كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع
ابن حجر الهيتمي
كتاب كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع تصنيف ابن حجر الهيتمي (899 - 974 هـ) تحقيق عبد الحميد الأزهري
مقدمة المحقق
عملي في الكتاب 1 - قمت بعمل ترجمة لمصنِّف الكتاب. 2 - قمتُ بضبط النص بانتخابه من النُّسخ التي سيأتي بيانُها. 3 - قمتُ بتخريج الآيات، والأحاديث، والآثار مع الحكم عليها في الغالب. 4 - قمتُ بالترجَمة لبعض الكُتُبِ، والأعلام التي اعتَمَد عليها المصنِّف. 5 - قمتُ ببيان غريب الألفاظ الواردة في بعض نصوص الكتاب. منهجي في تحقيق نسخ المخطوط: اعتمدت في تحقيق الكتاب على نسختين خطيَّتين من أصل سبع مخطوطات داخل المكتبة الأزهرية، ورمزت لهما بالرمزين (ز1)، (ز2)، كما اعتمدت على طبعة مصطفى البابي الحلبي وسمَّيتها بـ (المطبوع)، وبسبب كثرة التصحيفات وسقطِ بعض الكلمات في المخطوط (ز2) جعلتُ أصل الكتاب من المخطوط (ز1)، وعند وجود تصحيفات أو طمس بعض الحروف أو سقط بعض الكلمات أو اختلاف بيِّن في معاني الألفاظ بين المخطوطين - أنبِّه على ذلك في الحاشية. وقمت باستدراك هذه الكلمات ووضعتُها بين معقوفين، فأيُّ كلمةٍ بين معقوفين فإنها إمَّا سقط أو تصحيف من المخطوط (ز1)، وتَمَّ استدراكه من المخطوط (ز2)، إلاَّ أنْ أنصَّ على خلاف ذلك في الحاشية؛ كأنْ يتمَّ الاستدراك من طبعة مصطفى الحلبي أو من مصادر التحقيق. كما قد تتَّفق كلمتان بين المخطوط (ز1) و (ز2) في المعنى وتختلف في اللفظ؛ نحو: (الماوردي من كبار أصحابنا)، (الماوردي من كبار أئمَّتنا)، فأترُكها على أصل المخطوط (ز1)، وإذا كان هناك كلمتان اختلفتا في
وصف النسخة
اللفظ والمعنى أُثبِتُ ما في المخطوط وأبيِّن في الحاشية ما في المطبوع نحو (القراءة، والقرآن). وصف النسخة: 1 - النسخة الخطية (ز1): اعتمدت على النسخة الخطيَّة الموجودة في المكتبة الأزهرية - برقم خاص 1343 - مجامع 57705، وتقَع في 58 ورقة، كلُّ ورقة فيها صفحتان، مسطراتها 23 سطرًا، كتبت بخطٍّ جميل، ويظهَر على طرَّتها اسم الكتاب "كف الرَّعاع عن محرَّمات اللهو والسَّماع لابن حجر الهيتمي". بداية النسخة: "وقف محمد حسين باشا، بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، الحمد لله الذي حظر مواطن اللهو على عباده ... ". نهاية النسخة: " ... وكان الفراغ من كتابة هذه النسخة المباركة يوم الثلاثاء أربعة وعشرون الحجة سنة 1293، على يد كاتبه علي حسانين غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات آمين". ثم ختمها بلاميَّة البوصيري. 2 - النسخة الخطية (ز2): اعتمدت على النسخة الخطية الموجودة في المكتبة الأزهرية - برقم 307226، وتقع في 60 ورقة، كل ورقة فيها صفحتان، مسطراتها 25 سطرًا، كتبت بخط نسخي جميل، ويظهَرُ على طرَّتها اسم الكتاب "كف الرَّعاع عن محرَّمات اللهو والسَّماع" تأليف العالم العلامة شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى. بداية النسخة: "بسم الله الرحمن الرحيم، وهو حسبي وكفى، الحمد لله الذي حظر مواطن اللهو على عباده ... ".
3 - النسخة المطبوعة
نهاية النسخة: " ... تَمَّ الكتاب بعون الملك الوهَّاب، والحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، تَمَّ وكمل". 3 - النسخة المطبوعة: نسخة شركة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر مطبوعة مع ضمن كتاب "الزواجر عن اقتراف الكبائر" للمصنف نفسه، وطبع معها أيضًا: "الإعلام بقواطع الإسلام" للمصنف أيضًا. مميزات النسخة المطبوعة: بها جهدٌ بيِّن وواضح في المقابلة، وإنْ كان يُؤخَذ عليها عدم الاهتمام بتحقيق الكتب حديثيًّا، وتطوير ورق الكتب لديها. أمثلة للأخطاء في النسختين (الخطية، والمطبوعة) وتَمَّ تصويبها من مصادر التحقيق: أ- قال المصنف: "ادعى الكمال جعفر الأُدفوي فِي كتابه "الإسماع في أحكام السماع"". الصواب: "ادعى الكمال جعفر الأُدفوي فِي كتابه "الإمتاع في أحكام السماع"". ب- قال المصنِّف: "أنَّ تفسير الكوبة من كلام راويه علي بن نديمة". الصواب: "أنَّ تفسير الكوبة من كلام راويه علي بن بذيمة". ج- قال المصنِّف: "وذُكِرَ عند [عبدالله] بن سيرين الذِينَ يُصْرَعُونَ". الصواب: "وذُكِرَ عند [محمد] بن سيرين الذِينَ يُصْرَعُونَ". د- قال المصنف: "وعن روح ابنة أبي لهب قالت: دخل علينا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -[حين تزوجت ابنة أبي لهب] فقال: ((هل من لهو؟))؛ رواه أحمد".
أمثلة الأخطاء في النسخة المطبوعة وتم تصويبها من المخطوط أو من مصادر التحقيق
الصواب: "وعن زوج ابنة أبي لهب قال: دخل علينا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -[حين تزوجت ابنة أبي لهب] فقال: ((هل من لهو؟))؛ رواه أحمد". هـ- قال المصنف: "وقال وكيع وسفيان في قوله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلَامِ} (¬1) هي الشِّطرَنج". الصواب: "وقال سفيان بن وكيع في قوله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلَامِ} هي الشِّطرَنج". وقال المصنف في المخطوط: "وأنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - صارع ركانة على شاة رواه أبو داود، والترمذي عن محمد بن ركانة صارع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم". وفي المطبوع: "وأنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - صارَعَ رُكانَةَ على شاة رواه أبو داود، والتِّرْمِذِيُّ عن محمد بن رُكانَةَ أنَّ ركانة صارعَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم". الصواب: "وأنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - صارَعَ رُكانَةَ على شاةٍ رواه أبو داوُد، والتِّرْمِذِيُّ [من حديث أبي الحسن العَسقلاني، عن أبي جعفر بن محمد بن رُكانَةَ: أنَّ ركانة] صارَعَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم". أمثلة الأخطاء في النسخة المطبوعة وتَمَّ تصويبها من المخطوط أو من مصادر التحقيق: أ- في المطبوع: "والقاضي شريح، والزبير بن بكار فِي روضتيهما". الصواب: "وللقاضي شريح والزبير بن بكار فِي زوجتيهما". ¬
ترجمة ابن حجر الهيتمي
ب- في المطبوع: "وفي "التهذيب": إنْ كان التشبيب في امرأةٍ معيَّنة أو غُلام معيَّن فسق، وإلاَّ فلا وهو إنْ صحَّ وإنْ قال الروياني". الصواب: "وفي "التهذيب": إنْ كان فِي التشبيب بامرأةٍ معيَّنة أو غُلام معيَّن فسق، وإلاَّ فلا، وهو الأصحُّ، وإنْ قال الروياني". ج- في المطبوع: "بل الغالب أنَّ القصد به برقيق الشعر وإظهار الصَّنعة". الصواب: "بل الغالب أنَّ القصد به ترقيق الشعر وإظهار الصَّنعة". 3 - التضاد بين النسختين (الخطية، والمطبوعة): أ - في المطبوع: "فظاهر كلام ابن الحاجب موافقته عن بعض المالكية". في المخطوط: "فظاهر كلام غير ابن الحاجب موافقته، قال بعض المالكية". ففي هذا الموضع أقوم بإثبات ما في المخطوط، وأذكُر ما في المطبوع في الهامش. * * * ترجمة ابن حجر الهيتمي اسمه: أبو العبَّاس أحمد بن محمَّد بن عليِّ بن حَجَرٍ الهيتميُّ ثم المكيُّ السَّعدي الأنصاري. نسبه ومولده: السَّعدي: نسبةً إلى بني سعد من عرب الشرقيَّة (بمصر)، والهيتمي نسبةً إلى محلَّة أبي الهيتم (من إقليم الغربيَّة بمصر)، والتي وُلِدَ فيها وإليها نسبته الأكثر شُهرةً، وُلِد عام 899هـ. شيوخه: قال الكتاني فِي "فهرس الفهارس": يروي عن القاضي زكرياء، والمعمر الزين عبدالحق السنباطي، وشيخ الإسلام كمال الدين بن حمزة، والشمس المشهدي، والشمس السمنودي، وابن عز الدين السنباطي، والأمين الغمري، كلهم من تلاميذ الحافظ ابن حجر، والحافظ السيوطي،
ثناء العلماء عليه
وأبي الحسن البكري، وغيرهم، وله معجمٌ فِي مجلَّد وسط ذكر فيه إجازات مشايخه، والكتب التي أجازُوه بها، وقَفتُ على نُسخةٍ منه بخطِّ حَفِيدِه الشيخ محمد رضي الدين بن عبدالرحمن بن أحمد بن حجر المذكور، فرغ من نسخه عام 1030، وهي موجودةٌ بالمكتبة الخديويَّة بمصر. ثناء العلماء عليه: قال عنه الزركلي فِي "الأعلام": فقيه باحث مصري، تلقَّى العلم فِي الأزهر، ومات بمكة، له تصانيف كثيرة (¬1). وقال عنه صديق حسن خان: كان أعظم عُلَماء عصره، وفُقَهاء دهره، لم يكن له نظيرٌ فِي الفقاهة فِي زمانه، وقال عنه الشيخ عبدالحق الدهلوي: لا نسبةَ له بالشيخ ابن حجر العسقلاني الكبير فِي علم الحديث، ولكن يحتمل أنْ يكون فِي الفقه مثله، تتَلمَذ على الشيخ زكريا المصري الآخِذ عن الحافظ ابن حجر العسقلاني (¬2). وقال الكتاني في "فهرس الفهارس": الفقيه، المحدث، الصوفي، صاحب التآليف العديدة التي عليها المدار عند الشافعيَّة فِي الحجاز، واليمن، وغيرهما، قال فيه الشهاب الخفاجي فِي "الريحانة" لما ترجمه: علامة الدهر خُصوصًا الحجاز، فكم حجَّت وُفود الفُضَلاء لكعبته، وتوجَّهت وُجوه الطلب إلى قبلته، إنْ حدَّث عن الفقه والحديث لم تتقرَّط الآذان بمثل أخباره فِي القديم والحديث، فهو العلياء والسند (¬3). ما أخذ العلماء عليه: قال صديق حسن خان فِي "أبجد العلوم": وكان له تعصُّب مع شيخ الإسلام ابن تيميَّة شديد - عفا الله عنه ما جناه. ¬
تصانيفه
تصانيفه: له مؤلَّفات ماتعة منها: الإمداد فِي شرح الإرشاد للمقري، الإيعاب فِي شرح العباب، الإعلام بقواطع الإسلام فِي الألفاظ المكفرة، الجوهر المنظم فِي زيارة قبر النبي المكرم - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - الخيرات الحسان فِي مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان، الدر المنضود فِي الصلاة على صاحب اللواء المعقود - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - الدر المنظوم فِي تسلية المهموم فِي الصلاة، الدرر الزاهرة فِي كشف بيان الآخرة، الزواجر عن اقتراف الكبائر، الصواعق المحرقة فِي الردِّ على أهل البدع والزندقة، الفضائل الكاملة لذوي الولاة العادلة، الفقه الجلي فِي الرد على الخلي، القول الحلي فِي خفض المعتلي، القول المختصر فِي علامات المهدي المنتظر، المناهل العذبة فِي إصلاح ما هي من الكعبة، المنح المكية فِي شرح همزية البوصيري، المنهج القويم فِي مسائل التعليم، النخب الجليلة فِي الخطب الجزيلة، النعمة الكبرى على العالم بمولد سيد ولد آدم - صلَّى الله عليه وسلَّم - أسنى المطالب فِي صلة الأقارب، أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل، إتحاف أهل الإسلام بخصوصيَّات الصيام، إرشاد أهل الغنى والأناقة فيما جاء فِي الصدقة والضيافة، إسعاف الأبرار شرح مشكاة الأنوار، تحذير الثقات من أكل الكفتة والقات، تحرير الكلام فِي القيام عند ذكر مولد خير الأنام، تحرير المقال فِي آداب وأحكام وفوائد يحتاج إليها مؤدبو الأطفال، تحفة الزوار إلى قبر النبي المختار - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - تحفة المحتاج فِي شرح المنهاج، تطهير الجنان واللسان عن الخوض والتفوُّه بمثالب سيدنا معاوية بن أبي سفيان له، تطهير العيبة من دنس الغيبة، تلخيص الأحرا فِي حكم الطلاق المعلق بالأبرا، تَنْبِيه الأخيار عن مُعضِلات وقعت فِي كتاب الوظائف وأذكار الأذكار، خلاصة الأئمَّة الأربعة، درر الغمامة فِي
وفاته
در الطيلسان والعذبة والعمامة، زوائد على سنن ابن ماجه، شرح الشمائل للترمذي، شرح عين العلم فِي السلوك، شرح مشكاة المصابيح للتبريزي، الفتاوى الحديثية، الفتاوى الفقهية، فتح الجواد على شرح الإرشاد فِي الفروع، فتح الإله شرح المشكاة، فتح المبين فِي شرح الأربعين للنووي، قرة العين فِي بيان أنَّ التبرع لا يبطله الدين، قلائد العقيان فِي مناقب النعمان، كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع، مبلغ الأرب فِي فضل العرب، معدن اليواقيت الملتمعة فِي مناقب الأئمة الأربعة، نصيحة الملوك. وفاته: توفي سنة 974، وما يُفهَم من عبارة صاحب "خلاصة الأثر" من أنَّ وفاته سنة 995 غلط، وما فِي فهرسة الدمنتي الكبير أنَّه مات فِي 3 رجب 964 غلط. تنبيه: يُفرَّق بين المصنِّف ابن حجر الهيتمي بالمثنَّاة الفوقيَّة، وبين الهيثمي بالمثلَّثة المحدِّث نور الدين صاحب "مجمع الزوائد" (ت 807 هـ) علي بن أبي بكر أبي الحسين نور الدين الهيثمي، المصري القاهري. صحَّة نسبة الكتاب إلى مؤلفه: 1 - قال الهيتمي في "الفتاوى الفقهية الكبرى": وذكرت في كتابي "كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع" أحاديث أُخَر في ذلك؛ منها: قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ((إنَّ لله - عزَّ وجلَّ - في كلِّ يوم وليلة ثلاثمائة وستين نظرةً إلى خَلقِه يرحَمُ بها عباده، ليس لصاحب الشاه فيها نَصِيبٌ)) ... إلخ (¬1). ¬
2 - وقال الهيتمي أيضًا في "تحفة المحتاج شرح المنهاج": (ويُكرَه الغِناءُ) بكسر أوَّله وبالمد (بلا آلةٍ وسماعُه)؛ يعني: استماعه لا مجرَّد سماعه بلا قصد؛ لما صحَّ عن ابن مسعودٍ، ومثلُه لا يُقال من قِبَلِ الرأي، فيكون في حكم المرفوع أنَّه يُنبِت النِّفاق في القلب كما ينبت الماء البقل، وجاء مرفوعًا من طُرُقٍ كثيرةٍ بيَّنتُها في كتابي "كف الرَّعاع عن محرمات اللهو والسماع" (¬1). 3 - وممَّن نسَب كتاب "كف الرَّعاع" إلى ابن حجرٍ الهيتمي (خيرالدين الزركلي في "الأعلام"، ويوسف إليان سركيس في "معجم المطبوعات"، والحاج خليفة في "كشف الظنون"، والعيدروس في "النور السافر"). 4 - لم يُشكِّك أحدٌ من العلماء المدقِّقين والمحقِّقين المحرِّرين في نسبة الكتاب إلى المصنِّف ابن حجر الهيتمي (¬2). ¬
خطبة الكتاب
كتاب كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع لابن حجر الهيتمي بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين (¬1) الحمدُ لله الذي حظَر مواطن اللهو على عِباده، وخلص من ريبه وشُبَهِه المصطفَيْن لقُربِه ووداده؛ لما امتنَّ به عليهم فعرَّفهم دسائسَ النُّفوس المانعة من فهْم حكمه ومُراده، وكشَف لهم عن تسويلات الشيطان لا سيَّما على قومٍ زعَمُوا التصوُّف والعرفان، وغفلوا عن قول أعظم الصدِّيقين بعد الأنبياء والمرسَلين: ((أبِمَزاميرِ الشَّيْطانِ في بيتِ رسول الله؟)) (¬2)، صلَّى الله عليه وسلَّم وشَرَّفَ وَكَرَّمَ، لما غلب عليهم من الشهوات ومحبَّة البطالات، والسعي فِي جلب فسَقَة العامَّة إلى مجالسهم لينالوا من حُطامهم وخَسائسهم الجالبة لهم إلى القطيعة، لعدم عملهم (¬3) بما قاله أئمَّة الحقيقة والشريعة (¬4)، فحمدًا لك اللهمَّ أنْ وفَّقتنا لردِّ سَقطاتهم الشنيعة، وتقولاتهم الفظيعة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له شهادةً أنجو بها من مَكائِد الشيطان ومُوالاته، ومن حمل أحد من الخاصَّة أو العامَّة على سَماع مَزامِيره الموجب لسروره وظفره منهم بغاية مُراداته. ¬
وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله، الذي أرسَلَه الله قاصمًا لأعدائه بواضح براهينه [وبيِّناته] (¬1) صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيهم المبرَّئين من سَفساف أهل الحظوظ والشَّهوات، والموفَّقين لصَرْفِ جميع الأوقات فِي مهمَّات العِبادات، لا سيَّما نفع المسلمين بتمهيد قواعد الدِّين، والرد على المُبطِلين الذي ضلُّوا سواء السبيل، واتَّخَذوا مَزامِيرَ الشيطان شَفاءً للغليل، زاعِمين زيادةَ مَعارِفهم بذلك، وما درى الأشقياء أنَّ أقدامَهم زلَّت عن سنن المسالك، وأقلامهم سجلت عليهم بأعظم المهالك؛ لأنهم سنُّوا سننًا سيِّئة مصحوبة بالإلحاد والعِناد، فباؤوا بوِزرِها، ووِزر مَن يعمل بها إلى يوم يرَوْن جزاء ذلك على رُؤوس الأشهاد، أعاذَنا الله من أمثال هذه القواطع، وجعَلَنا ممَّن ذبَّ عن شريعته الغرَّاء الواضحة [ز1/ 1/أ] البيضاء بالبراهين القَواطِع، وأدام علينا رضاه فِي هذه الدار وإلى أنْ نلقاه، إنَّه الجواد الكريم الرؤوف الرحيم. أمَّا بعدُ: فإنِّي أثناء شهر ربيع سنة ثمانٍ وخمسين وتسعمائة دُعِيت إلى نسيكة (¬2) لبعض الأصدقاء، فوقَع السُّؤال عن فُروعٍ تتعلَّق بالسماع، فأغلظتُ فِي الجواب عنها وفي الردِّ على مَن زلَّ فهمُه أو قلمه فيها، فقيل لي عن كتاب لبعض المصريين بلدًا، التونسيين محتدًا، المالكيين معتقدًا، المتصوِّفين ملتحدًا، أنَّه بالغ فِي حلِّ ذلك بتأليف كتابٍ سماه "فرح الأسماع برخص السماع" (¬3) فبالغت فِي الردِّ عليه فِي ذلك المجلس، فبعد مُدَّةٍ أرسل ¬
لي بعض رؤساء مكَّة الكتاب، وطلب منِّي كتابة عليه حتى يتبيَّن ما فيه، ويظهر زيغُه الذي اشتمل [عليه] قوادمه وخوافيه، وأكَّد على ذلك، فعزمت على إجابته لأفوزَ بأجر هذا الأمر ومَثُوبته؛ لعلمي بأنَّ أبناء الزمان الذين غلب عليهم الخسار والهوان عكَفُوا على كتابة ذلك الكتاب، واتَّخذوه لسماع تلك المحرَّمات أعظم الأسباب، وظنُّوا أنَّه الحق الواضح، وأنَّ مؤلِّفَه المرشد الناصح، جهلاً منهم بالحقائق، وإصغاء لكلِّ ناعق وناهق، فتجاهَرُوا بها بين الملا، فضلاً عن السرِّ والخلا، فِي بلد الله وحرَمِه، ومَظهر جُوده وكرَمِه، ولم يخشَوْا يوم المعاد، ولا عظَّموا حُرمة أفضل البلاد، وزادوا فِي ذلك حتى كسَّرت من آلاتهم بيدي عدَّةً عديدة، ولزمت ذلك معهم مدَّة مَدِيدة، ورفعت أقوامًا منهم إلى حُكَّام الشريعة تارةً، والسياسة أخرى، بحسب جُرأة الفاعلين الموجبة لحسرتهم فِي الدُّنْيَا والأخرى، وشدَّدت عليهم إلى أنْ عاقَبُوهم بما يُناسِب جُرأتهم، وأشهَرُوا تعزيرهم فِي الأسواق، لتعلم سرائرهم، فخمدوا بحمد الله - تعالى - عن ذلك، ولزموا التحفُّظ عن أنْ يحوموا حول تلك المسالك، فتَمادَى بي الاشتغال فِي هذه السنة بـ"شرح المنهاج" عن أكثر المهمَّات؛ لظنِّي أنه الأهمُّ وأنَّ كلَّ شافعي إليه محتاج، إلى ثالث يومٍ من شهر رجب شهر الله الأصب، فسمعت أنَّ جماعةً من عُلَماء البلدان النائية حضَرُوا مجلسًا جرَى فيه ذكرُ ذلك، فتبايَنتْ [ز1/ 1/ب] أقوالهم، واضطربت أحوالهم، وأصغى جمعٌ منهم إلى مَن لا يُعتَدُّ به فِي تحليلٍ ولا تحريم، بل ربما يُخشَى عليه الدخول فِي ورطة المشار إليهم بقوله - تعالى عزَّ قائلاً -: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا
حَرَامٌ} (¬1) الآية، فشرعت فيه قاصدًا نُصحَ المسلمين ببيان الحلال والحرام من ذلك عند جميع العلماء أو أكثرهم، غير مُعوِّل على رأيٍ انحرَفَ به صاحبه عن جادَّة المهتَدِين، أو قول لم تصحَّ نسبته لأحدٍ من العلماء العاملين، أو استِدلالٍ جازَفَ فيه بعض المقلِّدين، إمَّا فِي حِكايته، أو استنباطه، أو فِي خلطه به ما عاد عليه بما شهد على قائله بكثرة غلطاته، وقباحة خلطه واختلاطه، محذرًا مَن أراد صِيانةَ نفسه عن مَواضِع التُّهم؛ لئلاَّ يظن به المسلمون أنَّه استحلَّ حرمات الله بتحليل ما حرَّم، وأنَّه تمادَى به التفريط والاستهتار إلى أنْ خُتِمَ له بالسوء لا سيما فِي الحرم الأعظم. وتأمَّل قول سلف هذه الأمَّة الذين أنعَمَ الله عليهم بالحِفظ من الدخول فِي ورطةٍ ملمَّة أو مهلكةٍ مدلهمَّة: المعصية بَرِيدُ الكفر؛ أي: لا سيما مَن استصغر المعاصي وغفل عن أنَّ الله - سبحانه وتعالى - ربما جازَى العبد بما لم يخطر بباله أنَّه سببٌ لهلاكه الأبدي فِي حالِه ومآلِه، حفظنا الله وإيَّاك عن هذه الورطات المزيلة لنِعَمِ أكرم الأكرمين فِي الدينا والدِّين، وجعلنا ممَّن دلَّ الناس على الحق، وبيَّن لهم مَقامات الاحتياطات بالصدق، وحذَّرهم مقتَ الله وغضبه، ولم يبقَ لهم عذرٌ يستَمسِكون بسببه، وأبان لهم كلَّ مقام مُشكِل، وأوضح لهم كلِّ سبيل أُجمِل، مبتغيًا وجهَ ربه ذي الجلال والإكرام يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلبٍ سليمٍ من كلِّ ميلٍ إلى ما أورَث شُبهة أو مَلامة آمين. ورتَّبتُه على مقدمة وبابين وخاتمة. ¬
المقدمة في ذم المعازف، والمزامير، والأوتار ونحوها
المقدمة في ذم المعازِف، والمزامِير، والأوتار ونحوها ممَّا جاء عن الصادق المصدوق الذي لا يَنطِق عن الهوى إنْ هو إلاَّ وحيٌ يُوحَى؛ [قال تعالى:] {فَليَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1)، عن أبي أمامة - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله [ز1/ 2/أ] عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - بعثَنِي هُدًى ورحمةً [للعالمين] (¬2)، وأمرَنِي بمحْق المعازف، والمزامير، والأوتار والصليب، وأمر الجاهلية، وحلف ربِّي بعزَّته وجلاله لا يشرب عبدٌ من عِبادي جرعةً من خمرٍ متعمدًا في الدنيا إلا سقَيْته مكانَها من الصديد يومَ القيامة مغفورًا له أو معذبًا، ولا يترُكها من مخافتي إلا سقَيْتها إيَّاه في حظيرة القدس، لا يحلُّ بيعهن، ولا شِراؤهن، ولا التجارة فيهن، وثمنهن حرام))؛ رواه أبو داود الطيالسي واللفظ له، وأحمد بن منيع، وأحمد بن حنبل، والحارث بن أبي أسامة بلفظ: ((إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - بعثَنِي رحمةً وهُدًى للعالمين، وأمرني أنْ أمحق المزامير، والمعازف، والخمور، والأوثان التي تُعبَد في الجاهلية، وأقسم ربِّي بعزَّته لا يشرب عبدٌ الخمرَ في الدنيا إلا سقَيْته من حميم جهنم مُعذَّبًا أو مغفورًا له، ولا يدَعُها عبد من عبيدي تحرُّجًا عنها إلا سقيتُها إياه في حظيرة القدس)). وقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لكُلِّ شيءٍ إقبالٌ وإدْبار وإنَّ من إقْبال هذا الدِّين ما بعثَنِي الله به حتى أنَّ القبيلة لتتفقَّه كلُّها من عند آخِرها حتى لا يبقَى إلا الفاسق والفاسقان فهما مقهوران مقموعان ذليلان، إنْ تكلَّما أو نطَقا قُمِعا وقُهِرا واضطُهِدا، ثم ذكَر من إدبار هذا الدِّين أنْ ¬
تجفو القبيلة كلها من عند آخِرها حتى لا يبقى فيها إلا الفقيه أو الفقيهان، فهما مقهوران مقموعان ذليلان، إنْ تكلَّما أو نطَقا قُمِعا، وقُهِرا، واضطهدا، وقيل لهما: أتطعنان علينا حتى يشرب الخمر في نادِيهم، ومجالسهم، وأسواقهم وتنحل الخمر غير اسمها حتى يلقى آخِر هذه الأمَّة أولها إلا حلَّت عليهم اللعنة، ويقولون: لا نأمن هذا الشراب، يشرب الرجل منهم ما بدَا له ثم يكفُّ عنه حتى تمرَّ المرأة فيقوم إليها بعضهم، فيرفع ذيلها فينكحها وهم ينظُرون كما يرفع ذنب النعجة، وكما أرفع ثوبي هذا، ورفع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثوبًا عليه من هذه السحوليَّة، فيقول القائل منهم: لو نَحَّيتمونا عن الطريق، فذاك فيهم كأبي بكرٍ وعمر، فمَن أدرك [ز1/ 2/ب] ذلك الزمان وأمَر بالمعروف ونهى عن المنكر فله أجر خمسين ممَّن صحبني وآمَن بي وصدَّقني أبَدًا)). وحديث أبي أمامة هذا فيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف (¬1)، لكنْ له شاهدٌ من حديث ابن مسعود وغيره (¬2). ¬
ومنه: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ((الكُوبَةُ حرامٌ، والدن حرامٌ، والمعازِفُ حرامٌ، والمزامِيرُ حرامٌ))؛ رواه مسدد، والبيهقي فِي "سننه الكبرى" موقوفًا، ورواه البزار مرفوعًا، ولفظه عن ابن عباس عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أَنَّه حرَّم الميتة، والميسِر، والكُوبة - يعني: الطبل - وقال: ((كلُّ مسكرٍ حرامٌ)) (¬1). ¬
وعن أبي هُرَيرة أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يُمسَخ قومٌ من أمَّتي في آخِر الزَّمان قردةً وخنازير)) قالوا: يا رسول الله، أمسلمون هم؟ قال: ((نعم؛ يشهدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويصومون، [ويُصلُّون]))، قالوا: فما بالهم يا رسول الله؟ قال: ((اتَّخذوا المعازف، والقينات، والدفوف، وشربوا هذه الأشربة، فباتوا على شَرابهم ولهوهم، فأصبحوا وقد مُسِخوا))؛ رواه مُسدَّد، وابن حبان، ولفظه: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تقومُ الساعة حتى يكون ... )) (¬1). وعن سهل بن سعدٍ قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يكونُ في هذهِ الأُمَّةِ خسفٌ ومسخٌ وقذفٌ))، قيل: ومتى ذلك يا رسولَ الله؟ قال: ((إذا ظهَرت القَيْنات والمعازف، واستُحِلَّت الخمر))؛ رواه عبدُ بن حميد واللفظ له، وابن ماجه مختصرًا، ومَدار مسانيدهما على: عبدالرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف (¬2)، وصَحَّ من طُرُقٍ خلافًا لما وهم فيه ابن حزم، فقد علَّقَه البخاري، ووصَلَه الإسماعيلي، وأحمد، وابن ماجه، وأبو نعيم، وأبو داود بأسانيد صحيحة لا مَطعَن فيها، وصحَّحه جماعةٌ آخَرون ¬
من الأئمَّة كما قاله بعض الحفَّاظ: أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لَيكونَنَّ في أمَّتي أقوامٌ يستَحِلُّون الخزَّ، والحرير، والخمر، والمعازف)) (¬1)، وهذا صريحٌ ظاهرٌ في تحريم جميع آلات اللهو المطربة. وعن علي - رضِي الله عنه - أنَّ رسولَ اللهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا فعلَتْ [ز1/ 3/أ] أمَّتى خمس عشرة خصلةً حَلَّ بها البلاءُ: إذا كان المغنم دولاً، والأمانة مغنمًا، والزكاة مغرمًا، وأطاع الرجل زوجته وعقَّ أمه، وبرَّ صديقه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذَلهم وأُكرِم الرجل مخافةَ شرِّه، وشُرِبت الخمر، ولُبِسَ الحرير، واتُّخذت القَيْنات والمعازف، ولعن آخِرُ هذه الأمَّة أوَّلها، فليرتَقِبوا عند ذلك ريحًا حمراء أو خَسْفًا أو مَسْخًا))؛ رواه الترمذي (¬2). وعن ابن عباس - رضِي الله عنهما - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أُمِرتُ بهدمِ الطبلِ والمِزمار)) (¬3)؛ أخرجه الديلمي. وعن ابن مسعودٍ - رضِي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الغِناء يُنبِت النِّفاق في القلب، كما يُنبِت الماء البقل)) رواه البيهقي، ¬
