراب الشنيع فى ساير إقليم ديار مصر. وطلع البحر المالح إلى مدينة ثغر الإسكندريّة، فغرق كثير من قماش القصّارين وغلال كثيرة

(12) شيئا كثيرا: شئ كثير

كانت على ساحل البحر. وهاج البحر هياجا عظيما (1). وهدمت أبراج كثيرة عدّة من الإسكندريّة. وهلك جماعة عدّة من الناس تحت الردم عند حصولها فى أوّل حال. ووصلت حتى عمّت أرض برقة وبلاد تونس من المغرب، وصقلّيّة وقابس ومرّاكش. ووصلت إلى بلاد بنى الأحمر المرينيّين. وعمّت السواحل وخرّبت قبرص إلى الأرض، ولم يبقّ بها كنيسة إلاّ القليل. وذلك جميعه حسبما وردت به الأخبار من جميع هذه النواحى بعد ذلك. وكذلك عمّت أنطاكية وأعمالها إلى العلاية وأنطالية وبعض بلاد سيس. ووصلت إلى قسطنطينيّة العظمى ولبعض الأصحاب فى هذه الزلزلة خطبة جيّدة وهى: الحمد لله الذى حلم علينا فعفا! وسامحنا فغفر ما ظهر منّا وما خفا، وجمّلنا بلطفه الجميل إذ أشرفنا على شفا. أحمده على نعمه التى لا يحصى عددها، ولا يعدّ مددها، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده، لا شريك له، إله بلا فأحسن فى بلايه، وقدّر وقضا. فحكمه نافذ فى أرضه وسمايه. وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذى بمولده ظهرت الدلايل، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة دايمة البواكر والأصايل. أيّها الناس، إنّ المعاصى قد كثر عمّالها. حتى تباهيتم فى أعمالها، وفشت فى ساير الأرض وأعمالها {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ (17)} الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (18) فلذلك {زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها} (18_) {وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها} (19) ولولا رحمة الله علينا لأخرجت الأرض أثقالها

(1) هياجا عظيما: هياج عظيم (18) السورة 47 الآية 24 (17) يتدبرون: تدبرون (18_) السورة 99 الآية 1 (19) السورة 99 الآية 3 - -قارن السورة 99 الآية 2

فيا لها من ساعة يا لها. تالله لقد زهقت النفوس عندها. وطاشت العقول. إلاّ أنّ الله بلطفه ردّها، لمّا ماجت الأرض بأسرها، وظنّ أنّ ذلك يوم حشرها، فلولا ما سبق من آجالها، لهلكت النفوس عند زلزالها. فالتوبة التوبة عباد الله فى الأيّام الباقية الفانية! واستحيوا ممّن لا تخفى عليه خافية. واعتبروا بمن هلك تحت ردمها فجأة، وقد كان فى تلك الساعة فى عافية، وأصبح منزله بعد التشييد مهدوما، وماله بيد الورّاث مقسوما، وحمل إلى قبره، فعاد التراب عليه مردوما، ولم تغن عنه الدنيا وأموالها، لمّا هلك فى ساعة زلزالها! فرحم الله امرأ تاب عمّا جنا، وتقرّب من فعل الخير ودنا، وتزوّد للآخرة. فإنّ الدنيا ليست لحىّ وطنا، ولبس للخير أثوابا، فلا بدّ أن يلبس للقبر كفنا. فنسأل الله السلامة إذا حميت سلاسلها وأغلالها و {زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها} (11) {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً} (12) {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها} (13) محرّرا، يوم يفرّ الوالد من الولد، والولد من الوالد. يوم لا ينفع المال الصامت، ولا الناطق ولا التالد، يوم تنسف جبالها {إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها} (15) أعاذنا الله وإيّاكم من عذاب النار، وأسكننا وإيّاكم دار القرار {فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ} (17) وصلّى الله على سيّدنا محمد الشفيع فى القيامة عند أهوالها {إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها} (16) و {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (18)

(11) السورة 99 الآية 1 (12) السورة 3 الآية 40 (13) السورة 16 الآية 111 (15) السورة 99 الآية 1 (16) السورة 13 الآية 24 (17) السورة 99 الآية 1 (18) السورة 3 الآية 173

ذكر ما جاء من القول فى حدوث الزلزلة

ذكر ما جاء من القول فى حدوث الزلزلة قيل: إنّما يعرض للأرض من الزلزلة والخسف ما ذكروه المتفلسفين من ذلك، (3) فزعموا أنّ الأبخرة والأدخنة الكثيرة إذا اجتمعت واحتبست تحت الأرض ولا يقاومها برودة حتى تصير ماء، وتكون مادّتها كثيرة لا تقبل التحليل بأدنى حرارة، ويكون وجه الأرض صلبا لا يكون فيه منفذ للبخار، فإذا قصدت الصعود لا تجد لها منفسا، فعند هيجانها تهتزّ منها الأرض التى احتبس تحتها، وتجمع تلك الأبخرة، فتضطرب الأرض، وترعد كما يرعد بدن المحموم عند شدّة الحمّى بسبب رطوبات عفنة احتبست فى خلل البدن، فتشتعل فيها الحرارة الغريزيّة، فتذيبها وتحلّلها وتصيّرها بخارا ودخانا، فتخرج من مسامّ جلد البدن، فيهتزّ من ذلك البدن ويرعد، ولا يزال كذلك إلا (11) أن تخرج تلك الموادّ. فإذا خرجت سكن، وعلى هذا القياس حركات بقاع الأرض بالزلازل. وربّما ينشقّ ظاهر الأرض ويخرج من ذلك الشقّ تلك الموادّ المحتبسة، والله عزّ وجلّ أعلم بحقائق الأمور ومن كلامهم أيضا فى صيرورة السهل جبلا والجبل سهلا والبرّ بحرا والبحر برّا: ذكرت أصحاب هذا العلم: أن إذا امتزج الماء بالطين وكان فى الطين لزوجة، وأثّر فيه حرارة الشمس مدّة طويلة صار حجرا، كما أنّ النار

(3) من هنا إلى ص 108 س 10 نقلا من كتاب «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» تأليف زكريا القزوينى. ويلاحظ أن مخطوطة مؤلفنا تختلف فى بعض الأماكن مع نشر وستنفلد (كوتنجن 1849) لهذا الكتاب. وقد غيّرنا بعض كلمات من المتن استصوبناها عند وستنفلد ورمزنا له بالحرفين زق (11) إلى: إلا

تؤثّر (1) فى الآجرّ وقد كان لبنا، فعاد بحرارة النار آجرّا، نوعا من الحجر إلاّ أنّه رخو (2). وكلّما كان تأثير النار فيه أكثر كان أصلب وأشبه بالحجر. ثمّ زعموا أنّ تولّد الجبال من اجتماع الماء والطين وتأثير الشمس. وأمّا سبب (3) ارتفاعها وشموخها فجاز أن يكون بسبب زلزلة فيها خسف، فيخفض بعض الأرض ويرتفع بعضها. ثمّ المرتفع يصير حجرا بالمثال الأوّل، ويجوز أن يكون بسبب الرياح: تنقل الرياح التراب من مكان إلى مكان، فتصير تلالا ووهادا (7)، ثمّ تتحجّر بالمثال المذكور أوّلا وذكر صاحب علم المجسطى: أنّ فى كلّ ستّة وثلاثين ألف سنة تنتقل أوجات الكواكب وتدور فى البروح الاثنى عشر دورة واحدة، فإذا انقلبت من الشمال إلى الجنوب تختلف مسامتات (10) الكواكب ومطارح شعاعها على بقاع الأرض، فيختلف بها الليل والنهار والفصول الأربعة، وتتغيّر الأرض، فيصير الخراب من الأرض عمرانا، ويصير العمران منها خرابا، والبرارى بحارا والبحار برارى، والسهول جبالا والجبال سهولا. وأمّا صيرورة الجبال سهولا: فإنّ الجبال من شدّة إشراق الشمس والقمر وساير الكواكب عليها بطول الأزمنة تنشف (15) رطوباتها، وتزداد يبسا وجفافا. وتتكسّر خاصة عند الصواعق، فتصير صخورا وحجارة ورمالا. ثمّ إنّ السيول تحملها إلى بطون الأنهار والأودية المنخفضة (17) وإلى البحار

(1) تؤثر: تاثر--فى: مكرر فى الأصل (2) رخو: رخوا (3) سبب: مكرر فى الأصل (7) تلالا ووهادا: تلال ووهاد (10) مسامتات زق: مسافات (15) تنشف: تنشق، مصحح بالهامش (17) المنخفضة: المنخفظة

المجاورة، فتبسط فى قعرها سافا (1) بعد ساف بعضا على بعض، فيحصل فى قعور البحار جبال كما تتربّى الجزاير وكما يتلبّد (2) من هبوب الرياح أدعاص الرمل فى البرّ. وكذلك قد يوجد فى جوف الأحجار إذا كسرت صدفة وعظم (4) وغير ذلك، ممّا يكون فى أخلاط الطين الذى صار حجرا. وقد يصير البحر يبسا واليبس بحرا، وذلك كلّما انضمّت (5) قطعة من البحار على الوجه المذكور. فالماء يرتفع ويطلب الاتّساع على سواحله ويغطّى بعض البرّ بالماء، ولا يزال كذلك حتى يصير بحرا، ويغطّى ذلك البرّ. ويعود البحر برّا بما تولّد فيه وتراكم من الأحجار الواردة من الجبال المتكسّرة مع السيول المنصبّة إلى البحار مع ما تجرّ معها من الطين والتراب. فينعقد فيها بالمثال المذكور حتى تساوى الأعلى من الأرض فيعود البحر برّا والبرّ بحرا. ثمّ يصير فيها الحشيش والعشب والأشجار، وتصير مسكنا للسباع والوحوش ويقصدهم الناس لطلب المنافع من الصيد ومن الحطب وغير ذلك. ثمّ يصير مسكنا وموضعا صالحا للزراعات والغروس، فتكون مدنا وقرى بعد أن كانت بحارا، فسبحان المدبّر الحكيم {خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (14) {وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (15)

(1) سافا زق: ساف--بعضا: بعض (2) يتلبد زق: يتبدل--أدعاص: دعاص (4) عظم: عظما--مما يكون: فما يكون ذلك (5) انضمت: انظمت (14) السورة 6 الآية 102 وفى سور أخر (15) السورة 64 الآية 1 والسورة 67 الآية 1.

ومن كتاب عجايب المخلوقات وبدايع الموجودات

ومن كتاب عجايب المخلوقات وبدايع الموجودات (1) قوله تعالى جلّ وعزّ {وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَااسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} (3) فقال بعضهم: لو لم تكن الجبال لكان وجه الأرض مستديرا أملس، وكانت (4) مياه البحار تغطّيها من جميع جهاتها وتحيط بها إحاطة كرة الهواء (5) بالماء. فبطلت الحكمة المودعة فى المعادن والنبات والحيوانات، فاقتضت الحكمة الإلهيّة وجود الجبال لوجود ذلك وقال بعضهم: إنّ الجبال سبب (7) لوجود الماء العذب السايح على وجه الأرض الذى هو مادّة حياة النبات والحيوان. وذلك لأنّ سبب هذا الماء انعقاد البخار فى الجوّ، فيصير سحابا، فالجبال الشامخة الطّوال فى الشرق والغرب والجنوب والشمال تمنع الرياح أن تسوق البخار، بل تجعلها منحصرة حتى يلحقها البرد. فتصير مطرا أو ثلجا. فلو فرضت (11) الجبال مرتفعة عن وجه الأرض لكانت الأرض كرة لا غور فيها ولا نتوء. فالبخار (12) المرتفع لا يبقى فى الجوّ منحصرا إلى وقت يضرّ به البرد. بل يتحلّل ويستحيل هواء، ولا يجرى الماء على وجه إلاّ قدر ما ينزل مطرا. ثمّ تنشفه الأرض، فيعرض من ذلك أنّ الحيوان والنبات يعدم الماء فى الصيف عند شدّة الحاجة إليه كما فى البادية البعيدة. فاقتضى التدبير الإلهى وجود الجبال

(1) ما ينقل من «كتاب العجائب» يبتدئ من ص 104، راجع الهامش الأول هنالك-- الموجودات: الموجدات--وبدايع: فى عنوان كتاب القزوينى «غرائب» (3) السورة 16 الآية 15 والسورة 31 الآية 10 (4) وكانت زق: ولكان (5) الهواء: الهوى (7) سبب: +زق (11) فرضت زق: فوصت (12) فالبخار زق: فالعال

لتحصر الماء المرتفع من الأرض بين أغوارها وتمنعه من السيلان وتمنع الرياح أن تسوقها، فيبقى فيها محفوظا إلى أن يلحقه البرد زمان الشتا فيجمّده ويعصره فيصير ماء. ثمّ ينزل مطرا أو ثلجا، والجبال فى أجزايها مغارات وأودية (4) وأوشال وكهوف، فتقع على قللها الأمطار والثلوج، وتنصبّ إلى تلك المغارات والأوشال، وتبقى فيها (5) مخزونة وتخرج من أسافلها من أماكن تسترقها من منافذ ضيّقة، وهى العيون التى تكون فى الجبال وأسفاحها، فيسيح منها على وجه الأرض، فينتفع به الحيوان والنبات، وما فضل منه ينصبّ إلى البحار. فإذا فنى ما استفادته (8) من الأمطار والثلوج لحقتها (9) نوبة الشتا، فعادت إلى ما كانت عليه. ولا يزال هذا دأبها إلى أن {يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ} (10) والله أعلم وفيها ظهرت نار عظيمة بأرض الشأم والسواحل، وعمّت جميع أرض الشأم مع السواحل والأغوار وبلاد حوران وزرع وأذرعات، وجفل منها السباع وجميع الوحش. وكانت إذا مرّت بشى من الزراعات أو من الأشجار المثمرة لا تؤذيه. ولقد ذكر لى بعض فلاّحى قرية خسفين الجولان من أرض حوران: أنّهم كانوا يرون هذه النار وهى على رءوس الشجر وأعلى الزرع ويخشون منها على الأثمار وعلى الزروعات فلم يحصل منها أذى ولله الحمد

(4) وأودية: واهويه، مصحح بالهامش--فتقع زق: وتقع (5) فيها زق: فيه (8) استفادته زق: استفاد (9) لحقّها زق: لحقها--هذا: +زق (10) السورة 2 الآية 235

ذكر [حوادث] سنة ثلاث وسبع ماية

وكانت هذه سنة مباركة كثيرة الخير والخصب. وكانت هذه الضيعة المسّماة بخسفين من إقطاع الوالد رحمه الله لمّا انتقل من مصر إلى الشأم فى سنة عشرة وسبع ماية وفيها توفّى الأمير زين الدين كتبغا الذى كان يلقّب بالملك العادل، وكان يومئذ بحماة نايبا بها. وكانت وفاته مستهلّ شهر ذى الحجّة سنة اثنين وسبع ماية. رحمه الله تعالى ذكر [حوادث] سنة ثلاث وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما يخصّ من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أمير المؤمنين أبو الربيع سليمان، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر سلطان الإسلام. وإمام الأنام، المتشرّفة بدوام أيّامه الأيّام. مالك نواصى ملوك الزمان. جعله الله من حوادث دهره فى أمان، والنايب بالممالك الشريفة بالديار المصريّة: الأمير سيف الدين سلاّر. وأتابك الجيش: الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير. والوزير: الأمير عزّ الدين أيبك البغدادىّ. وأمير حاجب: الأمير شمس الدين سنقر الكمالىّ. وأمير جاندار: الأمير سيف الدين بكتمر الجوكدار. ونقيب الجيوش المنصورة: الأمير علاء الدين طيبرس الخزندارىّ والنوّاب بالشأم، دمشق: الأمير جمال الدين آفوش الأفرم. وحلب: الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورىّ. وحماة الأمير سيف الدين قبجق بعد كتبغا بحكم وفاته، وطرابلس، الأمير سيف الدين أسندمر. وحمص

ذكر دخول العساكر الإسلامية سيس

الأمير ركن الدين بيبرس العلايىّ، والرحبة: الأمير بدر الدين محمد بن الأزكشىّ، والبيرة: الأمير سيف الدين طوغان، وقلعة المسلمين: الأمير فخر الدين أياز، والكرك المحروس: الأمير جمال الدين آقوش الأشرفىّ، وغزّه: الأمير سيف الدين آقجبا والملوك بأقطار الأرض حسبما وصل علمنا إليهم فى نقل أسماهم ومعرفة أقاليمهم حسبما تقدّم من (6) ذكرهم فى سنة سبع ماية، خلا صاحب مكّة شرّفها الله تعالى، فإنّه توفّى فى تأريخ ما تقدّم، وولى مكانه ولديه حميضة ورميثة، وهما فى هذه السنة ملاّك الحجاز بمكّة صانها الله تعالى ذكر دخول العساكر الإسلاميّة سيس لمّا كان العشرين من شهر رمضان المعظّم من هذه السنة خرج من الديار المصريّة ثلاثة مقدمين وهم: الأمير بدر الدين بكتاش الفخرىّ أمير سلاح، والأمير ركن الدين الدوادار، وشمس الدين آلدكز (12) السلحدار، ومن العساكر الشأميّة ألفى فارس والمقدّم عليها الأمير سيف الدين بهادر آص والأمير سيف الدين كسكلى، وخرج أيضا صحبتهم الأمير سيف الدين قبجق بعسكر حماة، والأمير شمس الدين قراسنقر بعسكر حلب، وأسندمر بعسكر الساحل (15). فعند ما وصلت الجيوش إلى غزّة حصل للأمير بدر الدين أمير سلاح تشويش، فأقام بغزّة. وتوجّهوا العساكر الشأميّين (17) وافترقوا فرقتين، إحداهما صحبة الأمير سيف الدين قبجق والأخرى صحبة الأمير (18) شمس الدين قراسنقر.

(6) من: مكرر فى الأصل (12) آلدكز: اللدكز (15) وأسندمر بعسكر الساحل: بالهامش (17) الشأميين: بالهامش--إحداهما: احدهما (18) صحبة الأمير: صحبة للأمير

فأمّا التى مع قبجق فتوجّه بهم من جهة قلعة الروم ودخل الدربند، فغاروا ونهبوا وقتلوا من لقوا فى طريقهم. ونازلوا بعد ذلك تلّ حمدون، وحاصروها وضيّقوا عليها، وفتحوها يوم الخميس ثالث وعشرين ذى القعدة. وكان فتحها بالأمان، ووقع الاتّفاق مع صاحب سيس على أن يكون للمسلمين من جاهان إلى حلب وله من حدّ النهر ورايح، ويعجّلوا بحمل جميع ما هو عندهم متأخّر فى تلك السنين المقدّمة. ثمّ أرسلوا إلى القلاع التى بقيت. وهى سبع قلاع منها: نجيمة والنقيّر وغيرهما من قلاع سيس. وكان قد أعطوا للرجّالة الأمان إلى نهر جاهان. فلمّا وصلوا بهم إلى النهر تبعتهم الطمّاعة والنهّابة، فقتلوهم ونهبوهم ووجدوا فيهم سبعة ملوك من ملوك الأرمن وهم أصحاب القلاع السبع. وكان صاحب سيس قد احتال عليهم وسيّر نايبه إلى تلّ حمدون وصحبته خزانة مال ويقول للملوك: تحضروا إلى تلّ حمدون، تأخذوا منها نفقة تنفقوها فى رجّالتكم وتحصّنوا قلاعكم. فقد تحقّقت أنّ هذه العساكر غيّارة. -قال. فحضروا الملوك المذكورون إلى تلّ حمدون، ونفق فيهم يومين وفى اليوم الثالث احتاط بهم العسكر المنصور، فما بقى لهم سبيل إلى الخروج فلمّا ملكت تلّ حمدون وأمّنوا من بها وتوجّهوا إلى نهر جاهان مسيرة يومين من العسكر وصلت قصّاد صاحب سيس تقول للأمرا الإسلاميّة: هؤلاء هم الملوك أصحاب القلاع وأنتم تعلموا أنّ بلادى قد خربت. وهؤلاء ما كانوا يوافقونى على مصلحة السلطان ويمنعوا الحمل ويقولوا: خلّى. أنت منّا للمسلمين. -فعند ذلك سيّروا الأمرا خلفهم وردّوهم إلى عندهم وضربوا رقاب الباقى من أصحابهم. وكان اسم كبير هؤلاء الملوك السرماق. وهو صاحب قلعة نجيمة. فلمّا تحقّق أنّ صاحب

ذكر وفاة غازان وتملك خدابنداه

سيس الذى عمل عليهم وعلى أسرهم، قال للأمرا: أنا ما بينى وبينكم إلا قول لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله. -وأسلم، وقال للأمرا: أنا أتوجّه صحبتكم إلى خدمة السلطان وآخذ معى ألف فارس وأفتح للسلطان من نهر جاهان إلى جبال ابن قرمان، فتكون بلاد سيس والروم بكمالها للمسلمين. - فقالوا: حتى نشاور السلطان على ذلك وفيها فى خامس عشر ذى القعدة وصل قصّاد من الشرق من سنجار وأخبروا بوفاة غازان فى سابع شهر شوّال، وجلس أخوه خذابنداه. - وخطب باسمه بسنجار يوم (8) الجمعة خامس عشر الشهر المذكور ذكر وفاة غازان وتملك خدابنداه كان سبب هلاك غازان أنّ زوجته هميا خاتون سمّته. وهذه كانت زوجة بلغاق شاه، وكانت (11) من قبل زوجة أبيه. وكان قبل موته قد أمر بعمل سفن كثيرة لأجل أنّه ينصب جسرا (12) على الفراة. وكان قصده فى تشارين يقصد الشأم. فأخرم الدهر عليه حسابه، وعجل الله فى النهاية (13) مصابه، وفى الآخرة عقابه. وكان قد تغيّر على الأمرا المغل والتوامين من أيّام الكسرة وشرع يهدّدهم ويعنّفهم. فاتّفقوا مع زوجته على هلاكه، فسمّته فى منديل. فلمّا كان بينهما المجامعة مسحته بذلك المنديل فنزلت أمعاؤه (16) وبطل نصفه. وقيل: إنّهم شقّوا له جوف أربعين بغل وقيل أكثر. -وسقى جواهر عظيمة فلم تفده. وقيل: إنّه انصلح قليلا، ثمّ نقض عليه حتى عاد هالك. -وانتقل من ملك العراقين إلى مملكة مالك. ولمّا توفّى حضر إليه

(8) يوم. . . المذكور: بالهامش (11) كانت: كان (12) جسرا: جسر (13) فى النهاية: بالهامش (16) أمعاؤه: أمعاه

عالم عظيم. وكانت وفاته بالقرب من همدان، وحمل إلى تربته بظاهر تبريز بمكان كان سمّاه الشأم ودفن به، والله أعلم وفيها كان مهاجرة الأمير بدر الدين جنكلى بن البابا إلى الأبواب العالية السلطانيّة، وصحبته جماعة من كبار التتار، من جملتهم أخو الأمير سيف الدين قطلو بك. وكان منزلة هذا الأمير بدر الدين جنكلى ومقامه عند آمد، وله مدّة يكاتب الأبواب الشريفة، وكان جدّه البابا فى زمان الملك أبغا أميرا كبيرا ولقبه جمال الدين. وأبو هذا الأمير بدر الدين يسمّى شمس الدين محمد بن جمال الدين بابا، له آثار حسنة فى الإسلام، وهو الذى ردّ التتار عن بلاد الإسلام فى أيّام الملك أرغون بن أبغا، وكان مقدّم جيوش التتار قد نزل من خراسان يسمّى أرعضون (10) وقصدوا دخول الشأم، فاحتال هذا الأمير شمس الدين محمد بن البابا وقرّر مع أناس قصّاد أن قالوا للتتار: إنّ البلاد مملوءة بالعساكر الإسلاميّة، وأخافهم حتى ردّهم على أعقابهم. (12) - وكان عمّ هذا الأمير بدر الدين أيضا مسلما حسنا يسمّى شرف الدين مغلطاى- (13) وفيها يوم الاثنين سابع عشر شوّال تولّى الوزارة بالديار المصرّية ناصر الدين الشيخىّ بعناية الأمير ركن الدين الجاشنكير عوضا عن البغدادىّ وفيها يوم الثلثا الخامس والعشرين من رجب توفّى الأمير سيف الدين بكتمر السلحدار الظاهرىّ، رحمه الله. وفى ثانى جمادى الأولى توفّى الأمير عزّ الدين أيبك الحموىّ، رحمهما الله تعالى

(10) أرعضون: كذا فى الأصل ولعل صوابه «أرغون» (12 - 13) ان البلاد. . . شرف الدين مغلطاى: بالهامش

وفيها كان خروج الوالد-سقى الله تربته-للكشف على عربان بالشرقيّة، وهم ثعلبة وجذام والعايد. وندب صحبته من ديوان الاستيفا القاضى المرحوم مخلص الدين أبو شاكر بن العسّال وأعرضت العربان بصوة العبّاسة بالأسما والحلى، وسبب ذلك أنّ هؤلاء العربان أمرا ولهم أخباز من جهة السلطنة المعظّمة، وهم عدّة ألف وسبع ماية فارس مستخبزة، ومن تحت أسماءهم قوم يأكلون من غير هذه العدّة يسمّون المحرّمة، وهؤلاء العربان عليهم إقامة خمس عشرة منزلة بمنازل الرمل بالطريق الشأميّة، أوّلها من جهة مصر منزلة السعيديّة وآخرها من جهة الشأم كان فى ذلك الوقت منزلة رفح. وإنّما فى هذا الوقت عند الرّوك الناصرىّ تضوّروا العربان من اتّساع الدرك، فحمل عنهم السلطنة منزلتين، وهما رفح والزّعقة، وصار آخر أدراكهم منزلة تعرف بالخروبة. ويقيمون فى هذه الخمس عشرة منزلة ماية وخمسين فرسا، فى كلّ منزلة عشرة أرؤس برسم البريد المنصور. هذا يختصّ بقبيلتى جذام وثعلبة، وعليهم خفر (14) ساير هذه الطرقات إلى عند دار الضيافة التى تحت القلعة مع جبل المقطّم، مقرّر عليهم خفر ذلك من تقادم السنين من أوّل وقت، وعلى قبيلة العايد خفر الطريق البدريّة، وهى الطريق الفوقانيّة بالبرّيّة، عرضها ثمانية أيّام تسلكها التجار المشوّرين عن الحقوق السلطانيّة الموجبة بقطيا. وهذه الطريق كانت المسلك إلى الديار المصريّة من الشأم أيّام كانت الفرنج ملاّك الساحل. ثمّ لمّا فتح الله تعالى البلاد على يد السلطان المرحوم صلاح الدين الملك الناصر بن أيّوب أوّل ملوك بنى أيّوب ارتجعت الطريق هذه المتقرّة ودثرت هذه الطريق البدريّة. وما برحت الملوك بالديار المصريّة مجتهدين

(14) خفر: بالهامش

فى دثور هذه الطريق بالإجماع ومنع السالك منها، فإنّها عادت مضرّة على الديار المصريّة من عدّة وجوه: من تشوير التجّار عن الحقوق الموجبة عليهم بالطرق السلطانيّة من الشأم إلى مصر، ومن تطرّق القاصد والجاسوس من جهة العدوّ المخذول، فإنّه يعبر ويخرج من الديار المصريّة ولا يعلم به وكان الوالد رحمه الله اجتهد فى حفظ هذه الطريق ومنع السالك منها، وألزم هؤلاء العايد بحفظ أدراكهم فيها. فإنّ السالك فى هذه الطريق لا يقدر يعبر إليها إلاّ بدليل من هؤلاء القبيلة العايد. فإنّها طريق مشقّة ومفاوز، وهى فى التيه ولا لها درب سالك. وإنّما فى النهار يسيرون على رءوس الروابى والآكام، يعرفوها هؤلاء العرب المذكورون، وفى الليل يسيرون على النجوم، ويوردون ماء ويصدرون عن آخر، لا يكاد يبيتون إلاّ على ماء، ولكلّ ماء اسم يعرف به. ما يزيد عن أربعين ماء فى طول هذه المسافة وعرضها. والذين (12) يشوّرون فى هذه الطريق أكثرهم-إذا كانوا من الديار المصريّة-يشوّرون من الصعيد بالأصناف النافقة بالشأم مثل الكتّان والشقاق الخام وغيره. فيتوجّهون البعض من إطفيح والبعض من شرونة والبعض من قبال مدينة أسيوط، ثمّ من أخميم، ويخرجون بعد ذلك حيث شاءوا بعد أن يتعدّون قطيا. فمن شا منهم خرج من منزلة الواردة، ومن شا خرج من منزلة العريش أو الزعقة أو رفح وغيرهم فى طول منازل الرمل. فهذا درك عرب العايد إلى عقبة الحجّاج الكبيرة. وأمّا درك الطور وهو طور سينا، فهو على عرب يقال لهم بنى سليمان، ومنهم أدراك بنى عقبة عرب الكرك والشوبك

(12) والذين: والذى

وهذا الطور فمن عجايب الدنيا. وهو الذى كلّم الله تعالى فيه موسى تكليما (2). وله درج إلى أعلاه عدّة سبع ألف وثمانى ماية درجة. وهناك دير عظيم ما بنى فى جميع الأديرة له نظير. ومقيم بها نيّف وأربع ماية راهب، أكثرهم ملوك وأولاد ملوك من الفرنج، قد خرجوا عن الدنيا وانقطعوا عن العالم، يعبدون الله عزّ وجلّ على دينهم وأمرهم إلى الله تعالى. وهذا الطور على بحر المالح، ومأكلهم السمك الكثير يعملوه عدّة ألوان (7). والتمر والعجوة والرطب الكثير. فإنّ ثم هناك نخيلا كثيرة فى غاية الحسن. وأكثرهم متموّلين وفيهم خير. وعندهم لم تبرح القمصان الخام والطواقى والمشّايات يؤثروا (9) بها الحجّاج التايهين من الرّكب. وربّما أنّهم كانوا فى غير هذا الوقت إذا وصل إليهم إنسان وشكى لهم فاقة وفقرا (11) وعايلة وتحقّقوا ذلك منه يقولون له: تقترض للآخرة؟ -فإن قال: نعم، أعطوه على قدر ما يروه من الألف والألفين وأكثر وأقلّ. هذا كان من قبل هذا الوقت، وإنّما فى هذا الوقت ما عادوا يعطون إلاّ من يخشوا منه، والله أعلم ثمّ إنّ على هؤلاء العربان المذكورين (15) السياق السلطانىّ، وهو ألف جمل يحملوا عليهم أثقال السلطنة عند توجّه الركاب الشريف السلطانىّ إلى الشأم المحروس. ثمّ إنّ كلّ من توفّى من هؤلاء العربان لا ينزل ولده كان أو أخوه أو ابن عمه أو إذا كان ماله وارث كان من أقرب أقاربه أو من طايفته حتى يزن ما على ذلك الإقطاع من الرسم المقرّر، وهو كلّ إقطاع عليه رسم قد قرّر من قديم الزمان على قدر العبرة، فمن خمس ماية دينار إلى ثلاثين دينار حبشيّة

(2) كلم. . . تكليما: قارن السورة 4 الآية 164 (7) ألوان: اللوان-- نخيلا: نخيل (9) يؤثروا: يامروا (11) فقرا: فقر (15) المذكورين: المذكورون

فكان موجب خروج الوالد إلى العربان لوجهين: لانكسار خيل البريد وقلّة اكتراثهم بمن يخرج إليهم من الأمرا وغيرهم، ولأجل أنّهم كانوا إذا توفّى منهم أحد دخلوا إلى ديوان العربان وصانعوه بشئ وركّبوا اسما (3) على اسم بغير الرسم المقرّر. فاطّلع نايب السلطان الأمير سيف الدين سلاّر على ذلك، وتحقّق أنّ أىّ من أخرجه من الأمرا دخلوا عليه وقدّموا له الخيول والجمال والأغنام، فلا يظهر السلطان بعد ذلك على شى. وكان يعرف الوالد من أيّام الشهيد الملك المنصور والشهيد الملك الصالح، ويتحقّق منه الأمانة والتصميم (7) على حفظ مال السلطان، فألزمه بذلك صورة كشف وتعوّد. ثمّ درّجه حتى ولاّه الأعمال الشرقيّة مضافة للعربان بأمره. فاستقرّ إلى حين عودة الركاب الشريف من الكرك المحروس ثالث مملكة. فاعتفى من الولاية، فأعفاه مولانا السلطان، عفى الله عنه فى الدنيا والآخرة، وخيّره بين الإقامة بمصر أو الشأم، فاختشى أن يستدركوا فيه الفارط، ويعود إلى الولاية. فطلب الشأم فتصدّق عليه بإمرة بالشأم، ورتّب مهماندارا بالشأم المحروس. ثمّ لمّا تولّى الأمير سيف الدين كراى المنصورىّ نيابة الشأم كاتب فيه وأضاف إليه شادّ الدواوين بدمشق اغتصابا لا اختيارا منه. فأقام إلى أن تولّى الأمير جمال الدين نايب الكرك نيابة الشأم، فاستعفى، فأعفى فى حديث طويل جرى عليه من الدماشقة. وأرادوا قتله، فسلّمه الله تعالى بنيّته المباركة. وعلى الجملة إنّه أقام فى الأعمال الشرقيّة إحدى عشرة سنة، وأضيف إليه بها نظر قطيا وأشمون الرمّان. ولمّا توجّه إلى الشأم لم يكن معه ما يصلح به حاله للسفر حتى أباع ملكه سكنه بثمانية عشر ألف درهم وتجهز بها حتى خرج إلى الشأم. ولمّا توفّى رحمه الله بدمشق

(3) اسما: اسم (7) والتصميم: والتصمم

ذكر [حوادث] سنة أربع وسبع ماية

وجدت عليه ثلاثة عشر ألف درهم دين، وكان قد ولى بدمشق أكبر مناصبها بعد النيابة، فلم يلتمس لأحد من خلق الله تعالى الدرهم الفرد، ولا أكل لأحد اللقمة الخبز، والله على ما أقول وكيل وفيها توجّه إلى الحجاز الشريف الأمير سيف الدين سلاّر وصحبته الأمير عزّ الدين سنقر الكمالىّ أمير حاجب، وفعلا من المعروف فى هذه الحجّة شيئا كثيرا (6) جدّا، والله أعلم ذكر [حوادث] سنة أربع وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما يخصّ من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر، زاد الله دولته شبابا ونموّا، وارتقاء وبقاء وعلوّا، سلطان الإسلام، وإمام ملّة النبىّ عليه السلام، والنوّاب بمصر والشام، حسبما تقدّم من الكلام، فى ذلك العام، وكذلك ملوك الأقطار، فى ساير الأمصار، ما خلا مملكة العراقين وخراسان بمملكة التتار، فإنّ الملك عليها فى هذا العام خدابنداه، وهذه لفظة عجميّة معناها عبد الله وكان قبل هلاك غازان فى السنة الخالية، قد كتب مولانا السلطان له كتابا عقب (17) كسر التتار بشقحب يتضمّن إعلامه بما جرى على جيوشه التى امتلأ من قتلاهم فسيح الفضا، حتى عفت لحومهم وحوشه. فمن ذلك ما هذا نسخته:

(6) شيئا كثيرا: شى كثير (17) عقب: عقبا

[نسخة مكتوب السلطان الناصر إلى غازان خان بعد معركة شقحب]

[نسخة مكتوب السلطان الناصر إلى غازان خان بعد معركة شقحب] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على ما جدّد لنا من النعمة التامّة، وسمح به <من> الكرامة العامّة، حين أعاد البدر إلى كماله، والسرور إلى أتمّ أحواله، فاشتاقت النفوس إلى عوايدها، وارتاحت القلوب إلى ملايذها، وأضاءت شموس المعالى، وطلعت بدورها بالسعد المتوالى، وارتاحت القلوب إلى معجز برهانها التالى، وكانت غلطة من الدهر فاستدركها، وسقطة خطب غطّته فما ملكها، فقرّت تلك العيون، وتحقّقت فى بلوغ الآمال الظنون. فلله الحمد الجزيل، ما لاح فى الجوّ بارق، وعرا فى الليل طارق وبعد: فليعلم الملك محمود غازان جامع الوفود، وحاشد الحشود، أنّه قد كان ما جرى وقدّر فى القدم، فلا رادّ لما قضى وبرم وحكم، فحملنا ذلك أنّه كان من ربّنا تقدير، وأنّه ليس لأحد فيما أراد الله تعالى تدبير، فما لبثت إلاّ اليسير من المدّة، حتى أرسلت رسلك إلينا مجدّة، تطلب الصلح وتحثّ عليه. وتذكر السلم وتندب إليه، بعد ما اعتمدت الفساد فى الأرضين. وكان من الواجب علينا وعليك إصلاح ذات البين. فأكرمنا رسلك إكراما يليق بجميل فعالنا، وجاوبناهم بمقتضى حالهم لا حالنا. وأعدناهم إليك، وقلّدناك من البغى ما عاد وباله عليك. فعدت وأرسلت تطلب منّا رسلا تسمع كلامك، وقد فهمنا مقصدك ومرامك. فأرسلنا إليك ما طلبت، وركّبناك فرس البغى، فيابئس ما ركبت! فما كان إلاّ عند وصول رسلنا، جهّزت عساكرك وأظهرت الغدر لنا، وحرّضتهم بما عاد وباله عليهم، وما رأوه حاضرا لديهم. ثمّ شيّعتهم

من هناك، ورجعت طالبا للسلامة من الهلاك، فما كان إلاّ أن دخلوا البلاد، وفعلوا ما أمرتهم به من الفساد، ونزلوا بالقرب من حلب، وشنّوا الغارة وجدّوا فى الطلب. وسيّرت من جيشك جماعة إلى القريتين، فشاهدهم يزكنا المنصور مرأى العين، فوجدوهم وقد أخذوا أغنام التركمان، فتلقّوهم يزكنا بأضيق (5) مكان، فلم يلبث الباغون {إِلاّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ} وطلبوا الهزيمة والفرار، فلم يمهلوا حتى عجّل الله بأرواحهم إلى النار، وبقّى أجسادهم ملقاة بأرض عرض، إلى يوم العرض. ثمّ سارت عساكرك طالبين الغوطة، ولم يعلموا أنّ بها أسودا (8) مربوطة، وعساكرنا تتأخّر عنهم قليلا قليلا، وأعيننا ترقبها بكرة وأصيلا. فلمّا عاينوا دمشق ظنّوا أنّهم يدخلوها ولأهلها يأسرون، وما علموا أنّهم فى تجارتهم يخسرون، فإن سجيّة الغدر للهلاك، ومصرع البغى ليس منه فكاك. فلم تغرب الشمس حتى فرّقناهم على أديم الأرض، وشتّتنا بعضهم عن بعض والتجأ من بقى منهم إلى الجبل، وباتوا وهم من سيوفنا على وجل. وأقاموا عليه ليلة الأحد، وظنّوا أن ليس مقابلهم أحد. فلمّا دقّت نصف الليل كوساتنا المنصورة، تحقّقوا أنّهم الفية الباغية المكسورة. فعند ما أصبحوا نظروا الأرض، وقد سالت عليهم خيلا ورجلا حتى ضاقت بهم عن المجال. فعندها ندموا حيث لا ينفعهم الندم، وأيقنوا (17) بعد السلامة بالعدم. فنادى لسان حالهم-وقد قصّروا فى أعمالهم-أعتقنا أيّها الملك الرحيم، واعف عنّا فإنّك حليم. فأمرنا جيوشنا أن تفتتح لهم طريقا منها يخرجون، وتركناهم من أمرنا يعجبون، ففرّوا فرار الشاة من الأسد، ولم يلتفت منهم الوالد على الولد

(5) بأضيق: باظيق--السورة 46 الآية 35 (8) أسودا: أسود (17) أيقنوا: ايقنوا

فلو رأيت، أيّها الملك، عساكرك-إمّا ذليلا أسيرا، أو جريحا عفيرا {وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً} (2) يوم تضاعف فيه المقتول والمأسور، وتصاحب فيه الذياب والنسور، وعادوا أصحابك طعاما (3) للذياب-لعضّيت على يديك وقلت {يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً!} (4) فبادر، أيّها الملك إلى حمد الله العادل، الذى لم ير عينك هذه المحافل، ومرورها على سمعك أهون من العيان، ونظرك إلى عورات أصحابك يغنيك عن البيان. فإنّه كان يوما مشهودا، وكان الملايكة فيه شهودا، ولقد نصحتك فما ارعويت، وبذلت لك القول فما وعيت، وركبت فرس البغى أحمر (8) كميت، فمن أجل ذلك عاد كلّ حىّ من جيشك ميت. وقلنا لك: من جرّد سيف البغى فهو به مقتول، فلا تعبأ بالقول ولا تفهم ما تقول، فاستحببت الكفر على الإيمان، فبئس ما سوّل لك الشيطان، فإن شيت أن تقف معنا على الكتاب المبين {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (12) فنخرج أنا وأنت عن بغداد والعراق، ونتركها لخليفة رسول الله إلى يوم التلاق، وإن سوّلت لك نفسك بخلاف ذلك، فأنت لا محالة هالك. وعمّا قليل يخلو (14) منك العراق والعجم، وتندم حيث لا ينفعك الندم، وقد أوضحنا لك الحقّ فلا تميل، وهديناك إلى أقوم سبيل، وتتقدّم بإرسال رسلنا المرسولة إليك، ولا تعوّقهم يكون وبالا عليك، وكأن قد خيّلت لك نفسك أنّ جيوشك تعبر الديار المصريّة، صدقت، ولكن على غير حالة مرضية، أمّا الخيول فعلى

(2) السورة 25 الآية 26 (3) طعاما: طعام (4) السورة 78 الآية 40 (8) أحمر: احمرا (12) السورة 2 الآية 60 والسورة 7 الآية 74 والسورة 11 الآية 85 والسورة 26 الآية 183 والسورة 29 الآية 36 (14) يخلو: يخلوا

أيدى عساكرنا مجنوبة، والطبول فى أعناقهم مقلوبة، وأمّا الرجال، ففى أعناقهم الحبال، والسلاسل والأغلال، فعادت مغلك كالكلاب، فى أيدى أسود الغاب، فاختر لنفسك إمّا الدخول إلى خراسان سريعا، وإمّا الخروج عن الروم والعراق جميعا وفى آخر هذه الرسالة هذين البيتين <من المتقارب>: <و> إن كان أعجبكم عامكم … فعودوا إلى الشأم فى قابل فإنّ السيوف التى ورّخت … مواقعها فى يد القاتل وفيها كان إصراع العبد المؤلف لهذا التأريخ بالبندق فى شهر ربيع الآخر رابع عشرين منه. وتفضّل المولى المحسن المالك المرحوم شمس الدين بن دانيال الحكيم رحمه الله، ونظم أبياتا حسانا تتضمّن قدمة العبد. ونحن نذكرها هاهنا لما فيها من الفوايد فى وصف عدّة الطير الواجب وأصنافه وحسن صناعة التأليف، وأيضا لحفظ تأريخ الإصراع والقدمة، وهذه الفايدة تختصّ بالعبد دون غيره. فالقارئ يحتمل الإساءة فى إثباتها بشفاعة ما قبلها وبعدها إذا انتهى إلى حدّها وهى <من الكامل>: عج بالسدير (15) … فإنّ فيه مرامى فعلى السدير تحيّتى وسلامى واد به طير الجليل معرّسا … وا طول شوقى نحوه وغرامى وإذا أتيت جنابه متنزّها … انزل به لتفوز بالإنعام أشتاق هاتيك الوجوه وحسنها … واهوى مقامات به ومرامى

(15) بالسدير: بالهامش «السدير: واد حسن بالعباسة وبه كان الإصراع» --تحيّى وسلامى: تحيه وسلام

قالوا أصف طير الجليل معجّلا … فى واجب الأصناف بالإحكام فأجبتهم كركى ووزّ لغلغ (2) … وأنيسة عنارها وتمام صوغ وأرنوق ونسر حبرج (3) … وأكىّ قاضى نسبة الحكّام وعقابها ومرازم وشبيطر … يشتاق ملقاها ذوو الأفهام من بعد ما نجلى الجليل فنبتدى … بمديح إسراع الجناب السامى ابن الدويدارى الذى قد شرّفت … بجنابه الملعوب فى الأعوام يا سيف دين الله ما بين الورى … ومسامى الصدّيق فى الإسلام لم أنسه لمّا استوى بمقامه … كالبدر فى صحو بغير غمام شبّهته فى حلّة مسودّة … بدر تجلّى فى دجاء ظلام وكأنّه أسد هزبر كاسر … همّاته فاقت لكلّ همام وقد انتضى قوسا (11) … بكفّ شماله حلو الصياغة صاغة الحزّام لا فطر فيه ولا مبيّض كعبه … <و> قد استخير له قنا ولحام يذرف دموعا من محاجر عينه … لمّا تراهقه كفوف الرامى ولغالغا طاروا عليه وأقبلوا … وقد ابتدا بمقامه القدّام فرمى إليهم بندقا من كفّه … فهوى كسكران بغير مدام ومعفّرا وجه الثرى من خدّه (16) … لا يستطيع لنهضة وقيام حسن له إبن الحظابى (17) … جاره أحسنت لا شلّت يمين الرامى وجرى إليه محصّلا عن نفسه … <لكنه> لا يستطيع يحامى

(2) لغلغ: ولغلغ (3) حبرج: وحبرج (11) قوسا: قوس (16) من خده: بخده --لنهضة: لنهظه (17) الحظابى: كذا فى الأصل

لمّا تقضّى (1) … الوجه جاء لحمله ما بين سادات الرتوت كرام وأتابكى (2) … كان الكبير وبعده ابن الشجاع السنتب الضرغام قد كان ثالثه الكبير منيعما (3) … والمجد رابعهم بصدق نظام وجماعة حملوا له من بعدهم … سلكوا العدالة منهجا وكلام وقد ادعى لجناب ليث كاسر … إنّ المعزّى فخر كلّ غلام ملك أمير حازم متورّع … كفؤ أثير باسل كحسام فى سبع ماية وأربع إصراعه … تأريخه مسطور بالأقلام بربيع الآخر كان أوّل رميه … رابع وعشرين من الأيّام (8) ما كان أبرك وجه بكرة عنده … يوم الأحد الضاحك البسام (9) ها إبن دانال يشرّف (10) … نظمه ولسانه من سيآت الفحش والآثام وفيها حجّ الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، ومسك حميضة ورميثة أولاد أبى نمىّ أصحاب الحجاز الشريف بمكّة، وأحضرهما إلى الأبواب العالية. وعادا يجلسا مع الأمرا فى الخدمة، ولبّسوهما كلاوت زركش وأقبية وسيوف وحوايص. وأقام عوضهما بمكّة أخويهما عماد الدين أبو الغيث وسيف الدين عطيفة وفيها قبض على ناصر الدين الشيخىّ الوزير فى غيبة بيبرس فى الحجاز، باتّفاق كان بينه وبين الأمير سيف الدين سلاّر، وضرب بالمقارع حتى مات تحت العقوبة، لأمور كانت جرت منه. وكان قصده فتنة لما

(1) تقضى: انقضى (2) وأتابكى: والاتابكى--السنتب: الشيته (3) منيعما: منيعم (8) المصراع الأول مضطرب الوزن (9) المصراع الثانى مضطرب الوزن (10) يشرف: شرف--المصراع الثانى مضطرب الوزن

كان تعلّق به أمله الكاذب، فرجع وبالا عليه. وهذا ناصر الدين الشيخىّ كان أقباعيّا (2) يخيط الأقباع. ثمّ إنّه كان بماردين وحصل. منه مكاتبة ومناصحة للأبواب العالية السلطانيّة. ثم وصل إلى مصر وأخذ الإقطاع وعمل شادّ الكيّالة بالقاهرة المحروسة. ثمّ ولى القاهرة. ثم تنقّلت به الأحوال حتى وزر وانتهت أيّامه فقتل (5_) حسبما ذكرناه. و (5) كان يعرف بالغايب، وأبوه كان هنديّا (6) وأخوه يعيش إلى حين وضع العبد هذا التأريخ، يسمى الشيخ علىّ، رجل فقير، وما كان يعترف به فى حال سعادته (7) ووزر بعده سعد الدين بن عطايا بعناية الأمير علم الدين الجاولى الأستادار. وكان الأمر راجعا (9) فى ذلك الوقت لتاج الدين بن سعيد الدولة. وكان هذا ابن سعيد الدولة مسلمانيّا (10)، وكان فيه دهاء ومكر. فانتهى إلى خدمة الشيخ نصر المنبجىّ، قرّبه إليه شخص جندىّ كان يلوذ بالشيخ نصر، يقال له المعظّمىّ. وكان الشيخ نصر لا يقوم ولا يقعد إلاّ بالمعظّمىّ وجعله حاجب بابه. وبلغنى ممّن أثق به أنّ الشيخ نصر قال فى وقت: أطلعت على الجنّة، فوجدت المعظّمىّ قايما (14) على باب الجنّة مع رضوان يأذن لمن أحبّ ويمنع من أختار، فلذلك جعلته صاحب الإذن علىّ. -فلمّا قرّب المعظّمىّ لابن سعيد الدولة للشيخ دخل على الشيخ بخرده (16) ومكر ودين وخشوع حتى بلغنى أنّه قال عنه: هذا ابن سعيد الدولة يتصرّف فى الجنّة كيف شا، فلا أقلّ أنّه يكون متصرّفا فى أمور الدنيا. -وكان الشيخ الغالب على أمر الأمير ركن الدين، لا يفعل شئ إلاّ بإذنه وعن إشارته. فأشار بأن يكون ابن سعيد الدولة مدبّر الدولة. فعاد كذلك حتى

(2) أقباعيا: أقباعى (5_) فقتل: فقيل (5 - 7) وكان يعرف. . . حال سعادته: بالهامش (6) هنديا: هندى (9) راجعا: راجع (10) مسلمانيا: مسلمانى (14) قايما: قايم (16) بخرده: كذا فى الأصل

بلغ من أمره إذا كتب (1) عن مولانا السلطان كتاب فى ساير التعلّقات الخاصّة والعامّة يعرض على ابن سعيد الدولة حتى يكتب عليه: يحتاج إلى الخطّ الشريف، -ثمّ بعد ذلك يقدّم للعلامة الشريفة السلطانيّة. ثمّ إن ابن سعيد الدولة عمل له ناموسا عظيما حتى لا كان أحد (4) يجسر أن يسلّم عليه فى الطريق ولا يمشى أحد (5) قدّامه ولا خلفه غير عبد واحد يحمل دواته، والويل لمن جهل منه ذلك فسلّم عليه فى الطريق، فما يسلم من الأخذ والإهانة (6) إلاّ بالجهد العظيم. وكان له بستان قد جعل فى وسطه مكان خالى من الأشجار تقدير فدّانين، وفى وسط تلك البقعة تخت جريد يجلس عليه ومن شا من ألزامه الخصيصين به. وكان أكثرهم مجالسة فى قراية المناحس والتفكّر فى ما يفعلوه شخص من أقاربه كان يسمّى التقىّ الأحول، وكان يقارب التاج فى المكر والخبث ويفوق عليه، وربّما كان التاج ابن سعيد الدولة يغترف من بحره، فكان غالب الأوقات جليسه فى ذلك المكان. وكان قصده بخلوّ ذلك المكان من الأشجار والخلوة فيه خشية ما سامع يسمع ما هما فيه من الكلام، فإذا دخل إليه داخل نظره من بعد. كلّ ذلك من حسابه البعيد وغوره فى المناحس. ثمّ إنّ ابن سعيد الدولة حجر على ساير التصرّفات السلطانيّة ومنع أشيا كثيرة كبيرها وحقيرها. جليلها وقليلها. هذا ومولانا السلطان يلاحظ هذه الأحوال، صابرا على هذه الأهوال، قد سلّم أموره إلى الله مولاه، فهو يلاحظه ويكلاه وفيها ليلة الثلاثاء الثامن والعشرين من ربيع الآخر ولد لمولانا السلطان عزّ نصره ولد ذكر (20)، ولقّب بالملك المظفّر

(1) كتاب: كتابا (4) أحد: احدا (5) أحد: احدا (6) والإهانة: والاهنة (20) ولد ذكر: ولدا ذكرا

وفيها التاسع عشر من ربيع الأوّل وصل الأميرين آقطاى وسلطان أولاد مهنّا ومعهم جماعة كبيرة، وكان لهم مدّة زمانيّة قد قفزوا إلى التتار، وكانوا مضرّة (3) على الإسلام خصوصا على القفول الصادرة والواردة من الشرق. فكان عودهم رحمة للناس، فخبّروا أنّ غازان كان قبل موته قد جرّد خمسة عشر تومانا عدّة ماية وخمسين ألف فارس إلى نحو الشأم. فمات بالسبب المذكور قبل خروج التجاريد، فلله الحمد والمنّة وفيها وصل رسول التتار وأخبر أنّ وراه رسلا (7) أيضا من الملك خدابنداه أخى (8) غازان صاحب تخت مملكة التتار بالعراقين وما معهما، وأنّ مع الرسل رسول المسلمين: الأمير حسام الدين المجيرىّ وعماد الدين بن السكّرىّ، وكذلك بدر الدين بن فضل الله. وأخبر أنّ الملك خدابنداه قرّب الرسل الإسلاميّة وأخلع عليهما وأنعم إنعاما كبيرا، وأنّ من جملة ذلك أنّه ناول لعماد الدين بن السكّرىّ من يده هناب قمز فتناوله من يده، ولم يشربه. فسأله عن امتناعه، فقيل له: إنّه قاضى ولا يمكنه شربه. -فأخذه منه وناوله رغيف خبز صورة أمان، فأخذه وضرب له جوك. فأعجبه كلامه وقال: الملك الناصر آغا أطاسى، يعنى كبيرى وسميّى، فإنه محمد وأنا محمد، ونحن نطلب الصلح خمسين سنة، وأقلّ ما يكون اثنتا عشرة سنة حتى تعمر البلاد. -ثمّ قال: إنّ أخى غازان ما كان له عقل فى خراب البلاد، وكان مسلم الظاهر كافر الباطن، وما دخوله الشأم برضايى ولا برضا أمرا المغل، فلذلك قتله الله تعالى. وإنّ أمرا المغل يسلّمون على السلطان صاحب مصر ويطلبوا منه الصلح وإخماد هذه الفتن، وكان سبب هذا كلّه منهم أنّه بلغه

(3) مضرة: مظره (7) رسلا: رسل (8) أخى: اخو

أنّ الملك أنغاى قد عزم على غزوهم، فقصدوا أن يسدّوا الباب من هذه الجهة ويتفرّغوا لوجه واحد وفيها وصل رسول أنغاى ابن أخى (3) الملك بركة ووصل صحبته جوار كثيرة ومماليك وهديّة سنيّة لمولانا السلطان عزّ نصره، وكان عدّة المماليك أربع ماية مملوك ومايتى جارية. فأخذ منهم مولانا السلطان ماية وعشرين مملوكا والباقى شروهم الأمراء. ومضمون الرسالة: إنّنا قد سيّرنا إلى خدابنداه نطلب منه من خراسان إلى توريز، وقد عزمنا على الركوب إليه. فتجمع عساكرك وتدخل من قبلك ونحن من قبلنا، ونجتمع نحن وأنت على طردهم من البلاد، ونكون نحن وأنتم يدا (9) واحدة، وحيث ما وصلت خيلنا من البلاد فهو لنا، وحيث ما وصلت خيلكم من البلاد فهو لكم. -فلأجل ذلك كان ترقّق خدابنداه فى رسالته وسؤال (11) الصلح وفيها تاسع شهر جمادى الأولى وصل من التتار مقدّمين ومعهم نحو من مايتى نفر بنسايهم وأولادهم. وذكروا أنّ فيهم أربعة من سلحداريّة غازان ومن جملتهم ابن سنقر الأشقر، وأخبروا أخبارا (14) طيّبة وفيها وصل بدر الدين محمد بن فضل الله وعلاء الدين بن القلانسىّ وشرف الدين بن الأثير من بلاد التتار، وكانوا قد أخذوهم نوبة غازان. وكان دخولهم دمشق الثالث والعشرين من جمادى الآخرة وفيها وصل الأمير حسام الدين المجيرىّ وعماد الدين السكّرىّ وصحبتهما رسل من جهة خدابنداه

(3) أخى: اخو--صحبته: صحبتهم (9) يدا: يد (11) سؤال: سآل (14) أخبارا: اخبار

تتمة كلام المجيرى للوالد رحمهما الله تعالى جميعا

تتمّة كلام المجيرىّ للوالد رحمهما الله تعالى جميعا قال الأمير حسام الدين المجيرىّ: لمّا اعتقلنا غازان بالمدرسة، كما تقدّم السبب فى ذلك، قال: أقمنا سنتين (3) ونحن ننتظر الموت صباحا ومساء. وكان لنا طاقة ضيّقة عالية تشرف على الطريق. وكان قبالها دكّان لرجل إسكاف لم يبرح يشير إلينا بإصبعه بالسلام. فبينا ذات يوم أنظر الطريق وإذا برجل فى وسط الطريق فى السوق وهو يمشى حافيا، ومعصّب الرّجل بخروق وسخة، عريان الجسد، ضعيف الحركة، والناس يسلّمون عليه ويهنّئونه بالسلامة، وهو لا يكاد يردّ الجواب ضعفا، فجعل ذلك الإسكاف الذى فى تلك الدكّان التى قبال الطاق يشير بيده نحوى ويتبسّم ويشير إلى ذلك الشخص ولا أفهم معنى ذلك لبعد المكان وعلوّه. وكان ذلك الرجل من الجيش الذين كسروا بشقحب، ورجع فى ذلك الحال. (11) (وكان ذلك الإسكاف يشير إلينا ليرينا إيّاه، وهو كالشامت به) (12). فأقمنا بعد ذلك أربعين يوما إذ أقبل إلينا الفرج من الله عزّ وجلّ. فأخرجونا ودخلوا بنا الحمّام وألبسونا ثيابا (14) حسنة. وبعد خمسة أيّام ورد مرسوم خدابنداه بإحضارنا، قال: فلمّا حضرت بين يديه أكرمنى وأجلسنى وقرّبنى وحدّثنى منّى إليه بغير حاجب وقال: يا حسام الدين، كيف رأيت صنع الله تعالى بغازان الملعون لمّا طغى وزاد، قال: فقمت وقبّلت الأرض وقلت: يحفظ الله القآن ويطول فى عمره، قال: ثمّ أنعم علىّ (18) ورسم لى بالأموال والخيول والخلع والأنعام، وأعطانى أشيا لم يعطها ملك مثله لمثلى. وكتب معى إلى ساير

(3) سنتين: سنتان (11 - 12) وكان. . . كالشامت به: بالهامش (14) ثيابا: ثياب (18) على: عليه

ذكر [حوادث] سنة خمس وسبع ماية

بلاده والملوك الذين فى طاعته بالوصاة علينا وإكرامنا، قال المجيرىّ: فو الله ما وصلت إلى آخر أقاليمه وأعلم أيش حصل لى من الأموال والخيرات. - انتهى كلامه (3) ووصل إلى الأبواب العالية فى شهر ذى الحجّة من هذه السنة وصحبته رسل من جهة خدابنداه وعلى يدهم كتاب ما هذا نسخته:. . . (5) وفيها توفّى السيّد الشريف عزّ الدين جمّاز بن شيحة صاحب المدينة، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وقام بالأمر مكانه ولده ناصر الدين منصور وفيها توفّى شمس الدين محمد بن التيتى وزير صاحب ماردين، وكان نايب العدل بالأبواب الشريفة ذكر [حوادث] سنة خمس وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما يخصّ من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أمير المؤمنين أبو الربيع سليمان، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر سلطان الإسلام والمسلمين، أدام الله أيّامه إلى يوم الدين، والنوّاب بمصر والشأم حسبما تقدّم من ذكرهم. والملوك بأقطار الأرض كذلك، خلا مكّة شرّفها الله والمدينة صانها الله، فإنّ ملاّك مكّة، أبو الغيث وعطيفة، وأخويهما حميضة ورميثة بالأبواب العالية، وصاحب المدينة ناصر الدين منصور بحكم وفاة أبيه جمّاز، رحمه الله تعالى

(3) انتهى كلامه: بالهامش (5) مكان الكتاب المرسل صفحة بيضاء فى الأصل

ذكر ما كان بين عسكر حلب وأهل سيس

وفيها خرج الأمير جمال الدين آقوش الأفرم نايب الشأم المحروس من دمشق المحروسة وتوجّه إلى جبل الكسروان، وتوجّه معه زردخاناه وحجّارين ونقّابين، وصحبته من الرجّالة ما يزيد عن خمسين ألف راجل، ولم يزل يحصرهم ويبيدهم حتى أخلى منهم، وأراح الله تعالى من فسادهم العباد ذكر ما كان بين عسكر حلب وأهل سيس لمّا كان فى شهر المحرّم أوّل هذه السنة دخل عسكر حلب إلى بلاد سيس غيارة عليهم. وكان المقدّم على الجيش الأمير سيف الدين قشتمر المنصورىّ المعروف بمملوك قراسنقر. وكان ابن قطلو شاه مقدّم التتار فى جماعة من المغل بأطراف الروم فى ثلاثة آلاف فارس. وكانوا قد تبعوا والدة الأمير سيف الدين سلاّر وإخوته. فلم يدركوهم فسيّر إليهم صاحب سيس يستنجد بهم. فلمّا حضروا إليه نفق فيهم وأعطى كلّ نفر سبع ماية درهم سلطانيّة. وكان عنده أيضا جماعة كبيرة متجمّعة من مرنده (13) وإفرنج وأرمن. فكان جمعهم تقدير ستّة آلاف فارس. وكانوا المسلمين فى نحو من عشرة آلاف فارس. فلمّا كان ليلة أوّل رأس هذه السنة بلغهم أنّ العدوّ طالبهم فى جمع كثير. فقال ابن جاجا لقشتمر: المصلحة أن نرحل بهذه الغنايم التى قد حصلت ونخرج قبل أن يدركنا العدوّ فى بلاده

(13) مرندة: كذا فى الأصل

وكان قشتمر رجلا شجاعا عفيّا (1)، وكان قوسه سبعين رطلا دمشقيّا. هذا أقوله بالمشاهدة، فإنّه كان جارنا فى حارة الباطليّة بالقاهرة المحروسة، وكان له ولد اسمه أمير عمر، ربّينا جميعا فى حارة واحدة. وكان قشتمر له حظّ (4) وافر من العفا والقوّة، وكان يجعل البطّيخة الخضرا فى بركة (5) الماء ويكمش بيده منها، فيخرج منها ملو كفّه. وكذلك كان يجعل السفرجلة على راحة كفّه ويطعنها بسبّابته يخرقها إلى الجانب الآخر. وله عدّة أشيا من مثل ذلك، لكن إذا أراد الله أمرا (7) بلغه. وكان عيبه أنّه ما كان يكاد يصحى مدمن خمر عفا الله عنه. قال الناقل: فقال قشتمر لما يظنّه من نفسه: أيش هم هؤلاء الخنازير؟ أنا وحدى ألتقيهم. -فقال له ابن جاجا: هذا قول الملوك المتوكّلين على الله، وأنت تحدّثنى (10) فى غير عقلك. -ثمّ ركب ابن جاجا من ساعته وصحبه أكثر من ثلث العسكر، وساق الليل كلّه وتعلّق فى الجبال فنجا هو ومن كان معه. فلمّا كان بكرة النهار أشرف العدوّ المخذول بالعدّة والعديد. فلمّا وقعت العين فى العين هربوا المسلمين من غير قتال، ولا نزال. فقتل منهم الأكثر، وأسروا الباقى. وأسر ستّة أمرا من أمرا حلب، من جملتهم فتح الدين بن صبرا، وقتل قشتمر رحمه الله وعفا عنه، وكان هذا وهنا عظيما (16) حصل، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلىّ العظيم وفيها ظهر بمعدن الزمرّد الذى بصعيد مصر قطعة زمرّد مطاولة غشيم، زنتها مايتى خمسة وأربعين مثقالا محرّرا، وهذا شى ما عهد بمثله من قبل.

(1) رجلا شجاعا عفيا: رجل شجاع عفى (4) حظ: حض (5) بركة: البركة (7) أمرا: امر (10) تحدثنى: فتحدثنى (16) وهنا عظيما: وهن عظيم

ذكر واقعة الشيخ تقى الدين بن التيمية رحمه الله

وكان جانبها الواحد دبّابى والآخر سلقىّ. وذلك ما نقله كرجىّ البريدىّ فى العشرين من شوّال، ثمّ توجّه فى طلبها. وكانت هذه القطعة المذكورة وقعت لعلم الدين سنجر الزمرّدىّ ضامن الزمرّد فى ذلك الوقت، أباعها على يد لؤلؤ الحكّاك لشخص يسمّى ابن عفانة الكارمىّ بتسع ماية دينار. فلمّا شاع خبرها طلبوا ابن عفانة بسببها، فأنكرها وتوجّه بها إلى اليمن. فجابت له ثلاثة آلاف دينار فلم يبيعها. ثمّ ورد بها إلى مصر وسعى به سنجر الضامن لمّا طالبوه بالحمل، وذكر أنّها رهن عند ابن عفانة على تسع ماية أو قال: ستّ ماية دينار. فطلب ابن عفانة وأخذت منه وحملت إلى الخزاين المعمورة بقلعة الجبل المحروسة بالديار المصريّة. فلم يعيش بعدها ابن عفانة سوى ثمانية أيّام وتوفّى غبنا عليها. قلت: وهذا معدن الزمرّد من أكبر عجايب الدنيا ولا يوجد إلاّ بإقليم مصر بصعيدها. وذكر المسعودىّ صاحب التأريخ أنّ بمكان آخر من بلاد الشمال معدن زمرّد، ولم أجد أحدا ذكر ذلك غيره، والله أعلم ذكر واقعة الشيخ تقىّ الدين بن التيميّة رحمه الله وذلك لمّا كان يوم الاثنين ثامن شهر رجب الفرد من هذه السنة المذكورة، طلب القضاة والفقها والشيخ تقىّ الدين بن التيميّة إلى مجلس الأمير جمال الدين الأفرم نايب الشأم المحروس بدمشق، وكان اجتماعهم بالقصر الأبلق. ثمّ سألوا الشيخ تقىّ الدين بن التيميّة عن عقيدته. فأملى شيئا منها. ثمّ أحضر عقيدته الواسطة وقريت فى المجلس المذكور، وبحث فيها وتأخّر منها مواضع إلى مجلس آخر. ثمّ اجتمعوا يوم الجمعة ثامن عشر الشهر المذكور. وحضر المجلس أيضا صفىّ الدين الهندىّ. وبحثوا مع

الشيخ تقىّ الدين وسألوه عن مواضع خارجا (1) عن العقيدة. وجعل الشيخ صفىّ الدين يتكلّم معه كلاما كثيرا (2). ثمّ إنّهم رجعوا عنه واتّفقوا أن كمال الدين بن الزملكانىّ يحاققه من غير مسامحة، ورضوا بذلك الجميع. وانفصل الأمر بينهم أنّه أشهد على نفسه الحاضرين أنّه شافعىّ المذهب، يعتقد ما يعتقده الإمام الشافعىّ رضى الله عنه. ورضوا منه بهذا القول، وانصرفوا على ذلك فعند ذلك حصل من أصحاب الشيخ تقىّ الدين كلام كثير وقالوا: ظهر الحقّ مع شيخنا. -فأحضروا واحدا (8) منهم إلى عند القاضى جلال الدين الشافعىّ فى العادليّة، فصفعه وأمر بتعزيره، فشفعوا فيه. وكذلك فعل الحنفىّ بآخر وآخر من أصحاب الشيخ تقىّ الدين ثمّ لمّا كان يوم الاثنين ثانى وعشرين الشهر قرأ الجمال المزّىّ المحدّث فصلا فى الردّ على الجهميّة من كتاب «أفعال العباد» تصنيف البخارىّ رضى الله عنه، قرأ ذلك فى مجلس العامّ تحت النسر. فغضب بعض الفقها الحاضرين وقالوا: ما قرئ هذا الفصل إلاّ ونحن المقصودون بهذا التكفير. -قال: فحملوه إلى قاضى القضاة الشافعىّ، فرسم بحبسه. فبلغ الشيخ تقىّ الدين ذلك، فقام حافيا فى جماعة من أصحابه، وأخرج المذكور من الاعتقال. فعند ذلك اجتمع القاضى بملك الأمرا، وكذلك الشيخ تقىّ الدين والنقبا عند ملك الأمرا، واشتطّ تقىّ الدين على القاضى، وذكر نايبه جلال الدين وأنّه آذى أصحابه بسبب غيبة نايب السلطان فى الصيد. فلمّا حضر نايب السلطان رسم بطلب كلّ من أكثر كلامه من الطايفتين، وأمر

(1) خارجا: خارج (2) كلاما كثيرا: كلام كثير (8) واحدا: واحد

باعتقالهم، ونودى فى البلد بمرسوم سلطانىّ: من تكلّم فى العقايد حلّ ماله ودمه ونهب داره وهتكت عياله. -وقصد نايب السلطان بذلك إخماد الفتنة الثايرة ثمّ لمّا كان سلخ شهر رجب اجتمع القضاة والفقها وعقدوا مجلسا بالميدان بحضور ملك الأمرا وبحثوا فى العقيدة. فجرى من الشيخ صدر الدين بن الوكيل (6) كلام فى معنى الحروف وغيره. فأنكر عليه كمال الدين ابن الزملكانىّ القول فى ذلك. ثمّ قال للقاضى نجم الدين بن صصرى قاضى القضاة: أما سمعت ما قال؟ -فكأنّ نجم الدين تغافل عن ذلك طلبا لإخماد الشرّ. فقال كمال الدين بن الزملكانىّ: ما جرى على الشافعيّة قليل كون أن تكون رئيسها، إشارة على ما كان ادّعاه صدر الدين بن الوكيل. - فظنّ القاضى نجم الدين أنّ الكلام له، فقال: اشهدوا علىّ أنّنى قد عزلت نفسى! -وقام من المجلس فلحقه الحاجب الأمير ركن الدين بيبرس العلايى وعلاء الدين أيدغدى بن شقير وأعادوه (13) إلى المجلس. وجرى كلام كثير بعد ذلك يطول شرحه. ثمّ إنّ ملك الأمرا ولاّه الحكم، وحكم القاضى الحنفىّ بذلك وصحّة الولاية، وأنفذها المالكىّ وقبل الولاية بحضور ملك الأمرا. فلمّا عاد إلى داره لاموه أصحابه. وخشى على نفسه ورأى أنّ الولاية لا تصحّ، فعاد طلع إلى تربته بسفح قاسيون، فأقام بها وصمّم على العزل فلمّا كان بعد ثلاثة أيّام رسم ملك الأمرا لنوّابه بالمباشرة إلى حيث يرد جواب مولانا السلطان. فأمّا نايبه جلال الدين فإنّه باشر الحكم، وأمّا تاج الدين فامتنع

(6) بن الوكيل: بالهامش (13) وأعادوه: وعادوه

فلمّا كان ثامن عشرين شهر شعبان المكرّم وصل البريد من الأبواب العالية أعلاها الله تعالى وعلى يده كتابين، كتاب لملك الأمرا وكتاب للقاضى نجم الدين بعودته إلى الحكم العزيز. ومضمون الكتاب فى فصل منه يقول: قد فرحنا باجتماع رأى العلماء على عقيدة الشيخ تقىّ الدين. -فباشر القاضى نجم الدين يوم الخميس مستهلّ شهر رمضان المعظّم، وسكنت الفتنة فلمّا كان خامس رمضان، وصل من الأبواب العالية بريد، وهو الأمير حسام الدين لاجين العمرىّ بطلب القاضى نجم الدين بن صصرى والشيخ تقىّ الدين بن التيميّة وكمال الدين بن الزملكانىّ. وفى المرسوم الوارد يقول: وتعرّفونا ما كان وقع فى زمان جاغان فى سنة ثمان وتسعين وستّ ماية بسبب عقيدة ابن التيميّة-وفيه إنكار عظيم عليه-وأن تكتبوا صورة العقيدتين: الأولة والثانية. -فعند ذلك طلبوا القاضى جلال الدين الحنفىّ وسألوه عمّا جرى فى أيّامه. فقال: نقل إلىّ عنه كلام، وسألناه فأجاب عنه. وكذلك القاضى جلال الدين الشافعىّ لمّا طلب أحضر نسخة العقيدة التى كانت أحضرت فى زمان أخيه. ثمّ إنّهم تحدّثوا مع ملك الأمرا فى أن يكاتب بسببهم ويسدّ هذا الباب، فأجاب إلى ذلك فلمّا كان يوم السبت عاشر رمضان المعظّم وصل مملوك ملك الأمرا على البريد المنصور، وأخبر أنّ الطلب على الشيخ تقىّ الدين حثيث، وأنّ القاضى زين الدين بن مخلوف المالكىّ قد قام فى هذا الأمر قياما عظيما (18)، وأنّ الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير معه فى هذا الأمر، وأخبر بأشياء كثيرة جرت ممّا وقع بمصر فى حقّ الحنابلة، وأنّ بعضهم أهين، وأنّ

(18) قياما عظيما: قيام عظيم

ذكر ما جرى للشيخ تقى الدين بمصر المحروسة

القاضى المالكىّ والحنبلىّ جرى بينهما كلام كثير. فلمّا سمع ملك الأمرا ذلك رجع عن المكاتبة بسببهم وأمر بتجهيزهم إلى الأبواب العالية وتوجّهوا. فلمّا كان (3) يوم الجمعة سابع شهر شوّال وصل البريد، وأخبر أن كان وصول القاضى نجم الدين والشيخ تقىّ الدين إلى الديار المصريّة يوم الخميس ثانى وعشرين رمضان المعظّم من هذه السنة المذكورة ذكر ما جرى للشيخ تقىّ الدين بمصر المحروسة وذلك أنّه لمّا وصل فى ذلك التأريخ المذكور، عقد له مجلس (7) فى دار النيابة بحضور الأمير سيف الدين سلاّر، وأحضروا العلما والأيمّة القضاة الأربعة، وحضر الأمير ركن الدين بيبرس. فتكلّم القاضى شرف الدين بن عدلان الشافعىّ، وادّعى (10) على الشيخ تقىّ الدين دعوى شرعيّة فى أمر عقيدته. فعند ذلك قام الشيخ تقىّ الدين وحمد الله تعالى وأثنى عليه وتلجلج. ثمّ أراد أن يذكر الله ويذكر عقيدته فى فصل طويل. فقالوا له: يا شيخ، الذى بتقوله معلوم، ولا حاجة إلى الإطالة، وأنت قد ادّعى عليك هذا القاضى بدعوى شرعيّة، أجيب عنها! -فأعاد القول فى التحميد وحاد عن الجواب، فلم يمكّن فى تتمّة تحاميده. فقال: عند من هى هذه الدعوى؟ -فقالوا: عند القاضى زين الدين المالكىّ. -فقال: عدوّى وعدوّ مذهبى. -فكرّروا عليه القول مرارا، ولم يزدهم على ذلك شيئا وطال الأمر. فعند ذلك حكم القاضى المالكىّ باعتقاله على ردّ الجواب. فقال الشيخ {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} (19) فأقاموه من المجلس واعتقل، وسجن أيضا إخوته فى برج من أبراج القلعة

(3) فلما كان: بالهامش (7) مجلس: مجلسا (10) ادعى: ادعا--دعوى: دعوا (19) السورة 12 الآية 33

فبلغ القاضى أنّ جماعة من الأمرا يتردّدون إليه وينفذون له المآكل الطيّبة. فطلع القاضى واجتمع بالأمير ركن الدين فى قضيّته وقال: هذا يجب عليه التضييق إذا لم يقتل، وإلاّ فقد ثبت كفره. -فنقلوه هو وإخوته ليلة عيد الفطر إلى الجبّ بالقلعة وكان بعد قيام ابن التيميّة من المجلس قد تكلّم قاضى القضاة بدر الدين ابن جماعة رحمه الله فى مسايل القرآن العظيم وشئ من عقيدة الإمام الشافعىّ رضى الله عنه. فقيل لقاضى القضاة الحنفىّ: ما تقول؟ -قال: كذا أعتقد. -فقيل لقاضى القضاة شرف الدين الحنبلىّ: ما تقول؟ -فتلجلج، فقال له الشيخ شمس الدين القروىّ (9) المالكىّ: قم، جدّد إسلامك! وإلاّ لحقوك بابن التيميّة وأنا أحبّك وأنصحك. -فخجل. فلقّنه القاضى بدر الدين بن جماعة القول، فقال مثل قوله، وانفصل الحال ثم كتب إلى دمشق كتاب يتضمّن أنّ مولانا السلطان خلّد الله <ملكه> قد رسم: أىّ من اعتقد عقيدة ابن التيميّة حلّ ماله ودمه. - وبعد صلاة الجمعة حضروا القضاة جميعهم بمقصورة الخطابة بجامع دمشق ومعهم الأمير ركن الدين بيبرس العلايى أمير حاجب الشأم يوم ذاك. وجمعوا جميع الحنابلة، وأحضر تقليد قاضى القضاة نجم الدين بن صصرى باستمراره على القضا وقضا العسكر ونظر الأوقاف مع زيادة المعلوم، وقرأه زين الدين أبو بكر. وقرئ عقيبه نسخة الكتاب الذى وصل فيما يتعلّق بمخالفة عقيدة الشيخ تقىّ الدين بن التيميّة وإلزام الناس بذلك، خصوصا الحنابلة. فكان ما هذا نسخته:

(9) للقروى: القونى، مصحح بالهامش

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذى تنزّه عن الشبيه (2) والنظير، وتعالى عن المثيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3) نحمده على أن ألهمنا العمل بالسنّة والكتاب، ورفع فى أيّامنا أسباب الشكّ والارتياب ونشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، شهادة من يرجو (6) بإخلاصه حسن العقبى والمصير وننزّه الخالق عن التحييز فى جهة لقوله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (9) ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذى نهج سبل النجاة لمن سلك طريق مرضاته، وأمر بالتفكّر فى آلاء الله ونهى عن التفكّر فى ذاته صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين علا بهم منار الإيمان وارتفع، وشيّد الله بهم قواعد الدين الحنيفىّ ما شرع، فأخمد بهم كلمة من حاد عن الحقّ ومال إلى البدع وبعد: فإنّ العقايد الشرعيّة، وقواعد الإسلام المرعيّة، وأركان الإسلام العليّة، ومذاهب الدين المضيّة، هى الأساس الذى يبنى الإيمان (16) عليه، والمؤمّل الذى يرجع كلّ أحد إليه. والطريق التى من سلكها {فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً} (18) ومن زاغ عنها فقد استوجب عذابا أليما. فلهذا

(2) الشبيه: التشبيه (3) السورة 42 الآية 11 (6) يرجو: يرجوا (9) السورة 57 الآية 4 (16) الإيمان: بالهامش (18) السورة 33 الآية 71

يجب أن تنفّذ أحكامها ويؤكّد زمامها (1)، وتصان عقايد هذه الأمّة عن الاختلاف، وتزان قواعد الأيمّة بالايتلاف، وتخمد ثوائر البدع، ويفرّق من قوّتها ما جمع وكان التقىّ بن التيميّة فى هذه المدّة قد سلّط (4) لسان قلمه، ومدّ عنان كلمه، وتحدّث فى مسايل الذات والصفات، ونصّ فى كلامه على أمور منكرات، وتكلّم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون، وفاه بما يخفيه السلف الصالحون، وأتى فى ذلك بما أنكره أيمّة الإسلام، وانعقد على خلافه اجتماع العلما والحكّام، وشهر من فتاويه فى البلاد ما استخفّ به عقول العوامّ، فخالف فى ذلك علما عصره، وأيمّة شأمه ومصره، وبعث رسايله إلى كلّ مكان، وسمّى فتاويه أسماء {ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ} (10) ولمّا اتّصل بنا ذلك، وما سلكوا مريدوه من هذه المسالك، وأظهروه من هذه الأحوال وأشاعوه، وعلمنا أنّه {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ} (13) حتى اتّصل بنا أنّهم صرّحوا فى حقّ الله بالحرف والصوت والتجسيم، قمنا فى الله تعالى مستعظمين لهذا النبإ العظيم. فأنكرنا هذه البدعة، وأنفنا أن نسمع عن من تضمّه ممالكنا هذه السّمعة. وكرهنا ما فاه (16) به المبطلون، وتلونا قوله {سُبْحانَ اللهِ عَمّا يَصِفُونَ} (17) فإنّه جلّ جلاله تنزّه عن العديل (18) والنظير {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (19)

(1) ويؤكد زمامها: بالهامش (4) سلط: تسلط (10) السورة 53 الآية 23 (13) السورة 43 الآية 54 (16) فاه: افاه (17) السورة 37 الآية 159 والسورة 23 الآية 91 - -الله: بعده بالهامش «وتعالى» (18) العديل: التعديل (19) السورة 6 الآية 103

وتقدّمت مراسمنا باستدعا التقىّ بن التيميّة المذكور إلى أبوابنا عند ما شاعت فتاويه شأما ومصرا، وصرّح فيها بألفاظ (2) ما سمعها ذو فهم إلاّ وتلا {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} (3) ولمّا وصل إلينا، تجمّع أولو (4) الحلّ والعقد، وذوو التحقيق والنقد، وحضر قضاة الإسلام، وحكّام الأنام، وعلما الدين، وفقها المسلمين، وعقد له مجلس شرع، فى ملأ من الأيمّة والجمع، فثبت عند ذلك عليه، جميع ما نسب إليه، بمقتضى خطّ يده، الدالّ على معتقده، وانفصل ذلك الجمع، وهم لعقيدته منكرون، وآخذوه (8) بما شهد به قلمه عليه {سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ} (9) وبلغنا أنّه كان استتيب فيما تقدّم، وأخّره الشرع الشريف لمّا تعرّض إلى ذلك وأقدم. ثمّ عاد بعد ردعه ومنعه، ولم تدخل تلك النواهى فى سمعه فلمّا ثبت ذلك فى مجلس الحكم العزيز المالكىّ، حكم الشرع الشريف بأن يسجن هذا المذكور، ويمنع من التصرّف والظهور ومرسومنا هذا يأمر بأن لا يسلك أحد ما سلكه المذكور من هذه المسالك، وينهى عن التشبّه به فى اعتقاد مثل ذلك، أو يغدو له فى هذا القول متّبعا، أو لهذه الألفاظ مستمعا، أو يسرى فى التجسّم مسراه، أو أن يفوه بجهة للعلوّ، مخصّصا أحدا (18) كما فاه، أو يتحدّث إنسان فى صوت أو حرف، أو يوسّع القول فى ذات أو وصف، أو يطلق لسانه بتجسيم،

(2) بألفاظ: باللفاظ--ذو: ذوو (3) السورة 18 الآية 74 (4) أولو: اولوا--وذوو: ودوى (8) وآخذوه: وو اخدوه (9) السورة 43 الآية 19 (18) أحدا: احد

أو يحيد (1) عن طريق الحقّ المستقيم، أو يخرج عن رأى الأمّة، أو ينفرد عن علماء الأيمّة، أو يحيّز الله تعالى فى جهة، أو يتعرّض إلى حيث وكيف، فليس لمن يعتقد هذا المجموع عندنا غير السيف فليقف كلّ أحد عند هذا الحدّ، ف‍ {لِلّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (5) فليلزم (5_) كلّ من الحنابلة بالرجوع عمّا أنكره الأيمّة من هذه العقيدة، والخروج من هذه المشتبهات الشديدة، ولزوم ما أمر الله به من التمسّك بمذاهب أهل الإيمان الحميدة، فإنّه من خرج عن أمر الله تعالى {فَقَدْ ضَلَّ سَااءَ السَّبِيلِ} (8) وليس له منّا غير السجن الطويل من مقيل ومتى أصرّوا على الامتناع، وأبوا (9) إلاّ الدفاع، فليس لهم عندنا حكم ولا قضاء ولا إمامة، ولا نسنح لهم فى بلادنا بشهادة ولا منصب ولا إقامة، ونأمر بإسقاطهم من مراتبهم، وإخراجهم من مناصبهم. وقد حذّرنا وأعذرنا، وأنصفنا حيث أنذرنا فليقرأ مرسومنا هذا على المنابر، ليكون أعظم زاجر وأعدل ناه وآمر. وليبلّغ للغايب الحاضر والخطّ الشريف أعلاه، حجّة بمقتضاه وكتب هذا المرسوم عدّة نسخ، ونفذ إلى ساير الممالك الإسلاميّة. وتولّى قراية هذا المرسوم الوارد بدمشق القاضى شمس الدين محمد بن شهاب الدين محمود الموقّع، وبلّغ عنه ابن صبيح المؤذّن. وأحضروا الحنابلة بعد ذلك، واعترفوا عند قاضى القضاة جمال الدين المالكىّ بأنّهم جميعهم

(1) يحيد: يتحيد (5) السورة 30 الآية 4 (5_) فليلزم: فليزم (8) السورة 2 الآية 108 (9) وأبوا: وأبو

ذكر السبب الموجب لهذه الفتن المذكورة

يعتقدون ما يعتقده الإمام محمد بن إدريس الشافعىّ رضى الله عنه، وهو قوله: آمنت بالله وما جا عن الله عن من آمن بالله، وآمنت برسول الله وما جا عن رسول الله عن مراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر السبب الموجب لهذه الفتن المذكورة وذلك أنّ بعض أصحاب الشيخ تقىّ الدين بن التيميّة أحضر للشيخ كتابا (6) من تصانيف الشيخ محيى الدين بن العربىّ يسمّى «فصوص الحكم» وذلك فى سنة ثلاث وسبع ماية، فطالعه الشيخ تقىّ الدين، فرأى فيه مسايل تخالف اعتقاده. فشرع فى لعنة ابن العربىّ وسبّ أصحابه الذين يعتقدون اعتقاده. ثمّ اعتكف الشيخ تقىّ الدين فى شهر رمضان وصنّف نقيضه وسمّاه «النصوص على الفصوص» وبيّن فيه الخطأ الذى ذكره ابن العربىّ. وبلغه أنّ شيخ الشيوخ كريم الدين شيخ خانقاه سعيد السعدا بالقاهرة المحروسة له اشتغال بمصنّفات ابن العربىّ، وأنّه يعظّمه تعظيما كبيرا وكذلك الشيخ نصر المنبجىّ. ثمّ إنّ الشيخ تقىّ الدين صنّف كتابين فيهما إنكار كثير على تأليف ابن العربىّ، ولعنه فيهما مصرّحا ولعن من يقول بقوله، وسيّر الكتاب الواحد للشيخ نصر المنبجىّ والآخر للشيخ كريم الدين. فلمّا وقف عليه الشيخ نصر حصل عنده من ذلك أمر عظيم، وتألّم له تألّما بالغا (16) وحصل له إنكاء شديد وكان الشيخ نصر كما قد تقدّم من الكلام منزلته عند الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير العالية. وأنّ بيبرس لا يقوم ويقعد إلاّ به

(6) كتابا: كتاب (16) تألما بالغا: تألم بالغ

فى ساير حركاته. وكان ساير الحكّام من القضاة والأمرا وأرباب المناصب يتردّدون إلى عند الشيخ نصر لأجل منزلته عند بيبرس الجاشنكير، فحضر عنده القاضى زين الدين بن مخلوف المالكىّ عقيب وقوف الشيخ نصر على كتاب الشيخ تقىّ الدين، فأوقف القاضى على الكتاب المذكور. فقال له القاضى: أوقف الأمير ركن الدين عليه وقرّر معه ما أحببت، وأنا معك كيف شئت. وألزم الأمير ركن الدين بطلبه إلى الديار المصريّة وتسأله عن عقيدته. فقد بلغنى أنّه أفسد عقول جماعة كبيرة، وهو يقول بالتجسيم، وعندنا من اعتقد هذا الاعتقاد كفر ووجب قتله. -فلمّا حضر الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير عند الشيخ نصر على عادته، أجرى له ذكر ابن التيميّة وأمر عقيدته، وأنّه أفسد عقول جماعة كبيرة، ومن جملتهم نايب الشأم وأكبر (11) الأمرا الشأميّين، والمصلحة تقتضى طلبه إلى الأبواب العالية ويطلب منه عقيدته، وتقرأ على العلماء بالديار المصريّة <من> المذاهب الأربعة، فإن وافقوه وإلاّ يستتيبوه ويرجعوه ليرجع عن مذهبه واعتقاده ساير من لعب بعقله من الناس أجمعين. ثمّ ذكر له ذنوبا أخر حتى حرّض بيبرس على طلبه ثمّ بعد ذلك جرت فتن للحنابلة بمدينة بلبيس. ثمّ انتقل الحال إلى القاهرة، وحصل لبعض الحنابلة إهانة (17) واعتقل منهم جماعة. وجرت فتن عظيمة بين الأشاعرة والحنابلة بالشأم، وكان النايب غايبا بالصيد، فلمّا حضر أمر بإصلاح ذات البين، وأقرّ كلّ طايفة على حالها. وجرى فى القاهرة أيضا على الحنابلة أمور شنيعة، وألزموهم بالرجوع عن العقيدة

(11) وأكبر: واكبرا (17) إهانة: اهنه

وأن يقولوا: إنّ القرآن العظيم هو المعنى القايم بالنفس، وإنّ ما فى الصحف عبارة عنه، وإنّ ما هو (2) فى الصحف موجود ومحفوظ فى الصدور ومقرّ بالألسنة مخلوق، وإنّ القديم هو القايم بالنفس، وألزموا بنفى مسألة الغلوّ والتصريح بذلك، وأنّ جميع ما ورد من أحاديث الصفات لا يجرى على ظاهرها بوجه من الوجوه. وجرى عليهم كلّ مكروه. وكان القاضى شرف الدين الحنبلىّ قليل البضاعة فى العلم، ولم يدرى ما يجيب (6) به، وكان أكبر من تحدّث فيهم وألزمهم بذلك، القاضى زين الدين المالكىّ رحمه الله، انتصارا للشيخ نصر فى ذلك الوقت. وكان القاضى زين الدين عالما جيّدا (9) وفقيها حسنا رضى الله عنه، يتحدّث فى المذاهب الأربعة. وكذلك ساعدوه جماعة من الشافعيّة، فكان هذا سبب أصول الفتن المذكورة، وسيأتى ذكر (11) بقيّة ما جرى لتقىّ الدين بن التيميّة فى سنة ستّ وسبع ماية إنشا الله تعالى وفيها كان ابتدا الحفير بالخليج الناصرىّ الواصل إلى ثغر الإسكندريّة. وكان شادّ حفره الأمير بدر الدين بكتوت أمير شكار نايب ثغر الإسكندريّة المحروس، وغرم عليه أموال جمّة، وحصل فيه التعب الكثير، لكن أورث ذلك راحة عظيمة ومنفعة عامّة شاملة، وكان رأى سعيد وتدبير حسن، ونظر مبارك موفّق ناجح، ولله الحمد والمنّة

(2) هو: بالهامش (6) يحيب: يجب (9) عالما جيدا وفقيها حسنا: عالم جيد وفقيه حسن (11) ذكر: بالهامش

ذكر [حوادث] سنة ست وسبع ماية

ذكر [حوادث] سنة ستّ وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما يخصّ من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أمير المؤمنين سليمان، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر عزّ نصره، سلطان الممالك الإسلاميّة، قرن الله ملكه بالأبديّة، والنوّاب بمصر والشام، حسبما تقدّم من الكلام، فيما تقدّم فى الأعوام، وكذلك ملوك الأمصار، فى ساير الأقطار فيها فى ثالث عشر صفر، وصل رسل سيس بالحمل، وهو ستّ ماية ألف درهم، وتحف وهدايا، وبغال وأجمال نعال ومسامير عدّة أربعين جملا، ومايتى وسبعين أسيرا من المسلمين وفيها فى آخر يوم من شهر رمضان المعظّم، أحضر الأمير سيف الدين سلاّر، الموالى القضاة الثلاثة الشافعىّ والمالكىّ والحنفىّ، ومن الفقها الباجىّ والجزرىّ والنمراوىّ، وتكلّم معهم فى إخراج الشيخ تقىّ الدين بن التيميّة، فاتّفقوا على أن يشترط عليه أمور ويلزم بالرجوع عن العقيدة. فأرسلوا إليه من يحضره ليتكلّموا معه فى ذلك. فلم يجب إلى الحضور، وتكرّر إليه الرسول ستّ دفعات، وهو مصمّم على عدم الحضور، وطال عليهم المجلس، فانصرفوا على غير شئ وفيها توجّه الركاب الشريف السلطانىّ إلى الصعيد، وفى ركابه الأمير سيف الدين سلاّر، وتصيّد وعاد إلى القلعة المحروسة فى خير وعافية وفيها توفّى الأمير بدر الدين بكتاش الفخرىّ أمير سلاح، رحمه الله تعالى، وكان من أكابر الأمرا الصالحيّة النجميّة، ومن كبار المقدّمين الألوف بالديار

ذكر [حوادث] سنة سبع وسبع ماية

المصريّة. وكان قد نزل عن إمرته وخرج عن إقطاعه، وانقطع إلى الله عزّ وجلّ، وتوفّى بطّالا (2)، لكن كان قد أجرى عليه مولانا السلطان راتبا جيّدا فيه كفايته ذكر [حوادث] سنة سبع وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما يخصّ من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أمير المؤمنين سليمان، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر خلّد الله ملكه، وجعل الأرض بأسرها ملكه، سلطان الإسلام، بممالك الأنام، والنوّاب بمصر والشام، حسبما سقناه من الكلام، وكذلك الملوك، على هذا السلوك فيها كان ابتدا تغيّر الخواطر الشريفة السلطانيّة على مماليكه ومماليك أبيه، وامتنع من العلامة الشريفة على المراسم العالية، ووقف حال العالم. وكان ذلك فى أوّل شهر المحرّم من هذه السنة. فلمّا كان يوم الأربعا ثالث الشهر ظهر الأمر، وشاع الخبر بين الخاصّ والعامّ، وحصل خباط فى القاهرة وغلّقوا الناس دكاكينهم. وطلع إلى القلعة جماعة من الأمرا وعليهم السلاح تحت ثيابهم، وصار على القلعة يزك. وركب الأمير شمس الدين سنقر الأعسر فى جماعة من الأمرا، وأحاطوا بالإسطبل السلطانىّ. وبات الناس ليلة الخميس كذلك، وهم على غاية الوجل. واشتدّ الحال وكثرت الأراجيف والأقاويل بالأسواق. وأقام الأمر كذلك إلى يوم الثلثا وكلّ من الأميرين فى بيته مع من (19)

(2) بطالا: بطال (19) مع من: معمن

يلوذ به من الأمرا. ثمّ إنّهم راسلوا مولانا السلطان وترقّقوا له، فرجع إلى لينه الشريف الطاهر، ولان لهم بعد القساوة، ودخلوا إليه، ووقفوا بين يديه، وأخلع عليهم، وكانوا قد تخيّلوا من الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار، وقالوا: ما غيّر خواطره الشريفة علينا غيره. -فأجمعوا رأيهم على خروجه عنهم من الديار المصريّة. فخرج هو وبعض مماليكه من المماليك السلطانيّة. فأقاموا بغزّة أيّاما ثمّ رجعوا المماليك السلطانيّة إلى الخدمة الشريفة، ورسم للأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار بنيابة قلعة الصبيبة. وكان يترجّى العودة إلى الديار المصريّة، فاستمرّ فى الصبيبة إلى شهر شعبان المكرّم حصل لنايب صفد الأمير شمس الدين سنقر شاه المنصورىّ مرض، فسيّر يسأل النقلة إلى دمشق. فورد المرسوم للأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار بنيابة صفد، عوضا عن الأمير شمس الدين سنقر شاه، ورسم لسنقر شاه بالتوجّه إلى دمشق على إقطاع الأمير ركن الدين الجالق، بحكم وفاته حسبما نذكر ذلك فى تأريخه. فتوجّه الأمير شمس الدين سنقر شاه إلى دمشق، فتوفّى قبل دخوله إليها بأرض ضيعة دارايا. وخلّف من الأموال ماية ألف دينار وعشرة آلاف دينار، ومن الخيول والجمال والبغال والبرك والعدّة والسلاح والقماش والأوانى ما قيمته مثلها. ولم يخلّف غير بنت واحدة، وشريكها السلطان وفيها وصل فتح الدين بن ضبرة من أسر التتار إلى دمشق المحروسة. وكان سبب خلاصه ما ذكره من لسانه ما كان من أمر التتار مع أهل كيلان

ذكر ما كان بين التتار وبين أهل كيلان

ذكر ما كان بين التتار وبين أهل كيلان حدّثنى الملك الكامل رحمه الله فى سنة عشرة وسبع ماية بدمشق المحروسة، قال: قال فتح الدين بن ضبرة: إنّ كان سبب خلاصه من الأسر ووصوله إلى الإسلام، ما كان من نصرة الكيلانيّة على التتار. وكان ذلك فى أوّل شهر المحرّم من هذه السنة. وذلك أنّ الملك خدابنداه طلب من أهل كيلان فتح طريق إلى بلادهم ومنها إلى خراسان. وكان ذلك مضرّة عليهم، فامتنعوا من ذلك، وراسلهم فى هذا الأمر دفوعا (7) عدّة، فلم يجيبوه إلى ذلك البتّة. فغضب وجرّد إليهم ستّين ألفا: مع قطلو شاه أربعين ألفا ومع جوبان عشرين ألفا. فتوجّهوا ووصلوا إلى بلادهم. ونزل قطلو شاه مع أصحابه فى صخرات هناك. وانفرد جوبان وأصحابه فى مكان آخر. ففتح الكيلانيين عليهم من البحر مكانا (11) يعرفونه فى الليل. فوصل إلى التتار الماء من كلّ جانب، ورموا أيضا فى تلك الغياض التى محتاطة بهم النار، فعملت فى تلك الأشجار المحدقة. فاضطربت التتار فى ذلك الليل البهيم. وعاد الماء يزيد عليهم حتى غرق منهم جمع كثير، فحاروا ودهشوا. وإن هربوا من الماء لقيتهم (15) النار، واحتاطت بهم أهل كيلان يقتلون ويأسرون، وعادوا يقتلون بعضهم بعضا (16)، وأصيب مقدّمهم قطلو شاه، وقتل وعدم منهم عالم عظيم وأمّا أصحاب جوبان، فكانوا بعيدين من ذلك الماء، فسلم أكثرهم وولّوا هاربين، لا يعى الأخ على أخيه ولا الوالد على ولده. وذكر أنّ

(7) دفوعا: دفوع (11) مكانا: مكان (15) لقيتهم: لقيهم (16) بعضا: بعض

الملك خدابنداه كان معهم وأنّ بعض الكيلانيّة أخذه ونجا به. وفرح بموت قطلو شاه نايبه، فإنه كان غالبا على أمره. وذكروا التجّار أنّ هذه البلاد الكيلانيّة مسافة سبعة أيّام، فى عرض ثلاثة أيّام، والبحر محيط بها من جانب والجبال من جانب، ولها طريقين لا غيرهما. تزرع الأرزّ لأجل قوتهم. وهى بلاد ضيّقة حرجة كثيرة الوعر، وأكثر ما عليهم من المضرّة صاحب مازندران، لما بينهم من العداوة القديمة بسبب المجاورة لهم، والحروب بينهم لا تكاد تنقطع، والله أعلم وفيها قتل الملك خدابنداه بولاى (8)، فإنّه بلغه عنه كلام كثير، قتله فى شهر ربيع الآخر. ثمّ إنّه أرسل الشيخ براق-الذى كان قدم إلى دمشق رسولا فى السنة الخالية-إلى الكيلانيّة، فقتلوه. فانزعج لذلك وجرّد إليهم جيشا فيه ماية ألف، ونزل بنفسه على المازندران. وكان عند خروج ابن ضبرة تركهم على ذلك وفيها فى العشر الأوّل من شهر ربيع الأوّل، وصل الأمير حسام الدين مهنّا بن الأمير شرف الدين عيسى بن مهنّا إلى الأبواب العالية، واجتمع بالمقام الأعظم السلطانىّ، وحصل له من الإقبال والإنعام شئ كثير. وخاطب مولانا السلطان فى أمر الشيخ تقىّ الدين بن التيميّة، فأنعم مولانا السلطان له بإطلاقه. فتوجّه إليه الأمير حسام الدين مهنّا بنفسه إلى السجن، وأخرجه يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأوّل، وأحضر إلى دار النيابة بحضرة الأمير سيف الدين سلاّر وأحضر له بعض الفقها، وحصل بينهم كلام كثير وبحث زايد يضيق هذا المجموع عن بعضه، وقربت صلاة الجمعة فافترقوا. ثمّ اجتمعوا وبحثوا إلى المغرب ولم ينفصل لهم أمر. ثمّ اجتمعوا يوم الأحد الخامس والعشرين من الشهر، وحضروا جماعة فقها أخر، وحضر

(8) بولاى: لبولاى

الشيخ نجم الدين بن رفعة، وعلاء الدين الباجىّ، وفخر الدين بن أبى سعد وشمس الدين الخطيب الجزرىّ، وعزّ الدين النمراوىّ (2)، وشمس الدين عدلان وصهر المالكىّ وجماعة أخر فى تعدادهم طول كثير. ولم تحضر الموالى القضاة، وطلبوهم فاعتذروا. وقبل عذرهم نايب السلطان، ولم يكلّفهم إلى الحضور. وتباحثوا ذلك اليوم فى مجلس الأمير سيف الدين سلاّر، وانفصل المجلس على خير. وبات الشيخ تقىّ الدين عند نايب السلطان، وكتب بيده كتابا (6) إلى دمشق مضمّنا (7) خروجه من السجن. وأقام بعد ذلك بدار ابن شقير بالقاهرة. ورسم نايب السلطان بتأخيره عن التوجّه مع مهنّا لمصلحة فى ذلك وفى يوم الجمعة رابع عشر ربيع الآخر، عقد له مجلس (9) آخر بالمدرسة الصالحيّة بعد الصلاة. وكان مهنّا قد سافر، وبحثوا معه. ووقع الاتّفاق على تغيير الألفاظ (11) فى العقيدة، وانفصل المجلس على خير. واستقرّ بعد ذلك بالقاهرة، والناس يجتمعون به ويهرعون إليه، ولم يزل كذلك إلى أن سافر فى سنة اثنتى عشرة وسبع ماية. واستقرّ إلى أن توفّى رحمه الله تعالى فى تأريخ ما يأتى ذكره وفيها ورد الخبر بوفاة أبى يعقوب يوسف المرينىّ صاحب المغرب، رحمه الله. وقام بأمر الملك ولده صالح وفيها توفّى الأمير ركن الدين بيبرس الجالق فى تاسع عشر جمادى الأولى بظاهر الرملة. وحمل إلى القدس الشريف، فدفن فيه بوصيّة منه. وكان أميرا كبيرا من جمداريّة السلطان الملك الصالح نجم الدين أيّوب

(2) النمراوى: النمرواى (6) كتابا: كتاب (7) مضمنا: مضمن (9) مجلس: مجلسا (11) الألفاظ: اللفاظ

وأمّره السلطان الملك الظاهر، وهو آخر من أمّر من المماليك الصالحيّة. حكى عنه أنّه قال: رأيت فى عمرى مرّتين ليلة القدر، فلم أدعوا إلاّ أن يطول الله فى عمرى. -فعاش من العمر ثمانين سنة وأكثر. وترك شيئا كثيرا (4) من الأموال لورثته. وكان كثير البرّ والخير والصدقة والمعروف، رحمه الله تعالى وفيها توفّى الصاحب تاج الدين محمد بن فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين علىّ بن محمد بن سليم المصرىّ المعروف بابن حنا، يوم السبت خامس جمادى الآخرة ببركة الحبش، وحمل إلى القرافة ودفن بها بجوار الشيخ فخر الفارسىّ قريبا من تربة الإمام الشافعىّ رضى الله عنه. وصلّى عليه الشيخ أخو المرجانىّ أوّلا، ثمّ صلّى عليه الشيخ تقىّ الدين بن التيميّة ثانيا. وكانت له جنازة مشهودة لم يرا مثلها. وأمّا رياسته ومعرفته وحسن تصرّفاته وجوده وكرم طباعه وحسن إسلامه وعقيدته واعتقاده فى الفقرا والصالحين وإيثاره لهم فلا تكاد تعدّ. ومن محاسنه رحمه الله هذا الأثر (14) النبوىّ الذى فى رباطه موقوفا بحسب البركة، وهو القصعة والمرود النحاس والمخصف، المثبوت أنّهم من أثر سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، شراهم بستّين ألف درهم، وأوقفهم فى رباطه الذى بجسر الأفرم ظاهر مصر على النيل المبارك. فلو لم يكن من حسن اعتقاده سوى هذه لكان فيها الكفاية له، رحمه الله وساير المسلمين. وكان معلّم الطرفين: جدّه لأبيه الصاحب بهاء الدين، وجدّه لأمّه الصاحب شرف الدين الفايزىّ. ولم يبرحوا بيت رياسة وحشمة من أوّلهم إلى آخرهم

(4) شيئا كثيرا: شئ كثير (14) الأثر: الاثار--القصعة: القطعة القصعة

وفيها توفّى الشيخ الصالح عمر السعودىّ رحمه الله فى زاوية سيّدى الشيخ أبى (2) السعادات ودفن بها. وكان من الصلحا الفحول، الكبار العلم والعمل. وكان له وجاهة عظيمة فى الدولة المنصوريّة والدولة الأشرفيّة، حتى كان الشهيد الملك الأشرف-إذا ركب نحو بركة الحبش-ركب الشيخ عمر هذا إلى جانبه حماره. وكان بينه وبين الوالد رحمه الله أخوّة وصحبة متأكّدة. قال الشيخ عمر للوالد وأنا أسمع: إنّ السلطان الملك الأشرف كنت مسايره ذات يوم وهو بقرب الزاوية، فوقف الفرس الذى تحت السلطان وبال. فقال الشيخ: ينبغى أن يكون هنا تذكار حسن لمولانا السلطان. -فقال: ما هو -يا شيخ؟ -قال تحفر بير الزاوية وبحر الماء على قناطر إليها. -فأمر بذلك، فهى البير الجديدة التى تجرّ إلى الزاوية، وطلعت عذبة الماء بخلاف البير العتيق. وكانت الزاوية فى أيّامه يعجز الوصف عن جميع محاسنها وكثرة خيرها وترادف فتوحها. وكان يوم سبت العادة يروح بها أوقات عظيمة لا يتأخّر عنه كبير ولا معتبر ولا مقرئ ولا واعظ. والسعيد الذى يلحق نوبة للكلام مع التخفيف مع خيرات كانت تعمل! فسبحان من يغيّر ولا يتغيّر! ولمّا توفّى الشيخ عمر كأنه جرّ جميع ذلك معه، فمات ذلك الخير لموته. قال العبد الواضع لهذا التأريخ، أضعف خلق الله وأفقرهم إليه: سمعت الشيخ عمر يقول: سمعت الشيخ مفتاح يقول: سمعت سيّدى الشيخ أبا (18) السعادات يقول: إنّ صاحبى الواحد، أو قال: الواحد من أصحابى، ليشفع يوم القيامة (19) فى سابع جار من جيران داره. -وهذا القول عن تمكّن كثير. ولسيّدى الشيخ أبى السعادات أحوال خوارق، أثبتّها حسبما اتّصل

(2) أبى: أبو (18) أبا: ابى (19) يوم القيامة: يوم القيمة

بى من سماعها من سيّدى الشيخ عمر فى مدّة صحبتنا له وتردادنا إليه فى جزء لطيف سمّيته «عادات السادات سادات العادات فى مناقب الشيخ أبى السعادات» ولولا خيفة الإطالة لأثبتّ هاهنا منه جملة لطيفة. وإنّما فى هذا الخبر الفرد الذى أوردته لكلّ مريد {أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (4) كفاية إذ لا بعده نهاية. فهذه كرامة فرديّة جزئيّة من مجمّديّة. و (5) كانت وفاة الشيخ عمر قدّس الله روحه ونوّر ضريحه فى اليوم الثانى من جمادى الآخر سنة سبع وسبع ماية (7) وفيها توفّى الأمير بهاء الدين يعقوبا الشهرزورىّ، وكان من الأمرا (8) الكبار الأعيان المقدّمين الألوف، ومن شجعان المسلمين المشهورة، وفرسانهم المذكورة. وكانت له المنزلة الكبيرة عند الملوك. توفّى <فى> السابع والعشرين من ذى الحجّة، وخلّف أولادا (11) مجازفين لم يموتوا حتى سجدوا بالطرقات، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلىّ العظيم، ونسأله أن يسترنا وذرّيّتنا إلى آخر دقيقة، بمحمد وآل محمد وفيها توفّى الطواشى شمس الدين صواب الشهابىّ البحلاق، وكان جميع أولاد الأمرا الأعيان مضافين (15) فى تقدمته. فكان وطاقه إذا خرج كأنه زهر البستان، رحمه الله وفيها توفّى الأمير شمس الدين المعروف بشلجونة، تولّى القاهرة مدّة كبيرة ثمّ ولى مصر وتوفّى (18) بها، رحمه الله وعفا عنه وعنّا وعن ساير أموات المسلمين

(4) السورة 50 الآية 37 (5 - 7) وكانت. . . سبع ماية: بالهامش (8) الأمرا: الامر (11) أولادا: اولاد (15) مضافين: مضافون (18) توفى: تفا

ذكر [حوادث] سنة ثمان وسبع ماية

ذكر [حوادث] سنة ثمان وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما يخصّ من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أمير المؤمنين سليمان، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر مالك نواصى أعداه الطغاة، المتغلّبين البغاة، سلطان الإسلام، أعزّ الله بدوام أيّامه الأيّام، إلى حين غضبه على مماليك أبيه، حكّام دولته، وتوجّه ركابه الشريف إلى الكرك المحروس وعودته. وذلك أنّه أعزّ الله أنصاره، وضاعف اقتداره، لمّا علم أنّ الرعيّة، حقوقهم ضايعة غير مرعيّة، وأنّ تلك الطايفة البرجيّة، لم يقوموا بما يجب عليهم من الأمور الشرعيّة، وأنّ ظلمهم قد عمّ وفشا، ولا عاد فيهم من يرتدع ولا يخشى، حتى عاد إذا ظلم مظلوم ووقف يشكى حاله، قبض عليه وأعيد إلى ظالمه، فيشدّ ويوثق فى حباله، ويضرب ويعتقل، ومن سجن إلى سجن ينتقل. فلم يجسر مظلوم بعدها أن يفوه بظلامته، لتحقّقه أنّه إذا شكى حاله فقد عدم سلامته، وعاد كلّ منهم يحكم ولا يحكم عليه، وقد سلّمت أمور الرعيّة إليه. وكان فيهم عدّة من الأشرار، لا يعرفون جنّة ولا نار، مرتكبين من الفواحش عظامها، فاليونسىّ إمامها، وبلاط صاحب زمامها، قد جسرا على أذيّة العباد، واستحلا حريمهم والأولاد حتى عادا كقوم عاد {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ} (19) بعد ذلك من انتقام مولانا السلطان {سَوْطَ (20)} عَذابٍ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ هذا ومولانا السلطان يلاحظ

(19) السورة 89 الآية 11 و 12 و 13 و 14 (20) سوط: صوط --لبالمرصاد: لبمرصاد

ذكر تغلب بيبرس الجاشنكير على الممالك حتى عاد بسوء تدبيره هالك

هذه الأحوال، ويستعظم هذه الأهوال، ويعلم أنّه الراعى المسئول، عن جملة هذه الفصول، وتحقّق أنّ القوم قد طووا بساط العدل، ولا عاد يفيد فيهم العذل، وما لم يجعل السيف مكان السوط (3)، وإلاّ فقد فات فى العدل الفوت، ونظر بعين سلطانه، أعزّ الله أنصاره، وكثّر فى أعوانه، وإذا كلمتهم على الضلالة متّفقة، ولا عاد فيهم على الرعايا شفقة، ورأى أنّه خلّد الله ملكه إذا خرج من بينهم، تفرّقت كلمتهم وصاح غراب البين ببينهم، واختار الله تعالى فى سريرته. فقوّى عزمه الشريف على خيرته، لتنسخ مناقبه الحسان بوصف سيرته فلمّا كان يوم السبت الرابع والعشرين من شهر رمضان المعظّم، توجّه الركاب الشريف، من الديار المصريّة بنيّة الحجاز الشريف، وتوجّه على الدرب الشأمىّ فوصل-حرسه الله من الآفات، وأعانه فى جميع الحركات-إلى الكرك المحروس يوم الأحد ثامن شهر شوّال من هذه السنة. فأجمع الآراء الشريفة فيه على الإقامة، وقد تحقّق أنّهم إذا آل أمرهم إلى الفساد ستدركهم الندامة، وأنّهم بعد ركابه الشريف بعيدون من السلامة، فأقام أيّده الله فى ألذّ (15) عيش وأهناه، وأنضره وأبهاه ذكر تغلّب بيبرس الجاشنكير على الممالك حتى عاد بسوء تدبيره هالك وذلك لمّا نفخ الشيطان، فى مناخره حتى جلس سلطان، ركب يوم السبت الثالث والعشرين من شوّال، وهى الساعة الثالثة من ذلك النهار، وهى الساعة التى أهلك الله تعالى فيها قوم عاد الأشرار

(3) السوط: الصوط (15) ألذ: اللد--وأنضره: وانظره

وكانوا قد اختلفوا على مولانا السلطان كتابا كثير الزور والبهتان. واجتمعوا له قبل ركوبه بيوم، وكان نهار الجمعة بعد صلاة العصر بدار النيابة، ولم يتخلّف من متخلّف. وكان العبد واضع هذا التأريخ قايما (3) بينهم، أنظر لفعلهم وشينهم. فضربوا حلقة عامّة لجميع الأمرا البرجيّة البيبرسيّة، والأمرا السلاّريّة. وقرئ ذلك الكتاب المزورّ، الوارد بزعمهم عن ذلك الملك البدر المصوّر. وكان القارئ له بإعلان وإظهار، الأمير بهاء الدين أرسلان الدوادار. وهو يذكر فيه كلاما (7) يلين الصخور، كالدرّ المنثور، وأنّه قد نزل عن مملكة الديار المصريّة، والبلاد الشأميّة، مع جميع الممالك الإسلاميّة، خلا الكرك المحروس، فإنّه اختار الله تعالى أن يكون جنابها به مأنوس، وقصد بذلك الراحة من التعلّق بمظالم العباد، والتنزّه فى تلك البلاد، وأشار إليهم أن يختاروا من بينهم من يقوم بأمر الملك وسياسة الأمّة، فمن؟ لعلّ أن يكشف الله به تلك الغمّة فلمّا انتهى قراية هذا الكتاب، الذى كان ثمرة عاقبته ضرب الرقاب، مخضوا بينهم الآرا، وما منهم إلاّ من فى كلامه وارى، فنهض (14) البغدادىّ الوزير، السيّئ الرأى والتدبير، حتى عاد عليه ذلك التدبير تدمير، وقال: ما تقولوا، يا أمرا، فى امرأة حسنا كثيرة العشّاق والطلاّب، طلّقها زوجها بهذا الكتاب؟ فما تجد لها بعده أحدا (17) من الخطّاب، فلا بدّ لها من بعل يصونها، وهذا هو عين الصواب. -وافترقوا على هذا الكلام، الذى عاد فى القلب منه كلام، إلى ثانى نهار اجتمع منهم الكبير والصغير، وأجمع رأيهم على تملّك بيبرس الجاشنكير، وما عملوا أنّهم من تلك الساعة قد

(3) قائما: قايم (7) كلاما: كلام (14) فنهض: فنهط (17) أحدا: احد

أسلموه لمنكر ونكير. فركب فى ذلك التأريخ المذكور، وكان أيشم الشهور، ولقّب بالملك المظفّر، ولم يعلم أنّه عاد فريسة ذلك الليث الغضنفر (2). ولقد عاينته لمّا خرج من دار النيابة راكب، والخمول قد حفّ بتلك الأكتاف والمناكب، وقد ظلله سواد بقتام، حتى عاد كأنّه راكب فى ظلام. ولقد-شهد الله-سمعت عدّة من الناس فى ذلك الوقت تقول: انظروا ما على أكتاف هذا الرجل من الخمول! -ولقد كان فى حال إمرته أهيب، ولو امتنع عن هذا الأمر لكان له أصوب. وإنّما كيف كان له فى نفسه تصريف أو تدبير، وقد سبقت بهذه الأحكام المقادير؟ ولم يزل راكبا والأمرا (9) بين يديه مشاة، والغاشية محمولة بين يديه بغير غشاة. ودخل من باب القلّة كذلك حتى نزل فى منزله نزول الملوك، واستمرّ على ذلك السلوك، حتى جلس على تخت الملك ببرج الطارمة، وقلوب أكثر الجيوش متألّمة. هذا وهو قد بلّ لحيته بدموعه، وتحقّق أنّه أوّل يوم من أيّام قطوعه، وأنّ هذا منتهى سعادته، وآخر سيادته. ثمّ إنّ الأمرا اصطفّوا وقبّلوا الأرض بين يديه وزعق الجاويشيّة، فكان ذلك كأنّه نواح عليه. وأخلع فى تلك الساعة على الأمير سيف الدين سلاّر خلعة النيابة. هذا كلّه بعد التحليف بدار النيابة، واستمرّ التحليف ذلك اليوم والثانى والثالث. وما من حالف حلف إلاّ وتحقّق أنّه ناكث، وفى أيمانه حانث وتوجّهوا الأمرا على البريد المنصور، لتحليف أهل القلاع والثغور. فكان المتوجّه إلى الشأم المحروس عزّ الدين أيبك البغدادىّ وسيف الدين

(2) الغضنفر: الغظنفر (9) والأمرا: والمرآ

ساطى، فوصلا إلى دمشق يوم الأحد مستهلّ ذى القعدة، وحلّفوا من بها من الأمرا للسلطان الملك المظفّر، فريسة السلطان الملك الناصر الليث الغضنفر (2). وكان تحليف أهل دمشق بالقصر الأبلق، وكلّ من الناس فى أيمانه يزوّق، لا يحقّق وأحضر أيضا كتاب عن مولانا السلطان الملك الناصر، ادّعى نايب الشأم أنّه أنفذ إليه، وكان مكذوبا عليه، يتضمّن أنّه صحب الناس مدّة عشر سنين لم يؤذى أحدا (7) ولا أخرب بيت أحد، وأنّه قد اختار الانقطاع والعزلة فى الكرك المحروس، وليس له غرض فى الملك، وأنّه يأمرهم بالسمع والطاعة لمن يولّيه الله تعالى هذا الأمر، وأن تكون الشأميّين والمصريين متّفقين الكلمة، وأنّ نزوله عن الملك برضاه، لا اغتصاب. -وجميع ذلك لم يكن له صحّة، وإنّما كان مفتعلا (11) عليه، أحسن الله إليه. وقرئ هذا الكتاب على الأمرا بدمشق قبل التحليف، وأثبتوه على القاضى المالكىّ، وأنفذوه باقى القضاة. ثمّ شرعوا فى دقّ البشاير بالقلعة وعلى دور الأمرا، ونادوا فى البلد: سلطانكم المظفّر ركن الدين بيبرس، ادعوا له! -ثمّ أمر أن تزيّن دمشق. واستمرّ ذلك إلى يوم الأحد ثامن ذى القعدة وحضر نايب السلطان يوم الجمعة المقصورة لسماع الخطبة. حكى لى الملك الكامل رحمه الله، قال: كنت مع الأمير جمال الدين الأفرم، وقد حضرنا لسماع الخطبة باسم الملك المظفّر وإسقاط اسم الملك الناصر حماه الله تعالى. قال: فلمّا وصل الخطيب إلى عند الاسم سها (19) فدعا للملك

(2) الغضنفر: الغظنفر (7) أحدا: احد (11) مفتعلا: مفتعل (19) سها: سهى

الناصر على عادته، ثم استرجع ودعا للملك المظفّر، -قال: فقلت للأفرم: عجب إن أفلح صاحبك، -قال: فضحك الأفرم من كلامى. - ثمّ خرجت الأمرا من الديار المصريّة على البريد المنصور إلى ساير الممالك الإسلاميّة للتحليف، كلّ ناس إلى جهة، وفى تعدادهم طول بغير فايدة. وعلى الجملة فإنّ فى هذاك النهار الجمعة خطب باسم المظفّر فى ساير الممالك الإسلاميّة. وأمّا ما كان من بيبرس الملقّب بالمظفّر، فإنّه ركب يوم السبت سابع الشهر ذى القعدة وعليه الخلعة السودا الخليفتيّة، وأرباب الدولة بين يديه عليهم الخلع وكان فى أوّل هذه السنة قد عزل سعد الدين بن عطايا عن الوزارة، ووزر ضياء الدين بن النشايى. فكان ذلك اليوم حامل التقليد الخليفتىّ، وهو كيس أطلس أسود، ولست أذكر نسخته، فإنّ قلبى وقلمى لم يطاوعانى أثبت فى تأريخى معانى مفتعلة، ليس لها صحّة بل منتحلة. وإنّما كان فى أوّله يقول (13) {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} (14) وكان عدّة الخلع ألف ومايتى خلعة. هذا والناس ودّهم لو أخذ منهم أضعاف ما أنعم به عليهم، وأراحهم من نظره، لما حصل فى قلوب العالم من الوحشة، وكان هذا أمرا (16) من الله تعالى وفيها توفّى نجم الدين خضر الملقّب بالملك المسعود بن الملك الظاهر رحمه الله. وتوفى عزّ الدين الرشيدىّ أستادار الأمير سيف الدين سلاّر، وحزن عليه سلاّر حزنا كثيرا (19)، وقال: ما أشكّ أنّ سعادتى ماتت بموته، وكان كذلك

(13) يقول. . . الرحيم: بالهامش (14) السورة 27 الآية 30 (16) أمرا: أمر (19) حزنا كثيرا: حزن كثير

ذكر [حوادث] سنة تسع وسبع ماية

ذكر [حوادث] سنة تسع وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما يخصّ من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (4) الربيع سليمان أمير المؤمنين، والمتغلّب على الممالك الإسلاميّة: الملقّب بالملك المظفّر بيبرس الجاشنكير المنصورىّ، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر عزّ نصره بالكرك المحروس فى عيش لذيذ ووقت سعيد منتهزا للفرص، فى الصيد والقنص. قد ظهرت له أشاير، تدلّ على بشاير، ودلايل، تنبى عن أمور جلايل، متواترة فى كلّ عشيّة وغداة، أنّه الناصر المنتصر على أعداه، ذات ألسن (9) صادقة، كأنّها ناطقة أشاير البشاير وذلك أنّ مولانا السلطان أيّد الله عزماته، مسعودا فى ساير حركاته وسكناته، ضرب حلقة صيد فى سادس يوم من شهر المحرّم من هذه السنة. فصاد أربعين حمارا وحشيّا (14). فكان ذلك إشارة لعدّة من مسك من أعداه فى أوّل وهلة، من غير مهلة. وعاد إلى الكرك المحروس، وهى تتجلّى فرحا به كالطاووس، وتميس إعجابا كالعروس. ثمّ خرج ثانية فى خامس صفر، فظهرت له دلايل خفيّة، وأشاير مخفيّة، يحلّها أولو (17) العقول الوفيّة، وذلك أنّه قبض على بومة، وقد كسرها عقاب، وقد عادت معه فى أشدّ العقاب. فكانت الإشارة، بمعنى العبارة، أنّ العقاب ملك

(4) أبو: ابى (9) ألسن: اللسن (14) حمارا وحشيا: حمار وحش (17) أولو: اولوا

الطير بأسره، برّه وبحره فى أسره، واليوم أرذلها وأحقرها وأنحسها وأقذرها. فكان الرمز الظاهر، أنّ هذا العقاب الكاسر، هو الملك الناصر، وأنّ هذا البوم المكسور، بيبرس الباغى المقهور. وذلك مطابق لقياس الجنسيّة، يفهمه من كان فيه ذوق وحسّيّة: فإنّ جنس مولانا السلطان الملك الناصر أشرف جنوس الترك من يافثها، وجنس بيبرس أبذأ (5) أنجس جنوسها وأخبثها وأعظم الأدلّة أيضا فى هذا الباب، ما يشهد به عدد الجمّل فى الحساب، وذلك أنّ أعداد حروف (عقاب) سبعة عشر عددا محرّرا: فالعين بعشرة، والقاف بأربعة، والألف بواحد والباء باثنين، وأعداد حروف (الناصر) كذلك: فالألف بواحد، واللام (10) بستّة والنون باثنين، والألف محذوف فى رسوم الخطّ، والصاد ساقط من الأعداد، والراء بثمانية. فحصلت المطابقة بين هذين الاسمين فى الأعداد والحساب. فكان الناصر هو العقاب، من غير شكّ ولا ارتياب. وكذلك أنّ أصل اسم (البومة) بومهة، وهى لفظة فارسيّة، معناها وجه ابن آدم. ذكر ذلك الجاحظ فى «كتاب الحيوان (14)» وهو مشتقّ من كهرومرت الذى هو عند الفرس آدم، وقد تقدّم القول فى ذلك. فأعداد (بومهة) اثنين وعشرين، الباء باثنين، والواو بستّة، والميم بأربعة، والهاء بخمسة، والهاء الثانية بخمسة، فالجملة اثنين وعشرين، و (بيبرس) كذلك: فالباء باثنين، والياء بعشرة، والباء الثانية باثنين، والراء بثمانية، والسين ساقط، فالجملة اثنين وعشرين. فحصلت المطابقة فى هذين الاسمين أيضا. فكان بيبرس هو البومهة فى أعداد الحساب، من غير شكّ ولا ارتياب. فهذه نكتة ظاهرة، وآية باهرة

(5) أبذأ: أبزا (10) واللام: والام (14) لم نجد هذا النص فى «كتاب الحيوان» نشرة الحلبى

ثم خرج أيّده الله إلى الصيد المبارك، والسعد قرينه والتوفيق له مشارك. فصاد كركيّين. فكان فيهما من الإشارة، ممّا يوجد بالقيافة والزجارة، بوجه التصحيف، وقيافة التعريف، وذلك إن صحّف كركيّين، كرك ثبت. كان تقدير الكلام أنّ صاحب الكرك ثبّت، فهو ثابت دون غيره. وإن صحّف كركيّين كرك نبت، كان تقدير الكلام أنّ صاحب الكرك نبّت، فهو ثابت دون غيره. وإن صحّف كركيّين كرك يثب، فهو وثّاب (7) على ملكه، وكلّ وثوب صايد لما يثب عليه. وإن صحّف كرك يبن، فتقدير الكلام أنّه سيبن ويشيّد البناء وكان ذلك. وعلى الجملة فجميع هذه الأشاير صحّت معانيها، حتى بلغت الأيّام أمانيها، فلله الحمد، من قبل وبعد (10) وأمّا بيبرس المكسور، فإنّه لم يزل فى نفسه محصور، وفى حركاته مخذول، وقد تباين له مبادئ الخمول. وقويت شوكة الأشرار، حتى علوا (13) على الأخيار. وتحرّكت فى ذلك العام الأسعار، وحصل لأرباب المعايش البوار، وانقطعت بوادر التجّار، لمّا تحقّقوا أنّ ما ثمّ راحة، وأنّ بضايعهم قد عادت للطمّاعة مباحة، وأن ليس بمصر سلطان تخشى صولته، وكلّ من البرجيّة <هو> الغالب على دولته. فانقطعت السبل وقلّ السالك، ومن كابر له كابر، استهلك ماله وعاد هالك ثم إنّ النيل المبارك تأخّر فى هذا العام، عن جريانه العامّ، حتى (18) عاد لسان حال الوجود ناطق، بلسان صادق. فأمّا لسان حال النيل، فإنّه كما قيل: وعزّة الرحمن، ومن أجرانى من الجنان، وطهّر (20) بى

(7) وثاب: وثابا (10) فلله. . . وبعد: قارن السورة 30 الآية 4 (13) علوا: علو (18) حتى: بالهامش (20) وطهر. . . النفوس: بالهامش

النجوس، وأحيا بى النفوس! لولا شيوخ ركّع، وأطفال رضّع، ودوابّ رتّع (2)، لتوقّفت ولم أطلع. ولو علمت أنّ مصر بلا ناصر، وخالية من نورها الباصر، لما استبشرت منّى بجريان، ولا أصبح فيها قاع ريّان فأجابه أخوه الغمام، وهو فى غاية الآلام: وحقّ من أحيا بمزنى البلاد، وجعلنى رحمة للعباد، وأراهم (5) برقى خوفا وطمعا، ورعدى زمجره سايقى سرعا، لولا أنّ هذه الأمّة مرحومة، لما جدت بديمومة. وإن قطّرت قطرات فى هذه الآفاق، فإنّها دموع مشتاق، قد آلمه من المليك الناصر الفراق، وراجيا منه بالتلاق. وكيف لا؟ وهو أخونا فى الجود، حتى عمّ الوجود. ولولا ما وعدنا به مجرينا، أنّه على عوايده الجميلة يجرينا، وبعيده على ما كان من عوايده الحسان، لتعطّش منّا كلّ مكان، وخلت من مصر والشأم السكّان وقالت القاهرة، وهى كالوالهة الحايرة: وحقّ من أذلّنى بعد عزّى، وأعزّنى بناصرى بعد معزّى، لولا أدين بالرجعة، لما أبقيت من معالمى على بقعة، ولكنت أطبّق أسوارى على سكّانى. ولو عاد لى جوهر ثانى، لما شيّد بنيانى. ولكنّنى أرجو (15) عودة ناصرى، لتقرّ به بواطنى وظواهرى فقالت القلعة، وهى لا ترقى لها دمعة: وتربة الكامل غاية منايى، وأوّل من جدّد معالمى وبنى بى، لولا تحقّقى أن الناصر أجلّ الملوك من سكّانى، وأنّه سيشدّنى ويعلى (19) أركانى، حتى يعود ذكرى فى ساير الآفاق، على ألسنة (20) الرفاق، وتحدو بحسن معالمى حداة النياق، فتمدّ

(2) لولا. . . رتع: إرجع إلى الحديث رقم 882 فى «المقاصد الحسنة» (5) وأراهم. . . وطمعا: قارن السورة 13 الآية 12 (15) أرجو: ارجوا (19) ويعلى: ويعلو (20) ألسنة: اللسنه

طربا لذكر محاسنى الأعناق، وتجعل قصورى مساكن الحور، والولدان من البدور، والليوث من الأسود، وتمحى عنّى هذه الرسوم السود، ويرجع الزمان ويداريه، ويعود الماء إلى مجاريه، لكنت جعلت سمايى أرضا، وطولى عرضا، ولا كنت بهذا الذلّ أرضى. وإنّما سيكون لى شأن-وأىّ شأن! -إذا شيّدت بالبنيان. وعمر فىّ بيت للرحمن، يعلن فيه بالأذان، بأصوات حسان، ويتلى فيه القرآن، مزخرفا كزخرفة الجنان. فلذلك صبرت على هذا الذلّ والهوان، فى هذا الأوان فقال نسيم النيل: أنا النسيم العليل، شوقا إلى ذلك الملك الجليل. فكلّ من لاذ (10) إليه يرتاح، ارتياح الأشباح إلى الأرواح، والخليع اللطيف إلى شرب الراح، وإلىّ فمزاجه يريد الإصلاح. وإنّى سأزوره وقت الإسحار، إذا غرّدت الأطيار، على الأشجار، وأجرّ أذيالى على تلك الأزهار، بتلك الرّبى وهاتيك الديار، وأهدى شذاها، إلى ساكن حماها، شذى يحيى بعطره النفوس، إلى ساكن حمى الكرك المحروس. وسأقرئه منكم السلام، وأبلّغه عنكم هذا الكلام، من بعد ما ألثم بملاثمى الثرى، بين يدى سلطان الورى. فلما أدّى النسيم رسالته، وبلّغ المقام الشريف مقالته، أجابته اللطايف العظيمة، والعواطف الرحيمة، بقول <من الطويل>: نسيم الصبا أهلا وسهلا ومرحبا … حديثك ما أحلاه عندى وأعذبا لقد سرّنى ما قد سمعت من الوفا … وأسكرنى ذاك الحديث وأطربا ويا محسنا قد جاء بالبشر والهنا … ويا طيّبا أهدى من القول طيّبا فإن عادت الأيّام تجمع بيننا … سجدنا لربّ العرش شكرا لما حبا

(10) لاذ: لا

ومن قول القاضى شهاب الدين محمود كاتب الإنشا الشريف فى توقّف النيل ذلك العام <من الكامل:> يا أيّها النيل المبارك إن تكن … من عند ربّك تأت فاجر بأمره أو إن تكن من عند نفسك تأتنا … فالله يبسط برّه فى برّه كم من بلاد ليس تعرف نيلها … ملأ الإله بيوتها من برّه يا ذا الوفاء أراك خنت (6) … عهودنا والحرّ لا يشنى الوفاء بغدره إن كان دفعك ما يجئ مبادرا … إلاّ بإذن مليكه فبعذره قال الصليبىّ (8) … اللعين بجهله والكفر يركض فى جوانب صدره مسرى سرى والنيل أصبح واقفا (9) … قد فاتنا تغليقه فى شهره ومضى النسئ وليس فيه زيادة … إنّ النسئ زيادة فى كفره (10) تبّا له ولكفره (11) … ولنسئه وشهيد شبراه وطينة بئره نحن (12) … الذين لنا بجاه محمد ما يرتجيه فقيرنا من فقره يا ربّ إنّ القمح أصبح غاليا … فارخص بحقّك ما غلا من سعره ارحم بفضلك ركّعا أم رضّعا … أم رتّعا فى ذى الوجود بأسره وأغث عبادك فى بلادك بالوفا … وابسط على المقياس خلعة ستره وأضف إلى تغليقه تغليقة … حتى يرى تخليقة فى مصره وأفض على السّدّ المبارك ماؤه … واكسره ربّ فجبرنا فى كسره إنّا تشفّعنا (18) … بجاه محمد وبشهر مولده الشريف وعشره

(6) خنت: خنث (8) الصليبى: الصلبى (9) واقفا: واقف (10) المصراع الثانى: قارن السورة 9 الآية 37 (11) ولكفره: بالهامش (12) نحن: فنحنا-- يرتجيه: يرتجيه غنينا و(18) تشفعنا: تشفعنا إليك

ذكر عودة الركاب الشريف السلطانى المالكى الناصرى إلى محل ملكه بالديار المصرية وهى المملكة الثالثة

ولنعود إلى سياقة التأريخ بمعونة الله تعالى وحسن توفيقه! -وفيها كان عودة الركاب الشريف الناصرىّ إلى مصره، واستقراره بقصره ذكر عودة الركاب الشريف السلطانىّ المالكىّ الناصرىّ إلى محلّ ملكه بالديار المصريّة وهى المملكة الثالثة السبب فى ذلك ملخّصا: وذلك لمّا أراد الله تعالى من جبر هذه الأمّة المحمديّة، أعاد إليهم الدولة الناصريّة المحمديّة، بلطايف خفيّة، تدقّ على الأفهام الوفيّة. وذلك لمّا كان يوم الثلثا حادى عشرين جمادى الآخرة خرج من الديار المصريّة جماعة من المماليك السلطانيّة الناصريّة وهم ثلاث ماية نفر، يقدمهم من الأمرا الأمير سيف الدين أنغاى قبجق السلحدار والأمير علاء الدين مغلطاى القازانىّ، متوجّهين إلى الكرك المحروس، قاصدين مهاجرين إلى الأبواب الشريفة الناصريّة وكان الوالد سقى الله عهده يومئذ متولى الأعمال الشرقيّة وولاية العربان، وقد أضيف إليه النظر على قطيا وأعمال أشموم الرمّان. وكان الوالى بقطيا يومئذ يسمّى بدر الدين ميخاييل، ووالى أشموم يسمّى أمين الدين. فعبروا تلك الطايفة المهاجرة من ظاهر بلبيس، ولم ينزلوا بها، ولا شقّوها، ولا آذوا أحدا (16) فيها، ولا فى ساير أعمالها. وذلك لما كانوا يروا لنا من حقوق خدمتهم من قبل. فإنّ أنغاى كان لم يزل يتردّد إلى الأعمال وكنّا نخدمه. فرأى لذلك ومنع ساير من معه من التعرّض بأذيّة. وكان عبورهم ببلبيس (19) الثالثة من ذلك النهار. فلمّا كان بعد

(16) أحدا: احد (19) ببلبيس: بليس

الظهر وصل خلفهم من يتبعهم تقدير ألفى فارس، يقدمهم من الأمرا الأمير سيف الدين الملك الجوكندار مع جماعة من الأمرا فى تعدادهم طول. فكانوا المهاجرين فى تلك الساعة بمنزلة الخطّارة، والذين فى أثرهم فى بلبيس، وعادوا يقصرون فى طلبهم. حكى لى والدى وقد رأيته فى تلك الساعة قد لاقى الأمير سيف الدين الملك وهما يتناجيان سرا. فسألته بعد ذلك، قال: قلت له: يا خوند، تمهّل على نفسك، فإنّ القوم الذين خرجتم فى طلبهم مستقبلون، وهم والله على الحقّ وأنتم بخلاف ذلك. قال والدى: فلمّا سمع قولى تبسّم وقال: والله لقد صدقت، يا جمال الدين. دعهم، كتب الله سلامتهم، وبلّغهم مأمنهم ثمّ إن أوليك القوم وصلوا قطيا ثانى يوم الصبح، وقد عملوا الليل كلّه. فنهبوها وأخذوا جميع حاصلها بالصندوق، ولم يزالون يحثّون السير الليل والنهار حتى وصلوا سالمين إلى الكرك المحروس اليوم الثانى من شهر رجب الفرد. فتلقّاهم مولانا السلطان عزّ نصره ملتقى حسنا ورتّب لهم الراتب الجيّد من جميع ما يحتاجون إليه. وأمّا العسكر الذى كان قد خرج فى طلبهم فلم يلحقوا لهم أثرا (15) غير فرس قد وقف أو جمل هجين قد أعيا. فوصلوا إلى الغرابى وعادوا على الأثر إلى ديار مصر بالقاهرة حدّثنى الملك الكامل رحمه الله فى سنة عشر وسبع ماية بدمشق المحروسة ونحن بها يومئذ، قال: لمّا وصلت هذه الجماعة من مصر إلى ركاب مولانا السلطان نفذ عقيب ذلك إلى دمشق نجّاب وصحبته ثلاثة مماليك أحدهم فجليس إلى عند نايب الشأم الأمير جمال الدين الأفرم،

(15) أثرا: اثر

وعلى أيديهم كتب من مولانا السلطان عزّ نصره إليه وإلى جميع الأمرا الكبار بدمشق تتضمّن طلب المساعدة والمؤازرة والنصرة، وأنّ ركابه الشريف يقصد الحضور إلى دمشق، قال: فلمّا وقف ملك الأمرا على الكتاب الذى وصل إليه طلب جميع الأمرا، واجتمعوا بالقصر الأبلق وقرأ عليهم كتابه. وأحضروا أيضا كتبهم الواصلة إليهم. وضربوا فى ذلك مشورا كبيرا (6). ثمّ كتبوا الجواب، وهو جواب واحد، يتضمّن من القول: إن كان العسكر المصرىّ معك فنحن أيضا فى خدمتك، وإلاّ فلا طاقة لنا بالمصريّين، ولا نرى سفك دما الإسلام، ونحن تبع (8) للمصريّين والسلام. - قال الملك الكامل رحمه الله: هذا كان جواب الأفرم التعيس، يقول كذا، ووافقوه جماعة من الأمراء على ذلك ظاهرا، وأجابوه فى كتبهم بخلاف ذلك باطنا، بحيث لا أطلع على ذلك الأفرم فلمّا كان بعد يويمات يسيرة حصل بدمشق أراجيف وأقاويل، واشتهر الأمر أنّ الركاب الشريف السلطانىّ قاصد دمشق، وأنّ بعد توجّه تلك الطايفة المهاجرة الأولة انفتح باب المهاجرة إلى أبوابه العالية، وعادت الناس يصلون إلى خدمته أفرادا وأزواجا من كلّ فجّ عميق رجالا وعلى كلّ ضامر (16)، حتى اجتمع فى خدمته جمع رضيهم لحركة ركابه الشريف. فلمّا تحقّق الأمر عند نايب الشأم جمع الأمرا وضرب مشورا ثانيا (17). فهم كذلك إذ ورد من مصر بريد من عند بيبرس الملقّب بالمظفّر، وكان وصوله آخر نهار الجمعة، وأخبر أنّ أمور المظفّر مستقيمة، وكانت أخبار سقيمة، وعلى يده كتاب من قبله إلى الأفرم يتضمّن:

(6) مشورا كبيرا: مشور كبير (8) تبع: تبعا (16) من كل. . . ضامر: قارن السورة 22 الآية 27 (17) مشورا ثانيا: مشور ثانى

إنّما خرجت هذه الطايفة الشّرذمة اليسيرة عن الطاعة لسوء بختهم وقلّة بصايرهم، ونحن لهم فى أشدّ الطلب، وإن أمعنوا فى الهرب، وسوف يجنوا ثمرة اعتمادهم، ولا ينفعهم من صار إليه ملاذهم. -وفى الكتاب التأكيد على نايب الشأم بحفظ المؤازرة والتيقّظ (4) فى ساير الأحوال ولمّا كان صبيحة ذلك اليوم وهو نهار السبت، اجتمع الأمرا وأحضر القضاة والمصحف المطهّر، وجدّدت الأيمان للمظفّر، ونادوا بدمشق: سلطانكم المظفّر، ومن تكلّم فيما لا يعنيه شنق. -وعاد فى تلك الأيّام الناس يعبرون من ظواهر دمشق إلى البلد، وحصل فى أبواب دمشق الازدحام كأيّام الجفل ثمّ حضر جندىّ وأخبر أنّ ركاب مولانا السلطان الملك الناصر وصل إلى مدينة أذرعات. وظهر من الأفرم المعاندة والمنع، وأنّه لا يمكّنه من العبور إلى دمشق البتّة. وكان قد سيّر قبل ذلك الأمير علاء الدين أيدغدى شقير الحسامىّ والأمير بدر الدين جوبان ليردّوا مولانا السلطان عن قصده. فعاد الأميران من عند مولانا السلطان، وقد أخلع عليهما وأنعم عليهما بذهب له صورة، وخفض (15) لهما جناحه الشريف من ليّن القول. فرجعا وقد استمالا إلى خدمته. ورأى ملك الأمرا أنّ أحواله مع أكثر الأمرا محلولة. فاحتاج أن يلين عن القساوة خوفا على نفسه. ثمّ إنّه سيّر الأمير سيف الدين بهادر آص والأمير سيف الدين بكتمر الحاجب ليشيرا على مولانا السلطان بالعودة إلى الكرك. فعادا إلى دمشق ليلة الثلثا وأخبرا أنّهما لم يجدا مولانا السلطان عزّ نصره بتلك المنزلة التى كان بها، وأنّه رجع إلى الكرك المحروس، ولم يعلم سبب ذلك

(4) والتيقظ: والتيقض (15) وخفض: وحفظ

حدّثنى أحد المماليك السلطانيّة بعد ذلك يعرف بالأرغونى، كان له بالأعمال الشرقيّة إقطاع (2) قبل ذلك على متوفّر العربان، وكان من جملة من توجّه وهاجر إلى الكرك المحروس، قال: كان سبب عودة ركاب مولانا السلطان إلى الكرك تلك المرّة أنّه لمّا وصل إلى مدينة أذرعات كما تقدّم من ذكر ذلك كان قد ذكر لأنغاى والقازانىّ أنّ كتب الأمرا الشأميّين قد وردت عليه تحثّه على الحضور إلى دمشق وكان جرى ذلك. فلمّا وصل إلى خدمته الأميرين الأوّلين وأخلع عليهما ورجعا ونظر أنغاى لظاهر الحال أنّهما منعاه من الوصول إلى دمشق حدّثته نفسه الرديئة (9) أنّه يغدر بمولانا السلطان، ولم يعلم أنّ الملايكة له أعوان. فاجتمع رأيه ورأى القازانىّ على الغدر الذى عاد عاقبته وبالا عليهما. فأطلع مولانا السلطان على بواطنهما فركب فى الليل فى مماليكه وثقاته ومن يعتمد عليه من عشا. فلم يصبح الصباح إلاّ وقد قطعوا بلادا كثيرة (13). فلمّا أصبحوا طلبوه، فلم يجدوه لطفا من الله وتأييدا من النصر. فعادوا لحقوا ركابه الشريف، وقد صار فى قلعة الكرك. فلم يريهم إلا عفوا ورضا، لكنّ أمرهم بالنزول فى الربط دون القلعة. فهذا كان سبب رجوعه-نصره الله-أوّل مرّة وسبب ذنب أنغاى حتى ظفره الله به. واستمرّ الحال كذلك إلى شهر شعبان المكرّم قال الملك الكامل رحمه الله: فلمّا كان ثالث شعبان شاع الخبر بحضور الركاب الشريف إلى دمشق المحروسة. وأنّ الأمير سيف الدين قطلوبك والأمير سيف الدين الحاجّ بهادر قد توجّها إلى خدمته. وكان توجّه قبلهما الأمير ركن الدين بيبرس المجنون والأمير ركن الدين بيبرس العلايى

(2) إقطاع: اقطاعا (9) الرديئة: الرديه (13) بلادا كثيرة: بلاد كثيرة--تأييدا: تأييد

ذكر دخول مولانا السلطان عز نصره دمشق المحروسة

وصلاح الدين بن صارم الدين والى الخاصّ. ولمّا تحقّق ملك الأمرا ذلك قصد الهروب من دمشق. ثمّ تثبّت (2) وأرسل إلى المقام الشريف السلطانىّ الأمير بدر الدين الزردكاش والأمير علاء الدين أيدغدى الجمالىّ لإصلاح شأنه عند مولانا السلطان عزّ نصره. ثم وصل الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار من صفد طالبا لملتقى الركاب الشريف السلطانىّ. فحينئذ ضاق بملك الأمرا الحال فخرج من دمشق ليلة الأحد سادس عشر شعبان مع جميع خواصّه وحفدته، وأخلى القصر الأبلق من جميع ما كان له به. وشرعوا الأمرا مثل الأمير ركن الدين بيبرس العلايى وسيف الدين آقجبا وجمال الدين الطشلاقىّ فى عمل المهمّ وتجهيز الإقامات لحضور الركاب الشريف، ورتّبوا آلات المملكة مثل الكوسات والعصايب والجمداريّة والرمحداريّة والجنايب، ونفذوهم لمولانا السلطان، وخرجوا السوقة والمتعيّشين. والناس يظنّون أنّ ذلك أضغاث أحلام، لسرورهم بقدوم سيّد ملوك الإسلام. وفى عشيّة يوم الأحد وصل الأمير علاء الدين الجمالىّ والزردكاش بأمان مولانا السلطان للأمير جمال الدين ملك الأمرا، فلم يجداه. ثمّ خرج الأمرا مع ساير الناس لملتقى الركاب الشريف. وطلعت الخطبا على المنابر ودعوا لمولانا السلطان. وضجّت العامّة بالدعا وتباشروا بالسرور العامّ ذكر دخول مولانا السلطان عزّ نصره دمشق المحروسة وذلك أنه نودى ليلة الثلثا ليلة ثامن عشر شعبان المكرّم بمدينة دمشق: أن تفتح الدكاكين وتزيّن البلد أعظم زينة لقدوم مولانا السلطان الملك الناصر نصره الله. فزيّنت البلد أحسن زينة. وخرج الناس بأجمعهم من

(2) تثبت: تثبت

النسا والرجال، والصغار والأطفال، وباتوا تلك الليلة على السقايف، وهم لا يصدّقون بالصباح، ليكون صباحهم بذلك الوجه الكريم الوضّاح، وكانت ليلة مشهودة، لم تنظر إلاّ إلى شموع موقودة، وذا يصلح فى بمّه وزيره من عوده، وذا يترنّم فرحا بهذه العودة، وذا يحمد الله على نعمه، وذا يشكره على إزالة نقمه، وذا يرقص طربا لهذه البشارة، حتى الجمادات تعلن بالأفراح إشارة. فيالها من ليلة، ما كان أبركها على العباد، وأبردها على الأكباد! وأصبح الناس على ما هم عليه، من التشوّق والتشوّف إليه. فلمّا كان سابع ساعة من ذلك النهار، وقد فاز المخفون بنظرة فوزا، والطالع آخر الثور وأوّل الجوزا، دخل مولانا السلطان بالسؤدد والخفر، مؤيّدا بالنصر والظفر. وقد حفّته الملايكة زمرا زمر، وضجّت الناس بالدعاء له بالنصر والتأييد، وأن يبلّغه الله كلّ ما يقصد ويريد. وكان هذا اليوم أعظم من كلّ عيد، دقّت فيه البشاير، ودخل فى أيمن طالع وأسعد طاير. فلمّا وصل إلى باب القلعة مدّوا الجسر وفتحوا الباب، وخرج متولّيها السنجرىّ فقبّل التراب (15) فأشار مولانا السلطان، والنور من وجهه قد أشرق: لا أنزل إلاّ بالميدان والقصر الأبلق. -هذا والأمير سيف الدين الحاجّ بهادر حامل الستر الشريف، وقد تشرّف بحمله، وإن كان ثقيلا فقد عاد خفيف. وكان أوّل من شال الغاشية بين يديه الشريفتين، ومشى بها خطوة وميتين، الأمير سيف الدين قطلوبك الكبير. ثمّ دخلوا بعده ساير الأمرا، الكبير

(15) وخرج. . . التراب: بالهامش

منهم دون الصغير، ولمّا استقر مولانا السلطان، نزوله بالميدان، نقل فى تلك الساعة السنجرىّ والى القلعة الخوان (2)، ومدّه فى الميدان، فكان يشتمل على ألوان {صِنْاانٌ وَغَيْرُ صِنْاانٍ} (3) هذا والمغانى تقرع بالدفوف، والعالم من الأمرا والجند صفوف صفوف، وكان فى الجملة مغنّية تسمّى ضيفة الحمويّة، فغنّت بهذا القصيد، فى ذلك الوقت السعيد، واستفتحت به نشيد <من الكامل>: ولقد نذرت بإن رأيتك سالما … ونظرت وجهك أن أصوم شهورا حذرا عليك من الزمان وغدره … حتى تعود مؤيّدا منصورا فأمر لها مولانا السلطان بجملة إنعام. وفى ذلك اليوم نثر الأمير سيف الدين قطلبك على مولانا السلطان عند أوّل جلوسه بالقصر كيس أطلس مليء (11) فصوص ولؤلؤ كبار وحبّات جواهر، ما تحصى قيمته وفى آخر ذلك النهار وصل الأمير سيف الدين تمر الساقى نايب حمص. وفى يوم الأربعا تاسع عشره حلّفوا عسكر صفد وسفّروهم شاليشا يقدمهم الأمير سيف الدين آقجبا الظاهرىّ. واستقرّ مولانا السلطان بالقصر والأمرا فى خدمته. وخطب له يوم الجمعة فى ساير الممالك الشأمية وفى يوم السبت ثانى عشرين الشهر وصل الأمير جمال الدين الأفرم ملك الأمرا مذعنا بالطاعة، والتقاه مولانا السلطان وترجّل له وعانقه. ثمّ قدّم له ولده موسى. فقبّل الأرض بين يدى المواقف الشريفة. فتناوله مولانا السلطان وأجلسه فى حضنه وقبّله ثلاث مرّات، ولا زال فى حضنه

(2) الخوان: الاخوان (3) السورة 13 الآية 4 (11) مليئ: ملاء

حتى سأله أبوه وتناوله منه. وأحضر ابن صبح وقبّل الأرض. فسأل السلطان عنه، فقيل: هذا ابن صبح الذى هرّب الأمير جمال الدين. -فأقبل عليه مولانا السلطان وشكره لوفاه بالأمير جمال الدين وحسن صنيعه له، وأخلع عليه. ورسم لملك الأمرا فى ذلك النهار أن يستقرّ على نيابته، وتقرأ عليه القصص، ولا يغير عليه مغير. وفى يوم الأحد قدّم الأمير جمال الدين تقادم عظيمة لا تقوّم. وفى يوم الاثنين وصل الأمير سيف الدين قبجق من حماة، وكذلك الأمير سيف الدين أسندمر من طرابلس. وخرجوا الأمرا والتقوهم، وخرج لهم مولانا السلطان خلّد الله ملكه والتقاهم ثمّ وصل الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورىّ من حلب. حدّثنى من أثق به أن كان سبب مجيئه سنقر شاه الظاهرىّ، وذلك أنّه ضرب مشور: هل يدخل تحت الطاعة أم لا؟ -فقال له الأمير شمس الدين سنقر شاه: المصلحة عندى أن تدخل فى طاعة ابن أستاذك. فإنّ نحن ما دخل علينا الدخيل إلاّ لمّا خالفنا الملك السعيد ابن أستاذنا. - فبلغ ذلك مولانا السلطان، فكان لسنقر شاه بعدها عند مولانا السلطان يد بيضا. وخرج مولانا السلطان عزّ نصره والتقاه وترجّل له وعانقه ساعة. وحمل قراسنقر شاه فى ذلك اليوم الغاشية بين يدى مولانا السلطان وفى يوم الاثنين مستهلّ شهر رمضان نفق مولانا السلطان فى الجيوش ورسم: كلّ من قبض نفقته سافر إلى غزّه وفى ثالث رمضان المعظّم وصل جيش حلب، وطلب قراسنقر فى أحسن زىّ وأعظم أهبة. وتكمّلت العساكر الشأميّة فى عدّتها وعديدها

ذكر توجه الركاب الشريف إلى الديار المصرية

ذكر توجّه الركاب الشريف إلى الديار المصريّة وذلك لمّا كان الثالث من شهر رمضان المعظّم خرج الدهليز المنصور متوجّها إلى الديار المصريّة وصحبته النوّاب بالممالك الشأميّة، مع القضاة والأيمّة والأمرا وضرب بالجسورة. وفى يوم السبت سادس الشهر وصل مملوك من المماليك الأشرفيّة، من الديار المصريّة، وأخبر أنّ بيبرس الملقّب بالمظفّر فى ضايقة (6) عظيمة، وأنّه يريد الهروب أو يحصّن القلعة، وأنّ الأمير سيف الدين سلاّر عند خيله وبيدّعى أنّه متمارض. ثمّ وصل ستّة نفر من المماليك السلطانيّة، وأخبروا أنّ ساير العساكر المصريّة من الأمرا والجند منتظرين الركاب الشريف الناصرىّ، وأنهم مع بيبرس بالأجسام، والقلوب مع الأسد الضّرغام، والملك الهمام، السلطان الملك الناصر سلطان الإسلام. فلمّا كان يوم الثلثا تاسع رمضان المعظّم خرج الركاب الشريف السلطانىّ الملكىّ الناصرىّ عزّ نصره من دمشق المحروسة ضحى نهار أوّل الثالثة. وفى ركابه الشريف جميع النواب بالممالك الإسلاميّة لم يتأخّر منهم عن خدمته أحد، وكذلك ساير الأمرا والجند. وكان قد تقدّم الجيش الصفدىّ قبل ذلك، حسبما ذكرنا قال الملك الكامل: وكان مولانا السلطان فى ذلك اليوم لابس قباء أطلس أبيض بطرز زركش مصرىّ. -قلت: فعاد كالبدر بين المرّبخ والمشترى، أو كالشمس عند الإشراق لا عند المغيب، قد كتب السعد على تاجه {نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} (19) وكان مقدّم الميمنة الأمير جمال الدين آقوش الأفرم نايب الشأم، ومقدّم الميسرة الأمير سيف الدين

(6) ضايقة: دايقه (19) السورة 61 الآية 13

قبجق نايب حماة والأمير شمس الدين قراسنقر إلى جانبه. وخرج صحبته القاضى نجم الدين بن صصرى وقاضى القضاة الحنفىّ، والقاضى جلال الدين الخطيب والقاضى كمال الدين بن الزملكانىّ مع الموقّعين وكتّاب الجيش. فلمّا كان العشرين من الشهر وصل الأمير سيف الدين بهادر آص من الديار المصريّة. وكان قد سيّر أحضره إلى الديار المصريّة بيبرس لمّا ذكر عنه أنّه كان السبب فى حركة ركاب مولانا السلطان من الكرك المحروس وحضوره إلى دمشق. فأقام بمصر إلى هذا التأريخ، عاد إلى الركاب الشريف السلطانىّ عزّ نصره وكان وصول الركاب الشريف إلى غزّة المحروسة يوم الخميس تاسع عشر الشهر المبارك. ثم تبادروا الأمرا المصريّين إلى غزّة، وأخبروا أنّ بيبرس خلع نفسه من الملك، وأنّه خرج عن الديار المصريّة وملكها. وكان ذلك يوم الثلثا سادس عشر رمضان المعظّم، وأنّ الأمرا والمقدّمين من المصريّين واصلين قلت: هذا جميعه حديث الملك الكامل للعبد فى دمشق فى سنة إحدى عشرة وسبع ماية حسبما تقدّم من ذكر ذلك. وأما ما شاهده المملوك واضعه ومؤلّفه (16) وجامعه ومصنّفه بالمعاينة لا بالسماع، فإنّ نحن كنّا ببلبيس فى ذلك التأريخ، وكان العبد بالقاهرة، أشاهد جميع هذه الأحوال وأطالع بها الوالد رحمه الله ببلبيس أوّلا فأوّلا. وكان قد بلغ بيبرس عنّا من جماعة من العرب كانوا يصحبوه من بنى عبيد من جذام يقال لهم أولاد زامل، بالغ وعامر. فوشوا لبيبرس أنّ نحن مطّلعين على رسول

(16) ومؤلفه: ومآلفه

مولانا السلطان الذى يحضر من الكرك المحروس إلى الديار المصريّة، وكانوا يعنون عن شخص كان فى خدمة مولانا السلطان يسمّى عثمان الركاب. فلمّا ذكروا لبيبرس عنّا ذلك سيّر إلينا سيف الدين بثار-وكان هذا المسمّى بثار أصله مملوك الحاجّ بهادر وعاد عند بيبرس-وعلى يده كتاب من بيبرس ضمنه: أن بلغنا أنّك تطّلع على عثمان الركاب عند ما يدخل ويخرج من الديار المصريّة وعلى يده كتب الناصر صاحب الكرك. ونحن نقسم بالله تعالى: متى صحّحنا هذا عنك أمرنا بتسمير ولدك قدّامك، ثم بتسميرك بعده، ثمّ بتوسيطه قدّامك، ثم بتوسيطك بعده. وإن هذا كان ما هو صحيح عنك فتجتهد فى تحصيل عثمان الركاب المذكور وإحضاره إلينا. فإذا فعلت ذلك سوف ترى ما نفعله معك ومع ولدك من الإحسان الذى يسرّ الصديق ويكمد العدوّ، وفيه تشديد، ووعد ووعيد. -فلمّا قرأه الوالد قال: يا سيف الدين، كلّ أحد يعلم أن العرب أعدايى، وهو أيضا يتحقّق ذلك. وإذا سمع من أعدايى فى حقّى يفعل ما استعمله الله عزّ وجلّ وما هى دنيا بلا آخرة. فأنا رجل لا اطّلعت لا على عثمان ولا على غيره. - فقال له بثار: يا جمال الدين، احترز! فإنّ والله أولاد زامل عمّالين عليك عنده. وأنت خشداش أستاذى القديم وقد نصحتك. -فقال الوالد: فى الله الكفاية. -ثمّ إنّه احترز على نفسه ونفّذنى إلى القاهرة وقال: اخفى نفسك ولا تظهر، وكشّف ساير ما يتجدّد (18) وطالعنى به أوّلا فأوّلا! - ثمّ إنّه ما عاد يقيم إلاّ بالبرّيّة، ولفّ عليه جماعة من عرب العايد، شخصا (20) يسمّى بهادر العايدىّ وجماعته، وجماعة من بنى وليد يوسف بن إبراهيم وأولاد شمخ. وأجمع رأيه، متى حضر إليه من يرى منه شرّ

(18) يتجدد: يتحرر--فأولا: باولا (20) شخصا: شخص

مسكه، وتوجّه فى البرّيّة إلى خدمة مولانا السلطان الملك الناصر بالكرك. وكان هذا الحال عند تحريك الركاب الشريف إلى دمشق أوّل مرة ودخل العبد إلى القاهرة. واختفيت وعدت أستملى الأخبار من بهاء الدين أرسلان الدوادار. فإنّ كان بينى وبينه أخوّة قديمة من حين كان فى بيت طقجى. وتأكّدت الصحبة والأخوّة فى بيت سلاّر. فكان يخبرنى بكلّ ما يتجدّد، وأنا أطالع به الوالد. ثمّ إنّ بيبرس أشغله الله تعالى عنّا بما هو أهمّ من أمرنا وكان هذا الكتاب الذى ورد على الوالد رحمه الله من بيبرس على يد بثار بخطّ المولى كمال الدين محمد بن الأثير رحمه الله، وكان بيننا من الصحبة القديمة ما لا تحدّ بوصف، وكأنه اطّلع على ما نواه لنا بيبرس. فكتب للمملوك كتابا (11) فيه تشوّق واستيحاش، ومن جملته يقول: والمولى المخدوم الوالد بحمد الله سديد الرأى. -ففكرت فى هذه اللفظة إذ هى ليست من بلاغته المشهورة. وإذا هو قد عنى ولوّح إلى واقعة سديد الملك مع جلال الدولة صاحب حلب، وقد تقدّم شرحها فى هذا التأريخ ممّا يغنى عن إعادتها ولاشتهارها. فلمّا فهمتها علمت أنّها قصده بذكر سديد فأجبته: إن مملوك مولانا المخدوم وعريق بابه الوالد لم (16) يكن له رأى فيما اتّهم به. -فلمّا حصل للمملوك الاجتماع بخدمته بعد ذلك رأيته كثير التعجّب من إدراكى لذلك، وكان ما يبرح يذكر ذلك فى الملا والخلا ببديع ألفاظه (19) الحسان، ويكسونى وأنا عريان، رحمه الله تعالى وعوّضه عن دنياه بالجنان!