وابن أبي الدُّنيا، وكذا أبو داود لكن بدون التشبيه، ورواه البيهقي أيضًا موقوفًا (¬1)، وفي الباب عن أبي هريرة أيضًا رواه ابن عدي (¬2). واعلم أنَّ بعض الصوفيَّة الذين لا يعرفون مواقع الألفاظ ومدلولاتها قال: المراد بالغناء هنا غنى المال، وكأنَّه لم يُفرِّق بين الغناء الممدود، والمقصور؛ إذ الرواية إنما هي الغناء بالمد، وأمَّا غنى المال فهو مقصورٌ لا غير، ذكَرَه الأئمَّة. واستدلَّ له شيخُ الإسلام الحافظ العسقلاني بحديث ابن مسعود الموقوف بأنَّ فيه: "والذِّكر ينبت الإيمان في القلب، كما ينبت الماء البقل"، ألاَ تراه جعل ذِكر الله مُقابلاً للغناء؛ لكونه ذكر الشيطان، كما قابَل الإيمان بالنِّفاق، ا. هـ (¬3). وسيأتي أنَّ ذلك حديثٌ مرفوع أيضًا، ولعلَّ الحافظ لم يستحضره وقتَ كتابته لذلك. وعن عليٍّ - كرم الله وجهه -: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - نهى عن ضرب الدفِّ ولعب [الصج] (¬4) وضرب الزَّمَّارة؛ أخرجه الخطابي (¬5). ¬
وعن أنسٍ - رضِي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم – أنَّه قال: ((مَن قعَد إلى قَيْنةٍ يستَمِع منها صَبَّ الله في أذنَيْه الآنُك (¬1) يومَ القيامة))؛ رواه ابن صصري فِي "أماليه"، وابن عساكر فِي "تاريخه" (¬2). وعن صفوان بن أميَّة، أنَّ عمرو بن قُرَّة قال: "كُتِبتْ عليَّ الشقوة، فلا أرى أُرزَق [ز1/ 3/ب] إلا من دفِّي، فَأْذَنْ لي في الغناء من غير فاحشة؟ فقال له رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا آذَنُ لك ولا كرامة ولا نعمة ¬
عين، كذبت أيْ عدو الله، لقد رزقَكَ الله حلالاً طيِّبًا، واخترتَ ما حرَّم الله عليك من رزقه مكانَ ما أحلَّ الله لك من حَلاله، ولو كنت تقدَّمت إليك - أيْ بالنهي - قبل الآن لفعلتُ بك وفعلتُ، قُمْ عنِّي وتُبْ إلى الله، أمَا إنَّك لو قلت بعد التقدمة شيئًا - أي: لو فعلت ما نهيتك عنه - بعد الآن ضربتك ضربًا وجيعًا، وحلقت رأسك، ونفيتك عن أهلك، وأحللت سلبك نهبةً لفتيان المدينة، هؤلاء العصاة - أي: الذين يفعلون مثل فعل عمرو هكذا - مَن مات منهم بغير توبةٍ حشَرَه الله - تعالى - يوم القيامة كما كان في الدنيا: مخنثًا عريانًا، لا يستتر من الناس [بهدبةٍ كلَّما قام صُرِعَ] (¬1)))؛ رواه البيهقي، والطبراني، ورواه الديلمي إلى قوله: ((وتُبْ إلى اللهِ))، وزاد: ((وأوسع على نفسك وعيالك حلالاً؛ فإنَّ ذلك جهادٌ في سبيل الله، واعلَمْ أنَّ عون الله مع صالحي التجَّار)) (¬2). وعن عليٍّ - رضِي الله عنه - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن مات وله قَيْنَةٌ فلا تصلُّوا عليه))؛ رواه الحاكم فِي "تاريخه"، والديلمي وسنده ضعيف (¬3). وعن السائب بن يزيد أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لعَائِشَةَ وقد دخلت لها قينة مغنية: ((يا عائشة، تَعرِفين هذه؟ هذه قَيْنةُ بنى فلان، أتحبِّين ¬
أنْ تغنيك؟)) قالت: نعم، فغنَّتها، فقال: ((لقد نفَخ الشيطان في مِنْخَرَيْها))؛ رواه أحمد، والطبراني (¬1). وعن ابن عباس - رضِي الله عنهما - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال ((إنَّ الله حرَّم على أمَّتي الخمرَ، والميسرَ، والكُوبةَ في أشياء عدَّدَها))؛ رواه أحمد، وأبو داود، وابن حبان، زاد البيهقي: وهي - أي: الكُوبَة - الطبل؛ أي: الآتي (¬2). ورواه أبو داود من حديث ابن عمرٍو زاد ((والغُبَيْراء)) (¬3)، وزاد أحمد فيه ((والمزْرَ)) (¬4)، ورواه أحمد أيضًا من حديث قيس بن سعد بن عبادة - رضي الله عنهما (¬5). ¬
واختلف فِي تفسير ((الغُبَيْرَاء)) فقيل: الطُّنْبُور، وقيل: العُود، وقيل: البَربَط، وقيل غير ذلك، وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا كان يومُ القيامةِ [ز1/ 4/أ] قال اللهُ - عزَّ وجلَّ -: أين الذين كانوا يُنزِّهون أسماعهم وأبصارهم عن مَزامِير الشَّيْطانِ؟ ميزوهم فيميزوهم فِي كثب المسك والعنبر، ثم يقول لملائكتِه: أسمعوهم تسبيحي [وتحميدي] وتمجيدي فيسمعون بأصواتٍ لم يسمع السامعون مثلها)) أخرَجَه الديلمي (¬1). وعن أبي هريرة - رضِي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((حبُّ الغِناء يُنبِت النِّفاق في القلب، كما يُنبِت الماء العشب))؛ أخرجه الديلمي (¬2). وعن ابن مسعود - رضِي الله عنه - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إيَّاكم [وإسماع] (¬3) المعازف والغناء فإنهما ينبتان النِّفاق في القلب كما ينبت الماءُ البقلَ))؛ رواه ابن صصري في أماليه (¬4). ¬
وأخرج الديلمي أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الغناء واللهو يُنبِتان النِّفاق في القلب، كما يُنبِت الماء العشب، والذي نفسي بيده إنَّ القُرآن والذِّكر لينبتان الإيمانَ في القلبِ كما ينبت الماءُ العُشبَ)) (¬1). وعن جابرٍ - رضِي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الغناء يُنبِت النِّفاق في القلب، كما يُنبِت الماء الزرع)) (¬2). وعن أبي موسى - رضِي الله عنه - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن استمع إلى صوت غناء لم يُؤذن له أنْ يستَمِع إلى صوت الروحانيين في الجنَّة))؛ رواه الحكيم الترمذي (¬3). وعن أنسٍ وعائشةَ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((صوتان مَلعونان في الدُّنيا والآخِرة: مِزمار عند نِعمةٍ، ورنَّة عند مُصِيبة))؛ رواه البزار، وابن مردويه، والبيهقي (¬4). وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - نهى عن الغِناء والاستماع إلى الغناء، وعن الغيبة والاستماع إلى الغيبة، ونهى عن النميمة والاستماع إلى النميمة؛ رواه الطبراني، والخطابي (¬5). ¬
وعن ابن مسعودٍ أنَّه سُئِلَ عن قوله - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ} فقال: "الغناء، والذي لا إله إلا هو [لا] غيره"؛ رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، وأخرجه الحاكم وصحَّحه، والبيهقي [وغيره] (¬1). * * * ¬
الباب الأول: في أقسام الغناء المحرم وغيره
الباب الأول: في أقسام الغناء المحرَّم وغيره القسم الأول: فِي سماع مجرد الغناء من غير آلة اعلَمْ أنَّ مذهبنا أنَّه يُكرَه الغناء وسماعه إلا إنِ اقتَرَن به ما يأتي، وقال بعض العلماء: إنَّه سنَّة فِي العُرْسِ [ز1/ 4/ب] ونحوه، وقال الغزالي وابن عبدالسلام من أئمَّتنا: إنَّه سنَّة إنْ حرَّك بحال سني مُذكِّر للآخِرة، ا. هـ. [وبه يُعلَم أنَّ كلَّ شِعر فيه الأمر بالطاعة، أو كان حكمةً] (¬1)، أو كان فِي مكارم الأخلاق أو الزهد ونحو ذلك من خِصال البر؛ كحثٍّ على طاعة أو سنة، أو اجتناب معصية يكون كلٌّ من إنشائه وإنشاده وسماعِه سنَّة؛ كما صرَّح به غيرُ واحد من أئمَّتنا، وهو ظاهر؛ إذ وسيلةُ الطاعة طاعةٌ. قال الأذرعي (¬2): وما أحسن قول الماوردي: الشعر فِي كلام العرب: مستحب: إنْ حذَّر من الدُّنْيَا أو رغَّب فِي الآخِرة، أو حثَّ على مكارم الأخلاق. ومباح: وهو ما سَلِمَ من فُحش وكذب. ومحظور: وهو ما اقترن بأحدهما (¬3). فإنْ قلت: نقل القاضي الحسين عن سيِّد الطائفة أبي القاسم الجنيد (¬4) وهو من أكابر الشافعيَّة أنَّ السماع على ثلاثة أقسام: ¬
سماع العوام: وهو حرامٌ عليهم؛ لبقاء نفوسهم. وسماع الزهَّاد: وهو مباح لهم؛ لحصول مجاهدتهم. وسماع العارفين: فيستحبُّ لهم لحياة قُلوبهم، فجعل من السماع ما هو حرام، وصحَّح ما قاله السهروردي فِي "عوارف المَعارِف" (¬1) وهو من كبار الشافعية أيضًا، وذكر نحوه أبو طالب المكي وهو خلاف ما مرَّ. قلت: لم ينفرد الجنيد بذلك بل صرَّح به من كبار أئمَّتنا أقضى القضاة الماوردي وغيره، وليس خلافًا لما ذكر؛ لأنَّ الذي مر مفروضٌ فِي سماعٍ لم يخشَ منه فتنة، ولم يقترنْ به منكرٌ بوجه، ومراد الجنيد - رضِي الله عنه - بهذا الحرام ما خُشِي منه فتنة؛ كأنْ سمعه من امرأةٍ أجنبيَّة، [أو أمرد حسن، أو ما اقترن به منكر؛ كهوًى نشَأ] من عشقٍ محرَّم كما هو الغالب على العامَّة، ثم رأيت بعض الشافعيَّة قال: الظاهر أنَّ الجنيد لم يرد التحريم الاصطلاحي، وإنما أراد أنَّه لا ينبغي، ا. هـ. وما قرَّرت به كلامه أولى كما لا يخفى على مُتأمِّل، وكأنَّ الغزالي أخَذ من كلام الجنيد هذا قوله في "الإحياء": السماع إمَّا مندوب لِمَن غلب عليه حبُّ الله وحبُّ لقائه، فإنَّه يستخرج منه أحوالاً ومُلاطفات ومُكاشفات، وإمَّا مباحٌ لعاشقٍ عشقًا مباحًا لزوجته أو أمَتِه، أو لعامي لم يغلبْ عليه حبُّ ¬
الله ولا الهوى، وإمَّا محرَّم لِمَن غلب عليه هوى محرم (¬1)، وسُئِل العزُّ بن عبدالسلام [ز1/ 5/أ] عن استماع الإنشاد فِي المحبَّة والرقص؟ فقال: الرقص بدعةٌ لا يتعاطاه إلا ناقص العقل، ولا يصلح إلاَّ للنساء، وأمَّا سماع الإنشاد المحرِّك للأحوال السنيَّة المذكِّر لأمور الآخرة فلا بأس به، بل يُندَب عند الفتور وسآمَة القلب، ولا يحظر [إلا] لِمَن فِي قلبه هوًى خبيث فإنَّه يُحرِّك ما فِي القلب. وقال أيضا: السماع يختلف باختلاف السامعين والمسموع منهم وهم أقسام: أحدها: العارفون بالله، ويختلف سماعهم باختلاف أحوالهم؛ فمَن غلب عليه الخوف أثَّر فيه سماع المخوفات وظهر أثَرها عليه من البكاء وتغيُّر اللون والحزن، والخوف إمَّا خوف عِقاب أو فَوات ثواب أو فَوات الأنس والقُرب، وهذا من أفضل الخائفين وأفضل السامعين، فمثله لا يتصنَّع بها، ولا يصدر منه إلاَّ ما غلب من آثار الخوف، وهذا إذا سمع القرآن كان تأثيرُه فيه أشدَّ من تأثير الإنشاد والغناء. الثاني: مَن غلب عليه الوجدُ، فهذا يُؤثِّر فيه ذِكرُ المرجيات، [فإنْ كان رجاه] للأنس والقُرب كان سماعُه أفضل من كلِّ سماع أو للثواب فهو مفضول. ¬
الثالث: مَن غلب عليه الحبُّ للإنعام عليه فيُؤثِّر فيه [ذكره أو لشرف ذاته فيُؤثِّر فيه ذكر ذلك] (¬1). [القسم الرابع] (¬2) أو للتعظيم والإجلال وهذا أفضل الأقسام: ويختلف هؤلاء فِي المسموع منه، فالسماع من الأولياء أكثر تأثيرًا من السماع من الجهَلَة، ومن الأنبياء أشد تأثيرًا من الأولياء، ومن ربِّ الأرض والسماء أشدُّ تأثيرًا من الأنبياء؛ ولهذا لم يشتغل النبيُّون والصديقون وأصحابهم بسماع الملاهي والغناء، واقتصروا على سماع كلام ربهم. [القسم الخامس] (¬3) وأمَّا مَن يغلب عليه هوًى مُباح كعشق حليلته فهو يُهيجه السماع ويُؤثِّر فيه آثار الشوق وخوف الفراق، فسماعه لا بأس به. [القسم السادس] (¬4) وأمَّا مَن يغلب عليه هوى محرَّم كعشق أمرد أو أجنبية، فهذا يهيجه السماع إلى السعي فِي الحرام، وما أدَّى إلى الحرام حرام. [القسم السابع] (¬5) ومَن قال لا أجد فِي نفسي شيئًا من الأقسام الستة فالسماع فِي حقِّه مكروه، وخالَفه الغَزاليُّ فقال: إنَّه مباح، قال: وقد يحضر السماع قومٌ من الفجرة فيبكون وينزعجون لأغراضٍ خبيثة أبطَنُوها، ويُراؤون [الحاضرين] (¬6) بأنَّ سماعهم لأحد الأسباب السابقة، قال: واعلَم أنَّه ¬
لا يحصل السماع المحمود إلا عند [ز1/ 5/ب] ذكر الصفات الموجبة للأحوال السنيَّة والصفات المرضية، ا. هـ. قال الأذرعي: ولأبي القاسم القشيري - وهو من أئمَّة الشافعية - مُصنَّفٌ فِي السَّماع ذكَر فيه أنَّ من شرائطه معرفة الأسماء والصِّفات ومدلولاتها وما يَلِيق بالحق - تعالى - منها، هذا على لسان أهل التحصيل من ذوي العقول، وأمَّا على لسان أهل الحقائق فمن شرائطه [بَقاء النفس] (¬1) بصِدق المجاهدة ثم حياة القلب بروح المشاهدة، فمَن لم يتقيَّد بالصحَّة معاملته، ولم يحصل بالصدق منازلته، فسماعُه ضَياع له، وتواجُده طباع، والسَّماع فتنةٌ يدعو إليها استيلاء العشق إلا عند سُقوط الشهوة، وحُصول الصفوة ... وأطال بما يطول ذكره. قال الأذرعي: وبما ذكره تبيَّن تحريمُ السماع والرقص على أكثر مُتصوِّفة الزمان؛ لفقد شروط القيام بآدابه، ا. هـ. ووقَع لبعض مَن لا تحقيقَ له أنَّه أنكَرَ سماعَ الغناء من غير تفصيلٍ، وليس كما زعم؛ ومن ثَمَّ قال أبو طالب المكي: مَن أنكره أنكر على سبعين صديقًا، وأراد بالسبعين الكثرة، وإلا فالصديقون - وهم العلماء [لا غير - السبعون] (¬2) له بشرطه الآتي لا ينحصرون، قال الإمام السهروردي: هذا المُنْكِر إمَّا جاهل بالسنن والآثار، وإمَّا جاهل الطبع لا ذوق له، وأشار بالسنن إلى ما صَحَّ عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه كان له شُعَراء يصغي إليهم فِي المسجد وغيره، منهم: حسان، وابن رواحة - رضي اللهُ تعالى ¬
عنهُما - واستنشد [من شعر] أميَّة بن [أبي] (¬1) الصلت، واستمع إليه كما فِي مسلم (¬2)، ومن ثم قال العز بن عبدالسلام فِي تفسيره: وأمَّا الأشعار والتشبيهات فمأذون فيها، وقد أنشد كعب [بن زهير]- رضي الله تعالى عنه - رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بانت سعاد القصيدة المشهورة فاستمعها [ولم يُنكِر عليها] (¬3) شيئًا، وفيها الاستعارات والتشبيهات حتى شبَّه الريقة بالخمرة، وكانت حرمت، ولكنَّ تحريمها لم يمنع عندَهم طيبها، بل تركوها مع الرغبة فيها والاستحسان بها، وكان ذلك أعظم لأجرهم، ا. هـ. وذكر الروياني فِي "البحر" أنَّ (سعاد) كانت زوجته وبنت عمِّه، وأنَّه إنما أنشد فيها هذه القصيدة لطول غيبته عنها بهربه من النبي - صلَّى الله [ز1/ 6/أ] عليه وسلَّم - وقال ابن عبدالبر: لا ينكر الحسنَ من الشعر أحدٌ من أهل العلم ولا من أولي النهى، وليس أحدٌ من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر أو تمثَّل به أو سمعه فرَضِيَهُ، ما كان ¬
حكمةً أو مباحًا، ولم يكن فيه فُحش ولا خنا ولا أذًى لمسلم (¬1)، وقال غيره: وما زال العلماء قديمًا وحديثًا على إيداع أشعارهم تلك التشبيهات والاستعارات فِي [الخمر] (¬2) وغيرها، حتى حكَى البدر الزركشي عن الشيخ الإمام أبي إسحاق الشيرازي وناهيك به زهدًا وعلمًا أنه أنشد بعض الرؤساء: ذَهَبَ الشِّتَا وَتَصَرَّفَ البَرْدُ = وَأَتَى الرَّبِيعُ وَأَقْبَلَ البَرْدُ فَاشْرَبْ عَلَى وَجْهِ الحَبِيبِ بِهِ = صَهْبَاءَ لَيْسَ لِمِثْلِهَا رَدُّ فقال [له] (¬3) ذلك الرئيس: أدام الله أيَّام مولانا الشيخ قد أبحتَ الخَمْر! فقال: إنما أردت خمر الجنَّة، وروى الدارقطني والحاكم والبيهقي أنَّه ذكر عند رسُول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الشِّعر، فقال: ((هو كلامٌ حسنُه حسنٌ وقبيحُه قبيحٌ)) (¬4). وقد جمَع الإمام الطبراني جُزءًا حافِلاً فِي غزل التابعين وتابِعِيهم، وذكَر هو وغيره عن جماعةٍ كثيرين من الصحابة أنهم سمعوه ولم يُنكِروا، وللقاضي شريح والزبير بن بكَّار فِي زوجتَيْهما، وعبدالله بن المبارك فِي سريَّته من ¬
الغزل الكثير ما يتعجَّب منه، وكذا الشَّافِعِي - رضِي الله عنه - وفي "الإحياء" التشببهُ بوصف الخدود، والأصداغ، وحُسن القدِّ والقامة، وسائر أوصاف النساء فيه نظَر، والصحيح أنَّه لا يحرم نظمه ولا إنشاده بصوتٍ ولا بغير صوت، وعلى المستمِع ألاَّ ينزله على امرأةٍ مُعيَّنة، فإن نزَّله على زوجته أو على أمَتِه جاز، وإنْ نزَّلَه على الأجنبيَّة فهو العاصي بالتنزيل، ومَن هذا وصفه فينبغي أنْ يتجنَّب السماع. وفي التهذيب: إنْ كان التشبيب فِي امرأةٍ مُعيَّنة أو غلام مُعيَّن فسَق، وإلا فلا، وهو [الأصحُّ] (¬1)، وإنْ قال الروياني: يفسق فِي الغلام وإنْ لم يعيِّنه؛ لأنَّه لا يحلُّ بحالٍ؛ إذ ليس فِي مجرد التشبيب بالمجهول ما يدلُّ على نظَر ولا عِشق، بل الغالب أنَّ القصد به ترقيق الشعر وإظهار الصَّنعة، قال الأذرعي: الذي يجبُ القطعُ به أنَّ تسمية مَن لا يدري مَن هي وذكر محاسنها الظاهرة والشوق [ز1/ 6/ب] والمحبَّة من غير فُحشٍ ولا ريبة لا يقدح فِي قائله، ولا يتحقَّق فيه خلاف، ومن ذلك [تعارُض الشعراء] (¬2) على ذكر ليلى وسلمى وسُعدى والرباب وهندًا وغير ذلك. (تَنْبِيه) قال النووي - رحمة الله تعالى عليه - فِي كتاب "شرح المُهَذَّب" الذي هو أعظم مؤلَّفاته، بل أعظم مؤلفات الشافعية: لا بأسَ بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان فيه خيرٌ كما سبق، وإلا كره؛ لما جاء بسندٍ صحيح حسن أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - نهى عن تناشُد الأشعار في ¬
المسجد (¬1)، نعم؛ إنْ كان فيه مذموم كهجو محرَّم أو صفة خمر أو ذكر نساء أو أمرد أو مدح ظالم أو افتخار منهي عنه حرام، ا. هـ (¬2). وهو صريحٌ في تحريم كثيرٍ من الأشعار التي فيها ذكر صفات الخَمْر ولو [بالتشبيهات] (¬3)، وذكر صِفات النساء والمرد، ويُنافِيه ما قالوه فِي الشهادات من أنَّه لا يحرم التشبيب إلاَّ بامرأةٍ أو غلامٍ معيَّن، ويمكن [أنْ يفرق] (¬4) بأنَّ الحرمة هنا جاءَتْ من حيث المسجد فيحرم فيه ذلك مطلقًا؛ لما فيه من الفحش بخلاف خارجه، وأمَّا ذكر صِفات الخَمْر المقتضية مدحها فالظاهر ما اقتضاه صريحُ كلامه من حُرمته فِي المسجد، وأمَّا خارجه فظاهر ما قدَّمته عدم الحُرمة، وظاهرٌ أنَّ محله إنْ قصد نحو ما مرَّ عن الشيخ أبي إسحاق من خمر الجنَّة أو ريق المحبوب كله أو فواتح الحق على [عباده] (¬5) أو نحو ذلك، وإلاَّ فالظاهر الحرمة، ومن ثَمَّ أفتيتُ بحرمة مُطالعة "حلبة الكميت"، وقد قال أهل الاستِقراء: ما طالَعها أحد إلا شرب الخَمْر أو كاد، وعلى الشعر المذموم قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن رأيتُموه ينشد في المسجد شعرًا فقولوا له: فضَّ الله فاك، ثلاث مرات))؛ رواه ابن السني (¬6)، ¬
وحمله ابن بطال على ما يتشاغَل به أهلُ المسجد، كما تأوَّل أبو عبيدة حديث: ((لأنْ يمتلئ جوفُ أحدِكم قيحًا خيرٌ له من أنْ يمتلئ شِعرًا)) (¬1) بأنَّه الذي يغلب على صاحبه. (تنبيه ثانٍ) يحرم سَماع الغناء من حرَّةٍ أو أمة أجنبيَّة؛ بِناءً على قولٍ عندنا أنَّ صوت المرأة عورة، سواء أخاف فتنة بها أم لا، وكلام الشيخين فِي الروضة وأصلها فِي ثلاث مواضع يقتضي أنَّ هذا هو الراجح فِي المذهب، ونقَل القاضي أبو الطيب إمام أصحابنا [ز1/ 7/أ] عن الأصحاب ولو من وراء حجاب (¬2)، وصرَّح بالتحريم القاضي الحسين أيضًا وادَّعى أنَّه لا خِلاف فيه مستدلاًّ بالحديث الصحيح: ((مَن استمع إلى قَيْنَةٍ صُبَّ فِي أُذُنِهِ الآنُكُ)) (¬3)؛ أي: الرَّصاص المذاب، قال الأذرعي: ولو لم يكن المغني والمغنية محلَّ الفتنة ولكن استماع الغناء منه يبعَثُ على الافتِتان بغيره من الناس، فهو حرامٌ؛ لما فيه من الخبث، وتحريك القلب الخَرِب إلى ما يَهواه، لا ¬
سيَّما أهل العِشق والشَّغف، ومَن يشتغل بصورةٍ خاصَّة، وهذا واضحٌ لا ينازع فيه مُنصِف، ا. هـ. وأمَّا على أنَّ صوتها غير عورةٍ [وهو إنْ صحَّ] (¬1) فلا يحرم إلا إنْ خشي فتنة. قال الأذرعي: ومحلُّه فِي غير الغناء الملحَّن بالنغمات الموزونة مع التخنُّث والتغنُّج كما هو شأن المغنيات، أمَّا هذا ففيه أمورٌ زائدة على مُطلَق سماع الصوت فيتَّجه التحريم هنا، وإن قلنا: إنَّ صوتها غير عورة، ويجب أنْ يكون محل الخِلاف فِي صَوتٍ غير مشتمِل على ذلك [التحريم] بخلاف المشتمل عليه؛ لأنَّه يحثُّ على الفُسوق كما هو مُشاهَد، ويظهر أنَّ سماعه من الأمرد محرَّم أيضًا إنْ خشى فتنة به كسَماعه من المرأة، ثم رأيت الرَّافِعيَّ صرَّح بذلك، والأذرعي نقَل عن القرطبي أنَّ جمهور من أباح سماع الغناء حكموا بتحريمه من الأجنبيَّة على الرجال والنساء، وأنَّه لا فرق بين إسماع الشعر والقُرآن؛ لما فيه من تهييج الشهوة وخوف الفتنة لا سيَّما إذا لحنته، فسماعه كالاطِّلاع على محاسن جسدها، بل الحاصل بغنائها من المفسدة أسرع من ذلك؛ لأنَّ السماع يُؤثِّر فِي النفس قبل رؤية الشخص، وأمَّا تهيجه للشهوة وإيقاعه فِي الفتنة فلا شكَّ فيه، والحاصل أنَّ سماعهنَّ مظنَّة للشهوة قطعيًّا، وأطال فِي تقريره، وهو كما قال، ا. هـ كلام الأذرعي. (تنبيه ثالث): الغناء بالمدِّ والكسر هو رفع الصوت بالشعر؛ ومن ثَمَّ قال جمعٌ من الشافعية والمالكيَّة منهم الأذرعي فِي "توسطه"، والقرطبي فِي "شرح مسلم": الغناء إنشادًا واستماعًا على قسمين: ¬
القسم الأول: ما اعتاد الناس استعماله عند محاولةِ عمَلٍ وحملِ ثقيلٍ، وقطع مفاوز سفر ترويحًا للنُّفوس وتنشيطًا لها؛ كحداء [ز1/ 7/ب] الأعراب بإبلهم (¬1)، وغناء النساء لتسكين صِغارهن، ولعب الجواري بلعبهن، فهذا إذا سلم المغنِّي به من فحش وذِكر محرَّم كوصف الخمور والقَيْنَات لا شكَّ فِي جَوازه، ولا يختلف فيه، وربما يُندَب إليه إذا نشط على فعل خيرٍ كالحداء فِي الحج والغزو؛ ومن ثَمَّ ارتجز - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو والصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - فِي بناء المسجد (¬2)، وحفر الخندق (¬3)، وغيرهما كما هو مشهورٌ، وقد أمَر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - نساءَ الأنصار أنْ يقلن فِي عرسٍ لهن: أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ = فَحَيَّانَا وَحَيَّاكُمْ (¬4) ¬
وكالأشعار المزهِّدة فِي الدُّنْيَا المرغِّبة فِي الآخِرة، فهي من أنفع الوعظ، الحاصل عليها أعظم الأجر، ويُؤيِّد ما نقَلَه من نفى الخلاف فِي هذا القسم أنَّ ابن عبدالبر وغيره قالوا: لا خلافَ فِي إباحة الحُداء واستِماعه، [وهو نحو ما يُقال خلف الإبل] (¬1) من الشعر سوى الرجز وغيره؛ لينشطها على السير، ومَن أوهم كلامه نقل خلافٍ فيه فهو شاذ أو مُؤوَّل على حالةٍ يُخشَى منها شيءٌ غير لائق (¬2). القسم الثاني: ما ينتحله المغنون العارفون بصنعة الغناء المختارون المدن من غزَل الشعر مع تلحينه بالتلحينات الأنيقة، وتقطيعه لها على النغمات الرقيقة التي تهيج النفوس وتطربها؛ كحُميَّا الكؤوس، فهذا هو الغناء المختلف فيه على أقوال العلماء: أحدها: أنَّه حَرام: قال القرطبي وهو مذهب مالك، قال أبو إسحاق: سألت مالكًا عمَّا يُرخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: إنما يفعله عندنا الفُسَّاق، فهو مذهبُ سائرِ أهل المدينة إلا إبراهيم بن سعد وحدَه فإنه لم يرَ به بأسًا، ¬
وهو أيضًا مذهبُ أبي حنيفة - رضِي الله تعالى عنه - وسائر أهل الكوفة [إلا] إبراهيم النخعي، والشعبي، وحماد، وسفيان الثوري وغيرهم لا خِلاف بينهم فيه، وهو أحد قولي الشَّافِعِي وأحمد - رضِي الله عنهما - وقال الحارث المحاسبي: الغناء حرامٌ كالميتة، ووقَع لإمام مذهبنا الرَّافِعِيِّ فِي "الشرح الكبير" أنَّه فِي موضعين منه فِي البُيوع والغصب أطلَقَ أنَّ الغناء حَرامٌ وتابَعَه الإمام النووي فِي "الروضة" على الثاني (¬1)، قال الأذرعي: وظاهر مذهب مالك ما قاله [ز1/ 8/أ] القرطبي؛ أي: لا ما يأتي عن الماوردي، ويستدلُّ لهذا القول بحديث المغنِّي السابق فِي المقدمة [فإنه] استأذن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فِي الغناء من غير فاحشةٍ فقال: ((لا آذَنُ لك ولا كرامة ولا نعمة عين، كذبت أيْ عدو الله، لقد رزقَكَ الله حلالاً طيِّبًا، واخترتَ ما حرَّم الله عليك من رزقه مكانَ ما أحلَّ الله لك من حَلاله، ولو كنت تقدَّمت إليك - أيْ بالنهي - قبل الآن لفعلتُ بك وفعلتُ، قُمْ عنِّي وتُبْ إلى الله، أمَا إنَّك لو قلت بعد التقدمة شيئًا - أي: لو فعلت ما نهيتك عنه - بعد الآن ضربتك ضربًا وجيعًا، وحلقت رأسك، ونفيتُك عن أهلك، وأحللت سلبك نهبةً لفتيان المدينة، هؤلاء العصاة - أي: الذين يفعلون مثل فعل عمرو هكذا - مَن مات منهم بغير توبةٍ حشَرَه الله - تعالى - يوم القيامة كما كان في الدنيا: مخنثًا عريانًا، لا يستتر من الناس بهدبةٍ كلَّما قام صُرِعَ)) (¬2). ¬
ثانيها: أنَّه مكروهٌ: وهو الأظهَرُ عند الشَّافِعِي وأحمد وأكثر أصحابهما، وقول أهل البصرة، وقال غير واحدٍ من العلماء: لا يُعرَف عن أهل البصرة خلاف فِي كراهته، وقال الماوردي: حرَّم الغناء قومٌ وأباحَه آخَرون، وكرهه مالك والشافعي وأبو حنيفة فِي أصحِّ ما قِيل عنهم، ومرَّ أنَّ سماعه من أجنبيَّةٍ مع أمن الفتنة مكروهٌ، لكنَّه شديد الكراهة، ومع خوفها حرامٌ بلا خلاف، وكذا من الأمرد الحسن. ثالثها: الإباحة: وهو المروي عن إبراهيم بن سعد والعنبري، وهما شاذَّان، على أنَّ العنبري مُبَدَّع فِي اعتقاده، غير مَرضِيٍّ عمله، وإبراهيم بن سعد ليس من أهل الاجتهاد. قال القرطبي: وحكاية أبي طالب المكي لذلك عن جماعةٍ من الصحابة والتابعين، وأنَّ الحجازيين لم يَزالوا يسمعون السماع فِي أفضل أيَّام السَّنة الأيَّام المعدودات، إنْ صحَّت هذه الحكاية فهي من القسم الأول دون الثاني، قال: وقد حكَى جمعٌ من الشافعيَّة كالقشيري - رحمه الله تعالى - عن مالك - رضِي الله تعالى عنه - الإباحة، ولا يصحُّ عنه بوجهٍ ولا عن أحدٍ من أصحابه بوجهٍ. رابعها: يحرم كثيره دون قليله، ذكَرَه بعضُ شرَّاح "المنهاج"، وقال ذكره الرَّافِعِيُّ - رحمه الله تعالى - من رواية السرخسي، واقتضى إيراد ابن أبي هريرة أنَّه المذهب، فإنَّه قال: قال الشَّافِعِيُّ لا نبيحه مطلقًا، ونقول: إنْ كان كثيرًا دخَل فِي باب السفه، ا. هـ، ونازَعَه الأذرعي فِي دلالة هذا على التحريم، وإنما يدلُّ على ترك المروءة، ا. هـ[ز1/ 8/ب]. والحق أنَّه ظاهرٌ فِي التحريم؛ إذ سلب الإباحة وعدُّه من السفه إنما يَلِيقان بالتحريم دُون خرم المروءة كما يُعرَف من كلامهم فيها.