(11) كتابا: كتاب (16) لم: لن (19) ألفاظه: الفاظه

ثمّ إنّ بيبرس لمّا بلغه تقدّم الركاب الشريف الناصرىّ من الكرك إلى دمشق، وأنّ ساير النوّاب أذعنوا له بالسمع والطاعة، وكان يظنّ أنّ الأمر بخلاف ذلك، وكان معتقدا على اثنين يظنّ أنّهما لا يدخلا تحت الطاعة: الأمير شمس الدين قراسنقر نايب حلب والأمير جمال الدين نايب الشأم. فأمّا قراسنقر فكان فى أوّل الحال قاتلا (5) ومقتولا عليه إلى حيث زرّق عليه من أسقى ولده ناصر الدين محمدا (6) رحمه الله، وتحقّق قراسنقر ذلك منه وقتل أستاداره الذى كان أسقى ولده فخر الدين ألطنبا أستاداره (7). فعاد من ذلك الحين يراييه ويداجيه. وكان ظنّ بيبرس أنّ قراسنقر ما فى نفسه منه شى، وأنّه ما (9) فهم عنه أنّه الذى سقى ولده. فهذا كان سبب انحراف قراسنقر عنه. وأمّا الأفرم فإنّه ما دخل تحت الطاعة إلاّ عن غلوبية ومن تحت القهر ثمّ إنّ الناس عادوا يغشّون بيبرس فى الكلام، ولا ينصحونه لبغضهم فيه. ثمّ إنه رأى أن يؤمّر (13) جماعة من مماليكه، فأمّر تقدير أربعين نفرا منهم طومان وصفنجى وقرمان وتكا وعلم الدين أستادار وصديق وبيبرس الجمدار واللقمانىّ وجعله جاشنكيرا مع جماعة أخر فى تعدادهم طول بغير فايدة. ولقد بلغنى عن صديق أنّه لمّا فرّق مثالات إمرته على من استخدمه ردّ شخص منهم مثالا (17)، فقال له: يا أخا القحبة، ما ترضى تخدمنا دولة المشمش أربعين يوما؟ -فكانوا يتحقّقون أنّ هذه الإمريات لا تتمّ لهم. ثمّ إنّ بيبرس نفق فى الجيش المصرىّ بكماله

(5) قاتلا ومقتولا: قاتل ومقتول (6) محمدا: محمد (7) فخر الدين الطنبا أستاداره: بالهامش--الطنبا: كذا فى الأصل، لعل المقصود ألطنبغا (9) نفسه منه شى وأنه ما: بالهامش (13) يؤمر: يأمّر (17) مثالا: مثال--أخا: اخو

وبلغنى ممّن أثق به أنّه لمّا نفق فى الجيش فتح له فأل من الختمة المطهّرة، فطلع فى أوّل سطر {لَوْ (2)} أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ (3) قال: فطبّق الختمة وبكى، وقال: لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلىّ العظيم ثمّ إنّه جرّد العساكر وجعل المقدّم عليهم الأمير سيف الدين برلغىّ، وكان أخاه (6) ومعتقدا عليه اعتقادا عظيما، وأنعم عليه بثلاثين ألف دينار عين مصريّة. وخرجت العساكر كما قال الله تعالى {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّى} (8) فتقدّم الأمير جمال الدين آقوش الأشرفىّ نايب الكرك ونزل بمنزلة الصالحيّة بمن معه من الأمرا. ونزل الأمير سيف الدين برلغىّ بمنزلة الخطّارة وكنت قد ظهرت بعد ذلك وخرجت إلى الوالد. فكنّا مع الأمير سيف الدين برلغىّ. فلمّا كان يوم الأحد رابع عشر رمضان المعظّم حضر إلينا شخص بدوىّ من العايد يسمّى ركاب بن ريّس وقال لنا: هذا ثوى من عند الملك الناصر وعاينته بعينىّ هاتين، وهو كالأسد وجميع النوّاب فى خدمته. -وعدّدهم واحدا واحدا (15). فلمّا سمع الوالد ذلك منه أخذ البدوىّ وأتينا به إلى الأمير سيف الدين برلغىّ وهو جالس بالشّتر الكبير بمنزلة الخطّارة. فلمّا رأى الوالد طلبه إلى عنده وتحدّث معه ساعة. وأذّن المغرب فصلّينا جميعا. وقام برلغىّ إلى الخيمة المناميّة وقال: جمال الدين، أحضر لى هذا البدوىّ! -فتوجّهت أنا وأحضرته. ودخل إلى عنده الخيمة المناميّة. فقال له: حدّثنى ولا تكذب، أشنقك. -فشرع

(2) لو: ولو--ما فى: ما (3) السورة 8 الآية 63 (6) أخاه: أخوه (8) السورة 59 الآية 14 (15) واحدا واحدا: واحد واحد

يحدّثه من أوّل قدوم مولانا السلطان إلى دمشق إلى حين ما قال: ووصل إليه الأمير شمس الدين قراسنقر من حلب، -فقال برلغىّ: تكذب، يا قوّاد، الأمير شمس الدين ما جاءه. -فقال: يا خوند، وحياة رأسك، رأيته بعينىّ هاتين-وأشار بإصبعه إلى عينيه-وأنا رفيقهم إلى الرملة. -فقال برلغىّ: كذبت يا فاعل يا تارك! يا جمال الدين، أخرج وسّط (5) هذا القوّاد! -فقال: يا خوند، أنا قد حصّلت، (فإن ردت توصطن وصطن، وإن ردت تشنقن اشنقن) (7). فأنا، والطلاق يلزمنى (7_) ثلاثا، رأيته بعينىّ وهو مع الملك الناصر فى قلب الحلقة. -يقول البدوىّ بهذا اللفظ: بعينه، وأنا أسمع، فسكت ساعة. وقال: أخرج وسّطه! -وعيّط عيطة قوية. فجرّينا البدوىّ وأخرجنا <هـ> وجرّدناه من ثيابه. وجذب السيّاف السيف ومدّيناه. فخرج مملوك اسمه قرا، فقال: إن صدق لا توسّطه. -هذا كلّه والبدوىّ يصيح: وحياة الأمير! ما كذبت. واجعلنى عندك فى الزنجير! فإن كنت (كذبت وسّطن) (13)، وأنت فى حلّ من دمى. -فرسم: أرجع أن ندعه فى الزنجير. - ثمّ طلب والدى وقال: يا جمال الدين، خذ هذا القوّاد إلى عندك ولاطفه واستصحّ خبره، ولا تنام حتى تردّ على (15) خبره. -فأخذناه وأتينا به وطاقنا وغلبنا فيه وهو ما يخرج عن قوله فبينا نحن معه فى الكلام إذ حضر مملوكه قرا وقال: أمير جمال الدين، كلّم الأمير. فخرجنا أتينا إليه، فوجدناه لابس خفّه ببغلطاق تترى مسدود وقدّامه موكبيه. فلمّا رأى الوالد تحرّك له وأقعده وقال: أيش

(5) وسط: وصط (7) فان ردت توصطن وصطن وان ردت تشنقن اشنقن: لعلها لهجة بدوية فى «أردت أن توسطن وسطن وإن أردت أن تشنقن اشنقن (7_) يلزمنى ثلاثا: يلزمه ثلاث (13) كذبت وسطن: كذب وصطن (15) على: عليه

صحّ عندك من حديثه، يا جمال الدين؟ -فقال: والله، يا خوند، الحق أبلج والبدوىّ صادق، ما فيه شكّ. والأمير بحمد الله ملك، وعقلك يوازن الجبال. والمصلحة تقتضى أن تبادر أمرك فى مصلحة يعود نفعها عليك، والرأى رأى الأمير. -فقال: والله، يا جمال الدين، أنا أعرف دينك وأمانتك، ولا أشكّ فى نصحك. وأنا علمت أنّ من أوّل يوم جلس هذا الرجل أنّه ما يفلح يعنى عن بيبرس. -فقال الوالد: يا خوند، الأمور بيد الله تعالى ولا لأحد تصريف، والملك ملكه يهبه من يشا. -فالتفت إلى مماليكه، فأشار إليهم، فخرجوا الجميع، وأنا فى جملتهم، وتحدّث مع والدى ساعة. ثم طلبنى فدخلت، فأنعم علىّ بخمسين دينار ولبّسنى بغلطاق نارنجى بسنجاب. وخرجنا من عنده فسألت والدى: أيش تحدّث معه؟ -فقال: قال لى، يا جمال الدين، والله كلّ هذا عمايل سلاّر وهو سبب هذه الفتنة أوّل وآخر. فلا جزاه الله خيرا (13)! أيش عندك من الرأى، فأنت قرناص ومملوك مصر قديم؟ فلا تغشّنى بدين الإسلام. فأنا وأنت فى هذا الوقت شى واحد، والنصح من الإيمان، -قال. فقلت (المستشار مؤتمن) (15) والله ما عندى من الرأى غير ركوبك فى هذه الساعة وتوجّهك إلى خدمته. فإنّ هذا الجيش جميعهم ما يعوقهم سواك. وو الله، يا خوند، لا تظنّ أنّ معك منهم أحدا (18) إلاّ بالظاهر ولا ينتظرون إلاّ حتى تقع العين فى العين، وقد توجّهوا الجميع إلى الملك الناصر. وهذا رأيى، وقد نصحتك والسلام. -فقال لى: جزاك الله خيرا (20)، والله العظيم، كأنّك مطّلع على ما فى باطنى، وهذا عزمى إنشا الله تعالى. فاخرج واكتم هذا الأمر! -قال والدى: ثمّ طلبك

(13) خيرا: خير (15) «المقاصد الحسنة» حديث رقم 1019 (18) أحدا: احد (20) خيرا: حير

وأعطاك، فقلت له ما اختشيت: لا يكن قد أراد ينظر ما عندنا. فإنّ نحن متّهمون عندهم بمناصحة السلطان الملك الناصر. -فقال: والله، يا ابنى، وضع يده على يدى، أجدها أبرد من الرصاص وسمعت أمعاه تقرقر فى بطنه بأذنى. فعلمت أنّه قد داخله الزّمع. فلأجل هذا أبحت له ما كان عندى. -فلمّا كان تلك الليلة نصف الليل ركب وطلب الركاب الشريف الناصرىّ. وهذا كان أكبر أسباب توجّه برلغىّ، والله أعلم وكان قبل التجاريد والنفقة وإمرة من أمّر من مماليكه وغيرهم قد عقدوا مجلسا، وأحضروا القضاة الأربعة، وقرءوا (8) الكتاب الذى زعموا أنّه أنفذه مولانا السلطان من الكرك بنزوله عن الملك. فقال القاضى بدر الدين بن جماعة: لا يمكن إثبات هذا الكتاب إلاّ بمن يشهد على لفظه أنّه نزل عن الملك اختيارا لا اضطرارا (11). وكان الكتاب بخطّ القاضى علاء الدين بن الأثير رحمه الله، وكان قد حضر من الكرك المحروس لمّا سيّر بيبرس إلى مولانا السلطان علاء الدين مغلطاى يت أغلى يطلب منه جميع ما عنده من آلات الملك ويرعد ويبرق. فاتّكل مولانا السلطان على الله عزّ وجلّ وسيّر جميع ما طلبه منه وثوقا منه بالله تعالى واتّكالا عليه. فأمر بيبرس فى ذلك الوقت أن يحضروا لعلاء الدين بن الأثير. فخرج إليه اليونسىّ وبشّاش، فأحضروه وهو يرعد شبه القصبة لما فعلا به من النكال والتهديد. ثمّ لاقاه تباكز فى سلالم الرواق، وكان الاجتماع بدار النيابة، فقال له: اسمع! والك، والله متى لم تشهد على الملك الناصر أنّه رسم لك أنّك تكتب هذا الكتاب، وأنّه لفظ بالنزول عن الملك! أخرجت

(8) وقرموا: وقروا--الذى: الذين (11) اختيارا لا اضطرارا: اختيار لا اضطرار

ذكر سبب توجه القاضى علاء الدين ابن الأثير فى ركاب مولانا السلطان إلى الكرك

هذا السيف من جنبك. -وحيّد من سيفه أربعة أصابع. هذا وهم يعسفوه فى الطلوع. سحب، ثمّ أجلسوه وأحدقوا به. وسأله القاضى بدر الدين ابن جماعة وقال: يا علاء الدين، هذا الكتاب خطّك؟ -قال: نعم. -قال: فأنت تشهد على الملك الناصر أنّه نزل عن ملكه اختيارا منه وتنزّها عنه؟ -قال: لا. -فنخس تباكز بعقب السيف فى جنبه. كاد يغمى عليه، فتأوّه لذلك. وقال: المراد من المملوك الصدق أو الكذب؟ - فقال القاضى بدر الدين: معاذ الله، المقصود الصدق منك، وذلك اللايق (7) ببيتك. -فقال: يا مولانا، أخرج إلىّ أيدمر الدوادار هذه المسودّة التى كتبت منها هذا الكتاب، فكتبته عليها، ولم أسمع من الناصر لفظا (9)، فأشهد به، ومهما نزل من الله تعالى كان محمولا (10) على الرأس والعين، وبكى، - قال. فدمعت عين القاضى بدر الدين. وأقاموه أيشم قيام ونزل. والذارع منهم من يشتمه ويبصق فى وجهه وينخسه فى جنبه وكادت روحه تروح. ثمّ إنّهم بعد ذلك لفّقوا تلفيقا سقيما. وجدّدوا الأيمان لبيبرس، ونفق وجرّد وكان ما ذكرناه ذكر سبب توجّه القاضى علاء الدين ابن الأثير فى ركاب مولانا السلطان إلى الكرك وذلك لمّا عزم مولانا السلطان خلّد الله ملكه إلى التوجّه إلى الكرك المحروس كان متولّى ديوان الإنشا الشريف القاضى شرف الدين بن فضل الله. وهؤلاء بيت بنى الأثير وبيت بنى فضل الله كفرسى رهان على

(7) اللايق: الايق (9) لفظا: لفظ (10) محمولا: محمول

هذا المنصب من أوايلهم ممّا يطول الشرح فى تعدادهم. فلمّا فهم شرف الدين بن فضل الله بواطن الأمور وأنّ مولانا السلطان يقصد الكرك وأنّ الدولة دولة البرجيّة، اعتذر عن التوجّه فى ركاب السلطان. فقال له مولانا السلطان: فاندب معى من تعرف أنّه يصلح من الجماعة الموقّعين. فعيّن شرف الدين على كمال الدين محمد بن عماد الدين إسمعيل ابن تاج الدين أحمد بن الأثير. وكان كمال الدين أفضل الجماعة بعد شهاب الدين محمود. فقال القاضى شرف الدين بن فضل الله لمولانا السلطان: عندى شخص من بنى الأثير، ما يوجد له نظير، فى الفضيلة والكتابة والمعرفة التامّة والأصالة، وهم أصحاب هذه الوظيفة (9) ونحن دخلا عليهم. -وأطنب فى مدحهم إطنابا كثيرا (10). وكان المقصود خلاف ذلك، وأن إذا كان من بنى الأثير هذا الذى قد انتشا كالجمرة الوقّادة وقد اختشاه على المنصب فأراد دفعه وإنحاس بقيّتهم فى الدولة البرجيّة. فكان كما قيل: دفعه نفعه. هذا ولم يعيّن لمولانا السلطان اسم أحد من بنى الأثير. فقال مولانا السلطان: جهّز هذا الذى بتعنى عنه وبتصفه بهذه الأوصاف. فخرج القاضى شرف الدين بن فضل الله وطلب لكمال الدين وتحدّث معه، فأبى عليه كمال الدين. وقال يا مولانا، ما من واجب حقوقنا عليك أن تفرّق بيننا وبين أقاربنا. وامتنع من ذلك ولا أمكن القاضى شرف الدين أن يكرهه لما يعلم منه. فحار فى أمره وكونه ذكر لمولانا السلطان ابن الأثير. وكان القاضى علاء الدين رقيق الحال عن بقيّة أقاربه. فلمّا بلغه امتناع كمال الدين اجتمع بالقاضى شرف الدين بن فضل الله وقال: أنا أحقّ بخدمة هذا السلطان. -وسأل لشرف الدين على ذلك، فما صدّق شرف الدين

(9) الوظيفة: الوضيفة (10) إطنابا كثيرا: اطناب كثير

ذكر نزول بيبرس عن الملك وهروبه

بذلك ليشدّ قوله عند مولانا السلطان. فاتّفق الحال على القاضى علاء الدين كرها (2) من أقاربه وبغير رضاهم، وجرت عليه منهم أمور كثيرة لمنعه. وهو لا يزداد إلاّ تصميما على السفر فى الركاب الشريف لسعادة جدّه وقوّة سعده، فخرج، وقد لحظته السعادة وحرّكته الإرادة. فوقع من مولانا السلطان موقع السهم من الغرض. فلمّا عاد الركاب الشريف وقصد أن يولّى ديوان الإنشا صاحبا، أعرض جماعة من كبار الموقّعين كلّ منهم يظنّ أنّه سحبان زمانه، وعبد الحميد فى بلاغته وبيانه. والإرادة قد سبقت للقاضى علاء الدين، من قبل ذلك الحين. ثمّ إنّ مولانا السلطان قال لشرف الدين ابن فضل الله: ما أنت القايل لى عن ذلك الشابّ الذى من بنى الأثير، ما قلت ووصفته بما وصفت، وإنّه من بيت هم أحقّ بهذه الوظيفة (10)، وأنتم دخلا عليهم؟ - فلم يمكنه أن يقول إلاّ: نعم، -فقال: وأنا أيضا جرّبته فوجدت جميع قولك فيه صحيحا (12). -ثمّ رسم له بالمكان دون أوليك النفر جميعهم، وأقيم من بينهم وأخلع عليه. وجلس ودخل أوليك الجميع، وقبّلوا يده، وصار من القاضى علاء الدين ما شاع وذاع، حتى تشرّفت بحسن مآثره الأسماع ذكر نزول بيبرس عن الملك وهروبه وذلك لمّا بلغه توجّه برلغىّ إلى الركاب الشريف الناصرىّ وصحّ ذلك عنده، نزل عن الملك وأبرأ الناس من بيعته فى تأريخ ما تقدّم. وخرج من القلعة طالبا للصعيد واستصحب معه الخزاين والأموال. وكان قبل ذلك بأيّام قد سلّطوا عليه العامّة والخرافيش. وعادوا يتردّدون إلى تحت القلعة ويقولون:

(2) كرها: كره (10) الوظيفة: الوضيفة (12) صحيحا: صحيح

قم واستحى من الله! وخلّى مكان الرجل! انزل عن مكان لا يصلح لك! - وأشيا قباح. وعادوا يخرجوا إليهم الوشاقيّة من الإصطبل، فيرجموهم ولا ينالوا منهم غرضا (3). فلمّا كان تلك الليلة عند نزوله وخروجه تعبّؤوا له ورجموه بالمقاليع وبالكفّ. فربّما أرموا لهم دراهم جيّدة اشتغلوا بها عنه حتى ساق وخلاّهم. وتوجّه صحبته مماليكه وجماعة من الأمرا البرجيّة وكريم الدين الكبير، ومشى فى برّ الشرق. هذا ما جرى لبيبرس وأمّا ما كان منّا، فأصبحنا صبحة توجّه برلغىّ، فلم نجد ثمّ أحدا (7)، بل الناس جميعهم توجّهوا لملتقى مولانا السلطان الملك الناصر عزّ نصره. وبلغنا هروب بيبرس، فالوقت ركب الوالد البريد ودخل القاهرة واجتمع بالأمير سيف الدين سلاّر وأخذنا جمال النفر السلطانىّ، وجهّزنا الإقامات الكبيرة. وخرج الوالد رحمه الله والعبد فى خدمته صحبة الإقامات، فلقينا الركاب الشريف السلطانىّ الملكىّ الناصرىّ-أعلاه الله تعالى على أرقاب أعداه، وجعله مؤيّدا بالنصر والظفر على كلّ من عاداه-بمنزلة الورّادة. فنزلنا وقبّلنا الأرض بين يدى المواقف الشريفة، وفزنا بمشاهدة تلك الأخلاق اللطيفة. فحصل لنا من الجبر والإقبال، فوق الظنّ والآمال. وألبسنا الخلع السنيّة، وقد بلّغنا الله تعالى غاية الأمنيّة. وكانت الإقامات شيئا (17) كفت جميع تلك الجيوش القادمة فى ركابه الشريف حتى شبعت منها الوحوش. وكان الوالد رحمه الله أرمغان (18) فى أموره وكفايته، لحسن يقينه بالله تعالى وتوكّله وأمانته. ولم نزل فى الركاب الشريف إلى أن نزل بركة الحجّاج، وجيوش مصر والشأم كأمواج البحر العجاج

(3) غرضا: غرض (7) أحدا: أحد (17) شيئا: شى (18) أرمغان: أمر معان

وكان طلوع الركاب الشريف إلى قلعة الجبل المحروسة، وأصبحت بعد الاستيحاش منه به مأنوسة، وحصلت الأفراح، وزالت الأتراح، واطمأنّت القلوب، وانفرجت الكروب، وعاد الحاكى فى الحسن يوسف على الحاكى فى الحزن يعقوب، غرّة شهر شوّال. وقد بلغت الديار المصريّة بحلول ركابه الشريف غاية الآمال، فكان ذلك العيد عيدا (5) فى عيد، لموافقة هذا العيد، حلول ركاب الملك الناصر السعيد. فلمّا استقرّ البدر فى الهالة، ووجب على كلّ من عليه نذر أن يوفّيه لمّا بلّغه الله آماله، فمن كان عليه صيام فليصمه ويؤدّيه (8)، ومن كان عليه صدقة فليطلب كلّ مستحقّ ويوافيه، ومن كان عليه عتق {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (9) ومن كان عليه حجّ فليسلك فى عامه طريق العقبة. فقد استحقّت جميع هذه النذور، لمشاهدتنا أنوار تخجل البدور. فلله الحمد على ما أولى، وله المنّة فى الآخرة والأولى ثمّ برزت المراسم الشريفة، والأوامر العالية المنيفة، أن يتوجّها الأميران: وهما الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار والأمير سيف الدين بهادر آص ويلحقا بيبرس الجاشنكير، ويتوجّها إلى قلعة صهيون حسبما يأتى من ذكر ذلك بعد ذكرنا لمدايح التهانى، بقدوم الركاب الشريف السلطانىّ، عزّ نصره

(5) عيدا: عيد (8) ويؤديه: ويديه (9) السورة 58 الآية 3 وفى سور أخر

ذكر ما اتصل بنا من مدايح التهانى البديعات الألفاظ والمعانى

ذكر ما اتّصل بنا من مدايح التهانى البديعات الألفاظ والمعانى القاضى ناصر الدين شافع بن عبد الطاهر رحمه الله يقول <من الطويل>: لك الله فى كلّ الأمور معين … وبالنجح فيها كافل وضمين فلا غرو إن هانت عليك مصاعب … وصعب ذوى القدر الجليل يهون فكن واثقا بالنصر يا ناصر الورى … ووارث ملك الأرض حيث تكون بكتك عيون حين ولّيت معرضا … وقرّت وقد وافيتهنّ عيون ودانت لعلياك الرقاب تديّنا … به يا وحيدا فى الزمان تدين تولّت أعاديك الهموم فأصبحوا … وجلّ مناهم فى الحياة منون وحاروا وجازوا من سطاك وكلّهم … بما كسبوا بالميل عاد رهين لقد دان عال فى الظنون مهابة … أتى الفتح لمّا أن دنوت ودون أيا ملكا قد مكّن الله ملكه … وأضحى به الحقّ المبين مبين ليهن الورى أن عدت للملك سالما … يجمّله منك العلا ويزين القاضى شمس الدين بن سوادة يقول <من المتقارب>: أيا ملكا جاء بالمعجزات … وأيّد عنه اضطراب الأمور عزمت على الملك عزم الملوك … وقمت برأى سعيد كبور وجيت بعيدين فى شهرنا … فعيد القدوم وعيد الفطور ونولك الله ما رمته … وسهّل بالنصر صعب العسير وأقبل نحوك جيش البلاد … ألوفا ألوفا بجمّ غفير

ولو أمكن السعى كلّ القلاع … لجاءت إليك وكلّ الثغور وقلعة مصر فقد عمّها … جزيل التهانى وفرط الحبور فلا زلت تملك رقّ الملوك … وتعفو عن الذنب للمستجير وبغداد لا تنسها إنّها … مخبأة لكم فى الخدور شهاب الدين أحمد الشرمساحىّ يقول <من البسيط>: ولّى المظفّر لمّا فاته الظفر … وناصر الحقّ وافى وهو منتصر وقد طوى الله ما بين الورى فتنا … كادت على عصبة الإسلام تنتشر لله عقبى الناس قد رجعت … إلى الصلاح الذى قد كان ينتظر (8) فنالهم من بعد خوفهم أمن … تشاركت فيه أهل البدو والحضر فلتطمأنّ قلوب أمنها رهب … ولتغمضنّ عيون نومها سهر الله أذهب عنّا الحزن فانفرجت … عن القلوب كروب صفوها كدر إنّ الزمان الذى عمّت إساءته … على البريّة أمسى وهو معتذر فقل لبيبرس إنّ الدهر ألبسه … أثواب عارية فى طولها قصر وقد أتى يستردّ الآن ما غلطت … به عليه ليال دأبها الغرر لمّا تولّى تولّى الخير عن أمم … لم يحمدوا أمرهم فيها ولا شكروا فما مشى للورى حال بدولته … ولا استقاموا على الحسنى كما أمروا وكيف تمشى به الأحوال فى زمن … لا النيل أوفى ولا وافى به مطر وكلّ خضراء أمست وهى يابسة … والرزق تيسيره للمرتجى عسر هيهات قد دهمته كلّ نايبة … لقدر كلّ عظيم عندها صغر

(8) المصراع الأول مضطرب الوزن

والناصر بن قلاؤون مواكبه … مازال يصحبها التأييد والظفر يا أيّها الناصر الميمون طايره … نصرت بالرعب والأعداء قد قهروا فالله يبقيك فى خير وعافية … فالمسلمون إلى بقياك تفتقر محمد بن موسى الداعى يقول <من الطويل>: تهنأت الدنيا بمقدمه الذى … أضاءت له الآفاق شرقا ومغربا وأمّا سرير الملك فاهتزّ رفعة … ليبلغ فى التشريف قصدا ومطلبا وتاق إلى أن يعلو الملك فوقه … كما قد حوى من قبله الأخ والأبا وقوله <من الكامل>: الملك (9) … عاد إلى حماه كما بدا ومحمد بالنّصر سرّ محمدا وإيابه كالسيف آب لغمده … ومعاده كالورد عاوده الندى الحقّ مرتجع إلى أربابه … من كفّ غاصبه وإن طال المدى يا وارث الملك المعظّم تهنه … واعلم بأنّك لم تسد فيه سدى من صنو أسلاف ورثت (13) … سريره فوجدت منصبه السمىّ ممهّدا يا ناصرا من خير منصور أتى … كمهنّد خلف الهداة مهنّدا آنست ملكا كان قبلك موحشا … وجمعت شملا كان منه تبدّدا فتهنّ عيدا لم يجد مثلا له … فى الدهر خلق صام قبل وعيّدا فالناس أجمع قد رضوك مليكهم … وتضرّعوا أن لا تزال مخلّدا وتباركوا بسناء غرّتك التى … وجدوا على أنوار بهجتها هدى

(9) مراعاة للوزن أسقطنا الكلمة «قد» الموجودة بالأصل عقب «الملك» و «بالنصر» (13) ورثت: ورث

الله أعطاك الذى لم يعطه … ملكا سواك برغم آناف العدى لا زلت منصور اللواء (2) … مؤيّد ال‍ عزمات ما هتف الحمام وغرّدا محمد المنبجىّ فى المعنى يقول <من البسيط>: قضت ظباك على أعدايك الظفر (4) … والحكم فى الملك للهنديّة البتر فطل بهمّتك العلياء مفتخرا … فباع همّة من عاداك ذو قصر فأنت من ذكره بالبأس شاع وبال‍ … ‍إقدام فى الناس يوم النفع والضّرر وذكر سيرته الحسناء مشتهر … فقد غدت غرّة فى أوجه الدهر ما أرّخوا قبلها مثلا لها أبدا … أهل التواريخ من بدو ومن حضر نشأت فى حجر هذا الملك مرتضعا … لثديه غير مفطوم من الصّغر وحين آل إليك الأمر وامتثلت … منه المراسم فى ورد وفى صدر أعرضت عنه (11) … لأسباب علمت بها وخبر شهرتها يغنى عن الخبر وعدت ثانية يقظان محترسا … وبتّ من كبد تخشى على صدر وهذه العودة الغرّاء ثالثة … تقضى لك الحقّ فى أيّامك الأخر (13) فارقت ملكك مختارا لمعرفة … بنيّة العود تسليما إلى القدر وبعد ما سرت عن مصر وساكنها … وغبت عنها وعنهم غيبة القمر لاموك فى كلّ ما دبّرت من حيل … بليغة نسبوها منك للضّجر إن غبت عن وطن كادت تغيّره … للبعد عنه وحشاه (17) من الغير فالشمس أحسن ما تجلى إذا بزغت … من بعد غيبتها ليلا عن النظر يفديك من نال ما قد نال مختلسا … ما ليس أهلا لا بالكيد والحقر

(2) اللواء: اللوى (4) الظفر: الظفرى--البتر: البترى (11) عنه: عليه (13) الأخر: الاخرى (17) وحشاه: كذا فى الأصل--الغير: الغيرى

وقدّم الجيش للّقيا فأخّره … عن نيل ما يتمنّى شدّة الخور (1) وأدبر السعد والإقبال عنه وقد … ولّى بذلّ وخذلان على الدّبر ضاقت بما رحبت أرض عليه فقل … فى هارب الخوف: لا ينفكّ منحصر (3) بالناصر الملك العالى الركاب فتى ال‍ … منصور خير ملوك الترك والخزر سدّت عن الناس طرق الظلم واتضحت … سماء رزق ببذل منه منهمر (5) فالناس من وجهه أضحوا ونايله … فى روضة زيّنت حسنا وفى نهر ألقى (7) … الإله عليه من محبّته فاشتاقه كلّ ذى سمع وذى بصر وأسكن الحبّ فى كلّ القلوب له … بين البريّة من أنثى ومن ذكر (10) … أبا المظفّر لا زالت جيوشك بالت‍ أييد محفوفة بالنصر والظفر بقيت ناصر هذا الدين ما سجعت … بالدوح ورقاء فى الآصال والبكر (11) ودام ملكك ما هبّت رياح صبا … وفتّحت فى رياض أعين الزهر ناصر الدين بن النقيب فى المعنى يقول <من الخفيف>: عاد للملك صاحب الملك عادا … ثمّ أبدى النعما لنا وأعادا مرحبا مرحبا بأوفى ملوك ال‍ … أرض قدرا فى ملكه وسدادا أىّ بشرى بعودة الملك النا … صر سرّت فى الخافقين العبادا (15) عودة جدّدت هناء وأفرا … حا وردّت أيّامنا أعيادا (16) عيد فطر وعيد فتح وعيد … بقدوم الذى على الخلق سادا ملك شرّف الممالك والعص‍ … ر وأوفى على الملوك وزادا

(1) الخور: الخورى (3) منحصر: منحصرى (5) منهمر: منهمرى (7) ألقى: القا--بصر: بصرى (10 - 11) بيتان: بالهامش (15) لعبادا: للعبادا (16) المصراع الثانى مضطرب الوزن

من أبوه قلاون الملك ال‍ … أعظم كانت له المعالى بلادا أسكن الخوف فى قلوب أعادي‍ … هـ فولّت تطوى الرّبى والوهادا قرن الرعب فى محمد بالنص‍ … ر ولم يشرع القنا الميادا (3) وأذلّت له المهابة أعدا … هـ فأعطوه صاغرين القيادا كم دعونا حتى رجعت إلينا … وصبرنا حتى بلغنا المرادا هم أرادوا إطفاء نورك والله تعالى إظهاره قد أرادا زادك الله يا محمد فى المل‍ … ك اقتدارا وفى الحياة امتدادا آمين آمين آمين، يا ربّ (8) العالمين، تمّت وفيها استقرّت (9) النيابة بمصر للأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار. وأنعم على الأمير سيف الدين سلاّر بالإقامة بالشوبك حسب سؤاله، وخرج فى شهر شوّال. واستقرّ فى الوزارة الصاحب فخر الدين بن الخليلىّ الدارىّ، والحاجب الأمير شمس الدين الكمالىّ، وأمير النقبا الأمير علاء الدين طيبرس بحاله. وأنعم على الأمير شمس الدين قراسنقر بنيابة دمشق، والأمير جمال الدين الأفرم بنيابة طرابلس (14) -كان الأمير جمال الدين الأفرم قد توجّه أوّلا إلى صرخد والحاجّ بهادر <إلى> طرابلس، فلمّا توفّى الحاجّ بهادر عاد الأفرم إليها- (16) والأمير سيف الدين قبجق بنيابة حلب، والأمير سيف الدين أسندمر حماة، والأمير سيف الدين قطلوبك صفد، وقطلقتمر غزّة (18) وفيها تجهّز الأمير شمس الدين قراسنقر للتوجّه إلى دمشق، وتقرّر معه الحال مسك بيبرس من الطريق حسبما نذكر ذلك بالمشاهدة دون السماع

(3) البيت مضطرب الوزن (8) يا رب. . . . تمت: بالهامش (9) استقرت: استقر (14 - 16) كان. . . إليها: بالهامش (18) قطلوبك. . . غزة: بالهامش

وفيها مسك مولانا السلطان أعداه، عدّة ثلاثين أميرا من كباش البرجيّة، ليس فيهم من كان عاد يحسب حساب المنيّة، وأنجز الله تعالى على يد مولانا السلطان ما كان لهم من الوعيد {وَما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ} (3) وكانت السجون خلا، فعادت ملا {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} (4) ومن أعظم ما يؤرّخ ويسطّر، ويذكر ويشهر، ويثبت فى السير، شجاعة مولانا السلطان التى فاقت من تقدّم وأربت على من تأخّر. وذلك أنّه نصره الله وقد فعل، لعظم قوّة شجاعة براعة هذا السلطان البطل، قبض على هؤلاء القوم، فى ذلك اليوم، وركب من غده باكر، كالليث الكاسر، والنّمر الجاسر، ليس عنده اكتراث، وقد جعل أموال تلك الأمرا للورّاث. وهذه نكتة يفوق بها مولانا السلطان على ساير ملوك الدنيا، الأموات منهم والأحيا، فيما حوى العامر، دون الغامر، من الأرض، فى طولها والعرض، منذ كانت الدنيا، وإلى يوم العرض وفيها قتل الأمير جمال الدين آقوش الرومىّ على منزلة السويس، وذلك أنّ بيبرس قبل نزوله عن الملك، لمّا عادوا الناس يقصدون الركاب الشريف السلطانىّ الناصرىّ من كلّ قطر وفى كلّ طريق، جرّد جماعة لحفظ الطرقات، ومنع من يريد التوجّه إلى الركاب الشريف، وجرّد آقوش الرومىّ لحفظ هذه الطريق. وكان فى مماليكه كبيرهم يسمّى سليمان تركمانىّ، فحسّن لرفقته قتل أستاذهم وأخذ رأسه والتوجّه به إلى مولانا السلطان عزّ نصره. أرادوا بذلك اليد عنده، ولم يعلموا أنّه نصره الله لا يرى بالخروج عن طريقة العدل، ولا عن سنّة الفضل. فلمّا عاد

(3) السورة 41 الآية 46 (4) السورة 50 الآية 30

ذكر القبض على بيبرس من الطريق وعودته إلى الأبواب العالية

ركابه الشريف إلى ديار مصر المحروسة رسم أن يوسّطوا على حكم العدل وأخذ القصاص، ولم يكن لهم من الموت خلاص ذكر القبض على بيبرس من الطريق وعودته إلى الأبواب العالية قد ذكرنا أنّ مولانا السلطان سيّر إلى بيبرس الأميرين بيبرس الدوادار وبهادر آص، وأن يأخذاه ويتوجّها به إلى قلعة صهيون. وكان مولانا السلطان قد رقّ له ورجع إلى لينه الشريف الطاهر. فلمّا وصلا إليه وهو بالصعيد وبلّغاه ذلك، وجدوه مصمّما (8) على غير ما أرادوه منه ووجدوا مماليكه الغالبين على أمره. وقد حسّنوا له أن يضرب إلى عيذاب ويعدّى من هناك إلى الحجاز ويدخل اليمن. وجاه المرسوم بصهيون، فعاد متفرّق الآرا مقسّم الفكر. فلمّا رأوه مماليكه على ذلك أجمعوا رأيهم أن يقتلوه وينهبوا الخزاين التى معه، ويقصد كلّ أحد هواه. واطّلع بيبرس الدوادار على ما عزموا عليه. فاختشى العاقبة فخلا به، وقال: قد بلغنى كيت وكيت. وأنت ما يقتلك سوى هذا المال الذى معك. ونقتل نحن أيضا بك. والمصلحة تقتضى أن تعطينى هذا المال، أتوجّه به فى هذه الحرّاقة فى البحر، وأعيده إلى السلطان لنزيده رضى عليك، وينقطع طمع هؤلاء الصبيان الجهلة-. ولم يزل به حتى أنعم، فأخذ الأمير ركن الدين الدوادار المال، ونزل فى الحراقة سرّا فى الليل. فلم يصبح له أثر، وأحضر به إلى الأبواب العالية. فلمّا علموا المماليك أنّ المال فرط فيه الفرط، انقطع

(8) مصمما: مصمم

شوقهم إلى ما كانوا قد عزموا عليه. ثمّ إنّ الأمير ركن الدين الدوادار لمّا اجتمع بمولانا السلطان قال له: هذا رجل قد دخل فى رأسه دخان المشعل وما يجى منه خير. -فتغيّرت عليه الخواطر الشريفة بخلاف ما كانت نيّته له. ثمّ إن بهادر آص لم يزل يثنيه عن كلّ مقصد حتى أجاب إلى التوجّه إلى صهيون. هذا ما كان من بيبرس وأمّا مولانا السلطان-خلّد الله ملكه، وجعل الأرض بأسرها ملكه- فإنّه طلب الوالد ورسم له أن يتوجّه فى خدمة الأمير شمس الدين قراسنقر وأن يجعل من العربان عيونا (8) وأرصادا على بيبرس فى الطريق البدريّة، ويكونوا يردّوا على الأمير شمس الدين قراسنقر خبره، منزلة بمنزلة وماء بماء. فامتثل الوالد المراسم الشريفة، وتوجّهنا صحبة قراسنقر فى الدرب الشأمىّ. وأخبار بيبرس ترد علينا من عرب العايد منزلة بمنزلة، حتى إذا كنّا بمنزلة رفح انقطع عنّا خبره. فخشى قراسنقر وخاف وطلب الوالد وقال له: يا جمال الدين، والله ما أعرف تحصيله إلاّ منك، فإنّ نحن خرجنا متّكلين على عربك، وهذا أمس واليوم ما جانا خبر. وقد رسم لى مولانا السلطان أنّى لا أطلب أخباره إلاّ منك. -فقال الوالد: يا خوند، نحن سبقنا ولا تخشى! فهو ما يفوتنا بمعونة الله وسعادة مولانا السلطان، لكن ندخل من هاهنا البرّيّة ونفترق ثلاث فرق، وأىّ فرقة وقعت عليه حصّلته. -فقال: أفعل ذلك. -فافترقوا عليه ثلاث فرق: الواحدة مع أنغاى قبجق والأخرى مع أركتمر والثالثة مع قراسنقر. وسيّر الوالد مع كلّ فرقة عربا (20) أدلاء من العايد. ودخلنا البّريّة صلاة الصبح

(8) عيونا وأرصادا: عيون وارصاد (20) عربا: عرب

فلمّا كان بعد العصر رأينا (1) -ونحن فى فرقة قراسنقر-نجّابا على راحلة عن بعد. فساقوا وأحضروه إلى قراسنقر. فلمّا رأيناه عرفناه، وإذا هو نجّاب بيبرس اسمه يوسف بن جنيد. فقال الوالد للأمير شمس الدين: هذا نجّابه، يا خوند. -فقال له قراسنقر: أين خلّيته، والك؟ -قال: يا خوند، قد حصل سعادة السلطان، وترى قد أخذه أنغاى ونهب جميع ما معه. وأنا ركبت هذه الجادّة هاربا (6)، وتراه خلف هاتيك الرابية. فسقنا إلى هناك فلم نصل إلاّ (7) أذان المغرب، فنجد أنغاى قد مسكه وأخذ جميع ما معه حتى سيفه وحياصته وبها ميره، ولم يترك عليه غير قرضية سودا بوجه عنابى مشايخى، وهو جالس على تلّ وأنغاى يتعرّض فى خزانته. فلمّا عاين قراسنقر نهض (10) وعاد يجرى إليه. فترجّل له قراسنقر واعتنقه، وعاد بيبرس يبكى وقراسنقر يتباكى. ثمّ إنّ قراسنقر نهر أنغاى، وأعاد على بيبرس سيفه وحياصته وقماشه. وأعرض خزانته فوجد فيها ستّة آلاف دينار وأربعة صناديق بغاليّة دراهم، وأربع عشرة حياصة ذهب، وعشرين كلوتة زركش وقماش وبغالطيق وغير ذلك. فأعرضه وكبته وأعاده إلى أماكنه على هجنه، وركبنا فى الليل وقال: يا جمال الدين، نريد نطلع من هونى (16) إلى الزعقة، وتسيّر بدويّا مع هؤلاء (17) المماليك إلى الوطاق يرحّلوهم إلى غزّة، ويقيموا بها إلى حين رجوعنا إليهم. فقد عزمت على الدخول معه إلى مصر وأسأل فيه مراحم السلطان وأصحبه معى إلى صهيون. -ثمّ عملنا الليل كلّه نسير على النجوم، فأصبحنا

(1) رأينا: رينا--نجابا: نجاب (6) هاربا: هارب--هاتيك: هاديك (7) إلا: إلى (10) نهض: نهظ (16) هونى: ربما المقصود «هنا» --بدويا: بدوى (17) هؤلاء: هذا

الزعقة: ومن هناك كتب قراسنقر مطالعة لمولانا السلطان بمسك بيبرس وسيّرها صحبة ولده أمير علىّ ومملوكه بيخان والأمير سيف الدين أركتمر الجمدار وقال للمملوك الوالد: توجّه صحبتهم على البريد، وابتتل بخدمتهم فى المنازل إلى بلبيس، فإذا بطّقت لك بطاقة من الصالحيّة جهّز الإقامات للأمير شمس الدين قراسنقر، وتسيّر إلينا الإقامات فى المنازل أوّلا (7) بأوّل. -ففارقتهم من منزلة الزعقة، وصحبت الأمرا المذكورين إلى بلبيس. فلمّا كان سادس يوم وقعت البطاقة بتجهيز الإقامة ببلبيس، فجهّزت شيئا (9) كثيرا! فلمّا كان نهار الخميس (10) عشيّة ذلك اليوم أذان العصر، وصل أمير علىّ ابن قراسنقر وبيخان والأمير سيف الدين أركتمر على البريد من الأبواب العالية عايدين إلى قراسنقر. فنزلوا عند العبد ببلبيس، فأحضرت لهم ما راج. فقال أمير علىّ بن قراسنقر: هذا شى كثير. كيف كان مهيّئا (13) لنا؟ -فقلت: هذا ممّا عملناه لأجل ملك الأمرا وحضوره، وطلبنى إلى عنده. -وقال: ملك الأمرا ما بيجى إلى هاهنا وهو بيرجع من مكان نلتقيه. فأين معك خبره هذه الليلة يكون؟ -. قلت: فى منزلة الخطّارة. وكان الاتّفاق أنّهم يبيتوا هذه الليلة ببلبيس (17). -فقال: هذا حال انفصل حكمه. -ثمّ ركبوا البريد وتوجّهوا فلمّا كان قبل المغرب وصل الأمير شمس الدين سنقر صهر الأمير سيف الدين أسندمر على البريد. فأخبر المملوك أنّ الأمير سيف الدين أسندمر واصل

(7) أولا: أول--المذكورين: المذكورون (9) شيئا كثيرا: شى كثير (10) الخميس: الأحد، مصحح بالهامش (13) مهيئا: مهيى (17) ببلبيس: بلبيس

مع عدّة من الأمرا والمماليك السلطانيّة، رسم لهم من الموكب بقبّة النصر. فخرجوا بغير أهبة ولا مأكول ولا مشروب إلاّ على الفور من الموكب. ورسم له أن يتسلّم بيبرس من الأمير شمس الدين قراسنقر، ويعود قراسنقر إلى الشأم. وأنعم عليه مولانا السلطان بجميع ما كان مع بيبرس من الأموال. ووصل سنقر المذكور سابقا لهم. ثمّ إنّه طلب من المملوك قبا فرو يلبسه عارية لكونه عرق من السّوق، والوقت كان فى أوّل فصل الخريف. فأعطيته ما طلب. وقال لى: اخرج القى الأمير سيف الدين أسندمر، فإنّهم متعشّين فى هذا الظلام. يقول بهذا اللفظ، لفظ الشأميّين. فركبت وأخذت المشاعل وأوقفتهم على قبّة سبت ظاهر بلبيس بالجسر وسقت وجدت أوايل الخيل <فى> غيثا، وهم فى تلك الظلمات لا يدرون أين يتوجّهون، وكان أواخر الشهر. فاجتمعت بأسندمر وأخذتهم من ظاهر بلبيس بجهة الحوف على الجسر، وأنزلتهم فى قسوريّة ظاهر بلبيس. وأحضرت لهم جميع ما كنت قد صنعته لقراسنقر ورفقته، وكان شيئا كثيرا (13)، عشرين خروفا ما بين شوا وشرايح وجدابة (14) ولبن وخمسين طاير دجاج، عشرين منوّعة محشوّة وثلاثين فى شوربا. وكان أسندمر أوّل ما لقيته قال للمملوك: إليك وإلاّ للذيب. -فقلت: لعن الله أبا (16) الذيب، يا خوند، ارسم وبس! -بهذا اللفظ. فقال: الجوع، نحن وخيلنا، ولا مكّنّا من الإمهال أن نستصحب معنا شيئا (18) -. فقلت: زال الشرّ بسعادة السلطان وسعادة الأمير. -فلمّا رأى ما قدّمناه أعجبه إعجابا كثيرا جدا، إذ كان ظنّه بخلاف ذلك. ثمّ أحضرت ثلاثين أربعين مخلاة وعلّقت فيهم

(13) شيئا كثيرا: شئ كثير (14) وجدابة: كذا فى الأصل (16) أبا: ابو (18) شيئا: شى

على خيله خاصّة نفسه. وعدنا نجمع كلّ خمس أرؤس جميع على عباه (2) وعلى جل حتى كفينا الجميع. وأكل ذلك العسكر بكماله حتى عادوا الغلمان يتراجموا باللحم ويقولوا: هذه (3) الراية على هذا الأمير بالوفا، -وأسندمر يستمع ويعجبه. فلمّا فرغوا قال لى: أيش اسمك؟ -قلت: مملوك الأمير، أبو بكر. -فقال: يا سيف الدين، هذا كان مجهّزا (5) لنا وعلمت بمجينا قبل حضورنا؟ -قلت: لا والله، يا خوند، ما علمت بحضور الأمير إلاّ من الأمير شمس الدين صهر الأمير. -قال: فكيف صنعت فى أسرع وقت؟ -فقلت: يا خوند، مولانا السلطان سعيد الأمور، ناجح الحركات، موفّق المراسم، وحيث أمر وجدوا الناس لأمره أحسن أثر. -فأعجبه أيضا هذا الكلام. ثمّ رسم لمملوك كان معه شابّ حسن اسمه قبليه، فأحضر لى كاملية جوخ مرشوش بفرو سنجاب طرىّ مناميّة، فألبسنى. فلمّا تقدّمت أقبّل يده، قال: أشتهى، يا خيّى، تعيرنى فروتك هذه الليلة لأغيّر، فما معى شى ألبسه. -فرأيت لكلامه لطفا كبيرا (13)، فقلعتها، ولبسها فى ساعته وقال: أين أخذت خبر الأمير شمس الدين؟ -قلت: بايت على الخطّارة. -قال: فأىّ وقت نصله؟ -قلت: متى يرسم الأمير يكون وصولك إليهم. -قال: طلعة الشمس. -قلت: يستكنّ الأمير وينام فى حفظ الله! والمملوك تحت رجليك إلى حين ما يتنحنح المملوك. - فغفا إلى أوّل الثلث الآخر، تنحنحت، فقام. وركبت فى خدمته وصرت أحدّثه وهو يستطرف كلامى ويعجبه حتى طلع الفجر بمنزلة

(2) على عباء وعلى جل: كذا فى الأصل (3) هذه: هذا (5) مجهزا: مجهز (13) لطفا كبيرا: لطف كبير

السعيديّة. فنزلنا وصلّينا الصبح، وركبنا فأشرفنا على الخطّارة أوّل الثانية فلمّا رآنا قراسنقر ركب فى عشرة مماليك ووالدى معه، والتقى أسندمر، وساقا لبعضهم البعض، وتكارشا ونزلا جميعا ولم يكن معهما ثالث، وتحدّثا ساعة زمانيّة. هذا وأنا أنظر إلى ما يفعل بيبرس. فلمّا رأى أسندمر أيقن بالموت. فأخذ شربة نحاس ودخل الخربشت، وخرج توضّأ، وفرش منشفة ووقف يصلّى، فصلّى ركعتين خفيفتين وجلس فى صيوانه وفى يده مسبحة. ثمّ إنّ الأميرين مشيا نحوه، فخرج إليهما وعانقه أسندمر وجلسوا جميعا (9). ثم أحضروا كريم الدين الكبير وطومان وتكا، وقال قراسنقر لوالدى: يا جمال الدين، قيّد هؤلاء وسيّرهم على البريد. - فذاك الوقت وقعت الصرخة من مماليك بيبرس، وقطع طومان شعره وكذلك تكا، ورموهما على بيبرس وعاد بكا وعويل ونواح من تلك المماليك بالتركىّ. ثمّ أخذنا هؤلاء الثلاثة، وجاء الحدّاد وقيّدناهم تحت الحوض الذى بناه فيها القشّاش. وسفروا على البريد المنصور فى الترسيم. ثمّ إنّ قراسنقر ركب وتوجّه إلى نحو الشأم، وركب أسندمر واستصحب بيبرس وتوجّه إلى ناحية القاهرة. وأخذوا فى ذلك الوقت سيفه وحياصته ومهاميزه، وركّبوه فرس بريد. وكان لم يزل فى دسته ومركوبه مع قراسنقر حتى تسلّمه أسندمر. ورجعنا ولم نزل سايرين إلى العصر أشرفنا على بلبيس. وأخذنا من ظاهرها القبلىّ بطريق الرمل، وبيبرس راكب فى وسط (20) الحلقة إلى جانبه سنقر صهر أسندمر، وأسندمر قدّامهما،

(9) جميعا: جميع (20) وسط: وصط

يتحدّث مع الوالد ويشكر من المملوك، وأعاد إلىّ الكامليّة. فبينما نحن كذلك وإذا بسنقر صهر أسندمر يصيح للمملوك. فرجعت إليه فقال لى: بيطلبك كلّمه، يعنى عن بيبرس. -فشاورت أسندمر فقال: روح، ابصر أيش يريد؟ -فسقت إلى نحوه وقصدت أنّى أترجّل، فمنعنى وقال لى: أين بتنزلوا بنا؟ -قلت: حيث ترسم. -قال: اشتهى تنزل بنا فى مكان تكون فيه موية تجرى، -يقول للمملوك بهذا اللفظ بعينه. فقلت: مرسومك. -ثمّ سقت إلى أسندمر فقال لى: يا ناصر الدين، أيش قال لك؟ -وكأنّه نسى اسمى، فقلت: يا خوند. قال يريد ننزل فى مكان تكون فيه موية تجرى. -فقال لى: ما أسقع ذقنه! -فقلت: يا خوند، بدستور الأمير ننزل فى غيثا فى بستان بهادر المعزّىّ وما يضرّ من هذا شى. -فقال: نعم. -ثمّ نزلنا بهم فى ذلك البستان، وسبقت أنا بثوب سرج مبطّن أفرشه على حافّة المجرى (12). فمسك بيبرس طرف ثوب (13) السرج وأنا طرفه الآخر وبسطناه على المجرى، وجلس وعاد يأخذ بكفوفه من الماء ويترشّفه ويتنشّقه ويردّه، فعل كذلك مرارا (14) عدّة. ثمّ حضر أسندمر وجلس إلى جانبه وأحضرنا لهم ما يأكلوه بعد صلاة المغرب. فأكل أسندمر وعاد يعزم عليه. فأخذ ورك دجاجة محشيّة، وعاد يمضغ فيها وهى لا تنزل. ثمّ طلبوا الخيل وركبوا، وودّعناهم من غيثا ورجعنا إلى بلبيس. وتوجّهوا به إلى الأبواب العالية، وكان آخر العهد به، والله أعلم ولمّا رجعنا إلى بلبيس عاد الوالد وهو يبكى ويسبّ الدنيا وغررها بالإنسان، والشيطان، كيف يلعب بعقل ابن آدم. ثمّ قال للمملوك: والله،

(12) المجرى: المجراء (13) ثوب: الثوب--المجرى: المجراء (14) مرارا: مرار

يا أبا بكر (1)، ما رأيت يوما كان مثل يوم فارقتنا أنت من الزعقة وتوجهت على البريد، وأخذنا نحن بيبرس وسرنا به راجعين متوجّهين إلى العريش. فتقدّم نجّاب لقراسنقر اسمه خنافر وضرب ربابا (3) قدّام بيبرس وقراسنقر، وقال عليه غناء (4) مليحا قبيسى فى صورة الحال يبكى الحجارة، فبكى كلّ من كان فى العسكر. -ثمّ طلب الوالد لنقيب العربان يسمّى شرف ابن طراد وقال: قل لبو بكر الشعر الذى قاله لنا خنافر ذلك اليوم، فأنت تحفظه، -فقال شرف: قال خنافر <من الطويل>: فراق الأخلاّ كالزجاج إذا انشظى … عسى فيكمو لى (8) من يداوى كسورها عسى فيكمو أو منكمو لى (9) … مساعد فقد بلغت الأرواح منّا نحورها وسود الليالى ما وفت بعهودها … ألا بشّروا الأعدا بباقى سرورها وكم ملك الدنيا ملوك كواسر … غدوا وتولّى غيرها فى قصورها ولا بدّ ما يغتالنا غامق الثرى … وتطبق ذا الدنيا علينا قبورها وكان شرف بن طراد أيضا يغنّى القبيسىّ جيدا، فلا زال يغنّيه لنا. ونحن نبكى إلى بلبيس، وهذا آخر ما تحقّقته من أمر بيبرس، والله أعلم وفيها توفّى الأمير عزّ الدين أيبك الخزندار رحمه الله، والأمير شمس الدين سنقر الأعسر رحمه الله قبل حلول الركاب الشريف إلى الديار المصريّة مؤيدا بالنصر وفيها (18) توفّى القاضى بهاء الدين بن الحلّىّ ناظر الجيوش، وولى مكانه القاضى فخر الدين، وكان من قبل صاحب الديوان وكاتب الممالك السلطانيّة فاستقرّ كذلك إلى حين وفاته فى تأريخ ما يأتى ذكره إنشا الله تعالى (20)

(1) أبا بكر: ابو بكر--يوما: يوم (3) ربابا: رباب (4) غناء مليحا: غنا مليح (8) لى: الى (9) لى: الى--المصراع الثانى مضطرب الوزن (18 - 20) وفيها توفى. . . إنشا الله تعالى: بالهامش

ذكر [حوادث] سنة عشر وسبع ماية

وفيها وقع <نزاع> بين أهل حوران وقتل منهم نحو من ألفى نفر وفيها وردت الأخبار أنّ خدابنداه ملك التتار أظهر الرفض وسبّ الصحابة رضوان الله عليهم، وأمر الخطبا بجميع ممالكه إسقاط اسم الخلفا الراشدين من الخطبة وفيها هلك التاج بن سعيد الدولة قبل حلول الركاب الشريف حتى قيل: إنّه سقى نفسه سمّا (6) وفيها توفّى الشيخ تاج الدين أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطا المحدّث، قدّس الله روحه، وكانت له جنازة عظيمة ما شهد مثلها ذكر [حوادث] سنة عشر وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما يخصّ من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (12) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر أعزّ الله أنصاره، وضاعف اقتداره، سلطان الإسلام، وملك الأنام، وقد عادت أيّامه التى هى لذاذة كالأحلام، وتشرّفت بها الأيّام، وساير الجمع والشهور والأعوام والنّواب بمصر والشام، حسبما سقناه فى ذلك العام، وهم: الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار نايبا بالديار المصريّة، والوزير الصاحب فخر الدين بن الخليلىّ، والحاجب الأمير شمس الدين الكمالىّ، والأمير بدر

(6) سما: سم (12) أبو: ابى

الدين محمد بن الوزيرىّ، ثمّ استقرّ لمّا جرّد الكمالىّ، وأمير النقبا علاء الدين طيبرس الخزندارىّ، والنايب بدمشق الأمير شمس الدين قراسنقر المنصورىّ، وبحلب الأمير سيف الدين أسندمر، وحمص الأمير سيف الدين أغرلوا العادلىّ، وحماة بها الأمير سيف الدين قبجق إلى حين وفاته فى هذه السنة (5)، وطرابلس الأمير جمال الدين الأفرم، وصفد الأمير سيف الدين قطلبك، وغزّة الأمير سيف الدين قطلقتمر والملوك: مكّة-شرّفها الله تعالى-مع الأميرين حميضة ورميثة وقد عادا إليها، والمدينة-على ساكنها أفضل الصلاة والسلام (8) -مع منصور بن جمّاز بن شيحة، واليمن الملك المؤيّد هزبر الدين داود بحاله، وماردين الملك المنصور نجم الدين إيلغازى بن الملك المظفّر قرا أرسلان بن السعيد الأرتقىّ بحاله. والعراقين مع خراسان إلى حدود الفراة خدابنداه بن أرغون بن أبغا بن هلاوون، والملك <فى> ماورا النهر جبارا بن قيدوا بن قنجى بن طلوا بن جكز خان، وكرسىّ ملكه كاشغر ببخارا وتركستان وقبالق، وصاحب التخت ببلاد الصين قلاصاق بن شرمون بن منغلاى بن قبليه خان بن طلوا (14) ابن جكز خان، وصاحب البلاد الشماليّة بمملكة التتار طقطاى بن منكوتمر ابن طغان بن باطوا بن جكز خان وكرسىّ ملكه صراى (16)، وصاحب البلاد الشرقيّة ببلاد التتار أيضا منغطاى بن قنجى بن أردوا (17) بن دوشى خان ابن جكز خان والملوك بالمغرب: مرّاكش ملكها يومئذ أبو الربيع سليمان بن عبد الله ابن يوسف بن يعقوب. وصاحب الغرب الأقصى بتونس وإفريقيّة أبو البقا

(5) فى هذه السنة: بالهامش (8) والسلام: والسلم (14) طلوا: قطلوا انظر ص 42 (16) وكرسى ملكه صراى: بالهامش (17) أردوا: أردوا--دوشى: دوسى. انظر ص 42

خالد بن أبى زكريا يحيى بن أبى حفص، وصاحب الأندلس بغرناطة أبو الجيوش نصر بن أحمد بن محمد بن الأحمر، وصاحب تلمسان عثمان بن زيان فيها وقع الطلب على الأمير سيف الدين سلاّر من الشوبك إلى الأبواب العالية السلطانيّة. ومسك نايبه بدمشق سيف الدين بكتمر وأخذ منه أموال جزيلة. ووصل الأمير سيف الدين أسندمر من حلب بطلب سلاّر حيث كان. ثمّ إنّه سيّر إلى الأمير شمس الدين قراسنقر يسأله أن يطلب له أمانا (7) من مولانا السلطان، وأن يتصدّق عليه أن يقيم بالقدس الشريف هو وأهله وإخوته وعياله. ولمّا كان أواخر شهر ربيع الآخر وصل الأمير سيف الدين سلاّر إلى الأبواب العالية، وكان آخر العهد به، فكان كما قيل: بينما (11) … المرء على ظهرها إذا هو خبر من الأخبار وكان فيما أتاه أيضا كما قيل <من الطويل>: فأحجم لمّا لم يجد فيك مطمعا … وأقدم لمّا لم يجد عنك مهربا وكما قيل <من الكامل>: أين المفرّ ولا مفرّ لهارب … ولك البسيطان الثرى والماء وفيها تولّى الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب الوزارة بالديار المصريّة عوضا عن فخر الدين الخليلىّ، وهو الخامس من المكلوتين الذين ولّوا الوزارة بالديار المصريّة حسبما ذكرنا من قبل ذلك وفيها كانت التجاريد إلى الشأم صحبة الأمرا، منهم-وهو المقدّم عليهم- الأمير سيف الدين كراى المنصورىّ والأمير شمس الدين سنقر الكمالىّ

(7) أمانا: امان (11) بينما. . . الأخبار: البيت مضطرب الوزن وانظر ديوان أبى الحسن التهامى ص 27

وعدّة من الأمرا. ومسك الأمير سيف الدين أسندمر من حلب باحتيال كراى عليه، وذلك أنّه فارق حلب مسيرة ثلاثة أيّام، وعاد إليها فى يوم وليلة. وكان أسندمر قد أمن، لمّا قطع العسكر عنه هذه المسافة. فلم يشعر إلاّ وقد أحيط به وأخذ أذلّ من كلّ شئ وفيها تخيّل قراسنقر وخرج من دمشق على حميّة، وتوجّه على طريق سلميّة وفيها استعفى الوالد رحمه الله من الولاية، ودخل مستجيرا بالآدر الشريفة، لما كان فى خدمتهم عند مجيهم من الكرك المحروس إلى الديار المصريّة. فخاطبوا المقام الشريف فى أمره، فأعفاه من الولاية، عفا الله عنه. وخيّره بين الإقامة بمصر أو الشأم، فاختار الشأم. وذلك بسبب ما كان بينه وبين الجوكندار من الواقع بسبب العرب أولاد نجم من بنى عبيد فى حديث طويل، فخشى على نفسه منه وطلب الشأم. فأنعم عليه مولانا السلطان خلّد الله ملكه بعدّة إمرة. ورتّبه مهمندارا بالشأم. فتوجّهنا فى شهر رمضان المعظّم. فوصلنا إلى دمشق ووجدنا المجرّدين عليها وقراسنقر مبرزا عنها. فلمّا تولّى كراى كاتب فى الوالد من غير أن يعلمه، ووردت المراسم الشريفة أن يتولّى الشادّ بالشأم مضافا إلى المهمنداريّة. فامتنع من ذلك. فالتزم كراى بالطلاق من نساه، إذا (17) لم يوافق ضربه أربع ماية عصاة. وقيّده وسيّره إلى الأبواب، وكاتب فيه أنّه خالف مرسوم السلطان. فباشر الوالد شادّ الدواوين عوضا عن الأمير سيف الدين طوغان نايب البيرة كان. ولم يزل الوالد فى الشادّ حتى

(17) إذا: اذ

ذكر [حوادث] سنة إحدى عشرة وسبع ماية

تولّى الأمير جمال الدين نايب الكرك، فاستعفى فى حديث طويل جدا، هذا ملخّصه. فأعفاه واستمرّ مهمندارا حتى توفّى فى تأريخ ما يذكر، رحمه الله وساير المسلمين أجمعين وفى أوّل هذه السنة توفّى الحاجّ بهادر ناظر طرابلس (4)، وانتقل إليها الأفرم من صرخد. وفى ليلة الأربعا رابع وعشرين جمادى الأولى، توفّى الأمير سيف الدين سلاّر، ودفن بتربته فى الكبش رحمه الله. وفيها توفّى الأمير سيف الدين قبجق، ودفن بتربته بحماة، رحمه الله. وفيها توفّى الأمير سيف الدين برلغىّ رحمه الله، ودفن خارج باب النصر. وفيها توفّى الأمير جمال الدين آقوش قتّال السبع، وتوفّى الطواشى مرشد، رحمهما الله تعالى ذكر [حوادث] سنة إحدى عشرة وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما يخصّ من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (13) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر عزّ نصره، وجعل كلّ الأمصار مصره، سلطان الإسلام والمسلمين، دايما إلى (15) يوم الدين، آمين، يا ربّ العالمين، والنوّاب بمصر والشأم، حسبما نذكر من أمرهم ملخّصا إنشا الله تعالى، والملوك حسبما ذكرناه فى السنة الخالية

(4) ناظر طرابلس: ناطرابلس (13) أبو: ابى (15) إلى: الا

فيها مستهلّ المحرّم ورد مرسوم شريف بتولية قراسنقر حلب حسب سؤاله. وتولّى الأمير سيف الدين كراى دمشق، فاستقرّ خمسة أشهر ومسك، مسكه الأمير سيف الدين أرغون الناصرىّ حسبما يأتى من ذكره وفيها فى مستهلّ المحرّم مسك بتخاص، وهرب أمير موسى بن الملك الصالح، فطلب وأحضر وكان آخر العهد به، وربّما كان قد لعب بعقله الشيطان، فاطّلع على أمره مولانا السلطان، فقبض عليه قبض حليم، فإن الملك عقيم وفيها أفرج الله تعالى وحنّن قلب مولانا السلطان، فأطلق جماعة من المعتقلين، منهم الأمير عزّ الدين أيدمر الخطيرىّ، وساطى، وطشتمر الجمقدار، وصاروجا المظفّرىّ الحسامىّ وفيها برزت المراسم الشريفة السلطانيّة بعمارة جامع بساحل مصر بالشون، وكان يعرف قديما ببستان العالمة، وتكمّلت عمارته، وصلّى فيه يوم الجمعة تاسع صفر سنة اثنتى عشرة وسبع ماية وفى يوم الجمعة رابع عشرين شهر جمادى الأولى، مسك بكتمر الجوكندار النايب بالديار المصريّة ومعه منكوتمر الطبّاخىّ صهر الغلمشى (15)، وأيدغدى اللقمانىّ، وألكتمر الساقى، وأيدمر الصفدىّ وأخلع فى الوقت على الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار خلعة النيابة وأجلسه، وبدر الدين بن الوزيرىّ حاجبا مستقلا فى مدّة غيبة الأمير شمس الدين الكمالىّ

(15) صهر الغلمشى: كذا فى الأصل

ذكر سبب مسك بكتمر الجوكندار وكراى وبقية النواب

ذكر سبب مسك بكتمر الجوكندار وكراى وبقيّة النوّاب وذلك أنّ بكتمر كان قد ركب فى غير سرجه، ولفّ عليه جماعة كبيرة من الناس. ولم يزل بمولانا السلطان حتى أمر جماعة تقدير ثلاثين أميرا من البرانية، وهم طرخان بن اليسرىّ، وصمغار بن سنقر الأشقر، ومحمد بن آقوش الشمسىّ، وابن الحمصىّ، وعلىّ بن تغريل اليغانىّ، وجركتمر بن بهادر، وآلبرص بن أمير جاندار، وبلبان الأشقرىّ، وجركتمر السلحدار، وساطلمش الكريمىّ، وبيبرس الكريمىّ، وقزلجا الجاشنكير، وألطنبا الرومىّ، وأنغاى الجمدار، وباجير الساقى، وأراق السلحدار، وطرنطاى جرمشى، وقيران أمير علم، وطوغان الساقى، وبيبرس الخاصّ تركىّ، وجاريك عبد الله، وأيدمر الكبكىّ، وقليج القبقىّ، وسنجر الخازن، ويغمور الشقيرىّ، والصارم الخزندارىّ، وبلبان الدوادارىّ، وقيصر العلايى، وسنجر الأحمدىّ. وأيدغدى العلايى. وأكثر هؤلاء تآمروا لغرضه. ومولانا السلطان خلّد الله ملكه قد حنّكته التجارب، وعاد يخشى سموم العقارب، بلّغه الله فى أعاديه أقصى المآرب. ولا زال منهم مقتول ومسجون وهارب. ثمّ إنّ كراى المنصورىّ كان أخوه يموت لموته ويحيى لحياته. وكان لمّا خرج بكتمر الجوكندار من ديار مصر إلى الصبيبة، ثم إلى صفد، نزل كراى عن إمرته، وأراد أن يهيج على وجهه. وبكتمر كان سبب نيابته الشأم، وكذلك كان قطلبك الكبير قد التفّ على بكتمر وكذلك قطلقتمر. وكان ربّما أنّ قطلوبك ما هو راضى بنيابة

صفد، وكثير التسخّط بها والتعتّب على الدهر، وتصل إليه من بكتمر مواعيد كاذبة، من آمال خايبة (2). هذا كلّه يجرى ومولانا السلطان أعزّ الله نصره ينظر إلى ذلك من ستر رقيق، ويلاحظه بعين السداد والتوفيق. فإنّه نصره الله على أعداه، وبسط بالخيرات يداه، لم يهتك لأحد من هؤلاء المغضوب عليهم حرمة، إلاّ بذنب سبق منه وجرمة. فمن اعتقد خلاف ذلك فإنّما اعتقاده همس (6)، ومن ظنّه فإنّما ظنّه عجز. ومن أكبر الأدلّة على ذلك، أنّ كلّ من قصده بسوء عاد هالك، ولم يزل منتصرا عليه، فى كلّ مورد ومصدر ومشرع، فإنّه (8) باغ عليه، وكلّ باغ له مصرع. ثمّ إنّه لمّا تقرّر عنده ما أضمروه من سوء الضماير، ولاحت له من ذلك أشاير وأماير، وثب عليهم وثوب الأسد الكاسر، والذيب الجاسر. ونفّذ الأمير سيف الدين أرغون بالقبض على كراى من دمشق، ونفّذ الأمير علم الدين سنجر الجمقدار بالقبض على قطلوبك من صفد، ونفّذ الأمير سيف الدين آقول الحاجب بالقبض على قطلقتمر من غزّة، فكان قبض بكتمر الجوكندار وقطلبك وقطلقتمر فى يوم واحد بمقتضى المواعدة، وذلك يوم الجمعة رابع عشرين جمادى الأولى، وأمّا كراى فيوم الخميس ثالث عشرين الشهر المذكور، وذلك بحضور العبد المؤلف لهذا الكتاب، ومشاهدته بالمعاينة دون السماع (17) وكان الوالد فى ذلك التأريخ شادّ الدواوين بدمشق ومهمندارا حسبما تقدّم. وكان كراى قد عمل لمولانا السلطان دهليزا حسنا، والوالد المشدّ على عمله. فلمّا كان يوم الأربعا الثانى والعشرين من جمادى الأولى بعد

(2) وتصل. . . خايبة: بالهامش (6) همس: همسا--عجز: عجزا (8) فإنه باغ: فإنه باغى (17) دون السماع: بالهامش

العصر حضر إلينا ناصر الدين محمد بن المهمندار نايب الوالد فى المهمنداريّة، وهو فى أشدّ شوق. وكان الوالد فى تلك الساعة الذى نزل من الركوب وفارق كراى من القصر الأبلق، فإنّه كان حديث العرس ببنت قبجق ونزل بها بالقصر الأبلق، والدنيا قد زخرفت له، وصفت له الليالى من العكر، وعند صفوها حصل الكدر (5). ثمّ إنّ نايب المهمنداريّة قال: قد وصل فى هذه الساعة الأمير سيف الدين أرغون من الأبواب العالية على البريد المنصور. -فقال الوالد: ولم لا وصلت البطايق به؟ -فقال: لا أعلم. -فقال الوالد: لا تكن البطايق بغير تدريج. -فقال: يا خوند، ما عرفناهم قبل اليوم إلاّ (9) واصلين إلينا قبل كلّ بريد يصل. - فركب الوالد على فوره والمملوك صحبته، وأتينا المهمانخاناه التى ظاهر القصر الأبلق. فوجدنا الأمير سيف الدين أرغون قد نزل بها. فدخل إليه الوالد وسلّم عليه. فشرع يدمدم على الوالد ويقول: نجى إليكم ما يخرج أحد إلينا ولا تلتفتوا. -فقال: يا خوند، ما علمنا. -فقال: فقد بطّقت لكم. -فقال: ما وصل إلينا شى. -فقال: همّ من نحس المباشرة. - ولم يكن بطّق شيئا (15)، ومنع من ذلك. ثم أحضرنا له العادة من المأكول والمشروب، فادّعى أنّ فؤاده يوجعه، وطلب طستا (16) وعاد يتقيّأ، وخرجنا من عنده، وأتينا إلى كراى، فقال: يا جمال الدين، كيف يجى مثل الأمير سيف الدين أرغون ولا تعلمونا؟ -فقال: يا خوند، ما جاءنا بطايق ولا علمنا به حتى حضر. -فقال: سيّر غدا أحضر البرّاج وأدّبه على هذا الحمام النحس. -ثم قال: ما علمت فى أيش جا؟ -

(5) حصل الكدر: بالهامش (9) إلا: الى (15) شيئا: شى (16) طستا: طست

قال: ذكر لى أنه أحضر لملك الأمرا تشريفا (1) من مولانا السلطان، وأنّه متوجّه إلى حلب. -وكان كراى قد صنع قبل ذلك سرج خشب صناعة حسنة، اقتراح صلاح الدين بن الحلّىّ، ونفّذه للأبواب العالية، فظنّ أن ذلك التشريف عن تلك التقدمة. لكنّه حصل عنده قلق كثير. وقال للوالد: عود ارجع إليه واكشف أخباره وردّ علىّ! - فأتينا مع المغرب، وجدنا طيبغا الحموىّ جالسا (6) على باب المهمانخاناه، فقال: الأمير موجوع، -وما صدقنا متى يعفى. فردّينا الخبر على كراى، ثمّ إنّه قال: يا جمال الدين، بت الليلة عندنا ولا ترح مكانا (8). -وأخرج لنا فرش أطلس مزركشة من جهاز بنت قبجق، ومأكولا كثيرا ومشروبا حسنا (10)، وحلوا. فلمّا كان بعد عشا الآخرة خرج كراى وطلب الوالد، وعاد يمشى فى الميدان فى ضوء القمر، ويتحدّث مع الوالد إلى وقت، ثمّ دخل إلى بيته. فلمّا كان التسبيح أتى طيبغا ومعه بقجة فيها خلعة سنيّة. ما رأى الناس فى ذلك الوقت مثلها وكلوتة زركش بفصّ بلخش فى مقدّمها، وحياصة مكلّلة، ودخلوا بها الخدّام إلى كراى ولبسها. وركب ذلك اليوم يوم الخميس فى الموكب بتلك الخلعة العظيمة القدر، وركبت جميع الأمرا بساير مماليكهم معتدين معتبين. وذلك أنّ الأمير سيف الدين أرغون لمّا عدنا إليه ووجدنا طيبغا الحموىّ جالسا (17) على باب المهمانخاناه وقال: إن الأمير نايم-كان قد تنكّر ودخل دمشق، واجتمع تلك الليلة بساير الأمرا الكبار، وقرّر معهم الحال. فلذلك ركبوا على غبّه متأهّبين. فلمّا عادوا إلى القصر من الموكب وجلسوا على الخوان (20) نهض

(1) تشريفا: تشريف (6) جالسا: جالس (8) مكانا: مكان (10) ومأكولا كثيرا ومشروبا حسنا: ومأكول كثير ومشروب حسن (17) جالسا: جالس (20) الخوان: الاخوان--نهض: نهط

الأمير سيف الدين أرغون وقال لكراى: يا أمير، عليك سمع وطاعة لمولانا السلطان! -وأخرج مثالا شريفا (2)، فاجتمعوا ساير الأمرا حلقة عليه، ومسك فى تلك الساعة. ووقع الصّراخ فى القصر، وأحضر الحدّاد، وقيّد فى وقته. ومن العجب أنّ الحدّاد بيقيّده وهو بيفكّ فى أزرار الخلعة من عليه. ورسم عليه الأمير ركن الدين بيبرس المجنون وشنقار، وطلب فى الساعة ولده محمدا (6)، وهو أوّل ما مشى فودّعه، وركب البريد وأخرج من دمشق أسرع من لمح البصر. وعادت دمشق بغير نايب ولا من يتحدّث فيها غير الحاجب قطلبك بن الجاشنكير والوالد. وتوجّه به إلى سجن الكرك. ولا قوه بقطلوبك من صفد، وقطلقتمر من غزّة واعتقلوا هؤلاء الثلاثة بها نكتة: ومن أعجب ما ينقل ويذكر، ويؤرّخ ويسطّر، أنّ كراى كان قبل ذلك قد غضب على بيبرس المجنون وعلى شنقار، بسبب ما كان لهما بدمشق من الحماوات التى كان يباع فيها المنكر، وأخذ سيوفهما وأجلسهما فى الشمس بالميدان إلى الظهر، حتى شفعوا فيهما الأمرا الكبار. فلمّا مسك كراى رسم أن يرسما عليه ويوصّلاه إلى الكرك، فوصّلاه إلى الكرك. وهما أشدّ الناس سرورا به وكونهما ظفرا بعدوّهما. فلمّا أتيا به إلى الجبّ قيل لهما: إنّ المرسوم لكما أن تنزلا به إلى أسفل الجبّ. -وأخذا سيوفهما ونزلا وأرادا الطلوع، فقيل لهما: وأنتما أيضا من المسجونين. -فهذه من غرايب البلايا وعجايب المصايب

(2) مثالا شريفا: مثال شريف (6) محمدا: محمد

وكذلك كان بكتمر الجوكندار الواسطة لكريم الدين الكبير عند مولانا السلطان حتى خلّصه وجعله وكيل الخاصّ الشريف، وجعل معه فى أوّل الحال بلبان الدوادارىّ مشدّا للخاصّ. فلم يزل كريم الدين يتقرّب بسياسته وتأتّيه وحسن تدبيره، إلى أن عاد كما شهر وعلم أنّه لم يصل متعمّم أن يتحكّم فى دولة ما تحكّم كريم الدين. وكانت الأشيا مسخّرة له، ودبّر تدبيرا تعب به من أتى بعده وفاق على من قبله. والذى أقوله: إنّ كريم الدين وجميع من خدم فى هذه الدولة القاهرة من أرباب المناصب، تلحظهم (7) سعادة مولانا السلطان عزّ نصره أيّام رضاه عليهم. فيظنّ الجهّال من الناس أنّ تلك من سعادتهم، كلاّ والله، هذه سعادة الرضى عليهم، فإنّ مولانا السلطان كالشمس على بقاع الأرض. فحيث طلعت عليه أينع وأزهر وأنور وأثمر، وحيث غابت عنه دثر، ولم يكن له أثر. فانظر، أيّها العاقل، بعين عقلك لمّا يسخط-أجارنا الله وإيّاكم من سخطه! -هل يعود ذلك المسخوط عليه بسعادة نفسه إلى حال نمطه، لا والله، وإنّما هذا مستفاد من سعادة السلطان، وذاك من سخطه على من لعب بعقله الشيطان، فنعوذ بالله من قضاه، ونستعيذ من سخطه، ونسأل الله تعالى رضاه وفيها وصل رسول صاحب اليمن إلى الأبواب العالية، وأحضر تقادم كثيرة، وطلعت على رءوس الحمّالين إلى القلعة المحروسة، وعدّتها أربع ماية حمّال وتسعة حمّالين، وعلى كلّ قفص حمّال كرّ يمنىّ والتحف من تحته، منها ستّة وستّين حمّالا عليها عاج وأبنوس وصندل وغير ذلك، ومنها ستّين حمّالا رماح قنا، والباقى أموال وتحف، وفى الجملة فيل صغير ونمرين، وأربعة فهود وعشرة أرؤس خيل ملبّسة بركستوانات وعشرين خادما حسان الوجوه

(7) تلحظهم: تلحضهم

ذكر سبب تقفيز قراسنقر وآقوش الأفرم ومن معهما ووصولهم إلى التتار

وفيها أخلع على الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار خلعة النيابة بالأبواب العالية عوضا عن الجوكندار المقدّم ذكره، وجلس فى دست النيابة نهار السبت ثانى يوم قبض على بكتمر الجوكندار وكذلك أخلع على الأمير جمال الدين آقوش الأشرفىّ المعروف بنايب الكرك بنيابة دمشق عوضا عن كراى المنصورىّ. فتجهّز وخرج على مهل فى طلبه وفيها وردت الأخبار أنّ الأمير شمس الدين قراسنقر توجّه من طريق الحجاز الشريف راجعا عن الحجّ قاصدا لبيوت الأمير حسام الدين مهنّا بن عيسى أمير العربان بطىّ، مستجيرا به خوفا من السطوات الشريفة السلطانيّة ذكر سبب تقفيز قراسنقر وآقوش الأفرم ومن معهما ووصولهم إلى التتار وذلك أنّ المراسيم الشريفة السلطانيّة أعلاها الله تعالى برزت بأن يجرّد خمسة آلاف فارس من الديار المصرية إلى الشأم المحروس، يقدمهم من الأمرا الأمير حسام الدين قرا لاجين أستادار، والأمير حسام الدين لاجين الجاشنكير المعروف بزيرباج، والأمير عزّ الدين أيدمر الخطيرىّ، بسبب المصالح الإسلاميّة. نفّذوا مناصحين قراسنقر إليه يقولون له: فخذ حذرك! فإنّ ما خرجت هذه التجريدة إلاّ بسبب القبض عليك. فخذ خلاصك ولا تقع كما وقع غيرك! -وفى جملة الرسالة إليه: والله إن وقعت له شوى لحمك وأطعمك

قلت: هذا حديث بيخان مملوك قراسنقر للعبد فى سنين العشرين والسبع ماية، لمّا كان بالديار المصريّة بعد عودته من عند أستاذه ومفارقته له على شاطى الفراة، لمّا عاد إلى نحو البلاد، حسبما نذكر من ذلك فى تأريخه إنشا الله تعالى. قال بيخان: فلمّا سمع قراسنقر ذلك نفّذ من ساعته ولده أمير علىّ بطلب دستور له إلى الحجاز الشريف، فرسم له بذلك فتجهّز. وقد حصل له السرور العظيم بذلك، وتوجّه من حلب طالبا للحجاز الشريف. فورد عليه أيضا كتاب من مناصحيه وعيونه بالأبواب الشريفة: أن قد جرّد إلى الحجاز الشريف خمس ماية مملوك من المماليك السلطانيّة بسبب القبض عليك من الحجاز الشريف، ولو أنّك متعلّق بأستار الكعبة، فخذ خلاصك والسلام. -فعند ذلك حار فى أمره وضاقت مذاهبه، فرجع طالبا لبيوت مهنّا مستجيرا به، فوصل إليه وخرج له، والتقاه ملتقى حسنا، وأنزله عنده، وكان بينهما صحبة متأكّدة وأخوّة قديمة. فأطلعه على الكتب الواردة عليه من المناصحين. فقال له مهنّا: أقم عندى، حتى أكاتب مولانا السلطان فى أمرك، وأعرّفه أنّك رجعت عن عزم الحجاز لضعف حصل لك، وننظر بعد هذا ما يرد علينا ونفعل ما نراه وأمّا ما كان من المجرّدين وأمرهم فإنهم نزلوا غزّة. فورد عليهم الخبر أنّ قراسنقر نزل الزرقا ورجع عن قصده الحجاز ورجع طالبا لحلب، وجفلت العربان من قدّامه وشالوا النار. فقال قرا لاجين للخطيرىّ: ما عندك من الرأى؟ -فقال: نصبر حتى نستصحّ الخبر، ونكاتب مولانا السلطان، ومهما رسم لنا بعد ذلك امتثلناه. -ثمّ ورد أيضا عليهم كتاب من بنى مهدىّ بصحّة عودة قراسنقر ونزوله على مهنّا

وفضل أخيه (1). فسيّروا للوقت طالعوا الأبواب الشريفة، وجعلوا كتاب بنى مهدىّ فى طىّ مطالعتهم قال بيخان: إنّ قراسنقر هجم بيوت مهنّا على حريمه ومسك أذيال النسا اللاتى (4) لمهنّا، واستجار جيرة العرب. فألجأت مهنّا ضرورة الجيرة حتى أجاره، وقال له فى عرض كلامه: وتربة عيسى، ما يصيبك إلاّ ما يفضل عن رأسى، لكنك، يامير شمس الدين، أرميت روحك فى النار الحمرا وأرميتنا معك، فلا قوّة إلاّ بالله. كيف ما نظرت ما جرى على أسندمر، لمّا خالف المرسوم، وردّ تقليد طرابلس وتوجّه إلى حلب بغير دستور؟ - فقال: يامير حسام الدين، ما بقى فى الكلام فايدة، وأنا فى جيرتك والسلام. وأنت كلامك مسموع عند مولانا السلطان عزّ نصره، وأشتهى تسيّر الأمير موسى ولدك، تسأله فيه ينعم علىّ بقلعة الروم أكون فيها نايبا (11)، وخلّصنى من حلب، فلى فيها سبعة وعشرين سنة. وقد ضجرت منها، ولا يحوجنى أدخل بلاد الكفر بعد الإيمان، وأنت تعرف أنّ صاحب سيس أعرض علىّ (13) قلاعه من قبل ذلك. وما من الواجب أن تضيع خدمتى، وقدم هجرتى فى هذا البيت، -وبكى بكاء كثيرا. فرقّ له مهنّا وجهّز ولده الأمير موسى وكتب مطالعة تعرض بين يدى المواقف الشريفة السلطانيّة أعزّ الله أنصارها (16)، وسيّر صحبته حصانا (17) أشهب، كان مولانا السلطان قد سمع به وسيّر طلبه منه، وحجرة خضرا، وثلاثة مماليك كالبدور الطلع، كان قد غار عليهم الأمير فضل وأخذهم من الدشار. وفى جملة المطالعة يستمطر سحاب كرمه الهامع، بلفظ كالدرّر تشنّف بحسنه المسامع، ويسأل لقراسنقر أن يتصدّق عليه بنيابة

(1) أخيه: اخاه (4) اللاتى: الذى (11) نايبا: نايب (13) علىّ: عليه (16) أنصارها: بالهامش (17) حصانا: حصان

قلعة الروم، وفيها فصل يعرّض بتوجّعه، كون أنّه شفع فى برلغىّ، فلم تقبل فيه شفاعته، وكان برلغىّ أصله من عند مهنّا قدّمه للسلطان الشهيد الملك الأشرف، نوّر الله ضريحه قال بيخان: ولمّا توجّه موسى بن مهنّا من عند أبيه بهذه المطالعة والتقدمة، أشار مهنّا على قراسنقر بالعود إلى حلب. فامتثل أمره وتوجّه حتى صار بالقرب من تلّ الفرس، وكان بها يومئذ الأمير شهاب الدين قرطاى الحاجب. فلمّا بلغه عودة قراسنقر إلى حلب بغير مرسوم، منعه من الدخول إليها وسيّر يقول له: يامير شمس الدين، ما لك عندنا دخول إلاّ بمرسوم من مولانا السلطان عزّ نصره. -فأعاد عليه يقول: كنت أظنّ أنّ كلّ أحد يقبح علينا إلاّ أنت، يامير شهاب الدين، ولكن هذا كلّه من الخمول، فتسيّر إلىّ (11) مملوكى جركس مع جميع أموالى وخزاينى. ولا تعوّقهم علىّ، فأنا نازل على تلّ الفرس حتى أنظر ما يرد علىّ من المرسوم وعليك أيضا بما تعتمده. -وكان قراسنقر قد سيّر للأمير مهنّا يعرّفه أنّ قرطاى منعه من الدخول إلى حلب، وعوّق مملوكه جركس وخزاينه وحريمه وأولاده. فسيّر مهنّا من وقته كتابا (15) إلى قرطاى على يد حاجبه محمد بن نصّار يقول له: يامير شهاب الدين، تطلق للأمير شمس الدين مملوكه وخزاينه وأولاده وحريمه، فإنّ مولانا السلطان سيّر يطلبه يكون نايبا بمصر عنده وقد رضى عليه، وأنت ما عندك خبر بذلك. -قال: فلمّا قرأ قرطاى الكتاب ندم على ما فرط منه فى حقّ قراسنقر، وأخرج جركس مملوكه مع جميع ماله وما كان له بحلب. وسيّر يعتذر منه وحمل ثقله على ألفين جمل، وساق الأبقار والأغنام وخيل

(11) إلىّ: إليه (15) كتابا: كتاب

الدشار، وخرج من مماليكه وألزامه ألف فارس ملبّسين شاكين السلاح ومنهم رمّاحين وزرّاقين وغيرهم. وخرجوا أهل حلب بكمالهم حتى البنت فى خدرها لوداعه. وعاد فى ذلك اليوم (3) بكا وصراخ وعويل ممّا يبكى الحجارة، لمفارقة كلّ إلف إلفه. فإنّ كلّ إنسان من مماليكه وألزامه وحاشيته، قد صار له بحلب الأهل والأصهار والأصحاب والجيران والمعارف، فخرجوا الجميع لتوديعهم، وكان يوم مشهود. هذا وقد ضربت نقاراته وطبلخانته، ونعرت بوقاته، ونشرت صناجقه، وهو راكب قدّام ثقله، وذلك الأولة من نهار يوم الخميس قال بيخان: إنّ قراسنقر لمّا استقلّ ركابه من حلب وصارت خلفه، التفت إلى نحوها وبكى حتى بلّت دموعه لحيته، وقال: صدق من قال: بيت الظالم خراب ولو بعد حين. -ثمّ طلب ناحية القبلة إلى فوق من بيوت مهنّا. فلمّا قرب من ديارهم خرج إليه مهنّا وفضل فى عشايرهم ووجوه قومهم، والتقوه ملتقى حسنا (13)، وأنزلوه قريبا منهم على شاطى الفراة. وشاعت الأخبار فى جميع أقاليم الشأم بما جرى لقراسنقر. فتشوّش الناس والنوّاب بجميع الممالك الشأميّة. وسيّر الأفرم نايب طرابلس وكاتب الأمير مهنّا: إنّى أيضا واصل إليك بجماعة من أصحابى وألزامى وأمّا ما كان من المجرّدين الذين فى صحبة قرا لاجين وبقيّة الأمرا المذكورين، فإنّ المرسوم ورد عليهم بالسّوق إلى دمشق. فلم يزالوا كذلك حتى وصلوا دمشق. ثمّ اتّفق رأيهم أن ينزلوا حمص، وينتظروا (19) ما يرسم لهم به، وهم أيضا خايفين وجلين

(3) اليوم: بالهامش (13) حسنا: حسن--قريبا: قريب (19) وينتظروا: وينتظرون

ثمّ إنّ مولانا السلطان-أعزّ الله أنصاره، وضاعف اقتداره-لمّا بلغته هذه الأخبار المزعجة التى تصوّرت من الوهم الذى داخل قلوب الوجلين، من غير أن يكون لجميع ما توهّموه أو سمعوه من مناصحينهم صحّة، ولقد كانت نيّته المباركة لهم بخلاف ما توهّموه. وإنّما إذا أراد الله تعالى أمرا هيّأ أسبابه لينفذ قضاؤه وقدره. فعندها سيّر الأمير سيف الدين طقطاى بالأمان لقراسنقر وتقليد حلب على عادته ومستقرّ قاعدته، ويعتب عليه على ما قد خامره من الوهم الهذّيانىّ الذى لم تكن له صحّة. وفى الجملة: أنت رجل كبير، ونحن برأيك نقتدى فى الأمور الكبار، ترجع إلى كلام الجهلة والأعدا، وتفعل ما لا تفعله الصغار؟ الله الله، تترك هذا وترجع إلى حلب، وأنت طيّب القلب، منشرح الصدر، مبسوط الأمل. فأنت تعلم محلّك عندنا وعظم منزلتك. ونحن فقد أقمناك مقام أنفسنا فى جميع الممالك الشأميّة قال بيخان: وكان قبل وصول طقطاى بيومين قد وصل إليه الأخبار من مناصحينه على جناح الحمام يقولوا له: الحذر الحذر! فإنّه قد كتب لقرا لاجين صحبة هذا طقطاى أنّ ساعة ترجع إلى حلب يطبق عليك بالجيوش، فيمسكك أنحس من مسك أسندمر. -ثمّ ورد على مهنّا مرسوم أن يتوجّه صحبة طقطاى ويلبّس قراسنقر الخلعة ويعيده إلى حلب. فامتثل ذلك. وحضر صحبة طقطاى واجتمعوا عند قراسنقر. ثمّ تحدّثوا معه فى امتثال المراسم الشريفة، وقبول الخلعة والتقليد والرجوع عمّا قد توهّمه قال بيخان: فخلا قراسنقر بمهنّا وأوقفه على البطاقة التى وقعت له، وقال: يا با موسى، أنا الآن فى جيرتك، ومهما لحقنى من الضيم كان عيبه

عليك وعاره لازم لك. -فقال مهنّا: إذا كان الأمر على هذا الحال فلا والله ما أخفر ذمّتى ولا جيرتى، ولا تفعل إلاّ خلاصك، وأنا مساعدك على جميع مصالحك. -قال: ثمّ اجتمعوا بالأمرا وهما طقطاى وآقول المحمّدىّ، وقال قراسنقر: أمّا الخلعة والأرمغان، فقد قبلته على رأسى. وأمّا عودتى إلى حلب، فلا والله ما أقامر بنفسى، والروح عزيزة. وأنا بقيت رجل كبير ولا لى قدرة على تعذيب. ولو علمت أنّى إذا مثلت بين يديه قتلنى فى ساعتى وأراحنى لمّا والله تأخّرت. لكن أخشى من تعذيبى- قال: ثمّ وصل كتاب إلى الأمير مهنّا صحبة الأمير سيف الدين أرغون وثلاث ماية قطعة قماش وخلعة بطرز زركش، والكتاب جواب كتابه الذى نفّذه صحبة ولده موسى، وفيه: أن قد كتبنا له بعودته إلى حلب. ثمّ أفكرنا أنّه لم يكن بقى عندنا من يحسن يقوم بأمر النيابة بالأبواب العالية. وأنّ مثل الأمير شمس الدين لا ينبغى أن يكون بعيدا عن نظرنا، لبركته وحسن تدبيره وسياسته. وقد حلفنا له الأيمان التى ليس فيها فسحة، أنّه عندنا العزيز الغالى بما يقف الجناب العالى على نسختها، فالله الله، تحكم بذلك وتسيّره إلينا، وهو طيّب القلب، منبسط الأمل، ليشاركنا فيما نحن فيه من مصالح المسلمين، وعلى الجملة فما أعرف حضوره إلاّ من اهتمامك وشفقتك قال بيخان: فقرأ مهنّا الكتاب على قراسنقر وقال: يامير شمس الدين، قد سمعت، والمصلحة تتوجّه إلى بين يديه، فما أظنّ بعد هذه الأيمان يكون غدر، إنشا الله تعالى. -فقال قراسنقر: يا با موسى. أنا فى الأصل قطعة مملوك جركسىّ، رأسى ورجلى. ما يسوو ثلاث ماية درهم، وأيش هو أنا إذا قتلت؟ وإنما عيبى يبقى لازمك، وتلبس ثياب العاربين العربان إلى آخر

ذكر تعدية قراسنقر إلى التتار

الدهر. وإذا أشرت علىّ بشى ما أخالفك. -ثمّ قال: قدّموا الخيل أركب وأتوجّه إليه، ويفعل الله ما يشا، وبكى. -قال: فبكى أيضا مهنّا، وقال: لا والله يامير شمس الدين، لا سمعت العرب بهذا، وأنا والله أعلم أنّه ما يبقى عليك. ثمّ أنشده يقول <من الوافر>: ونفسك فز بها إن صبك ضيم (5) … وخلّ الدار تنعى من بناها فإنّك واجد (6) … أرضا بأرض ونفسك لن تجد نفسا سواها ونفض ثيابه وقال: لا تعمل إلاّ مصلحتك ولا تقتل، وتقع فى العار بين البدو والحضر ذكر تعدية قراسنقر إلى التتار قال بيخان: فلمّا سمع الأمير يعنى قراسنقر هذا الكلام من مهنّا أمر فى تلك الساعة بالرحيل والتعدية، وودّع ابنه أمير علىّ وولده أمير فرح وأنا، يقول بيخان: فقلت: أنا أتوجّه فى ركابك ولا أموت إلاّ فى خدمك. -فقال: يا ولدى، لك أسوة بأولادى، إن ماتوا موت معهم وإن عاشوا عيش معهم. فأنا أعلم أنّ السلطان ما يضرّكم، ولا المطلوب إلاّ أنا. -هذا وهو يبكى كالمرأة الثكلى. وساق أمواله وخزاينه ودشاره وطلب الفراة، قال

(5) ضيم: ضيما--وخل: وخلى (6) واجد: واجدا

فقال له مهنّا: تمهّل على نفسك، فقد ورد علىّ الساعة قاصد من عند الأمير جمال الدين الأفرم يخبر أنّه واصل إلينا. -ثمّ وصل الأمير جمال الدين آخر ذلك النهار، وركب قراسنقر ومهنّا مع جماعتهما والتقوا الأفرم، وتكارشوا وتباكوا وتشاكوا. وقال الأفرم لقراسنقر: أيش هذا التهاون فى أرواحنا؟ اركب بنا وخلّص ذقوننا من الموت والعذاب! فقد وردت علىّ الأخبار من نصحايى (6) بما يسدّ الآذان ممّا جرى على خشداشنا من أنواع العذاب، وهو لنا فى أيشم النيّات. والله ما يقع منّا له أحد إلاّ ويتنوّع فى تعذيبه قبل قتله. وهذه العساكر قدموا الشأم بسببى وسببك لا غير. وقد عبرت فى طريقى على قلى والملك، وكنت قادرا (9) على كبستهم وأخذهم أسارى. ثمّ تركت ذلك حتى أنظر ما ترسم به. فإن رسمت سيّرنا العرب من خلفهم ونحن نأتيهم من قدّامهم ونأخذهم أشدّ أخذ. ثمّ نغير على البلاد ونحرق البيادر ونرجع إلى دمشق. فكلّ أمير فيها خايف على نفسه، وما يصدّقوا بنا، وتجتمع كلمتنا بالشأم. ونخرج الأموال، وننفق فى الرجال، وننزل غزّة. فأىّ من خرج من مصر فأسرناه. فقد بلغنى أنّ جميع من فيها خايفين أيضا. ومن لا يرجع إلينا ضربنا معه رأس. ويعطى الله النصر لمن يشا. ونموت على ظهور خيلنا ولا نموت فى العذاب الأليم. - فقال قراسنقر: يامير جمال الدين، لا تستعجل، فقد سيّرت إلى جماعة من الأمرا المصريين، وقد جانى الجواب بما أختار، وهؤلاء العرب فقد هلكوا معنا من السوق والسهر علينا الليل والنهار. وإنما الرأى أن نريح خيلنا ونرجع العرب مع الأمير مهنّا إلى الرحبة، وننزل على مشهد علىّ، ونستغلّ المغل وتشيل العرب مؤنهم، وننظر ما يتجدّد، ففى الليل والنهار عجايب. ونكتب

(6) نصحايى: نصحاى (9) قادرا: قادر

للسلطان نعرّفه أن يعطينا البيرة وقلعة الروم. فإن أجابنا قعدنا فيهما إلى <أن> تدركنا آجالنا، ونكون قد أمنّا على نفوسنا، ولا ندخل آخر العمر فى دماء المسلمين. وإن امتنع كان لنا رأى آخر. -ثمّ إنهما عدّيا إلى ذلك الجانب، ورجع مهنّا إلى الرحبة ليستغلّ. وكتبوا مطالعة للأبواب العالية يسألوا أن ينعم عليهما بقلعتى البيرة وقلعة الروم فبينما هما (6) فى انتظار ما يتجدّد إذ وصل إليهما عزان السلحدار من عند الملك خدابنداه فى البريد طاير طيران، وصحبته ابن عمّ صاحب ماردين وابن قاضى بغداد، ونسخة اليمين لهم من جهة الملك خدابنداه. وتحدّث معهما عزان حديثا كثيرا (9) ممّا حمّله خدابنداه مشافهة ممّا يطيّب خواطرهم ويستميلهم ويرغّبهم. وكان أيضا قد وصل إليهما الأمير بدر الدين الزردكاش من دمشق، خرج الظهر منها، والنايب بها يومئذ جمال الدين نايب الكرك قلت وممّا أحكيه ما شاهدته بالمعاينة لا بالإخبار: إنّ كان الوالد سقى الله عهده إذ ذاك مهمندارا بالشأم، وقد انفصل من شادّ الدواوين بالسبب المذكور. فلمّا كان فى ذلك اليوم الذى خرج فيه الزردكاش طلب الأمير جمال الدين ملك الأمرا للوالد رحمه الله بعد الخدمة. وقال له: يا جمال الدين، أنت قرناص ومملوك مصر، ولا تخفى عليك أحوال من يريد حركة. وقد بلغنى أنّ الزردكاش بيقصد الخروج من دمشق واللحوق بصهره الأفرم. فأشتهى منك تروح إليه فى حجّة شى تدبّره بعقلك

(6) هما: هم--عزان: يرد كذلك مرات بعد سطور، ولعله غزان (9) حديثا كثيرا: حديث كثير

وتنظر إلى أحواله كيف هو. فقد بلغنى أنّه بيخرج الساعة. فترجع تعرّفنى حتى نعمل بما نراه. -فخرج الوالد والعبد فى خدمته. وأتينا إلى دار الزردكاش فوجدناهم فى همّة وهرج، والأمير فى داره. فلمّا قالوا له: جمال الدين المهمندار أتى إليك، خرج ووجهه كالزعفران صفرة، وعانق الوالد وحادثه، وأحضر سكّرا وليمونا (5) بثلج وأسقانا. ثم أمر بفرسين مسرجة قدّمهما للوالد. فامتنع الوالد وحلف لا يقبلهما وقال: يا خوند، إنّما حضر المملوك إلى باب الأمير بسبب الماء المعروف بالعكرشة الذى أصل مسيله من ضيعة الأمير ببلاد حوران، وهذا الماء من حقوق قرية خسفين الجولان إقطاع المملوك. وقد عمل المملوك بذلك محاضر مثبوتة على الحكّام بذلك. والمسئول من صدقات الأمير كتاب إلى الشحنة بضيعة الأمير أن يحمل الأمر فى ذلك على حكم المحاضر الشرعيّة. -فقال: يامير جمال الدين، أنت عمرك ما أتيت لى بيتا (12)، وقدّمت لك هؤلاء الخيل، حلفت ما تقبلهم، وأنا أقدّم لك كتب هذه الضيعة ملكا (13). -وأشهد عليه بتسليم ثمنها. فسبقه الوالد باليمين لا يقبل شيئا (14)، وحادثه ساعة، وهو فى غاية القلق حتى من جملة ما قال للوالد: يا خوند، حاشاك، لى صغير وهو فى هذه الساعة ينازع، ولمّا سمعت بخدمتك خرجت وخلّيته. -فنهض (16) الوالد، وخرج معنا بنفسه إلى عند الركوب، والوالد يحلف عليه وهو يأبى الرجوع، وهو لابس خفّه مسدود بغلطاقه التترىّ، وكذلك جميع مماليكه لابسين قماشهم. ثمّ إنّ الوالد رجع إلى ملك الأمرا وحكى له الصورة وقال له:

(5) سكرا وليمونا: سكر وليموا (12) بيتا: بيت (13) ملكا: ملك (14) شيئا: شى (16) فنهض: فنهظ

يا خوند، إن كان بلغك عنه حركة فلا شكّ فيها وهو يخرج الساعة. - فقال: الله يجعلها عليه طريقا (2) مباركة، -يقول هكذا والله وأنا أسمع، وما كان إلاّ حيثما فارقناه. وركب من ساعته أذان الظهر، وخرج من دمشق معاينة بالإجهار ولم يتبعه بشر. فهذا كان خروج الزردكاش ولنعود إلى ما كان من أمر قراسنقر ورفقته! وكان من جملة كلام عزان لقراسنقر يقول: الملك القآن ملك البسيطة يسلّم عليك وعلى الأمرا الحاضرين معك ويقول: قد بلغه أنّكم عدّيتم إلى نحو بلادى، ودستم أرضى وطلبتم بابى، فأهلا بكم وسهلا! وقد سيّرت إليكم نسخة الأيمان ماية يمين، وأنا أعطيك بغداد والأمير جمال الدين سنجار وديار بكر، ومهما طلبتم عندى. -ومن هذا الكلام ومثله فى زيادة التأكيد والحثّ على توجّههم إليه فبينما هم فى مثل ذلك إذ ورد عليهم قاصد يخبرهم أن قد مسك جماعة من الأمرا الكبار وجميع من كانوا فى التجريدة. وذلك أن لمّا لم يرا مولانا السلطان لتلك التجريدة أثرا (14)، وأنّهم كانوا سبب تشويش البواطن، وبلغه عنهم مداجاة وعدم مناصحة، استقدمهم ومسك جماعة كبيرة خلا الخطيرىّ والملك، فإنّه أعزّ الله أنصاره رأى لهما لمّا تحقّق عنده من حسن مناصحتهما. ومن قول القاصد لقراسنقر: إنّه قد جرّد لكم ألف مملوك، وأعطاهم الهجن والخيل والجياد، وأمرهم أن يدركوكم قبل توغّلكم فى البلاد، ورسم لعساكر الشأم أن يكونوا خلفهم لأجل

(2) طريقا: طريق (14) أثرا: أثر

النجدة. فعند ذلك أجمعوا آرايهم على الدخول إلى الملك خدابنداه، وتحالفوا على ذلك وعقيب ذلك وصل إليهم سوتاى بعشرة آلاف من المغل. وكان هذا الأمير نازلا (4) على سنجار، فورد عليه مرسوم الملك خدابنداه أن يتوجّه ويلتقى الأمرا الإسلاميّة. فقدم عليهم وركبوا الجميع وقصدوا الأردوا، وانقطع أملهم من بلاد الإسلام، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلى العظيم، وأوقفهم أيضا على فرمان خدابنداه لهم، زيادة فى الترغيب والحثّ على سرعة مثولهم إليه. ولم يزالوا متوجّهين إلى أن وصلوا بغداد. فخرج كلّ من بها من النسا والرجال. هذا وقد طلبوا الأمرا وألبسوا مماليكهم العدد، وقدّموا قدّامهم ماية مملوك زرّاقين يلعبون بالنفط ووراهم ماية أخر يلعبون بالرماح كرّا وفرّا (11). وقد ترجّل فى خدمة قراسنقر عدّة كبيرة من المغل، ومنهم أخو (12) صاحب ماردين، وأخو صاحب سيس، ومن أمرا المغل تمرجو، وجنقر، وطحوا، وبزلار، وسوتاى يحجبهم. وفرشوا لهم تحت أرجل خيلهم الثياب النسيج والكمخا والخويى وغير ذلك. وكان لدخولهم بغداد يوم مشهود، خرجت فيه البنت فى خدرها. وأنزلوهم فى قصر الخلافة. ومدّ لهم خوان (16) عظيم. وقدّمت أهل بغداد لهم التقادم الحسنة من كلّ شئ مليح وكذلك صاحب العماديّة وصاحب جبال الغار. وأقاموا ببغداد ثلاثة أيّام ثمّ توجّهوا طالبين الأردوا. فلمّا وصلوا بالقرب من منزلة القآن ألبسوا مماليكهم جميعهم القرقلات الأطلس وكذلك خيولهم البركستوانات الأطلس

(4) نازلا: نازل (11) كرا وفرا: كر وفر (12) أخو: ابن، مصحح بالهامش (16) خوان: اخوان

والخوذ الذهب البهادريّة. ونشروا صناجقهم، ودقّت طبلخاناتهم، ونعرت بوقاتهم، ولعب (2) الزرّاقين بالنار، وطلع الدخان، وكثر العجاج. ومدّ كلّ واحد من الأمرا قدّام طلبه خمسين جنيبا (3) ملبسة على أيدى الوشاقيّة والنجّابين. ومدّ قراسنقر قدّام طلبه ماية جنيب مشهّرة شهب وخضر وبلق وحمر وصفر، كلّ عشرين لون وزىّ فى الملبوس، وقدّام عشرة قطر بغال خزانة وقدّامها صوغان الخزندار، وقدّامه عشر فهودة وسبعين بزدار، وتحت ركابه خمسين خرسانى وثلاثين برددار. وأقاموا ناموس مملكة الإسلام حتى دهشوا لمّا رأوا ذلك أمرا المغل. ولم يزالوا كذلك حتى قرّبوا من مجلس القآن. ترجّلت أمرا المغل، ودخلوا فى دست عظيم لا يعبّر عنه. وركب القآن بنفسه والتقاهم أحسن ملتقى. فلمّا وقعت عينهم عليه نزلوا وترجّلوا وضربوا جوك، وقد غضب الله تعالى عليهم ولعنهم وأعدّ لهم جهنّم وبئس القرار! ثمّ أمرهم بالركوب، فركبوا وعاد قراسنقر من على يمينه والأفرم من على يساره والزردكاش قدّام مع جوبان. وعاد القآن يحدّثهم ويضاحكهم ويكارشهم. هذا وهما كأنّهما يرياه فى المنام، لما دخل فى قلوبهم من وحشة الإسلام. ولم يزالوا كذلك حتى نزلوا مع القآن، وقد جعل لهما كراسى عن يمينه ويساره. ومدّ لهم خوان (16) كبير، أكثره خيول يخنى وخراف قشلميش. وحضر فى ذلك اليوم عدّة من رسل البلاد، مثل بلاد كوبك وبلاد كبلك وبلاد أزبك والكرج وبلاد الكلب وبرطاس وعبدة النار. وأعرض عليهم خدابنداه جيوشا (19) كالمطر، لكنّهم كالقشّ بغير ترتيب، وهم عدّة بلا عدّة. ثمّ

(2) ولعب: ولعبت (3) جنيبا: جنيب (16) خوان: اخوان (19) جيوشا: جيوش

انتقلوا فى ذلك اليوم إلى مخيّمهم فى منزلة بقرب منزلة القآن. ونقل إليهم شئ كثير من الإقامات والعلوفات فلمّا كان الغد حضروا للخدمة، ومدّ لهم الخوان، وأخلع عليهم وعلى جميع من كان معهم حتى الغلمان. وأنعم على كلّ مملوك من مماليكهم ستّ ماية درهم سلطانيّة. وسيّر للأمرا القماش المفتخر مثل النسيج والنخّ واليرمك (5). وسيّر إلى قراسنقر ثلاثين إكديش روميّة وستّة قطر بخاتى، وللأفرم مثله، وللزردكاش خمس أكاديش وقطار بخاتى. ولم يزالوا فى إنعام القآن سبعة أيّام، فى كلّ يوم إنعام جديد ثمّ إنّ قراسنقر بعد ذلك سيّر تقدمته، وهو ما يذكر من الخيول العربية، وثلاثين حصانا مثل: قمر وبريد والحجازىّ والزاملىّ والمهناوىّ والحسانىّ، والنميرىّ وأبى (11) شامة وابن البحرين وابن الطويلة وزريق والخيال الكبير وعسّاف والبرقىّ وعدو الغزالى والأخوص والمغربىّ والخالدىّ والسلطانىّ وقشمر والعربيد وزعزاع والتركمانىّ وساق الكركىّ وطغج وابن العطال والميساوىّ والفضلىّ والعيساوىّ والكبكىّ، ومن الحجورة عشرة مثل: فهيدة وضبعة والحسانيّة وعبلة والدلقا وبنت الطويلة وبنت ميّاسة والمهناوية وبنت قمر والصالحيّة، وشدّ عليهم السروج الذهب والزرخونى والكنابيش الزركش. فعادوا يشعلوا فى ضوء الشمس ممّا يأخذ بالبصر، وصحبتهم ماية مملوك على على يد كلّ واحد بقجة قماش سكندرىّ وعمل دار الطراز وماية خلعة طرد وحش مقصّب وشاشات خليفتيّة وكلوتات زركش وجتر أطلس مزركش وسبع أرقاب مزركشة وغير ذلك. وكذلك سيّر الأفرم تقدمته

(5) اليرمك: كذا فى الأصل وربما المقصود به «الأرمك» (11) وأبى: وابو

ممّا يقارب هذا، لكن ما وصل إلى جميع ما ذكرناه. فإنّ قراسنقر كان أسعد من الأفرم، بدليل أنّ قراسنقر كان طمّاعا خسيسا محصّلا (2)، وكانت نفسه تحدّثه بآمال خايبة وأمانى كاذبة بأنّه يكون منه ملك. فكانت آلات المملكة عنده مجهّزة. وأمّا الأفرم فإنّه كان رجلا قصيفا نهّابا وهّابا (4)، لا له تطلّع إلاّ إلى قدح ومليح. فلم يكن عنده بعض ما كان عند قراسنقر قال الناقل لهذه الأخبار: فلمّا عاين خدابنداه تقدمة قراسنقر أعجبه إعجابا كبيرا، وأحضرهم فى اليوم الثانى، وقد جلس فى مجلس الشراب. وجدّد عليهما الخلع السنيّة. وحضروا أمرا المغل الكبار والخواتين. ودارت عليهم الكاسات، وشرب قراسنقر من ذلك القمز وقراقمز، وشرب الأفرم من ذلك الخمر العتيق. وأحضر قراسنقر جوقة مغانى جوار كأنهن الأقمار، وغنّوا بالطار والزمر، وأعجب ذلك الخواتين. قال: فلمّا طاب قراسنقر ونسى الهمّ وطرحه خلفه، وقد احمرّ وجهه وتفرّقت شيبته التى قد ختم الله لها بالشقاوة بعد السعادة، نهض (13) قايما وضرب جوك للقآن وقال: أشتهى أكلّم القآن كلمتين. -فقال الملك خدابنداه: تكلّم (15) بما تشتهى، يامير شمس الدين، ويكون كلامك أقوى من الحديد ولا تنجبه، ولا تخلّى كلاما (16) تريد تقول. -فقال: الله يحفظ القآن! ملكتوا البلاد العامرة والقلاع الحصينة وأخربتوها، والرعيّة عمارة الأرض قتلتوها، وجميع الأموال سبكتوها حجارة وتحت الأرض دفنتوها. وعندكم الخير كثير ما تعرفوا تعيشوا فيه. وفى بلادكم الغلال والأنعام والمواشى، وخيار

(2) طماعا خسيسا محصلا: طماع خسيس محصل (4) رجلا قصيفا نهابا وهابا: رجل قصيف نهاب وهاب (13) نهض: نهظ (15) تكلم: اتكلم (16) كلاما: كلام

أمير عندكم ما له عيشة غير أكلة دشيش، وخيولكم بلا علف سايبة فى الدشارات ما ترفد لسوق، كونها خالية من العلف. الله يحفظ القآن، يرسم للمملوك أدبّر هذا الحال بما أراه من المصلحة، وعلىّ (3) الضمان أنّى أفتح لك إلى آخر مغرب الشمس، فتكون ملك المشرق والمغرب. -وتكلّم كلاما كثيرا (5)، هذا زبدته وملخّصه. قال: يامير شمس الدين، قد فوّضت إليك جميع أمر مملكتى، افعل ما تراه من المصلحة قال: ثمّ بعد ذلك جلس قراسنقر واستخرج الأموال وأحضر ضمان الأقاليم وصادرهم. وحصّل الأموال العظيمة ورتّب ترتيب ممالك الإسلام فى جميع آلات الملك. وجعل فى المطابخ الطبّاخين الماهرين يطبخوا أنواع الأطعمة المفتخرة. ورتّب شربخاناه وطشتخاناه وفرشخاناه، وعادوا الطشتداريّة يخدموا بالماورديّات. وكذلك رتّب للخواتين جميع الأشيا الحسنة من الحلاوات والأشربة والفواكه. وطلب لهنّ (12) المواشط من الأقاليم لإصلاح شأنهنّ. وكذلك رتّب للأمرا وأقطعهم البلاد، وعاد لهم أستاداريّة، أقامهم لهم قراسنقر من مماليكه، وجعلهم عليهم كالعيون له يطالعونه بجميع ما يتكلّمون به. وكذلك رتّب حمّام خشب بأحواض رصاص تحمل على البخاتى لأجل القآن والخواتين. قال: وأعجب هذا الحال الخواتين إعجابا كثيرا (16). وأمر أن تصاغ لهنّ (17) المصاغات المفتخرة. وعمل لهنّ من البدلات الزركش. وفصّل لهنّ (18) القماش العالى، حتى أخذ بعقول كبارهم وصغارهم. هذا كلّه يجرى وجوبان ينظر وهو يتفطّر ويتميّز (19) من قراسنقر، ولا يقدر يفوه فى حقّه بشى

(3) علىّ: عليه (5) كلاما كثيرا: كلام كثير (12) لهن: لهم--شأنهن: شأنهم (16) إعجابا كثيرا: اعجاب كثير (17) لهن: لهم--لهن: لهم (18) لهن: لهم (19) يتميز: مير؟؟؟

الما رأى من ميل القآن والخواتين وكبار المغل إليه. هذا ما كان من أمر قراسنقر وأمّا الأفرم فإنه لم يشتغل بشى ممّا اشتغل به قراسنقر من تدبير الأمور. وإنما اندرج فى منادمة الملك خدابنداه وأخذ بقلبه وملك لبّه. فإنّ هذا الأفرم عمره حريف طيبة وصاحب لذّة وفكاهة، طيّب العشرة، حسن المحاضرة. فمال إليه خدابنداه بخلاف قراسنقر. ثمّ إنّ الأفرم ما تحدّث مع خدابنداه يوما واحدا (7) فى غير ما يلزمه من الحرفانيّة والمنادمة، ووصل من ذلك حتى لبس السراقوج بين يدى خدابنداه. واستقرّ أمرهما كذلك إلى حيث ما يذكر من بقيّة أمرهما عند مأتاهما بالتتار إلى الرحبة وعودتهما خايبين (9) قلت: قد ذكرنا بمعونة الله تعالى جميع أخبار قراسنقر مفصّلة ملخّصة، وذلك ما صحّ نقله وحسن من إثباته فى هذا التأريخ المبارك. وأمّا ما كان من مآثر سيّد الملوك، وملجأ كلّ غنىّ وصعلوك، مالك رقاب ملوك أملاك الأكاسر، مولانا وسيّدنا السلطان الأعظم الملك الناصر، لا زالت أعدايه من هيبة سلطانه مرتدّين ضالّين غير مهتدين، قد سلّت سيوفه عليهم فى اليقظة (15) والأحلام، حتى عادوا لا يلتذّون بلذيذ المنام. فكان كما قال أشجع السلمىّ فى الإمام، خليفة الأنام، فى تلك الأيام <من الكامل>: وعلى عدوّك يا بن عمّ محمد … رصدان ضوء الصبح والإظلام (19) فإذا تنبّه رعته وإذا غفا … سلّت عليه سيوفك الأحلام

(7) يوما واحدا: يوم واحد (9) خايبين: خايبان (15) اليقظة: اليقضه (19) انظر «كتاب خاص الخاص» ص 88

وقد أخذ معنى هذين البيتين (1) أحمد بن سيّد اللصّ من شعرا المغرب فى الماية السادسة، وسمّى باللصّ لإغارته على معانى الشعرا المقدّمين، فقال <من الوافر>: تراه فى غداة الغيم شمسا … وفى الظلماء نجما أو ذبالا يروّعهم معاينة ووهما … ولو ناموا لروّعهم خيالا وفيها حصل تغيّر للمزاج الشريف السلطانىّ، كفاه الله شرّ ما يخاف ويحذر، ولطف به وإن كان لم يزل ملطوفا به فى كلّ قضاء وقدر. وذلك لمّا كان الثالث والعشرين من شهر ذى القعدة من هذه السنة المباركة حصل التوعّك الذى كان آخرته إلى السلامة والعافية، ومنّ الله على الإسلام بنعمه الوافية، فكان من قول العبد فى ذلك <من الكامل>: إذا ما اعتلّ سلطان الورى … اعتلّت الأرض ومن فيها (11) فالله كافيه من الأسوا كما … أضحى لكلّ الخلق كافيها وكان أصل ذلك ممّا حمل على خاطره الشريف من هذه الأحوال النكدة، ولا يطلع على سرّه أحدا، ولا يورّى الأعدا إلاّ تجلّدا، على أنّ سعة صدره الشريف لا يحدّ بالقياس، ولا يؤثّر (15) فيه وسواس الخنّاس، فهو بحمد الله كما قيل <من الكامل>: لله صدر للإمام كأنّما … أقطار طاعته به قطمير تتزاحم الأضداد فيه وتنثنى … عنه وليس لوقعها تأثير وأثبت ما تراه نها وجأشا … إذا دهش المشاور والمشير (19)

(1) هذين البهتين: هذان البيتان (11) البيت مضطرب الوزن (15) يؤثر: ياثر (19) البيت مضطرب الوزن

قال الله تبارك وتعالى {ما (1)} يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ والقطمير قمع التمرة. ولم تزل الناس والأمّة، تحت هذه الشدّة والغمّة، حتى أغاث الله عباده، وأمصاره وبلاده، ومنّ على الأنام، بعافية سيّد ملوك الإسلام، وزالت الآلام، ودخل الجمام، وسارت البشاير على أجنحة الحمام، وحصل السرور العامّ، للخاصّ والعامّ. وكان فى طول تلك الأيّام لا يدخل إليه غير سودى الجمدار، لما كان يتحقّقه منه من عقله الوافر وكتمه للأسرار. ثمّ سأل منه عمّا تجدّد من الأخبار، فقبّل الأرض مرار، وقال: هذا شكرا لله والملك القهّار، الذى منّ علينا بعافيتك، يا ملك الأقطار، أمّا الأحوال فمستقيمة. وقد كانت الدنيا لسقمك سقيمة، فالحمد لله على صدقاته العميمة، وأياديه الجسيمة. -فرسم له أن يطلب الأمير سيف الدين بينجار، ليسأل منه عن جليّة الأخبار. فلم يكن بأسرع أن حضر وقبّل الأرض بين يدى المواقف الشريفة، وفاز دون العالم بمشاهدة تلك الأخلاق اللطيفة، التى أرقّ من البارد الزّلال، وسمع تلك الألفاظ التى كالسحر الحلال ثمّ برز المرسوم الشريف: أن يصرف من الخزانة المعمورة من خاصّيّة مال مولانا السلطان ألف دينار عين مصريّة، ويستفكّ بها من بالسجون، من أرباب الديون، وأن يغسل ما عليهم من المساطير الشرعيّة، ويفتقد من فى سجون الولاية من الرعيّة ويتتبّع صلاحهم، ويطلق سراحهم، فامتثل جميع ذلك، فى ساير الممالك. وجلس نصره الله على أعداه، وبلّغه قصده ومناه، يوم الخميس فى الإيوان، ومدّ الخوان (20)، وأخلع الخلع السنيّة على ساير الأمرا والمقدّمين والأعيان، وفرّق مثالات أخباز الجند المتوفّيين.

(1) ما: ولا--السورة 35 الآية 13 (20) الخوان: الاخوان

وتصدّق بها على أولادهم الأيتام المنقطعين، وادّخر بذلك عند ربّ العالمين. ثمّ ركب نهار السبت، ولعب الأكرة بالميدان. وطلع بعد العصر إلى القلعة المحروسة راكبا كالأسد الغضبان. وتوجّه البريد إلى ساير الممالك الإسلاميّة بهذه البشاير السنيّة وفيها كان هدم الإيوان الأشرفىّ وتجديده، وزخرفته بأحسن صناعة مجيدة. ولم يزل كذلك حتى أمر بهدمه وعمارته فى سنة أربع وثلاثين وسبع ماية، حسبما يأتى من ذكر ذلك فى تأريخه وفيها أعرض الحلقة المنصورة، وشملت ساير العساكر صدقاته المبرورة. ومن كان قد كبر وعجز عن الخدمة، وكان له فى الإسلام سابقة وقدمة، فإن كان له ولد صالح للخدمة الشريفة، أنعم عليه بخبز أبيه وما يكون بيده، إن كان ذا (11) وظيفة، ويتصدّق على الشيخ براتب يموّنه لتقرّ بذلك عيونه. ومن صلح للزيادة زاده، وأكمد بذلك أضداده. ومن كانت سيرته ذميمة، وأحواله غير مستقيمة، قطعه وأنعم بإقطاعه على مستحقّه، وعرف له الواجب من حقّه، وخرج المقطوع يقلّب كفّيه، ولم يلق من حنين غير خفّيه. فكان ذلك العرض كيوم العرض، هذا قد فاز بحسناته، وهذا قد ندم على سيّئاته. فأمّا أصحاب اليمين، فمن القطع آمنين، وأمّا أصحاب الشمال، فقد خابت منهم الآمال. ولم يخرج من بين يديه من قريب ولا بعيد، إلاّ وقد فاز بوعد أو خسر بوعيد {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} (18) وكان قبل ذلك حصل تغيّر الخواطر الشريفة على القاضى فخر الدين ناظر الجيوش المنصورة وسلّم لفخر الدين أياز أستادار (20) الأعزّ، وصودر وأهين إهانة (21) كبيرة، وكذلك ولده شمس الدين عبد الله

(11) ذا: ذو (18) السورة 11 الآية 105 (20) استادار: استدار (21) إهانة: اهنه

فلمّا كان هذا العرض كان قطب الدين بن شيخ السلاميّة جالسا فى العرض، وكذلك أمين الدين بن العنام وكريم الدين الصغير. وبين يدى مولانا السلطان من الأمرا الأمير سيف الدين أرغون النايب بالأبواب الشريفة، والأمير سيف الدين طغاى، والأمير سيف الدين كستاى الناصرىّ، هؤلاء من الأمرا الخاصّكيّة، وأمّا الأمرا أرباب المشور الجلوس فى ذلك الوقت، فالأمير سيف الدين قلى السلحدار والأمير علاء الدين أيدغدى شقير الحسامىّ، وأمير حاجب قايم بين يدى المواقف الشريفة الأمير سيف الدين بكتمر الحسامىّ. فلمّا شرع مولانا السلطان فى العرض المبارك، عادوا الدواوين الذين بين يديه الشريفتين قليلى الخبرة بالجيوش، ولا يعرفون الجندىّ الجيّد من غيره ولا القديم الهجرة بالأبواب الشريفة من المستجدّ. فرأى مولانا السلطان أنّ هذه الوظيفة (11) لا يقوم بها أحد مثل القاضى فخر الدين، فسيّر للوقت ورضى عنه وأخلع عليه وجلس فى بقيّة هذا العرض، وقال له: يا فخر الدين، أعرضنا هذا الجيش فوقعنا فى بحر زاخر، ولا علمنا المستحقّ من غيره. -فجلس القاضى فخر الدين، وأعرض بخبرة ومعرفة تامّة. وعرّف مولانا السلطان الدخيل فى الجنديّة من القرارىّ المستحقّ. وبطل كلام الحاجب وغيره. فلمّا كان آخر العرض قال لمولانا السلطان: يا خوند، أعطى الناس دستورا (17)! فما بقى قدّامك شى تعطيهم. -فكان الأمر كذلك، وفاز من فاز بالزيادة، وخسر من خسر بالقطع. فكان كما قال الله تعالى {السّابِقُونَ السّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ} (19) هذا وقد راحت الأخبار لقراسنقر بما فعل مولانا السلطان عزّ نصره من التيقّظ لجيوشه، وحسن النظر الشريف فى أحوال عساكره.

(11) الوظيفة: الوضيفه (17) دستورا: دستور (19) السورة 56 الآيات 10 - 12

فحصل له من الذلّ والانكسار، ما ظهر عليه وبان، ممّا لحقه من هيبة مولانا السلطان، التى شاعت فى الأقطار حتى أعلنت بذلك الركبان، وتعلّقت بأجنحة العقبان. قال: فخلا بالأفرم وقال له: ما عندك من أخبار مصر والسلطان الملك الناصر؟ -فقال: أمّا أنا فقد شغلنى شرب الراح، ورشف الأقداح، ومغازلة الملاح، عن سماعى للأخبار الصّحاح. فما عندك من الأخبار؟ -فقصّ عليه القصص، وهو يتجرّع الغصص، فقال الأفرم: يامير شمس الدين، هذا ملك لله به عناية، ولا بدّ له فيه نهاية، ومن كانت لله فيه إرادة، فنهايته إلى السعادة. -فقال قراسنقر: ما كنت أظنّ أنّ الأحوال بعدنا تستقيم، والملك لا شكّ عقيم. ونحن فكنّا ظالمين، فلقّانا ونصره علينا ربّ العالمين، ولا نعلم ما يكون من أمرنا مع هؤلاء الملاعين، الذين ليس لهم قول ولا دين، فلا حول ولا قوّة إلاّ (12) بالله العلىّ العظيم قلت: ولقد حدّثنى من أثق بقوله: أن كان أكبر أسباب توجّه الأفرم إلى قراسنقر وعبوره معه إلى البلاد، أنّه كان سيّر إلى الشيخ صدر الدين بن وكيل بيت المال المعروف بابن المرحل المقدّم ذكره وشئ من رقيق شعره فى الجزء السابع من هذا التأريخ، وهو يقول له: تكشف لى الأخبار بمصر، وما يكون من أمرى، وتكتب إلىّ بذلك ملغزا. قال: فكتب إليه يقول <من الطويل>: أيا جيرة بالقصر كان لهم مغنى … رحلتم فعاد القصر لفظا بلا معنى وأظلم لمّا غاب نور جماله … وقد كان من شمس الضحى نوره أسنى يعزّ علينا أن نرى الدار بعدكم … وما نحن فيها سادتى مثلما كنّا

(12) الا. . . العظيم: بالهامش

لقد كانت الدنيا بكم ذا نضارة (1) … ونعمى فأعمى الله عينا أصابتنا سقيت ديار الظاعنين مدامعى … وقد شحّ ماء المزن يا ليته أغنى وعيشكم ما الدار منذ رحلتم … زمانكم لا والذى أذهب الحسنا ولا غنّت الورقا فأشجت بصوتها … ولا هزج يجزى ولا مطرب غنّى ولا راقت الآصال إلاّ صبابة … ولا حرّكت ريح الصبا طربا غصنا بروحى أفدى الظاعنين وإن هم … أبوا أنّ نومى بعدهم يقرب الجفنا يعزّ علينا بعد دارى عنهم … وقد كنت منهم قاب قوسين أو أدنى (7) لغزه وإنّى ألاقى ما ألاقى من الذى … لسمعى قد أصمى وجسمى قد أضنى (9) لقد كنتم يا جيرة الحىّ رحمة … أياديكم تمحو الإساءة بالحسنى وكنتم لنا من إن دعونا تؤمّنوا … وإن هم دعوا أن يجمع الشمل أمّنّا وإن عادت الأيّام تجمع شملنا … سجدنا لربّ العرش شكرا وشكّرنا قال: فلمّا فهم جمال الدين الأفرم ما فيه من اللغز رحل من وقته والتحق بقراسنقر، وسيّر للشيخ صدر الدين عشرين ألف اكروس (14) ولمّا وصلوا إلى ماردين، كان الملك المنصور نجم الدين إيلغازى مريضا (16). فخرج إليهم ولده الملك العادل علاء الدين علىّ، وأخرج لهم الإقامات، وتوجّه فى خدمتهم إلى نحو خدابنداه، ووصل إلى أخلاط. فلحقه البريد يعرّفه أنّ والده الملك المنصور توفّى إلى رحمة الله. فرجع

(1) ذا نضارة: ذو نظارة (7) قاب قوسين أو أدنى: السورة 53 الآية 9 (9) أضنى: اظنا (14) اكروس: كذا فى الأصل (16) مريضا: مريض

ذكر [حوادث] سنة اثنتى عشرة وسبع ماية

لا يلوى على شئ، وأخذ مسافة خمسة أيّام فى يوم وليلة. ودخل إلى ماردين فى الليل، وأراد قتل أخيه شمس الدين صالح من دون إخوته الجميع، لما كان يعلم من همّته وأنّه أهل (3) للملك دون غيره من الإخوة. فأبى الله تعالى أن يكون الميّت غيره. ولم يوافقوه كبار الدولة على ذلك كون أنّ شمس الدين كان معروفا عند خدابنداه وكبار المغل. وملك الملك العادل علاء الدين علىّ المذكور مدّة عشرة أيّام، وهو متوجّع من فؤاده، وتوفّى إلى رحمة الله تعالى حتى اتّهم أنّ قراسنقر سقاه. وملك بعده الملك الصالح شمس الدين أخوه، واستمرّ فى الملك، وهو ملك حسن السيرة، محبوب (9) إلى رعيّته، كبير السياسة، حسن التدبير، سعيد فى حركاته، ميمون (10) فى غزواته ذكر [حوادث] سنة اثنتى عشرة وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما يخصّ من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (14) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر سلطان الإسلام بممالك الأرض، فى طولها والعرض، أدام الله أيّامه إلى يوم العرض والنوّاب بمصر والشام، حسبما نذكر الآن من الكلام: الأمير جمال الدين آقوش الأشرفىّ نايب الكرك بدمشق إلى حين عزل وقبض عليه، وأخلع على الأمير سيف الدين تنكز الحسامىّ الناصرىّ يوم الجمعة

(3) أهل: أهلا (9) محبوب: محبوبا--سعيد: سعيدا (10) ميمون: ميمونا (14) أبو: ابى

سادس شهر ربيع الآخر (1) بنيابة دمشق عوضا عن الأمير جمال الدين المشار إليه، وأخلع على الأمير سيف الدين سودى الجمدار بنيابة حلب المحروسة تاسع شهر المحرّم من هذه السنة، وأخلع على الأمير سيف الدين تمر الساقى بنيابة طرابلس تاسع شهر صفر من هذه السنة. وفى ذلك اليوم كان تعدية قراسنقر والأمرا رفقته وقطعه الفراة متوجّها إلى الشرق وأحضر الأمير جمال الدين آقوش الأشرفىّ إلى الأبواب العالية، وقبض عليه وعلى جماعة من الأمرا وهم: الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار النايب يومئذ بالأبواب العالية، والأمير شمس الدين آلدكز صهر الشجاعىّ أمير ماية مقدّم ألف، والأمير شمس الدين سنقر الكمالىّ أمير حاجب كان، والأمير حسام الدين لاجين الجاشنكير المعروف بزيرباج أمير ماية مقدّم ألف. وكان هؤلاء الأمرا المذكورون فى التجريدة الأخيرة. فلمّا حضروا مسكوا مع الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار النايب، وكان بالأبواب العالية، لم يكن مع المجرّدين، وتوجّه بهم إلى ثغر الإسكندريّة بالاعتقال خلا بيبرس الدوادار، فإنّه اعتقل بالقلعة المحروسة. وكذلك مسك مع هؤلاء الأمرا الأمير سيف الدين باينجار، والأمير علاء الدين مغلطاى المسعودىّ. كلّ هؤلاء أمرا مقدّمين ألوف، وليس فيهم بغير تقدمة ألف سوى الأمير حسام الدين لاجين العمرىّ. فتكمل العدّة به ثمانية نفر فى يوم واحد. وعاد مولانا السلطان ركب فى ثانى يوم من مسكهم ولقد بلغنى ما حكاه والدى: أنّ السلطان الملك الظاهر رحمه الله على ما كان عليه من الشجاعة التى تضرب بها الأمثال، لمّا مسك سنقر الرومىّ،

(1) ربيع الآخر: صفر، مصحح بالهامش

أقام أربعة أشهر ما ركب حتى تمهّد أمره. ومولانا السلطان مسك هؤلاء الكباش، وفيهم نايب مصر ونايب الشأم، وركب من غده، فهذه من النكت العجيبة والسير الغريبة وفى يوم الاثنين تاسع شهر ربيع الآخر وصل الملك المؤيّد عماد الدين إسمعيل-وكان يومئذ نايبا بحماة بغير ملك-إلى الأبواب العالية، وأخلع مولانا السلطان عليه خلعة سنيّة بشاش مثمر وفى شهر ربيع الأوّل حصل الغضب على القاضى فخر الدين ناظر الجيوش المنصورة وأفصل من الوظيفة (8). وولى الشيخ قطب الدين بن شيخ السلاميّة، وكان ناظرا على الجيوش الشأميّة، فأحضر وولى مكان القاضى فخر الدين، وسلّم القاضى فخر الدين لفخر الدين أياز أستادار الأعسر، وحصل له إهانة (11) كبيرة وكذلك ولده عبد الله وفى خامس عشر ربيع الآخر كان عرض الحلقة المنصورة بين يدى المواقف الشريفة السلطانيّة، وقطع تقدير ألف ومايتى فارس، كانوا محدثين جنديّة وعاجزين ومن لا يصلح للخدمة الشريفة. وأصلح جماعة كبيرة فى أخبازهم أعزّه الله. ولمّا كان الخامس والعشرين من ربيع الآخر أفرج عن القاضى فخر الدين، وجلس بين يديه لعرض بقيّة الحلقة المنصورة، وأخلع عليه ورضى عنه وفى مستهلّ شهر جمادى الأوّل أخلع على الأمير سيف الدين أرغون الدوادار الناصرىّ بنيابة الديار المصريّة واستقرّ كذلك

(8) الوظيفة: الوضيفه (11) إهانة: اهنه

ذكر توجه الركاب الشريف عز نصره إلى الشأم المحروس بنية الغزاة

وفى شهر جمادى الآخر برزت المراسم الشريفة بعمارة الميدان الذى تحت القلعة المصريّة وفى أوّل شهر صفر وردت الأخبار بتحريك التتار، وأنّ قراسنقر والأفرم قويّا عزم خدابنداه على الدخول إلى الشأم، وضمنا له أخذها له. فلمّا كان فى شهر رجب قويت الأخبار، ورسم مولانا السلطان عزّ نصره باستخدام البطّالين من الجند، وأقطعهم ساحل الغلّة وفى عاشر شعبان استحضر مولانا السلطان رسول الأشكرى بالإيوان الجديد. وقدّموا تقادمهم على رءوس الحمّالين، وعدّتهم اثنين وأربعين حمّالا، ما بين جوخ وسنجاب وبرطاسى وغيره، وخمسة شواهين وصقر واحد ذكر توجّه الركاب الشريف عزّ نصره إلى الشأم المحروس بنيّة الغزاة وذلك لمّا صحّت الأخبار بتوجّه التتار إلى نحو الديار، برزت المراسم الشريفة بأن ينفق فى الجيوش المنصورة، فنفقت فيهم الأموال، وذلك أوّل شهر رمضان المعظّم. فلمّا كان ثانى شهر شوّال خرج الركاب الشريف السلطانىّ من القلعة المحروسة. وكان فى طول هذه المدّة- والعرض واقع تحت القلعة-فى كلّ نهار تعرض ألفى فارس، وكان عرض عظيم ما شهد الناس مثله، لما أظهرت الموالى الأمرا (17) من القوّة والسلاح والعدد والخيول، حتى ذهلت عقول العالم. وكان ذلك بمرأى من عيون العدوّ المخذول وجواسيسه، والأخبار ترد على خدابنداه بجميع ذلك. فداخله الزّمع، وعمل فيه الهلع

(17) الأمرا: للامرا

هذا وجيوشه قد عادوا فى غاية الضعف من الجوع والقلّ. وكان قد نزل على الرحبة وضرب عليها سبع حلقات، وشرع فى حصارها، وقلّت عنده الأقوات، حتى عادوا يعلّقون على دوابّهم ورق الكروم وحصل لخيلهم مرض الطابق. فرجع أكثرهم هاربين بغير دستور منه حسبما (5) نذكر من ذلك، إن شاء الله تعالى. فلمّا رأى أنّه فى غاية الضعف، وأنّ الأخبار قد وردت عليه أنّ الجيوش الإسلاميّة فى غاية القوّة {نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ} (7) ولم يلو على من خلفه ولا على من بين يديه وكان أوّل الجيوش الإسلاميّة لمّا قبضوا نفقاتهم توجّهوا إلى نحو الشأم بالعدّ والعديد، وقلوب أقوى من الحديد. فوصل أوايلهم إلى غزّة مستهلّ شهر رمضان المعظّم، واستمرّت الجيوش تتحدّر انحدار السيول. وقد ملأوا بكثرتهم الحزون والسهول، إلى مستهلّ شهر شوّال المبارك. والركاب الشريف قد نزل على منزلة الصالحيّة من الديار المصريّة. فوردت الأخبار بهروب التتار، ونكوصهم على أعقابهم طالبين الديار. فضرب مولانا السلطان مشورا مباركا مع الأمرا الكبار. فاجتمع الآرا المباركة على التوجّه إلى الشأم المحروس، والنزول بدمشق المحروسة، ليكون ذلك أكثر إرهابا للعدوّ المخذول. فتوجّه نصره الله على أعدايه المتمرّدين، نصرا عزيزا إلى يوم الدين، طالبا للشأم المحروس، لتطمئنّ بقدوم ركابه الشريف النفوس. فدخل إلى دمشق المحروسة يوم الثلاثا ثالث وعشرين شوّال، ونزل بالقلعة يوما واحدا (19)، وانتقل إلى القصر الأبلق بالميدان الأخضر، ليأخذ كلّ منهما حظّه بحلول ركابه الأخضر. وفرّق العساكر فى أقطار الشام، مدّة إقامة ركابه الشريف فى تلك الأيّام، بنواحى الروحا

(5) حسبما. . . تعالى: بالهامش (7) السورة 8 الآية 48 (19) يوما احدا: يوم واحد

والسواحل وإلى نواحى بلاد حمص وحصن الأكراد وسواحل عكّا وطرابلس. ودخل فى ركابه الشريف أعيان الناس إلى دمشق ثمّ أجمع رأيه الشريف أن يجمع بين الأجرين، ليفوز بالحسنتين. فعزم على الحجاز الشريف من دمشق المحروسة، وهى أوّل حجّاته المبرورة، ومساعيه المشكورة. وترك الأمير سيف الدين أرغون النايب يومئذ بالأبواب العالية من الديار المصريّة مقيما بدمشق المحروسة، وكذلك الأمير سيف الدين تنكز ملك الأمرا بالشأم المحروس. وكانا يجلسان جميعا ويحكمان بين الجيوش المنصورة، المصريّين والشأميّين. وتوجّه فى ركابه الشريف الأمير سيف الدين بكتمر الحسامىّ بحكم انتقاله من الوزارة إلى الحجبة قبل هذا التأريخ، وتولّى الأولة بالأبواب العالية، وخرج فى الركاب الملك بن العنام، وهى الوزارة الأولة بالأبواب العالية، وخرج فى الركاب الشريف وزيرا مستقلاّ. وكان من قبل مستوفى الصحبة الشريفة. وأقام أيضا بدمشق بسبب تحصيل الأموال الديوانيّة. وتوجّه فى خدمة الركاب الشريف القاضى كريم الدين الكبير. والقاضى علاء الدين بن الأثير صاحب ديوان الإنشا الشريف، والقاضى فخر الدين ناظر الجيوش المنصورة، والقاضى شمس الدين غبريال، وفوّض إليه أمر الإقامات وتدبير الأحوال فى طريق الحجاز الشريف. فلمّا كانت العودة رتّب ناظر النظّار بالشأم المحروس واستمرّ كذلك حتى انفصل بكريم الدين الصغير حسبما نذكر من ذلك فى تأريخه وكان لمّا حلّ الركاب الشريف بدمشق المحروسة فى التأريخ المذكور قد زيّنت دمشق زينة عظيمة، وكذلك ساير مدن الشأم والحصون والقلاع. وحصل للناس من الفرح والسرور ما يضيق عن بعض وصفه هذا المختصر.