خامسها: يحرم فِعله وسماعه إلاَّ إذا كان فِي بيتٍ خالٍ على إحدى وجهين، ذكره بعض تلامذة البغَوِيِّ، ونظَر فيه الأذرعي ثم قال: وأحسبه راجعًا لردِّ الشهادة بالمجاهرة دُون إخفائه، ويُجاب بأنَّ هذا لا يُنافِي الحرمة لتصريحهم بأنَّ [مَن] (¬1) تحمَّل شهادة يحرم عليه فعل خارم لمروءته، وإنْ أُبِيح فِي نفسه؛ لأنَّ فعله [إبطالٌ لغير الحق] (¬2). سادسها: يحرم إنْ كان من امرأةٍ لرجل أو لرجالٍ، أو من رجلٍ لامرأة أو نساء، أو إنِ اقترن به نحو مُسكِر أو أكثر منه أو انقطع إليه، ذكره الحليمي من أكابر أصحابنا. سابعها: إنْ صحَّت النيَّة فيه لم يكره، وإلا كره، قاله الخوارزمي فِي "كافيه": ونازع الأذرعي فِي عدِّ هذا بأنَّ صاحب "الكافي" ليس من أصحاب الوجوه. ثامنها: يجوزُ الغناء وسماعه إنْ سلم من تضييع فرْض [أو حُرمة مبيح] (¬3)، وكان من رجلٍ أو محرم لرجلٍ ولم يسمعه على قارعة طريق، ولم يقترن به مكروه، ذكره الأستاذ أبو منصور. تاسعها: يحرم إنْ كان بِجُعْلٍ كما نقل الأستاذُ عن نصِّ الشَّافِعِي - رضِي الله عنه. عاشرها: هو طاعة إنْ نوى به تَروِيحَ القلب على الطاعة، ومعصية إنْ نوى به التقوية على المعصية، فإنْ لم ينوِ طاعة ولا معصية فهو معفوٌّ عنه؛ ¬
كخروج الإنسان إلى بستانه، وقُعوده على بابه متفرِّجًا، ذكره ابن حزم ونحا نحوه الغزالي وغيره. حادي عشرها: [إنْ كان ما استعمل] (¬1) يحتمل وجهَيْن: جائزًا وحرامًا، فسماعه جائزٌ، وإنْ لم يحتمل إلاَّ وجهًا واحدًا وهو وجْه الفسق، فحرامٌ، ذكَرَه الروياني فِي "بحره" عن بعض أصحابنا الخراسانيين وهو صحيح، وبه يتأيَّد ما قدَّمته آخِر التنبِيه الأول. هذا جملة ما يتحصَّل للعلماء فِي الغناء من الأقوال، وبها مع ما يأتي قريبًا يعلم مَن طالَع ذلك الكتاب السابق ذكره فِي الخطبة ما فيه من السقطات والتدليسات والاختلال. (تَنْبِيه رابع): وقَع لصاحب ذلك الكتاب ولبعض شُرَّاح "المنهاج" أنهم نقَلُوا عن ابن طاهر أنَّه قال: إنَّ جواز الغناء مُجمَعٌ عليه بين [ز1/ 9/أ] الصحابة والتابعين لا خلاف بينهم، وهم أهل الحلِّ والعقد، فليس لِمَن بعدهم إحداث قولٍ يخالفهم، ثم قالوا: وعليه إجماع أهل المدينة، ونقلوا فعله وسماعه عن أربعة وعشرين صحابيًّا من أكابر الصحابة وفقهائهم، وعن جماعةٍ لا يُحصَوْن من التابعين وتابعيهم، وعن الأئمَّة الأربع وأصحابهم وغيرهم، قال الأذرعي - شكر الله سعيه -: وقد تساهَل ذلك الشارح فيما نقَل، وابن طاهر الذي تبعوه وإنْ كان مُكثِرًا فليس بظاهر النقل. ¬
وفي كتابه "صفوة التصوف" (¬1) وكتابه فِي "السماع" فضائح وتدليسات قبيحة لأشياء موضوعة [ومختلقة على بعض الأئمَّة]، وأمَّا دعواه إجماعَ الصحابة فمُجازفةٌ وتدليس، فقد روى البيهقي عن ابن مسعودٍ - رضِي الله عنه - أنَّه قال: ((الغناء يُنبِت النِّفاق في القلب كما ينبت الماءُ البقلَ)) (¬2)، وقال: إنْ وقفه عليه هو الصحيح؛ أي: ومثله لا يُقال من قِبَلِ الرأي؛ لأنَّه إخبارٌ عن أمرٍ عيني، فإذا صَحَّ عن الصحابة فقد صحَّ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما هو مُقرَّر عند أئمَّة الحديث والأصول، وقد روى أبو داود وغيره عن ابن مسعود، وأبي هريرة - رضِي الله عنهما - ذلك مع التصريح برَفعِه إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد قدَّمت فِي المقدمة هذا الحديث وطرقه وما قيل فيه، فراجِعْه فإنَّه مهم. ثم رأيت الأذرعي أشارَ إلى ما ذكرته أنَّ ذلك لا يُقال من قِبَلِ الرأي، فعلم أنَّ هذا الحديث قد صَحَّ عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بكلِّ تقرير، وحينئذٍ فالحجَّة فيه دُون ما سواه، قال الأذرعي: وما نُسِبَ إلى أولئك الصحابة أكثَرُه لم يثبتْ، ولو ثبَت منه شيءٌ لم يظهر منه أنَّ ذلك الصحابي يُبِيح الغناء المتنازَع فيه، فالمرويُّ عن عمر - رضِي الله عنه - أنَّ غلامًا دخَل عليه فوجده يترنَّم ببيتٍ أو نحو ذلك فعجب منه فقال: إذا خلَوْنا قُلنا كما ¬
تقولُ الناس، فالله أعلم ما كان ذلك البيت وما كان ترنُّمه وصفته (¬1)، وصَحَّ عن عثمان - رضِي الله عنه -: "ما تَغَنَّيْتُ وما تَمَنَّيْتُ)) (¬2)؛ أي: زنيت، فإطلاق القول بنسبة الغناء المتنازع فيه وإسماعه إلى أئمَّة الهدى تجاسر، ولا يفهم الجاهل منه [إلا] هذا الغناء الذي تَعاطاه المغنُّون المخنَّثون ونحوهم. وقال الشيخ الإمام إبراهيم [ز1/ 9/ب] المروزي فِي تعليقه: وَعَنْ عمر، وعبدالرحمن بن عوف، وأبي عبيدة بن الجراح، وأبي مسعود الأنصاري، أنهم كانو يترنَّمون بالأشعار فِي الأسفار، وكذلك عن أسامة بن زيد، وعبدالله بن الأرقم، وعبدالله بن الزبير - رضِي الله عنهم - والترنُّم كذلك ليس فِي محلِّ النِّزاع؛ إذ هو من أنواع القسم الأول من القسمين السابقين، وقد مرَّ أنَّه لا خِلافَ [فيه]، وبه يعلم أنَّ الظاهر الذي يتعيَّن القطع به أنَّ غالب ما ¬
حُكِي عن الصحابة - رضي الله عنهم - وعمَّن بعدَهم من الأئمَّة إنما هو من هذا القسم الذي لا خِلافَ فيه، وقد قال الإمام القدوة خطيبُ الشام أبو القاسم الدولقي من أئمَّتنا فِي "مصنفه فِي السماع": إنَّه لم يُنقَل عن أحدٍ من الصحابة - رضي الله عنهم - أنَّه سمع الغناء - أي: المتنازع فيه - ولا جمع له جموعًا، ولا دعا الناس إليه، ولا حضَر له فِي ملأ، ولا خلوة، ولا أثنى عليه، بل ذمَّه وقبَّحه وذم الاجتماع إليه، هذا لفظه ومن خطه - رحمه الله - نقلتُ، انتهى كلام الأذرعي - رحمه الله تعالى. وبه يعلم أنَّ ابن طاهر لا يجوزُ تقليده فِي نقلٍ ولا عقلٍ؛ لأنَّه فاسدٌ فيهما، كيف وهو كذَّاب مُبتدِع إباحي كما يأتي، وإنَّ من نقل عن الصحابة وغيرهم أنهم نصُّوا على إباحة الغناء المتنازَع فيه، وهو القسم الثاني السابق فقد أخطأ خطأً قبيحًا، وغلط غلطًا فاحشًا؛ لأنَّ الغِناء من أفراده المجمَع على حلِّه والمختلف فِي حُرمته، فتخصيصُ ما جاء عنهم بالثاني تحكُّم فاسد لا تشهد له قاعدة أصوليَّة ولا حديثيَّة، بل الذي شهدت به القواعدُ حملُ ما جاء عنهم على المجمع عليه؛ لأنهم أئمَّة الهدى ومصابيح الدُّجَى، فهم أبعَدُ الناس عن الوُقوع فِي مواطن الخلاف، وأحقُّ العلماء بتجنُّب ذلك السَّفساف - رضِي الله عنهم. (تَنْبِيه خامس) قد تقرَّر أنَّ القسم الثاني من قسمي الغناء فيه خِلافٌ قوي فِي تحريمه؛ لما مرَّ من نقل القرطبي للتحريم عن أبي حنيفة ومالك، وأولئك الأئمَّةُ الأكابر، قال الأذرعي: والذي يقوَى فِي النفس رُجحانُه تحريمُ الغناء الملحَّن وسماعه على أكثر الناس، والعجب استدلال الرَّافِعِيِّ - رحمه الله [ز1/ 10/أ] تعالى - للكراهة فقط بقوله - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ [لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلمٍ} [لقمان: 6] قال ابن
مسعود كما صحَّ عنه - رضِي الله عنه -: "لَهْوَ الحَدِيثِ] (¬1) الغِنَاء" (¬2)، ومرَّ أنَّه صَحَّ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((الغِناء يُنبِت النِّفاق في القلب، كما يُنبِت الماءُ البقلَ)) (¬3) وهذان ظاهران فِي التحريم. وروى البيهقي عن ابن عباسٍ أنَّه فسَّر لهو الحديث وأشباهه [بالملاهي] (¬4)، قال: وروينا عن إبراهيم النخعي، ومجاهد، وعكرمة - وزاد غيره روايته عن الحسن البصري - وسعيد بن المسيب، وقتادة. ومن أدلَّة التحريم أيضًا قولُه - تعالى -: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} (¬5) فسَّره مجاهد بالغناء وَالمَزَامِير (¬6)، وقوله - تعالى -: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا]}، قال محمد بن الحنفيَّة ومجاهد: "هو الغناء" (¬7)، وقوله - تعالى -: {أَفَمِنْ هَذَا الحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} (¬8)؛ أي: "مغنُّون بلغة حمير" ¬
قاله عكرمة، وحَكاه أبو العباس القرطبي عن ابن عباس - رضِي الله عنهما - قال: وقال مجاهد: هو الغناء بلغة أهل اليمن (¬1). قال الأذرعي: وقد أوضحت فِي كتابي "غنية المحتاج فِي شرح المنهاج" (¬2) من حجج القول بالتحريم أو الكراهة الشديدة والرد على المبيحين للغناء والمتساهلين فيه ما ينشرح له القلب المنور باتِّباع السنَّة، الخالي من البدعة والأهوية الحيوانيَّة، وممَّا يدلُّ على ذمِّه وذمِّ متعاطيه من المتَّفق على صحَّته قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أحدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ))، وفي رواية: ((شيئًا ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ)) (¬3). قال أبو العباس القرطبي: وجْه الدليل أنَّ الغناء المطرب لم يكن من عادة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا فُعِلَ بحضرته ولا اتَّخذ المغنِّين ولا اعتنى بهم، فليس ذلك من سِيرته ولا سِيرة خُلَفائه من بعده ولا من سِيرة أصحابه ولا عترته، فلا يصحُّ بوجهٍ نسبتُه إليه ولا أنَّه من شريعته، وما كان كذلك فهو من المُحدَثات التي هي بدعةٌ وضلالة، وقد يتعامى عن ذلك مَن غلب عليه الهوى، وقد صحَّ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال (([كُلُّ] لهوٍ يَلهُو به الرجلُ فهو باطلٌ إلا رميَه بقَوسِه، وتَأدِيبَه لفرَسِه، ومُلاعَبتَه أهلَه)) (¬4). ¬
(تَنْبِيه سادس) من الأحاديث الموضوعة [ز1/ 10/ب] الكذب الذي لا تحلُّ روايتها إلاَّ لبيان حالها حتى لا يغتر العامَّة بها ما رواه الكذَّاب - ابن طاهر - (¬1) بسنده الباطل عن أنس قال: "كنَّا عند رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فيكم مَن ينشدنا؟)) قال بدوي: نعم يا رسول الله، فأنشده: قَدْ لَسَعَتْ حَيَّةُ الهَوَى كَبِدِي = فَلاَ طَبِيبَ لَهَا وَلاَ رَاقِي إِلاَّ الحَبِيبُ الَّذِي شُغِفْتُ بِهِ = فَعِنْدَهُ رُقْيَتِي وَتِرْيَاقِي فَتَوَاجَدَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتَواجَدَ أصحابُه حتى سقَط رداؤه عن منكبه، فلمَّا فرغوا آوَى كلُّ واحدٍ إلى مكانه، فقال معاوية بن أبي سُفيان: ما أحسن لعبكم يا رسول الله! فقال: يا معاوية، ليسَ بكرِيمٍ مَن لم يهتزَّ عِنْدَ السَّماع الحسن (¬2)، ثم قَسَمَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رِداءَه ممَّن حضرَ أربعَمائة قِطْعَةٍ)) (¬3)، قال ابن طاهر فِي كتابه "صفوة التصوف" بعد سوقه سند هذا الحديث: وهذا الحديث نصَّ على أنَّ مذهب الصوفية كان معلومًا عندهم، معمولاً به بينهم، فإنكاره جهلٌ بالمنقول والتَّمادِي على إنكاره بعد هذا ليس له محصول، ا. هـ. ¬
وليس كما زعَم بل كذب وافترى وجازَف واجترأ، بل هو من جملة كذباته وفرياته وضَلالته وخرافاته؛ ومن ثَمَّ قال أبو العباس القرطبي: لا يحتجُّ بحديث ابن طاهر لما ذكره السمعاني عن جماعةٍ من شيوخه أنهم تكلَّموا فيه ونسبوه إلى مذهب أهل الإباحة الذين لا يُحرِّمون مالاً ولا فرجًا، وعنده مناكير فِي هذا الكتاب، روى عن مالكٍ وغيره من أئمَّة الهدى حكايات منكرة باطلة قطعًا، وقال محمد بن ناصر الحافظ: ابن طاهر ليس بثقةٍ، ثم العجب من غلبة الهوى والميل على هذا الفاسق المبتدِع أنَّه لما استكمل سياق هذا الحديث الباطل الكذب المختلق قال فِي آخره كلامًا يُوهِم به الضُّعَفاء أنَّه على شرط البخاري ومسلم وهو تمويهٌ وتدليس على العوام، فتأمَّل غلبة هذا الهوى على هذا الرجل حتى لم يرضَ بإيهامه صحَّة هذا الحديث، بل زاد وبالَغ حتى أوهَمَ أنَّه على شرط الصحيحين؛ كلُّ ذلك ترجيحٌ لقوله الباطل، وتمويهٌ لحاله الحائل؛ لفساد عقله، واستيلاء خبله، والإفساد فِي الناس، [وإلاَّ فأدنى عارف] بالسنَّة يعلم عند مجرَّد [سماعه] هذا الحديث أنَّه كذبٌ مصنوعٌ موضوعٌ لرَكاكة ألفاظِه، وأنَّ شعره لا يليق بجزالة شعر [ز1/ 11/أ] العرب، بل بركاكة شعر المخنَّثين، قال الأذرعي: وأطال القرطبي فِي ردِّ هذا الحديث الباطل المختلق، وما قاله حقٌّ لا ينازِع فيه أحدٌ من أهل المعرفة بالحديث، ولا شكَّ فيه، فالله حسب مفتريه. وقد ذكَر صاحب "عوارف المَعارِف" هذا الحديث ثم قال: لكن يخالج سرِّي أنَّ هذا الحديث ليس فيه دون اجتماع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأصحابه، ويأبى القلب قبوله، ا. هـ. قال بعض الحفَّاظ: وما خالج صدره - رحمه الله تعالى - يقينٌ عند غيره قد خالَط قلبه؛ أي: فلنور قلب الشهاب السهروردي لم يقبَل قلبه هذا الحديث
الركيك الذي يجعَل كلماته - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن أنْ يحاكي به هذه الألفاظ الركيكة المظلمة. (خاتمة) فِي فروع مُتمِّمة لما سبق منها: مَن غنَّى لنفسه أو غيره إنْ أخَذ عليه أجرًا واشتهر به بحيث يُسمَّى مغنِّيًا فهو سفيهٌ مردود الشهادة، وكذا مَن انقطع لسماعه بخلاف مَن يسمعه أحيانًا ولو فِي الملأ ومَن تكسَّب يجمع المغنين والمغنيات عنده ليطلب [منه] إحضارهم، أو بتعليم غناء لامرأة وأمرد - فهو سفيهٌ مردودُ الشهادة، بخلاف مَن اقتناهم ليسمعهم غير مُكثِر ولا مُجاهِر ما لم يدخل معه لسماعهم مَن يحرم عليه سماعهن؛ لأنَّ ذلك دِياثة، ولو كان يغشى بيوت الغناء ويغشاه المغنُّون للسماع فإنَّ كان فِي خفية لم تردَّ شهادته لبقاء مُروءته، وكذا إنْ أظهره ولم يُكثِر منه.