وخرجت الجيوش الشأميّة مع أمرايها، وقبّلوا الأرض عند الجسورة. ونزل الركاب الشريف على مصطبة السلطان. ومدّ خوان (2) عظيم عمّ على الخاصّ والعامّ. وقدّم القاضى نجم الدين بن صصرى قاضى القضاة بالشأم المحروس ألف رأس غنم شوا وألف طبق فاكهة وثلاثة ألف علبة حلاوة، وقدّم خمس حجورة، ثلاثة من خيل العماد وثلاث من بنات الفارة أصلهم من خيول صاحب حماة، وقدّم (6). . . ثوب أطلس وكمخا ومروزىّ وكنجى وغير ذلك، وثلاثة مماليك وجاريتين كالبدور الطلع، وكذلك قدّموا كبار دمشق مثل عزّ الدين بن القلانسىّ وكمال الدين بن الزملكانىّ ونظراهم شيئا كثيرا جدّا (9). وبسط الأمير سيف الدين تنكز ملك الأمرا مع جماعة الأمرا الشأميّين من قصر حجّاج إلى باب الميدان الثياب المثمّنة النفيسة، وكان يوما مشهود، لم يرا مثله مذ كانت الوجود، وأقام ركابه الشريف بدمشق (12). . . وعاد من الحجاز الشريف فى التأريخ المذكور، وقد غمر أهل الحجاز بالبرّ والمعروف، ونفق فى الصدقات المبرورة آلاف الألوف، وذلك لم يزل منه مشهود ومعروف. وكان فى مدة غيبة ركابه الشريف بالحجاز الشريف قد ضاقت بالعساكر الأقطار، وتحسّنت من كثرتهم فى ساير الأصناف الأسعار، حتى بلغ الحمل التبن ثلاثين درهما وأكثر. ولولا تفرّقهم فى جميع تلك الأماكن المذكورة كان السعر بخلاف ذلك. وعاد الركاب الشريف من الحجّ المبرور والسعى المشكور، وقد فعل من المعروف ما عاد مذكور، إلى آخر الدهور. وكان دخوله إلى دمشق

(2) خوان: اخوان (6) بعد «وقدم» بياض لكلمة واحدة، لعلها اسم رجل (9) شيئا كثيرا: شى كثير (12) بعد «بدمشق» بياض لنصف سطر

المحروسة الساعة الأولة من يوم الخميس سابع عشرين المحرّم. وخرج إلى ملتقى ركابه الشريف ساير من كان بدمشق من الجيوش المصريّة والشأمية إلى الجسورة. واصطفّوا صفوف، ألوف ألوف (3)، وعادوا يقبّلون الأرض عدّة مرار، الكبار من الأمرا والصغار، فكانت ساعة تذهل فيها العقول، وتقصر عنها النقول. ثمّ عاد البسط من قصر حجّاج إلى الميدان بإمكان، وأىّ إمكان! وكان قد تقدّم ببشارة سلامة ركابه الشريف الأمير سيف الدين قجليس السلحدار. وكان عند الناس أعظم من يوم عيد ذلك النهار. ولمّا استقرّ ركاب مولانا السلطان بالقصر الأبلق المطلّ على الميدان، خرجت الخلع والإنعامات والهدايا والأرمغانات. وفرّق الحجورة الحجازيّة على جميع الأمرا المصريّة والشأميّة، وكذلك هدايا الحجاز الشريف، من كلّ صنف لطيف، وقدره شريف وضرب مشورا على أنّه يسوق إلى حلب، ثمّ يعدّى الفراة ويدوس البلاد، ويجمع بين الحجّ والغزاة، ويؤدّى (13) الفريضتين، ويفعل فوق ما فعله الملك الظاهر بالبلستين. وقوى العزم الشريف على ذلك، فى دوس تلك الممالك والمسالك. وبرز المرسوم الشريف للأمير سيف الدين آقول الحاجب بأن يركب يتوجّه لطرد الجيوش الإسلاميّة والعساكر المحمديّة من الأماكن التى هم بها متفرّقون من المغربين والمشرقين، وطرد الخيول من الدشار، وسوق العساكر من تلك الديار. ثمّ إنّ الموالى الأمرا قبّلوا الأرض بين يدى المواقف الشريفة السلطانيّة، وأثنوا عزمه الشريف عن تلك النيّة، وقالوا: يحفظ الله مولانا السلطان، قد حضر الركاب الشريف من الحجاز تعبان، والعدوّ المخذول فقد عاد

(3) ألوف ألوف: اللوف اللوف (13) يؤدى: يدى

مكسور، بشارب مذلول، وقد رجع بالذلّ والهوان، من هيبة مولانا السلطان. والأسعار فقد غلت، والأثمان فى ساير الأصناف قد علت، والبلاد التى بيقصدها مولانا السلطان فبلاد إسلام، وليس عليهم ملام، بما فعاوه التتار الليام. ومولانا السلطان فقد جعله الله تعالى غيثا للبلاد، ورحمة على العباد، ولا يأخذ أهل المدن من المسلمين، بما فعلوه التتار الجاهلين. وعساكر مولانا السلطان فهوج عظيم، وعالم جسيم، وحيث حلّوا كسروا، وأين داسوا دثروا، وسعة صدر مولانا السلطان يسع من جهل، وكفى بالعدوّ المخذول، وقد عاد وهو خايب الأمل فرجع نصره الله إلى مقالهم، ولم يخيّب قصدهم وآمالهم. ثمّ برز المرسوم بالدستور إلى الديار المصريّة، وقد شكر الله تعالى له هذه المساعى المرضية. ثمّ توجّه الركاب الشريف طالبا لديار مصر، وقد حفّته الملايكة المقرّبون بالنصر. فكان دخوله إلى محلّ ملكه، وساير الأمرا المصريّين منتظمون فى سلكه، <ثانى عشر> (13) من شهر صفر المبارك، والسعد قرينه، والتوفيق له مشارك ولمّا استقرّ ركابه الشريف، بالقصر العالى المنيف، كان قد بدا من الأمير عزّ الدين أيبك الرومىّ والأمير سيف الدين بينجار ما أوجب تغيّر الخواطر الشريفة عليهما. فمسكهما وأودعهما الاعتقال، وبطل القيل والقال. ثم اشتغل-أيّده الله بالقرآن-فى تشييد عدّة أماكن بالبنيان، إلى ما يذكر بعد ذلك من البيان

(13) مكان تأريخ النهار بياض فى الأصل، أضيف من زت 160 الذى يذكر رجوع السلطان فى سنة 713

ذكر سبب مأتى التتار إلى الرحبة والسبب فى عودتهم خايبين

ذكر سبب مأتى التتار إلى الرحبة والسبب فى عودتهم خايبين إنّما قدّمنا القول فى ذكر ما كان من أمر العساكر الإسلاميّة، والجيوش المحمديّة، وأخّرنا ذكر ما كان من جيوش التتار، وعساكر الكفّار، لما قبل <من الطويل>: أيا دهرنا نعماك فينا أتمّها … ودع أمرهم إنّ المهمّ المقدّم والآن فنبتدى بما كان من أمور التتار، وسبب مأتاهم إلى تلك الديار. وذلك أنّ القول تقدّم من العبد بما كان من أمر قراسنقر ورفقته المرتدّين، المغضوب عليهم إلى يوم الدين. وكان قد سيّر قراسنقر قصّادا (9) من البلاد ليخبروه بما كان وبما فعله مولانا السلطان فى حقّ بنيه، وحاشيته وذويه. وقد حسّن للملك خدابنداه الدخول إلى الشام، وأنّه يأخذ له البلاد من غير قتال ولا كلام. وسيّر إلى ساير ممالك التتار، من ساير الأقطار، وجنّد الجنود، وحشد الحشود. هذا والأفرم ملتهى مع الملك خدابنداه فى حسو الخندريس، وقد صار أقرب إليه من كلّ جليس. فبينما قراسنقر وجوبان يحزّبون الأحزاب، ويسبّبون الأسباب، إذ ورد على قراسنقر إحدى قصّاده، ومن كان عليه اعتماده بكتب من عيونه، يخبروه عن أولاده، بما قرّت به عيونه، وأنّ المراحم الشريفة لم تؤاخذهم بما فعله آباؤهم من سوء الاعتماد، ولا ما جناه من الفساد، وأنّه أنعم عليهم (18) بأمريات، وجعلهم فى صحيفته من جملة الحسنات، وأملاكك بتجبيها جباتك، وتحمل إلى خزاين أولادك،

(9) قصادا: قصاد (18) عليهم: عليهما

ولم يفقدوا غير نظرك عليهم. وقد زاد مولانا السلطان فى إحسانه إليهم. هنالك داخله الندم، لما عليه من الفساد قد قدم، ولا عاد يقدر ليستدرك ما فرط، ممّا (3) وقع فيه من الغلط وفى جملة ما ذكر القاصد لقراسنقر أنّ العساكر الإسلاميّة متفرّقة فى بلادها يربعوا (5) خيولهم من أمرايها وأجنادها، ولا عندهم مهلة حتى ليستغلّوا مغلاّتها، فإنّ أخبار البيكار، شايع فى ساير الأقطار. والسلطان فى الصيد ليس عنده من جموعكم هذه اكتراث، وفى عزمه أن يسقى خيله هذه السنة من ماء الفراة. فأخذ قراسنقر ذلك القاصد، وأتى به إلى الملك خدابنداه قاصد، وحدّثه مشافاه، بما عاينه وسمعه ورآه. فقال خدابنداه: فماذا عندك، يامير شمس الدين، من الرأى؟ فنحن لرأيك متّبعين، ولقولك مستمعين. -فلم يمكنه الرجوع عمّا كان هو السبب فيه، وخشى أن تشمت به أعاديه، ويجدوا للقول فيه بابا (11) مفتوح، ويعود كأنّه غير نصوح. فقال: يا ملك، وأيش من الرأى غير دوس الشام، فى هذا العام؟ فقلاعها حاصلة فى يديك، والجميع تسلّم إليك، من غير حرب ولا قتال، ولا تعب ولا نضال. وأوّل ما نجعل نزولنا على الرحبة، ونضرب من بابها الرقبة، والذى عندى أنّه يسلّم إلينا المفتاح عند أوّل حملة، ولا يطيق حصارا (16) ولا يعطى نفسه مهلة. - هذا (17) وجوبان يسمع الكلام ولا يبدى جواب، وقد داخله من الحنق حتى لا يحير خطاب، ولو مكّن من قراسنقر ورفقته لما كان لهم عنده غير ضرب الرقاب (19)

(3) مما. . . الغلط: بالهامش (5) ربعوا. . . حتى: بالهامش (11) بابا: باب (16) حصارا: حصار (17 - 19) هذا. . . الرقاب: بالهامش

فعند ذلك قوى العزم المخذول، على الركوب والدخول، لما كان فى قلوبهم من نوبة شقحب من الدجول. ورسم لصاحب ماردين بجرّ المناجيق (3) إلى شطّ الفراه، وبجرّ عساكره بنفسه من وراه. وكان صاحب سيس، النجس الخسيس، قد جهّز الأخشاب والحواصل، وحمّل البغال والمسامير والسلاسل. وركب الملك خدابنداه من الأردوا طالبا للفراه، وجيوشه قد طبّقت الأرض من قدّامه ووراه، ومماليك قراسنقر يلعبون قدّامه بالنار، وقد علا الدخان وزاد القتار، وضرب قدّامه الزمر والطار. هذا وقد أظلّتهم الظلمة والوحشة، وقد أخذتهم الحيرة والدهشة، ومسلمين البلاد تدعو عليهم بالخذلان، ويلعنوا قراسنقر ورفقته سرّا وإعلان فاجتمع قراسنقر بالأفرم فى ذلك الوقت وقال له: يامير جمال الدين، ترى نحن فى اليقظة (11) أو فى الأحلام؟ قد عدنا فى جيوش الكفر بعد جيوش الإسلام، وما كفانا حتى نكون (12) السبب فى تجهيز أمّة الكفر إلى أمّة النبىّ عليه السلام، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلىّ العظيم، -قال، وبكيا جميعا. وقال الأفرم: أو يخذلهم الله تعالى ونرجع مكسورين؟ والله يعلم أنّ نحن على ذلك مجبورين قال الناقل: وحضر عسكر الكرج، وصاحب سيس، والتقاهم الملك الصالح صاحب ماردين بالإقامات والعلوفات، ورتّب ذلك فى ساير المنازل. وقدّم للملك خدابنداه تقادم عظيمة من صلب ماله. ثمّ إنّه تحدّث مع الملك خدابنداه بمسمع من قراسنقر وقال: قد جانى قاصد من مصر، وعرّفنى أنّ صاحب مصر دخل من الصيد وطلع القلعة ونفق فى

(3) المناجيق: المناجنيق (11) اليقظة: اليقصه (12) نكون: نكون كنا

العساكر، وخرجت السلحداريّة، وطردوا الخيول من على المرابط. وقد سيّر البريد إلى الشأم مع جميع الممالك الإسلاميّة بخروج الجيوش للغزاة، وكذلك بتحصيل الإقامات لأجل حركته. -فقال خدابنداه: أيش تقول، يامير شمس الدين؟ قال: الله يحفظ القآن، جميع ما قاله صحيح وجاتنى الأخبار بذلك، وصاحب مصر ملك جسور، والأموال عنده كثيرة. وجيوشه مزاحة الأعداد. ولا بدّ ما يفعل الله أمرا كان مقدورا. -قال: فانكسر قلب الملك من ذلك الوقت، وتحقّق أنّ جيوشه تضعف عن الملتقى، على أن كان هذا خدابنداه ليس من رجال الحروب، وإنّما كان صاحب شراب ولذّة ومنادمة. ولولا حملوه واستحى لا يريهم من نفسه العجز لما كان تحرّك بحركة. قال الناقل: فقال لصاحب ماردين: ما عندك من الرأى؟ نلتقى صاحب مصر وخيل المغل ضعاف ونخشى الغايلة؟ -فعلم صاحب ماردين أنّه قد داخله الهلع، فقال: الله يحفظ القآن، ننزل على الرحبة ونحاصرها ونريح الخيول وإلى ما يجينا صاحب مصر ورأى القآن المصلحة فى العود إلى البلاد رجعنا. ويكون ذلك أيضا ممّا يضعف المصريّين. فإنّ كلّ حركة عليهم ينفدوا فيها جمل أموال. فإنّ كلفتهم أكثر من كلفتنا. وإذا عزم القآن فى العام القابل نكون نحن أقوى منهم. - قال. واتّفق رأى الملك خدابنداه مع رأى صاحب ماردين على ذلك ثمّ إنّهم ساقوا وعدّوا الفراة ونزلوا على قلعة الرحبة سبع حلق، فكان آخر حلقتهم منزلة قباقب، وذلك فى مستهلّ شهر رمضان المعظّم. وكان صاحب سيس قد أحضر شيئا كثيرا (20) من التقادم للملك خدابنداه

(20) شيئا كثيرا: شى كثير

من الأموال على البغال والأكاديش، وماية ألف تطبيقة (1) ثقال بمساميرها، وجملة عظيمة من الأغنام والأبقار، وخوشخاناه من ساير الأصناف، وقمح وشعير على ثلاثين ألف حمار، مع وزيره الشيخ إسحاق بن دينار، وسبق عسكره بسبعة أيّام. ثم حضر عسكره خمسة عشر مقدّم وهم: سير ميدوم، وسر كليام، وسحرج، وباسيل، ويحيى بن داقر، وبولص، وجرجس، وابن مريمة، وجريح، وبرصوما، وسرليس، وبرطلما بن قرقار، ولوقان، ودويب، وصليب بن عصار، وكورا، وسيدوم، وصحبة كلّ ملعون منهم خمسين ملعون من الأرمن تحت سنجق الصليب. ولمّا وصلوا أعرضهم جوبان وقراسنقر، فإنّهما كانا المتحدّثين (9) فى الجيوش. ثمّ وصل عسكر الكرج والمقدّم عليهم دمر خان ومعه من أمراه الكبار من نذكر وهم: طاليش، وطبجوا، وطرطح، وطرطق، وبيكار، وبيكرى، وشلقيم، وكربك. وأوجى، وكرباس، وبازار، وبغلوقرا، وجقل، وجاغان، وقبترى، وجمقار (13)، وقردم، وكنجار، وهؤلاء قوم كبار اللحى، غليظين الطباع، شديدين الأجسام، عظيمين الكفر، لا يعرفون الحلال من الحرام، لا لهم عيشة غير الخمر والطرب. فقال قراسنقر لجوبان: أرمى هؤلاء الحمير فى الأوّل فى الحصار، والنقب وللرمى بالأحجار قال الناقل: وتقدّم هذا الملعون مقدّم الكرج دمر خان-وهو كأنّه قطعة من جبل-بنفسه وهو جاهل بالحرب والحصار. فجاه من القلعة زنّار فى صدره طلع من ظهره، فخرّ لوجهه، وعجّل الله بروحه إلى النار، وبئس القرار. وكان عزاء من جوبان، فأخذ الزنّار وتقدّم إلى عند

(1) تطبيقه: ططبيقه (9) المتحدثين: المتحدثان (13) وجمقار: وحمقار

خدابنداه وقال: قد جانا مفاتيح القلعة ومعها هذه الهديّة الحسنة-، وهو يضحك، وأرمى الزنّار بين يدى الملك خدابنداه كأنّه رمح أو ناشر، وأراد بهذا الكلام تكذيب قراسنقر بجميع ما قال. وكان قراسنقر حاضرا (3)، ففهم غرضه فى ذلك. وقال خدابنداه: إذا كان أصغر القلاع ترمى بهذا الزنّار العظيم، كيف يكون حالنا فى القلاع الكبار؟ -والتفت إلى قراسنقر وقال: أيش تقول، شمس الدين بيك؟ -فقال قراسنقر: يحفظ الله القآن ويطيل فى عمره، ما يموت أحد إلاّ بأجله، ولو كان فى بطن أمّه، هذا كان مكتوبه. وبعد هذا، القآن ما خرج إلاّ فى نيّة الحرب والقتال، والمحاصرة وقتل الرجال. ومن طلب عظيما (9) خاطر بعظيم. وإن كان الأمير جوبان يخاف من مثل هذا الزنّار وأنظاره فلا يتعرّض لقتال ويوفّر نفسه، ونحن ننوب عنه فى جميع ما يخشاه. فالمملوك قد شابت لحيته فى القلاع والمحاصرات والأحجار والزنّارات. وإلى الآن ما صابنى شى. ومن خاف سلم، ومن جسر كسر، -قال. فتعجّب الملك خدابنداه من قوّة كلامه، وفهم مراد جوبان بقوله. فقال: يامير شمس الدين، طيّب قلبك ولا تضيّق صدرك، وتربة أبغا، لا بدّ ما أملّكك الشأم جميعه. وخلّى أىّ من تكلّم تكلّم. -قال الناقل: وحصل من ذلك اليوم بين قراسنقر وجوبان المنافسة، ولا عادوا يتكالموا إلاّ مراياة لبعضهم البعض. واستمرّ الحصار على الرحبة طول شهر رمضان هذا والجفل قد حصل فى جميع بلاد الشأم، من الفراة إلى أبواب الرمل وأخلت حمص وحلب. وعاد فى أبواب دمشق دقّة وزحمة. وعادت أهل القرى والضياع وحواضر دمشق يريدون الدخول إلى البلد، وأهل البلد

(3) حاضرا: حاضر (9) عظيما: عظيم

يخرجون منها ويقصدون الديار المصريّة والحصون من القلاع الشأميّة حتى بلغ الحمل إلى ديار (2) مصر ألف درهم نقرة ولا يلتقى. وأخرجت أمرا الشأم نساهم وحريمهم وطلبوا الديار المصريّة، وكذلك كبار الدماشقة. ولم يبق فى دمشق إلاّ من عجز عن الحركة أو من قوّى نفسه واتّكل على الله خالقه، فكان عقباه إلى السلامة وعدم الغرامة وتوفّر من الخوف والتعب قلت، وممّا أحكيه بالمعاينة دون الإخبار: إنّ العبد كان فى ذلك الوقت عند الوالد رحمه الله بدمشق وجميع الأهل كذلك. فلمّا وقع هذا الجفل حصل للنسا الخوف العظيم. فإنّهم مصريّين ولا يعرفون الجفل ولا التتار. فلمّا رآهم الوالد كذلك أجمع الرأى على إنفاذهم إلى قلعة صرخد. فتوجّهوا إليها، واستمرّينا نحن ننتظر ما يكون من فعل الله عزّ وجلّ هذا والبطايق تصل على أجنحة الحمام من الرحبة يخبرون بما هم فيه من شدّة الحصار وعظيم القتال. ولم تزل البطايق واصلة إلى العشر الأخير من شهر رمضان انقطعت البطايق. فظنّ أنّ التتار قد أخذوا القلعة، فحصل عند الناس من الألم ما علمه الله تعالى. وعادوا الناس ينتظرون الفرج فى حضور الركاب الشريف السلطانىّ أعزّ الله أنصاره، وما يتجدّد من الأخبار السارّة هذا والعرض واقع بالديار المصريّة، وقد وصلت أوايل الجيوش إلى غزّة، والاجتهاد عمّال. وإنّما حصل القلق من الشأميّين، ومولانا السلطان يفعل ما يراه من مصالح الجيوش، وأورى فى هذه العرضة من القوّة والنهضة (19) والخيول والسلاح وكثرة الجيوش ما كسر به قلوب التتار لمّا بلغهم ذلك.

(2) ديار: دياصر؟؟؟ (19) والنهضة: والنهظة

وكانت هذه كلّها آراء (1) سعيدة وأمورا مفيدة حتى عادوا هاربين {فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} (2) وكان سبب تأخير الحمام بالبطايق من الرحبة أنّ التتار احتاطوا بها سبع حلقات، فعاد الحمام إذا طيّروه من القلعة رصدوه الملاعين فيرموه بالنشّاب. فإن سلم من الحلقة الأولة ما يسلم من غيرها. هذا ما حكاه الأمير بدر الدين ابن الأزكشىّ نايب الرحبة للوالد وبقيّة الأمرا الذين توجّهوا لكشف أحوال الرحبة، وكان العبد فى الجملة حسبما أذكر من ذلك بعد هذا الكلام إنشا الله تعالى ثمّ ورد الخبر أنّ تومانين من التتار قد وصلوا إلى القريتين وهم بها نزول. فلمّا صحّ ذلك جمع ملك الأمرا الأمرا الكبار والقرانيص من الناس. وضرب مشور فى ذلك. فأجمعوا رأيهم أن يعيّنوا من العساكر الشأميّة بدمشق وغيرها عشرة آلاف فارس نقاوة الجيوش، وأن يخرجوا يكبسوا تلك الطايفة الذين بالقريتين، لعلّ أن يكون كنوبة عرض. واتّفق الحال على ذلك. فعيّنوا من دمشق الأمير سيف الدين بهادر آص والأمير سيف الدين كسكن والأمير شجاع الدين أغرلوا العادلىّ وعدّة من الأمرا الطبلخانات والعشرات، وثلاث ماية فارس من حلقة دمشق ومايتى مملوك من المماليك السلطانيّة الذين بدمشق، وأن يكون جملة العدّة من عسكر دمشق أربعة آلاف فارس. وكتب إلى نايب طرابلس بأن يحضر بنفسه، وكذلك إلى نايب حمص وصاحب حماة. فبينما الأمر كذلك والناس فى أشدّ الأحوال وأعظم الأهوال فكان كما قيل: تضايقى تضايقى تنفرجى {سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (21) وكما قال الشاعر <من الخفيف>:

(1) آراء: آراى--أمورا: امور (2) السورة 6 الآية 45 (21) السورة 65 الآية 7

ربّما (1) … تجزع النفوس من الأم‍ ر له فرجة كحلّ العقال فلمّا كان بين الصلاتين وقع الحمام محلّقا (2) من الرحبة. وبعد العصر حضر مملوك الأمير بدر الدين بن الأزكشىّ نايب الرحبة على البريد المنصور يبشّر بهروب التتار، ورحيلهم عن الرحبة إلى نحو الديار، وأنّ القلعة سالمة بحمد الله تعالى وبركة النبىّ عليه السلام. وضربت فى تلك الساعة البشاير، وفرح البادى والحاضر، واطمأنّت النفوس بعد الوجل، وطمعت آمال أهل الشأم بطول الأجل، وعادوا الناجعون من الديار، وقد اعتراهم الخجل وسيّر مملوك الأمير بدر الدين بن الأزكشىّ على حاله صحبة أمير من الأمرا الكبار ليدرك الركاب الشريف قبل حركته من القلعة المحروسة. فلم يلحقوا ذلك إلاّ بمنزلة الصالحيّة. فأبت النفس الشريفة، والهمّة الملوكيّة العالية المنيفة أن تعود، حتى تبلغ من أعدايها المقصود، وقوى العزم الشريف المبارك على ذلك. وقال: لا بدّ من دوس بلادهم، واستيصال أموالهم وأسر أولادهم. وأتبعهم إلى مطلع الشمس، وأتركهم خبرا من الأخبار كالأمس، وأعرّف خدابنداه أن كعب قراسنقر ورفقته عليه من أيشم الكعوب، وإن كان قد رجع هاربا خايفا مرعوب، فليس الخبر كالعيان، ولا السماع كالبيان. -فلمّا نظروا الأمرا إلى هذه النفس الأبيّة، والهمّة العليّة، خشوا إن يعاودوه فى الكلام لا يعود، وتوقّعوا (17) من سطواته الشريفة بالانتقام. فلم يجسر أحد على ردّ الجواب، وقالوا بأجمعهم: هذا هو عين الصواب. - فأمر من وقته بالتوجّه إلى الشام، ولا ينطق أحد منهم بحرف من الكلام، للوقت نشرت الأعلام، وهدمت الخيام، ودقّت الكوسات، ونعرت

(1) ربما: بينما--له: لها--كحل: مثل حل. -انظر «نزهة الألباء» ص 32 (2) محلقا: محلق (17) وتوقعوا: واقعوا؟؟؟

البوقات. وقصد الشأم طالع، فى أيمن سعد وأبرك طالع. هذا ما كان من ركاب مولانا السلطان وأمّا ملك الأمرا بالشأم، فإنه علم أن الركاب الشريف لا بدّ له من القدوم إلى الشأم المحروس، ولبلاد العدوّ المخذول يدوس، لما يتحقّقه من شجاعة مخدومه، فانتدب لملتقاه وقدومه. وعلم أنّه لا بدّ أن يسأله عن كيفيّة نزول العدوّ المخذول، فيجب أن يكون عنده من ذلك الخبر اليقين، فجرّد من الأمرا والمقدّمين جماعة {مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} (7) وكان فى الجملة الوالد، سقى الله عهده وبلّ تربه. وأمرهم أن يتوجّهوا إلى الرحبة لكشفها وكيفيّة أحوالها، وكيف كان نزول التتار عليها، ليطالعوا بجميع ذلك المسامع الشريفة السلطانيّة مشافهة بعين الرؤيا (10)، لا بأذن السماع، عند حلول الركاب الشريف إلى دمشق المحروسة. وتوجّهت صحبة الوالد من طريق الشفقة عليه. فإن إقطاع المملوك كان بالديار المصريّة ولم يكن علىّ تجريد بالشأم. فقاسيناها منفّرة صعبة، شديدة التعب والخوف والبرد وقلّة المادّة بالبلاد بسبب خلوّها من جفل التتار. واستقبلتنا الروايح المنتنة من قباقب، وذلك لكثرة الجيف فى تلك الأراضى ووسخ التتار وقذارة منازلهم. فكدت أموت من تلك الروايح. ثمّ وجدنا أوايل حلقتهم السابعة لمّا كانوا نزولا (17) بمنزلة قباقب، وداخلها حلقة وحلقة وحلقة إلى سابع حلقة المحتاطة بالرحبة. وذكر الأمير بدر الدين بن الأزكشىّ لنا لمّا وصلناه أنّه كان يبطق الحمام إلى دمشق، فيرموه التتار بالنشّاب ولا يخلص منهم، وذلك لكثرة الحلقات عليها، وذلك لمّا كان انقطع الحمام وظنّوا أهل دمشق أنّ الرحبة أخذت

(7) السورة 23 الآية 57 (10) الرؤيا: الريا (17) نزولا: نزول

فلمّا وصلنا إلى قرب الرحبة خرج الأمير بدر الدين والتقانا وأنزلنا وأحضر إلينا رأس بقر ضعيف وقال: والله لم يتركوا التتار عندنا رزقا (2). - ثمّ إنّ الأمرا كشفوا الأحوال وطلعوا من النقوب التى كانوا نقبوها التتار وخاسفوهم الرحبيّين. ثمّ سئل (4) الأمير بدر الدين: كيف كان رحيلهم وما سببه؟ -فأحكى أنّه دبّر تدبيرا حسنا (5)، وإلاّ ما كانت الرحبة من القلاع التى بتعصى على مثل خدابنداه فى تلك الجموع. وذلك أنّه صانع جماعة من كبار الدولة مثل الوزير رشيد الدولة وغيره. وكذلك سيّر إلى مغنيّة كانت حظيّة (8) الملك خدابنداه تسمّى نجمة خاتون، وهى التى كانت تغنّى بين يديه هيلا ميلا، وكانت عنده ذات (9) وجاهة كبيرة. وكان هذا الملك خدابنداه ليس من رجال الحرب، وإنّما كان همّته الأكل والشرب والطرب والنساء والملاهى. ولولا حمل واستنهض من قراسنقر ورفقته وخشى الفضيحة أن يورّى فى نفسه العجز لما كان تحرّك بحركة. وكان إذا ركب فى الدجلة السماريات توقد له الشطّين ويعود فى جنوك عجميّة ودفوف وزمور وشبابات طول ليله. فلمّا أن دبّر بدر الدين بن الأزكشىّ ما دبّر وراسل نجمة خاتون وهاداها جلست تلك الليلة ووجهها غير عادته فى حال الرضى. فقال لها خدابنداه: أيش خبرك؟ -فقالت: الله يحفظ القآن، تركنا ورانا مثل دجلة ووقيدها ونزهها وما كنّا عليه من اللذّة والانفساح، وجينا إلى هذا المكان القذر وهذه الرايحة التى إن دامت علىّ (18) يومين آخرين متّ. -فقال: يا خاتون، كيف يقال عنّى إنّى نزلت بنفسى على مثل هذه القلعة اللاش (20) ورحلت عنها بغير أخذها؟ -فقال: الله

(2) رزقا: رزق (4) سئل: سأل (5) تدبيرا حسنا: تدبير حسن (8) حظية: حضيه (9) ذات: ذى (18) على: عليه (20) اللاش: الاش

يحفظ القآن، والله هذه فى قبضتك، وجميع من فيها رعيّتك، وهم مسلمين. وفى مثل هذا الشهر الشريف قد بلغنى أنّ امرأة (2) فيها كانت جالسة تطبخ وفى حضنها صغير ترضعه فجاها زنّار أخرقها وأخرق ابنها وقدرتها، وأنّ أيضا الجامع جميعه انهدم من المنجنيق، والقآن-الله يحفظه-مسلم ويحبّ المسلمين. وهذا كلّه جرى ولا يجسر أحد يخاطب القآن. وارسم بسنجقك يطلّعوه ويدخلوا تحت الطاعة. -فقال: إن فعلوا ذلك رحلت عنهم. -فأنفذت إلى الأمير بدر الدين تعلمه بذلك. وسيّروا السنجق فأعلوه على القلعة وفتحوا الباب، ونزل القاضى، وأحضروا تلك المرأة وولدها التى أخرقها الزنّار وقدّموها بين يديه. فبكى لمّا رآها. وسيّر خلعة للأمير بدر الدين بن الأزكشىّ، ولبسها وقبّل له الأرض وما بين عقب السنجق. ثمّ إنه أجلس القاضى وتحدّث معه ورسم له بأربع ماية دينار لعمارة ما انهدم فى الجامع. ورحل من ساعته وأودع جميع الآلات من المناجيق وغيرها فى الرحبة، وهو يظنّ أنّها عادت له. فهذا كان سبب رحيله. -هذا جميعه حديث الأمير بدر الدين بن الأزكشىّ للأمرا، وأنا أسمع وكان هذا بدر الدين بن الأزكشىّ فى أوّل حاله جنديّا كرديّا (16) من حلقة دمشق نازلا (17) بالصبيبات بظاهر دمشق، قدّمه كرمه وسماحة نفسه، وكان سبب تقديمه الأمير سيف الدين بهادر آص. وذلك ما حكوه للمملوك جماعة الدماشقة: إنّ هذا بدر الدين نزل يبيع له بغلا (19)، فأباعه بألف ومايتى درهم نقرة. فاشترى

(2) امرأة: مره (16) جنديا كرديا: جندى كردى (17) نازلا: نازل-- بالصبيبات: بالقبيات (19) بغلا: بغل

لإصطبل الأمير سيف الدين بهادر آص. وحضر بدر الدين ليقبض المبلغ من الخزندار. فلمّا وزن له المبلغ قال له الخزندار: خشداش، حطّ البركة! - قال: فقسم المبلغ نصفين، فأخذ ستّ ماية وترك ستّ ماية، والخزندار يتفرّج فيه، وقال: يا خوند، هذه البركة. -فضحك الخزندار وظنّه أنّه بيلعب، فأخذ تلك الستّ ماية وخرج، ركب فرسه وأتى منزله. فطلبه الخزندار فلم يجده. فتعجّب منه ودخل إلى الأمير وهو جالس فى الدهليز على عادته، فقال: يا خوند، اشترينا هذا البغل من جندىّ مجنون، -وأحكى للأمير حكايته. فرسم بطلبه فلم يجدوه، فطلبوا الدلاّل وطلبوه الدلاّل وطلبوه منه. فأحضره، فقال له الأمير: يا كردىّ، أنت عاقل أو مجنون؟ -فقال: لا والله، لولا أنا عاقل ما وصلت إلى الأمير. -فقال: الناس إذا طلبوا منهم البركة يطّوا خمس ستّ دراهم والنادر عشرة الدراهم. -كيف حطّيت ستّ ماية درهم؟ - فقال: الله يحفظ الأمير، هذا البغل رأس ماله علىّ (12) ستّ ماية درهم، شريته جحشا (13) وربّيته وكسبت فيه ستّ ماية درهم. فلمّا طلب منّى مملوك الأمير البركة، ما كان لمثلى أن يقابل الأمير إلاّ بهذا. ولو علمت أنّ الأمير يقبله بغير ثمن ما أخذت شيئا (15). -ونظر إليه الأمير فوجده رجلا فحلا. فأعجبه، فأخلع عليه. وعاد فى خدمته حتى خلت قلعة الصبيبة. فتحدّث له مع ملك الأمرا جمال الدين الأفرم فولاّه الصبيبة فقام بها أتمّ قيام. ثمّ خلت الرحبة، فنقل إليها، فاستمرّ بها إلى هذا التأريخ. فلمّا حلّ الركاب الشريف إلى دمشق حضر إلى بين يدى المواقف الشريفة. وشكر له هذا التدبير، وأنعم عليه مولانا السلطان بإمرة ماية فارس وتقدمة ألف. ولقد نظرته

(12) على: عليه (13) جحشا: جحش (15) شيئا: شى--رجلا فحلا: رجل فحل

ذكر [حوادث] سنة ثلاث عشرة وسبع ماية

يخرج مع الأمير سيف الدين بهادر آص الذى أنشأه من الخدمة جميعا يمشون فى منزلة واحدة، لكن يحجب الأمير سيف الدين بهادر آص قدّامه بقليل، فسبحان من هو على كلّ شئ قدير، وإليه الحكم والتدبير (3) ذكر [حوادث] سنة ثلاث عشرة وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما يخصّ من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (7) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر مالك نواصى الأمم، من عربها والعجم، أسبغ الله عليه سوابغ النعم، وكفاه شرّ حوادث النّقم والنوّاب: الأمير سيف الدين أرغون النايب بالديار المصريّة، والوزير: الصاحب أمين الدين إلى حين مسك فى هذه السنة فى تأريخ ما يذكر، والحاجب: الأمير سيف الدين بكتمر ومعه الأمير علاء الدين ألطنبغا حاجبا، والأمير سيف الدين آقول المحمدىّ أيضا، وأمير نقبا الجيوش علاء الدين طيبرس الخزندارىّ بحاله، والنوّاب بالشأم: الأمير سيف الدين تنكز الحسامىّ نايب دمشق، والملك عماد الدين إسمعيل نايب حماة، والأمير سيف الدين سودى الجمدار نايب حلب، والأمير

(3) بعد كلمة «والتدبير» يوجد فى المخطوطة «وفيها عاد الركاب الشريف إلى الديار المصرية مع سلامة الله وعونه» وبعد كلمة «وعونه» توجد كلمة «سهو» مع ملاحظة وجود عدة خطوط فوق الجملة المذكورة (7) أبو: ابى

سيف الدين تمر الساقى كستاى الناصرىّ نايب أطرابلس، والأمير سيف الدين بلبان طرنا نايب صفد، والأمير علم الدين سنجر الجاولىّ نايب غزّة وفى مستهلّ المحرّم وصل الركاب الشريف إلى الكرك المحروس من الحجاز الشريف ودخل قلعتها. وكان وصوله إلى دمشق المحروسة حادى عشر المحرّم من هذه السنة. وقد جعل الله تعالى سعيه مشكور، إذ جمع بين نيّة الغزاة إلى الحجّ المبرور، وكان يوم دخوله إلى دمشق يوما مشهور، لم ير مثله فى ساير الدهور. وخرج إلى خدمته ساير الجيوش الإسلاميّة، والعساكر المحمديّة، وترجّلوا جميعهم كالبنيان (8)، وهم الذين كانوا بدمشق من الأمرا والمقدّمين والأعيان. وعادوا يبّلون الأرض عدّة مرار. ثمّ تقدّموا لتقبيل يده الشريفة التى جعل الله ظاهرها للتقبيل، وباطنها للعطا الجزيل. ودخل مؤيدا بالظفر والنصر، إلى أن حلّ ركابه الشريف بالقصر. وكان مدّة غيبته ثمان وستّين يوما. وفى يوم الخميس سابع عشرين المحرّم توجّه إلى الديار المصريّة، وقد بلّغه الله فى سفرته أقصى الأمنيّة، لمّا اطّلع على ما كان منه من صدق النيّة، فإنّه يعلم السرّ والعلانية. ودخل إلى الديار المصريّة ثالث عشر صفر، مؤيّدا بالنصر والظفر ولمّا كان ثامن عشر شهر جمادى الأولى مسك الصاحب أمين الدين أمين الملك مع جماعة من الدواوين، وولى تدبير الدولة بشادّ الأموال من غير وزارة الأمير بدر الدين محمد بن التركمانىّ. وكان من قبل تولّى أعمال (19) البحيرة، ثمّ انتقل إلى ولاية الجيزيّة، ثمّ لحظته العناية السلطانيّة حتى عاد مدبّر الدولة بمنزلة الوزارة. ولمّا كان فى العشر الأخير من

(8) كالبنيان: بالهامش (19) أعمال: الاعمال

جمادى الآخرة أفرج عن الصاحب ولزم بيته. ثمّ رسم أن يخرج ويتوجّه إلى أطرابلس. ثمّ أعفى وتوجّه إلى القدس الشريف (2) وفى شهر شوّال رسم بتجريدة إلى الحجاز الشريف صحبة سيف الدين طقصبا والى قوص، ورسم له بالإقامة بمكة شرّفها الله تعالى وفى ثالث عشر الشهر المذكور رسم بعمل جسر مستجدّ بالجيزة. وخرج جميع الجيش للعمل فيه، وكان المشدّ على عمله ناصر الدين الحمصىّ وفى شهر ربيع الأوّل الثالث عشر منه كان الابتدا فى بنا القصر الأبلق بقلعة الجبل المحروسة. وكان الفراغ منه عاشر شهر جمادى الأولى سنة أربع عشرة وسبع ماية وعمل فيه مهمّ عظيم. وأنعم فيه مولانا السلطان على ساير الأمرا بحمل كبيرة. ومن جملة ما أنعم به على القاضى علاء الدين بن الأثير رحمه الله بثلاثين ألف درهم من حمل سيس. فاستقرّت له عادة فى كلّ سنة يتناولها من حمل سيس وفيها توفّى الوالد رحمه الله الثالث عشر من شهر رجب الفرد، وذلك أنّه لمّا مسك مولانا السلطان للصاحب أمين الدين أمر أن تكشف عليه القلاع التى كان يخرج فى كلّ وقت إليها أمين الملك لمّا كان مستوفى الصحبة الشريفة وصحبته بدر الدين بكتوت القرمانىّ، وكان ذكر عنه

(2) بعد «القدس الشريف» يوجد فى المخطوطة «وفى مستهل ذى الحجة جردوا أميران إلى السودان وهما طقصبا والى قوص وبيبرس الخاص تركى. ثم أضافوا إليهما ثلاثة أخر وهم الكبكى وقزلجاه الجاشنكير وأمير على بن قراسنقر وبعد كلمة «قراسنقر» توجد كلمة «سهو» مع ملاحظة وجود عدة خطوط فوق الجملة المذكورة

ذكر ما كان من أمر قراسنقر بالبلاد والواقعة بين خدابنداه وطقطاى فى هذه السنة

أنّه تناول منها حملا كبيرا (1). فرسم مولانا السلطان عزّ نصره للقاضى فخر الدين ناظر الجيوش المنصورة أن يعيّن من يكشف عن ذلك. فقال القاضى: ما لهذا الأمر مثل عبد الله الدوادارىّ المهمندار بدمشق. - وذلك لما كان يتحقّقه من الوالد من الأمانة الزايدة والنهضة (4) والكفاية والشفقة على مال مولانا السلطان. فكتب له بذلك من الأبواب العالية. فتوجّه وكشف القلاع الفوقانيّة مثل كحتا وكركر وبهاسنا والبيرة وقلعة الروم وغيرهم. ورجع إلى القلاع التحتانيّة على البريد المنصور. فوصل إلى وادى يعرف بالزرقا وهو طالب قلعة عجلون. فزلق به الفرس، وقع من تقدير عشر قامات إلى الوادى ووقع الفرس على صدره، وكانت منيّته وأجله. فحمل إلى مدينة أذرعات، ودفن بها قريبا (10) من قبر أبيه وأمّه، رحمه الله وساير (11) أموات المسلمين ذكر ما كان من أمر قراسنقر بالبلاد والواقعة بين خدابنداه وطقطاى فى هذه السنة (13) وذلك أنّه لمّا رجع الركاب الشريف السلطانىّ أعزّ الله أنصاره، وأعلى مناره إلى الديار المصريّة، وقد بلغ من هروب أعدايه غاية الأمنيّة، وردت الأخبار على قراسنقر من قصّاده: إنّ صاحب مصر رجع إلى الديار المصريّة، وأنّه قبل خروج ركابه الشريف إلى الشأم رسم على أولادك،

(1) حملا كبيرا: جمل كبيرة (4) النهضة: النهظه (10) قريبا: قريب (11) وساير. . . المسلمين: بالهامش (13) فى هذه السنة: بالهامش

واحتيط على ساير أموالك وأملاكك. -فلمّا سمع ذلك انقطع ظهره وحار فى أمره. وعلم أنّه هو الجادع أنفه بظلفه، وأنّه كان الباغى، والباغى ساع (3) فى حتفه. فاجتمع بالأفرم وقال: قد بلغنى ما صورته كيت وكيت. وقد عزمت على أن أخاطب القآن وأحشد الحشود، وأجمع الجموع، وأغار على الممالك الحلبيّة والبلاد الشأميّة، وأقتل من وجدت فى طريقى من ساير البريّة. -فقال له آقوش الأفرم: يامير شمس الدين، ما كفى ما عدنا مرتدّين، وعن باب الله مطرودين حتى نسعى فى هلاك الإسلام؟ فكيف نلقى الله والنبىّ عليه السلام؟ -فقال: يامير جمال الدين، لا تظنّ أنّى أنا وحدى قد أصابتنى هذه المصيبة! وإنّما أنت أيضا قد أخذت أولادك وأموالك وأملاكك. وهذا القاصد قد عاين جميع ما لك يباع فى أسواق دمشق. فقم بنا ولا تعطى نفسك رخصة ودعنا نموت كراما (11)، ولا نموت غبنا (12)، وأولادنا فى الحبوس والتراسيم ونحن نسمع ونكاشر. وأنا أعرف جيش مصر ما بقى فيه أمير له صورة ولا كبير يرجع إلى رأيه، والجميع صبيان كاينة، والخروف الرضيع لا يقاوم الكبش فى النطاح. وقد صار سودى الجمدار موضعى بحلب، وتنكز الحسامىّ موضعك بدمشق، وتمر الساقى فى طرابلس مكان أسندمر. فكيف لنا صبر على هذا وأمثاله؟ - قال، فهما على عزم ما يفعلاه من المناحس، إذ حضر إليهما ما أشغلهما وتملّكهما عمّا كانوا قد عزموا عليه، وذلك أنّ الأخبار وردت على الملك وتملّكهما عمّا كانوا قد عزموا عليه، وذلك أنّ الأخبار وردت على الملك خدابنداه أنّ طقطاى قد تحرّك عليه، وأنّ جيوشه واصلة إليه وكان قراسنقر قد تمكّن فى بلاد المغل تمكّنا كبيرا (20) ورتّب جميع الأحوال على قاعدة بلاد الإسلام، وجعل البلاد إقطاعات للأمرا من المغل،

(3) ساع: ساعيا (11) كراما: كرام (12) غبنا: غبن (20) تمكنا كبيرا: تمكن كبير

ورتّب لهم الأستاداريّة والدواوين، وازدادت ارتفاعات البلاد شيئا كثيرا (1) جدّا. وأقطع البلاد الخراب للتركمان والأكراد، وألزمهم بإقامة الأبقار واستخراج الأراضى وتنظيفها (3) من الخرش. فجاءت بعد ذلك طوفان غلال. وقد تقدّم القول بما فعله فى حقّ الخواتين، وما صنع لهنّ (4) من المصاغات والزراكش حتى أخذ بعقولهنّ. وعادوا معه فى ساير أحواله. وهؤلاء التتار فأمورهم راجعة إلى نساهم بخلاف المسلمين قال الناقل: فلمّا عاين جوبان تمكّن قراسنقر من الدولة ومحلّه من قلب القآن وقلوب الخواتين، ولا عاد خدابنداه يقطع أمرا (8) دون أمره، داخله الحنق والغيظ، وخلا بالملك خدابنداه وقال له: أمنت لهذا العيّار، كما أمن أخوك غازان (10) لقبجق وبكتمر السلحدار، وخدعوه وأقاموا عندنا وعملوا علينا. ولولا أنّ الله تعالى نصرنا عليهم وإلاّ كانوا قد قصدوا مسكنا بذقوننا وتسليمنا للمسلمين المصريّين. ثمّ إنّهم رجعوا إلى أصحابهم، ومات أخوك غازان مغبونا (13) منهم وفى قلبه لهيب النار. -فقال له الملك: دع هذا الكلام! فإنّ هذا الرجل قد نصحنى وأقام منار ملكى، واستجار بى، وهذا ورفيقه كانا ملوك الشأم وخدموا الملك الناصر صاحب مصر أتمّ خدمة، ولا وفى بهم، وأخبارهم جميعها عندى مفصّلة، والله العظيم، وتربة أبغا وهلاوون، لا خنتهم أبدا ولا تخلّيت (17) عنهم حتى أعيدهم ملاّك الشأم من قبلى، فلا ترجع تعاودنى فى شى من أجلهم قال الناقل: ثمّ إن الملك خدابنداه استحضرهم وطيّب قلوبهم، وقال لقراسنقر: قد أقمتك مقام نفسى ومن خالفك مات، فافعل جميع ما تراه

(1) شيئا كثيرا: شى كثير (3) تنظيفها: تنضيفها (4) لهن: لهم (8) أمرا: أمر (10) غازان: قازان (13) مغبونا: مغبون (17) تخليت: اتخلت

مصلحة. -وأخلع عليه وعلى الأفرم والزردكاش وبلبان الدمشقىّ ولاعبهم وضاحكهم. ومن جملة كلامه لهم: يا شمس الدين بيك، أىّ من أعجبك من أولاد المغل خذه اعمله خلفك سلحدار، ومن يمنعك يموت. ولا تقاسى غبن التجّار. -فقال آقوش الأفرم: والمملوك، يا خوند؟ -فقال: يامير جمال الدين، أنا وأنت لنا مذهب غير مذهب الأمير شمس الدين وجوبان، قال. -فقال جوبان: أنا برى من الأمير شمس الدين ومن مذهبه. -وتلاعبوا وضحكوا، وأخلع الملك أيضا على الأمير جوبان، وأعطاه حياصة ذهب من تقدمة قراسنقر، ورسم أن يكون الأمير جمال الدين الأفرم حريفا (9) لا يردّ عنه لا ليلا ولا نهارا، وإيده مطلوقة فى الخزاين والأموال، وأن يكون الأمير شمس الدين قراسنقر ملك الأمرا على العساكر وترتيب المملكة، والزردكاش أمير غارة وفى خدمته جماعة كبيرة من المغل يرسم الغارات، وبلبان الدمشقىّ أمير جاندار على باب الدهليز الذى رتّبه قراسنقر، وجوبان أخلع عليه ورسم له أن يكون ملك النوّاب ويتوجّه لكشف ساير البلاد قال الناقل: لمّا تحدّث جوبان مع القآن فى حقّ قراسنقر بما تحدّث نقلوا الخواتين المجلس بكماله لقراسنقر، قال: فخلا قراسنقر بجوبان قبل سفره، وقال له: أمّا أنا فما هربت من قدّام أستاذى وابن أستاذى إلاّ خلّصت رأسى من الموت لمّا تعاين لى الهلاك، وأتيت إلى باب القآن مستجيرا (19) وعمرى فى باب أستاذى. ما خامرت ولا كاتبت ولا داجيت. وأمّا أنت فقسيم القآن فى ملكه، وحاكم على جميع ما ملّكه

(9) حريفا: حريف--لا ليلا ولا نهارا: لا ليل ولا نهار (19) مستجيرا: مستجير

الله تعالى من الأرض. وقد جانى من عندك عشرين كتابا وعشرين قاصدا وهم فلان وفلان وفلان-وعدّدهم له-بأنّك تريد تدخل إلى عندنا وتخامر على أستاذك والذى خوّلك فى نعمته. فسيّرت إليك أقول لك: ما تعدّى إلى عندنا إلاّ بنفسك مع عشرة من خواصّك وخمسة مماليك وسلحدار واحد، وتتوجّه إلى خدمة السلطان فى البريد ويجى مرسوم بتخلية عسكرك بالتعدية، فنمكّنهم بعد ذلك. فسيّرت تقول لى: أشتهى تصبر علىّ حتى أتوجّه وآخذ خراج الروم وأخربه وأدخل إلى سيس وأقبض على صاحبه تكفور، وأقعد فيها وأكون نايب السلطان الملك الناصر بتقليد ومرسوم من جهته. وكتبت أنا إليك الجواب: إذا صحّ هذا سيّرت وعرّفت مولانا السلطان ينجدك بالعساكر والجيوش، واتّفقت معك على هذا، وهذه كتبك جميعها معى حاضرة قال الناقل: فلمّا سمع جوبان ذلك خاف خوفا عظيما (12) وسيّر لقراسنقر تقادم عظيمة مع عدّة كثيرة أكاديش، وقال: يامير شمس الدين، من اليوم تعاملنا ومن هذا الوقت تعارفنا، وابقينى وأبقيك، قال: وبلغ الحديث جميعه للملك خدابنداه، فطلب قراسنقر وطيّب خاطره. وقال له: يامير شمس الدين، جميع ما قصد جوبان يفعله عرفت به، وعندى أخباره بمكاتباته لصاحب مصر، ولكن لا بدّ له معى من وقت. -وأخلع عليه وبسط يده وأعلى كلمته ونفّذ أحكامه. ودخل قراسنقر على الملك خدابنداه بالسحر والمكر وكذلك على جميع كبار المغل وخواتينها حتى عاد صاحب الوقت

(12) خوفا عظيما: خوف عظيم

ذكر الواقعة التى كانت بين الملكين خدابنداه وطقطاى

ذكر الواقعة التى كانت بين الملكين خدابنداه وطقطاى قال الناقل: وفى هذه السنة كانت الوقعة العظيمة بين الملك خدابنداه وبين عساكر طقطاى. وأتته الأخبار بوصول جيوش طقطاى إلى بلاده وأنّ المقدّم عليها صاروبغا بن تكلان، وهم فى ثلاث ماية ألف. وقد سيّروا رسلهم إلى الأكراد بجبل هكّار وإلى بلاد شل وصورة (5) وإلى صاحب العماديّة بأنّهم يكونوا معهم عليك ويأتوا من خلفك إذا لاقيتهم. -وتوجّه إليهم الفرمانات، وهذه قلاع المسلمين جميعهم فرحوا بذلك، وشالوا النار لبعضهم بعض. قال: فلمّا سمع الملك خدابنداه هذا الحديث اشتغل خاطره، وطلب للوقت قراسنقر ورفقته، وأخبرهم بما سمع من الأخبار، المزعجة. فقال قراسنقر: يا خوند، لا يهولك ما سمعت من كثرتهم، فإنّهم عدّة بلا عدّة، ولا هم رجال حرب، وسوف يرى القآن ما يسرّه. وبمرسوم القآن أفعل ما أراه. -فقال: يامير شمس الدين، أنت المفضّل وقد سلّمت إليك الأمور وأقمتك مقام نفسى، ومهما رأيت من المصلحة افعل ولا تشاور، -قال. فعندها سيّر وطلب جميع العساكر وكانوا قريبين حوالى الموصل وسنجار وإربل ومثل هذه الأماكن القريبة. ثمّ إنّه دخل على الملك وضرب جوك وقال: بمرسوم القآن أنقّى من هذه الجيوش عشرة آلاف فارس بعشرة مقدّمين توامين ممّن أعرفهم وألبسّهم عدد عسكر مصر وأكون شاليش وينظر القآن ما أفعل، وأريك (18) قتال جيوش الإسلام كيف يكون، وأرجو من الله تعالى بياض وجهى عند القآن بالنصر

(5) شل وصورة: كذا فى الأصل (18) وأريك: وأوريك

إنشا الله تعالى. -فقال: يامير شمس الدين، ما أنا القايل لك من قبل هذا الحال: مهما أردت افعل ولا تشاور؟ قال الناقل: فخرج قراسنقر من بين يدى القآن وطلب عشرة مقدّمين توامين نقاوة عسكر خدابنداه، وهم بيدرا بن قطلوجا بهادر، وتلك ابن صمغار بهادر، وطقتمر بن بولاى بهادر، وأمير حسن بن ششكت بهادر، وكجرك بن عليناق بهادر (6)، وزيرك بن بخشى بهادر، وأحمد شاه ابن قنغرطاى بهادر، وقزلجق بهادر، وعلىّ قجا بن زريك بهادر، وما باجى بهادر. قال الناقل: وهؤلاء المذكورون كلّهم شباب نشأوا جهّالا (9) لا يعرفون الموت، وهم جمرة المغل الحمرا. قال: وأعطاهم قراسنقر العدد الملاح والخيول الجياد وألبسهم القرقلات الأطلس والخوذ البهادريّة، وألبس خيولهم البركستوانات الأطلس، وجعلهم شعلة نار، وتقدّم قدّام عسكر الملك خدابنداه بيومين. وأعطى مماليكه الزرّاقين آلات النفط، وكانوا مايتى مملوك. وقال لهؤلايك المقدّمين: أنتم وحدكم آخذ بكم بلاد بركة، وأفتح بكم إلى آخر المشرق وركب الملك خدابنداه فى أثره فى بقيّة جيوشه ومغله. وتلاحق به صاحب الكرج، وصاحب ماردين، وصاحب سيس مع ساير ملوك المغل. وكان قراسنقر أيضا قد رتّب قدّام عسكر الملك خدابنداه خمس ماية زرّاق، علّمهم اللعب بالنفط وآلاته. ورتّب له ثلاث ماية حمل كوشات على البخاتى. فركب فى دست عظيم لا يعهد قبله مثله، وكان عدّة جيشه أحد عشر تومان خارجا (20) عن الجيش الذى كان نقّاهم قراسنقر. وركب

(6) عليناق بهادر: «بهادر» بالهامش (9) نشأوا جهالا، نشو جهال (20) خارجا: خارج

خدابنداه فى القلب وإلى جانبه الأمير إسماعيل بن ألجاى خاتون بن سردار، وهذا أيضا من عظم هلاوون. ودقّت الكوسات من خلفه فدوى لها الجبال، وأرعدت البرارى والقفار ورتّب فى الميمنة برأسها من التوامين من نذكر وهم: سرطقتوا بهادر، وطمغاجى بهادر، وأنغطاى بهادر، وعلىّ آغا بهادر (5)، وصغرجى بهادر، وقيمش بهادر، وكربيه بهادر، وطقجى بهادر، وحسن بك بهادر (6)، وقرلوا بهادر، وقرايغدى بهادر، وكرباى بهادر، ودرباى بهادر، ونمجى بهادر (8)، وقزلجى بهادر، وأرطق بهادر، وكجرك بهادر، وسلمان شاه، وجغنان، وطلمايس، وإيت أغلى، وقرغاجى، وطينال، ودمر، وقطرمش، وبراق، وأمير داود، وبكلمش، وقرتقا، وجنقر وسواطوا، وبجاق، وقرا محمد، وأبغا، وقرابغا، ونغاى، ودماجى، وأسن جك، وحسنجى، وطاشار بهادر. وكان إلى جانب الملك من الأمرا أمير يحيى، وبلجك بهادر، وقستا بهادر، وقراقان بهادر، وبلدق بهادر، وسوباى بهادر، وأمير علىّ بهادر، وصلغاى بهادر، وأمير علم حامل سنجق (15) الأرنب، وكان راجل طويل جدّا غليظ فجّ الكلام، كأنّه بعير شديد الحيل، يأكل فى كلّ يوم ثلاثة أرؤس غنم أو نصف رأس بقر سمين، واسمه كرباى بن خنفار. وترتّب الجيش، ووقف الملك خدابنداه، ولعبت الزرّاقين بالنار، وأظلمت البرارى والقفار، وكلّ أحد قد تعاين له الموت. قال الناقل: هذا ما كان من أمر خدابنداه وأمرايه وجيوشه وأسماهم وعدّتهم على التحقيق من غير زيادة ولا نقصان، حسبما اتّصل بنا من

(5) آغا بهادر: «بهادر» بالهامش. (6) بك بهادر: «بهادر» بالهامش (8) ونمجى بهادر: «بهادر» بالهامش (15) سنجق: السنجق--راجل: هكذا فى الأصل

أخبارهم، ونقلناه من آثارهم جهد الطاقة وحدّ الاستطاعة، بعون الله وحسن توفيقه وبركة إلهامه وأمّا عسكر طقطاى فنذكر أيضا ما اتّصل بنا من أخبارهم وأسما أمرايهم وعدّتهم، وما كان من أمرهم وكسرتهم ورجوعهم إلى بلادهم مكسورين، بما صنعه معهم قراسنقر ورفقته مفصّلا مبرهنا بحول الله وقوّته: قد ذكرنا أن المقدّم كان على هذا الجيش اسمه صاروا بغا بن تكلان، وهو أخو براق ملك جبال القار وما معها. وكان فى عسكر كثيف، نيّف وثلاث ماية ألف أو يزيدون، حتى ملا البرارى والقفار، ودكدك الجبال والأوعار، وقطع الأشجار، وأفنى الثمار، ونشّف العيون والأنهار. لكنّه أكثره عربان، ليس معهم من آلة الحرب غير القسىّ والنشّاب والعصى الخلنج والمقلاع لرمى الحجارة، ولا لبس عليهم ولا على خيولهم، غير أنّهم أمّة كثيرة العدد جدّا. وهؤلاء بيت هلاوون أشجع منهم وأدرب بقتال لكثرة تجاربهم وتكرارهم فى الحروب وأكثر عددا (13) سيّما وقد رتّبهم قراسنقر هذا الترتيب الذى قدّمنا ذكره قال الناقل لهذه الأخبار: فلمّا كان نهار الأربعا الرابع عشر من جمادى الآخرة من هذه السنة التقى (16) الجمعان. وكان صاروا بغا فى القلب وقد رتّب جيوشه ثلاثة صفوف، فى كلّ صف عشرين ألف بهادر. وكان مقدّم الميمنة. . . (18) مع من يذكر من بهادريّته وهم: منكاى، وقبليقان، وأنجاق، وطرقاق، وكنباى، وقلودر، وايربشطى، ومنكوجار، وقلجق، وأوجى، وجاورجى، وبرديك، وبيغوش، وقراقبق،

(13) عددا: عدد (16) التقى: اللتقا (18). . .: الذى له، يظهر أن الناسخ كتب هاتين الكلمتين عوضا عن اسم المقدم

وكشلوا، وسلجق، هؤلاء فى الميمنة، وبرأس الميسرة: طقجى بهادر، وطاجار، وطغرجى، وعكوك، وقرابغا، وقرطقا، وأرسلان، وعلىّ ايكا، وانوسلوك، وقرجى تمر، وعلىّ بك، وطبجا، وبغا ملك، وبغا كشكاز، وتكاجى، وقطلو خان، وآقبغا، وطرناى، وتكودر، وباجير، وشرنغاى، وككتمر، وكشلو خان، وقمزجاه، والجميع بالقسىّ والنشّاب والمقلاع والعصى الخلنج بغير رمح ولا سيف ولا دبّوس إلاّ الأمير فيهم أو الكبير، وذلك بين كلّ ألف واحد بعدّة وسلاح قال: والتقى الجمعان، وعمل الضرب والطعان، وحامت النسور والعقبان، وحمل الشجاع وفرّ الجبان، وعلا الغبار، وثار القتار، وطلع من طنين السيوف الشرار، وكان يوما عسيرا (10) على جميع الكفّار. هذا وقراسنقر قد حمل فيمن استخاره من البهادريّة ممّن ذكرنا وإلى جانبه تلك بن صمغار، وعملا عملا عظيما حتى أدهش الأبصار. ولعبت مماليكه بالنفط والنار. فولّت أكاديش القادمين من التتار، لقلّة خبرتهم بهذه الآثار. وكذلك حمل آقوش الأفرم والزردكاش وبلبان الدمشقىّ، وفعلوا أفعال الشجعان الأبطال، وحقّقوا ما ذكروه أرباب السير فى دلهمة والبطال (15). ولم يزل السيف يعمل، والدم ينزل، ونار الحرب تشعل، إلى بعد الظهر تتعتع صاروبغا، وجفلت خيوله من النار ودقّ الكوسات ونعير البوقات. وولّوا أكثر عساكره لا يلوون على شى. وثبتت البهادريّة وصبروا صبر الكرام، وقد صمّموا على الموت. وامتلأت تلك القفار من رمم القتلى، <و> عادت تلك البرارى من جيفهم ملأى (20)، إلى أن فنى نشّاب عساكر طقطاى، وعاد الذقن بالذقن. هنالك عملت السيوف، وحضرت

(10) يوما عسيرا: يوم عسير (15) دلهمه والبطال: كذا فى الأصل ولعل صوابه «ذوى الهمة والأبطال» (20) ملأى: ملآ

الحتوف، وانتقصت تلك الصفوف، لمّا طارت منهم الجماجم والكفوف، وولّى عسكر طقطاى طالب الديار، وقد تشتّتت جموعهم فى تلك البرارى والقفار. وتقنطر صاروبغا مقدّم الجيوش، ولولا كان فى أجله تأخير لكان عاد رزقا للوحوش. وقتل عليه نيّف وألف فارس. وكان الذى قنطره تلك بن صمغار، فلم تزال جيوشه وبهادريّته حوله حتى ركّبوه بعد ما قتل منهم عليه عالم كثير. فلمّا ركب ولّى هاربا (6) وتبعه أصحابه. وركب جيش الملك خدابنداه أكتافهم قتلا وأسرا. وثمّ قراسنقر خلفهم بمن معه. وغرق أكثرهم فى تلك العيون والأنهار، وتبعوهم إلى آخر ذلك النهار. وكسب جيوش خدابنداه من الخيول والمماليك والجوار، ما لا يقع عليه عيار. وجرّد قراسنقر خلفهم عسرة مقدّمين، وقدّم عليهم الزردكاش، وطقتمر بن بولاى، وكجرك بن عليناق، وأمير حسن بن ششكت، وتلك بن صمغار. وساقوا خلفهم من أوّل الليل إلى أن طلع النهار، وردّوا المال الذى كان خلفهم من بعيد والأغنام والأبقار، وخيل القمز والدشار، والحريم والأولاد الصغار وكان أكثر عساكر الملك خدابنداه قد كسب الكسب الكثير ودخل بين الأشجار. فردّ عليهم صاروا بغا فى جماعة تقدير عشرة آلاف فارس ليأخذ منهم ويخلّص من أيديهم الحريم والأطفال. فالتقاه الزردكاش فيمن توجّه معه ممّن ذكرنا، واصطدموا صدمة عظيمة أعظم من أوّل ملتقى. وكان تلك بن صمغار، فارسا (19) كرّار، وبطلا مغوار، فعمل عملا عظيما إلى آخر ذلك النهار. وبلغ قراسنقر ذلك، فساق فى ثلاثة آلاف فارس

(6) هاربا: هارب (19) فارسا: فارس--وبطلا: وبطل--عملا عظيما: عمل عظيم

ملبّسة كأنّهم شعلة نار، ولحق الزردكاش وهو فى أشدّ الخناق، فأردفه. وكانت الفيصلة بين الفريقين، وزعق فى عساكر صاروبغا غراب البين ورجع قراسنقر وقد كسر الأعدا، وتبعهم إلى آخر مدى. وكان أيضا قد التقى تلك بن صمغار لصاروا ابغا فى هذه النوبة وطعنه طعنة ماكنة كاد يقضى عليه. فولّى وهو مجروح، وهو على نفسه ينوح. ووصلوا إلى عند الملك خدابنداه، ونزلوا وضربوا جوك، وهنّوه بالنصر والتأييد، وكيف بلّغه الله ما كان يقصد ويريد. فقرّب قراسنقر إليه، وقبّل رأسه وعينيه، وشكر له ذلك الصنيع. ثمّ عاد وتشكّر للجميع. فقال قراسنقر: الله يحفظ القآن، اشكر الله تعالى على ما أولاك من نصره فى هذا اليوم الذى ما جرى لأحد من قبلك، لا من آبايك ولا جدودك! وهذا عسكر طقطاى كان قدر عسكر القآن أضعافا (11) مضاعفة. وإنّما التأييد كان من الله تعالى، وسعادة القآن عظيمة. -فقال الملك خدابنداه: هذا ما يعتدّ به إلاّ ببركتك وبركة الأمرا، والله يعيننى على مكافأتكم! -وأعرض قراسنقر عساكر خدابنداه، فنقص أحد عشر ألف فارس. وعدّوا قتلى عسكر طقطاى، فكانوا أحدا وثلاثين ألفا، خارجا عمّا غرق وهلك، وإنّما هؤلاء عدّة ما أفناهم السيف. وكانت هذه الوقعة بمرج جبل العشار، وتبعوهم إلى تمرقابوا ورجع خدابنداه فرحا مسرورا بما أنعم الله عليه من النصر على أعداه، وفرّق على أصحابه الخيول والبخاتى والمماليك والجوارى (19). وأنعم على قراسنقر ورفقته بشى كثير. ونزل على نهر تزلك، وهو كثير الأعين والأشجار

(11) أضعافا: اضعاف (19) والجوارى: والجوار

ذكر ما جرى لعسكر طقطاى لما عادوا هاربين

ذو (1) أراضى فسيحة، وأماكن شرحة مليحة. فأعجبه ذلك المكان وأمر أن يعمّر به قصر أبلق بالحجر الأخضر والأسود والأبيض. ورسم لكلّ أمير أن تعمّر له بذلك المكان دار. وضرب للقصر شبابيك فضة وذهب وسمّاه دمشق. والتهى فى الأكل والشرب ومنادمة آقوش الأفرم مع حظيّته (5) نجمة خاتون هيلا ميلا. وكانت هذه من أعزّ الخلق على قلبه وإذا رقصت تشدّ ستّة أقداح فى ذوايبها ملآنة خمر وتفتل بهم ما يصيب القدح أخوه، وهو على دينار تحت كعبها لا تخرج عنه ولا عن دخول الضرب دقّة واحدة، فكانت أعجوبة الوقت ذكر ما جرى لعسكر طقطاى لمّا عادوا هاربين قال الناقل لهذه الأخبار: لمّا رجع عسكر طقطاى إليه مكسورين، وعلى أعقابهم ناكصين، لم يصل إليه منهم إلاّ القليل النادر، وهم الأقويا منهم، والباقى هلكوا فى الطرقات، لبعد المسافة وعدم الأقوات. والذين (12) وصلوا إلى الملك طقطاى (13) خبّروه بما جرى عليهم، وما كان سبب كسرتهم إلاّ (14) الأمرا المصريّين، وأنهوا له جميع ما فعلوه من آلات الحروب التى لا كانوا يعهدوها من بيت هلاوون من قبل ذلك التأريخ. فصعب على القآن طقطاى، وجهّز رسولا (16) إلى الأبواب الشريفة السلطانيّة يشكو ما قد جرى على عساكره من قراسنقر ورفقته. وكان هذا الرسول اسمه بكلمش بن قنجو بغا، وكان يقرب للملك طقطاى وهو عندهم كبير جليل القدر

(1) ذو: ذات (5) حظيته: حضيته (12) والذين: والذى (13) طقطاى: خدابنداه، مصحح بالهامش (14) إلا: الى (16) رسولا: رسول

قال: فعن قليل وصل الرسول المذكور إلى الأبواب العالية، وورد الخبر بذلك، وأنّه وصل إلى ثغر الإسكندريّة المحروس. فسيّر مولانا السلطان الأمير سيف الدين آقول الحاجب، والتقاه ملتقى (3) حسنا. وكان صحبته تقدير ثلاث ماية نفر كبار وصغار، ومماليك وجوار، وحضر صحبته وفى خدمته أخو سكران التاجر الفرنجىّ، وحضروا إلى الباب الشريف. وأنزلوا فى الكبش على بركة الفيل. ورتّبوا لهم الراتب الكثير. وبعد ثلاثة أيّام استحضرهم مولانا السلطان، ونظر الرسول إلى ترتيب الملك بالديار المصريّة مع هيبة مولانا السلطان التى تكاد تفلق الحجر وتحيّر البصر، فدهش وحار، وعلاه الانبهار، ولم يطيق الكلام إلاّ (9) بعد ساعة حتى ردّ روعه إليه، وأدىّ الرسالة، وهو يتلجلج فيها. وقدّم ثمانين مملوكا تركا وعشرين جارية كالبدور الطلع. هذا والأمرا والمقدّمين وقوف، صفوفا صفوف (11)، وقد لبسوا الكلوتات الزردكش والطرز الزركش. وجلس مولانا السلطان -خلّد الله ملكه، وجعل الدنيا بحذافيرها ملكه-فى الإيوان الجديد وخلفه ألف مملوك كأنّهم اللؤلؤ والمرجان، وماية سلحدار، والأمير سيف الدين أرغون النايب واقف بين يديه، وبكتمر الحاجب كذلك، وثمانين طيردار، وشرف الدين أمير حسين بن جندر أمير شكار، وكذلك كسرى لأجل طيور التقادم. وكان من جملة كلام الرسول، بين يدى المواقف الشريفة يقول: ابن عمّك يسلّم عليك ويهنّيك بهذا الملك الذى أعطاك الله، ولم يكن اليوم شى مثل ملكك. -ثمّ أنهى صورة ما جرى على عساكره من قراسنقر ورفقته. ولولا هم ما كان عسكر خدابنداه له عندنا قدر. وعمرنا

(3) ملتقى حسنا: ملتقا حسن (9) إلا: الى (11) صفوفا صفوف: صفوف صفوف

نكسرهم ونهلك بلادهم. -وتحدّث بجميع ما كان معه، ومن جملة ذلك يطلب عددا وسلاحا (2)، إنعاما من السلطان عليه. فأقبل مولانا السلطان عزّ نصره عليه إقبالا جيّدا (3)، ورسم له بجميع ما طلب، وأخلع على الرسول خلعة سنيّة، طرد مقصّب بطرز زركش وحياصة ذهب بثلاث بياكير وكلوتة زركش وركب مولانا السلطان يوم السبت إلى الميدان ولعب الأكرة، وركب الرسول ونظر شيئا (7) أدهشه ورعا. أحكى شهاب الدين المهمندار أنّه قال: ما ثمّ ملك إلاّ ملك مصر! -وذلك لمّا عاين الموكب وتلك الخلايق العظيمة، فبهت لعظم ما قد عاين. ثمّ أمر له بألف جوشن وألف خوذة وألف بركستوان بقيمة كبيرة، وكان الرسول قد أحضر معه جلد دبّ وسقنقود وسيرم. وأنعم مولانا السلطان عليه بطريق الهديّة إلى الملك طقطاى عدّة صناديق قماش تعابى سكندرىّ وعمل الدار، وعدّة كلوتات زركش وحوايص ذهب. وقال له: سلّم على ابن عمّى وقل له: يسيّر إلىّ جوارى ملاحا (14) ومماليك قبجاق، وعرّفه إذا تحرّك خدابنداه عليه يسيّر إلىّ (15)، أعبر إليه من قدّامه ويجى هو من خلفه، ونخرّب دياره، ونقلع آثاره، وأىّ مكان وصلت خيلى يكون لى، وأىّ مكان وصلت خيله يكون له، ونملك بغداد ونعيد الخليفة إلى كرسىّ خلافته، إنشا الله تعالى. -وتوجّه الرسول عايدا إلى بلاده وسافر من ثغر الإسكندريّة

(2) عددا وسلاحا: عدد وسلاح (3) إقبالا جيدا: اقبال جيد (7) شيئا: شى (14) إلى جوارى ملاحا: اليه جوار ملاح (15) إلى: اليه

ذكر [حوادث] سنة أربع عشرة وسبع ماية

وفى أوّل هذه السنة مع أواخر سنة اثنتى عشرة أخرب باب شادية الذى كان بجوار باب القرافة، ودخل به فى الميدان المستجدّ الذى تحت القلعة المنصورة، عمّرها الله بدوام أيّام مولانا مالكها ذكر [حوادث] سنة أربع عشرة وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما لخص من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (7) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر سلطان الإسلام والمسلمين، أدام الله أيّامه إلى يوم الدين والنوّاب: الأمير سيف الدين أرغون بالديار المصريّة، والأمير سيف الدين تنكز بالديار الشأميّة، والوزير بالديار المصريّة: بدر الدين محمد بن التركمانىّ شادّ الأموال بغير وزارة، والحاجب: الأمير ركن الدين بيبرس أمير آخوركان، والأمير سيف الدين طينال، والأمير سيف الدين آقول المحمدىّ، وأمير النقبا علاء الدين طيبرس الخزندارىّ ولقد جمع الله تعالى فى ذلك الزمان، لمولانا السلطان، أربعة أركان، حتى عادت محاسن دولته تتلى آياتها بكلّ مكان، وهم: كريم الدين الكبير وسياسته، وعلاء الدين بن الأثير ورياسته، والقاضى فخر الدين وهيبته، وبهاء الدين أرسلان الدوادار ودربته. فهؤلاء ممّن أشرقت عليهم أشعة أنوار شموس سعود مولانا السلطان، فتجمّل الوجود بوجودهم حتى

(7) أبو: ابى

تعلّقت محاسن أيّامهم بأجنحة العقبان، وتسامرت بلذاذة أحاديثهم عند التهويم على الكثبان ألسنة الركبان، حتى عاد عندهم فى الأجفان، ألذّ (2) من سنة الوسنان. ولم يعلم أنّه اجتمع فى دولة من الدول كهؤلاء الأربعة من أوّل زمان، إلاّ فى دولتين (4) من دول الإسلام: إحداهما فى أيّام بنى أميّة، وهى دولة مروان بن محمد بن مروان، والثانية فى أيّام بنى العبّاس، وهى دولة المعتضد بالله أمير المؤمنين فى ذلك الأوان. وقد ذكرنا هاتين الدولتين (7)، وشاهدنا هذه الدولة فصدّق سماع العيان، سقى الله ثراهم غوادى الرحمة والرضوان، وعوّضهم عن دنياهم قطوفا (8) دانية بجوار الرحمن، وجعل ما نقص من أعمارهم وأعمار كلّ من تشرّف بخدمة هذه الدولة القاهرة زيادة فى عمر مولانا السلطان، أنوشروان الزمان، وشاه أرمن الأوان، الذى من لحظته عنايته الشريفة فاز فى الدنيا بالإنعام وفى الآخرة بالغفران وفيها توفّى الأمير سيف الدين سودى الجمدار نايب حلب المحروسة فى العاشر من شهر جمادى الأوّل، وتولّى مكانه الأمير علاء الدين ألطنبغا الحاجب وفيها مسك الأمير سيف الدين تمر الساقى نايب أطرابلس، وتولّى عوضه الأمير سيف الدين كستاى الناصرىّ وفيها مسك الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، واستقرّ مكانه الأمير ركن الدين بيبرس أمير آخور حسبما ذكرناه

(2) ألذ: اللذ (4) دولتين: دولتى (7) هاتين الدولتين: هاتان الدولتان (8) قطوفا: قطوف

ذكر أخذ ملطية وصفتها

ومسك مع بكتمر الحاجب الأمير علاء الدين أيدغدى <بن> شقير والأمير سيف الدين بهادر المعزّىّ. وكان كاشفا بالوجه القبلىّ، فعند حضوره مسك واعتقل مع الأمرا المذكورين وفيها كان أخذ ملطية وتوجّه العساكر المصريّة ستة آلاف فارس مع الشأميّين جميعهم ذكر أخذ ملطية وصفتها لمّا كان يوم الخميس ثامن عشرين شهر ذى القعدة برزت المراسم الشريفة السلطانيّة بتجريد ستّة مقدّمين ألوف من الأمرا المصريّين وهم: الأمير سيف الدين بكتمر السلحدار الأبوبكرىّ، والأمير بدر الدين بن الوزيرىّ، والأمير سيف الدين أركتمر الجمدار الناصرىّ، والأمير سيف الدين قلى، والأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، والأمير علم الدين سنجر الجمقدار، وجميع مضافيهم من الأمرا والأجناد والمقدّمين. وتوجّهوا إلى الشأم المحروس قاصدين ملطية. ودخلوا إلى دمشق تاسع عشرين شهر ذى الحجّة. ثم توجّه صحبتهم العساكر الشأميّة بكمالهم، والمقدّم على الجميع الأمير سيف الدين تنكز نايب دمشق. ووصلوا إلى ملطية وحاصروها وفتحوها يوم الأحد ثالث عشرين المحرّم من سنة خمس عشرة وسبع ماية، ويسّر الله فتحها على المسلمين، وغنموا منها غنايم جيّدة وأمّا طريقها التى توجّهوا فيها العساكر المنصورة ففيها ماية وخمس وعشرين عقبة كبار خطرة، دقيقة المسالك صعبة المرتقى، تقدير المسير فى كلّ عقبة ثلاث ساعات. وكان لمّا توجّه العسكر المنصور من عين تاب مهّدوا الطرق بالحجّارين، وأصلحوا المقاطع بالأخشاب على الأودية على

عقبتين منها خاصّة، طول كلّ مقطع ثلاثين ذراعا بذراع العمل، وعرض الجسر الخشب ذراع واحد، فكان جواز العساكر عليها، وسلّم الله عزّ وجلّ وكان الزحف عليها نهار الأحد ثانى عشرين المحرّم. فخرجوا إليهم بالمفاتيح وطلبوا الأمان. فأمّنوهم من جانب، والجوانب (5) الأخر لم تعلم بذلك. فهجموا عليهم منها (6)، وأخربوا وأحرقوا ونهبوا وكسبوا وقتلوا من نصاراهم جماعة. ورحلوا عنها يوم الاثنين ثالث عشرين المحرّم، ونزلت العساكر مرج دابق وأعرضوا الأسارى. فكلّ من كان مسلما (8) أو مسلمة أعتقوه وسلّموه لأهله، ومن لا له أهل أودعوه الحاكم. وعادوا سالمين غانمين فرحين مسرورين، ببركات سيّد الملوك والسلاطين وفيها حضر الشريف رميثة بن أبى نمىّ صاحب مكّة، وأخبر بقتل أخيه أبى الغيث وفى يوم السبت ثامن عشرين رجب أفرج الله تعالى عن الأمير جمال الدين نايب الكرك وأخلع عليه وفى شهر شعبان وقع حريق بالقلعة المحروسة وسلّم الله وفى هذا الشهر برزت المراسم الشريفة السلطانيّة بقياس الديار المصريّة بسبب الروك المبارك، وتوجّهوا الأمرا إلى ساير الأقاليم بسبب ذلك

(5) والجوانب: والاجانب (6) منها: منه (8) مسلما: مسلم

ذكر الروك المبارك الناصرى

ذكر الروك المبارك الناصرىّ ندب لعمل الروك المبارك القاضى تقىّ الدين كاتب برلغىّ كان، الأحول قرابة التاج بن سعيد الدولة المقدّم ذكرهما. فأخرج الجهات جميعها بمصر والقاهرة عن المقطعين وجعلها خاصّا، وأقطع البلاد بمقتضى مقترح الروك، وفرّقت المثالات فى العشر الأخير من ذى الحجّة سنة ستّ عشرة وسبع ماية (6). وخرجت المناشير الشريفة لاستقبال ثلث مغل سنة خمس عشرة وسبع ماية والتالى لاستقبال صفر سنة ستّ وسبع ماية (7). وبرزت المراسم الشريفة بإبطال جملة عظيمة من المظالم. وسمح وجاد بما لم يجود به أحد من الملوك الأجواد، وهى ساحل الغلّة وساير فروعها، وهى الخرّوبة والثمن والوزانة والقداحة والسمسرة واللقطة، ورسوم الولاية بساير أصنافها، وجهد ثمن العبى بساير الأعمال بالديار المصريّة ومقرّر البيوت، ومقرّر الفرسان وقدوم المناشير وكتاب الولاة، ونصف سمسرة الدلالة، وطرح الفروج، ونوّاب الولاة والمقرّر على المقدّمين والرسل بساير البلاد، وحقوق السجن وعداد النحل وبدل الولاة والنظّار والمستوفيين وجناية الشاشة، وضمان المشاعليّة، وشدّ الحكّام، وضمان مسالخ الجلود الميّتة، وقطايع العربان، وضمان الطريق، وتخريص (16) النخل، وحقوق النحّالين، وضمان الملح، ورسم أوراق الطريق بالشرقيّة، ورسم مناشير النقيب، وجباية الرماة، والمسامحة بألاّ يطلب الحىّ عن الميّت ولا الحاضر عن الغايب، إذا

(6) سنة ست عشرة وسبع ماية: بالهامش (7) والتالى لاستقبال صفر سنة ست وسبع ماية: بالهامش (16) تخريص: خرس؟؟؟

ذكر [حوادث] سنة خمس عشرة وسبع ماية

لم يكن ضامنا ولا كفيلا. فكان ذلك جملة عظيمة لا تنحصر. فسمحت بجميع ذلك نفسه الشريفة، وادّخر بها عند الله تعالى فى الجنان أعلى درجة منيفة ذكر [حوادث] سنة خمس عشرة وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما لخص من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (7) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر مالك نواصى ملوك الآفاق، من مغرب الشمس إلى حدود الإشراق، مقلّدها المنن فى الأعناق، لاستقرار ممالكهم فى أيديهم، فتقلّدوا هذه المنن حتى عادت كالأطواق والنوّاب بالممالك الناصريّة، أدام الله أيّام سلطانها ملك البريّة: الأمير سيف الدين أرغون النايب بالديار المصريّة، والحجّاب بالأبواب العالية: الأمير ركن الدين بيبرس، والأمير سيف الدين طينال، والأمير سيف الدين آقول، وأمير النقبا علاء الدين طيبرس الخزندارىّ، وبالشأم: الأمير سيف الدين تنكز ملك الأمرا بالشأم المحروس بدمشق المحروسة، والأمير علاء الدين ألطنبغا بحلب، والأمير سيف الدين كستاى بطرابلس، والملك عماد الدين نايبا بحماة، والأمير سيف الدين بلبان طرنا بصفد، والأمير علم الدين الجاولى بغزّة، والملوك بالأقطار حيث قدّمنا القول من ذكرهم فى سنة عشرة وسبع ماية

(7) أبو: ابى

ذكر [حوادث] سنة ست عشرة وسبع ماية

فى أوايلها كان فتوح ملطية، وقد تقدّم القول بذلك. وفيها كان تفرقة المثالات بالروك المبارك، وقد تقدّم القول فيه، واستقرّت الأحوال كذلك، والله أعلم ذكر [حوادث] سنة ستّ عشرة وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما لخص من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (7) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر مالك الأمصار، وقد ذلّت له ملوك الأقطار، والنوّاب بمصر والشام، حسبما تقدّم من الكلام، فى ذلك العام، وكذلك ملوك الأقطار، فى ساير الأمصار وفيها أفرج الله تعالى عن الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، وأخلع عليه، ورسم له بنيابة صفد عوضا عن بلبان طرنا وفيها توجّه الأمير سيف الدين أرغون نايب مصر إلى الحجاز الشريف وفيها وردت الأخبار، أنّ خدابنداه ملك التتار، توفّى سادس ذى الحجّة، وكان (15) سبب وفاته زوجته قطلوشاه خاتون بنت أرنجان خال الملك خدابنداه، باتّفاق من الوزير خواجا رشيد والحكيم جلال الدين، سقوه دواء مسهّلا مسموما، فتوفّى من ليلته (17). وجلس بمملكة التتار ولده أبو سعيد

(7) أبو: ابى (15 - 17) وكان. . . ليلته: بالهامش--دواء مسهلا مسموما: دوا مسهل مسموم

ذكر تملك أبى سعيد الملك وجلوسه على التخت بملك التتار

ذكر تملّك أبى (1) سعيد الملك وجلوسه على التخت بملك التتار كان لخدابنداه ثلاثة أولاد وهم: أبو يزيد، وبسطام، وأبو سعيد هذا وهو أصغر الثلاثة. وكان قد ملك أبو (4) يزيد خراسان، فتوفّى بها. وتوفّى أيضا بسطام فى حياة أبيهما. ولم يبق له من الأولاد غير هذا أبى سعيد. فلمّا توفّى أبوه خدابنداه بالسبب المقدّم ذكره فى التأريخ المذكور اجتمعت آراء الأمرا الكبار من التوامين وآراء الخواتين على تمليكه وهو يومئذ دون الحلم، وكفله جوبان وعاد مدبّر الدولة والغالب على الأمور، وكان له ولد يسمّى دمشق خجا، يقال إنّ أمّ أبى سعيد كانت ترى له. فعاد له منزلة كبيرة فى الدولة، لا يفعل شى إلاّ عن رأيه، وكان أكبر أولاد جوبان. وكانوا عدّة منهم دمرداش الآتى ذكره ودخوله الديار المصريّة تحت الطاعة السلطانيّة الناصريّة، أعلى الله منارها. وكان نايبا بالروم، فلمّا جرى لأبيه وإخوته ما نذكره فى تأريخه قصد الأبواب الشريفة، أعلاها الله تعالى. وكان خدابنداه قبل موته قد فسدت عقيدته، وأظهر أمورا قباحا (14)، وكان الذى حسّن له ذلك شخص يسمّى (14_). . . ادّعى أنّه شريف وانتحل نسبا ليس بصحيح، ولعب بعقل خدابنداه وكثير من أرباب دولته وكبارها. ثمّ إنّ المذكور بعد وفاة خدابنداه قتل أشرّ قتلة مع جميع أهله وأقاربه ومن كان يقول بقوله. وقام بهذا الأمر جوبان بحسن إسلامه وعقيدته فى حديث طويل، هذا ملخّصه، والله أعلم

(1) أبى: ابو (4) أبى: ابو (14) أمورا قباحا: امور قباح (14_) بعد «يسمى» بياض يسع الاسم

ذكر [حوادث] سنة سبع عشرة وسبع ماية

وفيها برزت المراسم الشريفة بإبطال ما كان يستأدونه من الفواحش لمهتار الطبلخاناه (2) السلطانيّة بمصر والقاهرة، وذلك أنّه كان له دار تسمّى دار الزعيم، ولهم ناس يدورون على جوارى (3) الناس وعبيدهم يفسدونهم ويهرّبونهم. فإذا هربت الجارية أو العبد يأتون إلى تلك الدار بظاهر باب زويلة، فيعطون خمسين درهما حتى يعيدوه إليه، وأشيا غير ذلك قباح ذكرها. فبطّل مولانا السلطان جميع ذلك، آجره الله تعالى ذكر [حوادث] سنة سبع عشرة وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما لخص من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (10) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر أعزّ الله أنصاره، وكثّر أعوانه، وأدام أيّامه، وخلّد ملكه وزمانه، سلطان الإسلام وملك الأنام، والنوّاب بمصر والشام، حسبما تقدّم من الكلام، وكذلك الملوك، على هذا السلوك نكبة حدثت فى هذه السنة بمدينة بعلبكّ بالشام. وذلك لمّا كان سابع شهر صفر من هذه السنة وقت العصر جاءت (15) بعلبكّ غمامة سودا نظروا فى وسطها (16) عمود نار طوله من السماء إلى الأرض حيث أدرك البصر، وأرعدت رعدا عظيما (17) ما عهدوا مثله فى طول الأعمار حتى سقطت لهوله الحوامل. وتبع ذلك صواعق متداركة. ثمّ مطرت عليهم مطرا

(2) الطبلخاناه: الطبلخاه (3) جوارى: جوار (10) أبو: ابى (15) جاءت: جآأت (16) وسطها: وصطها (17) رعدا عظيما: رعد عظيم

كأفواه القرب. ثمّ جاهم بعد ذلك سيل عظيم من شرقيّها حتى لطم البلد وسورها، فاقتلع من السور برجا عظيما. ثمّ احتمله وجرّه على وجه الأرض فى الماء واستصحب معه بدنة من بدنات السور وحذفهما مقدار خمس ماية ذراع، وتفسّخ البرج وكان دوره أربعين ذراعا. ثم دخل السيل الجامع حتى وصل القناديل، وغرّق كلّ من كان فيه. وإنّ ابن الشيخ الحريرىّ طلع إلى المنبر فانقلب به وغرق. وأخرب السيل الحايط الشماليّة، ولم يسلم من الذين كانوا بالجامع غير إنسان واحد، حمله الماء إلى رأس عمود كان هناك، فتعلّق به فنجا. وأخرب تقدير خمس ماية دار ما عاد عرفت ولا أساسها. وهذا ما اختصرته من هذه الكاينة وذكر أيضا أهل الصعيد بمصر أنّ فى هذه السنة أيضا أنت إلى أسوان ريح سودا منتنة الرايحة فأهلكت ما ينيف عن ألف نفر نسا ورجال وأطفال وورد أيضا الأخبار أنّ فى هذه السنة أتت ريح عاصفة بساحل عين تاب على روق تركمان، كانوا نزولا (14) بها، احتملت بقرهم وغنمهم وخراكهم (15) وعلّقتهم ما بين السما والأرض، ثمّ مزّقتهم تمزيقا مع عدّة من النساء والأطفال من أولاد التركمان حتى إنّ صاجات النحاس التى يعملوا عليها الرقاق لمّا نزلوا وجدوهم وقد تطوّوا على بعضهم البعض لعظم ما عصفت بها الريح. فلله الأمر وله الحكم والتدبير {وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (18) وفيها كان تجريدة إلى السودان ببلاد النوبة وعيذاب وإلى الحجاز

(14) نزولا: نزول (15) خراكهم: كذا فى الأصل، ولعل المقصود جمع كلمة «خركاه» --تمزيقا: تمزيق (18) السورة 67 الآية 1 وفى سور أخر.