القسم الثاني: في سماع الغناء المقترن برقص أو نحو دف أو مزمار أو وتر
القسم الثاني: في سماع الغناء المقترن برقص أو نحو دف أو مزمار أو وتر قد سبق حُكمُ الغناء المجرَّد، وسيأتي أحكامه وما بعده إذا تجرَّدت، والمقصود هنا أنَّ الغناء إذا أُبِيح أو كره إن انضمَّ إليه محرَّمٌ يصير بانضِمام المحرَّم إليه محرمًا، وإذا حرم يشتدُّ إثمه بانضِمام المحرَّم [الآخَر] إليه، وأنَّ الرَّقص إنْ كان فيه تكسُّر كفعل المخنث كان حرامًا، وإنْ خلا عن ذلك كان مكروهًا، فإذا انضمَّ القسم الحرام منه إلى الغناء المحرَّم ازداد الإثم والتحريم، وكذا إذا كان المحرَّم أحدهما؛ لأنَّ المكروه وإنْ كان لا إثمَ فيه لكنَّه بانضِمامه إلى المحرَّم يَزداد إثمًا، ويشهَدُ لما قرَّرتُه قولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فِي الحديث الصحيح: ((لا يخرُج الرجلان [ز1/ 11/ب] يَضرِبان الغائط كاشفَيْن عن عَوْرتهما يتحدَّثان؛ فإنَّ الله يمقت على ذلك)) (¬1). فجعل التحدُّث على الغائط الذي هو مكروهٌ لا حرام إذا انضمَّ إلى الحرام الذي هو كشْف العَوْرة بحضرة مَن ينظُر إليها مقتضيًا للمقت الذي هو أشدُّ البُغض، فكذا إذا انضمَّ مكروهٌ من رقصٍ أو غناءٍ إلى محرَّمٍ من أحدهما يزداد إثمه وعقابه، وإذا ثبت هذا فِي مكروه ومحرَّم فهو فِي محرَّمين أولى، وسيأتي عن الإمام أبي عمرو بن الصلاح فِي اجتماع الدُّفّ الذي هو حلال إلى ¬
الشَّبَّابَة التي هي حَرام ما يوافق ما ذكرته، مع ردِّ ما اعترض به عليه، فاستَفِده. (تَنْبِيه) ما تقرَّر فِي الرقص من أنَّه إنْ كان فيه تثنٍّ أو تكسُّر حرم على الرجال والنساء، وإن انتفى كلٌّ منهما عنه كره، قال الرَّافِعيُّ: لأنَّه مجرَّد حركات على استقامة هو المعتمد فِي مذهبنا، وقيل: يكره مع التكسُّر أو التثنِّي ولا يحرم، وقيل: يُباح مع عدمها ولا يكره، وقال بعض أصحابنا: إنْ أكثر منه حرم وإلاَّ فلا، وأشار القاضي حسين فِي تعليقه والغزالي فِي "إحيائه" إلى أنَّ محلَّ الخلاف فيمَن فعَلَه باختياره بخلاف مَن كان من أهل الأحوال، فحصل له وجدٌ اضطرَّه إليه، فإنَّ هذا لا حُرمة ولا كَراهة عليه اتِّفاقًا. وعلى هذه الحالة يحمل ما حُكِي عن العزِّ بن عبدالسلام أنَّه كان يرقص فِي السماع، وممَّا يعين هذا الاحتمال ويردُّ على مَن توهَّم مَن فعَلَه أنَّه كان يفعله عن اختياره، فجعله حجَّة لدعواه الفاسدة وبضاعته الكاسدة - قولُه نفسه فِي قواعده التي لم يُصنَّف مثلها: "أمَّا الرقص والتصفيق فخفَّة ورُعونة مشابهة لرُعونة الإناث لا يفعلهما إلا أرعن أو مُتصنِّع جاهل، ويدلُّ على جهالة فاعلهما أنَّ الشريعة لم تردْ بهما لا فِي كتابٍ ولا سنَّة ولا فعَل ذلك أحدٌ من الأنبياء، ولا مُعتَبَرٌ من [أتباع] الأنبياء، وإنما يفعله الجهلة السُّفَهاء الذين التبسَتْ عليهم الحقائق بالأهواء، وقد حرَّم بعض العلماء التصفيق على الرجال؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ((إنَّما التَّصْفِيقُ للنِّساءِ)) (¬1)، ا. هـ كلامه. ¬
فبعدَ صُدور هذه العِبارة منه وهو أخشى لله [وأتْقاه] (¬1) من أنْ يتكلم فِي كتابه الذي هو نتيجة علومه [ز1/ 12/أ] ومَعارِفه بما يفعَل خلافه على رؤوس الأشهاد، ولكي يتوهَّم صدور ذلك منه، وبفرض صحَّته عنه يتعيَّن حملُه على أنَّه إنما فعَلَه اضطرارًا لعروض حالٍ أزعَجَه وأخرَجَه عن اختِياره، وقد عرفت أنَّ هذه الحالة ليسَتْ من محلِّ الخلاف فاحفَظ ذلك وردَّ به على مَن زلَّ فِي هذه المسألة قدمُه، وطغَى فِي حُكمها فهمُه وقلَمُه، وسيأتي قريبًا عن السهروردي وغيره فِي التواجُد ما يُوضِّح ذلك. وإذا بان لك هذا الذي ذكرته عن ذلك الإمام واتَّضح، ظهَر لك بُطلان نقل الأُدْفوي ومَن قلَّده خلافه فيه، وقلَّدهم صاحب هذا الكتاب من غير تأمُّلٍ؛ حيث عدَّ ممَّن حضَر السماع بالدُّفِّ والشَّبَّابَة هذا الإمام الذي قال فِي الغناء المجرَّد وفي مجرَّد ضَرْب يدٍ على يدٍ ما مرَّ، فكيف يقولُ هذا فِي ذلك ويحضر بنفسه الغناء المقترِن بالدُّفِّ والشَّبَّابَة، سبحانك هذا بهتان عظيم! والأُدْفوي هذا يتابع ابن طاهر فِي جميع كذباته كصاحب هذا الكتاب، ويعتمدها ويجعلها حجَّة له على ما يريد الانتصار به للصوفية المبرَّئِين من هذا السفساف، الأغنياء عن الانتصار لهم بأنَّ من شريطة طريقتهم ترْك المختَلَف فيه فكيف بالمُجمَع عليه، ومَن وقع منه خلاف ذلك منهم وصحَّ، أُجِيبَ عنه بأنَّ الوقائع الفعليَّة من المعصوم إذا أسقَطَ الاستدلالَ بها الاحتمالُ كما هو مقرَّر فِي الأصول، فأولى أنَّ ذلك يسقطه فيها إذا وقعَتْ من غير المعصوم؛ إذ ليست الحجة إلاَّ فِي الكتاب والسنَّة ونحوها من الأدلَّة المقرَّرة فِي الأصول، ونحن نجزم بأنَّه لم يقع عن أحدٍ ¬
يُقتَدى به من أهل التصوُّف الجامعين بين العلم والمعرفة شيء من ذلك السفساف الذي هو سماع الأوتار ونحوها من المُجمَع على تحريمها، وأمَّا المختَلَف فيه فكذلك عند المحقِّقين منهم لمجانبتهم الشُّبَه ما أمكن، وأمَّا الحائمون حول حمى الشبهات وسماع المشتبهات فأولئك ليس لهم من التصوُّف إلاَّ رسمه، ومن العلم إلا اسمه، والخير كل الخير إنما هو فِي اتِّباعه - صلَّى الله عليه وسلَّم وشرَّف وكرَّم. قال الأذرعي فِي "توسطه": واعلم [ز1/ 12/ب] أنَّ طوائف من المغرمين بالرقص من المتفقِّرة - أي: المتصوفة - ومَن حذا حذوهم من المتفقِّهة توهَّموا أنَّ حديث زفن الحبشة بالمسجد - وهو بالزاي والفاء والنون - والرقص دليلٌ واضح على جواز الرقص فِي المساجد مع ضميمة الغناء والطارات إليه، وذلك خطأ صريح وجهل قبيح يُعرَف ببيان الحديث، والجواب عنه كما هو مذكورٌ فِي كلام القرطبي، أمَّا الحديث فالذي رواه البخاري ومسلم فيه: أنَّ ذلك كان يوم عيدٍ يلعَبُ فيه السودان بالدَّرَقِ والحِرابِ فِي المسجد، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعائشة: ((تشتَهِين تنظُرِينَ؟)) فقالت: نعم، فأَقامني رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وراءَهُ خدِّي علَى خَدِّهِ وهو يقولُ: ((دُونَكم يا بَنِي أرفدة)) (¬1)، ووجه تمسُّكهم أنهم رقَصُوا فِي المسجد وأمرَهُم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل أغْراهم بقوله: ((يا بَنِي أرفدَةَ)) ثم أباح لعائشة - رضي الله عنها - النظر إليهم؛ فكان دليلاً على إباحة الرقص وجوازه. ¬
والجواب: أنَّ هذا الحديث لا يتناوَل محلَّ النزاع؛ فإنَّ ذلك لم يكن من الحبشة رقصًا على غِناء، ولا ضربًا بالأقدام، ولا إشارة بأكمام، بل كان لعبًا بالسلاح، وتأهُّبًا للكفاح؛ تدريبًا على استعمال السلاح فِي الحرب، وتمرينًا على الكرِّ والفرِّ والطَّعن والضَّرب، وإذا كان هذا هو الشَّأن فأين أفعال المخانيث والمخنَّثين من أفعال الأبطال والشُّجعان؟! وأمَّا إباحة النظَر إليهم فلأنَّه لم يكنْ بحضرتهم منكرٌ يُغيَّر، ولا عورة تظهَر، وتمسَّكوا أيضًا بأنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لعلي: ((أنت منِّي وأنا منك)) فحجل، وقال لزيدٍ: ((أنت أخونا ومولانا)) فحجل، وكذلك حجل جعفر لَمَّا وصَّى له في بنت حمزة حين خاصَمَه فيها عليٌّ وزيدٌ)) (¬1)، والحجل: مشي المقيَّد، وهو وثْب واهتزاز وهو الرقص؛ والجواب: أنَّ هذه كلها أحاديث مُنكَرة وألفاظ موضوعة مزوَّرة، ولو سلمت صحَّتها لم يتحقَّق حجَّتها؛ أي: لأنَّ المحرَّم هو الرقص الذي فيه تثنٍّ وتكسُّر، وهذا ليس كذلك. وبما تقرَّر فِي هذا والذي قبلَه يُعلَم خطأ صاحب ذلك الكتاب فِي نقْله الاحتجاجَ على إباحة الرقص بحديث رقص الحبشة فِي [ز1/ 13/أ] المسجد، وبأنَّ عليًّا وجعفرًا وزيدًا حجلوا لَمَّا بشَّرهم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ووجْه خطَئِه ما تقرَّر أنَّ رقْص الحبشة لم يكنْ من الرقص المُختَلف فيه، وأنَّ ما ذُكِرَ عن هؤلاء الثلاثة - رضوان الله عليهم أجمعين - كذبٌ مختلق لا تحلُّ روايته ولا الاحتجاج به، إذا تقرَّر أنَّ فعل الحبشة ليس من ¬
المختلف فيه، وأنَّ ما رُوِي عن أولئك الأئمَّة كذبٌ، بطل قول صاحب الكتاب: إنَّ القياس على ذلك حجَّة على إباحة الرقص. (تتمَّة) نقَل القرطبي عن الإمام الطرسوسي (¬1) أنَّه سُئِلَ عن قومٍ فِي مكانٍ يقرؤون شيئًا من القرآن ثم ينشدهم لهم منشدٌ شيئًا من الشعر فيرقصون ويطربون ويضربون بالدُّفِّ والشَّبَّابَة، هل الحضور معهم حلال أو لا؟ فأجاب: مذهب السادة الصوفية أنَّ هذا بطالة وضلالة، وما الإسلام إلاَّ كتاب الله وسنَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمَّا الرقص والتواجُد فأوَّل مَن أحدَثَه أصحاب السامري لما اتَّخذ لهم عجلاً جسدًا له خوار، فأتوا يرقصون حوله ويتواجَدون، وهو - أي: الرقص - دين الكفار وعبَّاد العجل، وإنما كان مجلس النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع أَصْحابه "كأنَّما على رؤُوسهمُ الطَّيْرُ من الوقار" (¬2)، فينبغي للسُّلطان ونوَّابه أنْ يمنعوهم من الحضور فِي المساجد وغيرها، ولا يحلُّ لأحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أنْ يحضر معهم، ولا يُعِينهم على باطلهم، هذا مذهب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، وغيرهم من أئمَّة المسلمين، ا. هـ كلام هذا الإمام، فتأمَّله واحفَظْه فإنَّه الحقُّ وغيره الباطل الذي غايته القطيعة والآثام. ¬
وتمسَّكوا أيضًا بحكاياتٍ كثيرة عن المشايخ ذكرها القشيري وغيره، زاعِمين أنَّ هؤلاء المشايخ عُرِفت فضائلهم وصحَّت كراماتهم، فإطباقهم على حُضور مجالس السَّماع والغِناء وتواجُدهم وركضُهم وزفنهم دليلٌ على إباحة ذلك؛ وجوابُه: أنَّنا لا ننفي جوازه إلاَّ عند وجود نحو تثنٍّ وتكسر، فمن أين أنَّ أولئك المشايخ تثنَّوْا وتكسَّروا، سلَّمنا أنهم فعلوا ذلك فمن أين أنهم لم يحصل [ز1/ 13/ب] لهم وجدٌ أخرجَهُم عن حالة الاختِيار إلى حالة الاضطرار، على أنَّا لا نسلِّم صحة تلك الحكايات عن أولئك، فلعلها ممَّا أدخَلَه أهل الزندقة على أهل الإسلام، كما كذبوا على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بما لا يُحصَى، سلَّمنا صحَّتها وأنهم فعلوها اختيارًا، فالحجَّة فيما جاء عنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعَن الأئمَّة بعده، وقد بينَّا أنَّ ذلك لم يكن طريقهم ولا سبيلهم، وأنَّ ذلك ممَّا حدث بعدهم فقد تناوله قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلُّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلُّ بدعةٍ ضَلالَةٌ)) (¬1). وظُهور الكرامات لا تدلُّ على العصمة، بل على قُرب مَن ظهرت عليه فِي حال ظُهورها عليه مع جواز تلبُّسه بعد ذلك بكبيرةٍ يتوبُ الله عليه منها؛ ¬
ومن ثَمَّ قيل للجنيد سيِّد الطائفة: أيَعصِي [الولي] (¬1)؟ فقال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} (¬2). وقد قال ابن عبدالسلام: أخطأ مَن زعَم أنَّ الولاية تُنافِي ارتكابَ الصغائر، ففعلهم لذلك لو فرض أنَّه باختيارٍ وفيه تثنٍّ وتكسُّر يكون صغيرةً، وهي لا تنافي الولاية. وما أحسن ما قاله الأستاذ الكبير، والعلَم الشهير، إمام العارفين، وقدوة العلماء العاملين، أبو علي الروذباري لَمَّا سُئِلَ عمَّن يسمَع الملاهي ويقول: هي حَلال؛ لأنِّي قد وصلت إلى درجةٍ لا يُؤثِّر فِيَّ اختلاف الأحوال، فقال - رضِي الله عنه -: نعم قد وصل، ولكن إلى سقر، كذا نقَلَه عنه إمام المتأخِّرين ظاهرًا وباطنًا الإمام اليافعي الذي قال الأسنوي فِي حقِّه: فضيل الأباطح وفاضلها، فتأمَّل مثل قول أبي عليٍّ المذكور واعتمده، وأمثاله، ولا تغترَّ بِمَنْ لم يشمَّ أدنى مَراتِبهم، فيقول عليهم بما هم منه بَرِيئون وعنه مُنفَرِدون ومحوطون، حقَّق الله لنا حسن اتِّباعهم، والاندراج فِي سلك إجماعهم بمنِّه وكرمه، آمين. وتمسَّكوا أيضًا بأنَّ الحركات الموزونة من أهل الصفاء حالةَ السماع نتائج القلب المعتدِل الموزون بميزان الرياضة والمجاهدة، ومَن هو كذلك لا يصدر عنه قولٌ ولا فعلٌ إلاَّ على نظامٍ ووزنٍ، وخُصوصًا حالة السماع التي هي حالةُ ظهور مَكامِن القلوب وإبداء العُيوب، وأطالُوا من هذه الكلمات التي هي حقٌّ فِي نفسها أُرِيدَ بها [ز1/ 14/أ] باطلٌ أي باطل؛ إذِ الصادر عن القلب المذكور وزنُ الأعمال بميزان الشرع لا وزنُ الحركات بميزان ¬
المخنَّثين؛ ومن ثَمَّ قال القرطبي فِي جواب ذلك: إنَّ هذا من التمويهات والترَّهات التي لا تتمشَّى على العوام، فضلاً عن ذوي الأفهام؛ ووجه تمويهه أنهم إنْ أرادوا بالوزن مطابقة الحركات الحسيَّة لحركات الغناء فهو باطلٌ، أو مطابقتها للميزان الشرعي فمُسلَّم، لكنْ تلك الميزان تمنَع من حُضور الغناء المطرب وسماعه؛ لأنَّه يمنع من المكروه والمحرَّم؛ وقد بينَّا أنَّ الغناء المطرِب وسماعه حَرام ولهو وباطلٌ، ثم يلزَمهم أنَّ أصفى الناس قُلوبًا أحسنهم رَقصًا، وأنَّ مَن لا يحسنه كالصحابة والأئمَّة بعدهم يكونوا بخلاف ذلك، وهذه زلاَّت لا يتدارك قُبحها ولا يَتناهى إثمها، وأطال فِي بَيانها وفي التَّشنيع على أولئك الأغبياء المتمسِّكين بما آلَ بهم إلى أعظم الزَّلَل وأقبح الخطأ والخطَل. وتمسَّكوا أيضًا بأنَّ مَن فعلوا الرقص حالةَ السماع ظهَرتْ عليهم الكرامات حينئذٍ، فهو دليلٌ على حقيقة ما هم عليه؟ وجوابه: أنَّ أكثر حِكاياتهم خُرافات لا حقيقةَ لها، ولو سلمت فالحجَّة فِي كتاب الله - تعالى - وسنة رسولٍه واتِّباع سبيل المؤمنين من الصَّحابة ومن بعدهم من المجتهدين، وما ظهر على أولئك حالة الرقص إنْ صحَّ إمَّا حِيَلٌ أو فِتَنٌ كفِتَنِ الدجَّال فلا يغترَّ بها؛ لما هو مُقرَّر عند أئمَّة الشرع أنَّ مَن ظهر عليه خارقٌ إنْ وافقت أحواله الشريعة أصولها وفُروعها فهي الكرامة، وإلاَّ فهي استِدراجٌ، وصاحبها إمَّا مفتونٌ أو زنديقٌ؛ ومن ثَمَّ قال الجنيد: لو رأيتم الرجل يمشي على الماء أو فِي الهواء فلا تغترُّوا به حتى تَنظُروا حالَه عند الأمر والنهي، وقد سمع الشبلي برجلٍ اشتَهَر بالولاية، فمشى إليه فِي أصحابه،
فدخَل عليه فِي المسجد فرَآه قد تنخَّم فِي قِبلة المسجد (¬1)، فقال لأصحابه: ارجِعُوا فإنَّ الله لم يأمَنْ هذا على أدبٍ من آداب شريعته، فكيف يأتمنه على أسراره؟ وبهذا كلِّه الذي قالَه القرطبي وغيره يتبيَّن خطأ صاحب ذلك الكتاب فِي قوله: والشَّبَّابَة تُحرِّك الدمع وتُرقِّق القلب، ثم قال: ولم يزل أهل المَعارِف [ز1/ 14/ب] والصَّلاح والعلم يحضرون السماع بالشَّبَّابَة، وتجري على أيديهم الكَرامات الظاهرة وتحصل لهم الأحوال السنيَّة، ومرتكِب المحرَّم لا سيَّما إذا أصرَّ عليه يفسق به، وقد صرَّح إمام الحرمين والمتولي وغيرهما من الأئمَّة بامتِناع جَريان الكَرامة على يد الفاسق، ا. هـ. وبَيان خطئه فِي ذلك وزلَلِه أنَّ قوله: يُرقِّق القلب دعوى كاذبة باطلة، وإلاَّ لم يحرِّمها أكثرُ العلماء، بل الحقُّ أنها تُحرِّك عنده من حُظوظ نفسه وشَهواتها ما يحمله على ما لا ينبغي، وبفرْضٍ أنها لا تحمله فهي شعار الفسَقَة، فوجب اجتنابُها؛ لأنَّ التشبُّه بهم حرام؛ وقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن تشَبَّه بقومٍ فهوَ منهُم)) (¬2)، وبفرض أن لا تشبُّه فيها [بالفسَقَة] فهي من الشُّبهات؛ لأنها حرامٌ عند أكثر العلماء كما سيأتي بَسْطُه؛ وأئمَّة التصوُّف ¬
- رضوان الله عليهم - أبعَدُ الناس عن الشُّبهات، فعلم أنَّه لا يحضُرها ويسمَعها إلا مَن غلب عليه هَواه حتى أصمَّه وأعماه وأرداه، وقوله: ولم يزل أهل المَعارِف ... إلخ قلَّد فيه مثلَ الخبيث الكذاب ابن طاهر، وقد قرَّرنا فِي هذا الكتاب المرَّة بعد المرَّة أنَّه كذَّاب خبيث لا يُعتَمد عليه ولا يُنظَر إليه، وهذا نظيرُ كذبِه الآتي عن الشيخ الإمام أبي [إسحاق] الشيرازي - رحمه الله تعالى - أنَّه كان يسمَع العُود، وسيأتي مُبالَغة العلماء فِي تسفيهه فِي ذلك، وكذبه على هذا العبد الصالح القانت العالِم الرباني، وقوله: وتجرِي على أيديهم الكَرامات، جوابه ما تقرَّر أنَّ هذا جزاف كذب لا حقيقةَ له، وبفرض وقوعه فهو إمَّا حيل أو فتن واستدراج. قال العارف أبو الحسن الشاذلي - رحمه الله تعالى - فِي قوله - تعالى -: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} (¬1) سنريهم الكَرامات حتى يعتَقِدوا أنهم أولياء الله فنأخذهم على بغتة، وقوله: وقد صرَّح إمامُ الحرمين ... إلخ، جوابُه: أنَّ كلامه - رحمه الله - لم يفهَمْه؛ لأنَّ معناه: أنَّ الكرامة التي هي فِي الباطن كرامةٌ لا تظهَرُ على يد فاسقٍ لا أنَّ كلَّ مَن ظهر على يديه خارقٌ حُكِمَ بأنَّه صالحٌ؛ {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (¬2). ¬
وتمسَّكوا [أيضًا] بما جاء ((إذَا لم تبكُوا فتباكَوْا)) (¬1)، وجوابه: أنَّ التباكي يُفضِي إلى [ز1/ 15/أ] البُكاء غالبًا الذي هو مطلوبٌ شرعًا، والتواجُد بالحركة لا يُفضِي إلى الوجد غالبًا، فافتَرَقا ولم يجزْ حمل أحدهما على الآخَر، ولو سلَّمنا أنَّه يُفضِي إليه غالبًا فلا نُسلِّم أنَّ الوجد مطلوبٌ شرعًا؛ لأنَّه لا يدخُل تحت اختيار العبد بخِلاف البكاء، ثم العجب أنَّ المحقِّقين من شُيوخ هذه الطائفة قالوا: إنَّ التواجُد غير مُسلَّم لصاحبه؛ لما يتضمَّنه من التكلُّف والتصنُّع والرِّياء؛ قال السهروردي التواجُد من الذنوب، فليتَّقِ الله ربَّه ولا يتحرَّك إلا إذا صارت حركته كحركة المرتعِش الذي لا يجدُ سبيلاً إلى الإمساك، قال السري: شرط الواجد في وجْده أنْ يبلُغ وجده إلى حدٍّ لو ضُرِبَ وجهُه بالسيف لم يشعُر به. وقال القشيري: المريد لا يسلمْ له حركةٌ فِي السماع بالاختيار؛ وقال عبدالله بن عروة بن الزبير: قلتُ لجدَّتي أسماء بِنت أبِي بكر [الصِّدِّيق]- رضِي الله عنهما -: كيف كان أصحاب النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يفعَلون إذا قُرِئَ القُرآن؟ قالت: كانوا كما وصفَهُم الله - تعالى - فِي كتابه العزيز، ¬
تدمع أعينهم وتقشعِرُّ جلودهم، قلت: إنَّ أناسًا اليومَ إذا قُرِئَ القُرآن عليهِم خرَّ أحدُهم مغشِيًّا عليه؟ قالت: أعوذ بالله من الشَّيْطان الرَّجِيم)) (¬1). إنَّ عبدالله بن عمر - رضِي الله عنهما - مرَّ على رجلٍ من أهل العِراق يتساقَط فقال: أمَا نخشى؟ وما يسقط؟ إنَّ الشَّيطان يدخُل فِي جوف أحدِكم، ما هكذا [كان] يصنع أصحاب رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم)) (¬2). وذكِر عند [عبدالله] (¬3) بن سيرين الذِين يُصرَعون إِذا قُرِئ عليهِم القُرآن، فقال: ((بيننا وبينهم أنْ يقف أحدُهم على ظهر بيته باسطًا رجلَيْه، ثُمَّ يُقرَأ عليه القُرآن من أوَّله إلى آخِره، فإِنْ رمى بنَفسِه فهو صادِق)). وهذا الإنكار من هؤلاء السَّلَف إنما هو على المتكلِّفين المتواجِدين، ثم بالَغ القرطبي - رحمه الله - فِي الردِّ عليهم فِي تمزيقهم الثِّياب وإعطاء ما سقط منها للقوَّال، وقال: هذا ضَرْبٌ من الجنون والهذيان، وفي قول بعضهم: هذا الشيخ يحكم فيه بما يريد، وهذا كلُّه إخراج ملك عن مالكه بغير طريقٍ شرعي. (خاتمة) سُئِلَ الإمامُ المجتهد تقيُّ الدين السبكي - رحمه الله - عن الرَّقص والدُّفِّ وعنْ حُضور السماعات؟ [ز1/ 15/ب] فأجاب عنه بقوله: وَاعْلَمْ بِأَنَّ الرَّقْصَ وَالدُّفَّ الَّذِي = سَاءَلتَ عَنْهُ وَقُلت فِي أَصْوَاتِ ¬
فِيهِ خِلافٌ لِلأَئِمَّةِ قَبْلَنَا = شَرَحَ الهِدَايَةَ سَادَةُ السَّادَاتِ لَكِنَّهُ لَمْ يَأْتِ قَطُّ شَرِيعَةٌ = طَلَبَتْهُ أَوْ جَعَلَتْهُ فِي القُرُبَاتِ وَالقَائِلُونَ بِحِلِّهِ قَالُوا بِهِ = كَسِوَاهُ مِنْ أَحْوَالِنَا العَادَاتِ فَمَنِ اصْطَفَاهُ لِدِينِهِ مُتَعَبِّدًا = لِحُضُورِه فَاعْدُدْهُ فِي الحَسَرَاتِ وَالعَارِفُ المُشْتَاقُ إِنْ هُوَ هَزَّهُ = وَجْدٌ فَقَامَ يَهِيمُ فِي السَّكَرَاتِ لاَ لَوْمَ يَلحَقُهُ وَيُحْمَدُ حَالُهُ = يَا طِيبَ مَا يَلقَى مِنَ اللَّذَّاتِ قال بعض الأئمَّة من أهل اليمن: وأمَّا سَماع أهل الوقت فمُحرَّم بلا شكٍّ؛ ففيه من المنكرات واختلاط الرجال بالنساء، وافتِتان العامَّة باللهو ما لا يُحصى، فالواجب على الإمام قصرُهم عنه؛ وسُئِلَ القاضي عن الحال فِي السماع؟ فقال: مَن تعوَّده من الفقهاء وغيرهم فِي كلِّ أسبوعٍ مرارًا وفِي كلِّ شهرٍ مرارًا يفسق وتردُّ شهادته، فقِيل له: فإذا تعوَّده فِي كلِّ شهر مرَّة؟ قال: لا تردُّ شهادته، وهو فسقٌ وليس كلُّ فسق يُوجِب ردَّ الشهادة، قال الأذرعي: وهذا خلاف المفهوم من كَلام الفقهاء، ا. هـ، وهو كما قال. (تتمَّة) فيها ردعٌ لِمَن يزعُم تصوُّفًا، وسُلوكًا لطريق القوم المبرَّئين عن السفساف واللوم، ثم بعدَ ذلك يمدح الغناء، ويُثنِي على سماعه، ويحض العامَّة والخاصَّة على سَماعه، ليس ذلك إلاَّ لاستِحكام هَواه وغلبة شَهواته فِي دَقائق حُظوظه الذي أرداه وأصمَّه وأعماه، وأي لذَّة أو قُربة أو مدْح فيمَن قال فيه الصادق المصدوق: ((إنَّه يُنبِت النِّفاق في القلب، كما يُنبِت الماء البَقل))، ((حبُّ الغِناء يُنبِت النِّفاق، كما يُنبِت الماء العشب)) (¬1)، ¬
((مَن قعَد إلى قَيْنةٍ يستَمِع منها صبَّ الله في أذنَيْه الآنُك - أي: الرَّصاص المذاب - يوم القيامة)) (¬1)، ((الغناء واللهو يُنبِتان النِّفاق في القلب كما يُنبِت الماء العشب، والذي نفسي بيده إنَّ [القرآن في القلب] (¬2) والذكر لينبتان الإيمان في القلب كما ينبت الماء العشب)) (¬3)؛ فكيف بعد هذه الأحاديث يقدم مَن له أدنى مسكةٍ من دِين أو عَقل أو ورَع على مَدح الغِناء واستِماعه، ويزعُم أنَّ فِي استِماعه استجلاء [ز1/ 16/أ] للمَعارِف والكَرامات؟ كلاَّ والله ليس إلاَّ كما أخبر الصادق أنَّه يُنبِت النِّفاق فِي القَلب سريعًا كثيرًا كما ينبت الماء العشب والبقل، وأنَّه يُوجِب صبَّ الرَّصاص المذاب فِي الأذن التي سمعته يوم القيامة. ¬
وتأمَّل ما يحرمه [صاحب] (¬1) الغناء، فقد أخرَج الحكيم الترمذي أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن استَمَع إلى صوت غناء لم يُؤذَن له أن يَستَمِع الروحانيِّين فِي الجنَّة))، قيل: ومَن الروحانيون؟ قال: ((قُرَّاء أهل الجنَّة)) (¬2)، فانظُر هذا الحِرمان المشابِه لما فِي الحديث الصحيح: ((مَن شَرِبَ الخَمر في الدُّنيا لم يشرَبْه في الآخِرة)) (¬3). وتأمَّل أيضًا مُقابَلته - صلَّى الله عليه وسلَّم - لهذا! بقوله: ((والذي نفسِي بيده إنَّ القُرآن والذكر لينبتان الإيمانَ في القلب كما يُنبِت الماء العُشب)) (¬4). فعلم أنَّ مَن آثَر سَماع الغناء على القُرآن والذكر كما هو دأب أكثَر متصوِّفة الوقت فقد استحكم عليه شيطانه حتى أنزَلَه بساحة الممقوتين، بل أخرَجَه إلى حيِّز العُصاة المبعودين؛ ألاَ ترى إلى ما مرَّ فِي المقدمة أيضًا فِي حديث المُغَنِّي الذي استَأذَن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فِي الغناء فقال: ((لا آذَنُ لك، ولا كَرامة، ولا نعمَة عَيْنٍ، كذبت أيْ عدوَّ الله، لقد رزَقَك الله حلالاً طيِّبًا فاختَرْت ما حرَّم الله عليك من رِزقِه ثم توعَّدَه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأنَّه إنْ فعَل الغناء بعد ذلك أوجَعَه ضربًا ومثَّل به بحلق رأسه وأحلَّ سلبه نهبةً لفتيان المدينة، ثم قال عن المغنيين ونحوهم: ¬
((أولئك العُصاةُ، مَن مات منهم بغير توبةٍ حشَرَه الله يومَ القيامة كما كان في الدنيا مخنثًا عريانًا، لا يستَتِرُ من الناس بهدبةٍ، كلَّما قام صُرِعَ)) (¬1)؛ لكن الحامل لجهَلَة المتصوِّفة على ذلك جهلهُم بالسنَّة الغرَّاء الواضحة التي ليلُها كنَهارها، ونهارها كليلها لا يزيغ عنها إلاَّ هالك، فجهْل أولئك أوجَبَ لهم الهلاكَ والحِرمان عن فهْم مقالته - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأحكامه ومَعارِفه، وتأمَّل ما مرَّ فِي المقدمة أنهم غلَب عليهم جهلُهم حتى أخرَجوا تلك الأحاديث عن موضوعها، وزعَمُوا أنها فِي غنى المال لا غير، وهذا جهل بموضوعات الألفاظ ومعانيها، فحقُّهم الكفُّ عن الخوض فِي ذلك؛ سترًا لجهلهم عن العامَّة، وإنْ أوجب ذلك خَسارهم إذا جاءَت الطامَّة، وقد مرَّ ثَمَّ بَسْطُ ما في [ز1/ 16/ب] ذلك فراجِعْه؛ لعلك توفَّق لفَهمِه والعمل به. * * * ¬
القسم الثالث: في قراءة القرآن بالألحان
القسم الثالث: فِي قراءة القرآن بالألحان اختلف كلام الشَّافِعِي - رضِي الله عنه - فقال مرَّة: لا بأسَ بها، وقال مرَّة: إنها مكروهةٌ، قال جمهور أصحابه: ليست المسألة على قولَيْن: بل المكروه أنْ يُفرِط فِي المدِّ، وفي إشباع الحركات حتى يتولَّد من الفتحة ألفٌ، ومن الضمَّة واو، ومن الكسرة ياء، أو يدغم فِي غير مَوضِعِ الإدغام، فإنْ لم يصل إلى هذا الحدِّ فلا كَراهة، وفي وجهٍ أنَّه لا يكره وإنْ أفرط، هذا كلام الرَّافِعِي، زاد فِي الروضة قلت: الصحيح أنَّه إذا أفرَطَ على الوجه المذكور فهو حَرامٌ، صرَّح به صاحب "الحاوي" فقال: هو حَرامٌ يفسق القارئ ويأثم المستمع؛ لأنَّه عدَل به عن نهجه القويم، وهذا مُراد الشَّافِعِي - رحمه الله تعالى - بالكراهة، ا. هـ (¬1). وعبارة "الحاوي" التي أشارَ إليها: القِراءةُ بالألحان الموضوعة للأغاني اختُلِف فيها؛ فرخَّص فيها قومٌ وأباحوها؛ لما ذكرنا من الخبر، وشدَّد آخَرون وحظروها؛ لخروجها إلى اللهو والطرب، ولأنها خارجةٌ عن عُرف رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصحابته إلى ما استُحدِث من بعده، وقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلُّ محدثةٍ (¬2) بدعةٌ، وكلُّ بدعة ضلالةٌ، وكلُّ ضلالة في النار)) (¬3). ¬
والشافعي - رضِي الله عنه - عدَل عن هذين الإطلاقين في الحظر والإباحة باعتبار الألحان، فإنْ أخرجت لفظ القرآن عن [صيغته] (¬1)، بإدخال حركات فيه أو إخراج حركات منه، يقصد بها وزن الكلام وانتظام اللحن، أو مد مقصور، أو قصر ممدود، أو مطَّط حتى خفي اللفظ، والتبس المعنى - فهذا محظور، يفسق به، وإنْ كان على خِلاف ذلك فلا بأسَ به (¬2)؛ قال أصحابنا: وينبغي ألاَّ يشبع الحركات حتى لا تصير حروفًا، ا. هـ. ونسَب الشاشي فِي حليته تفصيل "الحاوي" هذا إلى الشَّافِعِي - رحمه الله - فقال: واختار الشَّافِعِي التفصيل؛ وهو أنَّه إذا كانت الألحان لا تُغيِّر الحروف عن نَظمِها جازَ، فإنْ غيَّرتها إلى زيادةٍ لم يجزْ. وقال الدارمي: القراءة بالألحان مُستَحبَّة ما لم يزدْ حرفًا عن حركته أو [يسقطه] (¬3). وقال البغويُّ: تجوزُ القِراءة بالألحان وتحسين الصوت بأيِّ وجهٍ كان، [إلاَّ أنْ يجاوز] (¬4) الحدَّ فيه، ويستحبُّ أنْ يقرأ حدرًا [وتخويفًا، والمد] (¬5) [ز1/ 17/أ] إذا جاوَز الحد فيه وأشبَه ألحان المغنيين لا يجوز، ومَن أدمَنَ عليه ردَّت شَهادته، ا. هـ؛ والحدر أنْ يخفض الصوت كما ابتَدَأ ثم يرفعه ثم يخفضه. ¬
(تَنْبِيه) يقَع لكثيرين أنهم يتَواجَدون عند سماع الغناء دُون سماع القرآن، وكان القرآن أولى، وأجيب بأنَّ كلام الله - سبحانه وتعالى - قديم (¬1) ومستمعه حادث، ولا جامع بينهما حتى يَحدُث فِي سماعه طرَب، وإنما يحصل فِي سماعه الخشوع والهيبة والتعظيم، كذا قيل، ومرَّ فِي كلام ابن عبدالسلام خلافُ ذلك؛ وهو أنَّه كلَّما زادَت المعرفة زادَ حسن سَماع القُرآن ويزيد التأنِّي والفهم منه، وهذا هو الصواب، فإنَّ التواجُد إنْ كان عن اختيارٍ فهو مذمومٌ سواء القُرآن وغيره، وإنْ كان لا عن اختيار فليكن عند سماع القرآن أكثر، فما اعتِيد من التواجُد عند الغناء دون القُرآن أمرٌ نشَأ غالبًا عن شهوةٍ وتصنُّع فلا يُلتَفت لفاعِلِيه؛ إذ لا يسأل عن أقوال مثلِ هؤلاء وأفعالهم. (تنبيه) قضيَّة ما تقرر وجود الخلاف فِي الجواز وعدمه مع تحقُّق زيادة حرف أو نقصه، والصواب كما قاله الأذرعي: إنْ تعمَّد ذلك لأجْل التحسين والتزيين فسق، ولا يتحقَّق فِي هذا خِلافٌ وينزل قول مَن عبَّر فيه بالكراهة على كراهة التحريم، من ذلك قول سليم: إذ أخرَجَه عن الإفهام كره؛ لما فِي حديث أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم – [عدَّ] (¬2) من أشرَاطِ ¬
السَّاعَة أنْ يَتَّخِذ القُرآنَ مزاميرَ يُقدِّمونَ أحدهم ليسَ بأقَرئِهم ولا أفضلهم إلا ليغنِّيَهُم به غناءً)) (¬1). وأفتى النووي - رحمه الله [تعالى]- فِي قومٍ يقرؤون القُرآن بالتمطيط الفاحش والتغيير الزائد، بأنَّ ذلك حرامٌ بإجماع العلماء كما قاله غيرُ واحدٍ، ويجبُ على وَلِيِّ الأمر زجرُهم وتعزيرُهم واستتابتُهم، ويجبُ إنكار ذلك على كُلِّ مُكلَّف تمكَّن من إنكاره، ا. هـ. وأمَّا اعتراض الأسنوي على ما مرَّ عن النووي فِي "الروضة" من التحريم عند تغيير القرآن عن موضوعه بأنَّه ضعيفٌ مخالفٌ لكلام الشَّافِعِي والأصحاب، قال: وبتَسلِيم التحريم، فالتفسيقُ به مُشكِلٌ لا دليل عليه، فالصواب أنَّه صغيرةٌ فهو مردود؛ ومن ثَمَّ قال الأذرعي عَقِبَه: وهذا كلامٌ يمجُّه السمع السليم، [ز1/ 17/ب] وأي دليل أعظم على التحريم والفسق من تغيير كلام الله - تعالى - بالنقص والزيادة فيه عمدًا؛ إذ غير العامد لا يُقال فيه: يعصي ويفسق، وإنما لم يُكفَّر لأنَّه لم يفعل الزيادة والنقص حقيقةً، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، وبه التوفيق، وكأنَّه توهَّم من النصِّ على أنَّه لا بأس [بالقراءة] (¬2) بالألحان أنَّه على إطلاقه، وحاشا الشَّافِعِي من ذلك، ولا يقول عالم: إنَّ الحركات إذا أشبعت بالألحان حتى صارت حروفًا أنَّ ذلك ¬
يجوزُ، ويجب تنزيل الوجه السابق أنَّه لا يكره وإنْ أفرط على ما إذا لم ينتَهِ بالإفراط إلى ذلك الحدِّ، وإلاَّ لم يكنْ لهذا الوجه الضعيف مدركٌ أصلاً. (تَنْبِيه ثانٍ) ممَّا يدلُّ على ندْب تحسين الصوت بقِراءة القُرآن بشرط السلامة عن أدنى تغييرٍ فيه، أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((زَيِّنوا القُرآنَ بأصواتِكُم))؛ رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وعلَّقَه البخاري بالجزم فهو حديثٌ صحيحٌ (¬1)، ولابن حبَّان عن أبي هريرة، والبزار عن عبدالرحمن بن عوف، وللحاكم من طريق أخرى عن البراء أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((زيِّنوا أصواتَكُم بالقرآنِ))، وهي فِي الطبراني من حديث ابن عباس (¬2)، ورجَّح هذه الرواية الخطابيُّ، قال شيخ الإسلام فِي تخريج أحاديث الرَّافِعِي: وفيه نظَرٌ؛ لما رواه الدارمي والحاكم بلفظ: ((زَيِّنوا القُرآن بأصواتكم، فإنَّ الصوت الحسن يزيدُ القُرآن حُسنًا))، فهذه الزيادة تُؤيِّد معنى الرواية الأولى (¬3). ¬
روى الشيخان أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - سمع أبا مُوسَى الأشعرى يقرَأ فقال: ((لقد أُوتِي هذا مِزمارًا من مَزامِير آل داودَ)) (¬1)؛ أي: داود نفسه؛ إذ لم تُعرَف الأصوات الحسنة إلاَّ له - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأخرج البخاري وأحمدُ من حديث أبي هريرة - رضِي الله عنه - وأحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم، وابن حبان من حديث سعد بن أبي وقاص أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ليس مِنَّا مَن لم يتغنَّ بالقُرآن))، وفي الباب عن ابن عباسٍ وعائشة في الحاكم. وعن أبي لُبَابَةَ فِي سُنَنِ أبي داوُد، وممَّن رواه عبدالرزاق، وابن أبي شيبة، [والخطيب]، وأحمد، وعبد بن حميد، والدارمي، وأبو عوانة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي عن [ز1/ 18/أ] سَعْدِ بنِ أبي وقَّاص، وأبو داود، والبَغَوِي، وابن قانع، والطبراني، والبيهقي عن أبي لُبابَة، والخطيب، والبخاري، وأبو نصرٍ فِي "الإبانة"، والحاكم، والبيهقي عن أبي هريرة، والطبراني، وابن ماجه، وأبو نصر فِي "الإبانة" عن ابن عباس، وأبو نصر عن ابن الزبير، وأبو نصر، والحاكم عن عائشة، والخطيب عن أنس (¬2). ¬
قال الشافعي - رضِي الله عنه -: معنى هذا الحديث: تحسين الصوت بالقرآن، وفي رواية أبي داود: قال ابن أبي مليكة: يحسنه ما استطاع، وقال ابن عيينة: يجهر به، وقال وكيع: يستغني به، وقيل غير ذلك في تأويله (¬1)، والرواية الأولى [تعين] (¬2) ما قالَه الشافعي - رضي الله عنه - فلا معدل عنه؛ خلافًا لِمَن أطال في ترجيح قولِ وكيع. ومن الأحاديث لذلك خبرُ عبدالرزاق: ((إنَّ الله ليأذن للرجل يكون حسن الصوت يتغنَّى بالقُرآن)) (¬3)، وخبر الطبراني ((إنَّ أحسن [الناس] قراءةً مَن إذا قرأ القُرآن يتحزَّن فيه)) (¬4). وخبر ابن مردويه: ((إنَّ هذا القرآن قول يحزن فاقرَؤُوه بحزن)) (¬5). وخبر عبدالرزاق عن أبي سلمة مرسلاً، وأبو نصر السجزي في "الإبانة" عن أبي سلمة: ((ما أذِن الله لشيءٍ ما أذِن لرجل حسَن الترنُّم بالقرآن)). وخبر ابن أبي شيبة عن أبي سلمة [مرسلاً]: ((ما أذِن الله لشيء كأذْنه لعبدٍ يترنَّم بالقُرآن)) (¬6)؛ أي: ما رضي بشيء كرضاه بذلك. ¬
وخبر ابن حبان عن أبي هريرة: ((ما أَذِنَ الله - تعالى - لشيءٍ كأذنه للذي يتغنَّى بالقرآن ويجهر به)) (¬1). وخبر أبي نعيم عن زيد بن أرقم، عن سالم بن أبي سلام: "وَيْحك يا شاب، هلاَّ بالقرآن تتغنَّى؟ " (¬2). * * * ¬
القسم الرابع: في الدف
القسم الرابع: فِي الدُّف المعتمَد من مذهبنا أنَّه حلالٌ بلا كراهة فِي عرس وختان، وتركُه أفضل، وهكذا حكمُه فِي غيرهما، فيكون مباحًا أيضًا على الأصحِّ فِي "المنهاج" وغيره، وقال جمعٌ من أصحابنا: إنَّه فِي غيرهما حرام، وقال آخرون من أصحابنا المتأخِّرين: إنه فيهما مستحب، وبه جزم البغَوِيُّ فِي "شرح السنة" فقال: إعلان النكاح وضرب الدُّفِّ فيه مستحبٌّ، والدليل عليه قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فصْل ما بين الحلال والحرام الضَّرب بالدُّفِّ))؛ حسَّنه الترمذي، وصحَّحه ابن حبان وغيره (¬1). وفي روايةٍ سندُها ضعيفٌ من سائر [ز1/ 18/ب] طرقها (¬2): ((أَعْلِنُوا بالنِّكاح)) (¬3)، قال شيخ الإسلام: ادَّعى الكمال جعفر الأُدْفوي فِي كتابه " [الإمتاع] (¬4) في أحكام السماع" (¬5) أنَّ مسلمًا أخرج هذا الحديث، ¬
ووهم فِي ذلك وهمًا قبيحًا (¬1)، وممَّن رواه عبدالرزاق، وابن أبي شيبة، والخطيب، وأحمد، وعبد بن حميد، والرازي، وأبو عوانة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي عنْ سعدِ بن أبي وقَّاصٍ، وأبو داود، والبغَوِي، والطبراني، والبيهقي عن أبي لُبابة، والخطيب، والبخاري، وأبو نصرٍ فِي "الإبانة" عن ابن عباسٍ، وأبو نصرٍ، والحاكم عن عائشة، والخطيب عن أنسٍ. وأجاب القائلون بالإباحة بأنَّ الأمر للإباحة؛ لأنَّ الأصل فيه التحريم؛ لأنَّه من جملة اللهو المحذور كما قالَه كثيرون، ولما يأتي عن الصِّدِّيق - رضِي الله عنه - أنَّه سمَّاه مزمور الشيطان بحضرة رسول اله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولم ينكرْ عليه (¬2)، لكن صحَّ أنَّ جاريَةً سوداءَ جاءت النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالت: يا رسول الله، إنِّي نذرت إنْ ردَّك الله سالمًا أنْ أضرب بين يديك بالدفِّ وأتغنَّى فقال: ((إنْ كنت نذرتِ فأوفي بنذرك)). وفي روايةٍ: يا رسول الله، إنِّي نذرت أنْ أضرب بالدفِّ بين يديك إنْ رجعت من سفرك سالمًا، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أوفي ¬
بنذرك)) (¬1)؛ رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان، [وابن ماجَهْ]، والبيهقي من حديث بريدة، وفي الباب عن عبدالله بن [عمر] (¬2) - رضي الله تعالى عنهما - رواه أبو داود (¬3)، وعن عائشة رواه الفاكهي بسندٍ حسن (¬4)، ومرَّ في المقدمة حديث أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - نهى عن ضرْب الدفِّ ولعب الصنج وضرب الزَّمَّارة (¬5)، فينبغي اجتنابُه في غير السرور، وفي السرور إذا اقترن به جلاجل أو نحوها ممَّا يقتضي تحريمه على ما يأتي، وظاهره ندبه لكلِّ سرور مطلوب، وفي الجواب عنه عسر. (تَنْبِيه) تردَّد الأذرعي في المراد بغيرِهما الذي سبَق حكاية الخلاف فِي حُرمته، وممَّن قال بها صَاحِبُ "المُهَذَّبِ"، "والتهذيب" وغيرهما، ما كان لحادث سرور؛ كقدوم الحاج، وشفاء المريض، والولادة أو ما كان كذلك، وما كان لغيره الأشبه الأوَّل، ويُؤيِّده قول الغزالي في "الإحياء": يُباح فِي العُرْسِ [ز1/ 19/أ] والعيد، وقدوم الغائب وكلِّ سرور حادث، لكن كلامه فِي "البسيط" ظاهرٌ فِي الإباحة مطلقًا حيث لا جلاجل فيه، وادَّعى الوفاق عليه، وهذا - أعني الإباحة مطلقًا - هو قضيَّة ما فِي "الوسيط" و"الوجيز" ¬
أيضًا، لكن حكايته الاتِّفاق على الإباحة معترضةٌ بما مرَّ أنَّ جماعةً كثيرين من أصحابنا قالوا بحرمته فِي غير العُرْسِ والختان، بل اعترض تصحيح الشيخين إباحته فِي غيرهما بأنَّ الذي نصَّ عليه الشَّافِعِي - رضِي الله عنه - وعليه جمهورُ أصحابه أنَّه حرام فِي غيرهما، نعم؛ أُلحِق بهما على هذا كلُّ حادث سرور له وقع. قال المعترضون: وأمَّا الإباحة مطلقًا فلا دليلَ عليها، والاستدلال له بلعب الجواري به ضعيفٌ؛ لأنهنَّ سُومِحن بما لم يُسامَح به المكلَّفون. قال الأذرعي: ومن مصائب ابن طاهر المقدسي وفضائحه قولُه فِي كتابه "فِي السماع": وأمَّا ضَرْب الدُّف فأقول: إنَّه سنَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال: ((مَن رَغِبَ عن سنَّتي فليس منِّي)) (¬1)، ا. هـ. فجعل اللهو بالدُّفِّ وضرب الجهلة به فِي السَّماع من سنَّة المطهَّر عن اللعب، ثم حث الناس بقوله وقد قال: ((مَن رَغِبَ عن سنَّتي فليس منِّي)) مع علمه بقول الصِّدِّيق - رضِي الله عنه - للجواري بحضرته - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَزمُور الشَّيْطان في بَيْتِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم)) (¬2)، ولم يُنكِر عليه هذه التسمية، نعوذُ بالله عن اتِّباع الهوى. (تَنْبِيه ثان) محلُّ ندبه على القول به السابق إذا ضَرب النساء والجواري، وخلا عن الصَّنْج ونحوه، وَعَن التأنُّق والتصنُّع فِي الضرب بأنْ يكون ضربًا بالكف كما يضرب الطبل ونحوه، ولما يأتي فِي أضداد هذه القيود. (تَنْبِيه ثالث) قال الماوردي: اختلف أصحابُنا هل ضرْب الدُّفِّ على النكاح عام في جميع البلدان والأزمان؟ فقال بعضهم: نعم؛ لإطلاق الحديث، ¬
وخصَّه بعضهم ببعض البلدان [التي] (¬1) لا يتناكَرُه أهلها في المناكح؛ كالقرى والبوادي، فيكره في غيرها، وبغير زماننا، قال: فيكره فيه؛ لأنَّه عدل به إلى السخف والسفاهة، ا. هـ (¬2). وحَكاه فِي "البحر" عنه وأقرَّه، قال الأذرعي: وهو حسن غريب، وتأمَّل قولَه: وبغير زماننا ... إلخ تعلم به [ز1/ 19/ب] أنَّه إذا كان فِي ذلك الزمن الذي بيننا وبينه أكثر من خمسمائة سنة قد عدل به إلى السخف والسفاهة، فما بالك بزمننا الذي لم يبقَ فيه من معالم الخيرات إلا القليل، وتعارفت فيه المنكرات حتى صارت هي التي عليها التعويل، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون! (تَنْبِيه رابع) قال الشيخان (¬3): حيث أبَحنا الدُّفَّ فهو فيما إذا لم يكن فيه جلاجل، فإنْ كانت فيه فالأصحُّ حلُّه أيضًا وهو الجواب فِي "الوجيز"، و"الإحياء"، وتعقَّبه الأذرعي فقال: لم أرَ فِي كتب المذهب ذكر الجلاجل إلا فِي كلام الغزالي كإمامه، ومعهما أيضًا صاحب "الحاوي الصغير" وغيره، ولم يبيِّنوا ما هذه الجلاجل، فإنْ أرادوا بها ما يعتاده العرب وأهل القرى وبعض متفقِّهة الأمصار، ومتصوفتهم وهو الظاهر من وضع حلق من حديد داخل الطار شبه السلاسل فقريبٌ، وإنْ أُرِيدَ بها ما يصنَعُه أهل الفُسوق وأعوان شرَبَة الخمور من اتِّخاذ صنوج لطاف تُوضَع فِي خروق تفتح لها فِي جوانب الدُّفِّ فممنوع؛ لأنها أشد إطرابًا وتهييجًا من كثيرٍ من الملاهي المتَّفَق على تحريمها، والقول بتحريم الصفاقتين الأتي وإباحة هذه ¬
محال، لا يُقال: إنما حرمت الصفاقتان لأنهما شعار المخنَّثين: لأنَّا نقول: وهذه شعار العواهر ونحوهن من فسَقَة الرجال ومخنثيهم. وقال فِي المُحكَم: إنَّ الصَّنْج الذي يكونُ فِي الدُّفِّ عربي، وحينئذ فيشمل تحريم الأصحاب الصنوج، بل هذه أحقُّ بالتحريم من الصَّنْج الكبير، ولا يغتر بقول صاحب "الحاوي الصغير" ويدق بصنج من ذكر المسألة، إنما قال: جلاجل، وفي "كافي الخوارزمي": والدُّفُّ الذي فيه جلاجل حرامٌ فِي جميع الأحوال والمواضع، ا. هـ كلام الأذرعي. والمعتمَد كلامُ الشيخين، والأوجَهُ كلام "الحاوي الصغير"، ويُفرَّق بينه وبين بقيَّة الصنوج بأنها هنا تابعةٌ للدُّفِّ ويُغتَفر فِي التابع ما لا يُغتَفر فِي المستقلِّ. (تَنْبِيه خامس) ظاهر إطلاقهم أنَّه لا فرقَ فِي جواز الضرب بالدُّفِّ بين هيئةٍ وهيئةٍ، وخالَف القاضي الإمام أبو عليٍّ الفارقي فِي "فوائد المُهَذَّب"؛ لأستاذه الشيخ أبي إسحاق فقال: إنما يُباح الدُّفُّ الذي تَضرِب به العرب من غير [ز1/ 20/أ] زفن؛ أي: رقص، فأمَّا الدُّفُّ الذي يزفن به، وينقر؛ أي: برؤوس الأنامل ونحوها على نوعٍ من الإيقاع فلا يحلُّ الضرب به؛ لأنَّه أبلغ فِي الإطراب من الطبل؛ أي: الطبل الذي جزَم العراقيُّون بتحريمه وتابَعَه تلميذه القاضي أبو سعيد بن أبي عصرون. قال الأذرعي: وهو حسنٌ؛ فإنَّه إنما يَتعاطاه على هذا الوجه مَن ذكرنا من أهل الفُسوق، ا. هـ، وهو كما قال وإنْ كان ذلك مقالة. (تَنْبِيه سادس): حكى الإمام البيهقي عن شيخه الإمام الحليمي ولم يخالفه أنَّا إذا أبَحْنا الدُّفَّ فإنما نُبِيحه للنساء خاصَّة، ا. هـ.
وعبارة منهاجه: وضرب الدُّفِّ لا يحلُّ إلا للنساء؛ لأنَّه فِي الأصل من أفعالهنَّ (¬1)، وقد لعَنَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - المتَشبِّهين بالنِّساء (¬2)، انتهت. ونازَعَه السبكي فِي "الحلبيَّات" بأنَّ الجمهور لم يُفرِّقوا بين الرجال والنساء، قال: ففرق الحليمي بينهما ضعيف، والأصل اشتراك الذكور والإناث فِي الأحكام إلاَّ ما ورَد الشرع فيه بالفرق، ولم يردْ هنا، وليس ذلك ممَّا يختصُّ بالنساء حتى يُقال: يحرم على الرجال التشبُّه بهن فيه، فنهيه على العموم وقد جاء: ((أعلِنُوا النِّكاح واضرِبُوا عليه بالدُّفِّ)) (¬3)، فلو صحَّ لكان فيه حجَّة؛ لأنَّ ((اضربوا)) خطاب الذكور، لكنَّه ضعيف، ا. هـ. وهو كما قال، وإنْ مال الأذرعي لكلام الحليمي بقوله: ويشهد للحليمي أنَّه لم يُحفَظْ عن أحدٍ من رجال السلف أنَّه ضَرَبَ به، وبأنَّ الأحاديث والأثار إنما وردت فِي ضَرْبِ النساء والجواري به، فقد يكون سُكوتُ الجمهور عن بيانه؛ لدلالة الأخبار على أنَّه فِي العادة من أعمال النساء. وفي "مغني الحنابلة": "أمَّا الضَّرْبُ به للرجال فمكروهٌ على كلِّ حال؛ [لأنَّه] إنما كان يضرب به النساءُ، ففي ضَرْبِ الرجال به تشبُّهٌ بالنساء، ا. هـ. ¬
وظاهر كلامه إرادة التحريم، ثم قال فِي آخِر الفصل: ومذهَبُ الشافعيِّ في هذا الفصلِ كما قُلنَا" (¬1). (تَنْبِيهٌ سابع) إذا أبَحْناه أو ندَبْناه فِي العُرْسِ والخِتان، فمتى يُضرَب وإلى متى؟ قال الأذرعي: لم أرَ فيه تصريحًا، بل بعضهم يقول فِي الإملاك وبعضهم يقول في العُرْسِ والإملاك، والمعهود عرفًا أنَّه يُضرَب به وقتَ العقد ووقتَ الزِّفاف أو بعده بقليل. [ز1/ 20/أ] وعبَّر البَغَوِيُّ فِي "فتاويه" بوقت العقد وقريبٌ منه [قبله وبعده] (¬2) ويجوزُ الرُّجوع فيه للعادة، وحديث الربيع دالٌّ على ضربِه بعد الزِّفاف، ويحتمل ضبطه بأيَّام الزفاف التي يُؤثر بها العروس، وأمَّا الختان فالمرجع فيه العرف، ويحتمل أنَّه يفعل من حين الأخْذ فِي أسبابه القريبة منه. (خاتمة) فِي فتاوى الشيخ أبي عمرو بن الصلاح أنَّ اجتماع الدُّفِّ بالشَّبَّابَة حَرامٌ عند أئمَّة المذاهب، ولم يَثبُت عند أحدٍ ممَّن يُعتَدُّ بقوله فِي الإجماع، والخلاف أنَّه أباحَ هذا السَّماع، والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشَّافِعِيِّ إنما نُقِلَ في الشَّبَّابَة منفردةً والدُّفِّ منفردًا، وربما اعتَقَد مَن لا تحصيل له ولا تأمُّل عنده خلافًا فِي هذا السَّماع، وهذا وهمٌ من الصائر إليه، ثم قال: وهذا السماع حَرامٌ بإجماع أهل الحلِّ والعقد من المسلمين، وكأنَّه يُعرِّض بعَصْرِيِّه الإمام الشيخ عزِّ الدين بن عبدالسلام؛ لما وقع بينهما فِي عدَّة مسائل الحقُّ فِي أكثرها مع ابن عبدالسلام كما [بيَّنتُ] (¬3) كثيرًا منها فِي محالِّه؛ كتخالُفِهما فِي إحياء ليلة الرغائب وليلة النِّصف من شعبان ¬
بالصلاة المشهورة، قال ابن عبدالسلام: إنهما بِدعتان مَذمومتان وحديثهما موضوعٌ، وهو كما قال، كما بيَّنته فِي كتابي "الإيضاح والبيان لما جاء فِي ليلة الرغائب وليلة النصف من شعبان"، وممَّن وافق ابن عبدالسلام فِي حكاية خِلاف العلماء فِي الجمع بين الدُّفِّ والشَّبَّابَة ابن المُنَيِّر المالكي: واعتَرَض بعض المتأخِّرين على ابن الصلاح من حيث الحكمُ الذي ذكَرَه بأنَّه لا يلزم من حُرمة الشَّبَّابَة وحدَها أنها إذا انضمَّت إلى الدُّفِّ تُصيِّره محرمًا، وانتصر الأذرعي لابن الصلاح فقال: وفي الإنكار على ابن الصلاح بالنسبة إلى مذهبنا نظرٌ؛ إذ لا يلزم من ثُبوت الخلاف فِي حالة الانفِراد ثبوتُه فِي حالة الاجتماع إلاَّ أنْ يثبت أنَّ مَن أباح الدُّفَّ بانفِراده من أصحاب الوجوه يقول بإباحة الشَّبَّابَة بإنفِرادها، وهَيْهات! على أنَّ ذلك ليس بلازمٍ؛ إذ قد يجوزُ ذلك على الانفِراد ويمتنع [في حال. ت. أ] (¬1) الاجتماع؛ لشدَّة الإطراب المتولِّد من الهيئة الاجتماعيَّة، ومَن سَبَر أحوالَ الصحابة والتابعين وتابعيهم عَلِم يقينًا أنَّ أحدًا لم يجمع بينهما [ز1/ 20/ب] ولا صحَّ عنه قولاً ولا فعلاً، ا. هـ، والله تعالى أعلم. * * * * * ¬
القسم الخامس: في الكوبة وسائر الطبول
القسم الخامس: في الكُوبَة وسائر الطبول قال الشيخان وغيرهما: ولا يحرم ضَرْبُ الطبول إلاَّ الكُوبَة؛ وهي: طبل طويل متَّسِع الطرفين ضيِّق الوسط، وهو الذي يعتاد ضربه المخنَّثون ويولعون به، قال الإمام: وليس فيه من المعنى ما يميِّزه عن سائر الطبول، إلا أنَّ المخنَّثين يعتادون ضربَه ويُولَعون به، قال: والطبول التي تُهيَّأ لِمَلاعِب الصبيان إنْ لم تلحق بالطبول الكبار فهي كالدُّفِّ وليست كالكُوبَة بحال، ا. هـ. وبه يُعلَم أنَّ ما يُصنَع فِي الأعياد من الطُّبول الصِّغار التي هي على هيئة الكُوبَة وغيرها لا حُرمَة فيها؛ لأنَّه ليس فيها إطرابٌ غالبًا، وما على صورة الكُوبَة منها انتَفَى فيه المعنى المحرَّم للكوبة وهو التشبُّه بأفعال المخنثين؛ لأن لهم كيفيَّات فِي ضربها، وغيره لا توجد فِي تلك التي تُهيَّأ للعب الصبيان. (تَنْبِيه) ما مشى عليه الشيخان من تحريم الكُوبَة هو الحق، ومن ثَمَّ قطَع به الشيخ أبو محمد الجويني قال: لأنَّ فيها أحاديث مُغلَّظة على ضاربها والمستمِع لصوتها، وقال الإمام أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي فِي "تقريبه" بعد أنْ ذكَر حديثا فِي تحريم الكُوبَة، وفيها حديثٌ آخَر: ((إنَّ الله يغفرُ لكلِّ مذنبٍ إلا صاحب عَرطَبة أو كُوبَةٍ)) (¬1) والعَرطَبة: العُود، ومع هذا فإنَّه إجماعٌ، اهـ. فتأمَّل نقلَ هذا الإمامِ الإجماعَ على حُرمَتِها، وما مَشَيَا عليه من حِلِّ سائر الطُّبول ما عدا الكُوبَة اعتَرَضه الأسنوي بأنَّ الموجود لأئمَّة [المذهب] (¬2) ¬
تحريم الطبول كلها ما عدا الدُّفِّ فقد ذهَب إليه القاضي الحسين، والبندنيجي، والحليمي، والماوردي وصاحبُ "المُهَذَّبِ"، والروياني، والبَغَوي، والخوارزمي، والعمراني وعدَّد جماعة آخرين، ونقله فِي "الاستقصاء" عن الشيخ أبي حامد شيخ الطريقتين، واعتَرَضه الأذرعي بأنَّ صاحب "الذخائر" نقَل عن العراقيين أنهم حرَّموا الطبول كلها من غير تفصيلٍ. قال الأذرعي: وهو كما قال، إلا أنهم أرادوا طبول اللهو كما صرَّح به غير واحد، وممَّن أطلق تحريم الطبول التي [نهي بها] (¬1) العمرانيُّ، والبَغَويُّ، و"صاحب الانتصار"، وهو المحكيُّ عن الشيخ أبي حامد [ز1/ 21/أ] وقضيَّة ما فِي "المجموع"، "والمقنع"؛ للمحاملي، "والحاوي"؛ للماوردي، ونقل فِي "البحر" عن الأصحاب: أنَّ من المحرَّم ضَرْبَ الطَّبل، وقال القاضي الحسين فِي تعليقه: أمَّا ضَرْبُ الطبول فإنْ كان طبلَ لهوٍ فلا يجوز. واستثنى الحليمي من الطُّبول طبلَ الحرب والعِيد وأطلَقَ تحريمَ سائر الطُّبول، وخَصَّ ما استثناه فِي العِيد بالرجال خاصَّة، وطبل الحجيج مُباحٌ كطبل الحرب. وقال ابن الرفعة: ما نقَلَه الغزالي من إباحة ما عدا الكُوبَة من الطُّبول بَناهُ على قول أبي محمد: إنَّه لا طبل لهوٍ إلاَّ الكُوبَة، وفيه نظَر؛ فقد قال فِي "الكافي": الكُوبَة حرامٌ، وطبل اللهو فِي معناها، فدلَّ على أنَّه غيرها، ثم قال - أعني: ابن الرفعة - ما حاصِلُه أنَّ الأصحاب صرَّحوا بإباحة طَبْلِ الحرب؛ فتعيَّن أنَّ (أل) الذي فِي الطَّبل الواقع فِي كلام مَن حرَّمَه المراد بها (أل) ¬
العهديَّة، والمعهود هو طبْل المخنَّثين، وقد صرَّح به الماوردي من بعدُ؛ فلا مُخالَفةَ إذًا بين كلام الفريقين؛ أي: القائِلِين بتحريم الطبول كلها ما عدا الدُّف، والقائلين بحلِّها كلِّها ما عدا الكُوبَة، فمراد الأوَّلين طبول اللهو المنحصِرة فِي الكُوبَة بدليل اتِّفاقهم على حلِّ طبل الحرب، وجَرَى الزركشي على غير ذلك فقال ردًّا لما مرَّ عن الأسنوي: أكثر الأئمَّة قيَّد التحريم بطبل اللهو، ومَن أطلق التحريم أراد به اللهو؛ أي: فالمراد: إلاَّ الكُوبَة ونحوها. (تَنْبِيه ثانٍ) قلت فِي كتابي "الزَّوَاجِرَ عَن اقْتِرَافِ الكَبَائِر" وقَع للإمام هنا مزلاَّت يتعيَّن التيقُّظ لها؛ فإنها مخالفةٌ للإجماع، وهي قولُه فِي الكُوبَة: لو ردَدْنا إلى مسلَك المعنى فهي في معنى الدف، ولستُ أرى فيها ما يقتضي تحريمها، إلا أنَّ المخنثين يولعون بها ويَعتادون ضربَها، وقوله: الذي يقتضيه الرأي أنَّ ما يصدر منه ألحانٌ مستلذَّة تهيج الإنسان وتستحثُّه على الطرب ومجالسة أحداثه فهو [المحرم] (¬1) والمعازف والمزامير كذلك، وما ليس له صوتٌ مستلذٌّ، وإنما يفعل [لأنغام] (¬2) قد تطرب وإن كانت لا تستلذُّ، فجميعها في معنى الدف. والكوبة في هذا المسلك كالدف، فإنْ صحَّ فيها تحريمٌ حرَّمناها، وإلا توقَّفنا فيها، وقوله: ليس فيها من جهة المعنى ما يُميِّزها من سائر الطبول، إلا أنَّ المخنَّثين يعتادون ضربه ويتولَّعون بها فإنْ صحَّ حديثٌ قلنا به، اهـ. [ز1/ 21/ب] ¬
ويردُّه ما يأتي أنَّ هذا بحثٌ منه مخالفٌ للإجماع فلا يُعوَّل عليه، وأنَّه حيث وُجِدَ في المسألة إجماعٌ فلا نظَر إلى صحَّة الحديث وضعْفه، وقد نقَل الإمام نفسه عن أبيه الشيخ أبي محمد الجويني ما يُوافِق الإجماع، فقال: كان شيخي يقطَع بتحريمها، ويقول: فيها أخبارٌ مغلَّظة على ضاربها والمستمِع إلى ضربها، وقد نصَّ الشافعيُّ على أنَّ الوصيَّة بطبل اللهو باطلة، ولا يعرف طبل لهو يلتَحِق بالمعازف حتى تبطل الوصيَّة به إلا الكوبة، وتَبِعَه في "البسيط" فقطع بتحريمها وأنَّه لا يحرم من الطُّبول إلا هي، لكن اعترض ذلك بقول "الكافي": الكوبة حرامٌ، وطبل اللهو في معناها؛ فدلَّ على أنَّه غيرها، وبأنَّ العراقيين حرَّموا الطبول كلَّها من غير تفصيلٍ. ويجاب بأنَّ هذه طريقة ضعيفة، والأصح حِلُّ ما عدا الكوبة من الطُّبول، وقيل: أراد العراقيُّون طبول اللهو كما صرَّح به غيرُ واحد، وممَّن أطلقَ تحريم طبول اللهو العمرانيُّ والبغويُّ وصاحب "الانتصار"، وهو المحكِيُّ عن الشيخ أبي حامد، وقضيَّة ما في "الحاوي" و"المقنع" وغيرهما. وعبارة القاضي: أمَّا ضرب الطبول فإنْ كان طبل لهوٍ فلا يجوزُ، واستَثنَى [الحليمي] من الطبول طبل الحرب والعيد، وأطلق تحريم سائر الطبول وخصَّ ما استَثْناه في العيد بالرجال خاصَّة، وهذه طريقةٌ ضعيفة أيضًا. وعدَّ جمعٌ من العراقيين من المحرَّمات الأكبار، وأمَّا قول الأذرعي عَقِبَ كلام الإمام الثاني: إنَّه بحثٌ في غاية الحسن، فغير مقبولٍ منه؛ لِمُخالَفته لصريح كلامهم، وقد قال ابن الرفعة عقبه: وهذا يدلُّ على أنَّ الأخبار الواردة في الكوبة لم تصحَّ عنده، ا. هـ.