وفيها توجّه الركاب الشريف إلى الكرك المحروس. ثمّ عاد مع سلامة الله وعونه وفيها توفّى الأمير بهاء الدين أرسلان الدوادار رحمه الله. واستقرّ بالدواداريّة الشريفة الأمير سيف الدين ألجاى الدوادار. وكان دوادارا مع الأمير بهاء الدين أرسلان وفيها تولّى الحجبة الشريفة الأمير سيف الدين ألماس عوضا عن الأمير ركن الدين بيبرس. وكان ألماس جاشنكيرا، فنقله مولانا السلطان حاجبا، واستقرّ كذلك وفيها حصل الغضب من السطوات الشريفة على أحد مماليكه، وهو آقبغا الحسنىّ، ووسّط خزنداره وقطع جماعة وأكحل جماعة، لأمر تحقّقه عنهم، نصره الله تعالى. ثمّ بعد يومين أطلق آقبغا الحسنىّ وأخلع عليه، فلله درّه من ملك، ما أسعد من أطاعه، وما أشقى من عصاه، فآيته فى العاصى السيف، لا آية العصاه، وآيته فى الطايع الإنعام من عطاه، والأمن من غضبه وسطاه وفيها كانت الزينة بمصر والقاهرة ما شهد الناس مثلها، وذلك لما منّ الله تعالى به على الأنام، بعافية سيّد ملوك الإسلام، وذلك ببركات النبىّ عليه السلام. فإنّه كان-كفاه الله شرّ حوادث الزمان ونكبات الأيّام- حصل له تشويش يسير، ثمّ منّ الله على هذه الأمّة بصحّة مزاجه الشريف، وذلك صدقة من الرءوف اللطيف، فلله الحمد وله الثنا الحسن الجميل، على صحّة مزاج هذا الملك الجليل. وكانت هذه الزينة فى حادى عشرين رمضان المعظّم من هذه السنة

ذكر [حوادث] سنة ثمان عشرة وسبع ماية

ذكر [حوادث] سنة ثمان عشرة وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما لخص من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر سلطان الإسلام، أعزّ الله بدوام أيّامه الأيّام، والنوّاب بمصر والشام، حسبما تقدّم من الكلام وفيها حصل الغضب على طغاى الناصرىّ، ورسم له نيابة صفد، فأقام أشهرا (8) يسيرة. ثمّ أعيد واعتقل، وكان آخر العهد به وفيها عزل بدر الدين بن التركمانىّ عن شادّ الدواوين واستخلاص الأموال، واستبدّ (10) بالأمر القاضى كريم الدين الصغير الناظر بغير وزارة. وليس معه مشدّ سوى سيف الدين أبى (11) بكر بن قشور. وقام كريم الدين المذكور فى خلاص الأموال السلطانيّة أتمّ قيام وفيها كان ابتداء العمارة فى الجامع الناصرىّ بالقلعة المحروسة، وانتهى فى مدّة أربعة أشهر وخمسة وعشرين يوما. وسنذكر أيضا تجديد بناية فى تأريخه، ونذكر عند ذكرنا له جميع ما استجدّ فى أيّام مولانا السلطان خلّد الله ملكه من الجوامع فى ساير ممالكه، وما عمر من بيوت يذكر فيها اسمه، إنشا الله تعالى وفيها توفّى القاضى زين الدين بن مخلوف المالكىّ رحمه الله تعالى وتولّى القاضى تقىّ الدين الأخنايى مكانه. ولم يكن فى العصر مثله، لدينه

(8) أشهرا: أشهر (10) واستبد: والاستبد (11) أبى: أبو

ذكر [حوادث] سنة تسع عشرة وسبع ماية

وسمته وعفّته وطهارته وأمانته، نفعنا الله ببركاته، وفسح للمسلمين فى حياته! وفيها توفّى الأمير شمس الدين سنقر الكمالىّ بالاعتقال فى شهر ربيع الآخر، رحمه الله وفيها وصل للأبواب الشريفة أربع ماية وتسعة عشر سنقر، تقدمة لمولانا السلطان عزّ نصره، وعوّض أصحابها ثلاث ماية ألف درهم. وكان شخص واحد منهم إفرنجىّ من البنادقة أحضر من جهته خاصّة نفسه ماية وسبعة سناقر، وهذه العدّة التى وصلت للأبواب الشريفة من هذه السناقر لم يعهد أن وصل مثلها ولا قريب منها فى زمن من الأزمان من أوّل وقت وإلى ذلك التأريخ، وإنّما منهل الجود كثير الوفود كما قيل <من الطويل>: ترى الناس ورّادا إلى باب ملكه … فرادى وأزواجا كأنّهم النمل قد ازدحموا فى مورد الفضل والعطا … وكلّ امرئ قد عمّه ذلك الفضل ذكر [حوادث] سنة تسع عشرة وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما لخص من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (16) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر مالك الوجود، وقد عمّ الوفود منه بالجود، حتى عادت أبوابه الشريفة كعبة المحتاج، لا كعبة الحجّاج، وغاية الأمل

(16) أبو: ابى

حتى خبطت إليها آباط الإبل، من سهلها والجبل، متّع الله الوجود بوجوده، حتى لا تخلو (2) بقعة من بقاع الأرض من كرمه وجوده وفيها فى الحادى والعشرين من المحرّم توجّه المجرّدين إلى الغرب وعدّتهم أمرا طبلخانات تسعة، عشراوات عشرة وهم (4). . . وفيها حجّ مولانا السلطان عزّ نصره الحجّة الثانية، وفى خدمته الملك عماد الدين إسماعيل صاحب حماة. وكان توجّه الركاب الشريف من الديار المصريّة يوم الخميس تاسع شهر ذى القعدة وكان وصوله-تقبّل الله منه وأبرّ سعيه-إلى مكّة شرّفها الله تعالى سادس شهر ذى الحجّة. وكان وصوله فى خير وسلامة إلى محلّ ملكه وكرسىّ سلطانه-بعد ما عمّ الحجاز وأهله بجوده وإنعامه وإحسانه-ثانى شهر المحرّم من سنة عشرين وسبع ماية وفيها توفّى القاضى فخر الدين بن أبى سعد تاسع عشرين جمادى الآخر، رحمه الله وفيها توفّى الشيخ نصر المنبجىّ سابع عشرين الشهر المذكور. رحمة الله عليه وفيها توفّى الأمير علاء الدين طيبرس أمير نقبا الجيوش المنصورة رحمه الله فى سلخ شهر ربيع الآخر. وكان فيه برّ وصدقة ومعروف وعدم طمع فى أموال الناس، وهو صاحب المدرسة التى بجوار جامع الأزهر، ودفن بها، رحمه الله. وتولّى عوضه الأمير شهاب الدين أحمد بن جمال الدين آقوش المهمندار. وأضيفت إليه مع ما كان بيده من

(2) تخلو: تخلا (4) بعد «وهم» بياض سطرين ونصف يسع عدة الأمراء

ذكر [حوادث] سنة عشرين وسبع ماية

المهمنداريّة، ومشى فيها مشيا حسنا (1)، واتّبع طريقة علاء الدين طيبرس فى الأمانة، وقام بأمر الوظيفتين قياما جيدا (2) ذكر [حوادث] سنة عشرين وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم، مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا واثنين وعشرين إصبعا ما لخص من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (7) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر سلطان الأمصار، فى ساير الأقطار، وجميع الملوك تهاديه، ويخشوا أن يكونوا من أعاديه والنوّاب بمصر والشام، حسبما نذكر الآن من الكلام: الأمير سيف الدين أرغون النايب بالديار المصريّة، والحجّاب بالأبواب العالية: الأمير سيف الدين ألماس الجاشنكير، والأمير سيف الدين طينال، والأمير سيف الدين آقول المحمدىّ، والمتحدّث فى الأموال: كريم الدين الصغير الناظر، وبالجيوش المنصورة: القاضى فخر الدين محمد، وبديوان الإنشا: القاضى علاء الدين بن الأثير، وأمير النقبا بالجيوش المنصورة: شهاب الدين أحمد بن المهمندار، والدوادار: الأمير سيف الدين ألجاى، وأمرا جانداريّة: الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدىّ، والأمير سيف الدين آلدمر، والحسنىّ، والقاضى كريم الدين الكبير مدبّر الدولة ووكيل الخاصّ الشريف وناظر

(1) مشيا حسنا: مشى حسن--طريقة: طرقه (2) الوظيفتين قياما جيدا: الوضيفتين قيام جيد (7) أبو: ابى

ذكر تملك الملك عماد الدين حماة وركوبه

خزانة الخاصّ، والنوّاب بالممالك الشأميّة: الأمير سيف الدين تنكز ملك الأمرا بالشأم المحروس بدمشق المحروسة، والأمير علاء الدين ألطنبغا بحلب المحروسة، والأمير سيف الدين كستاى بطرابلس المحروسة إلى حين (3) وفاته فى هذه السنة، وتولّى الأمير شهاب الدين قرطاى الحاجب بدمشق، (4) والأمير سيف الدين أرقطاى نايب صفد بحكم عودة بكتمر الحاجب إلى الديار المصريّة، واستقرّ بها أميرا مقدّما، والأمير علم الدين الجاولى بغزّة والملوك بأقطار الأرض حسبما وصل إلى العبد من ذكرهم. فيها سلطن مولانا السلطان الملك عماد الدين إسماعيل وملّكه حماة ذكر تملّك الملك عماد الدين حماة وركوبه وذلك لمّا كان يوم الخميس سابع عشر شهر الله المحرّم من هذه السنة، برزت المراسم الشريفة السلطانيّة الملكيّة الناصريّة-لا زالت تعلى ممالك الملوك من ذوى الاستحقاق، وتعيدها إلى مراتبها العليّة فى ساير الآفاق-بأن يملّك الملك المؤيّد عماد الدين إسماعيل بن الأفضل نور الدين علىّ بن الملك المظفّر تقىّ الدين (14) محمود بن الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفّر تقىّ الدين (15) عمر بن شاهنشاه بن أيّوب مملكة حماة، على ما كان عليه أجداده الملوك الكرام، ومولانا السلطان عزّ نصره عضده وحماه. ولبس خلعة الملك بالمدرسة المنصوريّة، وشقّ القاهرة فى التأريخ المذكور بثلاثة سناجق، أحدهم خليفتىّ، وتحته فرس برقىّ، وحملت الغاشية السلطانيّة بين يديه، وضربت الشبابة قدّامه، وزعقت الجاويشيّة

(3 - 4) إلى حين. . . بدمشق: بالهامش (14 - 15) تقىّ الدين. . . الملك المظفر: مكرر بالهامش

أمامه. ونزل الأمير سيف الدين أرغون النايب بالديار المصريّة والتقاه من تحت القلعة من عند الطبلخاناه السلطانيّة. ولبس فى ذلك اليوم الأمير سيف الدين ألماس أمير حاجب أطلس كامل بكلوتة زركش وحياصة ذهب، وكذلك الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدىّ أمير جاندار مثله، وكذلك الأمير علاء الدين أيدغمش أمير آخور مثله، وكذلك الأمير سيف الدين قجليس أمير سلاح مثله، وشهاب الدين بن المهمندار أمير نقبا الجيوش طرد وحش كامل، والأمير شمس الدين صواب الركنىّ مقدّم المماليك السلطانيّة مثله، وصاروجا النقيب كنجىّ أحمر، ومحمد الجاويش بغلطاق، وكلّ من هؤلاء فى منزلته على جارى العادة عند ركوب مولانا السلطان عزّ نصره. وحصل له من الجبر والإنعام فوق ما كان فى أمله، وهذه من جملة ما يعتدّ بها من حسنات مولانا السلطان خلّد الله ملكه، واستقرّ صاحب حماة وصاحب اليمن: الملك المؤيّد هزبر الدين داود بن الملك المظفّر بحاله، وصاحب ماردين: الملك الصالح بن الملك المنصور بن المظفّر الأرتقىّ المقدّم ذكره، وصاحب مملكة التتار بالعراقين وخراسان: الملك أبو سعيد ابن خدابنداه المقدّم ذكره، وصاحب مملكة التتار أيضا بما ورا النهر: الملك كبك بن جبار بن قيدوا بن قنجى، وصاحب مملكة التتار أيضا ببلاد بركة: الملك أزبك بن (18). . . .، وصاحب مملكة التتار بالبلاد الشماليّة: الملك كلك بحكم وفاة أبيه منغطاى فى هذه السنة، وصاحب التخت ببلاد الصين: الملك قاآن قلاصاق شرمون بن منقلاى، وصاحب

(18) بعد «بن» بياض ثلث السطر يسع بقية الاسم

الهند ببلاد دلى: الملك المسعود محمود بن شيخو عتيق أيتامش الغورى، وملوك المغرب حسبما اتّصل بنا فى هذا الوقت ما نحن ذاكروه: صاحب مرّاكش:. . .، صاحب تونس:. . .، صاحب الأندلس:. . . (4) فهؤلاء ما اتّصل بنا من أسماء هؤلاء الملوك فى هذا التأريخ المذكور، وما وراهم، فعلمهم عند الله عزّ وجلّ. ولعلّ من يعلم من أمورهم ما لا نعلمه وفيها حضر ناصر الدين محمد بن الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب من الحجاز الشريف، وخبّر بقتل حميضة بن أبى نمىّ صاحب مكّة فى العشرين من شهر جمادى الآخرة. واستقرّ بمكّة أخواه رميثة وعطيفة (9)، وناصر الدين منصور بن جمّاز بن شيحة صاحب المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام بحاله وفيها أفرج الله تعالى عن جماعة من المعتقلين وهم: الشيخ علىّ الكبير، ومنقجار (13)، ومنكلى السلحدار، وعشرة نفر لم يكونوا أمرا. وفى يوم الخميس خامس عشر صفر أحضر من الإسكندريّة من الاعتقال عشرة نفر، أفرج الله تعالى عن أربعة وهم: سنجر الأحمدىّ، وطوغان نايب البيرة، والصارم العينتابىّ، وطاجار البكرىّ، وأودع البقيّة الاعتقال بقلعة الجبل المحروسة. وفى يوم السبت سابع عشر صفر أفرج الله أيضا عن جماعة أخر وهم: قبجق الطويل الساقى، ومغلطاى السيواسىّ، وأيدمر الشيخىّ، والحاجّ بلبك، ومغلطاى إيتغلى، وسنقر الكمالىّ الصغير. وفى يوم الأحد خامس عشرين صفر أحضر بهادر الإبراهيمىّ وأيدغدى التقوى، وأكحلا،

(4) مكان الأسماء بياض فى الأصل (9) وعطيفة: بالهامش (13) ومنفحار: كذا فى الأصل

وذلك أنّهما كانا معتقلين (1) بثغر الإسكندريّة، فتحيّلا وهربا من السجن. وكان معهما شخص آخر من المماليك السلطانيّة يسمىّ سيف الدين رمضان، فلم يوافقهما على الهروب. فأفرج عنه، وأنعم (3) عليه بإقطاع جيد نكتة: كان أيدغدى التقوى لمّا خرج أمير الركب إلى الحجاز الشريف، كان فى الركب ولد لنور الدين ريّس الكحّالين يسمّى صدر الدين، أسود اللون، وكانت أمّه سودا. فحصل منه ما أدّى (6) التقوىّ أنّه أنزله عن مركوبه، وتركه فى البرّ الأقفر بغير زاد ولا مركوب وأراد هلاكه. وكان فى أجله تأخير، فتوصّل إلى الديار المصريّة بعد الركب بأشهر. فلمّا رسم بتكحيل هذين النفرين أكحلهما (9). ثمّ قيل إنّهما ينظران، فأحضرا ثانى دفعة. وأحضروا من يكحلهما. فأجمعوا الأطبّاء أنّهما لا يفيد فيها إلاّ الحديد بشى من عدّة الكحل يسمّى أبى عيشى، أجارنا الله تعالى، فرسم بذلك. فلم يقدم على ذلك أحد. فتقدّم هذا صدر الدين بن نور الدين الذى كان فعل معه ما فعل وقال: أنا أكحلهما بأبى عيشى. - فلمّا تقدّم للتقوىّ قال له: من أنت؟ -قال: أنا الذى أردت هلاكى، وأراد الله بقايى حتى مكّننى منك. -فقال: افعل ما يستعملك الله! - ففقأ أعينهما بالمبضع المذكور. فانظر إلى صنع الله عزّ وجلّ وممّا يحكى من جملة سعادة مولانا السلطان-زاده الله زاده وزاده، وبلّغه فى الدارين غاية الأمل والإرادة-أن بلغ المسامع الشريفة فى هذه السنة أنّ ببلاد البحرين حصانا (19) أشقر قليل المثل فى وقته، فأرسل مولانا

(1) معتقلين: معتقلان (3) وأنعم. . . جيد: بالهامش (6) أدى: اوذا (9) أكحلهما: أكحلاهما (19) حصانا: حصان

السلطان فى طلبه، وعاد الخاطر الشريف متعلّقا به، لكثرة ما وصف له من صفات ذلك الحصان المذكور. ثمّ اتّصل بالمسامع الشريفة أنّ الفرس المذكور وصل إلى الشأم المحروس. فأرسل البريد فى طلبه ورسم ألاّ يشتريه أحد (4) من العربان ولا من غيرهم. وعاد مولانا السلطان كثير التطلّع إلى أخباره والحثّ على حضوره. فلمّا وصل البريد المتوجّه فى طلب الفرس إلى سبخة السوادة وجد الفرس المطلوب بها، وهو مع جماعة من العرب قادمين به إلى مولانا السلطان، ومعه حجرة أخرى تقاربه فى صفاته. وقرّب الله البعيد، على طلب هذا الملك السعيد، ووصل إلى مولانا السلطان بعد مدّة ستّة أيّام من سماع خبره. وكان اسم صاحبه برجس بن سلطان العامرىّ من عرب البحرين. وكان وصول الفرس المذكور يوم الخميس سادس ربيع الآخر. وقد قال فى ذلك جلال الدين الصفدىّ البريدىّ أبياتا فالمستحسن منها: (13) … يا مليك الأرض الذى أصبحت نعمته بين الورى جاريه (13_) إنّ الحصان الأشقر الصيحمى … أتى يمشى فى خدمته جاريه يجرى إلى الخدمة مستبشرا … والحجرة أيضا معه جاريه وفى غد قد أقبلت حجرة … تدعى الكحيلية لا الجاريه وستّة هن خوات لها … الكلّ ستات بلا جاريه (17) وفيها قبض على الأمير علم الدين سنجر الجاولى الأمير سيف الدين ألماس أمير حاجب وسيّر إلى الأبواب العالية تحت الحوطة صحبته ثمانية مماليك من مماليك ألماس. وكان العبد قد توجّه على البريد لتجهيز الخيول

(4) أحد: احدا (13 - 17) الأبيات من بحور مختلفة ومضطربة الوزن (13_) الذى: التى

بالمنازل لأجل توجّه القاضى كريم الدين الكبير إلى القدس الشريف. فوصل الأمير علم الدين إلى المنزلة السعيديّة ثانى يوم من شهر رمضان المعظّم من هذه السنة المذكورة، وسلّم إلى الأمير علاء الدين مغلطاى الجمالىّ ثالث يوم من رمضان. فأخذه من بستان مولانا السلطان من بركة الحجّاج وتوجّه به فى الحرّاقة إلى ثغر الإسكندرية، فأقام بها حتى أفرج الله عنه فى تأريخ ما يأتى ذكره، ثمّ خرج الأمير صارم الدين الجرمكىّ على حوطته. ثمّ ولى مكانه بغزّة الأمير حسام الدين لاجين الصغير من أمرا دمشق وفى خامس عشرين ربيع الأوّل وصل الأمير سيف الدين أطرجى (9) من بلاد بركة من عند الملك أزبك وصحبته الآدر الشريفة بنت أخى أزبك، وحضر معها رجل مقعد، وقاضى يسمّى نور (11)، وقالوا: إنّ هذا القاضى هو الذى أهدى الملك أزبك إلى الإسلام، ومعهم جمع كبير. وأنزل بها فى الميدان الظاهرىّ، وحضر أيضا معهم رسل كبار من جهة الملك أزبك ورسل الفرنج. وحضر صحبتهم سكران التاجر الإفرنجىّ ورفيقه. استحضرهم مولانا السلطان عزّ نصره وتحدّث معهم. وكان معهم عدّة مماليك وجوار. ثمّ استحضر مولانا السلطان الرسل وذلك الرجل المقعد، وعقدوا العقد الشريف. ثمّ نزل الأمير سيف الدين أرغون النايب والأمير سيف الدين بكتمر الساقى والقاضى كريم الدين الكبير إلى الميدان، وطلعوا بالخاتون الجليلة، وهى على عربة صفة عجلة ملبسة الثياب المذهبة زىّ لبس البلاد. وذكروا أنّ الرسل والمماليك والجوارى (20) وسكران التاجر ورفيقه جميعهم كانوا فى مركب واحد، وأنّ مشتراه على صاحبه ثمانين

(9) أطرجى زت: اطوجى، انظر السلوك ج‍ 2 ص 177 (11) نور: نور (20) والجوارى: والجوار

ألف دينار، ولكنّه شراها خمسين ألف دينار وشيئين وطريده (1) استصحبوهم معهم. وكان عدّة الجماعة الواصلين ألفى نفر وأربع ماية نفر، توفّى منهم فى البحر أربع ماية نفر، ووصل الباقى إلى الأبواب الشريفة. وكان عدّة المماليك الواصلين مع التجّار أربع ماية نفر وأربعين مملوكا، اشترى منهم مولانا السلطان مايتى مملوك وأربعة مماليك بمبلغ ألف ألف درهم نقرة، والباقى اشتروهم الموالى الأمرا. ثمّ فى يوم الجمعة سلخ ربيع الآخر كتب القاضى علاء الدين بن الأثير رحمه الله الكتاب الشريف السلطانىّ فى شقّة أطلس أبيض بالذهب المحلول، فجا مدهشة لمن يراه، وكان مبلغه ثلاثين ألف دينار حالّة. وتضمّن الكتاب خطبة عظيمة القدر جامعة البراعة إلى البلاغة. وكانت نسختها عند العبد، فعدمت، ولم اقدر لها على نسخة، فأثبتها هاهنا وممّا يؤرّخ من جملة سعادة مولانا السلطان-جعل الله سعده بداية بلا نهاية-ما حكاه لى والدى رحمه الله، أنّ السلطان الملك الظاهر رحمه الله طلب جرمك الناصرىّ وقال له: أريدك تحصّل لى رجلا عاقلا ديّنا كافيا (14) أرسله إلى بلاد بركة فى مهمّ. -فأحضر له رجلا (15) بهذه الصفة. فسفّره إلى بلاد بركة وأعطاه جملة مال وأوصاه أن يشترى ويتوقّع له على جارية تركيّة من تلك البلاد. فتوجّه وغاب مدّة طويلة وعاد، ولم يقدر على تحصيل جارية، ومولانا السلطان-أعزّ الله أوليايه، وخذل أعدايه فى أدنى إشارة من إشاراته! -حملت له بنت أكبر ملوكهم، وهو المخطوب لا الخاطب (20)، والمرغوب لا الراغب. وهؤلاء القوم أكبر بيوت التتار،

(1) وشيئين وطريده: كذا فى الأصل (14) رجلا عاقلا دينا كافيا: رجل عاقل دين كافى (15) رجلا: رجل (20) الخاطب: خاطب

فإنّهم بيت باتوا، وهذا باتوا أكبر عظم القآن جكز خان. وكان لهم من القسمة فى الغنايم من الفتوحات التى افتتحتها التتار من أوّل زمان الخمس، يحمل إلى بيت باتوا مهنّيا ميسّرا، من غير أن يكون لهم مع من يفتح البلاد جيش (4) ولا مقاتلة، بل يحمل لهم الخمس على سبيل الخدمة. وبيت هلاوون دونهم فى المنزلة وهم عندهم كالنوّاب لهم، لا يعتدّون لهم بأصالة فى عظمهم، وإنّما هؤلاء يعرفون بينهم بالمغربة، أعنى بيت هلاوون. وبيت باتوا من أكابر الأصول فى العظم، وهذا من أعظم سعادات السلطان، حضور بنت أزبك بخطبة من مولانا السلطان لها، وإجابتهم لذلك تقرّبا للخواطر الشريفة السلطانيّة. وهذا شى ما جرى لملك من ملوك مصر أبدا، فسبحان من أطاع لمولانا السلطان الملوك الجبابرة، ملاّك أملاك الأكاسرة والقياصرة وفيها توفّى القاضى زين الدين المحتسب الأسعردىّ سادس عشر شهر رمضان المعظّم، وكان إنسانا جيّدا مباركا، عليه سكينة ووقار ورياسة وأمانة ونهضة (14) وسياسة، رحمه الله. وتولّى عوضه القاضى نجم الدين بن أخيه واستقرّ كذلك. وخرجت عنه وكالة بيت المال المعمور، ووليها القاضى قطب الدين السنباطىّ

(4) جيش: جيشا (14) ونهضة: ونهظة

ذكر [حوادث] سنة إحدى وعشرين وسبع ماية

ذكر [حوادث] سنة إحدى وعشرين وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم. مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا (2) واثنا عشر إصبعا ما لخص من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (5) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر سلطان الإسلام، وأيّامه لذاذة كالأحلام، والنوّاب بمصر والشام، حسبما سقنا من الكلام، فيما تقدّم فى ذلك العام، وكذلك ساير الملوك، على هذا السلوك فيها حجّت الآدر الشريفة طغاى، صان الله حجابها، وخرج فى خدمتها جماعة من الأمرا الكبار، فكانوا حجّابها، وهم: الأمير سيف الدين قجليس أمير سلاح من الديار المصريّة، والأمير سيف الدين تنكز نايب الشأم. وتوجّه بين يديها الكوسات والعصايب السلطانيّة والسناجق. ورتّب القاضى كريم الدين الكبير فى خدمتها، وخرج فى ركاب محفّتها. وحمل الخضراوات مزروعة مباقل على الجمال، واهتمّ همّة ما رأى (14) الناس مثلها إلاّ إن كانت حجّة جميلة بنت ناصر الدولة، إحدى بنات ملوك بنى بويه الديالمة، وقد ذكرتها فى كتابى المسمّى «بحدايق الأحداق ودقايق الحذّاق» وإنّ من جملة ما فعلت أنّها أسقت الناس بالموسم فى جميع أيّام التشريق السويق بالسكّر الطبرزد، بالثلج مبرّد، وأنّها أخلعت على الجبل بعد لبس المخيط ألفا (19) وثمان ماية خلعة، وفرّقت من الذهب العين ثلاثين ألف دينار وأشيا ذكرها أبو منصور الثعالبىّ فى كتابه المسمّى «لطايف المعارف» وهى أوّل

(2) ذراعا: داعا (5) أبو: ابى (14) رأى: راء (19) ألفا: ألف

من استنّت محامل البقولات مزروعة على أظهر الجمال مع عدّة من أصناف الرياحين، وكذلك كانت حجّة الآدر الشريفة خوند طغاى فى أيّام مولانا وسيّدنا ومالك الرقبا (3) السلطان الأعظم الملك الناصر عزّ نصره وفيها كان بدوّ الحريق العظيم بمصر والقاهرة. وكان من فعل النصارى، وسببه أن برز المرسوم الشريف بخراب كنيسة الكرج التى كانت تعرف بالحمرا. فشرع العامّة فى هدم عدّة من الكنايس وهم: كنيسة الزهرى، كنيسة أبى (7) متّى، كنيسة السبع سقايات، كنيسة الفهادين، كنيسة حارة برجوان، كنيسة رملة الحسينيّة، كنيسة بالقاهرة، الجملة سبع كنايس أخربوها العامّة ونهبوا منها (9) أشيا كثيرة. فشرعوا النصارى فى الحريق بمصر والقاهرة فى ساير الأماكن. ولقد بلغنى أنّهم تسمّوا بالمجاهدين، وهم الذين كانوا تجرّدوا لهذا الفعل. وكانوا يرمون الخرق المحشوّة بالزيت والكبريت ويؤرّثون فيها النار ويحذفونها فى أسطحة البيوت ويدفنونها تحت الأبواب الخشب. وعادت أيّام شنيعة، وكلّ أحد خايف وجل على نفسه وملكه وماله. وأحرقت عدّة دور حسنة لها صورة. وعادوا النصارى يزعمون أنّ النار تنزل من السما، ليوهموا أنّ ذلك لسبب خراب كنايسهم. ثمّ إن النصارى طلبوا فاختفوا، ومسك منهم جماعة، وعوقبوا، فمنهم من أقرّ ومنهم من احتمل العقوبة ولم يقرّ وفيها رجمت العامّة القاضى كريم الدين الكبير عند خروجه من الميدان ورجع هاربا، ومسك جماعة منهم الولاية وعوقبوا. ثمّ إنّ ذلك كان أوّل بدوّ خمول القاضى كريم الدين، فنعوذ بالله من الخمول الذى يؤول إلى زوال النعم

(3) الرقبا: رقبا (7) أبى: أبو (9) منها: منهم

ذكر [حوادث] سنة اثنتين وعشرين وسبع ماية

ذكر [حوادث] سنة اثنتين وعشرين وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم. مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا وستّة عشر إصبعا ما لخص من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (5) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم الملك الناصر، سلطان ممالك الدنيا، وقد فاق بملكه على الملوك الأموات والأحيا، زاد الله أيّامه علوّا وشبابا ونموّا والنوّاب: الأمير سيف الدين أرغون نايب الديار المصريّة، بالأبواب العالية، والمتحدّث فى أمور الوزارة: كريم الدين الناظر، والحجّاب بالأبواب الشريفة: الأمير سيف الدين ألماس الجاشنكير، والأمير سيف الدين طينال، وآقول المحمدىّ، وأمير جانداريّة: الأمير ركن الدين الأحمدىّ، وسيف الدين آلدمر، والحسنىّ، وأمير النقبا: شهاب الدين أحمد بن المهمندار، والقاضى كريم الدين الكبير مدبّر الدولة وناظر الخاصّ الشريف، والقاضى فخر الدين ناظر الجيوش المنصورة، والقاضى علاء الدين بن الأثير صاحب ديوان الإنشا الشريف. والدوادار: الأمير سيف الدين ألجاى والملوك بالأقطار حسبما تقدّم من ذكرهم فى السنة الخالية، خلا صاحب اليمن الملك المؤيّد هزبر الدين داود، فإنّه توفّى إلى رحمة الله تعالى، وولى الملك ولده الملك المجاهد علاء الدين علىّ. وتغلب عليه ابن عمّه الملك الظاهر، واقتلع منه عدّة قلاع من أعمال اليمن

(5) أبو: ابى

وفيها أحضر قاتل الشريف حميضة بن أبى نمىّ إلى بين يدى المواقف الشريفة السلطانيّة، يوم الأربعا ثالث شهر شوّال، وأمر بضرب عنقه، فضربت رقبته بين يدى المواقف الشريفة وفيها فى سادس عشر شوّال توجّه الأمير سيف الدين أرغون إلى الحجاز الشريف وفيها حضر رسول الملك أبى (6) سعيد إلى الأبواب العالية. وفى جملة ما طلب الملا كمين من الديار المصريّة، فسيّروا إليه على البريد المنصور وفيها حضر رسل سيس إلى الأبواب العالية. وصحبتهم هدايا حسنة، وسألوا (9) الصلح وفيها مسك الأمير سيف الدين بكتمر الأبوبكرىّ واعتقل وفيها توفّى الشيخ نجم الدين بن عبّود رحمه الله، وكان له منزلة كبيرة فى الدول وعند الأكابر. وكان يعمل كلّ سنة مولد سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وينفق فيه أموالا (13) عظيمة فى الأطعمة والحلاوات، وتهاديه فى ذلك جميع الأكابر ويحضروا عنده. ولقد بلغنى أنّه فى مولد من جملة الموالد فضل عمّا عمل فى ذلك (15) المولد أربع ماية قمع سكّر، ثلاث ماية وثمانين رأس غنم، خارجا عن بقيّة الأصناف. وكانت وفاته ثالث شوّال

(6) أبى: أبو (9) سألوا: سأل (13) أموالا: أموال (15) ذلك: تلك

ذكر [حوادث] سنة ثلاث وعشرين وسبع ماية

ذكر [حوادث] سنة ثلاث وعشرين وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وسبعة أصابع ما لخص من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (5) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر سلطان الأرض، الذى طاعته على كلّ مسلم فرض، والنوّاب حسبما تقدّم من ذكرهم فى السنة الخالية، وكذلك ملوك الأقطار وفيها ولد مولانا ابن مولانا السلطان الأعظم الملك الناصر، وهو المقرّ الأشرف السيفىّ أنوك، نجل السادة الأفاضل السلاطين الملوك، فماء الورد من الورد متّخذ، والشبل فى المخبر مثل الأسد، عضّد الله الولد بالوالد وبالوالد الولد، بمحمد وآل محمد (12) وفيها الثانى من جمادى الأوّل حضر الأمير ركن الدين بيبرس السلحدار بالبشارة بفتح أياس من سيس، وكان توجّه إليها فى السنة الخالية خمسة آلاف فارس من الديار المصريّة، يقدمهم خمسة مقدّمين، وهم: الأمير جمال الدين نايب الكرك، والأمير سيف الدين ألماس، والأمير علم الدين سنجر الجمقدار، والأمير سيف الدين أصلم السلحدار، والأمير سيف الدين طرجى أمير مجلس، بعدّتهم ومضافيهم. فأخلع مولانا السلطان على الأمير ركن الدين المبشّر، وأعاده بمرسوم شريف على يده بحضور العساكر المصريّة

(5) أبو: ابى (12) بمحمد وآل محمد: بالهامش

إلى مصر، وأن يستقطع فى الشأم من الأمرا المجرّدين أربعة نفر، وهم التليلىّ، وعبد الملك، وبهادر الغتمىّ، وقطلوبغا طاز وفيها مسك القاضى كريم الدين الكبير وولده علم الدين عبد الله يوم الخميس رابع عشر ربيع الآخر. ووقع الاحتياط على جميع موجوده الظاهر. وكان العبد قد توجّه قبل مسكه بعشرة أيّام، فجهّزت له خيل البريد فى جميع منازل الرمل درك العربان. وأقمت أنتظره بمنزلة السعيديّة. وخرج الطلب الذى له صحبة علىّ بن هلال الدولة على جارى عادته، ونزل بالسعيديّة ليلة الخميس. فلمّا أصبح نهار الخميس مسك كريم الدين. وخرج الأمير سيف الدين قطلبغا المغربىّ على البريد بسبب الحوطة على الطلب بسبب الخزانة التى كانت خرجت صحبة ابن هلال الدولة. فسبق الخبر بمسك كريم الدين. فاتّفق علاء الدين بن هلال الدولة مع شخص يسمّى نجم الدين بن بدير العبّاسىّ من أهل العبّاسة، وأعطاه ستّ هجن ذهب ولؤلؤ وفصوص، فتسلّمهم وتوجّه بهم من الطريق البدريّة إلى العبّاسة. وطلع قطلبغا المغربىّ فى الطريق السلطانيّة، فلم يجد فى الطلب خزانة واحتوى ابن هلال الدولة وابن بدير العبّاسىّ وشخص يسمّى عبد الله البريدىّ على تلك الأموال الجمّة، وصانعوا عليها. واستمرّ أمر ابن هلال الدولة واستقام حاله وأخذ طبلخاناه. وعاد يتحدّث فى جميع مناصب الدولة جليلها وحقيرها حتى بصّر الله تعالى مولانا السلطان. فقبض عليه فى سنة أربع وثلاثين وسبع ماية، حسبما نذكر من خبره فى تأريخه. ولمّا مسك كريم الدين أخذ من عنده أموال جليلة، وأشهد على نفسه أنّ جميع ما يملكه لمولانا السلطان عزّ نصره، وشغرت ساير مناصبه. ثمّ أفرج عنه يوم السبت تاسع عشر الشهر المذكور، وتوجّه إلى تربته بالقرافة،

أقام بها. وتولّى مكانه بنظر الخاصّ القاضى تاج الدين إسحق، وكان مستوفيا بالأبواب العالية، وتولّى من مناصب كريم الدين نظر الأوقاف المنصوريّة بالبيمارستان والمدرسة الأمير جمال الدين نايب الكرك. وتولّى من مناصب كريم الدين أيضا نظر الأوقاف بجامع أحمد بن طولون الأمير سيف الدين قجليس أمير سلاح الناصرىّ، فسبحان الدايم بلا زوال، مغيّر حال بعد حال وما أحسن قول الحكما هاهنا: إنّ شبيه أصحاب السلطان كقوم رقوا إلى جبل، ثمّ سقطوا منه، فكان أبعدهم فى المرقى أقربهم إلى التلف، بقدر الصعود (9) يكون الهبوط. -وقولهم: صاحب السلطان كراكب الأسد، الناس تهيّبه وهو لمركوبه أهيب. -وقولهم: السلطان كالنار، إن قربت منها احترقت وإن بعدت عنها لم تنتفع بها، فالعاقل من اقتبس منها وهو على حذر. -وقولهم: مرقة السلطان حارّة، من حساها بلا حساب احترقت شفتاه. قلت أنا: مال السلطان مسموم، من أكله تخرّطت أمعاه، ولا يفيد فيه الجواهر، فلو أفادت فيه الجواهر، لمّا هلك الظاهر. - ومن قول الشاعر <من المتقارب>: إذا ما خطيت (16) … إلى رتبة فإيّاك والدرج العاليه وكن فى منزل (17) … إذا ما وقعت تقوم ورجلاك فى عافيه ولمّا نكبت البرامكة قال الرشيد رضى الله عنه لأحمد بن أبى خالد- ومن (19) رواية أنّ الكلام كان للفضل بن الربيع-وقد كان قام بالأمر بعدهم: يا أحمد، إيّاك والدالّة على الملوك، فإنّ البرامكة أصيبوا منها

(9) بقدر. . . الهبوط: بالهامش (16) خطيت: كذا بالأصل، صوابه خطوت (17) منزل: الوزن لا يستقيم به (19) ومن. . . الربيع: بالهامش

وفيها عزل كريم الدين الصغير أيضا عن نظر الدولة فى سادس عشر ربيع الآخر، وولى صاحب ديوان الجيوش المنصورة. ثمّ مسك يوم السبت العشرين من هذا الشهر وولده سعد الدين أبو الفرج، وصودرا وحمل من جهتهما أموال جمّة وغلال كثيرة ومواشى عديدة. وكان كريم الدين الناظر المذكور فيه عفّة عن الأموال السلطانيّة. وكان صاحب متجر وزرع وغيره، وكان سلطا سفيها جريئا (6) قوىّ الجنان وفيها وزر الصاحب أمين الدين أمين الملك بن العنام الوزارة الثانية رابع عشرين شهر ربيع الآخر. وكان بطّالا مقيما (8) بالقدس الشريف، فطلب وأخلع عليه، ووزر وفتح الشبّاك الذى للوزارة. واستقرّ شرف الدين بن زنبور خال القاضى فخر الدين ناظر الجيوش المنصورة ناظر النظّار بالديار المصريّة، وكان قبل ذلك مستوفى الصحبة الشريفة. وكان ضعيف الكتابة عاريا (12) من المعرفة، وإنّما كان ذلك كما قالت العرب: الخيل ترعى بالحصان المربوط. -فكان سبب تنقّله القاضى فخر الدين وحرمته فى الدولة. ثمّ تخلّص كريم الدين الصغير الناظر (15)، وتوجّه ناظرا إلى صفد وفيها كان الصلح بين المسلمين والتتار، وذلك بحسن تدبير مولانا السلطان وبركة سياسته التى تحيّر فيها الأفكار، حتى عادت أسمارا على ألسنة السّمّار، وكان ذلك على يد مجد الدين السلامىّ التاجر السفّار. ثمّ حضر فى هذه السنة رسول الملك أبى (19) سعيد، وسأل المراحم الشريفة على

(6) سلطا سفيها جريئا: سلط سفيه جرى (8) بطالا مقيما: بطال مقيم (12) عاريا: عارى (15) ناظرا: ناظر (19) أبى: ابو

الصلح، فأنعم له مولانا السلطان بذلك لما رأى (1) فيه من الحظّ والمصلحة للإسلام، فجزاه الله عن رعيّته ورعايته خير الجزا، الذى فى أيّامه اطمأنّت نفوس العالم، وقد (3) كانت المخاوف من قبل {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} وذكر أن الهدنة وقعت بينهما لمدّة عشر سنين وعشرة أيّام. وكان سبب هذا الصلح المبارك جوبان، فإنّه كان مسلما حسنا، وكان قد وصل إليه مجد الدين السلامىّ من الديار المصريّة وصحبته أربع أرؤس خيل، تقدمة له من عنده بعدد سلطانيّة مصريّة. فاختشى جوبان أن يقبلهم لا يعرفوا عليه، فيقال: أنت تكاتب صاحب مصر وهؤلاء خيول مصر. -فأشار على السلامىّ أن يقدّمهم لأبى سعيد، فقدّمهم له. وكان ذلك سبب الصلح فى حديث طويل، هذا ملخّصه وفيها كان الابتدا فى عماير سرياقوس، فعمر بها القصر والخانقاه والحمّام والبساتين ومناظر حسنة وميدان وغير ذلك، وكان ذلك فى سلخ ذى الحجّة من هذه السنة وفيها توفّى القاضى نجم الدين بن صصرى قاضى قضاة الشأم بدمشق المحروسة. وولى عوضه القاضى جمال الدين الزرعىّ حسبما يأتى من تتمّة الكلام فى تأريخه إنشا الله تعالى

(1) رأى: راء (3) وقد. . . أزا: بالهامش--تؤزهم: تأزهم--السورة 19 الآية 83

ذكر [حوادث] سنة أربع وعشرين وسبع ماية

ذكر [حوادث] سنة أربع وعشرين وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وأربعة عشر إصبعا ما لخص من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر سلطان العالم، كتبه الله آخر الدهر سالم، والنوّاب بمصر والشام، حسبما سقناه من الكلام، فى تلك الأعوام فيها تولّى الوزارة الأمير علاء الدين مغلطاى الجمالىّ الناصرىّ عوضا عن أمين الدين بن العنام يوم <الخميس> ثامن رمضان المعظّم (9). ورسم على أمين الدين، ثمّ عفى عنه وأطلقه، ونزل إلى بيته وفيها أحضر كريم الدين الصغير من صفد، وأخذ منه أموالا أخر. وكان قد تولّى نظر الدولة القاضى شمس الدين غبريال. أتى به من دمشق. ثمّ أخلع على كريم الدين الصغير، وسيّر ناظرا بدمشق عوضا عن شمس الدين غبريال. واستقرّ مع غبريال فى النظر شهاب الدين بن الأقفاصىّ، وكان فى البيوت وفيها أحضر كريم الدين الكبير من القدس الشريف صحبة الأمير سيف الدين قطلبغا المغربىّ وتوجّه إلى أسوان. ثمّ وصل الخبر فى العشرين من شهر شوّال من هذه السنة أن كريم الدين الكبير شنق نفسه بمدينة أسوان. فرسم بحضور ولده عبد الله. وظهرت له بعد ذلك ودايع وذخاير

(9) ثامن رمضان المعظم: السبت سلخ ربيع الآخر؛ مصحح بالهامش

وأموال، وراح له شى كثير مع التجّار الإفرنج، فإنّه كان يودعهم الأموال العظيمة، وكان نيّته الهروب إلى بلاد الإفرنج فى تلك السنة التى مسك فيها، فلم يمهل. فإنّه كان قصد أن يدخل الجزاير مرّة فى مرّة من ثغر الإسكندريّة، فلم يمكنه ذلك لما فى الثغر من الاحتراز. فحسّن لمولانا السلطان تلك السنة أنّه يتوجّه يعمّر اللاذقيّة، ويجعلها مينا كإسكندريّة، وكان نيّته غير ذلك، وأن يتوجّه منها إلى الجزاير ببلاد الإفرنج. فعاجله مولانا السلطان وقبض عليه بقوّة سعده، زاده الله من فضله، وانقطع خبر كريم الدين الكبير حتى كأن لم يكن. فسبحان الدايم الذى لا ينقطع، وارث الأرض ومن عليها، الذى هو كلّ يوم فى شأن (9) وفيها حجّ القاضى فخر الدين ناظر الجيوش المنصورة، وعاد فى السنة الأخرى ثالث المحرّم، ولم يرا أسرع من عودته وفى شهر شعبان رسم بحفر الخليج الناصرىّ إلى سرياقوس وفيها حضر الأمير بدر الدين بكمش الظاهرىّ وبدر الدين أبو غدة (13) من بلاد بركة، فإنّه كان توجّه فى سنة ثلاث وعشرين وسبع ماية. فحضر صحبتهما رسل من الملك أزبك وصحبتهم هدايا حسنة وفيها حضرت رسل الملك أبى (16) سعيد، وصحبتهم هديّة أبى سعيد، وذلك يوم الاثنين ثامن ذى الحجّة، وهى عدّة قطر بخاتىّ مزيّنة ملبسة وعليها صناديق بجلود بلق، وخيل مسرجة بعددها وهديّة حسنة. وهذا شى ما عهد قط أن تسيّر ملوك المغل مثل هذه الهديّة، فالحمد لله الذى أيّد الملّة المحمديّة، والحمد لله الذى اختصّ سلطاننا بهذه الفضيلة، وأفرده بهذه الموهبة الجزيلة، والحمد لله على هذه النعمة التى أوفت على

(9) هو كل يوم فى شأن: قارن السورة 55 الآية 29 (13) وبدر الدين أبو غده: بالهامش (16) أبى: ابو.

النعم، واستغرقت مدى (1) الأفضال والكرم، فأدام الله أيّام دولته، ولا قلّص عنّا ظلّ نعمته! وفيها حضر ملك التكرور طالبا للحجاز الشريف، واسمه أبو بكر بن موسى. وحضر بين يدى المواقف الشريفة وقبّل الأرض. وأقام بالديار المصريّة سنة حتى توجّه إلى الحجاز. وكان معه ذهب كثير، وبلاده هى البلاد التى تنبت الذهب. وسمعت القاضى فخر الدين ناظر الجيوش المنصورة يقول: سألت من ملك التكرور: كيف هى صفة منبت الذهب عندهم؟ -فقال: ليس هو فى أرضنا المختصّة بالمسلمين، بل فى الأرض المختصّة بالنصارى من التكرور، ونحن نسيّر نأخذ منهم صفة حقوق لنا موجبة عليهم. وهى أراضى مخصوصة تنبت الذهب على هذه الصورة: وهو قطيعات صغار مختلفة الهندام، فشئ شبه الحليقات الصغار، وشى شبه نوى الخرّوب ومثل ذلك. -قال القاضى فخر الدين: فقلت: فلم لا تغلبوهم على هذه الأرض؟ -فقال: إذا غلبناهم وأخذناها منهم لم ينبت شى. وقد فعلنا ذلك بطرق (14) عديدة، فلم نرا فيها شيئا. فإذا عادت لهم نبتت على عادتها. وهذا الأمر من أعجب ما يكون. ولعلّ هذا لزيادة فى طغيان النصارى. -ثمّ إن ملك التكرور وأصحابه اشتروا من القاهرة ومصر من ساير الأصناف. وظنّوا أنّ مالهم لا ينفد. فلمّا استغرقوا فى المشترى ووجدوا أصناف هذه الديار لا لها حدّ يحدّ، وكلّ يوم ينظروا شيئا (19) أحسن من شى نفد ما كان معهم، واحتاجوا للقرض. فأقرضهم الطمّاعة من الناس رجا الفايدة الكبيرة فى عودتهم. فراح جميع

(1) مدى: مدنى؟؟؟ (14) بطرق: طرق--شيئا: شى (19) شيئا: شئ

ذكر [حوادث] سنة خمس وعشرين وسبع ماية

ما اقترضوه على أربابه، ولم يرجع لهم منه شى. ومن جملة ذلك لصاحبنا الشيخ الإمام شمس الدين بن تازمرت المغربىّ، أقرضهم ذهبا (2) له صورة جيّدة. فلم يعود إليه شئ. ثمّ إنّ هؤلاء القوم تعجّبوا لهذه الديار وسعة ما فيها، وكيف استغرقت جميع أموالهم ولا تكمل أغراضهم فى المشترى حتى احتاجوا وعادوا يبيعوا ما كانوا شروه بنصف قيمته. وكسب الناس عليهم كسبا جيّدا (6_)، والله أعلم. وأحسن (6) لهم مولانا السلطان إحسانا كبيرا، وألبسه خلعة الملك من جهته. وقلّده الخليفة تقليدا من قبله والتزم أنّه يخطب فى بلاده باسم مولانا السلطان، وكذلك السكّة. وهذا ما عهد لصاحب مصر غير مولانا السلطان عزّ نصره (10) ذكر [حوادث] سنة خمس وعشرين وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم. مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا وأحد وعشرين إصبعا ما لخص من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (15) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر سلطان الإسلام، الذى تحفّ الملايكة جنابه، وتودّ ساير الشفاه من ملوك الأرض لو لثمت ترابه

(2) ذهبا: ذهب (6_) كسبا جيدا: كسب جيد (6 - 10) وأحسن. . . عز نصره: بالهامش (15) أبو: ابى

وفيها برزت المراسم الشريفة بالتجاريد إلى اليمن، معونة للملك المجاهد ابن الملك المؤيّد حسب سؤاله. فجرّد الأميرين ركن الدين بيبرس الحاجب كان والأمير سيف الدين طينال الحاجب المستقرّ فى ذلك التأريخ. وجرّد صحبتهما جماعة كبيرة من الأمرا العشرات والمقدّمين، ومن أعيان الحلقة ومن المماليك السلطانيّة كرّمهم الله تعالى. فتوجّهوا وأقاموا مدّة وكان عودتهم إلى الديار المصريّة ثالث ذى القعدة. ولم يحصل لهم حجّ تلك السنة. وكان لمّا وصلوا إلى اليمن نزل إليهم الملك المجاهد تحت الطاعة وأكرمهم وأحسن نزلهم. ثمّ إنّه لمّا عاد تخيّل فامتنع عن النزول. فمسك نايبه وقيّد. ثمّ راسلوا للملك المجاهد فتزايد تخيّله لمّا مسك نايبه. حدّثنى الأمير سيف الدين بلبان الدوادارىّ خشداشنا رحمه الله، قال: أنفذونى الأمرا رسولا (11) للملك المجاهد صاحب اليمن، قال: فطلعت إليه إلى قلعة تعزّ، فوجدته شابّا حسنا، أسمر اللون حسن الوجه ظريف (12) القوام، أدعج الشعر أكحل العينين، قال: فأشغلنى شبابه عن خطابه، وكان المذكور الدوادارىّ مولعا (14) بحبّ الشهوات، ويفضّل حبّ البنين على البنات، قال: فقال لى: يا سيف الدين، أيش أعجبك فى بلادنا؟ -فقلت: والله ما أعجبنى غيرك. -قال الدوادارىّ: فاحمرّ وجهه من الخجل. ثمّ لاطفته ونزلت من عنده، وقد امتنع من النزول إلى الأمرا. ثمّ إن الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب لمّا رحلوا عن قلعة تعزّ استحضر نايب اليمن ووسّطه وعلّقه على شجرة، وتركوه وتوجّهوا إلى الديار المصريّة. فوصلوا فى التأريخ المذكور

(11) رسولا: رسول (12) ظريف: ضريف (14) مولعا: مولع

ذكر [حوادث] سنة ست وعشرين وسبع ماية

وفيها تاسع جمادى الأوّل انتهت عماير سرياقوس، وحفر الخليج الناصرىّ، وعمل المهمّ العظيم بالخانقاه الناصريّة بسرياقوس. وأنعم فيه مولانا السلطان إنعاما عامّا على المشايخ والفقرا، أرباب الزوايا والخوانق. وفعل فى ذلك ما عاد له مدّخر، إلى تلك الأيّام الأخر، وفى ثالث شعبان، أنعم مولانا السلطان، على الموالى الأمرا بحوايص ذهب بجملة كبيرة وفيها قتل صاحب المدينة وولى ولده مكانه وهو كبيش بن منصور ابن جمّاز بن شيحة الحسنىّ (7) وفى خامس عشر شهر رمضان المعظّم توفّى الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار صاحب التأريخ الحسن الجامع لكلّ فنّ. وكان رحمه الله من أكابر الموالى الأمرا ومن جملة العلما الأفاضل، يدرى شيئا (10) من العربيّة واللغة ومن العلوم الدينيّة، تغمّده الله برحمته وأسكنه جنّته وفيها بلغ المسامع الشريفة السلطانيّة شى ممّا اعتمده الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب من سوء التدبير باليمن، وشئ من كلامه الغثّ بالأبواب العالية. فقبض فى العشرين من ذى القعدة من هذه السنة وأودع الاعتقال ذكر [حوادث] سنة ستّ وعشرين وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم. مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا ما لخص من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (19) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر سلطان الإسلام، نصره الله على أضداد دولته وكفّار نعمته، ولا أخلاه من عزّ الراية، وإدراك الغاية

(7) وهو. . . الحسنى: بالهامش (10) شيئا: شى (19) أبو: ابى

والنوّاب حسبما نذكر من تغيّر أحوالهم فى الأبواب، فى السنة الآتية فى هذا الكتاب. وفى هذه السنة الأمير سيف الدين أرغون نايب الديار المصريّة بالأبواب العالية، وهو مهتمّ إلى الحجاز الشريف بجميع أهله وولده. وتوجّه أوان الحجّ فى خدمة الآدر الشريفة خوند بنت أخى (4) الملك أزبك المقدّم ذكر حضورها. وفى أواخر شهر صفر عزل القاضى شمس الدين غبريال عن النظر بالأبواب الشريفة، وتولّى مكانه مجد الدين بن لفينة ورجع إلى نظر الشأم مكانه بدمشق. وحضر كريم الدين الصغير بطّال ولزم بيته. ثمّ توجّه به إلى أسوان وانقطع خبره. وفى سلخ شهر جمادى الأولى تولّى الأمير سيف الدين طينال الحاجب نيابة طرابلس عوضا عن الأمير شهاب الدين قرطاى الحاجب بحكم انتقاله إلى دمشق أميرا بها. وفيها أفرج الله تعالى عن الأمير سيف الدين بلبان طرنا، وتوجّه إلى حلب أميرا بها وفيها رخصت الأسعار بالديار المصريّة، وبلغ القمح الطيّب الصعيدىّ ثمانى الدراهم الأردبّ، والشعير والفول أربعة الدراهم الأردبّ. وبلغ الخبز العلامة العال عشرين رطلا بدرهم. وربّما عمل معدّل الخبز الذى للشحّاذين ويبيعونه فجاء سبعون رطلا بدرهم. وعاد الصعلوك لا يقبل الكسرة ولا الرغيف ولا يأخذ إلاّ الفلس. فما عزّ شئ إلاّ وهان، ولا هان شى إلاّ وعزّ، فسبحان من بيده كلّ شئ {وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (17) وفيها عمرت أرض الطبّالة التى ظاهر باب الشعريّة بضواحى القاهرة. عنى بعمارتها الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب، وعمل فيها قنطرة مليحة على الخليج الناصرى، وعليها دكاكين وسوق كبير ودور وأملاك وعمروا أيضا الناس كذلك، وهذه الأرض أقلّها (21) وهى عامرة كأحسن ما يكون من

(4) أخى: اخو (17) السورة 97 الآية 1 (21) أقلها: اعقلها

ذكر [حوادث] سنة سبع وعشرين وسبع ماية

العماير قبل الغلاء الذى تقدّم ذكره فى أيّام كتبغا فى الجزء الذى قبل هذا الجزء. ثمّ خربت هذه الأرض من الغلا وجاى، وعادت كيمان، ليس بها قاطن ولا أنيس. ثمّ عمرت فى هذه السنة وعادت فى العمارة كأحسن ما كانت. ولله درّ القايل <من الكامل>: وإذا تأمّلت البقاع وجدتها … تشقى كما تشقى الرجال وتنعم وجملة القناطر التى بنيت فى هذه السنة واستجدّت على الحفير الناصرى: قنطرة بظاهر باب اللوق، تولّى أمرها الأمير سيف الدين قدودار متولّى القاهرة كان، قنطرة ببركة قرموط، قنطرة عند قناطر الوزّ، قنطرة تعرف قديما بقنطرة بنى وايل (9)، وقنطرة عند فم الحفير الناصرىّ تعرف بقنطرة الفخر، بناها القاضى فخر الدين وكذلك بنى أخرى ببولاق، وقنطرة الحاجب بأرض الطبّالة المقدّم ذكرها. وكان قد تولّى قدودار القاهرة عوضا عن الأمير علم الدين سنجر الخازن فى العشرين من رمضان سنة أربع وعشرين وسبع ماية ذكر [حوادث] سنة سبع وعشرين وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع ما لخص من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (18) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر، أعزّ الله أولياه وأنصاره، وحمى بعزمه الإسلام وأمصاره

(9) بقنطرة بنى وايل: قنطرة بنى وايل (18) أبو: أبى

والنوّاب بمصر والشام، حسبما نذكر الآن من الكلام: الأمير سيف الدين أرغون نايب الديار المصريّة إلى أوّل هذه السنة عند حضوره من الحجاز الشريف، تغيّرت عليه الخواطر الشريفة السلطانيّة لأمور باطنة أخطأ فيها كلّ الخطأ، وقوّى عزمه على فعلها أستاداره عزّ الدين أيبك وششاور الأشقرىّ. وكانا هذان الاثنان من الظلم والعسف والجور والتسلّط على عالم الله عزّ وجلّ بالأذيّة ما لا يمكن شرحه. فبصّر الله تعالى مولانا السلطان فإنه ينظر-نصره الله-بنور الله مختصّا بثلاث فراسات: فراسة الإيمان، وفراسة الملك، وفراسة الطبع. وتحقّق مولانا السلطان أنّهما كانا السبب فيما وقع فيه الأمير سيف الدين أرغون من الغلط. فمسكهما وانقطع خبرهما، وأراح الله العباد والبلاد من شرّهما. ثمّ رضى عن الأمير سيف الدين أرغون وسيّره نايبا إلى حلب المحروسة. وأحضر الأمير علاء الدين ألطنبغا إلى الديار المصريّة، وأنعم عليه بإمرة ماية وتقدمة ألف، وأقام بها وفيها فى سلخ جمادى الأخرى تولّى القاضى جلال الدين قاضى القضاة بدمشق القضا بالديار المصريّة عوضا عن القاضى بدر الدين بن جماعة بحكم أنّه رضى الله عنه استعفى، كونه كفّ نظره. وولى دمشق الشيخ علاء الدين القونوىّ شيخ خانقاه سعيد السعدا وفيها مسك الأمير سيف الدين أصلم السلحدار وأخوه قرمجى، وذلك فى ثانى جمادى الأولى وفيها كان المهمّ العظيم الذى ما رأى (19) الناس مثله، إلاّ إن كان مهمّ بوران بنت الحسن بن سهل (20) على المأمون أمير المؤمنين. وسأذكر من ذلك طرفا جيّدا، وإن كان قد ذكرته فى كتابى المسمّى «بأعيان الأمثال وأمثال الأعيان» وهذا المهمّ سببه دخول بنت المقرّ السيفىّ تنكز نايب الشأم على ولد المقرّ

(19) رأى: راء (20) بنت الحسن بن سهل: بالهامش

ذكر سبب دخول المأمون على بوران

المرحوم السيفىّ بكتمر الساقى. وذبح فى هذا المهمّ من الأغنام والأبقار والخيول ما لا يحصى كثرة، وعمل من التماثيل النفط شى يذهل العقول، وحمل من الشموع بالقناطير المقنطرة، وحمل قبل ذلك جهاز العروس. وفيه من الأموال والمصاغ والأقمشة والأمتعة ما يجاوز حدّ القياس ولا يحصى بالتعبير. ووقف مولانا السلطان بنفسه الشريفة فى تعبية هذا الجهاز وفعل من المعروف، ما هو من جميل إحسانه معروف. وكان ذلك ليلة الجمعة ثالث عشر ذى الحجّة ذكر سبب دخول المأمون على بوران (8) قال ابن عبد ربّه صاحب «كتاب العقد»: كان سبب صلة المأمون بن الرشيد رضى الله عنهما على بوران بنت الحسن بن سهل أنّ المأمون كان مغرا بحبّ الحسان من النسا. وكان إسحق بن إبراهيم الموصلىّ من أعزّ الخصيصين بالمأمون قال أحمد بن محمد بن عبد ربّه: اغتبق المأمون ذات ليلة وعنده إسحق بن إبراهيم (14) المذكور. فلمّا جنّه الليل قال: يا إسحق، لا تبرح حتى أدخل إلى بعض جوارىّ وأعود إليك. فإنّ قصدى أن أواصل غبوقى بالاصطباح. فلا تبرح من مكانك. -ثمّ نهض (16) المأمون ودخل قصوره قال إسحق: ففكّرت أنّ أمير المؤمنين بعد أن جاز إلى خلوته بعيد عليه الرجعة. وكان عندى جارية قد استجددتها عذراء وأنا مغرا بحبّها.