وممَّا يردُّه أيضًا قولُ سليم في "تقريبه" بعد أنْ ذكَر تحريم الكوبة: وفي الحديث: ((إنَّ الله يَغفِر لكلِّ مذنبٍ إلا صاحب عَرطَبة أو كُوبة)) (¬1)، والأولى العود، ومع هذا فإنَّه إجماع، اهـ. فتأمَّل نقلَه الإجماعَ على تحريم الكوبة، وهو من أكابر أصحابنا ومُتقدِّميهم، يتَّضِح لك أنَّ بحث الإمام الذي استَحسَنه الأذرعي مخالفٌ للإجماع، وحينئذٍ فلا فرقَ بين أنْ يصحَّ الحديث وأن لا، وهو ما قاله بعضهم - أعني: عدم صحَّته - لأنَّ الإجماع حجة وإنْ صح الحديث بخلافه؛ إذ لا يكون إلا عن دليلٍ سالم من الطَّعن [ز1/ 22/أ] والمُعارِض، فكان أقوى، وقد نقل الإجماع أيضًا على تحريم الكوبة القرطبيُّ، وهو من أئمَّة النقل، فقال كما مرَّ عنه: لا يختلف في تحريم استِماعها، ولم أسمعْ عن أحدٍ ممَّن يُعتَبر قولُه من السلف وأئمَّة الخلف أنَّه يبيح ذلك، (¬2) انتهى ما فِي الكتاب المذكور. (تَنْبِيه ثالث) ما فسَّر به الشيخان وغيرهما الكُوبَة هو الصحيح، وعليه جرَيْت فِي "شرح الإرشاد" وعبارته: ولا يحرم من الطبول إلا الكُوبَة؛ لما فيها من التشبُّه بِمَن يَعتادُ ضربَها وهم المخنَّثون، وهي طبلٌ طويل ضيِّق الوسط متَّسع الطرفَيْن، وقضيَّة كلامهم أنَّه لا فرقَ بين أنْ يكون طرفاها مَسدُودين أو أحدهما، ولا بين أنْ يكون اتَّساعها على حدٍّ واحد أو يكون أحدُهما أوسع، انتهت. ولا يُنافي تفسيرها بما ذكَرُوه تفسير الجوهري وآخَرين لها بأنَّها الطبل الصغير المخصَّر؛ لأنَّها كذلك، ويُوافِق ذلك تفسير أحدِ رُواة الحديث لها بالطبل ¬
كما ذكَرَه البيهقي (¬1) وتفسير الراوي مُقدَّم على تفسير غيرِه؛ لأنَّه أعرف بمرويِّه ولا تفسير آخَرين لها بالنرد؛ لأنَّ الكُوبَة كما تُطلَق على ذلك الطبل تُطلَق على النَّرد، كما صرَّحوا به نقلاً عن بعض أهل اللغة، وبذلك يتبيَّن اندِفاع قول الخطابي وغيره: الكُوبَة النرد، وغلط مَن قال: إنها الطبل، واندِفاع قول الأسنوي: تفسير الكُوبَة بالطبل خلاف المشهور فِي كتب اللغة، ا. هـ. وقال الأذرعي: فِي كلام الجوهري وغيره ما يدفَع تغليط الخطابي وغيره، نعم؛ إطلاقها على كلِّ ما يُسمَّى طبلاً ليس بجيِّد، ا. هـ. وعبارة ابن معين الحرزي فِي "التنقيب على المُهَذَّبِ": الصحيح أنَّ الكُوبَة طبلٌ ضيِّق الوسط واسع الطرفين، كان يلعَب به شباب قريش بين الصفا والمروة، انتهت، وقيل: هي الشِّطرَنج. (تَنْبِيه رابع) من الأحاديث المغلَّظة فِي تحريم الكُوبَة أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الله حرَّم على أمَّتي الخمرَ، والميسرَ، والكوبة في أشياء عدَّدَها)) (¬2)؛ رواه أحمد، وأبو داود، وابن حبان، والبيهقي، من حديث ابن عباسٍ بهذا، وزاد: ((وهو الطبل، وكلُّ مسكرٍ حرام)). ¬
وبيَّن - أعني: البيهقي - في روايةٍ أخرى أنَّ تفسير الكوبة بالطبل من كلام راويه عليِّ بن بذيمة، ورواه أبو داود من حديث ابن عمر، وزاد: ((والغُبَيراء)) (¬1)، وزاد أحمد فيه [ز1/ 22/ب] ((والمزر)) (¬2)، ورواه أحمد من حديث قيس بن سعد بن عبادة، واختلفوا في تفسير الغُبَيراء فقيل: هي الطنبور، وقيل: العُود، وقيل: البربط، وقيل: مزر يصنع من الذرة أو من القمح، ومَرَّ فِي المقدمة أحاديث ذلك فراجِعْها، والله أعلم. * * * * * ¬
القسم السادس: في الضرب بالصفاقتين
القسم السادس: فِي الضرب بالصفاقتين وهما دائرتان من صفرٍ تضرب إحدهما على الأخرى وتُسمَّيان بالصَّنْج أيضًا، والمعتمَد من مذهبنا عند الشيخين وغيرهما؛ كالشيخ أبي محمد، والقاضي الحسين، وصاحب "المُهَذَّبِ"، ونقله فِي "البحر" عن الأصحاب أنَّ ذلك حرامٌ؛ لأنهما من عادة المخنَّثين كالكُوبَة، وتوقَّف الإمام فيهما؛ لأنَّه لم يردْ فيهما خبرٌ بخِلاف الكُوبَة؛ يُجاب عنه بأنَّ شأن القياس أنَّ المقيس عليه منصوصٌ بخلاف المقيس، وهذا كذلك؛ لأنَّ الكُوبَة منصوصٌ عليها بخلاف الصفاقتين، فألحقنا بها بجامع أنَّ كلاًّ منهما الضرب به من عادة المخنَّثين المطَّردة، وهذا هو المقتضى لتحريم الكُوبَة كما اعتَرَف به الإمام، فإنَّه قال: كان شيخي - يعني: أباه كما مرَّ نقله عنه - يقطع بتحريمها ويقول: فيها أخبار مغلَّظة على ضاربها والمستمِع إلى صوتها، وقد نصَّ الشَّافِعِيُّ - رضِي الله عنه - على أنَّ [مَن أوصى بطبل لهو] (¬1) يلتَحِق بالمعازف حتى تبطل الوصيَّة به إلا الكُوبَة (¬2). (تَنْبِيه) ما فُسِّرت به الصَّفاقتَيْن فيما مَرَّ هو المعتمد، وإنْ قالَ ابنُ أبي الدَّم: اختلف الفقهاء المتأخِّرون فيه؛ فبعضهم يقول: هو الشيزات، ويعضده التعليل بأنَّه من عادة أهل الشُّرب، وبعضهم يُفسِّره بالصنوج المتَّخَذة من صفر التي تضرب مع الطبول والرباب والنقارات، وهذا يُضعفه أنَّه ليس بمطربٍ ولا يُحدِث بسماعه لذَّة لذي لُبٍّ سليم وعقل صحيحٍ، ا. هـ. ¬
ويردُّ تضعيفَه بما ذكر أنَّه ليس المأخذ فِي تحريمها اللذَّة - كما مرَّ - وإنما المأخَذ الأعظم فِي ذلك أنهما من دأب المخنَّثين وأهل الفُسوق، ففي الضرب بهما تَشبُّهٌ بأولئك الذين لا خَلاقَ لهم ولا دِين، فحرم لأجل ذلك؛ إذ ((مَنْ تشَبَّه بقومٍ فهوَ منهُمْ)) (¬1)، فاتَّجَه ما ذكَرُوه وأنَّه لا غُبار عليه فتأمَّله. * * * * * ¬
القسم السابع: في الضرب بالقضيب على الوسائد
القسم السابع: في الضرب بالقضيب على الوسائد اختلف أصحابنا فيه على وجهين: [ز1/ 23/أ] أحدهما: أنَّه مكروهٌ، وبه قطَع العراقيُّون؛ لأنَّه لا يفرد عن الغِناء ولا يطرب وحدَه، وإنما يزيدُ الغناء طربًا بخِلاف الآلات المطرِبة، فهو تابعٌ للغناء المكروه فيكون مكروهًا، وهذا هو المجزوم به فِي "مجموع المحاملي"، "وتقريب سليم" وغيرهما، واعتمَدَه ابن الرفعة فِي "مطلبه" (¬1) فقال: [يزيد] (¬2) الغناء طربًا ولا يحرم؛ لأنَّه ليس بآلةٍ، وإنما تتبع الصوت، وهذا لا يسمع منفردًا بخلاف الملاهي، قاله ابن الصبَّاغ، والبندنيجي، وكذا الفوراني والغزالي. وثانيهما: أنَّه حرامٌ، وجرَى عليه البَغَوي فِي تهذيبه وتعليقه (¬3)، وعبارته: وأمَّا ضَرْبُ القضيب فقال الخراسانيُّون من أصحابنا: هو حرام، وأمَّا العراقيون فقالوا: إنَّه مكروه غير حرام، انتهت. ¬
وكذا قاله تلميذه الخوارزمي فِي "كافيه"، وقال الشيخ إبراهيم المروزي: قال القاضي حسين: تردُّ به شهادةُ فاعليه. وقال أبو حامد: سُئِلَ الشَّافِعِيُّ عن هذا فقال: أوَّل مَن أحدَثَه الزنادقة فِي العراق حتى يلهوا الناس عن الصلاة وعَن الذكر، ونقَلَه عن الشَّافِعِي أيضًا القاضي أبو الطيب فِي كتابه في السماع، وزاد أنَّ الشَّافِعِيَّ كان يكرهه، قال الأذرعي: وهذا وما قبله قد يُشعِر بإرادة الشَّافِعِيِّ كراهةَ التحريم. (تَنْبِيه) الظاهر أنَّ ذِكرَهم للقضيب والوسائد مثالٌ، وأنَّ الضرب باليد على الوسادة أو غيرها يجري فيه الخلاف المذكور؛ لأنَّ العلة أنَّه يزيد الغناء طربًا، وهذا موجودٌ ومعتادٌ فِي الضرب باليد على نحو الوسائد فاتَّضح ما ذكرته. * * * * *
القسم الثامن: في التصفيق ببطن أحد الكفين على الآخر
القسم الثامن: فِي التصفيق ببطن أحد الكفين على الآخر قال الماوردي، والشاشي، وصاحب ["الاستقصاء"] (¬1)، ة"الكافي": حُكمُه حكمُ الضرب بالقضيب على الوسائد؛ أي: فيَجرِي فيه هذا الخلاف المذكور؛ فيكون مكروهًا عند العراقيين، حرامًا عند الخراسانيين، ذكَرَه ابن الرفعة فِي "المطلب". وبالَغ ابن عبدالسلام فِي ذمِّه بقوله فِي "قواعده" (¬2) كما مرَّ: أمَّا الرَّقْصُ والتصفيق فخفَّة ورُعونة مُشابهة لرُعونة الإناث، لا يفعلها إلا أرعن أو متصنِّع جاهل، ويدلُّ على جَهالة فاعلهما أنَّ الشريعة لم تردْ بهما في كتابٍ ولا سنَّة، ولا فعَل ذلك أحدٌ من الأنبياء (¬3)، ولا معتبر [ز1/ 23/ب] من أتْباع الأنبياء، وإنما يفعَلُه الجهَّال السُّفهاء الذين التبسَتْ عليهم الحقائق بالأهواء. وقد حرَّم بعضُ العلماء التصفيقَ على الرجال بقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّما التَّصفيقُ للنِّساء)) (¬4)، ا. هـ. وعبارة الحليمي: يُكرَه التصفيقُ للرجال؛ فإنَّه ممَّا يختصُّ به النساء، وقد مُنِعوا من التشبُّه بهنَّ كما مُنِعُوا من لبس المُزعفَر لذلك، ا. هـ. قال الأذرعي: وهو يُشعِر بتحريمه على الرجال، ا. هـ. ¬
وجريت فِي "شرح الإرشاد" على كَراهة هذا وما قبله، وعبارته: ويُكرَه على الأصحِّ الضرب بالقضيب على الوسائد، ومنه يُؤخَذ حلُّ ضَرْب إحدى راحتي الكفِّ على الأخرى ولو بقصْد اللعب، وإنْ كان فيه نوعُ طرَب، ثم رأيتُ الماوردي، والشاشي، وصاحب "الاستقصاء"، "والكافي" ألحَقُوه بما قبله، وهو صريحٌ فيما ذكرتُه، وأنَّه يجري فيه خلاف القضيب، والأصحُّ منه الحلُّ؛ فيكون هذا كذلك، ومن ثَمَّ صرَّح الحليمي بكراهته، وأقرَّه ابن الرفعة وغيره؛ لكنَّه عقَّبه [بما] يُومِئُ إلى أنها كراهة تحريم على الرجال؛ لما فيه من التشبُّه بالنساء، ويُوافِقه ذم ابن عبدالسلام لِمُتَعاطِيه، قال: وقد حرَّمه بعض العُلَماء لخبر: ((وإنَّمَا التَّصفيقُ للنِّساءِ)) (¬1)، ا. هـ. وأنت خبيرٌ بأنَّه لا دلالةَ فِي الخبر؛ إذ (أل) فيه للتصفيق الذي يُؤمَرون به في الصلاة، وليس هذا منه، وبأنَّ التشبُّه بهنَّ إنما يحرم فيما يختصُّ النساء به، وهذا ليس كذلك، فالوجه أنَّه مكروهٌ كراهةَ تنزيهٍ لا تحريم، انتهت عبارة الشرح المذكور. * * * * * ¬
القسم التاسع: الضرب بالأقلام على الصيني أو بإحدى قطعتين منه على الأخرى:
القسم التاسع: الضرب بالأقلام على الصيني أو بإحدى قطعتين منه على الأخرى: اعلَمْ أنَّ هذا النَّوع قد اشتَهَر فِي هذه الأزمنة بين أهل الفُسوق والشَّرَبة للخُمور؛ حتى صار من أظهر شعارهم فِي مَعاصِيهم وعلى شُربهم واجتماعهم بالقَيْنات والغِلمان، وتركوا من أجله كثيرًا من ذَوات الشُّعور والأوتار؛ لما وجدوا فيه من اللذَّة التي فاقَتْ سائِرَ اللَّذَّات؛ لما فيها من البدائع والترقيقات، والصوت العجيب والطرب الغريب، كما يَزعُمون كلَّ ذلك، ويعترفون بأكثر ممَّا هنالك، ويدلُّ على هذا تغالُبهم على سماعه وحُضوره، ووزنهم النقود الكثيرة لضاربه ليحظوا بلذَّة صوته وفُجوره؛ فلذلك [ز1/ 24/أ] عَظُمَ الخطب فيه، وتعيَّنت المبالغة فِي زجْر مُتَعاطِيه؛ لعلَّهم ينفكُّون عن تلك القبائح التي لا تَتناهَى، وينزَجِرون عن مَعاصِيهم وسَفاهاتهم التي أشغلتْ نفوسهم عن رُشدها وتَقواها؛ فلذلك أفتيتُ غيرَ مرَّة بِحُرمة ذلك، وأنَّه مُلحَقٌ بذوات الأوتار فِي حُرمتها الأكيدة وعُقوبتها الشديدة؛ لما قدَّمته من أنَّ لذَّة هذا وإطرابَه فاقَ لذَّة تلك وإطرابها، وقوانينه ونغماته أنساهم قوانين تلك ونغماتها، وقد بلغني لَمَّا أفتيتُ بذلك عن بعض مَن يزعُم أنَّ له نوعًا ما من فضيلة أنَّه اعتَرضَ ذلك الإفتاء بِخُرافات تُضحِك الناس عليه، وتشدُّقات تجرُّ وَبال الخِزي والبَوار إليه، على أنَّ هذا منه ليس لكونه مسألة علميَّة يتعرَّف حُكمَ الله فيها، وإنما هو لأنَّه كان جعَل سماع ذلك شبكةً يتصيَّد بها غِزلان القاذورات، ويتحيَّل بها على استِجلاب المخمورين والمخمورات، فلمَّا أنْ ظهر الإفتاء بِحُرمة ذلك تعطَّلت عليه أغراضُه، واستحكمتْ أهويته وأمراضُه؛ فأحبَّ أنْ يُغيِّر فِي الوجوه الحسان؛
لعلَّه يغير فِي الأحكام الشرعيَّة بما له من البُهتان، الذي حُقَّ له به الخذلان والهوان - وفَّقنا الله لطاعته. على أنِّي لم أبتَدِعْ ذلك الإفتاءَ، وإنما أخذته من كلامهم بالأولى؛ لأنَّهم إذا حرَّموا ما مَرَّ من الضرب بالصفاقتين وغيرهما مع أنَّه ليس فيها كبيرُ إطرابٍ، فما بالك بهذا الذي فاقَ إطرابه كما تواترت [به أخبارُ] (¬1) سامعيه إطراب العُود وغيره، وإذا علمت ما يأتي فِي الشَّبَّابَة وغيرها ظهَر لك اتِّضاح ما قلته وظهور ما بيَّنته وقرَّرته. وممَّا يعلم منه ذلك قطعًا وهو من جملة مستنداتي فِي الإفتاء السابق "أنَّ شخصًا كان بزمننا فِي مصر، وكان يملأ إناءً من صيني ماء، ويمرُّ أصبعه على حافَّة الإناء، وينشد عليه كلام الصوفيَّة كالإمام [العارف] (¬2) عمر بن الفارض (¬3) فسُئِلَ عنه مشايخنا كشيخ الإسلام خاتمة المتأخِّرين أبي يحيى زكريا الأنصاري، ومعاصروهم كالكمال بن أبي شريف والشمس الجوجري شارحي "الإرشاد" (¬4) وغيرهم، فبعضهم جزَم بِحُرمته لأنَّ فيه طربًا، وبعضهم تردَّد فقال: إنْ كان فيه إطرابٌ حرم وإلاَّ فلا، فهم متَّفِقون ¬
على أنَّه إذا كان فيه إطرابٌ يحرم؛ وإذا اتَّفقوا فِي هذا على ذلك فما نحنُ فيه أولى بالحرمة [ز1/ 24/ب] قطعًا؛ لإجماع كلِّ ذي عقلٍ سمعهما أو تَواتَرَ عنده خبرُهما ووصفهما على أنَّ ما نحن فيه يَفُوق ذاك فِي الإطراب بمراحل، فعلم أنَّه لا غُبار على إفتائي بالتحريم فِي ذلك، وأنَّ مَن عانَد فِي ذلك بل توقَّف فيه كان ممَّن ضلَّت به المسالك، وعُجِّلتْ له المهالك، نسأَلُ الله السلامة من ذلك بمنِّه وكرمه، آمين. وممَّا يزيدُ ما قرَّرته وُضوحًا أيضًا قول الدولقي الذي استدلَّ النووي بكلامه فِي "الروضة"، ونقل عنه تحريم الشَّبَّابَة ما حرَّمت الأشياء التي ذكَرُوها لأسمائها وألقابها، بل لما فيها من الصدِّ عن ذِكر الله - تعالى - وعَن الصلاة، ومُفارَقة التقوى والميل إلى الهوى. وقول القرطبي: كلُّ ما لأجله حُرِّمتِ المَزَامِير موجود فِي الشَّبَّابَة وزيادةً؛ فيكون أولى بالتحريم. قال الأذرعي: وما قاله حقٌّ واضح، والمنازَعة فيه مُكابَرة، انتهى. فلذلك نقول: كلُّ ما حُرِّمتِ الأوتار لأجله موجودٌ فِي هذا [وزيادة] (¬1)؛ فكان أولى بالتحريم منها، وما حرم ما نصوا عليه لاسمه ولقبه؛ بل لما ذكر من أنَّه شِعار الشَّرَبة، وفيه الصدُّ عن ذِكر الله والصلاة، وكلُّ ذلك موجودٌ فِي هذا مع زِيادات؛ فكان أولى بالتحريم كما تقرَّر. على أنَّ النووي صرَّح فِي "شرح المُهَذَّب" بأنَّ المسألة إذا دخَلتْ تحت عُموم كَلام الأصحاب كانت منقولةً، وهذه دخلت تحت عُموم كَلامهم حتى المختصرات الصغيرة كـ"الحاوي الصغير" وفروعه، فإنهم اتَّفقوا على ¬
حُرمة سَماع ذلك المطرب، وقد تقرَّر أنَّ هذا من أعلى المطرِبات، فيشمله كلامهم بالنصِّ، وحينئذٍ فالمسألة منقولة، وصرَّح بها المتقدِّمون أيضًا؛ إذ لا شكَّ أنَّ العراقيين من أئمَّتنا هم المعوَّل عليهم فِي المذهب نقلاً وترجيحًا، وقد أطبَقُوا على قولهم: الأصوات المكتسَبة بالآلات ثلاثَةُ أضرُب: ضَرْب حرام؛ وهي التي تطرب من غير غِناء ... إلى آخِر ما يأتي، فكلامهم هذا شاملٌ لما نحن فيه كما لا يَخفَى على مَن له أدنى مسكةٍ من فهمٍ، فيكون التحريم الذي قرَّرته منقولاً للأصحاب، وحينئذٍ لا يبقى للنِّزاع فيه مَساغ، اللهم إلا مع العِناد؛ فإنَّه لا ينفَعُ معه شيء حتى الأدلَّة القرآنيَّة؛ لأنَّ الهوى يُعمِى ويصمُّ، نعوذُ بالله منه. وقال الشمس الجوجري فِي "شرح الإرشاد": ويمكن أنْ يستدلَّ لتحريم الشَّبَّابَة بالقِياس على الآلات المحرَّمة؛ لاشتراكه معها فِي كونه مطربًا [ز1/ 25/أ] بل ربما كان الطرب الذي فيه أشدَّ من الطرب الذي فِي نحو الكمنجة والرباب، فهو إمَّا قياس الأولى أو المساواة بالنسبة إلى المذكورين، وهما حَرام بلا خلافٍ، انتهى. وصرَّح بما يعمُّ ذلك إمامُ الحرمين أيضًا، ونقَلَه عنه الأذرعي، وقال [عَقِبَهُ]: إنَّه فِي غاية الحُسن، وعبارة توسطه، وقد أشار الإمام إلى ضابط المحرَّم من ذلك وغيره بقوله: ما يصدر منه ألحانٌ مُستلَذَّة تهيج [السامع] وتستحثُّه على الطرب ومجالسة أحداثه فهو المحرَّم، فهذه العبارة تشمَل ما نحن فيه بالنص؛ لأنَّ ما ذُكِرَ موجودٌ فيه وزيادة. * * * * *
القسم العاشر: في الشبابة والزمارة وهي اليراع
القسم العاشر: في الشَّبَّابة والزَّمارَة وهي اليَراع اعلم أنَّ إماميَّ مذهبنا: الرَّافِعِي والنووي، اختلفا فِي الراجح من الخِلاف فيها؛ فقال الرَّافِعِي فِي "عزيزه": في اليَرَاع وجهانِ صَحَّحَ البغويُّ التحريم، والغزالي الجواز، وهو الأقرب، وليس المراد من اليَراع كلَّ قصب، بل المزمار العراقي وما يُضرَب به الأوتارُ - كما فِي نسخ، وفي نسخة معتمدة: مع الأوتار كما يأتي - حرامٌ بلاَ خلافٍ (¬1). وقال النووي فِي "روضته" بعد ذِكره ذلك استدراكًا عليه: قلتُ: (الأصحُّ)؛ أي: فيكون الخلاف قويًّا، أو (الصحيح)؛ أي: فيكون الخلاف ضعيفًا، كما عُلِم من اصطلاحه فِي خِطبته. تحريم اليَرَاع، وهو هذه الزَّمَّارَة التي يُقال لها: الشَّبَّابَة ممَّن صحَّحه البَغَوي، وقد صنَّف الإمام أبو القاسم الدولقي كتابًا فِي تحريم اليَرَاع مشتملاً على نفائس، وأطنَبَ فِي دَلائل تحريمه، والله أعلم، انتهى (¬2). وأشار بقوله ممَّن صحَّحه البَغَوي إلى التورُّك على الرَّافِعِيِّ، فإنَّ ظاهر عبارة الرَّافِعِي أنَّه لم يُصحِّحه سوى البَغَويِ، فأشار بقوله: ممَّن صحَّحه البَغَوي، إلى ردِّ عبارته، وأنَّ البَغَوي لم ينفردْ بذلك، وبهذا الذي ذكرته إنْ تأمَّلته ¬
يظهَرُ لك فَسادُ اعتراض الأسنوي على النووي بقوله: نَقْلُهُ تصحيحَ المنع عن البَغَوي عجيبٌ، فقد ذكَرَه الرَّافِعِيُّ، انتهى. ووجْه فَساده أنَّ الذي قالَه النوويُّ غيرُ ما قاله الرَّافِعِيُّ؛ لما علمت أنَّ الرَّافِعِيَّ حصَر التصحيح فِي البَغَوي والنووي، أفاد عدم انحِصاره فيه، وإنما هو من جُملة المصححين، وعجيبٌ خفاءُ مثلِ هذا على الأسنوي، وأعجَبُ منه سكوت المتعقِّبين لكلام الأسنوي على هذا الاعتراض الذي فِي غاية السُّقوط. قال الأسنوي: واعلم أنَّ المنع قد رجَّحَه الشيخ أبو حامد [ز1/ 25/ب] فقال: إنَّه القياس، وصحَّحه الخوارزمي فِي "الكافي" وجزَم به ابن أبي عصرون، وأمَّا الجواز فقال به الماوردي، والخطابي، والروياني، ومحمد بن يحيى فِي "المحيط"، انتهى. (تَنْبِيه) ما اقتضاه كلام الرَّافِعِيِّ السابق، وكلام الأسنوي هذا من تَساوِي القائلين لكلٍّ من الحل والحرمة فيه نظر؛ بل أكثر أصحاب الشَّافِعِي على الحرمة، بل الكلام في ثُبوت لكلٍّ فِي مذهبنا وجهًا يعتدُّ بخلاف قائله كما ستعلَمُه. وقد قال الأذرعي: ما ذهَب إليه الغزالي من الحلِّ وتَبِعَه صاحبه ابن يحيى شاذٌّ، ولم أرَ للغزالي فِي ترجيحه سلفًا، قال: وقد ذكَر غيرُ الأسنوي أنَّ الشيخ أبا عليٍّ قال: إنَّ التحريم هو القياس. قال فِي "الكافي": لأنَّه من جِنس َالمَزَامِير وهو المذهب، وقضيَّة كلام العراقيين وغيرهم إذ قالوا: الأصوات المكتسَبة بالآلات المطرِبة ثلاثة أضرب ... وعدوا منها المَزَامِير، واستدلُّوا للتحريم بحديث ابن عمر - رضي
الله عنهما - المشهور، وأحسن فِي "الذخائر" فنقَل عن الأصحاب التحريم للمَزامِير مطلقًا. ثم قال: وقال الغزالي: يحرم المِزمارُ العِراقِيُّ الذي يُضرَبُ به مع الأوتار، وفيما سواه وجهان، وأمَّا العراقيون فحرَّموا المَزامِير كلها من غير تفصيل؛ فإذًا المذهب الذي عليه الجماهيرُ تحريم اليَراع وهو الشَّبَّابة، وقد أطنَبَ الإمام الدولقي خطيب الشام فِي دلائل تحريمه وتقريرها كما رأيته بخطِّه فِي مصنَّفه، قال: والعجب كلُّ العجب ممَّن هو من أهل العلم يَزعُم أنَّ الشَّبَّابَة حلالٌ، ويحكيه وجهًا لا مستند له إلا خَيال، ولا أصلَ له وينسبه إلى مذهب الشَّافِعِي، ومَعاذ الله أنْ يكون ذلك مذهبًا له أو لأحدٍ من أصحابه الذين عليهم [التعويل] (¬1) فِي علم مذهبه والانتماء إليه، وقد عُلِمَ من غير شكٍّ أنَّ الشَّافِعِي حرَّم سائر أنواع الزمر، والشَّبَّابة من جملة الزمر، وأحد أنواعه، بل هي أحقُّ بالتحريم من غيرها؛ لما فيها من التأثير فوق ما فِي [الناي] (¬2) وصوناي، وما حُرِّمتْ هذه الأشياء لأسمائها وألقابها، بل لما فيها من الصدِّ عن ذِكر الله وعَن الصَّلاة، ومُفارَقة التقوى، والميل إلى الهوى، والانغِماس فِي المعاصي، وأطال النفَس فِي تقرير التحريم، وأنَّه الذي درَج عليه الأصحاب من لَدُنِ الشَّافِعِي إلى آخِر وقتٍ من المصريين، والبغداديين، والخراسانيين، والشاميين، والجزريين [ز1/ 26/أ] ومَن سكَن الجبال، والحجاز، وما وراء النهر، واليمن، كلهم يستدلُّ [بقصة] (¬3) ابن عمر - رضي الله عنهما - يعني: حديث زمارة الراعي. ¬
قال الأذرعي: وأحسبه عرَّض فِي صدر كلامه بالغزالي؛ فإنَّه من مُعاصِريه، انتهى. واعتَرضَه تلميذُه الزركشي بأنَّه ليس من مُعاصِريه، فإنَّه وُلِدَ بعد وَفاته بعشْر سنين، انتهى. ويُجاب عنه بأنَّ مُراده بكونه من مُعاصِريه أنَّه قريب جدًّا من عصره، فصَحَّ أنْ يطلق عليه كونه من مُعاصِريه مجازًا. وقال الإمام جمال الإسلام ابن [البِزري] (¬1) بكسر الباء نسبةً لبزر الكتان (¬2): الشَّبَّابة زمرٌ لا محالة حَرام بالنص، ويجبُ إنكارها ويحرم استِماعها، ولم يقل العلماء المتقدِّمون ولا أحدٌ منهم بحِلِّها وجوازِ استعمالها، ومَن ذهَب إلى حلِّها وسماعها فهو مُخطِئ، انتهى. وقال ابنُ أبي عَصْرُونٍ: الصواب تحريمُها، بل هي أجدَرُ بالتَّحْريم من سائرِ المزامِيرِ المُتَّفَقِ على تحريمِها؛ لشدَّةِ طربها، وهي شِعارُ الشَّرَبَة وأهلِ الفُسوق، انتهى. وإذا تقرَّر ما فِي هذا التَّنْبِيه عُلِمَ منه خطَأ صاحب ذلك الكتاب فِي قوله: اختَلَفَ العلماء فيها؛ فذهب طائفةٌ إلى التحريم، وطائفةٌ إلى الإباحة، وهو مذهَبُ جماعةٍ، ثم عَدَّ جملة مَن اختاره من الشافعية مُقلِّدًا فيه مَن لا يُوثَق به، وكلُّ ذلك تمويهٌ وتلبيس كما قرَّرته فاعلَمْه. ¬
واستِدلالُه بقول الرَّافِعِيِّ: رُوِيَ عن الصحابة الترخيصُ في [مزمار] الراعي ليس فِي محلِّه؛ لأنَّ ذلك لم يَثبُتْ عن أحدٍ منهم. وأمَّا حديث الراعي الآتي فسيأتي الكلامُ فيه، على أنَّ هذا لا ينفَعُ صاحب ذلك الكتاب؛ لأنَّها كانت تُفعَل بحضرته فِي المجامع الحفلة وغيرها على غايةٍ من الإطراب، وزمَّارة الراعي ليس فيها شيءٌ من ذلك كما يأتي، ووقَع له أنَّه استدلَّ على حِلِّ مُطلَق الشَّبَّابَة بأنها تُجرِي الدمع، وتُرقِّق القلب، وبأنَّ العلماء والصالحين لم يزالوا يسمَعُونها وتَجرِي على أيديهم الكرامات الظاهرة، وقد قدَّمتُ ذلك كلَّه عنه فِي مبحث الرَّقص، وأنَّه من خراف ابن طاهر وغيره، وتَبِعَهم هذا من غير تأمُّل؛ لأنَّ الهوى يعمي ويصمُّ، فراجِعْ ذلك كلَّه واحفَظْه فإنَّه مفيد. (تَنْبِيه ثانٍ) قول الأسنوي السابق: وبالجواز قال الماوردي، والخطابي، والروياني، اعترَضَه الأذرعي وتَبِعَه تلميذُه الزركشي فقال فِي "خادمه": نقل [ز1/ 26/ب] فِي المهمَّات الحِلَّ عن الماوردي، والخطابي، ومحمد بن يحيى، فأمَّا ابن يحيى فإنَّه تبع الغزالي، وأمَّا الماوردي فإنَّه فصل بين الأمصار فيكره، وبين الأسفار والمراعي فيُباح، وحَكاه عنه فِي "البحر" هكذا ولم يَحْكِ غيره، وأصلُ ذلك قول شيخه الأذرعي فِي "توسطه" فِي إطلاق الأسنوي نقل الحِلِّ عمَّن ذكر نظَر، وعبارة "البحر" قال فِي "الحاوي": الشَّبَّابَةُ فِي الأَمصارِ مكروهة؛ لأنها تستعمل فيها من السخف والسفاهة، وفي الأسفار والمراعي مُباحة؛ لأنها تحثُّ على السَّير وتجمَع البهائم إذَا سَرَحَتْ (¬1). ¬
فإنْ قيل: أليس رُوِي عن ابن عمر وساقَ طرفًا من حديث الراعي وغيره، ثم قال: قلنا: قال أبو سليمان الخطابي: المِزْمَار الذي سمعه ابن عمر صفارة الرُّعاة، وهذا محمولٌ على غير الشَّبَّابَة؛ وهذا يدلُّ على أنَّه وإن كان مكروها فليس كسائر الملاهي؛ لأنَّه لو كان كذلك لما اقتَصَر على سَدِّ المسامع فقط دُون الزجر والتنكيل، انتهى لفظه. ولا خَفاء أنَّ الراعي ونحوه يصفر فيها صفرًا مجرَّدًا، والكلام فيمَن يصفر فيها على القانون المعروف، فالوجه التحريمُ فيها مطلقًا، بَل هي أجدَرُ بالتحريم من سائر المزامير المتَّفَق على تحريمها؛ لأنها أشدُّ إطرابًا وهي شِعار الشَّرَبة وأهل الفُسوق، وقال بعض أهل هذه الصناعة - وهي الموسيقا -: الشَّبَّابَة آلةٌ كاملة وافية تجمَعُ النَّغمات، وقال آخَرون: ينقص قيراطًا. قال القرطبي: هي من أعلى المَزَامِير، وكل ما لأجله حرمت المَزَامِير موجودٌ فيها وزيادة، فيكون أولى بالتحريم، قال الأذرعي: وما قاله حقٌّ واضح، والمنازعة فِيه مكابرةٌ، وقال غيره: هي من أعلى المَزامِير، وكل ما لأجله حُرِّمت المَزامِير موجودٌ فيها وزيادة؛ فيكون أولى بالتحريم، والمنازعة في هذا مكابرةٌ، وهو الموافق للمَنقول، فإنَّه الذي نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ والجمهورُ؛ فقد قال فِي "الأم" فِي باب السرقة: ولا يقطع فِي ثمن الطُّنْبُور ولا المِزْمَار، انتهى (¬1). وقد حرم الشَّافِعِي ما دونها فِي الإطراب بكثيرٍ فإنَّه حرَّم الكُوبَة وهو الطبل الصغير، وحرَّم طبل اللهو وهو [ز1/ 27/أ] الطبل الكبير، وحرم الطبل (¬2) فِي غير العُرس والخِتان، وما حرَّمَه إلا لأنَّه لهوٌ لا ينتفع به فيما يجوز؛ ففي ¬
الشَّبَّابَة مع كونها لهوًا يصدُّ عن ذِكر الله وعَن الصلاة مع الميل إلى أوطار النُّفوس ولذَّاتها، فهي بالتحريم أحقُّ وأولى، وهو مُقتَضى كلام العراقيين؛ فإنهم قالوا: الأصوات المكتسبة بالآلات ثلاثةُ أضرب: ضَرْب محرَّم وهي التي تطرب من غير غِناء؛ كالعيدان والطنابير والمَزَامِير، انتهى. (تَنْبِيه ثالث) اختلف الحفَّاظ فِي حديث نافع الذي هو أصْل الخلاف فِي الشَّبَّابَة وهو: "أنَّ ابنَ عمرَ سمع صوتَ زمَّارة راعٍ، فجعَل أصبعيه في أذنَيْه، وعدل عن الطريق، وجعل يقولُ: يا نافع، أتسمَعُ؟ فأقول: نعم، فلمَّا قلت: لا، رجَع إلى الطريق ثم قال: هكذا رأيتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يفعَلُه". وفي روايةٍ: "أنَّ ابن عمر سمع مِزمارًا فوضَع أصبعَيْه في أذنَيْه، ونأى عن الطريق وقال لي: يا نافعُ، هل تسمع شيئًا؟ قلت: لا، فرفَع أصبعَيْه عن أذنَيْه وقال: كنت مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فصنَع مثل هذا" (¬1)، فقال أبو داود: إنَّه حديث منكر، وخالَفَه ابن حبان فخرَّجَه فِي صحيحه، ووافَقَه الحافظ محمد بن نصر السلامي فإنَّه سُئِل عنه فقال: هو حديثٌ صحيح. وكان ابن عمر بالغًا إذ ذاك عمره سبع عشرة سنة، وقال: هذا من الشارع - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليعرف أمَّته أنَّ استماع الزَّمَّارَة والشَّبَّابَة وما يقومُ مقامهما محرَّم عليهم استماعُه، ورخَّص في ذلك لابن عمر لأنَّه حالة ضرورة، ولا يمكن إلا ذاك، وقد تُباح المحظورات للضرورات، قال: ومَن رخَّص فِي ذلك - أي: فأباح الشَّبَّابَة - فهو مخالفٌ للسنَّة، انتهى. ¬
وبهذا الحديث استدلَّ أصحابُنا على تحريم المَزَامِير، وعليه بنوا التحريم فِي الشَّبَّابَة التي هي من جملة المَزَامِير بل أشدها طربًا، وممَّا يدلُّ على حُرمتها الحديث السابق فِي المقدمة وهو: أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - نَهَى عن ضرْب الدفِّ ولعب الصنج وضربِ الزَّمَّارَةِ (¬1). وأمَّا استِدلال مَن أباحها تمسُّكًا بأنَّه لم يَأمُرْ ابن عمر بسَدِّ أذنَيْه ولا نهى الراعي فدلَّ على أنَّه إنما فعَلَه تنزيهًا أو أنَّه كان فِي حالة ذكرٍ أو فكرٍ، وكان السَّماع يشغله، فسدَّ أذنَيْه لذلك، فقد ردَّه الأئمَّة بأمورٍ كثيرة. منها: أنَّ تلك الزَّمَّارَة لم تكنْ ممَّا يتَّخذه أهلُ هذا الفن الذي هو [ز1/ 27/ب] محلُّ النِّزاع من الشَّبَّابات التي يتقنونها، وتحتها أنواعٌ كلها تطرب، ومعلومٌ أنَّ زمر الراعي في قصبةٍ ليس كزمر مَن جعله صنعته وتأنَّق فيه وفي طَرائِقه التي اخترَعُوا فيها نغماتٍ تُحرِّك إلى الشهوات. ومنها: أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - إنما لم يأمرْ ابنَ عمر بسدِّ أذنيه لأنَّه تقرَّر عندهم أنَّ أفعاله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حجَّة [لأقواله] (¬2) فحين فعَل ذلك بادَر ابن عمر إلى التأسِّي به، وكيف يظنُّ به أنَّه ترك التأسِّي وهو من أشدِّ الصحابة تأسِّيًا؟ قال الدولقي: وهذا لا يخطر ببال محصل قد عرف قدْر الصحابة واطَّلع على سبيلهم، قال: وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا عَبدَالله، هل تسمَعُ؟))؛ معناه: تسمع هل تسمع؟ وإنما أسقَطَ تسمع ¬
لدلالة الكلام عليه؛ إذ مَن وضَع إصبعيه فِي أذنَيْه لا يسمع، وإنما أذن له فِي هذا القدْر لموضع الحاجَة. ومنها: أنَّ الممنوع إنما هو الاستِماع لا مجرَّد السَّماع لا عن قصد وإصغاء، وقد صرَّح أصْحابنا بأنَّه لو كان فِي جواره شيءٌ من الملاهي المحرَّمة ولا يمكنه إزالتها لا يلزَمه النقلة ولا يأثَم بسَماعها لا عن قصدٍ وصرَّحوا هاهنا بأنَّه إنما يأثَم بالاستماع لا بالسماع. قال الاذرعي: وأُجِيبَ عن ترك الإنكار على الراعي بأمورٍ واضحة لا نُطِيل بذِكرِها، وأغرَبَ مَن قال قوله: ((زمَّارة راعٍ)) لا يتعيَّن أنها الشَّبَّابَة؛ فإنَّ الرُّعاة يضربون بالشعيبية وغيرها، فأوهَمَ أنَّ ما يُسمَّى بالشعيبية مُباح مفروغٌ منه، وهي عِبارة عن عدَّة قصبات صِغار تُجعَل صفًّا وقد تُجعَل فوق رُؤوسها صفر يتَعاطاه بعض السُّفَهاء، ولها إطرابٌ بحسَب حِذق مُتَعاطِيها، وهي شبَّابَةٌ أو مِزمار لا محالةَ، انتهى. ومرَّ قولُ الماوردي: تُكرَه الشَّبَّابَة فِي الحضَر - أي: تحريمًا - وتُباح للراعي (¬1)، وفي السفر (¬2) وقول الخطابي: الزَّمَّارَة التي سمعها ابن عمر زمَّارة الرُّعاة وهو محمولٌ على غير الشَّبَّابَة، ا. هـ. وتعقَّب ذلك الأذرعي فقال: إنْ كان يصفر بها كالأطفال والرُّعاة على غير قانون بل صفيرًا مجرَّدًا على نمطٍ واحد فقريب عدم الحرمة فيها، وإنْ كان المسافر أو الراعي يصفر فيها على القانون المعروف من الإطراب فهي حَرامٌ ¬
مطلقًا، بل هي أجدَرُ بالتحريم من سائر المَزَامِير المتَّفَق على تحريمها؛ لأنها أشدُّ إطرابًا وهي شعار الشَّرَبة وأهل الفِسق، ا. هـ. (تَنْبِيه رابع) إذا تأمَّلت ما ذكَرْناه [ز1/ 28/أ] فِي تقرير الحديث والأجوبة عنه بانَ لك واتَّضَح اندِفاعُ ميل البلقيني إلى مُتابَعة الرَّافِعِيِّ، وقوله: لا يثبت التحريم إلا بدليلٍ مُعتَبر ولم يُقِمِ النَّووي دليلاً على ذلك، اهـ، واندِفاع قول التاج السبكي فِي "توشيحه" (¬1): لم يقمْ عندي دليلٌ على تحريم اليَرَاع مع كثْرة التتبُّع، والذي أراه الحلُّ، فإنِ انضمَّ إليه محرَّم فلكلٍّ منهما حكمُه، ثم الأولى عندي لِمَن ليس من أهل الذَّوق الإعراضُ عنه مطلقًا؛ لأنَّه قد يجرُّه إلى ما لا ينبغي، وأدناه صَرْفُ الوقت فيما غيرُه أهمُّ منه، وحُصول اللذَّة به، وليست اللذَّة النفسانيَّة فِي هذه الدار من المطالب الشرعيَّة، وأمَّا أهل الذَّوق فحالهم مسلَّم إليهم، وهم على حسَب ما يجدون فِي أنفسهم، ا. هـ. ووجه اندِفاع ما قاله هذان الإمامان أنَّ الحديث السابق صحيحٌ، ودلالته على التحريم واضحةٌ، فأيُّ وجْه لتوقُّفِهما؟ بل بغرض عدم دلالة الخبر على عدم صحَّته (¬2)، فالقياس حجَّة أي حجة، وقد سبَق فِي كلام الأئمَّة أنَّه دالٌّ بالأولى على تحريم الشَّبَّابَة، ومن ثَمَّ قال الشمس الجوهري عُقَيب ما مرَّ عن البلقيني: ويمكن أنْ يُستَدلَّ بالقياس على الآلات المذكورة لاشتراكه ¬
معها فِي كونه مُطرِبًا، بل ربما كان الطرب الذي فيه أشدَّ من الطرب الذي فِي نحو الكمنجة والربابة ونحوهما، فهو إمَّا [قياس] (¬1) الأولى أو المساواة بالنسبة إلى المذكورين، وهما حرامٌ بلا خلاف، ا. هـ. ثم [قول] (¬2) السبكي: ثم الأولى عندي لِمَن ليس من أهل الذَّوق ... إلخ، إنما يأتِي على ما زعَم أنَّه الذي يظهَر وهو الحِلُّ، أمَّا على الحرمة التي هي منقول المذهب ومُعتمَد أكثر أئمَّته أو كلهم على ما مرَّ فلا يفتَرِق الحال فيها بين أهل الذوق وغيرهم، بل أهل الذوق أشدُّ الناس تَعصُّبًا عن مواطن الشُّبهات فَضْلاً عن المحرَّمات، اللهم إلا لِمَن غلَبَه حال حتى صار لا شُعورَ له، وشهدت قرائنُ أحواله على ذلك، فهذا لا تكليفَ عليه الآن حتى يعترض عليه، وقد سبَق أنَّ الجنيد وتَبِعَه الأئمَّة جعل السَّماع حَرامًا على العَوام؛ لبَقاء نفوسهم، مُباحًا للزُّهَّاد؛ لحصول مُجاهَدتهم، مُستَحبًّا للعارفين؛ لحياة قلوبهم. قال التاج السبكي: والظاهر أنَّه لم يُرد التحريم الاصطلاحي، وإنما أراد أنَّه لا ينبغي وفيه نظر؛ لما مرَّ أنَّ الغناء ونحوه قال بتحريمه كثيرون من أئمَّتنا [ز1/ 28/ب] وغيرهم، فلعلَّ الجنيد يرى تحريمه على العوام فقط؛ لأنَّه يجرُّهم إلى الفتنة والوقوع فِي المعصية سريعًا بخلاف القسمَيْن الآخرَيْن. (فائدة) وقَع فِي "العزيز"؛ للرافعي أنَّه قال: رُوِي أَنَّ داود النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانَ يضربُ باليراعِ في غنمه، قال شيخ الإسلام فِي تخريج أحاديثه: لم أجده (¬3)، وبهذا يُعلَم خطأُ صاحب هذا الكتاب وغيره؛ حيث ¬
أخَذُوا من ذكر الرَّافِعِيِّ له الاحتجاجَ به على حِلِّ الشَّبَّابَة، على أنَّه لو صَحَّ لم يكن فيه ذلك؛ إذ شريعةُ مَن قبلنا ليست بشريعةٍ لنا؛ لأنَّه إمَّا ورَد فِي شرعنا ما يُنافِيها فواضحٌ، أو ما يوافقها فالحجَّة فِي شرعنا دون غيره. (تَنْبِيه خامس) قال فِي "المهمَّات": اليَرَاع بفتحة التحتيَّة وتخفيف الراء وبالمهملة جمع (يراعة) اسم جنس واحدُه (يراعة) قاله النووي فِي "تهذيبه"، وقال الجوهري: اليَرَاع القصب، واليَرَاعة القصبة، إذا علمت ذلك علمت أنَّ اليَرَاع مُتعدِّد، وحينئذ فكيف يصحُّ تفسيره - أي: الواقع فِي "الروضة" وغيرها - بالشَّبَّابَة؟ ا. هـ (¬1). ويُجاب بأنَّه تفسيرٌ باعتبار مُفرَده، وقد يقع مثل ذلك كثيرًا (¬2). * * * * * ¬
القسم الحادي عشر: الموصول
القسم الحادي عشر: الموصول قال الكمال ابن أبي شريف فِي "الإسعاد" (¬1): وليس من محلِّ اختِلاف الشيخين القصب المسمَّى بالموصول؛ لأنَّه يُضرَب به مع الأوتار، وهو من شعار شارِبِي الخَمْر كما لا يَخفَى على مَن اطَّلَع على أحوالهم، وقد قال الرافعي: ليس المراد باليَراع كلَّ قصب، بل المزمار العراقي وما يُضرَب به مع الأوتار حَرامٌ بلا خلافٍ، ا. هـ (¬2)، وقيل: وأوَّل مَن اتَّخذ المزَامِير بنو إسرائيل. * * * * * ¬
القسم الثاني عشر: المزمار العراقي وما يضرب به مع الأوتار
القسم الثاني عشر: المِزْمَار العِرَاقِي وما يُضرَب به مع الأَوْتَار [قال الرافعي في "العزيز" والنووي في "الروضة": المزمار العراقي وما يضرب به مع الأوتار] (¬1) حَرَامٌ بِلاَ خِلاَفٍ، انتهى. ولفظُه [مع ما وقَع] (¬2) فِي نسخةٍ مُعتمَدة من نسخ "العزيز"، والموجود فِي كثيرٍ من النسخ: وما يُضْرَبُ به الأوتار، والنسخة الأولى هي الصواب كما أشار إليه الزركشي، فإنَّ عبارة الشيخين: وليسَ المُرَادُ من اليَرَاع كلَّ قصب، بل المزمار العراقي وما يُضرَب به مع الأوتار (¬3) حرامٌ بلا خلافٍ، انتهت. فلا مُناسبة لذِكر ذوي الأوتار مع مَزامِير القصب، قال الزركشي: وقد راجعت كلامَ الغزالي الذي أخَذ الرَّافِعِيُّ هذا منه فوجدته إنما ذكر ذلك [ز1/ 29/أ] تفسيرًا للمِزمار العراقي، فقال بعد حكاية الوجهين فِي اليَرَاع: ولا نعني به المِزْمَار الذي يُسمَّى العراقي ويُضْرَبُ مع الأَوْتَارُ، فإنَّه حرامٌ؛ يعني: بِلاَ خِلاَفٍ، وكذا حًكاه عنه صاحب "الذخائر" كما سبق، ا. هـ. (تَنْبِيه) استدلَّ الأصحاب لتحريم المِزْمَار بأنَّه من شعار شرَبَة الخمور نظيرَ ما يأتي في الأوتار، واعترض بأنَّ الغالب أنهم لا يحضرونه؛ فإنَّ فيه إظهارًا لحالهم، ا. هـ. قال الأذرعي: وهذا باطِلٌ، بل يحضرونه فِي مكانهم الذي لا يظهر فيه أصوات المَعَازِف ويظهره أربابُ الولايات المُتَجاهِرون بالفسق، وصرَّح ¬
[العمراني] (¬1) وغيرُه بتحريم سائر المَزَامِير وهي تشمَلُ الصرناني وهي قصبة ضيِّقة مُتَّسعة الآخِر يزمر به فِي المواكب وعلى النقارات وفي الحرب، وتشمل [الكرجة] (¬2) وهي مثل الصرناني إلا أنَّه يُجعَل فِي أسفل القصبة قطعة نحاس معوجَّة يزمر بها فِي أعراس البوادي وغيرها وتشمل الثاني وهي أطرب من الأوَّلين وتشمَلُ المقرونة وهي قصَبتان ملتفَّتان. (فائدة) أخرج الديلمي عن جابر - رضِي الله عنه - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذَا كانَ يوم القيامة قال الله - عزَّ وجلَّ -: أين الذين كانوا يُنزِّهون أسماعهم وابصارهم عن مَزامِير الشيطان؟ ميِّزوهم، فيُميِّزوهم في كثب المِسك والعَنبر، ثم يقول لملائكته: أسمِعُوهم تسبيحي وتمجيدي، فيسمَعُون بأصواتٍ لم يسمع السامعون مثلها)) (¬3)، ومرَّ فِي المقدمة حديث أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((صَوْتانِ مَلعُونانِ في الدُّنيا والآخِرَة: مِزْمارٌ عندَ [نعمةٍ]، ورَنَّةٌ عندَ مُصِيبَةٍ)) (¬4)، وحديث: ((أُمِرتُ بهدْم الطَّبل والمِزْمَار)) (¬5). * * * * * ¬
القسم الثالث عشر: الأوتار والمعازف
القسم الثالث عشر: الأوتار والمعازف كالطُّنْبُور والعُود والصَّنْج أي: ذي الأوتار والرباب (¬1) والجَنْك (¬2) والكمنجة والسنطير والدِّرِّيجُ (¬3)، وغير ذلك من الآلات المشهورة عند أهل اللهو والسَّفاهة والفُسوق، وهذه كلُّها محرَّمة بلا خِلاف، ومَن حكى فيه خلافًا فقد غلط أو غلب عليه هَواه، حتى أصمَّه وأعماه، ومنعه هداه، وزلَّ به عن سنن تَقواه. وممَّن حكَى الإجماع على تحريم ذلك كلِّه الإمام أبو العباس القرطبي وهو الثقة العدل فإنَّه قال كما نقَلَه عن أئمَّتنا وأقرُّوه: أمَّا َالمَزَامِير والكُوبَة فلا يُختَلف فِي تحريم سماعها ولم أسمعْ عن أحدٍ ممَّن يُعتَبر قوله من السلف [ز1/ 29/ب] وأئمَّة الخلف مَن يبيح ذلك، وكيف لا يُحرَّم وهو شعار أهل الخمور والفسوق ومهيج للشهوات والفساد والمجون، وما كان كذلك لم يُشَكَّ فِي تحريمه ولا فِي تفسيق فاعله وتأثيمه. وممَّن نقَل الإجماعَ على ذلك أيضًا إمامُ أصحابنا المتأخِّرين أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي (¬4)، فإنَّه قال فِي "تقريبه" بعد أنْ أورد حديثًا فِي تحريم ¬
الكُوبَة، وفي حديث آخَر: أنَّ اللهَ يَغفِرُ لكلِّ مذنبٍ إلا صاحب عَرطَبة أو كُوبةٍ (¬1)، والعَرطَبة: العُود، ومع هذا فإنَّه إجماع، ا. هـ. (تَنْبِيه) اعتُرضِتْ حكاية الإجماع بأنَّ الماوردي من أكابر أصحابنا قال فِي "حاويه": إنَّ بعض [أصحابنا] (¬2) كان يخصُّ العُود بالإباحة من بين الأوتار ولا يحرمه؛ لأنَّه موضوع على حركات تنفي الهمَّ وتزيد فِي النَّشاط، ويُقال: إنَّه ينفَعُ من بعض الأمراض، وبأنَّ ابنَ طاهر حَكاه عن إجماع أهل المدينة وعَنْ صاحب "التَّنْبِيه" الإمام أبي إسحاق الشيرازي قال: وكان مذهبه أنَّه مشهورٌ عنه، وأنَّ أحدًا من عُلَماء عصره لم يُنكِرْه عليه، وهذا الاعتِراضُ باطلٌ سفساف لا يُعوَّل عليه، أمَّا ما فِي "الحاوي" فقد عقَّبَه الماوردي بما [يزيفه] (¬3) ويردُّه ويبيِّن أنَّه لا يُعتَدُّ به ولا يُحكَى إلا لردِّه، فإنَّه قال في "الحاوي" عقبه: وهذا لا وجْه له؛ لأنَّه أكثر الملاهي طربًا، وأشغلها عن ذكر الله - تعالى - وعن الصَّلاة، وإنْ تميَّز به الأماثل عن الأراذِلِ (¬4). وتابَعَه الروياني فِي "البحر" على ردِّ هذا الوَجْه وتزييفه، وأمَّا زعْم أنَّه ينفَع لبعض الأمراض فقد جعَلَه الأسنوي مُقوِّيًا لذلك الوجْه؛ فقال بعد قول الشيخين: إنَّ ما مَرَّ حرامٌ بلا خِلافٍ، وإطلاقهما عدم الخلاف ليس كذلك؛ فقد حكى الماوردي والروياني فِي "البحر" وجهًا أنَّ العُود بِخُصوصه حَلال؛ لما يقال: إنَّه ينفَعُ بعض الأمراض، اهـ، واعتَرضَه ¬
المتعقِّبون لكلامه بأنَّ حِكايته لهذا الوجهِ على هذا المَهيَع (¬1) باطلةٌ من وجهين: أحدهما: أنَّه إذا كان مُعلَّلاً بنَفعِه لبعض الأمراض فينبغي تقييدُ الإباحة لِمَن به ذلك المرض دُون غيره، فإطْلاق حِكايته غَلَطٌ فاحش. الثاني: إذا أُبِيحَ لحاجة المرض فلا ينبَغِي أنْ يقتَصِرَ على حِكايته وجهًا، بل يحرم بِجَوازِه [ز1/ 30/أ] كما يجوزُ التَّداوِي بالنَّجِس، وقد جزَم الحليميُّ فِي "منهاجه" بأنَّ آلات اللهو إذا كانت تنفَعُ من بعض الأمراض أُبِيحَ سماعها، قال ابن العماد: والذي قاله مُتعين، انتهى. والحاصل أنَّه متى شَهِدَ طبيبان عدلان أنَّ هذا المرض بِخُصوصه ينفَع فيه العُود وانحصَر النفع بأنْ لم يوجد دَواء حَلال ينفَع فيه غيره جازَ استِماعُه ما دام ذلك المرض باقيًا، كما صرَّحوا بذلك فِي التداوي بالنَّجِسِ - غير محض الخَمْر - فإنَّه يجوز عندنا بهذه الشُّروط التي ذكرتها، وإذا وُجِدتْ أبيح العُود حينئذٍ للضرورة كما يُباح أكل الميتة للمضطرِّ، وحينئذٍ فلم يتحقَّق لنا وَجْهُ قائلٍ لجواز العُود على إطلاقه. وأمَّا ما حَكاه ابن طاهر من إجماع أهل المدينة فهو من كَذِبه وخُرافاته؛ فإنَّه - كما مرَّ - رجلٌ كذَّاب يَروِي الأحاديث الموضوعة ويتكلَّم عليها بما يُوهِم العامَّة صحَّتها، كما مرَّ فِي مبحث الغناء والرقص، وأيضًا فهو مُبتدِع إباحي لا يُحرِّم قليلاً ولا كثيرًا؛ ومن ثَمَّ قال بعضهم فيه: إنَّه رجسُ العقيدة نجسُها، ومَن هذا حالُه لا يُلتَفتُ إليه ولا يُعوَّل عليه؛ ومن ثَمَّ قال الأذرعي عَقِبَ حكايته الباطلة الكاذبة عن إجماع أهل المدينة وعَن الشيخ أبي ¬