(8) هذه الحكاية والأشعار التى تخللتها غير موجودة فى كتاب العقد الفريد الذى نشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر (14) إبراهيم: ابرهيم (16) نهض: نهط

فقلت: أنهض إلى منزلى وأقضى هذه الليلة وطرى، وأعاود أمير المؤمنين الصبح. -قال: فخرجت وطلبت دوابّى، فلم أجدهم لما خرج إليهم الخبر ببياتى عند أمير المؤمنين، قال: فقلت: أتمشّى فى بطاين بغداد، وأتنزّه فى طريقى بما أستطرفه من حديث العامّة، ممّا أصبح أحدّثه لأمير المؤمنين. قال: فمشيت وأنا ثمل من الشراب. فبينا أنا فى بعض الأزقّة إذ عثرت فى زنبيل مدلّى من حايط مفروش وله عطريّة حسنة، وهو مشدود بأربعة حبال. قال: فحملنى الشراب أن جلست فيه. فما هو إلاّ (7) أن حسّ بثقلى فيه، وإذا به قد رفع. وطلعت إلى سطح حسن. فنظرت إلى عدّة جوار حسان. فقلن لى: معرفة أنت أم غير معرفة؟ -فقلت: بل غير معرفة. -فسررن بذلك وقلن: بسم الله، ونزلن قدّامى بشمعة كافوريّة فى سلّم. فنزلت إلى قاعة، لم أرا مثلها إلاّ (11) فى قصور المأمون. وفيها من الفرش والطرح ما يحيّر الناظر. فقالت لى تلك الجوارى: بسم الله، يا مولانا، اجلس! -قال: فجلست غير بعيد، وإذا بجارية قد خرجت من بعض تلك الأبواب، وبين يديها شمعة كافوريّة، وضوء جبينها يغلب على ضوء تلك الشمعة تحيّر الوصف فى بعض معانيها. قال: فلمّا نظرت إليها نهضت قايما. وقد داخلنى الزمع لحسن صورتها. فسلّمت بلسان فصيح وكلام عذب كالسحر. وجلست وجلست، فقالت: على الرحب والسعة، من تكون من الناس؟ -فقلت: من بعض تجّار بغداد. -فقالت: الاسم؟ فقلت: محمد. -فقالت: قرّب الله محلّك. -ثمّ أمرت بالأطعمة (19). فأحضرت موايد لم أرهنّ إلاّ إن كنّ عند أمير المؤمنين. وعليهم من الطعام مثل ذلك. فقالت: بسم الله، أبا عبد الله، بحسب الممالحة! -قال:

(7) إلا: الى (11) إلا: الى (19) بالأطعمة: بالاطمعه

فتقدّمت وأكلت، وهى تلقمنى من أطايب تلك الأطعمة، وأنا قد ذهلت، لما قد جمع الله فيها من ساير الفنون الحسان. ثم رفعت الموايد، فقالت: هل لك (3)، أبا عبد الله، فيما نكسر به زفر هذا الطعام؟ -فقلت: جعلت فداك، أى والله! -قال: فأحضرت أوانى المشروب، لم أرا مثلهنّ إلاّ عند المأمون. ثمّ شربت وأسقتنى. ثم قالت: أبا عبد الله، هل لك أن تسمع على هذا الشراب شيئا (6) من تلحين إسحق بن إبراهيم الموصلىّ؟ - فقلت: يا ستّ، ومن لى بذا؟ -قال: فأحضرت عودا (7) من عود يستغرق الوصف فى نعته. ثم أصلحته وضمّته ولعبت به استبداآت تحيّر العقول. قال إسحق: فخيّل لى أنّى فى الجنّة، وكدت أصيح طربا. ثمّ مسكت نفسى وكان بين يدينا فى جملة الحضرة زعفران رطب. فاستفتحت تنشد وتقول <من البسيط>: اشرب على الزعفران الرطب متّكئا … وانعم نعمت بطول اللهو والطرب فحرمة الكأس بين الناس واجبة … كحرمة الودّ والأرحام والنسب قال إسحق: فخيّل لى والله أنّ المكان يرقص بجوانبه. ثمّ أمسكت وقالت: أبا عبد الله، هذا الشعر لأحمد بن هاشم، وقد أهدى زعفرانا لإسحق، حيّا الله إسحق! -فقلت: يا ستّ، فما كان من جواب إسحق إليه؟ - فقالت: وما كان قال؟ -فأنشدتها <من البسيط>: اذكر أبا جعفر حقّا أمتّ به … إنّى وإيّاك مشغوفان بالأدب وإنّنا قد رضعنا الكأس درّتها … والكأس حرمتها أولى من النسب

(3) هل لك: هلك (6) شيئا: شى (7) عودا: عود

قال إسحق: فأعجبها منّى ذلك وقالت: أبا عبد الله، هل لك أن تسمعنا على هذا العود شيئا (2)؟ فإنّى أراك كاملا. -فقلت: يا ستّ، <من البسيط>: وا حسرتاه على ما كنت أحسنه فقالت: لم يكمل شى أبدا. -ثمّ قالت: هل لك (5) فى ثلاثة أقداح متداركة تزيل الحشمة ما بيننا؟ -فقلت: حبّذا والله! -قال: فشربت ثلاثة. ثمّ ملأت (7) الرابع وناولتنى. قال: فتناولته من يدها بعد ما قبّلتها. ثمّ ضمّت العود إلى صدرها وغنّت <من الخفيف>: نعم عونا على الهموم ثلاث … مترعات <من> بعدهنّ ثلاث بعدها أربع تتمّة عشر … لا بطاء لكنّهنّ حثاث فإذا ناولتكهنّ جوار … عطرات بيض الوجوه خناث تمّ فيها لك السرور وما طيّ‍ … ب عيشا إلاّ الخناث الإناث قال إسحق: فلم أملك نفسى دون أن غمى علىّ، وغبت عن الدنيا واستصغرت والله كلّ ما رأيت من عمرى كلّه. قال: ثمّ أمسكت. وشرعنا فى المنادمة والحديث. وشرعت أحدّثها وأطرفها. وقد أعجبها حديثى، وقالت: أبا عبد الله، قليل يكون (16) مثلك فى عامّة بغداد. وإنّما هذه الأحاديث تنقل لنا عن لطافة إسحق عند أمير المؤمنين. - فقلت: جعلت فداك، لى جار يحضر مجلس إسحق، وهو نديم لى. فاقتبست منه. -فقالت: هو ذاك. -فبينا نحن فى ألذّ (19) عيش وأهناه،

(2) شيئا: شى (5) هل لك: هلك (7) ملأت: ملت (16) يكون: يكن (19) ألذ: اللد

وإذا بعجوز قد تمثّلت بين يديها وقالت: يا ستّاه، بلغ الوقت. -قال: فنهضت. وقالت: أستودعك الله، أبا عبد الله، والمسئول من إحسانك عدم المعاودة، فما لنا عادة أن يعود إلينا <أحد> ثانيا قطّ. -قال: فقبّلت يدها، وأنزلونى من مكان طلعت منه. وأتيت إلى منزلى وأنا كالنايم الذى رأى جميع ذلك فى الأحلام. قال: فما هجعت إلاّ قليلا (5). وإذا برسل أمير المؤمنين ينبّهونى وقالوا: أجب، أبا محمد! -فأتيت إلى المأمون، فقال: يا إسحق، ما كان قولى لك؟ -فقلت: أحسن الله إلى أمير المؤمنين، لقد علمت أن أمير المؤمنين إذا صار فى قصوره استغرق فى لذّة وسنة، فلا يعود. وكان عندى جارية عذراء وأنا مشغوف بها. فتوجّهت حتى قضيت الملامة. -فقال: أوبقى لك عذر آخر؟ -فقلت: كلاّ، يا أمير المؤمنين. -فقال: أقم اليوم والليلة، فإنّى على عزم الصبوح. -فقلت: حبّا وكرامة. -قال: فلمّا كان الوقت الذى يقوم فيه المأمون ويدخل إلى قصوره نهض وقال: إسحق، لا تبرح! -فقلت: حبّا وكرامة. يا أمير المؤمنين. -قال: فما هو إلاّ أن توارى عنّى. -فتذكّرت بارحتى وما كنت فيها. قال: فحملنى ذلك على المخالفة وخرجت فلم أزل إلى أن وقعت على الزنبيل، فجلست ورفعت. فقلن لى الجوارى: ما أنت صاحبنا البارح؟ -قلت: جعلت فداكم، أنا هو، وهذه الليلة لا غيرها. وكنّ الجوارى قد استملحننى فنزلن بى. -فلمّا حضرت الجارية قالت: أبا عبد الله، مخالفة واستجراء؟ -فقلت: كلاّ والله! وإنّما رقّ وعبوديّة، ولست بعايد بعدها أبدا. -قال: فجلست

(5) قليلا: قليل

وجلست، وأحضرت الموايد على الرسم والعادة. ثمّ أحضر الشراب فشربنا. ثمّ تناولت العود وقالت: اسمع تلحين إسحق، حيّا الله إسحق، والشعر لأبى الشيص! -ثمّ أنشدت تقول <من الطويل>: تقول غداة البين إحدى نسابهم … لى الكبد الحرا و <أنت> لك الصبر وقد خنقتها عبرة فدموعها … على خدّها بيض وفى نحرها صفر قال: فحصل لى من الطرب ما لا عليه مزيد، مع كثرة تعجّبى لحسن علمها بألحانى وصناعتى، حتى لم تخلّ بدقّة واحدة. فقلت: يا ستّاه، لقد سمعت جارى يحكى عن إسحق أنّ من جملة تلحينه أبياتا حسانا (9)، وله فيها صناعة جيّدة. -فقالت: أتحفظها؟ أنشدها! -فأنشدتها <من الطويل>: قفى ودّعينا، يا مليح، بنظرة … فقد حان منّا، يا مليح، رحيل أليس قليلا نظرة إن نظرتها … إليك وكلاّ ليس منك قليل (12) عقيليّة أمّا ملاث (13) … إزارها فدعصص وأمّا خصرها فنحيل فيا جنّة الدنيا ويا غاية المنى … ويا سؤل نفسى، هل إليك سبيل أراجعة نفسى إليك فأغتدى … مع الركب لم يكتب علىّ فتيل فما كلّ يوم لى بأرضك حاجة … ولا كلّ يوم لى إليك رسول (16) فقالت: شعر حسن لو سلم من التعريض فيه بما منال الثريّا دونه، ولكن اسمع شعر بنت الأعرابية تلحين إبراهيم أبى (18) إسحق، حيّا الله إسحق! - وأنشدت <من الطويل>:

(9) أبياتا حسانا: ابيات حسان (12) انظر شرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص 1340 (13) ملاث: ملأت، انظر شرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص 1341 (16) انظر شرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص 1342 (18) أبى: ابو

تقول لأتراب لها وهى تمترى … دموعا على الخدّين من شدّة الوجد أكلّ فتاة لا محالة نازل … بها مثل ما بى أم بليت به وحدى بدالى بها حبّ ينشّب فى الحشا … فلم يبق فى جسمى سوى العظم والجلد وجدت الهوى حلوا لذيذا بدوّه (4) … وآخره مرّ لصاحبه يردى قال: فو الله لقد خيّل إلىّ أنّ المكان والحيطان ترقص رقصا، وغبت عن وجودى. فبينا نحن كذلك إذ هجمت العجوز فقالت: يا ستّاه، قرب الوقت. -فنهضت وقالت: مصحوبا بالسلامة واحذر المعاودة. - فقلت: يا ستّ، عن إذنك، أبدى كلاما. -فقالت: ما هو؟ -فقلت: إنّ جارى الذى حدّثتك حديثه أخبر خلق الله تعالى بشعر اسحق وتلحينه وحكاياته ونوادره. فإن أذنت استصحبته ليلة غد، فترى عجبا. ثمّ إنّنا لا نعود أبدا. -فقالت: لقد شوّقتنى إلى صاحبك. فقد أذنت لك فى حضوره ثمّ إنى نزلت من حيث طلعت، وأنا أشدّ الناس فرحا بإجابتها. فإنّنى تحقّقت أنّ المأمون سيكون لى معه شأن من الشأن ما لم أصدقه الحديث. فإذا صدقته طالبنى بالمشاهدة لذلك. وقلت: ما ينجينى منه غير حضوره معى، وقد أتقنت أمره قال إسحق: فلم أغمض فى منزلى إلاّ ورسل أمير المؤمنين قد أخذونى سحبا كغير ما كنت أعهد. فدخلت عليه، فإذا هو جالس جلسة الغضب، ومسرور قايم بين يديه. فلما رآنى قال: إسحق، هذا آخر أيامك من الدنيا وأول أيامك بالآخرة. -قال، فقوّيت نفسى وقلت: بل وحياة أمير المؤمنين، أوّل أيامى من الدنيا مع الإقبال علىّ من أمير المؤمنين وحسن

(4) بدوه: بديه

الجايزة العظيمة القدر، ورضى أمير المؤمنين على عبده. -فقال: أو على المعصية والمخالفة يكون الرضى والإقبال وحسن الجايزة؟ -فقلت: بل على صدقى فى حديثى، وفيه لمولانا أمير المؤمنين أوفر حظّ من اللذاذة (3). - فقال: خلوا عن أبى محمد! وخلا بى. -فحدّثته الحديث من أوّله إلى آخره إلى حين قولها لى «احذر المعاودة» فقال: ويلك يا إسحق، ولا عدت تقدر على الرجوع والعودة وأنا معك؟ -فقلت: بلى والله، يا أمير المؤمنين! -ثمّ كمّلت حديثى وإتقانى الأمر معها فى حضور صاحبى وجارى معى إليها. فقال: الويل لك، لو لم يكن هذا منتهى كلامك! فاجلس بنا بياض هذا اليوم، نشرب على لذّة هذا الحديث. -قال: ثمّ لم نزل كذلك وهو يقول: كرّر علىّ الحديث يا إسحق إلى الليل! - فعاد كلّما مرّ من الليل دقيقة طالبنى بالتوجّه وأنا أنظره إلى حيث ما علمت جواز الوقت فقمت وقام معى وهو لا يكاد يصدّق. فلم نزل نمشى إلى ذلك المكان. وإذا زنبيلين مدلاّة. فجلست فى الواحد وجلس المأمون فى الآخر، ورفع بنا. ثمّ نزلنا وجلسنا وجلست أنا فوقه وقلت: دع نفس الخلافة فى هذا الوقت! - فما استقرّ بنا الجلوس حتى خرجت كالطاووس الذكر بين أترابها وجواريها. فنهضنا لها، فقالت: مرحبا بضيفنا الجديد! وإنّما أنت عدت صاحب محلّ. -فشكرنا لها ودعينا. وأمّا المأمون فإنّه لما رآها اختبل فى عقله فلكزته، ففهم منّى فاستحضر جأشه. ثمّ جلسنا فقالت: أبا عبد الله! - فقلت: نعم. -فقالت: ما أنصفت صاحبك كونك أجلسته دون مجلسك. فهذا ضيف بخلافك. -فقمت وأجلسته فوقى. ثمّ أحضرت

(3) اللذاذة: الذاده

الموايد كأحسن من أوليك الأول. ثمّ أحضر الشراب فشربنا. ثمّ تنادمنا وكان المأمون أحسن خلق الله منادمة، وأرواهم لشعر وأحفظهم (2) لنادرة وحكاية. ثمّ قالت للمأمون: يا با محمد، هل تروى لإبراهيم الموصلىّ ما كان بينه وبين إبليس؟ -فقال: نعم، حدّثنا إبراهيم بن ماهان بن بهمن بن نسك، ثمّ غير ماهان، فقيل: إبراهيم بن ميمون الفارسىّ الأصل والنسب أبو (6) إسحاق قال: بينا يوم وقد أردت الخلوة بنفسى وأوصيت بوّابى لا يأذن لأحد علىّ، وخليت بنفسى لأمر أهمّنى إذ دخل علىّ شيخ ألحى (8) أعور العين اليمنى، حسن البزّة طيّب الرايحة. فسلّم وجلس من غير أن آذنه. ثمّ حادثنى، فأجده أحذق الناس بحديث وأرواهم لشعر وأحفظهم لنادرة. قال: فسرّى عنّى بعض ما كنت قد أضمرته لبوّابى، كونه أذن لهذا من غير مشورتى ولا لسابقة معرفة. وقلت: إن البوّاب أراد يسرّنى بمحاضرة هذا الشيخ، لما علم ما فيه من طيب العشرة. -قال: ثمّ قال لى ذلك الشيخ: يا إبراهيم، لعلّك تسمعنا شيئا (13) من مطرباتك. - قال: فتراجع إلىّ غضبى كونه أسا الأدب علىّ من وجهين، الواحدة تسميته لى بغير كنية، والأخرى استجراه علىّ ويأمرنى بأن أغنّيه. -قال: ثمّ تذكّرت حسن محاضرته وطيب مؤانسته ورجعت إلى مواساة العشرة. فقلت: سمعا وطاعة. -ثمّ تناولت العود وضربت، أصنع ما كنت قد أحدثته من الاستبداآت وغنّيت <من الطويل>: وإنى لتعرونى لذكراك قرّة (19) … كما انتفض العصفور بلّله القطر فيا حبّها زدنى جوى كلّ ليلة … ويا سلوة الأيّام موعدك الحشر هجرتك حتى قيل ما يعرف الهوى … وزرتك حتى قيل ليس له صبر

(2) وأحفظهم: واحفضهم (6) أبو: ابى--بينا: بيننا (8) ألحى: اللحى (13) شيئا: شى (19) قرة: بالهامش «نسخة: هزة»

قال: فطرب ذلك الشيخ طربا جيّدا وقال: أحسنت والله، يا إبراهيم. -قال: فو الله لقد داخلنى من الحنق أن أضرب العود فى رأسه. ثمّ استرجعت، فقال: زدنى، يا إبراهيم (3)! -قال: فقلت فى نفسى: اصبر على هذا الشيخ الجاهل فى هذا اليوم واجعلها أحنفيّة! قال: ثمّ غيّرت الطريقة التى كنت عليها وضربت استبداء مقترحا (5) وغنّيت <من الكامل>: الحبّ أوّل ما يكون مجانة (7) … تأتى به وتسوقه الأقدار حتى إذا سلك الفتى لجج الهوى … جاءت أمور لا تطاق كبار نزف البكاء دموع عينك فاستعر … عينا لغيرك دمعها مدرار من ذا يعيرك عينه تبكى بها … أرأيت عينا للبكاء تعار قال: فتمايل الشيخ طربا ونعر ارتياحا وقال: أحسنت والله، يا با إسحق. - قال: فقلت: رجع الشيخ عن إساءته. -ثمّ قال: لعلّ إحسانك فى الازدياد. -قال: فقلت: حبّا وكرامة. -ثمّ غيّرت الطريقة وانتقلت إلى غيرها وغنّيت <من البسيط>: يا مورى الزّند قد أعيت قوادحه … اقبس إذا شئت من قلبى بمقباس ما أقبح الناس فى عينى وأسمجهم … إذا نظرت فلم أبصرك فى الناس قال: فقال: مليح والله. فهل لا أكافئك على إحسانك؟ -قال: فقلت فى نفسى: وما عسى أن يكون فى قدرة هذا الشيخ الأحمق لى فى المكافأة؟ - قال: فقلت: بلى والله، يا عمّ. -قال: فتناول العود وسارّه شيئا (19)

(3) إبراهيم: ابرهيم (5) مقترحا: مقترح (7) مجانة: بالهامش «نسخة: لجاجة» (19) شيئا: شى

لا سمعت مثله قطّ. فلمّا اعتدل ضرب به طرايق غريبة، حتى خيّل لى أنّ الأركان ستقع علينا طربا. ثمّ أنشد يقول <من الطويل>: ولى كبد مقروحة من يبيعنى … بها كبدا (3) ليست بذات قروح أباها علىّ الناس ما يشترونها … ومن يشترى ذا قرحة (4) بصحيح أئنّ (5) … من الشوق الذى فى جوانحى أنين غصيص بالشراب جريح قال: فو الله لقد خيّل لى أنّى طاير بين السما والأرض لما لحقنى من الطرب. -ثمّ قال: أزيدك؟ -فقلت: زادك الله من كلّ خير. - قال: فتبسّم وقال: ليس لدعاك إجابة. -قال: فتعجّبت من كلامه أكثر من إعجابى بغناه. ثمّ غيّر تلك الطريقة وانتقل إلى غيرها، فكانت أعجب وأغرب من الأولى. ثمّ غنّى <من الطويل>: ألا يا حمامات اللّوى عدن عودة … فإنّى إلى أصواتكنّ حنين فعدن فلمّا عدن كدن يمتننى … وكدت بأسرارهنّ أبين (12) دعوت بترداد الهديل كأنّما … شربن سلافا أو بهنّ جنون فلم ترا عينى مثلهنّ حمايما … بكين ولم تدمع لهنّ عيون قال: فلم أملك نفسى دون صرخت ومزّقت أثوابى. -قال: ونظرت إلى الشيخ، فإذا به يتبسّم. ثمّ أمسك وقال: أزيدك الثالث؟ -فقلت: بلى، يا عمّ، فلم أرا والله مثلك منذ خلقت. - فقال: صدقت، ومن لك بذلك؟ -قال: فتعجّبت أيضا من جوابه.

(3) كبدا: كبد (4) قرحة: بالهامش «نسخة: عرة» (5) أئن: آان (12) المصراع الثانى مضطرب

ثمّ انتقل عن تلك الطريقة إلى أغرب من الاثنتين، وضرب ضربا ما سمعت مثله قطّ، ثمّ غنّى <من الطويل>: ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد … فقد زادنى مسراك وجدا على وجد أإن هتفت ورقاء فى رونق الضحى … على فنن (4) غضّ النبات من الرّند بكيت كما يبكى الوليد صبابة … وذبت من الحزن المبرّح والجهد وقد زعموا أن المحبّ إذا دنا … يملّ وأنّ النأى يشفى من الوجد بكلّ تداوينا فلم يشف ما بنا … على أنّ قرب الدار خير من البعد قال: فصرخت صرخة أعظم من الأولى وغمى علىّ من شدّة الطرب، ففتحت عينى فلم أنظر أحدا (9)، وأجد جوارىّ حولى فقلت: ويلكنّ، الشيخ. -فقلن: أىّ الشيوخ؟ ما رأينا أحدا (10). وإنّما سمعنا عندك اليوم ما لم نسمعه قطّ، ودخلنا عليك لمّا سمعنا صرختك. فلم نجد عندك أحدا (11). - فقلت: علىّ بالبوّاب! -فأدخل علىّ. فقلت: ويلك، الشيخ الذى أدخلته علىّ ما فعل؟ -فقال: والله لم يدخل عليك اليوم من أحد. -قال: فتحيّرت فى أمرى، وإذا أنا بقايل يقول، ولم أنظر له شخصا (14): يا لكاع، إنّ نديمك منذ اليوم الشيخ أبو (15) مرّة فلا ترتاع. -فقلت: بالله ألا ما ألقيت علىّ الأصوات. -فقال: قد ألقيتهم فى محفوظك (16) حتى عادوا أرسخ من الحجر. -قال: فأخذت العود وضربت. فإذا أنا صايب فى جميع الأصوات الثلاثة

(4) فنن: غصن (9) أحدا: احد (10) أحدا: أحد (11) أحدا: احد (14) شخصا: شخص (15) أبو: ابا (16) محفوظك: محفوضك

قال إسحق: فلمّا سمعت الجارية ذلك من المأمون ابتهجت سرورا به وقالت لى: والله، يا با عبد الله، ما ذكرت عن صاحبك هذا قيراطا (2) ممّا احتوى عليه من المجموع الحسن. -قال: فلمّا رأى المأمون إعجابها به قال: إنّ صاحبى ذكر لى من إحسانك فيما تحكينه عن إسحق بن إبراهيم من ضربه وتلحينه. وقد أحببت سماعه، فليس العيان كالخبر. -فقالت: حبّا وكرامة. -ثمّ أمرت بالعود، فأحضر وضمّته إليها وضربت ضربا جيّدا من اقتراحاتى وقالت: هذا من مقترح إسحق، حيّا الله إسحق! - ثمّ غنّت <من الطويل>: تشرّب قلبى حبّها ومشى به … تمشّى حميّا الكأس فى كفّ شارب ودبّ هواها فى عظامى فشفّها … كما دبّ فى الملسوع سمّ العقارب (10) قال: فأتت والله بالسحر المبين ونظرت إلى المأمون وقد احمرّت عيناه. قال: فغمزته. ثمّ وكزته فرجع. ثمّ إنّها غيّرت تلك الطريقة وضربت، وقالت: وهذا من تلحين إسحق، حيّا الله إسحق! -وغنّت <من الكامل>: لمّا رأيت الليل سدّ طريقه … عنّى وعذّبنى الظلام الراكد والنجم فى كبد السماء كأنّه … أعمى تحيّر ما لديه قايد ناديت من طرد الرقاد بصدّه … أنت البلاء طريفه والتالد ألقيت بين جفون عينى فرقة … فإلى متى أنا ساهر يا راقد وسعى بها واش فقالوا إنّها … لهى التى تشقى بها وتكابد فجحدتهم ليكون غيرك ظنّهم … إنّى ليعجبنى المحبّ الجاحد

(2) قيراطا: قيراط (10) العقارب: العقاب

قال إسحق: فو الله، لم تتمّ الجارية هذا الشعر إلاّ والمأمون قد نظر إلىّ نظرة كدت أموت فرقا. وصرخ وقال: إسحق! -فقمت قايما وقبّلت الأرض وقلت: لبّيك، يا أمير المؤمنين. -فلمّا نظرت الجارية إلى ذلك نهضت كالغزال النافر ودخلت بعض المقاصير. فقال المأمون: لمن هذه الدار؟ -فقلت: لا علم والله لعبدك، يا أمير المؤمنين. -فقال: علىّ بصاحبها الساعة هاهنا! -قال: فخرجت، فأجد العجوز والجوارى (6) فى دهليز المكان وهنّ يرعدن لمّا تحقّقوا الأمر. فقلت: ويلكنّ، لمن الدار؟ -فقلن: لعبد أمير المؤمنين الحسن بن سهل. -فقلت: ليحضر الساعة! وعرّفوه من محلّه. -قال: فلم يكن بأسرع أن حضر وهو يرعد كالسعفة. فقبّل الأرض بين يدى المأمون، فقال له: يا حسن، ما هذه الجارية منك؟ -فقال: أمة أمير المؤمنين ابنتى. -فقال: بكر أم ثيّب؟ -قال: بل بكر عذرا، يا أمير المؤمنين. -قال: أزوجنى إيّاها. -قال: فقبّل الأرض وقال: هى من بعض الإماء، يا أمير المؤمنين. -قال: فأخذ يده عليها فى تلك الساعة. -وقال: أصلح من شأنها وليكون العقد فى الملأ (15) العام. -ثمّ فتح لنا باب السرّ وخرجنا إلى قصر الخلافة. فهذا كان سبب زواج بوران بالمأمون ومن رواية صاحب «العقد» إلى حين الخبر مع إبليس رواه الثعالبىّ فى كتاب «لطائف المعارف» فذيّلته على الحكاية هاهنا، ولم أذيّل بقيّة الحكاية فى كتابى «أعيان الأمثال». وقد بقى ممّا رواه الثعالبى فى بيان الأشعار التى فى هذه الحكاية وممّا رواه أيضا أبو الفرج صاحب «كتاب الأغانى» الكبير الجامع ما العبد ذاكره. ثمّ بعده أذكر تتمّة الخبر فى الزواج والمهمّ الذى لأجله أوردنا هذه الحكاية العجيبة لتكملة الفايدة لما رويناه إنشاء الله تعالى

(6) والجوارى: والجوار (15) الملأ: الملاء

أمّا الأشعار التى كانت بين إسحق وبوران فقد روينا كلّ شر وصاحبه وملحّنه. وأمّا اللواتى جرين بحضرة المأمون، فالأوّل لأبى صخر الهذلىّ، وهو ممّا غنّى به بحضرة موسى الهادى، تلحين ابن شريح المقدّم ذكره فى هذا التأريخ، وبقيّة الشعر (4) يقول <من الطويل>: عجبت لسعى الدهر بينى وبينها … فلمّا انقضى ما بيننا سكن الدهر فيا هجر ليلى قد بلغت بى المدى … وزدت على ما لم يكن يبلغ الهجر أما والذى أبكى وأضحك والذى … أمات وأحيا والذى أمره أمر لقد تركتنى أحسد الوحش أن أرى … أليفين (8) منها لا يروعهما الذّعر قال صاحب الأغانى: وهذا الشعر فيه أيضا لمعبد تلحين، وقد تقدّم ذكر معبد. والثانى الذى أوّله يقول «الحبّ أوّل (10) ما يكون لجاجة» فهو للأحنف بن قيس المقدّم ذكره أيضا فى هذا التأريخ، والتلحين فيه لابن جامع وقد ذكرناه أيضا. والثالث الذى أوّله يقول «تشرّب قلبى حبّها (12)» فهو لإبراهيم أبى (13) إسحق المذكور وتلحينه له. وأمّا ما روى من غنا إبليس فلم يذكر لهم قايل ولا ملحّن فأذكره. وأمّا الشعر الآخر الذى أوّله يقول «لمّا رأيت (15) الليل سدّ طريقه» فهو للعبّاس بن الأحنف، وقد تقدّم ذكر واقعته (16) فيه، وكيف قدّم للصلاة عليه لمّا مات على غيره ممّن كان أكبر منه بقوله هذا الشعر، والله أعلم

(4) وبقية الشعر: انظر ص 331 (8) أليفين: الليفين (10) الحب أول ما إلخ: انظر ص 332 (12) تشرب قلبى حبها: انظر ص 335 (13) أبى: ابو (15) لما رأيت إلخ: انظر ص 335 (16) تقدم ذكر واقعته: لم يرد فى هذا الجزء خبر تقديمه هذا

وأمّا أمر الوليمة العظيمة القدر التى ما رأى (1) الناس مثلها من أوّل ما كانت الدنيا، فقد ذكرها جماعة السلف رضى الله عنهم مثل: محمد بن جرير الطبرىّ، والمسعودىّ، والثعالبىّ، وابن عساكر مع جماعة أخر من أرباب التواريخ أنّ الحسن بن سهل احتفل فى دخول ابنته بوران على المأمون احتفالا ما شهدوا الناس مثله من قبل، حتى كانت وليمة بنت المعتزّ بالله تركواز. ولا زالت دعوة بوران على المأمون تدعى دعوة الإسلام حتى جاءت (7) دعوة تركواز ابنة المعتزّ. فقال الناس هى مثله، وقيل: إنّ دعوة تركواز لا نظير لها. -فأمّا ما يحكى من جملة جلالة دعوة بوران: أنّ الحسن بن سهل أقام للمأمون بما يصلح له ولجميع قوّاده وأصحابه أربعين يوما، واحتفل بما لم يرا مثله نفاسة وكثرة (10) وحكى المبرّد، قال: سمعت الحسن بن رجا يقول: كنّا نجرى أيّام مقام المأمون عند الحسن بن سهل على ستّة وثلاثين ألف ملاح (12)، ولقد عزّ بنا الحطب يوما. فأوقدنا تحت القدور الخيش مغموسا فى الزيت. ولمّا كانت ليلة البناء وجلّيت بوران على المأمون، فرش لها حصير من ذهب وجئ بمكيل مرصّع بالجواهر فيه درّ كبار، فنثرت على تلك النسا اللاتى (15) حضرن وفيهنّ زبيدة أمّ جعفر وحمدونة بنت الرشيد. فما مسّ من حضر من الدرّ شيا. فقال المأمون: شرّفن أبا محمد وأكرمنه. فمدّت كلّ واحدة منهنّ يدها، فتناولت درّة. وعاد ذلك الدرّ يلوح على تلك الحصير الذهب. فقال المأمون: قاتل الله الحسن بن هانى، كأنّه رأى هذا حيث يقول: كأنّ صغرى وكبرى من قواقعها … حصباء درّ على أرض من الذهب

(1) رأى: راء (7) جاءت: جآات (10) وكثرة: وكثر (12) ملاح: كذا فى الأصل (15) اللاتى: التين

وكان فى المجلس شمعة عنبر فيها مايتى منّ (1)، فضجّ المأمون من دخانها، فعملت له أمثال الشمع. فكان الليل فيه مدّة مقامه كالنهار. ولمّا كانت دعوة القوّاد نثرت عليهم أكر العنبر محشوّ فيها أوراق بأسما ضياع وآلاف من الدراهم وعدّة من الخيول وإبل وعقارات. فمن وقعت فى يده أكرة كشف عمّا فيها، فإن كانت ضيعة أشهد له بها، أو عقار أو غير ذلك وصل إليه فى يومه، وندب لذلك وكلاء بهذا السبب. وقيل إنّه حصر ما أنفق فى هذه الدعوة، فكان تسعة آلاف ألف دينار ولمّا زفّت بوران على المأمون بعد أيّام، توهّم القوّاد أنّ هذا الحال ممّا تغيّر له المأمون على الحسن بن سهل. وبلغ ذلك الحسن، كتب للمأمون يقول: قد تولّى أمير المؤمنين من تعظيم عبده فى قبول أمته سببا لا يتّسع له الشكر عنه إلاّ بمعونة التوفيق، فرأيه أدام الله عزّه فى إخراج توقيع بتزيين حالى فى العامّة والخاصّة بما يراه صوابا إنشا الله تعالى. -فخرج إليه التوقيع: الحسن بن سهل زمام على جميع أمور الخاصّة وكفّ (14) أسباب العامّة، وإحاطة بالنفقات ونقد بالولاة، وإليه الخراج والبريد واختيار القضاة، جزاء لمعرفته بالحال التى قرّبته منّا، وإثابة لشكره إيّانا على ما أوليناه وجميع ذلك بخطّ يد المأمون: ثمّ أحضره وقرّبه وأدناه وأقطعه أعمال الصلح بكمالها، وعاتبه على اجتهاده وما حمله على نفسه. فقال له: يا أمير المؤمنين، أتظنّ أنّ هذا من مال الحسن بن سهل؟ والله ما هو إلاّ مالك

(1) مايتى من: مايتى منا (14) كف: كف

ردّ إليك. وأردت أن يفضّل الله أيّامك على جميع أيّام من ملك، كما فضّلك على جميع خلقه. فأمر له بألفى ألف دينار حملا معجّلا وأمّا الثانية دعوة تركواز ابنة المعتزّ بالله، فقد ذكرتها وسقتها فى كتابىّ «حدايق الأحداق» و «أمثال الأعيان» وملخّصها أن المعتزّ بالله جلس بعد فراغ القوّاد والأكابر من المأكل، ومدّت بين يديه مراقع ذهب مرصّعة بأنواع الجواهر، وعليها أمثلة من العنبر والندّ والمسك المعجون على صفة جميع الصور. وجعلت بساطا ممدودا، وأحضر القوّاد والجلسا وأصحاب المراتب، فوضعت بين أيديهم صوانى الذهب مرصّعة بالجواهر من الجانبين فيهم المباخر الذهب المرصّعة (9). وبين السماطين فرجة، وجاء الفرّاشون بزنابيل قد غشّيت بالأطلس مملوءة دراهم ودنانير نصفين. فصبّت فى تلك الفرجة حتى ارتفعت على الصوانى. وأمر الحاضرون أن يشربوا (11) من شا ما شا، وأن ينتقل كلّ من شرب من تلك الدنانير والدراهم بثلاث حفنات ما حملت يديه، وكلّما خفّ موضع صبّ عليه من الزنابيل التى مع الفرّاشين حتى يردّ على حالته. ثمّ وقف فى آخر المجلس غلمان، كأنّهم اللؤلؤ والمرجان، فصاحوا: إنّ أمير المؤمنين يأمركم ليأخذ من شا ما شا. - قال: فمدّ الناس أيديهم إلى المال، فأخذوه عن آخره، وكان الرجل منهم يثقل ما معه، فيخرج به، فيسلّمه إلى غلمانه، ثمّ يعود إلى مكانه. ولمّا تقوّض المجلس خلع على الناس خمسة آلاف خلعة. وحملوا على خمسة آلاف مركب من الذهب والفضّة، وأعتق خمسة آلاف نسمة. هذا ملخّص هذه الوليمة، والله أعلم

(9) فيهم. . . المرصعة: بالهامش (11) يشربوا: يشربون

وكان الحسن بن سهل أخا (1) الفضل بن سهل المعروف بذى الرياستين، وكانا مجوسيين (2) فى أيّام الرشيد. وكان الفضل قد ظهرت ليحيى بن خالد البرمكىّ مخايل فضله ودلايل عقله وهو على دينه. فقال يحيى بن خالد: يا فضل، أسلم! أجد السبيل إلى اصطناعك. -فأسلم على يدى الرشيد، ولم يزل فى جنبته حتى رقى رتبته. وكان قد ذكره يحيى بن خالد للرشيد، فأجمل الثنا عليه فأمر بإحضاره. فلمّا رآه أفحم، فنظر الرشيد إلى يحيى كالمستفهم، ففهم الفضل، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ من أدلّ الدليل على فراهة العبد أن تملك هيبة مولاه لسانه وقلبه. -فقال الرشيد: إن كنت سكتّ لتقول هذا القول لقد أحسنت. وإن كان هذا شئ اعتراك عند الحصر لقد أجدت. -وزاد فى إكرامه وبرّه وتقريبه، وجعل لا يسأله بعد ذلك عن شئ إلاّ أجابه بأفصح لسان وأجود بيان قال سهل بن هرون أحد (12) فلاسفة الإسلام: وممّا حفظ من كلام ذى الرياستين الفضل بن سهل ممّا رأينا تخليده فى الكتب، ليؤتمّ به وينتفع بمنقول حكمته، قوله: من ترك حقّا فقد غبن حظا، ومن قضى حقّا فقد أحرز غنما، ومن أتى فضلا فقد أوجب شكرا، ومن أحسن توكّلا لم يعدم لله صنعا، ومن ترك لله (16) شيا لم يجد لما ترك فقدا، ومن التمس بمعصية لله حمدا عاد ملتمس ذلك عليه ذمّا. ومن طالب بخلاف الحقّ له دركا عاد ما أدرك من ذلك له موبقا. وذلك أوجب الفلح للمحسنين، وجعل سوء العاقبة للمسيئين المقصّرين وكان ذو الرياستين يقبل صواب القايلين بما فى قوّته من صفا الغريزة وجودة النحيزة. فهو كما قال أبو الطيّب المتنبّى <من الخفيف>: ملك منشد القريض لديه … يضع الثوب فى يدى بزّاز

(1) أخا: اخى (2) مجوسيين: مجوسا (12) أحد: احدى (16) لله: الله

ثمّ إن العبد خرج عن شرط الاختصار، حتى عاد كالمهذار. وإنّما سقنا هذا الكلام لفوايد عدّة، أحدها أنّ الكتب تملّ إذا كانت على منوال واحد فى الحديث. فقصدنا تطريز الكلام، بنوادر الأحكام. والأخرى ليكون ذلك ردّا على من يتشرّع بغير شرع، ويتّبع الخلاف ويدّعى فى العلم فلسفة، فيقول: إنّ ما أنفق فى هذا المهمّ الناصرىّ إسراف، فقصدنا أن ننبّه أنّ مولانا السلطان متّبع لا مبتدع، مقصّر عن كلّ أمر مخترع، لا يخرج عمّا استنّه السلف، وأنّه أعزّ الله أنصاره نعم الخلف، أمدّ الله على كافّة المسلمين ظلّه، ورفع فوق السّماكين محلّه وفيها كانت الفتنة بإسكندريّة فى شهر رجب الفرد بين أهلها ومتولّيها ركن الدين بيبرس الكركرىّ، ورجموه بالثغر مرّة. ثمّ إنّه سايس أمره فيها. فلمّا كان فى شهر رجب رجموه أيضا، وهرب منهم إلى دار النيابة. فتبعوه، فغلّق الباب فأرادوا حريقه بالنار. فلمّا عاين منهم الجدّ وأنّهم لا يرجعون عنه، بطّق بصورة الحال، فرسم للأمير علاء الدين الجمالىّ الوزير بالتوجّه إليه فى أسرع وقت. فتوجّه إلى الثغر وصحبته ثلاثة أمرا، فيهم سيف الدين طوغان الشمسىّ، مملوك الأمير سيف الدين سنقر الطويل، وكان يومئذ شادّ الدواوين بالأبواب العالية فى خدمة الأمير علاء الدين الجمالىّ. فوصل الأمير علاء الدين الجمالىّ إلى الثغر المذكور، ومسك جماعة كبيرة، ووسّط منهم وقطع أحدا (18) وثلاثين نفرا، ممّن كانوا أصحاب الفتن ورءوس الأحزاب. ثمّ قبض على جماعة من كبار البلد ممّن استحسنوا لأوليك المفتنين، وجناهم ما جملته ألف ألف درهم وسبعين ألف درهم، وحمل ذلك

(18) أحدا: احد

إلى الأبواب العالية. ثمّ وسعهم حلم مولانا السلطان وعفوه وسعة صدره الشريف الذى كما قيل <من الكامل>: لله صدر للإمام كأنّما … أقطار طاعته (3) به قطمير تتزاحم الأضداد فيه فتنثنى … عنه وليس لوقعها تأثير وفيها وصل الأمير سيف الدين تنكز ملك الأمرا بالشأم المحروس إلى الأبواب العالية زايرا، ففاز بتقبيل الأرض بين يدى المواقف الشريفة السلطانيّة، فلمّا كان يوم الأحد خامس ربيع الآخر، تغيّرت الخواطر الشريفة على مماليكه الأميرين، الأمير سيف الدين طشتمر الساقى، والأمير سيف الدين قطلوبغا، وكان ذلك أوّل هذا النهار. ثمّ رجع مولانا السلطان إلى أصله الشريف ولينه الطاهر. فإنّ هؤلاء الأمرا عنده بمحلّ الأولاد، يلاحظهم بعين التربية والشفقة. فلمّا كان أذان الظهر من ذلك اليوم رسم للأمير سيف الدين طشتمر أن يسكن القلعة ويستقرّ على إمرته وإقطاعه. ورسم للأمير سيف الدين قطلوبغا بالتوجّه إلى دمشق المحروسة أمير ماية مقدّم ألف. فتوجّه صحبته ملك الأمرا. وذلك يوم السبت حادى عشر ربيع الآخر وفيها انفصل شهاب الدين بن المهمندار من نقابة الجيوش المنصورة. وتولّى عزّ الدين دقماق مكانه، ومشى فى النقابة بخلاف ما كانا عليه متقدّماه

(3) طاعته: طاعة

ذكر [حوادث] سنة ثمان وعشرين وسبع ماية

ذكر [حوادث] سنة ثمان وعشرين وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا ما لخص من الحوادث الخليفة الإمام المستكفى بالله أبو (5) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر، مدّ الله على البسيطة ظلاله، وأسبغ عليه نعمه وأفضاله والأبواب العالية فى هذه السنة بغير نايب، بحكم انتقال الأمير سيف الدين أرغون إلى نيابة حلب، حسبما سقناه من قبل، والمتحدّث بالأبواب العالية يومئذ: الأمير سيف الدين ألماس أمير حاجب، والحاجب فى خدمته: الأمير سيف الدين آقول المحمدىّ، وكذلك الأمير بدر الدين مسعود بن خطير متّخذا فى الحجبة بين يدى المواقف الشريفة السلطانيّة، والوزير: الأمير علاء الدين الجمالىّ إلى حين انفصاله من الوزارة فى هذه السنة، والنوّاب بالممالك: الأمير سيف الدين تنكز ملك الأمرا بالشأم المحروس بدمشق، والأمير سيف الدين أرغون ملك الأمرا بحلب، والأمير سيف الدين طينال النايب بطرابلس، والأمير سيف الدين الحاجّ أرقطاى نايب صفد، والأمير حسام الدين لاجين الصغير نايب غزّة والملوك بالأقطار: مكّة شرّفها الله تعالى مع الأميرين رميثة وعطيفة، صاحب المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام: كبيش بن ناصر الدين منصور بن جمّاز بن شيحة، وصاحب (20) حماة: الملك المؤيّد عماد الدين

(5) أبو: ابى (20) وصاحب. . . اسماعيل: بالهامش

إسماعيل، وصاحب اليمن: الملك المجاهد علاء الدين علىّ بن الملك المؤيّد المقدّم ذكره، وصاحب الهند بدلى: شمس الدين محمد بن الملك المسعود محمود بن سنجر المقدّم ذكره، وصاحب ماردين: الملك الصالح شمس الدين صالح بن المنصور بن المظفّر إيلغازى، وصاحب العراقين وخراسان: الملك أبو سعيد بن خدابنداه وهو صالح، وصاحب ماورا النهر من ملوك التتار: الملك كوبك المقدّم ذكره، وصاحب بلاد بركة: الملك أزبك نسيب الأبواب العالية الناصريّة أعلاها الله تعالى، وصاحب البلاد الشماليّة من ملوك التتار: كباك بن منغطاى بن قنجى المقدّم ذكره، وصاحب التخت ببلاد الصين: قآن قلاصاق بن شرمون بن منغلاى المقدّم ذكره، وملوك الغرب ما اتّصل بنا فى هذا التأريخ حسبما نذكر من أسمايهم: صاحب مرّاكش:. . .، صاحب الأندلس:. . . .، صاحب تونس:. . . . (12) وفيها كان وصول دمرداش بن جوبان صاحب الروم وما معها. وكان سبب حضوره إلى الأبواب العالية، أنّ القول تقدّم من العبد أنّ أبا سعيد لمّا تملّك كان دون البلوغ، وكان فى كفالة جوبان، وأنّ من أولاد جوبان دمشق خجا، وأنّه كما قيل إنّ أمّ أبى (16) سعيد كانت ترى له، وكان الغالب على أمر الملك بسبب نظر الخاتون إليه. فلمّا كبر أبو سعيد وبلغ حدود الرجال، وعرف لذاذة الملك ونفوذ الأمر، رأى أنّ ما له تصرّف مع دمشق خجا لعناية أمّه به وتمكّن أبيه (19) جوبان من دولته. وانتشى أيضا مع أبى سعيد جماعة من الصغار الذين ضمّهم المربى. فحسّنوا له

(12) مكان أسماء الملوك بياض فى الأصل (16) أبى: ابا (19) أبيه: ابوه

قتل دمشق خجا، فنصب له الحبايل حتى قتله. وكان أبوه جوبان فى تجريدة نحو خراسان. فلمّا بلغه ذلك حشد الحشود وجمع الجموع وأقام شخصا (3) من عظم القآن يسمّى ساؤور، وقصد خلع أبى سعيد من الملك وإقامة هذا الرجل الذى من عظم القآن، لعلمه أن ملك التتار لا يقوم به إلاّ من يكون من أصل العظم، على ما أسّسه لهم جكز خان من اليسق الذى لا يخرجون عنه. وجوبان فليس من عظم الملك. ثمّ إنّه قصد الأردوا طالبا لأبى سعيد وانتزاعه من الملك، وإقامة ذلك الشخص ساؤور. وجوبان يظنّ أنّ الأمر بيده وهو قادر عليه لتمكّنه فى الدولة ولطاعة التتار لأمره. ولم يعلم أنّ ما خاب إلاّ ظنين، ولا هزل إلاّ سمين. فلمّا بلغ أبا (9) سعيد قرب جوبان إليه، وما قد عزم عليه، خرج له فى عساكره ومن هم فى طاعته حافظين عهوده، وعهود آبايه وجدوده. فما كان إلاّ حيث وقعت العين فى العين وقفزت جميع التوامين الذين كانوا مع جوبان، وأتوا تحت الطاعة لأبى سعيد. وعاد جوبان فى شرذمة يسيرة من خواصّه وأهل بيته. فلم يمكنه غير الهرب والنجاة بنفسه. وحصل لذلك الرجل المسمّى ساؤور طعنة فى كتفه وولّى هاربا مجروحا. وعاد أبو سعيد وقد ثبتت قواعد ملكه واستقامت أحواله، وعاد يتطلّب أولاد جوبان وأقاربه من كلّ مكان. وكان هذا دمرداش نايبا بالروم، وكثيرا ما (17) كان يكاتب الأبواب الشريفة. وتردّد إليه فى الرسليّة شخص يسمّى عزّ الدين أيدمر الطويل، كان عند بيبرس العلايى نايب حمص. ثمّ عاد فى خدمة الأمير علاء الدين ألطنبغا نايب حلب. ثمّ توصّل برسليّته حتى سأل دمرداش له دستورا (20) فى المثول بين يدى

(3) شخصا: شخص--أبى: ابو (9) أبا: ابو (17) وكثيرا ما: وكثير مما (20) دستورا: دستور

المواقف الشريفة السلطانيّة، والوفود إلى الأبواب العالية. وذلك لمّا بلغه ما كان من أمر أبيه جوبان وأخيه دمشق خجا مع بقيّة إخوته أولاد جوبان، وما قد وقع عليهم من حثيث الطلب من جهة الملك أبى (3) سعيد. فضاقت عليه الأرض بما رحبت. وسيّر يسأل المراحم الشريفة السلطانيّة-لا زالت ملجأ القاصدين وبحر الواردين-فى الوفود إلى الأبواب الشريفة. فأنعم مولانا السلطان بالجواب بقبول سؤاله، ولا خيّب قصده وآماله. فخرج من بلاد الروم طالبا للأبواب الشريفة {خائِفاً يَتَرَقَّبُ} (7) وكان وصوله إلى الأبواب الشريفة عشيّة يوم الأربعا سادس شهر ربيع الأوّل، والركاب الشريف السلطانىّ -أعلاه الله تعالى وقد فعل، وأذلّ له رقاب الملوك أولى (9) الخول وأرباب الدول، وإن كان على مثل ذلك لم يزل-فى برّ الجيزة بمنزلة الأهرام متوجّها للصيد المبارك. فلمّا كان نهار الخميس سابعه طلع الركاب الشريف إلى القلعة المحروسة، ودمرداش مترجّل (12) فى الخدمة الشريفة فى جملة الموالى الأمرا. وكان هذا دمرداش قد ملك عدّة ممالك بالشرق، واحتوى على جميع إقليم الروم مملكة السلجوقيّة المقدّم ذكرهم وذكر ممالكهم. ولم يقنع بذلك، بل تسلّط (15) على جميع ما كان حوله من الممالك بتلك النواحى، وخافوه ساير ملوك تلك البقاع حتى تحصّنوا منه ومن شرّه فى الحصون المانعة، وليس بمانعتهم حصونهم (17). ووصل إلى الأبواب الشريفة منهم جماعة مستصرخين، وبالمراحم الشريفة من شرّه مستجيرين. وتغلّب على أكثر الممالك، وعاد فى ملك كبير جدّا. وكان رجلا (19) شديد البأس، لا يصطلى له بنار. وكان حضوره إلى الأبواب العالية من أكبر أسباب السعادة. وهذا أمر لم يتمّ

(3) أبى: ابو (7) السورة 28 الآية 18 (9) أولى: اولو (12) مترجل: مترجلا (15) بل تسلط: على تسلط (17) بمانعتهم حصونهم: قارن السورة 59 الآية 2 (19) رجلا: رجل

لأحد من ملوك الإسلام، منذ خروج التتار من بلاد قراطاغ وإلى ذلك التأريخ، ولا حضر مثل هذا ولا قريب من نظرايه، إلاّ إن كان سلامش ابن باكوا بن باجوا المقدّم ذكره. والآخر أيضا حضر فى أيّام مولانا السلطان، وداس بساط العدل ودخل تحت الطاعة. وكان أيضا من عظما التتار ومن عظم الملك. وإنّما لم يكن فى يد سلامش ما صار فى يد دمرداش من ملك الروم وغيره. ولا طالت أيّامه فى الملك بالروم كما طالت أيّام دمرداش. وعلى الجملة فسبحان من أذلّ لمولانا السلطان رقاب الملوك الجبابرة، من ملاّك ملوك أملاك الأكاسرة والقياصرة. وأقبل عليه مولانا السلطان إقبالا كثيرا (9)، ورتّب له الراتب الحسن، وفعل فى حقّه ما كان فوق من أمله. وأقام فى خدمته الأمير سيف الدين طوغاى الجاشنكير. ومن جملة إحسان مولانا السلطان إليه أنّه شدّ له تعاليق حياصة بيده الشريفة، ونفذها إليه على ترتيب حوايص الموالى الأمرا. هذا كلّه لجبره وجبر خاطره، ولمّا كان يوم السبت سلخ ربيع الأوّل وصل طلب دمرداش ومن أصحابه جماعة منهم: محمود وماهنباه وأخى عثمان ويونس. وأنزلوا بالقلعة المحروسة، ورتّب لهم الرواتب الكثيرة جدّا من ساير المآكل الفخرة. فأقام دمرداش فى أنعم عيش وأرغده من تقريب مولانا السلطان له. وتوجّه فى الركاب الشريف إلى الصيد، فنظر من فروسيّة مولانا السلطان عزّ نصره وصبره على مداومة الركوب وقوّة الركض ما حيّره فى عقله، وصغرت عنده شجاعة نفسه. ثمّ إنّ البلاد لم توافقه، فحصل له توعّك، وسقط بالوفاة يوم الأربعا ثانى وعشرين ذى القعدة من هذه السنة المذكورة

(9) إقبالا كثيرا: اقبال كثير

ذكر [حوادث] سنة تسع وعشرين وسبع ماية

وفيها توفّى الشيخ تقىّ الدين بن التيميّة، رحمه الله تعالى وفيها حضروا رسل الملك أبى (2) سعيد ونظروا دمرداش فى الخدمة الشريفة، وما هو فيه من الإحسان إليه والإقبال عليه. وتوجّه فى جوابهم الأمير سيف الدين أروج، وعاد من البلاد فى الثامن والعشرين من شهر شعبان المكرّم وفيها وردت الأخبار بوفاة قراسنقر فى البلاد، وانقطعت أخباره ذكر [حوادث] سنة تسع وعشرين وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا [ما لخص من الحوادث] الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (10) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان عزّ (11) نصره: الملك الناصر والأبواب العالية بغير نايب ولا وزير بحكم ضعف الأمير علاء الدين الجمالىّ، والمتحدّث فى محلّ الوزارة واستخلاص الأموال، مضافا إلى ما كان بيده من شادّ الخاصّ الشريف: علاء الدين بن هلال الدولة، واجتمع له من الشدود والوظايف (15) السنيّة بالأبواب الشريفة ما لم يجتمع لغيره، حتى عادت ساير الأحوال المتعلّقة بالمملكة الشريفة مغدوقة به وتحت أمره ونهيه، كلّ ذلك توصّل إليه بمكره وحيله التى لو أنّ البطّال الذى يحكى عنه سيرته أدركه فى زمانه لكان يتعلّم من مكره وحيلته. وتوصّل إلى ذلك بما حصّله من الخزانة التى كانت قد خرجت مع كريم الدين الكبير عام

(2) أبى: أبو (10) أبو: ابى (11) عز. . . الناصر: بالهامش (15) والوظايف: والوصايف

مسك، حسبما ذكرناه. وهذا ابن هلال الدولة (1) ليس له أصالة ولا بيت. وإنما أصله من فلاّحين البهنسا، من قرية تسمّى دير القضون بالأعمال المذكورة. وكان جدّ خاله يسمّى هلالا (3)، وكان من فلاّحين الطواشى بلال المغيثىّ. فلمّا توصّل خاله المجد، وخدم فى شدود من جهات القاهرة تسمّى بابن هلال الدولة، وأعلى ما وصل إليه خاله الأصلىّ شادّ المواريث. وكان هذا علىّ يركب حماره بقباء مقطّع وزربول فى رجله، صفة غلام خلف خاله المجد، ولم يزل كذلك زمانا طويلا (7). ولقد شاهدته فى خدمة إحدى خشداشيّتنا (8) كان يسمّى بيبرس الدوادارىّ، وكان بيبرس المذكور قد فوّضه كتبغا شادّ عمارة المدرسة التى كان قد أنشأها، وعادت لمولانا السلطان عزّ نصره المعروفة الآن بالناصريّة. وكان هذا علىّ واقفا (10) جندارا فى أضعف حال يكون. فتوصّل حتى خدم القاضى شهاب الدين ابن عبادة، وكيل الخاصّ الشريف فى أوّل حلول الركاب الشريف السلطانىّ من الكرك المحروس. ثمّ كان فى خدمة القاضى كريم الدين الكبير. فحصّل من الأموال السلطانيّة مالا عظيما (14). فلمّا مسك كريم الدين احتوى على الخزانة المقدّم ذكرها، وخدم الناس بأموال السلطان حتى نال أغراضه، وأنعم عليه بطبلخاناه، وعاد وزيرا مستقلاّ، لم ينقص عن ذلك إلاّ اسم الوزارة. وحصّل من الأموال ما لا يعلم إلاّ الله عزّ وجلّ، ولم يزل مستقلاّ بالأمر إلى حين نظر مولانا السلطان فى حال الإسلام، وتسليطه على خلق الله تعالى. فمسك فى سنة أربع وثلاثين وسبع ماية، حسبما نذكر من خبره فى تأريخه إنشا الله تعالى

(1) الدولة: بالهامش (3) هلالا: هلال (7) زمانا طويلا: زمان طويل (8) خشداشيتنا: خشداشينا (10) واقفا: واقف (14) مالا عظيما: مال عظيم

وفيها عزل مجد الدين بن لفينة من نظر الدولة ورفيقه الشمس ابن قروينه (2). وتولّى عوضهما علم الدين بن التاج إسحق ورفيقه تقىّ الدين ابن السلعوس وفيها تولّى القاضى محيى الدين بن فضل الله صحابة (4) ديوان الإنشا الشريف، بحكم ضعف القاضى علاء الدين بن الأثير بمرض الفالج الذى ما شهد بمصر مثله، لما ناله من الضعف والمرض الغريب حتى بطل ساير جسده، ولا عاد يتحرّك فيه غير جفونه. وعادت زوجته تحضر اللوح والدواة قدّامه وتكتب من أوّل الحروف، فكلّ حرف يكون متضمّنا (8) اسم الحاجة التى يقصدها يكسر جفنه لها، فتفهم منه أنّه ذلك الحرف حتى تجمع من تلك الأحرف اسم تلك الحاجة التى يطلبها، فتحضرها له. وهذا من غريب البلايا، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلىّ العظيم، فإنّنى كنت إذا رأيته على هذه الحالة تتقطّع كبدى عليه أسفا، لما كان بيننا من الصحبة المتأكدة. ولم يزل كذلك حتى توفّى فى سنة ثلاثين وسبع ماية، رحمه الله تعالى وفيها يوم الاثنين سلخ جمادى الآخر حضر رسل الملك أبى (14) سعيد وهم: تمربغا وولده أمير زان ورفقتهما وصحبتهما من الهدايا: خيول أربعة عشر إكدش، طيور عشرة، مماليك سبعة. وأكرمهما مولانا السلطان غاية الإكرام، وأحضرهما على الخوان، وبعد شيل الخوان دخلت السقاة، فتناول مولانا عزّ نصره الهناب من الساقى وأسقى الرسول تمربغا من يده الشريفة، بسطها الله بالعدل والإحسان إلى آخر الزمان

(2) قروينة: قروينه (4) صحابة: صحاب (8) متضمنا: متضمن (14) أبى: ابو

ذكر [حوادث] سنة ثلاثين وسبع ماية

وفيها حضر الأمير سيف الدين أرغون. إلى الأبواب الشريفة بنيّة الزيارة والفوز بمشاهدة مولانا السلطان عزّ نصره، وذلك فى عاشر جمادى الآخرة، وسافر متوجّها إلى حلب يوم الخميس سادس وعشرين الشهر المذكور. وودّع مولانا السلطان عزّ نصره من القصر الأبلق، وأخلع عليه خلعة السفر، قباء محقّقا (5) بطرز شركس وفيها توفّى الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب والأمير شرف الدين حسين بن جندر بيك، رحمهما الله تعالى ذكر [حوادث] سنة ثلاثين وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم. مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع ما لخص من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (12) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم الملك الناصر سلطان الإسلام، أبقاه الله كعبة الآملين، وعصمة الخايفين والأبواب العالية بغير نايب، والمتحدّث فى الجيوش المنصورة وشكاوى الناس: الأمير سيف الدين ألماس أمير حاجب، وفى الأموال: ابن هلال الدولة حسبما ذكرناه والنوّاب بالممالك الشأميّة: الأمير سيف الدين تنكز ملك الأمرا بالشأم المحروس، والأمير سيف الدين أرغون ملك الأمرا بحلب، والأمير سيف الدين طينال نايب أطرابلس، والأمير سيف الدين الحاجّ أرقطاى

(5) محققا: محقق--شركس: كذا فى الأصل، ربما المقصود زركش (12) أبو: ابى

نايب صفد، وحسام الدين لاجين بغزّة، والملوك بالأقطار حسبما ذكرناه فى السنة الخالية وفيها وصل الملك عماد الدين صاحب حماة إلى الأبواب العالية، وتوجّه فى خدمة الركاب الشريف إلى الصيد المبارك بالوجه القبلىّ. ولمّا عاد توجّه إلى محلّ ملكه من إنعام مولانا السلطان عليه وفيها حصل للمقام الشريف ما حصل من التوعّك بسبب يده الشريفة، وقاها الله المحذورات، وبسطها وإن كانت لم تزل مبسوطة بالخيرات. وكان التوعّك بهذا السبب مدّة سبعة وثلاثين يوما. ولقد بلغ العبد أنّ المجبّر الذى جبر الله الإسلام بصناعته يقال له ابن أبى ستّة، وكان حاله قد تضعضع. فكان أكثر أوقاته يقول فى دعايه: يا الله، كسرة بجبرة! -فلمّا جبر الله تعالى الإسلام، بعافية يد سيّد ملوك الأنام، حصل له من البرّ والإحسان والإنعام، ما جبر به كسره العامّ. فلمّا كان يوم الأحد رابع شهر جمادى الآخر جلس مولانا السلطان بالإيوان، وقد منّ الله تعالى على المسلمين بنعمه الوافية، وجمع له بين الأجر والعافية. لا زال فى كلّ حين من بهجة سلطانه ميسم، ولكلّ ثغر من نضارة زمانه مبسم، وأيّامه مصقولة الحواشى والأطراف، وأياديه بادية بالإسعاد والإسعاف. ثمّ إنّ صدقاته العميمة عمّت فى ذلك النهار الخاصّ والعامّ، وفرّق الإقطاعات على أولاد الأجناد الأيتام، وكان يوما مشهودا، والملايكة بما فعله من الصدقات فيه شهودا (18) وفيها كانت الفتنة بمكّة شرّفها الله تعالى. وقتل الأمير سيف الدين آلدمر أمير جاندار وولده وابن التاجىّ، وجماعة من المماليك الذين كانوا مع

(18) شهودا: شهود

آلدمر. وكانت فتنة كبيرة أشرف الحاجّ فيها على التلاف والنهب. ثمّ سلّم الله تعالى الركب، وخرجوا سالمين بعد ما نهب بعضهم وفيها أفرج الله تعالى عن الأمير سيف الدين بهادر المعزّىّ، وذلك فى العشر الأخير من جمادى الآخرة، وأنعم عليه بإقطاع الأمير علم الدين سنجر الجمقدار ماية فارس، بحكم انتقال الأمير علم الدين إلى الشأم المحروس وفيها تولّى القاهرة ناصر الدين محمد بن المحسنىّ، عوضا عن الأمير عزّ الدين أيدمر الجمقدار الزرّاق. وكان الأمير عزّ الدين قد وليها عوضا عن الأمير سيف الدين قدودار أستادار (8) برلغىّ كان. فلمّا توفّى قدودار وليها المشار إليه، فاستمرّ إلى هذا التأريخ وهو العشر الأوّل من ذى الحجّة. فسار فى الولاية أحسن سيرة، وكان كثير القلق (10) منها، متوجّها إلى الله عزّ وجلّ فى طلب الخلاص من فتنتها. فاطّلع الله تعالى على نيّته، فأحسن خلاصه بما هو أميز منها، وانتقل إلى أمير جانداريّة بين يدى المواقف الشريفة. وكان هذا محمد بن المحسنىّ قد توصّل حتى تولّى إقليم المنوفيّة. ثمّ توصّل بماله ومال أبيه بدر الدين بلبك المحسنىّ حتى تولّى القاهرة فى هذا التأريخ. وهذا بلبك المحسنىّ من أنطاكية، كسب منها عند ما فتحها السلطان الملك الظاهر رحمه الله، كسبه بعض مماليك الطواشى محسن، فعرف بالمحسنىّ. ثمّ إنّه كان تولّى القاهرة فى دولة البرجيّة مرّتين، وهو كثير المكر والحيل. فانتقل بمكره إلى نيابة ثغر الإسكندريّة. فحصّل فى مباشراته أموالا (19) عظيمة. فلمّا مسك كريم الدين الكبير توجّه الأمير علاء الدين الجمالىّ ومسكه وأخذ منه بعض شى. ثمّ رسم باعتقاله، فتحيّل واشترى نفسه

(8) قدودار أستادار: قدوادار استادار (10) القلق: القلق (19) أموالا: اموال

بشى من المال، وتخلّص واستمرّ بطّالا (1). ثمّ تحيّل حتى أخذ إمرة عشرة، وتحيّل بماله لولده محمد هذا حتى تولّى القاهرة فى هذا التأريخ. ومشى فيها أيشم مشى. وتسلّط أخوه عمر المجنون على حريم المسلمين يأخذهنّ (3) بيده من بيوتهم اغتصابا (4)، وفعل فى القاهرة ما لا يمكن شرحه. وكذلك مماليك محمد نفسه فعلوا أقبح فعل. وله مملوك يسمّى بيدرا عامل الحراميّة على أموال الناس، وكان شخص حرامىّ يسمّى المصيطيلة، اصطنعه محمد ابن المحسنىّ، وجعله قدّامه صفة نوّاب (7). فكان عنده عدّة من الحراميّة يأخذون أموال الناس، وعليه مقرّر لذلك المملوك فى الظاهر والباطن لأستاذه سبع ماية درهم نقرة فى كلّ جمعة. وعادت أموال الناس تنهب وحريمهم تؤخذ وأولادهم تغصب. وفعلوا فى القاهرة ما لا لحقوه البحريّة فى أيّامهم. وعدمت فى تلك الأيّام عدّة عملات، منها لجماعة من الأمرا منهم: الأمير سيف الدين طرغاى الجاشنكير، والأمير سيف الدين أروس بغا، وجمال الدين بن كرامىّ أمير عشرة، وابن منصور المرحّل المعامل بالإصطبلات السلطانيّة. هؤلاء ممّن لهم صورة بين الناس وراحت أموالهم. ولا قدروا على خلاصها وجميعها تحمل للوالى فى الباطن. وأمّا الرعيّة الضعفا الحال فشئ كثير جدّا، ولا يقدرون يتكلّمون، وإن تكلّموا قال لهم الوالى: أحضروا أولادكم ونساكم وجيرانكم! - فيرى صاحب الصنايع ترك ماله أرجى له، فيجعل الأجر على الله عزّ وجلّ. وأشيا جرت لو شرحتها لم يسعها أوراق

(1) بطالا: بطال (3) يأخذهن: ياخذهم (4) اغتصابا: اغتصاب (7) نواب: تواب

ذكر [حوادث] سنة إحدى وثلاثين وسبع ماية

وكان بالقاهرة مقدّم بدار الولاية يسمّى محمد بن الأشمونىّ، وكان جلدا فى الظلمة، لا يخيفه (2) منجسّة ولا يفوته حرامىّ، فاطّلع على جميع هذه المصايب. وكان مولانا السلطان قد علم من هذا المقدّم النهضة (3)، فعاد يقرّبه ويتحدّث معه، فربّما أنّ هذا المقدّم تكلّم بين رفاقه بشى ممّا أنكره من هذه الأحوال. فبلغ ذلك الوالى ابن المحسنىّ، فخشى غايلته، فاستغنم غيبة الركاب الشريف فى الصيد، لا بل فى الحجاز الشريف، واختلق له ذنوبا، ولم يزل يضربه بالمقارع ضرب التلف حتى علم أنّه قد قضى شغله. فلم يقم المقدّم إلاّ أيّاما (8) يسيرة وهلك. فلمّا حلّ الركاب الشريف من الحجاز الشريف بلغ المسامع الشريفة بعض شى، لا هذه الأحوال بجملتها. وفهم ابن المحسنىّ ذلك، فسعى سعيا عظيما حتى إنّه لمّا انفصل لم يعارض، ولا أخذ منه الدرهم الفرد. وخرج من الولاية فى تأريخ ما يذكر، وقد حصّل من الأموال ما لا يحصيه إلاّ الله تعالى ذكر [حوادث] سنة إحدى وثلاثين وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما لخص من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (16) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر سلطان الإسلام، سربله الله من سلطانه سلطانا جديدا، ونظم له من توفيقه قلايد (18) وعقودا، والنوّاب بمصر والشام، حسبما تقدّم من الكلام، فى ذلك العام، وكذلك الملوك. على هذا السلوك

(2) يخيفه: يخفاه (3) النهضة: النهظة (8) أياما: ايام (16) أبو: ابى (18) قلايد: قلايدا

وفيها فى أوّل المحرّم برزت المراسم الشريفة بتغيّر المناظر الظاهريّة بالميدان المبارك السعيد. وكان ذلك بشادّ محمد المحسنىّ متولّى القاهرة يومئذ، ونظر الأمير سيف الدين آقبغا عبد الواحد. وانتهت العمارة المباركة فى شهر ذى الحجّة. ولعب فيه مولانا السلطان عزّ نصره الأكرة يوم السبت سابع عشر الشهر المذكور. وفرّق فيه الخيول على الموالى الأمرا بسروجها. وأنعم بالخلع والحوايص الذهب على الأمرا والمقدّمين، وأخلع على الأمير سيف الدين آقبغا عبد الواحد أطلس بطرز زركش كامل وحياصة ذهب مجوهرة، وعلى محمد بن المحسنىّ كنجىّ تمام وكلوتة زركش وحياصة ذهب، وعلى علاء الدين بن أمير حاجب والى مصر ملوّن كامل تمام، وعلى الأمير سيف الدين الملك ابا وكندار قباء مقصّب بطرز وفيها يوم الاثنين سادس وعشرين ذى الحجّة أنعم مولانا السلطان عزّ نصره على نجله الشريف أمير أحمد بن مولانا السلطان بإمرة، ولبس من المدرسة وشقّ القاهرة بشربوش العادة وخلعة كنجىّ مصمت (14) العادة وسنجق وثلاثة أجمال، ولبس الأمير سيف الدين ألماس أمير حاجب أطلس كامل، الأمير علاء الدين أيدغمش مثله، الأمير سيف الدين آقول طرد كامل، الأمير بدر الدين بن مسعود بن خطير مثله، الأمير سيف الدين تمر الموسوىّ مثله، عزّ الدين دقماق مثله، أمير علم مثله، علاء الدين الدوادار مثله، ابن عيّاش كنجىّ أحمر، شهاب الدين صاروجا كنجىّ أحمر تمام، السنجقداريّة بغلطاق، الوشاقىّ بغلطاق، علىّ الدمشقىّ بغلطاق، خضر بن شاملك (21) بغلطاق

(14) مصمت: لعله مسمط (21) شاملك: كذا فى الأصل ولعل صوابه «شاه ملك»

فلمّا كان يوم الثلاثا سابع عشرين ذى الحجّة نزل مولانا السلطان عزّ نصره إلى الميدان الذى تحت القلعة المنصورة، وسفّر ولده المشار إليه الأمير شهاب الدين أمير أحمد إلى الكرك المحروس، وصحبته الأمير سيف الدين أرم بغا أمير جاندار. وخرج بطلبه وجنايبه، وخرج فى خدمته لتوديعه الأمير سيف الدين بكتمر الساقى. وولده أمير أحمد، والأمير سيف الدين ألماس الحاجب، وآقول المحمدىّ، والأمير بدر الدين أمير مسعود، وعزّ الدين أيدمر دقماق، وشهاب الدين صاروجا وفيها يوم السبت خامس عشر رمضان حمل مهر النجل الشريف السلطانىّ آنوك بن خوند طغاى (9) إلى بيت المقرّ السيفىّ بكتمر الساقى على ثلاثة بغال، الأوّل صندوقين ضمنها خمسة آلاف دينار، وبغلين قماش، وثلاثة أرؤس خيل فحل، وحجرتين بسروج ذهب، وخمسة مماليك على يد كلّ مملوك بقجة. وأخلع الأمير سيف الدين بكتمر عليهم من الخلع: الأمير علاء الدين أيدغمش أمير آخور أطلس كامل بحياصة مجوهرة، الأمير سيف الدين طقتمر الخازن مثله. شمس الدين موسى بن التاج إسحق أبيض كنجىّ كامل، قاسم السيروان ملوّن كامل، الوشاقيّة خلعة، غلمان الخزانة كذلك وفى هذه السنة كان بالديار المصريّة وباء يسير، وتوفّى جماعة من الأمرا الكبار، وهم: الأمير سيف الدين قجليس أمير سلاح، والأمير سيف الدين منكلى بغا السلحدار. والأمير سيف الدين طرجى أمير مجلس، والأمير حسام الدين لاجين الزيرباج، وشهاب الدين بن سنقر الأشقر. ووردت الأخبار بوفاة الأمير سيف الدين أرغون بحلب. رحمهم الله تعالى

(9) طغاى: بالهامش

ذكر [حوادث] سنة اثنتين وثلاثين وسبع ماية

وعوّضهم الجنّة. وتوجّه إلى حلب الأمير علاء الدين ألطنبغا الحاجب على ما كان عليه من النيابة بها وفيها توفّى شهاب الدين بن المهمندار، والمستقرّ عوضه عزّ الدين أيدمر دقماق فى نقابة الجيوش المنصورة حسبما تقدّم وفيها زاد النيل المبارك فى يوم واحد ستّة وثلاثين إصبعا، وافى ستّة عشر ذراعا فى رابع وعشرين ذى القعدة موافقا للعشرين من شهر مسرى، وكسر فى ذلك النهار ذكر [حوادث] سنة اثنتين وثلاثين وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم. مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وتسعة أصابع ما لخص من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (12) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر سلطان الإسلام، زاد الله به ابتهاج الأيّام، كما غمر بإحسانه كافّة الأنام، والنوّاب بمصر والشام، حسبما تقدّم من الكلام وفيها فى العشر الأوّل من شهر المحرّم توفّى الأمير علاء الدين الجمالىّ الوزير، والمستقلّ بالأمور ابن هلال الدولة. وقد غلب على جميع مناصب الدولة ما لا وصلت إليه الوزرا الكبار، وقد خلى له الوقت، لا نايب يخشاه، ولا وزير يتوقّاه، ولم يكن له تسلّط إلاّ على صعلوك (19)، يكون بيده سبب

(12) أبو: ابى (19) صعلوك: سعلوك

يسير يقوم به أوده، فلا يزال متسلّطا عليه حتى يسلبه ما معه. وأمّا الأغنيا من الناس فيوقّر جانبهم لثلاثة وجوه: إمّا أن يكون ذلك الغنىّ له جاه فلا يتعرّض له لجاهه، وإمّا يكون مطّلعا (3) على خيانته فيخشاه، وإمّا يصانعه بماله، فلا يتعرّض له ويساعده على أغراضه. وأمّا من لا يقدر على واحدة من الثلاث فلا يبرح يحطّ عليه إلى أن يتركه على الأرض البيضا، حتى أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر وفيها ثانى صفر كتب كتاب النجل الشريف الطاهر السلطانىّ-وهو المقرّ الأشرف السيفىّ آنوك (8) بن مولانا السلطان، عضده الله به وبذرّيّته الطاهرة- على بنت المقرّ السيفىّ بكتمر الساقى. وكان ذلك بالقصر الأبلق بحضور الأربعة أيمّة. وفرّق السكريج على الموالى الأمرا. فلمّا كان نهار الاثنين ثالث وعشرين صفر ركب المقرّ السيفىّ آنوك (11) وخرج من باب السرّ من جهة القرافة، والأمرا والمقدّمين فى خدمته. ووصل إلى سوق الخيل إلى تحت الشباك ونزل وباس الأرض، وعليه خلعة أطلس أحمر بطرز زركش وشربوش مزركش. وطلع من باب السرّ الدى بالإصطبل المعمور، ونثر عليه الذهب والفضّة، وأنعم عليه بإمرة ماية فارس وتقدمة ألف. ولبس ذلك اليوم من الأمرا: الأمير سيف الدين ألماس الحاجب أطلس تمام بحياصة مجوهرة، الأحمدىّ أمير جاندار مثله، الأمير علاء الدين أيدغمش أمير آخور مثله. آقول طرد كامل، الأمير بدر الدين أمير مسعود مثله، عزّ الدين دقماق كذلك، جارباش أمير علم كذلك، شهاب الدين صاروجا ملوّن كامل

(3) مطلعا: مطلع (8) آنوك: انك (11) آنوك: انك

وفيها فى يوم السبت سادس ربيع الأوّل حضر رسول الملك أبى (1) سعيد، وهو الحاجّ أحمد وصحبته من الهدايا: بخاتىّ نياق ثمانى قطر، خيول عشرة، مماليك عشرة، جوارى مغانى اثنتين، دبابيس أربعة، بقج قماش عشر، طير ذهب، أنعم به مولانا السلطان على الحاجّ أحمد الرسول، وفى يوم الاثنين استحضره مولانا السلطان وأخلع عليه أطلس كامل وحياصة ذهب، وعلى رفيقه ملوّن (6)، وركّبه فحلا أحمر بسرج ذهب خرج، وعلى ولده كنجىّ كامل وحياصة ذهب، وبقيّتهم خلع ملوّنة. وفى يوم الاثنين سافر الحاجّ أحمد الرسول متوجّها إلى بلاده، وأعطى الفقرا والحرافيش ذهبا جيّدا (9) ودراهم وفيها توفّى القاضى فخر الدين ناظر الجيوش المنصورة، رحمه الله تعالى. وكان فيه برّ وصدقة ومعروف، وإيثار للفقرا والمساكين من أرباب البيوت المستحقّين. ولقد حكى لى وكيله نجم الدين أن كان راتبه فى كل شهر صدقة أربعة آلاف درهم نقرة، خارجا عمّا يحدث وما يتصدّق به من يده، والذى اتّصل إليه القاضى فخر الدين من الحرمة والهيبة والنهضة (14) والكفاية ما اتّصل إليه أحد قبله ولا بعده. وكان له عند مولانا السلطان عزّ نصره المنزلة الرفيعة حتى لا كان يخرج عن رأيه لما رأى فيه من البركة. ولقد حجّ القاضى فخر الدين فى سنة تسع وعشرين. وحضرت إلى الأبواب الشريفة جماعة كبيرة من أمرا العربان من آل فضل وآل مرى وغيرهم فى غيبة القاضى فخر الدين، وعادوا يثقلوا على المواقف الشريفة فى كثرة السؤال ولجاجة الطلب حتى تبرّم منهم، وقال: لقد أتعبنا القاضى فخر الدين

(1) أبى: ابو (6) ملون: بالهامش--فحلا: فحل (9) ذهبا جيدا: ذهب جيد (14) والنهضة: والنهظة

بغيبته، وما كان لهؤلاء أحد مثله. فإنّه كان له سطوة عظيمة على ساير الناس. -وعلى الجملة إنّه ما عاد الزمان يخلفه، فالله تعالى يعوّضه الجنّة ثمّ إنّ مولانا السلطان خلّد الله ملكه راعى خدمته فى ذرّيّته ولم يغيّر عليهما فى مناصبهما مغيّرا (4)، بل زادهما على ما كانا عليه فى حياة أبيهما. واستقرّ بشمس الدين محمد بن عبد الله بن القاضى فخر الدين صاحب ديوان الجيوش المنصورة، وكاتب المماليك السلطانيّة (6) على ما كان عليه فى حياة جدّه. واستقرّ بشهاب الدين أحمد بن القاضى فخر الدين فى كتابة الجيوش المنصورة على ما كان عليه أيضا فى حياة أبيه. وعاد نصره الله يشفق عليهما ويلطف بهما كأبيهما وأعظم. وهذه عوايد صدقاته العميمة على ساير أيتام مماليكه وخدّامين أبوابه الشريفة. وهذا أمر لا يعهد من ملك غيره، أيّده الله وأدام أيّامه، ومكّن من رقاب أعداه مضارب حسامه بمحمد وآله. وخلّف القاضى فخر الدين من الأموال ما يضيق الحصر عن جملته، وأنعم بجميع ذلك على بنيه. وكانت وفاته رحمه الله يوم الأحد خامس عشر شهر رجب من هذه السنة. ولقد حرّرت مدّة خدمته بالأبواب الشريفة فى كتابة المماليك السلطانيّة وصحابة الديوان بالجيوش المنصورة واستقلاله بالنظر، إلى حين وفاته فى هذا التأريخ، فكان سبع وثلاثين سنة، منها استقلالا بالأمر اثنتين وعشرين سنة وثلاثة شهور وخمسة أيّام. وتولّى مكانه القاضى شمس الدين موسى بن القاضى تاج الدين إسحق، وكان مباشرا فى نظر الخاصّ الشريف مكان أبيه. استقلّ بذلك بعد وفاة أبيه القاضى تاج الدين رحمه الله

(4) مغيرا: مغير (6) وكاتب المماليك السلطانية: بالهامش

نكتة: قلت، وممّا أحكيه بالمشاهدة والسماع: لمّا كان القاضى تاج الدين إسحق مستوفيا (2) بالأبواب الشريفة كان القاضى علاء الدين بن الأثير صاحب ديوان الإنشا، وحصل له أيضا من صدقات مولانا السلطان ما كان يقارب به القاضى فخر الدين فى قرب المنزلة، أو ما يساويه. فطلبنى يوما (4) القاضى تاج الدين إسحق إلى ديوانه، وهو يومئذ مستوفى، وقال: أشتهى من إحسانك تتصدّق إلى عندى البيت، فلى ضرورة بالاجتماع بخدمتك. - فحضرت إلى خدمته بداره بمصر. فتفضّل وأحضر شيئا كثيرا (7). ثمّ قال: المسئول من تفضّلك تخاطب القاضى علاء الدين أن يتصّدق على مملوكه موسى يكون فى خدمته فى ديوان الإنشا أسوة الجماعة. -وكان بالديوان فى ذلك الوقت أولاد الصاحب أمين الدين أمين الملك بن العنام، وكان من قبلهم أيضا ومعهم ابن (11) أبى شاكر بن التاج سعيد الدولة وغيره من أولاد القبط. فقلت: السمع والطاعة، القاضى علاء الدين ما يبخل على مولانا بذلك. -فقال للمملوك (13) ياسيف الدين انت رجل عاقل وأحدّثك بشى احفظه عنّى. -قلت: نعم، يا مولانا. -قال: هذا موسى فى طالعه أنّه إذا وصل اثنتين وعشرين سنة يكون له شأن من الشأن. -ثمّ يصل إلى ما لا وصل إليه أحد من أبناء جنسه، أعنى من أقاربه. ثمّ يقع فى شدّة عظيمة ويقيم مدة، ثمّ يخلص، -وبكى. ثمّ سكت ساعة، فقلت: يا مولانا، الله يقرّ عينك به ويعضّدك بحياته! -هذا سماعى منه، رحمه الله. ثمّ أحكيت ذلك للقاضى علاء الدين. فتبسّم وقال: هؤلاء القبط مربوطين على أحكام المواليد. -ثمّ كان من موسى ما كان، ووصل

(2) مستوفيا: مستوفى (4) يوما: يوم (7) شيئا كثيرا: شى كثير (11) بن: بن ابن (13) للمملوك: للملوك

إلى منزلة القاضى فخر الدين بنظر ديوان الجيوش المنصورة. فأقام شهرا واحدا (2)، وقبض عليه وعلى أخيه علم الدين ناظر الدولة يوم الخميس سابع عشر شعبان المكرّم، وتولّى عوضه القاضى مكين الدين بن قروينة. وكان المذكور فى أوّل أمره كاتب الأمير ركن الدين بيبرس الباجىّ لمّا كان متولّى القاهرة أيّام البرجيّة. ثمّ خدم فى ديوان الاستيفا مستوفى الشرقيّة. ثمّ تنقّلت به الأحوال حتى خدم ناظر الدولة. ثمّ عزل وصودر. ثمّ خدم مستوفى الصحبة الشريفة، فلم يزل حتى قبض على موسى بن تاج الدين إسحق، فاستقرّ بديوان الجيوش المنصورة ناظرا، وابن أخيه الشمس ناظر الدولة برفقة شهاب الدين بن الأقفاصىّ، واستقرّ الأمر كذلك وأمّا أولاد التاج إسحق فإنّهما صودرا مصادرة صعبة وضربا وأسقيا الخلّ والجير. وحمل من جهتهما ما جملته ثلاثة وأربعين ألف دينار عين مصريّة حملا إلى بيت المال المعمور، خارجا عن التوابل وفرط المبيوع. وولى نظر الخاصّ الشريف القاضى شرف الدين النشو، وكان المذكور لمّا أعرض مولانا السلطان عزّ نصره الكتّاب جميعهم مستخدمين الأمرا وغيرهم، كان هذا يخدم فى ديوان الأمير علاء الدين أيدغمش أمير آخور. فلحظته السعادة السلطانيّة (16) التى لو لحظت الصخر لأينع وأزهر وأثمر، أو الليل الداجى أواخر الشهر لأقمر (17)، فاستخدم مستوفيا. ثمّ انتقل إلى نظر الخاصّ الشريف إلى آخر وقت وفيها توفّى الملك عماد الدين إسمعيل صاحب حماة، رحمه الله تعالى. وحضر ولده ناصر الدين محمد بن الملك عماد الدين، وحصل له من الجبر

(2) شهرا واحدا: شهر واحد (16 - 17) التى. . . لأقمر: بالهامش

والصدقة ما هو فوق ما كان فى أمله. ثمّ شملته الصدقات الشريفة بتوليته مملكة حماة مكان أبيه وعلى جارى عادته ومستقرّ قاعدته. وركب من المدرسة المنصوريّة يوم الخميس ثانى شهر ربيع الآخر كعادة ما كان الملك عماد الدين. ولبس خلعة أطلس تمام وثلاث عصايب وفرش برقىّ وسنجق خليفتىّ، ومشى خلفه الجمداريّة العادة، وأخلع على الأمرا: الأمير سيف الدين ألماس أطلس تمام، والأمير ركن الدين الأحمدىّ مثله، والأمير علاء الدين أيدغمش مثله، الأمير سيف الدين طقجى أمير سلاح مثله، الأمير سيف الدين ألجاى الدوادار مثله، الأمير سيف الدين تمر الجمدار مثله، شجاع الدين عنبر المقدّم طرد كامل، آقول مثله، الأمير بدر الدين أمير مسعود كذلك (10)، شهاب الدين صاروجا كنجىّ، عز الدين أيدمر دقماق طرد كامل، جراباش أمير علم مثله، سنقر الخازن مثله، علاء الدين السعيدىّ أمير آخور كذلك، لاجين الناصرىّ مصمت (12) أزرق، بكتاش النقيب كنجىّ أزرق، قاشى النقيب قرضيّة: أزبك الفاخرىّ مثله، قيران السلاّرىّ كنجىّ، علىّ الدمشقى الجاويش بغلطاق، المهتار (14) عمر نقش، محمد بن عبّاس كنجىّ أحمر، الجمداريّة أربعة عشر طرد، جمداريّة البقج ثلاثة طرد. الوشاقىّ مصمت، السنجقدار مثله. وفى يوم السبت رابع ربيع الآخر عدّى مولانا السلطان عزّ نصره إلى برّ الجيزة بالأهرام، وصاحب حماة لابس الخلعة فى الخدمة. ورجع يوم الثلاثا سابع ربيع الآخر ونزل بدار الأمير سيف الدين طقزتمر على البركة، فإنّه فى الأصل مملوكهم. وقدم لمولانا السلطان فوصل بحسن عقله ودينه وخدمته إلى ما وصل، أحسن الله إليه فى الدنيا والآخرة، فإنّه مستحقّ لذلك. وسافر صاحب حماة الملك

(10) كذلك: كرلك (12) مصمت: كذا فى الأصل، ولعل صوابه «مسمط» (14) المهتار: المهتدار

ناصر الدين محمد بن الملك عماد الدين إسماعيل إلى بلاده، يوم الأربعا ثامن ربيع الآخر، ووصل إلى حماة ملكا مستقلاّ وفيها توجّه الركاب الشريف السلطانىّ عزّ نصره إلى الحجاز الشريف وهى الحجّة الثالثة. وكان خروجه من الديار المصريّة يوم الخميس خامس عشر شهر شوّال وصحبته الآدر العالية. وفى ركابه الشريف من الموالى الأمرا من يذكر وهم: الأمير عزّ الدين أيدمر الخطيرىّ، الأمير بدر الدين جنكلى بن البابا، الأمير سيف الدين الملك الجوكندار، الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدىّ أمير جاندار، الأمير سيف الدين بهادر المعزّىّ، الأمير علم الدين سنجر الجاولى، الأمير سيف الدين بكتمر الساقى، الأمير سيف الدين طقزدمر، الأمير علاء الدين أيدغمش أمير آخور، الأمير سيف الدين قوصون، الأمير سيف الدين صوصون، الأمير سيف الدين بشتاك، الأمير سيف الدين بهادر الناصرىّ، الأمير سيف الدين طايربغا، الأمير سيف الدين طغاى تمر، الأمير سيف الدين طغجى أمير سلاح، الأمير سيف الدين أروم بغا أمير جاندار، هؤلاء من المقدّمين الألوف الكبار. وأمّا الطبلخانات (15) فهم: شهاب الدين أحمد بن بكتمر الساقى، جركتمر بن بهادر، طيدمر الساقى، آقبغا الجاشنكير، طقتمر الخازن، طوغان الساقى، بيبرس الموسوىّ، بيدمر البدرىّ، طقبغا، أيتمش الساقى، أياز الساقى، أنص السلحدار، طيبغا المحمدىّ، طيبغا المجدىّ، جريك المهمندار، قطز أمير آخور (20)، بيدر الجمدار، أينبك، أيدمر العمرىّ، يحيى بن طايربغا، نوروز، كجك السيفىّ، ياياق السلحدار، أياق الجمدار، أرس بغا،

(15) الطبلخانات: الطبلخات (20) أمير آخور: بالهامش

قطلقتمر السلحدار، برلغىّ، بكجا، ساطلمش الجلالىّ، بغاتمر، محمد ابن جنكلى، علىّ بن أيدغمش، أولاجا، آقسنقر، قرا السيفىّ، تمربغا العقيلىّ، قمارى الحسنىّ، علىّ بن الخطيرى. ومن أرباب الوظايف (3) بالأبواب العالية: الحسنىّ أمير جاندار، أمير مسعود بن خطير الحاجب، وعزّ الدين دقماق أمير النقبا (5)، وصلاح الدين يوسف الدوادار، بحكم أنّه كان توفّى الأمير سيف الدين ألجاى الدوادار رحمه الله فى هذه السنة، قبل توجّه الركاب الشريف إلى الحجاز، واستقرّ عوضه صلاح الدين المذكور المعروف بدوادار قبجق، والذى توجّه صحبة الطلب السلطانىّ إلى الكرك المحروس طقتمر اليوسفىّ. وأمّا العشراوات المسافرون فى الركاب الشريف فهم: علىّ بن السعيدىّ أمير آخور، وشهاب الدين صاروجا النقيب، آقسنقر الرومىّ، أياجى الساقى، سنقر الخازن، قرلغ الساقى، أحمد بن جنكلى، أرغون العلايىّ، أرغون الإسماعيلىّ، بكا، طغنجق، محمد بن الخطيرىّ، أحمد ابن أيدغمش، طشبغا، قلنجى. ومن نقبا المماليك خمسة نفر وهم: مقبل أيبك الحكيمىّ، بكتوت الشيرازىّ، سنقر تازى (14)، خالد بن دقماق. ومن نقبا الحلقة المنصورة ثمانية نفر وهم: قيران السلاّرىّ، محمد أخو صاروجا، محمد القرشىّ، محمد المعظّمىّ، صلاح البشرىّ، كندغدى القجقارىّ، قطز بن ساطلمش، أرسلان. ومن الجاويشيّة نفرين وهما: علىّ الدمشقىّ، وفتح. ومن الطبرداريّة عشرة نفر وأمّا الأمرا المقيمون بالديار المصريّة حسبما قرّر عليهم من البسط لقدوم الركاب الشريف وهم: الأمير جمال الدين آقوش الأشرفىّ نايب الكرك

(3) الوظايف: الوضايف (5) وعز الدين دقماق أمير النقبا: بالهامش (14) تازى: تازى

مايتى ذراع، الأمير سيف الدين ألماس الحاجب ماية سبعة وستّين ذراعا، طقطمر الساقى مثله، إيتمش المحمدىّ مثله، آقبغا عبد الواحد مثله. طرغاى الجاشنكير مثله. بهادر البدرىّ ماية ذراع، كوكاى أحد وسبعين ذراعا، بيبرس الأوحدىّ أربعة وستّين ذراعا، طقصبا الظاهرىّ سبعة وسبعين ذراعا (5)، أزبك الجرمكىّ سبعة وستّين، خاص ترك ماية ذراع، بجاص سبعة وستّين، سنقر المرزوقىّ مثله، آقول الحاجب مثله، آقسنقر السلحدار أربعة وثمانين، قياتمر ستّة وسبعين، بيغنجار سبعة وستّين، أيدمر العمرىّ مثله. أروج أربعة وثمانين، سنجر الخازن مثله، علىّ بن النغايى مثله، آلبرس بن أمير جاندار مثله، أيدمر الكبكىّ مثله، أرلان مثله، أران أحد وسبعين، قطلوبغا الطويل مثله، أطوجى سبعة وستّين، منكلى الفخرىّ أربعة وثمانين، بلبان الحسنىّ سبعة وستّين، جركتمر الناصرىّ مثله، نوروز أربعة وثمانين، قراجا التركمانى سبعة وستّين، أياجى أربعة وثمانين، طقتمر الأحمدىّ مثله، طقتمر الصلاحيّ. سكدساس (13) مثله. أبو بكر بن النايب مثله، طيبغا الهاشمىّ أربعة وثمانين، باوور سبعة وستّين، عمر بن النايب مثله، لاجين أمير آخور مثله، أحمد الناصرىّ مثله، علبك مثله، بلبان السنانىّ أربعة وسبعين، ايدق والى القلعة سبعة وستّين (16)، الحاجّ قطز مثله، قرا أخو ألماس سبعة وستّين، طوغان أحد وسبعين، بيبرس الماردانىّ سبعة وستّين، محمد بن الأحمدىّ ستّة وستّين (18)، محمد بن جمق (19) مثله، علىّ بن سلاّر مثله، ألاكز مثله، جوهر بن الملك مثله، تكلان

(5) سبعة وسبعين ذراعا: بالهامش (13) سكدساس: كذا فى الأصل (16) سبعة وستين: بالهامش (18) محمد بن الأحمدى ستة وستين: بالهامش (19) جمق (السلوك ج‍ 2 ص 309): حمق

مثله، يوسف الجاكىّ مثله، عنبر المقدّم مثله، ما جار مثله، قشتمر والى الغربيّة خمسين، خليل أخو طقصبا أربعة وثمانين، محمد بن المحسنىّ والى القاهرة سبعة وستّين، قيغلى والى البهنسا خمسين، بهادر بن قرمان سبعة وستّين، أيدمر السيفىّ خمسين، عمر بن طقصوا ستّة وستّين، أياز الدوادارىّ خمسين، أيدمر العلايى خمسين، مبارك والى البحيرة خمسين، خضر الكمالىّ والى أسيوط خمسين أمّا سبب ذكر هؤلاء الأمرا وهذا البسط فله فوايد، الواحدة حفظ أسما هؤلاء الموالى فى هذه الدولة القاهرة فى هذا التأريخ، والأخرى حفظ ما على كلّ إقطاع من إقطاعاتهم من مقرّر البسط ليحتاج إليه فى وقت آخر إنشا الله تعالى، لطول حياة مولانا السلطان، ودوام أيّامه ومعاودته إلى الحجاز الشريف عدّة أخر غير هؤلاء الثلاث الماضين. فإنّ هذا البسط قرّر على العبر. فإذا احتيج إليه كشف من هذا التأريخ، وكلّ من ينقل من الموالى الأمرا على هذه الإقطاعات عرف ما كان عليه فى هذا التأريخ. فلذلك أثبتناه هاهنا، ولله الحمد والمنّة وكان هذا المهمّ الشريف ما يعجز الناقل أن يصف بعض بعض ما كان فيه، وقد ذكر أرباب التواريخ رحمة الله عليهم فى تواريخهم من اهتمّ فى حججه من الملوك السالفة، فنقلوا أشيا شتّى. ولو أدركوا والله هذه الدولة القاهرة، وشاهدوا هذه السنّة المباركة وما اهتمّ فيها مولانا السلطان، لصغر عندهم ما استكبروه، وهزل فى أعينهم ما استسمنوه. ولو شرعت أذكر بعض محاسن ما اقترح فى هذه السفرة المباركة من آلات الحجّ المبرور، وما عمل من آلات السفر مثل الأكوار المقترحة التى

ما رأى (1) الراءون وما شاهدت العيون بأحسن من اقتراحات الموالى الأمرا لذلك. وأمّا ما استصحبوا من الهجن الطيّارة والبخاتىّ الحسان والجمال العباديّة، عليها المحامل بالأغشية التى يحار البصر فى معاينتهم (3) لما فيهم من الحلىّ والحلل والذهب والفضّة {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ} (4) والعربات المقترحة والشقادف اليمنيّة، وما على جميع ذلك من الحلىّ المرصّع بالجواهر الثمينة والفصوص القليلات المثال، لكان شرح يطول اختصاره، ولا نصل إلى بعض بعض مقداره. وكذلك لو ذكرت بعض إنعامات مولانا السلطان عزّ نصره على جميع ما ذكرنا من الموالى الأمرا المتوجّهين (8) فى ركابه الشريف، وما فرّق عليهم من الهجن والجمال والأكوار المزركشة والسلاسل الذهب والفضّة، ومن جميع ما يحتاجون إليه فى الطرقات والمفاوز، لكنت خرجت عن شرط الاختصار، ولو أطلت فى ذلك لكان غايتى إلى (11) الاقتصار. هذا ما ظهر لمثلى وأمثالى من الناس، خارجا عمّا لا نصل إلى (12) علم حقيقته. وهذا ملك قد خصّه الله تعالى بالنصر والتأييد، وبلّغه جميع ما يقصد ويريد. لا زالت كتايب الرشد منصورة بعلوّ سعده، ومقانب السعد ظافرة بسموّ مجده وفى هذه الحجّة المباركة لعب الشيطان بعقول بعض مماليك مولانا السلطان. فلمّا كفروا هذه النعمة، تبرّأ منهم حتى أوردهم موارد النقمة، فهرب منهم جماعة، ثمّ مسكوا وأحضروا ونفذ فيهم القضا، ولم يغنيهم تسحّبهم فى فسيح الفضا وفى عودة الركاب الشريف توفّى الأمير سيف الدين بكتمر الساقى وولده أمير أحمد، رحمهما الله تعالى

(1) رأى: رات (3) معاينتهم: معاينهم (4) السورة 3 الآية 14 (8) المتوجهين: المتوجهون (11) إلى: الا (12) إلى: الا

ذكر [حوادث] سنة ثلاث وثلاثين وسبع ماية

وكان قد حضر رسل الملك أبى (1) سعيد فى تاسع عشر شوّال، وهو الشيخ إبراهيم بن سنقر الأشقر وصحبته خمسة نفر. وتوجّه صحبة الركاب الشريف إلى قصر سرياقوس. وأخلع عليه، وتوجّه من هناك ثمّ توجّه الركاب الشريف، إلى الحجاز الشريف. وعاد مع سلامة الله وعونه، مؤيّدا بالنصر والظفر، على كلّ من طغى ولنعمته كفر ذكر [حوادث] سنة ثلاث وثلاثين وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم ما لخص من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (10) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر سلطان الإسلام: دايم الأيّام، نافذ الأحكام، مالك رقاب الملوك الحكّام والنوّاب بمصر والشام، حسبما نذكر من الكلام: الأمير سيف الدين ألماس الحاجب إلى حين سخط عليه ومسك وأهلكه الله تعالى، واستؤصلت (14) جميع أمواله وذخايره، حسبما يأتى من ذكر ذلك فى تأريخه إنشا الله تعالى. وقام بالأمر المقرّ البدرىّ أمير مسعود بن خطير أحسن قيام، وكفّ أسباب المظالم عن ساير الأنام، متّع الله بدوام أيّامه أيّام مولانا السلطان، ما غرّدت الأطيار بألحانها على الأغصان. والمتفرّد بأمور الوزارة وساير أحوال الدولة ابن هلال الدولة فى هذه السنة إلى حين قبض عليه فى السنة الآتية، حسبما نذكر ذلك فى تأريخه، إنشا الله تعالى

(1) أبى: ابو (10) أبو: ابى (14) واستوصلت: واستاصلت

وفيها انتقل الأمير سيف الدين طينال من نيابة طرابلس إلى نيابة غزّة، وعاد الأمير شهاب الدين قرطاى إلى طرابلس، وباقى الأمرا النوّاب بحالهم وفيها حضر رسول الملك أبى (4) سعيد-وهو الحاجّ أحمد-يوم الجمعة ثالث عشر شهر ربيع الآخر. وكان الركب الشريف على ناحية طنان فى الصيد المبارك، فاستحضره هناك، وقدّم هديّته، وهى أكاديش ما مثلها ستّة، مماليك ثمانية، بخاتىّ قطارين، فهود ثلاثة، صندوق نشّاب فيه طومار حديد، وجملة قماش عمل البلاد. فأخلع عليه أطلس كامل بكلوتة زركش وحياصة مجوهرة، وولده كنجىّ كامل بحياصة ذهب، ورفاقه جميعهم ملوّن. وفى ذلك اليوم رحل الركاب الشريف من على طنان وعدّى من رملة منية السيرج، ونزل الكوم الأحمر. ورجع الحاجّ أحمد الرسول إلى القاهرة، ونزل دار الضيافة، وسافر يوم الخميس عاشر جمادى الأولى وفى يوم الاثنين سلخ الشهر حضر الحاجّ طشتمر الرسول، ونزل المهمنخاناه (14) بالقلعة. وأخلع عليه طرد كامل وحياصة ذهب، ثم سافر وفى يوم السبت عاشر ذى القعدة نزل الركاب إلى الميدان باللوق، وكان ذلك أوّل ركوبه نصره الله فى ذلك العام وفى يوم السبت مستهلّ ربيع الأول كان الابتدا فى هدم الأماكن التى قبال الجامع المعمور بذكر الله، مثل خزاين بيت المال وخزاين السلاح والدور المجاورة لهما. وفى يوم الاثنين ثالث شعبان (19) كان البدوّ فى هدم الإيوان

(4) أبى: ابو (14) المهمنخاناه: المهمخاناه (19) ثالث شعبان: بالهامش

ذكر [حوادث] سنة أربع وثلاثين وسبع ماية

الأشرفى. واستمرّ الهدم والتراب إلى يوم السبت ثالث وعشرين ربيع الآخر سنة أربع وثلاثين وسبع ماية، ورسم بردم الجبّ الذى كان بالقلعة فردم ذكر [حوادث] سنة أربع وثلاثين وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم. مبلغ الزيادة ستّة عشر ذراعا وعشرين إصبعا ما لخص من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (8) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر سلطان الإسلام والمسلمين، وقد ذلّت له رقاب المشركين، وخضعت له الملوك الجبابرة من كلّ دين. والنوّاب بمصر والشام، على ذلك النظام، الذى ذكرناه فى ذلك العام وقد كان السخط على ألماس الحاجب، وقبض عليه يوم الأربعا العشرين من شهر ذى الحجّة سنة ثلاث وثلاثين وسبع ماية، واحتيط على بيته، وحملت أمواله، ونزل فى حوطته ابن هلال الدولة. ولقد أحصيت عدّة الحمّالين الذين على رءوسهم الأموال، فكان عدّتهم أحدا (15) وثمانين حمّالا منهم خمسة وسبعين درهم نقرة، على رأس كلّ حمّال من الدراهم النقرة ثلاثين ألف درهم. فكان جملة ذلك ألفى ألف درهم وثلاث ماية ألف وتسعين ألف درهم. وبعدها ستّة حمّالين-طلعوا صحبة ابن هلال الدولة- ذهب عين وزركش (19) وغير ذلك. وكان هذا الرجل يقطع رءوس الأحيا

(8) أبو: ابى (15) أحدا: احد (19) وزركش: وزراكش

والأموات، ويحصّله من وجوه رديّة لا يمكن شرحها، ويقنع بالقطعة اللحم المنتنة. وكان ظاهره مسلما (2) وباطنه بخلاف ذلك. وكان من الظلم والعسف والجور وعدم الإنصاف إلى أعلى (3) نهاية. ومن جملة إسلامه الحسن أنّه وجد فى إصطبله عدّة كبيرة من الخنازير، وكذلك فى بلاده من إقطاعه يربّوا ويعتنى بأمرهم. وكان يبيعهم للتجّار الفرنج الواردين إلى الأبواب الشريفة بأغلى ثمن. فلمّا بصّر الله تعالى المقام الشريف فى هذه الأحوال المنكرة، أخذه أشدّ أخذ. وأراح المسلمين من جوره واعتماده. وقبض على بعض التراجمة الذى ذكر عنه أنّه كان يسمسر له على بيع الخنازير للتجّار من الفرنج. فضربه ضربا عظيما حتى كاد يهلك. ثمّ أحاطت العلوم الشريفة أنّه كان مغصوبا على ذلك، ولا كان يقدر على المخالفة، فعفى عنه (10). . . . وأنعم مولانا السلطان عزّ نصره على المقرّ البدرىّ أمير مسعود بن خطير بمكانه. فعاد أمير حاجبا بإمرة ماية فارس وتقدمة ألف، وأنعم الله تعالى على الإسلام بذلك. والحجّاب معه الأمير سيف الدين آقول المحمدىّ إلى حين انتقاله إلى دمشق المحروسة أمير حاجبا بها، واستقرّ بالأبواب بقيّة هذه السنة المقرّ البدرىّ أمير مسعود أمير حاجبا (15)، أسبغ الله ظلّه، والأمير سيف الدين جاريك حاجبا، والأمير شرف الدين محمود أخو المقرّ البدرىّ أمير مسعود حاجبا، والأمرا جانداريّة: الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدىّ، والأمير سيف الدين أروم بغا، والأمير سيف الدين بلبان الحسنى،

(2) مسلما: مسلم (3) أعلى: أغيا (10) فعفى عنه: بعد هاتين الكلمتين بياض لصفحة كاملة (15) أمير حاجبا: أمير حاجب

وفيها انفصل صلاح الدين يوسف دوادار قبجق من الدواداريّة، وتوجّه إلى الشأم، واستقرّ الأمير سيف الدين بغا، والأمير سيف الدين طقتمر، والأمير سيف الدين طاجار دواداريّة، والمتحدّث فى أمور الوزارة بغير وزارة: ابن هلال الدولة إلى حين قبض عليه فى شهر رجب. وأخذه الله بظلمه أخذ عزيز مقتدر. وأخلع على الأمير سيف الدين ألاكز الناصرىّ متحدّثا فى استخراج الأموال الديوانيّة. وأخلع على بدر الدين لؤلؤ الحلبىّ الذى كان قبل ذلك قد تحدّث فى دواوين حلب، وأنعم عليه بشادّ دواوين حلب، فقام فى ذلك أتمّ قيام، وحسّنه الله بالعين الشريفة السلطانيّة، فأحضر أوّلا فى المصادرة. ثمّ أنعم عليه بالمباشرة فى استخلاص الأموال السلطانيّة بالأبواب العالية، وأن يكون فى خدمة الأمير سيف الدين ألاكز الناصرىّ، وتصدّق عليه بإمرة طبلخاناه، وسلّم إليهما ابن هلال الدولة وخالد المقدّم. وكان هذا خالد أيضا أصله مقدّم بدار الولاية بالقاهرة. فتوصّل بتحيّل ابن هلال الدولة له حتى عاد مقدّم الدولة، ومشى فيها أيشم مشى، وفعل من الفسق والنجس والتسلّط على الأموال والأنفس والثمرات ما لم يمكن شرحه، وأنفق مع ابن هلال الدولة على كلّ نجس ولقد بلغنى ممّن أثق به أن كان نفقة هذا خالد فى بيته مرتّبا فى كلّ يوم ثلاث ماية درهم نقرة، وأنّ مقامه فى كلّ ليلة ما يزيد عن الألف درهم، أكثره من الناس مثل الضمّان والمعاملين وغيرهم، ولم تخلص منه مليحة بالديار المصريّة، إلاّ من عصمها الله تعالى وصانها منه، وأنّه كان ما يبخل على المليحة إذا سمع بها، وتمنّعت منه أن يسيّر إليها الخمسين دينارا مع قماش بمثلها، فتأتيه على كلّ حال. وفعل من هذه القبايح ما يضيق هذا المجموع عن مجموع فعله. فربّما بلّغت المسامع الشريفة بعض ذلك،

فقبض عليه مع ابن هلال الدولة. وكذلك أقارب ابن هلال الدولة كانوا فى مشيهم أيشم من مشى خالد، فمسكوا أيضا وقبض على شخص يسمّى بكتوت الصايغ، كان مملوك حمى (3) العبد مسطّر هذا التأريخ، وكان له حديث طويل حتى التصق بابن هلال الدولة فى أيّام كريم الدين الكبير. فلمّا حصل ابن هلال الدولة على الخزانة السلطانيّة التى كانت خرجت مع كريم الدين حسبما ذكرنا، أودعت عند هذا بكتوت حتى انقطع خبرها، ثمّ أعطى منها نصيبا. وكذلك شخص يسمّى (7) عبد الله البريدىّ، أصله يعرف بابن شديد السامرىّ، فتوصّل حتى عاد بريديّا (8). ثمّ التصق بهاء الدين أرسلان (9) الدوادار. فلم يزل يسعى فى الأرض فسادا حتى توفّى الأمير بهاء الدين. ثمّ التصق بكريم الدين الكبير، فلم يزل يسعى كذلك حتى توفّى كريم الدين. ثمّ التصق بالقاضى علاء الدين، فلم يزل كذلك حتى توفّى علاء الدين. ثمّ التصق بالتاج إسحق، فلم يزل ذلك دأبه حتى توفّى تاج الدين. كلّ ذلك بكعبه المبارك على من يلتصق به. ثمّ إنّه كان مع ابن هلال الدولة لمّا أخذ الخزانة السلطانيّة، وأخذ نصيبه منها، وتحيّل بمكره المنكر السامرىّ. ولم يتعرّض إليه لمّا مسك ابن هلال الدولة، بحيلة يعجز عنها أبو محمد البطّال. وذلك أنّه كان بلغ المسامع الشريفة السلطانيّة خبر هذه الخزانة، وكيف حصل عليها ابن هلال الدولة من قبل مسكه بسنة كاملة وتحقّق ابن هلال الدولة أنّه معطوب، فاتّفق مع هذا عبد الله البريدىّ، وقال: تحيّل فى صلتك بالقاضى شرف الدين النشو ناظر الخاصّ

(3) حمى: حموا (7) يسمى: مكرر فى الأصل (8) بريديّا: بريدى (9) أرسلان: رسلان

الشريف، واجعل أنّك عدوّى وحطّ علينا، وأطلعه على جميع مالى فى الظاهر مثل أملاك وغلال وخيول ومواشى، الأشيا التى لا يمكن إخفاؤها، فتحصل لك بذلك السلامة، وتكون واقفا (3) لنا ومقاتلا معنا فى الباطن، والظاهر أنّك متنصّح. فيقال «لو كان ثمّ أموال باطنة كان هذا أطلعنا عليها» فيحصل لنا ولك الغرض. -فخلص بهذه الحيلة التى أدقّ من ذباب السيف، وتوفّر جانب ابن هلال الدولة من عسف المستخرج. ولم يورد إلاّ ما كان له ظاهرا لا يمكن إخفايه. فكان جميع ما حمل من جهته إلى آخر شهر صفر سنة خمس وثلاثين وسبع ماية، ثلاث ماية ألف درهم أو تزيد قليلا. وأمّا بكتوت الصايغ فأبيع له ستّة وثلاثين ملكا، تشهد كتبهم بأربع ماية ألف وثمانين ألف درهم، فأبيعت بماية ألف درهم وعشرين (11) ألف درهم، وكذلك فصوص ولؤلؤ ومصاغات لهم قيمة كبيرة. قال بكتوت: إن حسب ما عدمه فكان ثمانى ماية ألف درهم، صحّ الحمل منها على مايتى ألف درهم، والباقى راح توابل وفرط مبيوع. -وهذا شئ لم يسمع بمثله. وتخلّص بعد ذلك بكتوت. واستقرّ ابن هلال الدولة وأقاربه وخالد المقدّم متعافين إلى هذا التاريخ، والله أعلم بما يكون من أمرهم وفيها توفّى عزّ الدين دقماق نقيب الجيوش المنصورة سادس شهر رجب الفرد. وأنعم على الأمير شهاب الدين صاروجا الفاخرىّ بإمرة نقابة الجيوش عوضا عن عزّ الدين دقماق، لمّا أخذه الله تعالى بعلمه فيه فى ثلاثة أيّام وفيها توفّى جمال الدين يوسف أمير طبر، رحمه الله

(3) واقفا: واقف--ومقاتلا: ومقاتل (11) وعشرين: وعشرون

وفى يوم الاثنين ثالث عشر ربيع الأوّل من هذه السنة المذكورة أنعم على الأمير جمال الدين آقوش نايب الكرك بنيابة طرابلس، عوضا عن الأمير شهاب الدين قرطاى بحكم وفاته إلى رحمة الله تعالى، واستقرّ كذلك. وكان المقام الشريف السلطانىّ لا عاد يقوم لأحد من الأمرا فى المجلس إلاّ له. فلمّا توجّه المشار إليه إلى الشأم لم يقوم مولانا السلطان بعده لأحد غيره وفيها عزل محمد بن المحسنىّ عن ولاية القاهرة ثانى يوم فى شعبان. وتولّى علاء الدين أيدكين الأزكشىّ البريدىّ مملوك الأمير بدر الدين محمد ابن الأزكشىّ نايب الرحبة كان المقدّم ذكره وفيها بلغ المسامع الشريفة سوء اعتماد الولاة فى حقّ الرعيّة. فعزل الجميع وصودروا وعوّضوا بمن وقع الاختيار عليه. ونفى من الولاة المعزولين بعد المصادرة ثلاثة نفر إلى الشأم وهم: عزّ الدين أيدمر الذى كان والى الولاة بالوجه البحرىّ، وسيف الدين طوغان الشمسىّ الذى كان والى الأشمونين، وسيف الدين قرشىّ الذى كان والى بلبيس. ومات من الولاة تحت العقوبة أياز الدوادارىّ مملوك الواند وبه عرف. وتخلّص الباقى بعد جهد جهيد، كلّ ذلك لحسن نظر المقام الشريف السلطانىّ فى حقوق رعيّته، لا زال ملكها وراعيها، والله تعالى يشكر له نيّته الشريفة ويعظم له أجر مساعيها وفى يوم الجمعة ثالث شهر شعبان فى جامع القلعة المحروسة، والناس مجتمعون للصلاة وثب إنسان صفة عجمىّ، وفى يده سكّين، وقصد المقصورة السلطانيّة، فمسك فى وقته، وعذّب بأنواع العذاب، فلم يقرّ

ذكر [حوادث] سنة خمس وثلاثين وسبع ماية

بشى. فوسّط وعلّق على باب زويلة. قلت: والله لو لم يكن لمولانا السلطان من مماليكه من يحرسه ويكلؤه (2)، لكان له من يحفظه ويرعاه، من ملايكة الله بأمر الله {لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} (4) وفيها (5) كان قدوم الأمير حسام الدين مهنّا بن عيسى مذعنا بالطاعة، دايسا لبساط العدل، فسبحان من أذلّ لمولانا السلطان رقاب الأمم، من ملوك العرب والعجم. وكان وصوله إلى الأبواب الشريفة يوم الأحد أذان العصر، العشرين من شهر ذى الحجّة سنة أربع وثلاثين وسبع ماية. وتوجّه مع سلامة الله ورضى الخواطر الشريفة عليه، يوم الخميس عشيّة النهار الرابع والعشرين من ذى الحجّة المذكور، وسنذكر بعد ذلك ما كان من إحسان مولانا السلطان إليه وصدقته عليه (11) ذكر [حوادث] سنة خمس وثلاثين وسبع ماية النيل المبارك فى هذه السنة: الماء القديم. مبلغ الزيادة: ثمانية عشر ذراعا وأحد عشر إصبعا، وانتهت (14) الزيادة فى سنة ستّ وثلاثين وسبع ماية ما لخص من الحوادث الخليفة: الإمام المستكفى بالله أبو (16) الربيع سليمان أمير المؤمنين، ومولانا السلطان الأعظم: الملك الناصر سلطان الإسلام. أدام الله أيّامه إلى آخر الأبد، وعمّره فى الدنيا كعمرى لبيد ولبد

(2) يكلؤه: يكلاه (4) السورة 13 الآية 11 (5 - 11) وفيها. . . حليه: بالهامش (14) وانتهت. . . وسبع ماية: بالهامش (16) أبو: ابى

وأمير حاجب: الأمير بدر الدين أمير مسعود بن خطير، أحسن الله إليه، وزاد فى إحسانه عليه، وأخوه الأمير شرف الدين محمود حاجبا، والأمير سيف الدين جاريك أيضا، وأمير النقبا: الأمير شهاب الدين صاروجا، والمتحدّث فى أمور الوزارة فى استخراج الأموال الديوانيّة: الأمير سيف الدين ألاكز الناصرىّ، وبدر الدين لؤلؤ بين يديه، والأمير ركن الدين الأحمدىّ أمير جاندارا، وكذلك الأمير سيف الدين أرم بغا، والأمير سيف الدين بلبان الحسنىّ، والأمير سيف الدين آقبغا عبد الواحد أستادارا، وقد أضيف إليه تقدمة المماليك السلطانيّة، كرّمهم الله تعالى، بحكم انفصال الطواشى عنبر السحرتى، والناظر بالديوان المنصورىّ بالجيوش المنصورة: القاضى مكين الدين بن قروينة والنوّاب بالشأم: الأمير سيف الدين تنكز ملك الأمرا بدمشق المحروسة، وكان قد حضر إلى الأبواب العالية فى السنة الخالية (12)، يوم الخميس ثامن عشر جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وسبع ماية. وطلع إلى القلعة المحروسة والأمرا فى الموكب، ودخل إلى بين يدى المواقف الشريفة قبل دخول الأمرا. وأخلع عليه فى ساعته أطلس تمام بطرز زركش، وكلوتة زركش، وشاش خليفتىّ بأطراف زركش، وحياصة ذهب بثلاث بيكاريات جوهر. وبعد الخدمة رتّبت فى خدمته النقبا، ودخل إلى الآدر الشريفة ابنته خوند، أصان الله حجابها، وحصل له من الفرح والسرور ما لا يقع عليه قياس، لصلتها بالمقام الشريف السلطانىّ عزّ نصره. ولم يزل فى أنعم عيش وأرغده، وأهناه وأسعده، حتى توجّه مع سلامة الله وعونه

(12) بعد الكلمة «الخالية» يوجد فى المخطوطة «يوم الأربعا تاسع شهر رجب» مع ملاحظة وجود عدة خطوط فوق الكلمات المذكورة

إلى محلّ نيابته، وذلك يوم الخميس ثالث شهر رجب الفرد سنة (1) أربع وثلاثين وسبع ماية (2) بعد الخوان. وخرج لتوديعه الأمير سيف الدين قوصون وجاريك الحاجب، والمقرّ البدرىّ أمير مسعود، وعزّ الدين دقماق. وكان مدّة الإقامة أربعة عشر يوما وأمّا بقيّة النوّاب: فالأمير علاء الدين ألطنبغا بحلب، والأمير جمال الدين آقوش نايب الكرك بطرابلس، والأمير سيف الدين الحاجّ أرقطاى بصفد، والأمير سيف الدين طينال بغزّة والملوك بالأقطار: مكّة شرّفها الله تعالى: صاحبها الأميرين رميثة وعطيفة، وصاحب المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام: كبيش ابن منصور بن جمّاز بن شيحة، وصاحب اليمن: الملك المجاهد علاء الدين بن الملك المؤيّد هزبر الدين داود، وصاحب ماردين: الملك الصالح شمس الدين محمد بن الملك المنصور بن الملك المظفّر، وصاحب حماة: الملك ناصر الدين محمد بن الملك عماد الدين إسماعيل بن الأفضل نور الدين علىّ، وصاحب العراقين إلى خراسان: الملك أبو سعيد، ورسله فى كلّ وقت واردة إلى الأبواب العالية حسبما ذكرناه، وصحبتهم الهدايا والتحف من كلّ فنّ حسن، وصاحب بلاد بركة: الملك أزبك، ورسله فى كلّ وقت واصلة إلى الأبواب العالية بالهدايا والتحف والجوارى (17) والمماليك وغير ذلك، تقرّبا إلى الخواطر الشريفة السلطانيّة. وبقيّة ملوك التتار حسبما تقدّم من ذكرهم وأسماهم فى السنين المتقدّمة وفى أوّل هذه السنة سخط مولانا السلطان على الدواوين وأمر بمسكهم ومصادرتهم. فمسكوا وصودروا وعوقبوا بأنواع العذاب، والحمل وارد

(1 - 2) سنة. . . وسبع ماية: بالهامش (17) والجوارى: والجوار

ذكر ما تجدد فى هذه السنة المباركة

من جهتهم أوّلا فأوّلا (1) إلى آخر سلخ شهر صفر من هذه السنة. وهو آخر ما وقف بنا الكلام، فأثنينا عنان البريد، ومن بعد ذلك يفعل الله فى ملكه ما يشا، ويحكم فى خلقه ما يريد و {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (3) ذكر ما تجدّد فى هذه السنة المباركة فيها برزت المراسم الشريفة بهدم الجامع الذى أنشأه مولانا السلطان عزّ نصره بالقلعة المحروسة وأن يجدّد بنايته. فهدم جميع ما كان من داخله من الرواقات والمقصورة والمحراب، وجدّد بنايته ما لم ترا العيون أحسن منه. وأعلى قناطر الرواقات إعلاء شاهقا، وكذلك القبّة أعلاها حتى عادت فى ارتفاع (9). . . وأحضر لهذا الجامع أعمدة عظيمة كانوا منسيّين بمدينة الأشمونين بالوجه القبلىّ من أعمال الديار المصريّة. وكانوا هذه الأعمدة فى البربا التى بمدينة الأشمونين من عهد الكهنة المقدّم ذكرهم فى هذا التأريخ فى الجزء الأوّل منه المسمّى «بالدرّة اليتيمة فى أخبار الأمم القديمة» وذكرنا أنّ بانى هذه البربا أحد الكهنة المصريّين، وكان يسمّى أشمو الأشموىّ، فعرفت هذه المدينة به وخفّفت، فقيل الأشمونين. وهؤلاء الأعمدة من صناعة شياطين الجانّ. وممّا يعجز عن كيفيّة عملهم البشر من الإنس، وإنّما هؤلايك الكهنة يستعينوا بالأسما والطلسمات على استخدام المردة من الجانّ فى جميع أشغالهم وبناياتهم. وقد قيل: إنّ هؤلاء الأعمدة معجونة مسبوكة فى قوالب، وذلك لكون أنّ الناس لم يروا لهم معدنا (18)

(1) أولا فأولا: أول فأول (3) السورة 3 الآية 173 (9) بعد «ارتفاع» بياض نصف سطر (18) معدنا: معدن

قد قطع منه هذه الأعمدة الغريبة المثال، فتوهّموا ذلك. -وهذا بعيد أن تكون أخلاط بهذه الصلابة العظيمة، وإنّما لعلّهم من معدن داخل اللواحات من المدن القديمة التى ذكرناها فى ذلك الجزء. وكانوا تلك الأقوام يستعينوا بما قد ذكر من استخدام المردة الجانّ فى نقلهم إلى أماكن يختاروها. وعلى الجملة فإنّ أشياء حارت فيها العقول، نقلها مولانا السلطان بأسهل ما يكون، وذلك أنّه ندب من الأبواب الشريفة الأمير سيف الدين أروس بغا الناصرىّ مشدّا بحمل هذه الأعمدة. وسيّر فى خدمته المهندسين والعتّالين والحجّارين. وكتب للولاة بالوجه القبلىّ وهم: والى أسيوط ومنفلوط، ووالى الأشمونين، ووالى البهنساويّة بجمع الرجال من الأقاليم. وقرّر على كلّ وال عدّة من هذه الأعمدة المذكورة، وجرّهم إلى ساحل البحر الأعظم. وندب لهم المراكب الكبار الخشنة. وحملوا فى أوايل جريان النيل المبارك ليأمنوا من الوجلات، لثقل هذه الأعمدة. ولمّا حضروا إلى ساحل مصر انتدبت لجرّهم الولاة بمصر والقاهرة. وجمعوا لهم آلافا (13) من الناس استعانوا بهم. وكان لهم همّة عظيمة حتى حصلوا وأقيموا فى هذا الجامع السعيد الذى ادّخر به مولانا السلطان قصورا (15) عدّة فى عرصات الجنان. وهذا ملك قد جمع الله تعالى له ملك الدنيا إلى ثواب الآخرة، وعزّة النفس إلى بسطة العلم ونور الحكمة إلى نفاذ الحكم، زاد الله سلطانه عزّا وقهر، وأدام أيّامه إلى آخر الدهر

(13) آلافا: آلاف (15) قصورا: قصور

ذكر عدة ما استجد من الجوامع المعمورة بذكر الله تعالى فى أيام مولانا السلطان

ذكر عدّة ما استجدّ من الجوامع المعمورة بذكر الله تعالى فى أيّام مولانا السلطان قلت: قد اعتبرت منذ أوّل زمان وإلى آخر وقت، لم أجد زمانا أكثر خيرا وأمنا وخصبا، وإقامة منار الإسلام فى ساير الممالك الإسلاميّة من زمان مولانا السلطان. -وقد قيل: الأوطان حيث يعدل السلطان، وعدل السلطان، خير من خصب الزمان (4). -فكيف إذا اجتمعت جميع هذه الخلال فى أيّام مولانا السلطان، زاد الله دولته شبابا ونموّا، كما زاده فى شرف الملك ارتقاء وبقاء وعلوّا. فأمّا قول العبد: إنّه لم يكن فى زمان أكثر خيرا وأمنا وخصبا (9) من هذا الزمان، فهذا لا يحتاج إلى دليل ولا إلى برهان، كونه بالمشاهدة والعيان، يفهم ذلك كلّ من له اطّلاع، وهو سالم الطباع، ليس الهوج الرعاع. وها العبد يبيّن صحة دعواه، ليوافق كلّ أحد على غرضه وهواه، [ذكر أنكاد الزمان:] فأقول: إنّ الناس أجمعوا من عهد الهجرة وإلى أيّام مولانا السلطان، لابدّ فى كلّ قرن من سرور وأنكاد تختصّ بذلك الزمان، ولا بدّ فى ذلك من البيان [أنكاد] القرن الأوّل أوّله من الهجرة النبويّة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فأوّل الفتن فيه، ما حدث بعد وفاة سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أمر الردّة فى خلافة الإمام أبى بكر رضى الله عنه، وما كان أيضا من أمر

(4) خيرا وأمنا وخصبا: خير وأمن وخصب (9) خيرا وأمنا وخصبا: خير وامن وخصب

[أنكاد] القرن الثانى

مسيلمة الكذّاب وسجاح، وحرب اليمامة ومقتل (1) عثمان رضى الله عنه. ثمّ بعد ذلك ما كان من حرب الجمل فى خلافة علىّ بن أبى طالب، كرّم الله وجهه، وحرب صفّين، وما كان من أخباره. وقد تقدّم ذكر جميع ذلك فى أجزا هذا التأريخ [أنكاد] القرن الثانى أوّله ما كان من الفتن العظيمة بين الأمويّين والعبّاسيّين، وقبله ما كان من قتل الإمام الحسين والخوارج الخارجة على الأمويّين فى ساير الأقطار شرقا وغربا (8)، وما كان من انقراض دولتهم وانتشا دولة بنى العبّاس. وفيه كان تتبّع قبور الأمويّين ونبشهم وإحراقهم بالنار، ولم يسلم من ذلك غير قبرى معاوية (10_) رضى الله عنه، وعمر (10) بن عبد العزيز رضى الله عنه (11) [أنكاد] القرن الثالث فيه كان ظهور العبيديّين خلفا مصر من المغرب وفتنتهم العظيمة ووقايعهم، وظهور القرامطة الذين أخربوا الأرض وأهلكوا الحرث والنسل، وما أظهروه من البدع العظيمة فى الدين، وظهور الحسنين بالحجاز واليمن، وظهور العلويّين بطبرستان، وتوجّه القرامطة إلى مكّة شرّفها الله تعالى، وقتلهم الحاجّ، وأخذهم الحجر الأسود. وكان فى هذا القرن من الفتن والأحوال النكدة ما لا يحصى كثرة

(1) ومقتل. . . عنه: بالهامش (8) شرقا وغربا: شرق وغرب (10_) قبرى معاوية: قبرين معوية (10 - 11) وعمر. . . عنه: بالهامش

[أنكاد] القرن الرابع

[أنكاد] القرن الرابع لم يزل هذا القرن من أوّله إلى آخره فتنا وغلاء وجوعا وقحطا وقتلا (3)، واتّصال الفتن فيه من القرن الثالث. وفيه كان ظهور العجمىّ وكسر الحجر الأسود، ثمّ أخذ وقتل. وفيه كان ظهور رجل باليمامة وادّعى النبوّة، وافتعل قرآنا بزعمه، وقتل بأرض حمص. وفيه كان ظهور الفرنج على المسلمين فى جميع البلاد. وفتحوا بيت المقدس بالسيف عنوة، وقتلوا جميع من كان فيه من المسلمين. وفيه استولوا أيضا الفرنج على جزيرة الأندلس. ولم يبق للمسلمين منها غير مسافة أربعة أيّام. ولم تزل الناس فى أعظم الشدايد طول ذلك القرن [أنكاد] القرن الخامس فيه أيضا الفتن متّصلة من الفرنج ووصل زيتون إلى باب دمشق، ونهب دارايا، وقتلوا كلّ من كان فيه. وفيه كان غرقة دمشق. ووقع فى الشرق الغلا العظيم. وفيه اضمحلّت كلمة العبيديّين خلفا مصر والعبّاسيّين خلفا بغداد. وظهر كلمة نور الدين محمود بن زنكىّ بالشرق والشأم والموصل. واستولى على أكثر البلاد، وكان بينه وبين الفرنج حروب ووقاع تشيب الأطفال. وما زال السيف فيه يغنّى والخيول ترقص والدم ينقط. وفيه ظهرت دولة بنى أيّوب. وكانت الفتن العظيمة بمصر بين شاور (18) وأسد الدين شيركوه والإفرنج [أنكاد] القرن السادس فيه كان ظهور التتار. وظهرت كلمة جكز خان وقتلهم العباد، وخرابهم البلاد، كما قد تقدّم من ذكر أفعالهم القبيحة. وفيه كان نزول الفرنج

(3) فتنا وغلاء وجوعا وقحطا وقتلا: فتن وغلا وجوع وقحط وقتل (18) شاور: ششاور

على ثغر دمياط، وملكوا البلاد وأشرفوا على أخذ الديار المصريّة. وأراد الملك الكامل الهرب إلى اليمن ويدع الديار المصريّة للفرنج، لولا ما أدرك الله تعالى الإسلام بلطفه وحسن عنايته. واستأسر للفرنسيس (3) وعتقوه. وفيه كان قتل البحريّة لابن أستاذهم الملك المعظّم توران شاه بن الملك الصالح، حسبما ذكرنا من خبره. ولم يزل السيف يقطر الدما-كلّ ذلك بقضاء إله الأرض والسما، الذى لا تتحرّك ذرّة إلاّ بإذنه-إلى سنة تسع وتسعين وستّ ماية. فكانت نوبة غازان بوادى الخزندار، حسبما تقدّم من الأخبار. وكان ذلك فى أيّام تغلّب بيبرس وسلاّر. ولم يزل الأمر كذلك إلى أن أعلى الله تعالى كلمة مولانا السلطان. وإن كانت لم تزل عالية فى الآفاق، أدام الله عزّ سلطانها إلى يوم العرض والتلاق، الذى وإن أطنبنا فى وصف بعض مناقبه كان اللفظ قاصر، سيّدنا ومولانا ومالك رقّنا السلطان الأعظم الملك الناصر. فانظر أيّها الفاضل بعين الإنصاف، ودع الجدل والخلاف، فهل رأيت مذ مكّنه الله من رقاب أعدايه المتمرّدين، من خلل وقع فى أمر هذا الدين؟ أو من حادث يشين زمانه، أو من قحط وجوع وغلاء حصل فى أوانه، أو من خوف عدوّ نخشاه؟ كلاّ والله، ما كان هذا قطّ فى أيّام دولته وحاشاه (15)، فالحمد لله الذى خصّنا، إذ جعلنا من أمّة نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم، وخلقنا وأحيانا فى أيّام دولة وليّه محمد السلطان الأعظم الملك الناصر، والليث (18) الكاسر، لا زالت أيّامه جواهر قلايد أعناق الزمن، يتقلّد منه بها فى عنقه المنن، وأدام أيّامه، ونصر أعلامه إلى يوم القيامة

(3) للفرنسيس: الفرنسيس (15) وحاشاه: وحشاه (18) والليث: ولليث

ذكر الجوامع المباركة التى انتشت فى دولة مولانا السلطان عز نصره

وأمّا قول العبد: إنّ فى أيّامه علا منار الإسلام، وعزّت أمّة النبىّ عليه السلام، فهذا أيضا لا شك فيه ولا ريب ولا مرا، كما لا شكّ ولا ريب فى أمّ القرى. فممّا يؤيّد هذا المقال، ما تجدّدت فى أيّام دولته المباركة من {بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ} (5) وهم عدّة ذكر الجوامع المباركة التى انتشت فى دولة مولانا السلطان عزّ نصره جامع بمصر المحروسة بموردة التبن: أمر بإنشاه مولانا السلطان عزّ نصره. جامع بمشهد السيّدة نفيسة رضى الله عنها: أمر بإنشاه مولانا السلطان عزّ نصره. جامع بالقلعة المحروسة: أمر بإنشاه مولانا السلطان عزّ نصره، ثمّ جدّده. جامع أنشاه علاء الدين طيبرس النقيب-رحمه الله-بشاطى النيل المبارك. جامع أنشاه القاضى فخر الدين ناظر الجيوش المنصورة-رحمه الله-بخصّ الكيّالة من بولاق. جامع أنشاه أيضا القاضى فخر الدين المذكور-رحمه الله-بجزيرة الفيل من ضواحى القاهرة. جامع أنشاه أيضا القاضى فخر الدين المذكور-رحمه الله-بجسر الأفرم بمصر المحروسة. جامع أنشاه أيضا القاضى فخر الدين المذكور-رحمه الله- بجزيرة الروضة جزيرة المقياس. جامع أنشاه القاضى كريم الدين الكبير-رحمه الله-بالقرب من الميدان السلطانىّ. جامع أنشاه الأمير بدر الدين بن التركمانىّ بجوار داره بخطّ باب البحر من ضواحى القاهرة. جامع أنشاه أمير حسين

(5) السورة 24 الآية 36

ابن جندر-رحمه الله-بالحكر ظاهر باب سعادة من القاهرة. جامع أنشاه الأمير سيف الدين قوصون الناصرىّ بالشارع الأعظم بدار قتّال السبع. جامع أنشاه سيف الدين ألماس الحاجب-رحمه الله-بالشارع الأعظم بالموازنيّين. جامع أمر بإنشاه فى هذا الوقت الأمير سيف الدين بشتاك الناصرىّ بقبو الكرمانىّ. جامع أنشاه الأمير سيف الدين الملك الجوكندار بالحسينيّة من ضواحى القاهرة. جامع أنشاه الأمير جمال الدين آقوش نايب الكرك بالحسينيّة من ضواحى القاهرة. جامع أنشاه الأمير مظفّر الدين قيدان-رحمه الله-بجوار قناطر الوزّ من ضواحى القاهرة. جامع أنشاه علاء الدين مغلطاى أخو ألماس الحاجب بحارة البرقيّة، سمّى جامع التوبة. جامع أمر بإنشاه فى هذا الوقت الأمير عزّ الدين أيدمر الخطيرىّ ببولاق بموردة البورىّ. جامع أنشاه الطواشى صواب الركنىّ ظاهر باب القرافة تحت القلعة المحروسة. جامع أنشاه الأمير المرحوم سيف الدين كراى المنصورىّ بالريدانيّة من ضواحى القاهرة. جامع أنشاه سيف الدين كرجىّ النقيب بالحكر ببستان ابن قريش من ضواحى القاهرة. جامع جدّده ابن الحرّانىّ التاجر بالقرافة عند مأذنة الحريرىّ بدكاكين بدر. جامع أنشاه فى أوّل دولة مولانا السلطان تاج الدين دولة (16) شاه بكوم الريش من ضواحى القاهرة. جامع أنشاه ناصر الدين محمد أخو الأمير شهاب الدين صاروجا النقيب بأرض الطبّالة. جامع (18) أنشاه شخص يسمّى ابن الصارم ببولاق مقابل بستان ألجاى. واستجدّت الخطبة بصلاة الجمعة بالمدرسة الصالحيّة، وعنى بذلك الأمير

(16) دولة: دولات (18) جامع. . . ألجاى: بالهامش

ذكر المستجد أيضا من الجوامع المباركة بالممالك الشامية

جمال الدين نايب الكرك المحروس. وأفتى بجواز ذلك وفسح فيه القاضى جلال الدين قاضى القضاة يومئذ بالديار المصريّة فهؤلاء الجوامع المباركة المستجدّة فى أيّام دولة مولانا السلطان عزّ نصره بالديار المصريّة، بمصر والقاهرة وضواحيهما، خارجا عمّا تجدّدت فى ساير الأعمال المصريّة قبليّها وبحريّها، لم نذكرها، وهم عدّة سبعة وعشرين (5) خطبة، تخطب باسمه وتدعو له، ويؤمّن (6) الناس المصلّون بذلك، وذلك خارجا عن الخطب القديمة المستقرّة بالجوامع المتقدّمة بالديار المصريّة، حرسها الله تعالى بدوام أيّام مولانا السلطان ذكر المستجدّ أيضا من الجوامع المباركة بالممالك الشاميّة جامع أنشاه الأمير علم الدين سنجر الجاولى بالقدس الشريف لمّا كان نايبا بغزّة. جامع أنشاه أيضا الأمير علم الدين الجاولى المذكور، بلدّ من عمل الرملة لمّا كان بغزّة. جامع أنشاه أيضا الأمير علم الدين الجاولى المذكور بالكنيسة من أراضى غزّة لمّا كان بها. جامع أنشاه شخص من أهل صفد يسمّى ابن أبى الخير بصفد المحروسة والمستجدّ أيضا بدمشق المحروسة جامع أنشاه الأمير جمال الدين آقوش الأفرم بالصالحيّة لمّا كان نايبا بدمشق المحروسة. جامع أنشاه الأمير سيف الدين تنكز الناصرىّ على نهر بانياس بجوار القلعة المحروسة. جامع أنشاه القاضى كريم الدين رحمه الله

(5) وعشرين: وعشرون (6) ويؤمن: ويأمن--المصلون: المصليين

والمستجد أيضا بطرابلس

عند الصبيبات (1) بظاهر دمشق المحروسة. جامع أنشاه القاضى شمس الدين غبريال رحمه الله بباب شرقىّ لمّا كان ناظرا بالشأم. جامع أنشاه القاضى شمس الدين غبريال المذكور بالقابون ظاهر دمشق المحروسة والمستجد أيضا بطرابلس جامع أنشاه الأمير شهاب الدين قرطاى، رحمه الله لمّا كان نايبا بطرابلس، جامع أنشاه بدر الدين بن العطّار رحمه الله أيضا بطرابلس ورسم مولانا السلطان آجره الله بعمارة جامع بربض المرقب المحروس فعمر فهؤلاء ما اتّصل علم العبد بهم، ولعلّ استجدّ ويستجدّ ما يكون أكثر من هذه العدّة المذكورة وأمّا الخوانق والرباطات والزوايا وكذلك المساجد فلا تحصى كثرة، وجميع هذه الأماكن مشحونة بالأيمّة والخطبا، والفقهاء، والمدرّسين والمحدّثين والطلبة، والمؤذّنين والقوّام والفقرا والمساكين، وكلّ من هؤلاء فله المقرّر من ساير ما يحتاج إليه، ممّا أوقف عليهم من البلاد والضياع والأملاك والحوانيت. ولهذه الأوقاف مباشرين وعمّال وغير ذلك. ولا بدّ لكلّ منهم من أولاد وعايلة وأطفال وغلمان ودوابّ، والجميع يأكلون من إنعام الله عزّ وجلّ وإنعام مولانا السلطان عزّ نصره. فليس فيهم من روح إلاّ وفيه الحسنة، ويدعو بدوام هذه الأيّام التى كالأحلام، أدام الله أيّام سلطانها إلى آخر الأبد، وعمّره فى الدنيا كعمرى لبيد ولبد، بمحمد وآل محمد

(1) الصبيبات: القبيبات

ذكر تتمة الحوادث

ذكر تتمّة الحوادث فيها توجّه سيف الدين ألطنبغا السلاّرىّ أحد مقدّمى الحلقة المنصورة إلى الحجاز الشريف على الهجن، بسبب الصلح بين الأخوين الأمرا رميثة وعطيفة ملاّك مكّة، شرّفها الله تعالى. وكان قبل ذلك قد حضر الأمير عطيفة مستجيرا بالأبواب الشريفة من أخيه رميثة. فرسم المقام الشريف بتوجّه ألطنبغا المذكور بالإنكار على رميثة. فلحقوه بحلالى يعقوب، وأعادوه إلى مكّة. ودخل تحت الطاعة الشريفة السلطانيّة، وحلف على الكعبة الشريفة أربعين يمينا أنّه طايع ممثّل (8) جميع ما يرسم له به. وعاد ألطنبغا بنسخ الأيمان. ثمّ بعد ذلك توجّه السيّد الشريف عطيفة إلى الحجاز الشريف صحبة الركب المبارك، وبعد توجّه المحمل بعشرة أيّام. وكان قد توجّه ركب آخر من الديار المصريّة فى شهر رجب. وأدركوا صوم شهر رمضان بمكّة بمشاهدة الكعبة الشريفة. ووردت بعد ذلك كتبهم أنّهم فى أطيب عيش وأهناه، هنّاهم الله تعالى ورزقنا ما رزقهم، بمحمد وآل محمد وفيها حضر الأمير سيف <الدين> تنكز نايب الشأم، بسط الله <ظلّه> إلى الأبواب الشريفة، بنيّة الزيارة ومشاهدة سيّد الملوك، وملجأ كل غنىّ وصعلوك، وحصل له من الإقبال والإنعام أضعاف ما جرت به عادته فى السنين المتقدّمة. ثمّ إنّه شفع فى ابن هلال الدولة، فأجيب إلى ذلك، وأفرج عنه فى شهر رجب، ورسم له أن يلزم بيته وكان قبل ذلك قد أفرج عن خالد المقدّم وأخلع عليه، وأعيد إلى تقدمة الولاية بالقاهرة المحروسة

(8) طايع ممثل: --طايعا ممثلا

وفيها توجّه الركاب الشريف إلى صيد الوبر بناحية الإسكندريّة. وسيّر الأمير بدر الدين مسعود أمير حاجب لكشف (2) أحوال الأمرا المعتقلين بالإسكندريّة، فوجدهم فى أسوأ (3) حال، فحنّنه الله تعالى عليهم لمّا بلغ المسامع الشريفة حالهم، فلمّا عاد مع سلامة الله إلى محلّ ملكه بالقلعة المحروسة رسم بالإفراج عنهم، أفرج الله عنه كلّ كرب، ونصره فى كلّ حرب. فكانوا عدة ثلاثة عشر نفر وهم: الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، والأمير سيف الدين تمر الساقى، والأمير شمس الدين أمير غانم ابن أطلس خان، والأمير سيف الدين طغلق، والأمير سيف الدين قطلبك الوشاقىّ، وكشلىّ، وبيبرس العلمىّ، ولاجين العمرى، والشيخ علىّ السلاّرىّ، وبلاط الجوكندار، وأيدمر الحسامىّ المعروف باليونسىّ، وبرلغىّ الصغير بن طومان، وطشتمر أخو بتخاص. وكان وصولهم إلى القلعة المحروسة وخلاصهم يوم الاثنين رابع عشرين شهر رجب الفرد من هذه السنة المذكورة. فأنعم على ركن الدين بيبرس الحاجب بإمرة طبلخاناه بحلب المحروسة، وتوجّه على خبز آقسنقر شادّ العماير كان، بمقتضى أنّه جرت منه أحوال أوجبت القبض عليه واعتقاله. وأنعم على الأمير سيف الدين تمر الساقى بإمرة طبلخاناه بدمشق المحروسة. وأمّا تغلق فإنّه لم يعش بعد الإفراج عنه ووصوله إلى أهله سوى ثمانية أيّام، وتوفّى إلى رحمة الله تعالى. وباقى المذكورين منهم من أنعم عليه بإقطاعات بالشام المحروس، ومنهم من استمرّ مواظب الخدمة الشريفة إلى آخر هذه السنة المذكورة

(2) لكشف: كشف (3) أسوأ: اسو

وفيها تغيّرت الخواطر الشريفة السلطانيّة على الأمير جمال الدين نايب الكرك لنقايص بدت منه، تدلّ على أنّ الغالب كان على مزاجه السودا. فآل به ذلك إلى ما صار إليه. فكان كما قال الله تعالى {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ (4_)} آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً (4) الآية. فقبض عليه واعتقل مدّة بالشأم. ثمّ نقل إلى الإسكندريّة بالاعتقال وتوجّه الأمير سيف الدين طينال الحاجب من غزّة عايدا إلى طرابلس، وأنعم على الأمير سيف الدين شركتمر الناصرىّ بنيابة غزّة، واستقرّ الأمر كذلك إلى آخر هذه السنة وفيها مسك ابن هلال الدولة، وعبد الله بن كريم الدين الكبير، وولدى كريم الدين الناظر، وهما أبو الفرج ورزق الله، وأعيد الطلب على ولدى التاج إسحق، وهما شمس الدين موسى وأخوه (11) علم الدين. وكذلك طلب بالحمل أمين الملك المعروف بقريميط المستوفى، بعد أن كان قد أعفوه هذه المدّة من حثّ الطلب. وسبب ذلك أنّه كان كاتب يسمّى المهذّب أصله نصرانىّ، ربّاه شخص يعرف بابن الحايك من أهل الإسكندريّة. وخدم هذا المهذّب عند كريم الدين الكبير مدّة أيّامه. وحصّل فى تلك الأيّام أموالا جمّة. فلمّا مسك كريم الدين فى تأريخ ما تقدّم ذكره خدم المهذّب المذكور بديوان الأمير المرحوم سيف الدين بكتمر الساقى. وكان هذا الأمير المذكور عبارة عن مولانا السلطان، وله من مولانا السلطان منزلة لم يكن وصلها أحد (19) من قبله ولا وصلها أحد من بعده حدّثنى هذا المهذّب ذات يوم وأنا عنده فى بيته لضرورة كانت لى عنده، وأجرينا ذكر التأريخ، وذكرنا من سلف من الناس والأكابر من الأمرا

(4) السورة 16 الآية 112 (4_) كانت: بالهامش (11) وأخوه: واخاه (19) أحد: احدا--أحد: احدا

وغيرهم الذين كانوا خصيصين بتلك الملوك المتقدّمة. فقال المهذّب للمملوك: يا مولانا ورّخ عنّى ما أقوله لخدمتك عن المخدوم، يعنى عن الأمير سيف الدين بكتمر: إنّنى منذ خدمته فى سنة ثلاث وعشرين وسبع ماية وإلى هذا اليوم مدّة عشر سنين، ما خلا حسابى قطّ يوما واحدا (4) من إنعام يتجدّد، من مولانا السلطان للمخدوم من ساير الأنواع المستحسنة من إنعامات الملوك. - ثمّ رمى إلىّ حسابه، فتصفّحته فإذا هو كما قال، يشهد بإنعام يتجدّد للأمير فى كلّ يوم، تشهد بذلك موايمته: إمّا ملك، إمّا عقار، إمّا ذهب، إمّا قماش، إمّا فرس، إمّا طاير جارح (8)، وما أشبه ذلك. قال: وهذا خارج عن المقرّر له فى كلّ يوم مخفيتين طعام وأتباعها من حلو أو مشروب وفاكهة. وثمّنّا هذه المخفيتين بألف وأربع ماية درهم، نأخذها من الخزانة مشاهرة. ثمّ إنّ مولانا السلطان عزّ نصره أطلق يد الأمير سيف الدين بكتمر المذكور فى جميع الممالك، لا يردّ له مرسوم فى ساير الممالك الإسلاميّة. فهل عندك فى التأريخ من وصل من ملك من الملوك هذه المنزلة؟ -يقول المهذّب هكذا. ثمّ إنّ هذا المهذّب استسلمه مولانا السلطان من تحت السيف، واستمرّ فى خدمة الأمير سيف الدين بكتمر الساقى رحمه الله إلى أن توفّى فى طريق الحجاز، حسبما تقدّم من ذلك. وحصّل المهذّب فى أيّامه وبعد موته من تركته باتّفاقه مع ابن هلال الدولة من الأموال والذخاير والأمتعة ما لا يقع عليه قياس. ثمّ خدم فى ديوان النجل الشريف السلطانىّ، متّعه الله بطول حياة أصله الشريف الطاهر، وجعله فرعا باقيا باسقا مثمرا زاهر. ثمّ انتقل إلى خدمة ديوان المقرّ الشريف السيفىّ بشتاك الناصرىّ، فاستمرّ

(4) يوما واحدا: يوم واحد (8) خارج: خارجا

فيه إلى أن هلك فى شهر شعبان من هذه السنة. ونزل إليه القاضى شرف الدين النشو ناظر الخاصّات الشريفة السلطانيّة، والأمير بدر الدين لؤلؤ شادّ الدواوين المعمورة، فوجدوه ملقى على حصير ونطع، ولم يجدوا فى بيته شيئا (4) له قيمة. وكان المهذّب رجلا مترهّبا ليس له زوجة ولا ولد وتسحّبوا أهله وغلمانه وعبيده وتركوه على هذه الحالة المذكورة. وأخرج ودفن، واستمرّ الحال كذلك إلى شهر ذى الحجّة من هذه السنة. فوقع أبوه وعمّه نصرانيّان، فاعترفا بجملة كبيرة من الأموال. وأخرجوا عدّة دفاين من عدّة أماكن، بها آلاف من ذهب عين مختوم. ومن جملة ما وجدوه له فى كنيسة بحارة الروم بالقاهرة المحروسة ذهب كثير، لم أحرّر زينته، وقماش ومتاع بجملة كبيرة. وفى الجملة دواة ومرملة مرصّعتان بفصوص عظيمة القدر. ذكر أن صاحب حماة كان أحضرها فى وقت تقدمة لمولانا السلطان. فأنعم بها مولانا السلطان عزّ نصره على الأمير سيف الدين بكتمر فى يوم من تلك الأيّام المذكورة بالإنعامات. فلمّا توفّى الأمير سيف الدين رحمه الله، أخذها المهذّب فى جملة ما أخذ من تركته. فلمّا أحاطت العلوم الشريفة بما وجد لهذا الكاتب من الأموال التى تخامر العقول، تحقّق نصره الله أنّ هذا بعضه (16) ما هو عند ابن هلال الدولة، إذ كان هو الأصل وهذا المهذّب فرع منه، وكذلك بقيّة الكتبة المذكورين، فطلبوا بذلك والحال مستمرّ فى حثّ الطلب عليهم إلى آخر هذا الشهر، وهو شهر ذى الحجّة سلخ سنة خمس وثلاثين وسبع ماية، والله تعالى الولىّ المالك، أعلم بما يتجدّد بعد ذلك

(4) شيئا: شئ--رجلا مترهبا: رجل مترهب (16) بعضه: بعضيه

وفيها تغيّرت الخواطر الشريفة السلطانيّة، أعزّ الله أنصارها وضاعف اقتدارها على صاحب سيس، لأمور جرت منه عن غير اختياره. فبرزت المراسم الشريفة للأمير علاء الدين ألطنبغا نايب حلب المحروسة، أن يتوجّه بالعساكر الحلبيّة ويعبر إلى سيس ويخرب ما يقدر عليه، فامتثل ذلك. ودخلت العساكر الحلبيّة صحبة الأمير علاء الدين النايب، وصحبة الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، فإنّه كان وصل إلى حلب، حسبما ذكرنا من خلاصه وإنعام مولانا السلطان عزّ نصره عليه بالإمرة فى حلب. ولمّا دخلت العساكر الحلبيّة فعلوا ما بيّض وجوههم عند الله تعالى وعند مولانا السلطان من قتل الكفّار، أصحاب الصليب والزنّار، وعجّل الله بأرواحهم إلى النار. واستأسروا خلقا كثيرا، وغنموا مغانم كبيرة معجّلة، وأحرقوا زروعهم وسبوا ذراريهم. وخرجوا سالمين غانمين، والحمد لله ربّ العالمين والذى أقول: إنّ هذا ملك لله به عناية، وله فيه إرادة، ما رام عزّا إلاّ وصل إليه، ولا شام جليلا إلاّ قدّره الله عليه. فدانت له ساير الممالك، وجزع لهيبته الملوك، فكلّ من خوفه كالهالك. واقتنع المغل منه بالمسالمة، وهى بعفوه عن طلبها عارفة وعالمة، وناهيك من قهر هذه الطايفة التى ما زالت ملوك الأرض من شرّها خايفة. فكيف حال غيرها من ملوك البسيطة، إذ عزمته الشريفة بتأييد الله له بالقدرة عليهم محيطة؟ ولا بدّ من لمعة نختم بها هذا التأريخ المبارك، ممّا قيل من المنظوم فى مدحه، فعاد قايله لنا فى مدحه مشارك، وإن كانت أوصافه جلّت أن يقوم لها نظما ونثرا، أو يحوى ذلك من ألّف لها شعرا <من الطويل>:

ذكر سبب دخول سيس

مليك تسامى عدله وعطاؤه … وخاف لبأساه العدوّ المحارب له سطوة كالليث إن همّ همّة … تراه بها يدنو لما هو طالب وكالغيث يهمو منه مزن هباته … فتخجل من شحّ العطايا السحايب قريب حجاب شامخ ذو مهابة … له العجم دانت خشية والأعارب هو الناصر المنصور بالرعب إذ غدا … وقد فرّ من قد خانه وهو هارب كذلك لمّا أن تجمّع جيشه … فكلّ غدا بالرعب نحوك طالب فأنت الذى أضحيت حقّا مظفّرا … وجاك بما تهوى المنى والرغايب وكنت السعيد الجدّ إذ عدت ظاهرا … وسدّت على الأعداء منك المذاهب فإنك أمسيت المعزّ لديننا … بك الشرع يسطو حيث ما هو ذاهب وأيّدت بالتوفيق والنصر منحة … من الله إذ ما زلت بالله غالب ذكر سبب دخول سيس السبب فى ذلك أنّه كان وفد إلى الأبواب الشريفة السلطانيّة، أعلاها الله تعالى، أحد أولاد قرمان ملوك الجبال بنيّة الحجّ. فحصل له من الصدقات العميمة السلطانيّة من الجبر والإقبال ما كان فوق أمله. وتوجّه إلى الحجاز الشريف وعاد، وأعرض عليه الإقامة بالأبواب العالية، وأن ينعم عليه بإمرة كبيرة فامتنع. وقال: يا خوند لا أطيق مفارقة الأهل والوطن، ونحن يا بنى قرمان حيث كنّا مماليك مولانا السلطان، ولا نعيش إلاّ فى نعمته وتحت ظلّ سيفه الشريف: -فكتب على يده مثال شريف إلى ساير النوّاب بالممالك الإسلاميّة الشاميّة بالوصيّة به. وكتب إلى نايب حلب المحروسة أن يجهّز فى خدمته من عسكر حلب من يوصّله إلى مأمنه من بلاده. فامتثل ذلك، وسيّر صحبته أربعة أمرا، منهم الأمير سيف الدين بشقاق رحمه الله، والشهابىّ،

وغيرهم فى عدّة مايتى فارس. فلمّا توسّطوا بلاد سيس لم يشعروا إلاّ بتقدير خمس ماية فارس من كبار الأرمن، تعرّضوا لهم بالطريق. وقالوا: لا نمكّن عدوّنا هذا يدوس أرضنا ويتخطّى رقابنا، وإنّه ما هو مسلم مع المسلمين ولا تترىّ مع التتار، ولا أرمنىّ مع الأرمن. وهو فى كلّ وقت يتعرّض لأذيّتنا (5) ويدوس بلادنا، واتّفقنا معه عدّة طرق ويخلف وينكث. - فقالوا لهم الأمرا الحلبيّين: هذا حضر من الأبواب العالية، وهو تحت حرم السلطان الملك الناصر عزّ نصره. فلا تتعرّضوا له! يكون ذلك سببا لخراب بيوتكم. -وجرى كلام كثير آخره أنّهم استحلفوه أيمانا مغلّظة بما اختاروه منه. فحلف لهم من تحت القهر. ولولا اختشوا من السطوات الشريفة كان الأمر بخلاف ذلك وكان جميع ذلك عن غير رضى التكفور صاحب سيس. وإنّما هؤلاء كبار الأرمن غلبوا على رأيه، حسبما ادّعى بعد ذلك. فلمّا وصّلوه إلى مأمنه من بلاده وعادوا الأمرا الحلبيّون، تلقّاهم التكفور بنفسه واعتذر لهم ممّا فعلوه أصحابه، وقدّم لهم تقادم حسنة. فلمّا بلغ المسامع الشريفة ذلك رسم بدخول العساكر الحلبيّة إلى سيس. فهذا كان السبب فى ذلك. ثمّ حضروا رسل الملك أبى (16) سعيد ونايبه علىّ شاه، وشفعوا فى صاحب سيس. فقبل مولانا السلطان شفاعتهم على عوايد إحسانه وعظيم امتنانه. ولولا ذلك لكان جعل ديارهم خراب، وسكّانها البوم والغراب

(5) لأذيتنا: لموديتا (16) أبى: ابو

ذكر عمارة قلعة جعبر فى هذا الوقت

ذكر عمارة قلعة جعبر فى هذا الوقت وفيها كان ابتدا عمارة قلعة جعبر المقدّم ذكرها فى الجزء المختصّ بذكر ملوك بنى أيّوب رحمهم الله، وذكرنا صاحبها جعبر الذى عرفت به، وتنقّلها فى أيدى مّلاكها إلى حين خرابها إلى هذا التأريخ. فلمّا كان قدوم الأمير حسام الدين مهنّا بن عيسى إلى الأبواب العالية أشار ببنايها وعمارتها. فبرزت المراسم الشريفة بذلك. وندب لشادّ عمارتها الأمير علم الدين سنجر الحمصىّ الذى كان حضر من الشأم المحروس، وجعل والى الولاة بالوجه البحرىّ بالديار المصريّة. واهتمّ لعمارتها همّة عظيمة، وتوجّه إليها من ساير الممالك الإسلاميّة بالأعمال الشاميّة عدّة كبيرة من الصنّاع البنّايين والحجّارين والمهندسين. وتوجّه المقرّ الأشرف السيفىّ تنكز ملك الأمرا بالشأم المحروس-بسط الله ظلّه-فى عدّة عشرة آلاف فارس من العساكر الشاميّة، وقطع الفراة وضرب حلقة صيد، فصاد فى حلقة واحدة ألف غزال. ثمّ نزل على القلعة المذكورة ورتّب البنّايين بحضوره. وأقام فى سفرته أربعة وعشرين يوما. وجفلت منه جميع أهل تلك الديار من شحانى التتار والقراو وليّة وسكّان البلاد، فسيّر إليهم وطيّب خواطرهم، فرجع كلّ أحد إلى وطنه واطمأنّت قلوبهم. ولم يتعرّض أحد من الجيوش الذين فى خدمته لشئ تكون قيمته درهما (17) ولا أقلّ من ذلك ولا أكثر، لما فى قلوبهم من عظم هيبة المقرّ المشار إليه. وذلك أنّ العبد من طينة مولاه، أيّد الله تعالى عزماته وأعانه على ما ولاّه. وهذا آخر ما تجدّد من حوادث سنة خمس وثلاثين وسبع ماية. وإلى هاهنا وقف بنا الكلام، فى سيرة سيّد

(17) درهما: درهم

[خاتمة الكتاب]

ملوك الإسلام، أدام الله أيّامه إلى آخر الدهر، مؤيّدة بالعزّ والقهر. آمين آمين آمين، يا ربّ العالمين [خاتمة الكتاب] من كلام الجنيد رحمه الله قال: لا تطلبوا فى آخر الزمان أربعة، فإنّكم تفقدونها ولا تجدونها، لا تطلبوا أن تتعلّموا من عالم يعمل بعلمه، فإنّكم لن تجدوه، فتبقوا بلا علم، ولا تطلبوا أن تأكلوا طعاما (6) من غير شبهة، فإنّكم لن تجدوه، فتبقوا بلا طعام، ولا تطلبوا أن تعملوا عملا بلا رياء، فتبقوا بلا عمل، ولا تطلبوا صديقا بلا عيب، فتبقوا بلا صديق والعبد فقد اعترف أنّ هذا التأريخ بجميع أجزاه من سقط المتاع، وحقيق به أن يباع ولا يبتاع، وأنّ خطأه أكثر من صوابه، فلا رادّ على عايب جوابه، فرحم الله امرأ نظر فستر، وأصلح ما يجده فيه من عور، وأستغفر الله العظيم وأتوب إليه، من كلّ ما قلته وذكرته وقدرت عليه. وأقول <من الطويل>: أسير الخطايا عند بابك واقف … على وجل من جفنه الدمع ذارف يخاف ذنوبا ليس يخفاك غيبها … ويرجوك فيها فهو راج وخايف ومن ذا الذى يرجو سواك ويتّقى … ومالك فى فصل القضاء مخالف فيا سيّدى لا تخزنى فى صحيفتى … إذا نشرت يوم الحساب الصحايف وكن مؤنسى فى ظلمة القبر عند ما … يصدّ ذوو (18) القربى ويجفو الموالف لإن ضاق عنّى عفوك الواصع الذى … أرجّى لإسرافى فإنّى لتالف

(6) طعاما: طعام (18) ذوو: ذوى

ووافق الفراغ منه مستهلّ سنة ستّ وثلاثين وسبع ماية، أحسن الله عاقبتها بمحمد وآله. والحمد لله وحده، وصلّى الله على محمد نبيّه وعبده، وعلى آله وأصحابه وسلّم، وعظّم وكرّم، وحسبنا الله ونعم الوكيل

استدراك

استدراك المرجو أن يتدارك القراء الأخطاء قبل البدء فى قراءة الكتاب ص\س\الخطأ\الصواب 13\ 13\يخص \لخص 14\ 5\إيتمش \أيتمش 20\ 12\نجم الدين \فخر الدين 43\ 6\إينغاى \إيلغازى 43\ 13\ربان \زيان 44\ 1\يخص \لخص 46\ 8\أنطاكيّة\أنطاكية 57\ 7\إيتامش \أيتامش 57\ 20\أنهم \إنهم 64\ 6\يخص \لخص 109\ 9\يخص \لخص 115\ 16\الورادة\الورّادة 118\ 9\يخص \لخص 130\ 12\يخص \لخص 146\ 3\يخص \لخص 147\ 6\يخص \لخص 148\ 16\البرك \اليزك 150\ 12\ضبرة\صبرة 155\ 3\يخص \لخص 160\ 10\النشايى \النسايى 161\ 3\يخص \لخص 173\ 17\الستر\الشتر ص\س\الخطأ\الصواب 183\ 9\دينار\دينارا 205\ 19\الممالك \المماليك 206\ 11\يخص \لخص 208\ 17\الخليلى \بن الخليلى 210\ 12\يخص \لخص 230\ 13\طبحوا\طيجوا 338\ 20\الأعز\الأعسر 242\ 13\يخص \لخص 255\ 11\طبجوا\طيجوا 264\ 6\يخص \لخص 267\ 6\كحتا\كختا 272\ 8\اشتغل \اشتعل 275\ 18\قبليقان \قبليقآن 280\ 15\طيردار\طبردار 298\ 19\كلك \كباك 299\ 1\شيخو\سنجر 299\ 19\بلبك \بيليك 351\ 16\إكدش \إكديش 354\ 15\بلبك \بيليك 368\ 2\إيتمش \أيتمش

§1/1