إسحاق: وهذا من ابن طاهر مجازفةٌ، وإنما فعَل ذلك بالمدينة أهلُ المجانة والبطالة، ونسبة ذلك إلى صاحب "التَّنْبِيه" كما رأيته فِي كتابه بالسماع نسبةٌ باطلة قطعًا، كيف وقد قطَع فِي "مهذبه" هنا وفي الوصايا بتحريم العُود، وهو قضيَّة ما فِي "تنبيهه"، ومَن عرف حاله وشدَّة ورعه ومتين تَقواه جزَم ببُعدِه ونَزاهته وطَهارة ساحته من ذلك، وكيف يظنُّ ذو لبٍّ فِي هذا العابد القانت أنْ يقول فِي دِين الله ما يفعل ضدَّه مع ما فِي ذلك من غَلِيظ الذم والمقت، وكلُّ مَن ترجَمَه لم يذكُر شيئًا من هذا - فيما نعلَمُ. ومن المجازفة قولُ ابن طاهر: إنَّ ذلك مشهورٌ عنه، ودعوى ابن طاهر أنَّ ذلك إجماعُ أهل المدينة من [جرَّاء] (¬1) دَعواه إجماع الصحابة والتابعين على إباحة الغناء، والهوى يُعمِي ويصمُّ، اهـ. وقال الزركشي عَقِبَ اعتراض الأسنوي على الشيخين نفيهما الخلاف في سائر الأوتار السابقة بحكاية ابن طاهر عن الشيخ أبي [ز1/ 30/ب] إسحاق [ما مرَّ قلت: هذا تلبيسٌ من الأسنوي قلَّد فيه صاحبه الكمال الأُدفوي فِي كتابه "الإمتاع"، ولا تجوزُ حكاية هذا عن الشيخ أبي إسحاق] (¬2) فإنَّ ابن طاهرٍ مُتكلَّمٌ فيه عند أهل الحديث بسبب الإباحة وغيرها، وقد قطع الشيخ أبو إسحاق فِي "المُهَذَّبِ" هنا وفي الوصايا بتحريم العُود وهو أتْقى لله من أنْ يقول فِي دِين الله شيئًا ويفعل ضدَّه، ا. هـ. وإذا تأمَّلت ما تقرَّر فِي هذا التَّنْبِيه علمت أنَّ قول صاحب ذلك الكتاب: وذهبت طائفةٌ إلى جَواز سماع العُود وما جَرَى مَجراه من الآلات المعروفة ذوات الأوتار كذبٌ صريح وجهلٌ قبيح؛ لما مرَّ أنَّ ذلك محرَّم بالإجماع، ¬
وأنَّه لم يقعْ خلافٌ إلا فِي العُود، وأنَّ ذلك الخلافَ باطلٌ لا يُعتَدُّ به فِي حكاية الإجماع. وقوله: ونقل سماعه عن فلان وفلان وذكر جماعة من الصحابة وجماعة من التابعين وغيرهم ... جوابه: أنَّ هذا كلَّه نقلٌ باطلٌ، واحتجاجٌ بالتمويهات والتلبيسات، وكيف يسوغ لِمُتديِّن - فضلاً عمَّن يدَّعِي التصوُّف والمعرفة - أنْ يحتجَّ على تَعاطِي الأشياء المحرَّمة عند أئمَّة المذاهب الأربعة وغيرهم بمجرَّد قوله ونقل سماعه عن فلان وفلان، ما ذاك إلا غَباوة ظاهرة وجهْل مُفرِط؛ لأنَّ اللائق بِمَن يُرِيدُ أنْ يفعل شيئًا يُخالِف فيه المشهور المقرَّر فِي مذاهب العلماء أنْ يحتجَّ عليهم بنقلٍ صريح أو حديث صحيح؛ لأنَّه إمَّا أنْ يكون مجتهدًا أو مُقلِّدًا، فإنْ كان مجتهدًا بيَّن أوَّلاً أنَّ المسألة غير مُجمَع عليها، وأثبت النقل بطريقِه المعتبرة عند أئمَّة الحديث وغيرهم، عمَّن يُعتَدُّ به أنَّه لا إجماع فِي المسألة، ثم بيَّن حجَّته من كتابٍ أو سنَّة أو غيرهما بطَرائِقه [المعتبَرة] (¬1) عند أئمَّة الأصول وغيرهم، وإنْ كان مُقلِّدًا بيَّن صحَّة الحِلِّ عند أحدٍ من العلماء المجتهِدين ثم قال: أنا مقلدٌ لهذا الإمام حتى يرتَفِع الإنكار عنه، وأمَّا مجرَّد قوله نقل فهذا كلام لغو لا يُفِيد شيئًا إلا فِي غرَضِه الفاسد، وهو ترويجُ أفعالِه وأقولِه الباطلة الكاذبة على مَن لا يُفرِّقون بين نقلٍ [صحيحٍ]، ويعتَقِدون أنَّ الكلَّ من وادٍ واحدٍ، وهيهات! ليس الأمر بالهُوَيْنَى كما يظنُّ هذا الرجل وأضرابه، بل بينه وبين إثبات الحلِّ [ز1/ 31/أ] عن واحدٍ ممَّن ذكر [مفاوز] (¬2) تُقطَع دونها الأعناق؛ إذ لو أقام طول عُمرَه يفحَص ويُفتِّش ما ظفر بنقل الحِلِّ من طريق صحيح عن ¬
واحدٍ من العلماء فضلاً عن هؤلاء الكثيرين الذين عددهم بمجرَّد الدعاوى الكاذبة منه، وممَّن سبقه إلى ذلك كابن حزم (¬1) وابن طاهر وليته عرف حال هذين الرجلين ليتجنَّب متابعتهما، فإنَّ كلاًّ منهما مبتدعٌ ضالٌّ. أمَّا ابن حزم فـ[إنَّ] العلماء لا يُقِيمون له وزنًا كما نقَلَه عنهم المحقِّقون؛ كالتاج السبكي وغيرهم؛ لأنَّهم أصحاب ظاهريَّة محضة تَكادُ عقولهم أنْ تكون مُسِختْ، ومَن وصل إلى أنَّه يقول: إنْ بال الشخص فِي الماء تنجَّس، أو فِي إناءٍ ثم صبَّه فِي الماء لم يتنجَّس، كيف يُقامُ له وزنٌ ويُعَدُّ من العُقَلاء فضلاً عن العلماء؟! ولابن حزم هذا وأضرابه من أمثال هذه الخرافات الشيء الذي لا ينحَصِر، ومَن تأمَّل عِلَلَه ونحله وكذبَه على العلماء سيَّما إمام أهل السنَّة أبي الحسن الأشعري عَلِمَ أنَّ الأولى به وبأمثاله أنْ يكونوا فِي حيِّز الإهمال [وعدم رفع رأس لشيءٍ صدَر منهم] (¬2). وأمَّا ابن طاهر فإنَّ العلماء بالَغُوا فِي تضليله وتسفيهه بما مرَّ بعضه ويأتي بعضه، من ذلك أنَّه رجس العقيدة نجسها، فإنَّه رجل إباحي لا يتقيَّد بدليلٍ ولا يعول على تعليلٍ، بل كلَّ ما وسوس له الشيطان اتَّخذه مذهبًا، وبَرهَن عليه بالأشياء التي يعتقد كذبها، وإنما يُموِّه على مَن لا علمَ عنده ليُوهمه صحَّة ذلك، نظير ما مرَّ له فِي الحديث الباطل الكَذِب الموضوع المُختَلق ¬
الذي فِيه نسبة الرقص إليه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنَّه أسقط ذكر واضعة ومختلقه، وذكر بعض رواته الذين لا مَطعَن فيهم؛ ليوهم الناس أنَّه حديث صحيح، ومَن وصلت جهالته وسفاهته إلى هذا الحد، كيف يُعوَّل عليه أو يُلتَفت إليه؟ مَن يَزعُم أنَّ له أدنى مسكة من دِين الله فضلاً عن ورَع. وقول صاحب ذلك الكتاب: إنَّ الحلَّ نُقِلَ أيضًا عن أكثر فقهاء المدينة، وهذا غاية فِي الكذب والتدليس، لأنَّه إن قلد ابن طاهر فِي النقل، فابن طاهر إنما عبَّر بإجماع أهل المدينة لا بأكثرهم، وإن قلَّد العلماء فِي تكذيب ابن طاهر فِي هذا النقل فأهل المدينة بريئون [ز1/ 31/ب] من نسبة ذلك إليهم، فترْك هذا الرجل هاتين المقالتين واختراعُه النقلَ عن أكثر المدينة غايةٌ فِي سُوء الصَّنيع المبنيِّ على التلبيس، وحال هذا الرجل يَأبَى صُدور مِثلِ ذلك عنه، لكن الهوى يوجب أكثر من ذلك؛ قال تعالى {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (¬1) الآية، قوله: ونقل عن مالك سماعه، وليس ذلك بالمعروف عند أصحابه، كأنَّه لم يطالع "تفسير القرطبي" فِي سورة الروم، ولا "المسالك"؛ لابن فضل الله فِي مبحث المغنين المأخوذ منه ردُّ ذلك المحكيِّ بأنَّه اشتباه، فإنَّ شخصًا اسمه مالك فِي زمَن الإمام كان مغنِّيًا، وبفرْض صحَّة ذلك - وهو بعيدٌ جدًّا - فالعبرة بآخِر أحوال الأئمَّة وأقوالهم. والحاصل: أنَّه لا حجَّة له فِي هذا النقل عن مالك مطلقًا، فكان اللائق صَوْن إمامه عن هذا الذي أشار إليه، ونقل عن ابن العربي فِي "شرح ¬
الترمذي" ما يُوهِم الحلَّ، وليس كذلك كما هو ظاهرٌ بأدنى تأمُّل، وما مثالُ هذا إلا ما فِي أمثال العوام: (الغريق يتعلَّق بالقش). وقوله: وحكَى إباحته الماوردي عن بعض الشافعيَّة ... هذا من غاية التدليس والبُهت، فإنَّ الماوردي عقَّب هذه الحكاية بتزييف هذا القول وإبطاله كما مرَّ مبسوطًا، وكأنَّ هذا الرجل يظنُّ أنَّ أحدًا لا يتعقَّب كلامه ولا يعترض عليه، وليس كذلك؛ فقد أخبر الصادق المصدوق - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه لا تزالُ طائفة من أمَّته ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة - أي: حِزبه - لا يضرُّهم مَن خالفهم (¬1)، وبأنَّ الله - تعالى - وعَدَه بأنَّ كلَّ زمنٍ يُوفِّق الله فيه عُدُولاً يحملون العلم وينفون عنه تحريف [الغالين] (¬2) وإلحاد الملحِدين وشُبَه المبطلين (¬3). وقوله: وقال الأستاذ أبو منصور البغدادي: هو من نَظِير ما قبله، قوله: ونقل عن أبي إسحاق الشيرازي أنَّه كان مذهبه وأنَّه مشهورٌ عنه، وأنَّه لم ينقلْ عن أحدٍ من العلماء أنَّه أنكَرَه عليه، حَكاه ابن طاهر المقدسي عنه، جوابه ما سبق أنَّ هذا النقل منه على هذا العالم الرباني كذبٌ صريح، كيف ¬
والشَّيْخُ مُصرِّحٌ بتحريم سماع العُود، وأنَّه لا خلاف فيه فِي كتب الفقه، وكيف يُظَنُّ بهذا العبدِ [ز1/ 32/أ] القانت الذي قد اشتهر ورَعُه اشتهارَ الشمس أنْ يُصرِّح فِي كتبه بِحُرمَة شيءٍ من غير خِلافٍ فيه ثم يفعله، ما هو إلا أمر قبيح؛ ومن ثَمَّ بالَغ العلماء فِي تكذيب ابن طاهر فِي ذلك، وأنَّ هذا من جملة خُرافاته وكذباته الشَّنِيعة التي تصدُر عن المجازَفة ورقَّة الدِّيانة، ومن مُبالَغته فِي كَذِبه قوله: إنَّه كان مشهورًا عن الشيخ، وإنَّه لم ينقل عن أحدٍ من العلماء أنَّه أنكَرَه عليه. ومن تدليس هذا الرجل الناقل عن ابن طاهر أنَّه نقَل كذبه ولم ينقل تكذيب العُلَماء له فِي هذا النقل [أصلاً] (¬1) ومبالغتهم فِي الردِّ عليه. قوله: وكان إبراهيم بن سعد الزهري من عُلَماء المدينة يقول بإباحته ولا يُحدِّث حديثًا حتى يضرب به جَوابه، هذا من جُملَة الكذب أيضًا على إبراهيم بن سعد، وقد مرَّ عن القرطبي أنَّه نقل إباحة الغناء عنه شاذٌّ، على أنَّه لو فرض صحَّة ذلك عنه لم يجزْ لأحدٍ تقليده؛ للإجماع على أنَّه لا يُقلَّد إلا مجتهدٌ، وإبراهيم هذا ليس من أهل الاجتهاد كما مرَّ عن القرطبي، فهذا النقل [غير مفيد، ولو] (¬2) فرض صحَّته عنه فكيف وهو لم يصحَّ، فتأمَّل مجازفةَ هذا الرجل كيف أراد أنْ يُعارِض القرطبي بمجرَّد زعْمه، فقال: وإبراهيم بن سعد أحد شيوخ الشَّافِعِي، وروَى عنه البخاري، وهو إمام مجتهدٌ مشهور عدل بارٌّ لله مأمون، وهذا كلُّه من الجزاف، والكذب، والتلبيس، فإنَّ كونه شيخًا للشافعي وغيره لا يقتَضِي بل ولا يدلُّ من وجهٍ ¬
قريبٍ [ولا بعيدٍ أنَّه مجتهد، وكم أخَذ الشافعي عن غير مجتهد] (¬1) وروى البخاري عن جاهلٍ بمراتب الاجتهاد فضلاً عن التحلِّي بها، فذِكْرُ ذلك غَباوةٌ محضة، وقوله: وهو إمام مجتهد، [هذا كذبٌ] (¬2) منه؛ لأنَّه إذا تعارَض قول هذا: إنَّه مجتهد، [وقول القرطبي: إنَّه غير مجتهد] (¬3) مَن الذي يُعتَمد قوله من الرجلين؟ [فشتَّان] ما بينهما، لا سيَّما وهذا الرجل أمَر فِي هذا الكتاب بمتابعة خبيثَيْن مبتدعَيْن كذابَيْن: ابن حزم، وابن طاهر، كلُّ ذلك [لتَرُوج] (¬4) مَقالته الفاسدة وشُبهته الكاسدة، وتأمَّل مُجازَفته ووُقوعه فِي حقِّ كلِّ العلماء بحِكايته عن إبراهيم بن سعد هذا أنَّه لما ضرْب بالعُود بين يدي هارون، قال له: يا إبراهيم، مَن قال بتحريم هذا [ز1/ 32/ب] من عُلَمائكم؟ قال: مَن ربَطَه الله - تعالى - يا أمير المؤمنين)) (¬5)، ا. هـ. ¬
فهذه الحكاية لا تصدر عن أدنى السُّوقة فِي حقِّ العلماء، فكيف استَباحَ هذا الذي يَزعُم الدِّين والتصوُّف أنْ يَحكِي ذلك ويشهره للعوام، ليس ذلك إلاَّ لأنَّ المِحنة القبيحة بسَماع الأوتار أخرجَتْه من حيِّز الصِّيانة إلى حيِّز الخِيانة، وعَنْ ساحة الأدب إلى هُون العطَب، ولِمَ لا وقد وقَع فِي حق كلِّ العلماء، وباءَ بسبب ذلك بالخسار والبَوار والعَمى؟ وكيف يستَجِيزُ بعد ذلك أنْ يقلد إمامَه مالكًا ويجعله الواسطة بينه وبين الله - تعالى - وهو قد ربَطَه الله؛ إذ هذه كلمة ذمٌّ لهم؟ وكيف ساغَ لهذا الرجل أنْ يحتجَّ على العُلَماء كلِّهم بكلام، مغنٍّ يضرب بالعُود بين يدي ظالم سبَّ العلماء كلهم لأجْل أنْ يرضيه ويُحسِّن له قبيحه! وكيف يُعقَل منه أنْ يقبل منه وصْف إبراهيم هذا بتلك الأوصاف العليَّة مع هذه المرتبة الدنيَّة؟! إذ غايته أنَّه مغنٍّ عوَّاد لظالم، فإنَّ هذا كلَّه بتقدير صِحَّة ذلك من إبراهيم هذا، وإلا فقد مَرَّ أنَّ هذا الرجل إنما يعتَمِد كذب ابن طاهر الخبيث ويظنُّه حجَّة؛ لأنَّ هَواه أعماه وأصمه حتى أنَّه لم يُفرِّق بين القبيح والحسن، بل لا يألف إلا القبيح؛ لأنَّه الموافق للهوى، وقوله: ونقل الإمام المازري عن عبدالله بن الحكم أنَّه مكروه [جوابه: أنَّه مكروهٌ] (¬1) كراهةَ تحريم، فإنَّ المجتهدين الذين هم مشايخُ ابن الحكم كالشافعي كثيرًا ما يُطلِقون الكراهة يريدون بها كراهةَ التحريم. ¬
وقوله: وحُكِي عن الإمام عز الدين بن عبدالسلام أنَّه مباح، هذه الحكاية كذب صُراح، كيف وهو مُصرِّحٌ فِي كتبه بخلافه! فهو نظير الكذب السابق على أبي إسحاق، ولولا ابتُلِي الناس بهؤلاء الكذَّابين الذين لا مسكة لهم [ولا دِين] (¬1) لاتَّضَح الحق [وظهر الصدق، فإنَّ الحكمة الإلهيَّة اقتَضتْ ذلك ليظهر المحقُّ من المبطل، ويتحلَّى كلٌّ برداء صِدقه أو كَذِبِه] (¬2) يومَ العرض الأكبر يوم تبيضُّ وجوه وتسودُّ وجوه، عافانا الله من ذلك بمنِّه وكرمه آمين. (تَنْبِيه ثانٍ) استدلَّ أصحابُنا لتحريم الملاهي المذكورة بقوله - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ} (¬3) [ز1/ 33/أ] فسَّرَه ابنُ عباس والحسن بالملاهي (¬4)، وبقوله - تعالى -: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} (¬5) فسَّرَه مجاهد: بالغناءِ والمَزَامِير (¬6). وبالحديث الصحيح أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ليَكوننَّ فِي أمَّتي أقوام يستَحلُّون الخَزَّ والحرير والخَمْر والمعازِف))؛ رواه البخاري تعليقا، ووصَلَه الإسماعيلي وأبو نعيم فِي "المستخرج"، وأبو داود بأسانيد ¬
صحيحة (¬1)، والمَعَازِف آلات اللهو، وبهذا الذي تقرَّر من صحَّة الحديث من هذه الطُّرق الكثيرة اندَفَع قولُ ابن حزم: إنَّ الحديث منقطعٌ ولا حجَّة فيه، ولو فرض أنَّ غير البخاري لم يذكُرْه [لأنَّ] (¬2) ذكرَه له حجَّة؛ لما قد تقرَّر عند الأئمة أنَّ تعليقاته المجزوم بها صحيحة، على [أنَّ] بعضَ الحفَّاظ قال: طرقه المذكورة كلُّها صحيحة لا مَطعَن فيها، وقد صحَّحه جماعةٌ [آخَرون] من الأئمَّة الحفَّاظ، على أنَّ ابن حزم ذكَر فِي موضعٍ آخَر أنَّ قول العدل الراوي إذا روَى عمَّن أدرَكَه من العُدول فهو على اللقاء والسَّماع، سواء قال: أنبأنا، أو حدثنا، أو عن فلان، أو قال فلان، فكلُّ ذلك منه محمولٌ على السماع، ا. هـ. فتأمَّل كيف ناقضَ نفسه، فإنَّه لَمَّا ذكَر عن البخاري أنَّه روَى فِي صَحِيحه فِي الأشربة قولَه: قال هشام ابن عمَّار: حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر ... وساق سندَه إلى أبي عامر أو أبي مالك الأشعري أنَّ رسُولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لَيكُونن في أمَّتي أقوامٌ يستَحِلُّونَ الحر)) (¬3)؛ أي: بكسْر الحاء المهمَلة وفتْح الرَّاء مع التَّخفِيف؛ أي: الزنا، فإنَّ الحِرَ اسمٌ لفرج المرأة، ا. هـ. قال - أعني: ابن حزم -: هذا حديثٌ منقطعٌ غير متَّصل، فلا يستدلُّ به، بل حمَلَه تعصُّبه لمذهبه الفاسد الباطل فِي إباحة الأوتار وغيرها إلى أنَّ حكَم على هذا الحديث وكلِّ ما ورد فِي الملاهي بالوضع، وقد كذب فِي ذلك ¬
وافترى على الله وعلى نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وشريعته الغرَّاء، كيف وقد صرَّح الأئمَّة الحفَّاظ الذين هم أُمَناء الله على شريعة نبيِّهم - صلَّى الله عليه وسلَّم - بتصحيح كثيرٍ من الأحاديث الواردة فِي ذلك كما قدَّمته، ولقد قال بعض الأئمَّة الحفَّاظ: إنَّ ابن حزمٍ إنما صرَّح بذلك تقريرًا لمذهبه الفاسد فِي إباحة الملاهي، وليس كما زعَم وافترى فقد صحَّح ذلك الحديثَ جماعةٌ كثيرون [ز1/ 33/ب] من الأئمَّة الحفَّاظ، ووقَعَ من حديث عَشرةٍ من أصحاب هشام عنه، بل ولم ينفَرِد به كلٌّ من هشام وصدقة وابن جابر؛ أي: فالحديث مشهورٌ عن غيرِ رُواة البخاري أيضًا، وبهذا يتَّضِح لك بُطلان كلامِ ابن حزمٍ، وأنَّ تعصُّبه لمذهبه الباطل أوقَعَه فِي المجازَفة والاستِهتار حتى حكَم على الأحاديث الصحيحة من غير شكٍّ ولا مرية بأنها موضوعةٌ، وقد كذب وافترى؛ ومن ثَمَّ قال الأئمَّة فِي الحطِّ عليه: إنَّ له مجازفات كثيرة، وأمورًا شنيعة نشَأتْ من غِلطه وجُموده على تلك الظواهر، ومن ثَمَّ قال المحقِّقون: إنَّه لا يُقام له وزنٌ، ولا يُنظَر لكلامه ولا يُعوَّل على خِلافه؛ أي: فإنَّه ليس مراعيًا للأدلَّة، بل لما رآه هَواه وغلب عليه من عدم تحرِّيه وتَقواه، ومُبالَغته فِي سَبِّ العلماء وثَلبهم بما أوجَبَ الخزي فِي آخِرته ودُنياه، أعاذنا الله من مثل هذه الأحوال، وبأنها آلةُ شرَبَةِ الخُمور فتَدعُو لشُربِها، وفيه تشبُّه بأهلها، وهو حَرام؛ ولذلك لو رتَّب جماعةٌ مجلسًا وأحضَرُوا آلة الشُّرب وأقداحه، وصبُّوا فيه السكنجبين (¬1) ونصبوا ساقيًا يَدُورُ عليهم ويسقيهم، ويجيبُ بعضهم بعضًا بكلماتهم المعتادة بينهم حرم عليهم ذلك؛ لما فيه من التشبُّه بأهل المعصية، وبهذا مع ما مرَّ من الإجماع ¬
على تحريم تلك الآلات يندَفِع قول الغزالي: القياس تحليل العُود وسائر الملاهي، ولكنْ ورد ما يقتضي التحريم، ا. هـ. ووجْه اندِفاعِه أنَّ ما فيها من المعاني الموجِبة للحُرمة مع صِحَّة الحديث بِحُرمتها وقِيام الإجماع عليها يُلغِي ما قالَه من القياس لو فُرِضت صحَّته، فكيف وهو لم يصحَّ؟! وإنما القياس فيها الحرمة لما عُلِمَ واستقرَّ فِي الشرع من أنَّ وسائل المعاصي مَعاصٍ مثلها، وهذه الآلات كذلك كما تقرَّر، وأصلُ هذا قول إمامِه فِي بعض آلات الملاهي: القياس تحليلُها، فإنْ صحَّ الخبر قُلنا بتحريمه وإلا توقَّفنا، قال بعض شراح "المنهاج": لم يصحَّ، وليس كما زعَم، بل صحَّ الخبر من طُرُقٍ عديدةٍ لا مَطعَن فيها كما سبق. ثم رأيتُ الغَزالي ذكر ما يدفَع ما مرَّ عنه؛ فإنَّه قال فِي "الإحياء" (¬1): والمنع من الأوتار كلِّها لثلاث علل: ¬
إحداها: أنها تدعو إلى شُرب الخَمْرِ فإنَّ اللذَّة الحاصلة بها تدعو [لذلك] (¬1) [ز1/ 34/أ]؛ ولهذا حرم شرب قليله الذي يُقطَع بعدَم إسكاره؛ لأنَّه يجرُّ لكثيره. الثانية: أنها فِي قريب العهد بشُربه تُذكِّره [محاسنَ] (¬2) الشُّرب، والذكر سببُ انبِعاث الفُسوق، وانبعاث الفُسوق إذا قَوِيَ سببٌ للإقدام. والثالثة: أنَّ [الاجتماع] (¬3) على الأوتار لَمَّا صار من عادة أهل الفسق منع من التشبُّه بهم؛ إذ ((مَنْ تشَبَّه بقومٍ فهو مِنهُمْ)) (¬4). ¬
(تَنْبِيه ثالث) زعَم ابن حزمٍ أنَّه لم يَصِحَّ فِي تحريم العُود حديث، قال: وقد سمعه ابن عمر وابن جعفر، ا. هـ، وابن حزمٍ هذا رجلٌ ظاهري لا يُعتَدُّ بخلافه، ولا يُعوَّل عليه كما صرَّح به الأئمَّة، وقوله: لم يَصِحَّ فِي تحريم العُود حديثٌ ... مبنيٌّ على ما سبق عنه قريبًا فِي حديث البخاري، وقد علم أنَّه حديث صحيح عند أئمَّة الحديث الذين عليهم المعوَّل فِي القديم والحديث، وزَعْمُه أنَّ هذَيْن الإمامين سَمِعَاه من تهوُّره ومُجازَفته؛ ومن ثَمَّ قال الأئمَّة فِي الرد عليه: لم يثبت ما زعَمَه عنهما، وحاشا ابن عمر من ذلك مع شدَّة ورعه وتحرِّيه واتِّباعه وبُعده من اللهو، قالوا أيضًا: وقوله: لم يصحَّ فيه حديثٌ، جمودٌ منه على ظاهريَّته، وفي عُموم الأحاديث الناصَّة على ذمِّ البِدَع والمُحدَثات وإنكارها ما يدلُّ على تحريمه دلالةً ظاهرة لا مَدفَع لها، وإذا تقرَّر لك ما في هذا التَّنْبِيه واللذَيْن قبله مع ما مرَّ فِي مبحث الرَّقص، علمتَ به بُطلان ما نقَلَه بعضُ مَن لا وثوقَ به ولا تعويلَ عليه عن الشيخ عزِّ الدين ابن عبدالسلام أنَّه سُئِلَ عن الآلات كلها فقال: مُباح، قال ابن القمَّاح: يريد أنَّه لم يردْ دليلٌ صحيحٌ من السُّنَّة على تحريمه فسمعه الشيخ فقال: لا أردت أنَّ ذلك مباح، ا. هـ.
وهذا كلُّه كذبٌ مصنوع وباطلٌ موضوع، ومَعاذ الله أنَّ سُلطان العلماء يُبِيحُ ما أجمعَ العلماء على تحريمه، ومَن توهَّم ذلك فيه لم يثقْ بعدُ بكلام عالمٍ قطُّ؛ لأنَّ مثلَ هذا الحبر إذا صرَّح فِي كتُبِه بِحُرمة تلك الآلات كلها وكذب عليه بذلك، واعتمد هذا الكذب مَن لا فهْم له بل ولا دِين، وأقرَّ هؤلاء الكَذَبة على كذبهم - زالت الثقة بالعلماء ومُؤلَّفاتهم، فتعيَّن علينا أنْ نبالغ فِي الردِّ على هؤلاء الذين لا خَلاقَ لهم ولا دِين بِحَجْزِهم عن قَبِيح الافتراء على العُلَماء العامِلين والأئمَّة المحقِّقين، وليت هؤلاء الأشقياء كذَبوا على مَن ليس له تصنيفٌ بين أيدي الناس يرجعون [ز1/ 34/ب] إليه، وأمَّا هذا الإمام فتصانيفه مشهورةٌ منشورة، فهي تكذبهم وتُسفِّه أحلامهم، ومن العجب ما نقَلَه عن ابن القماح أنَّه لم [يردْ] (¬1) دليلٌ صحيح على تحريم ذلك، وهذا باطل، كيف ومرَّ فيه حديث البخاري، ولكنَّه تبع ابن حزم، وقد مرَّت المبالغة فِي الرد عليه، وأنَّ الخبر صحيح عند الحفَّاظ، وأنَّه مُصرِّح تصريحًا لا يقبَلُ تأويلاً بِحُرمة الآلات كلها كما مرَّ فِي التَّنْبِيه مع الرد عليه على مَن نازَع فيه، ونظيره ما نُقِلَ عن التاج الفزاري أنَّه كان يحضر غيرَ مرَّة السَّماع بالدُّفِّ والشَّبَّابَة، وبفرض صحَّة ذلك عنه فالدُّفُّ حلالٌ وكذا الشَّبَّابَة عند بعض العلماء، فلعلَّه ممَّن يبيحها، وهو بعيدٌ، ومَن استدلَّ على حلِّ السَّماع المحرم بأنَّ معتقدًا كان إذا سمع سماعًا اعتراه حال قام منتصبًا زمانًا طويلاً كأصحِّ الرجال [فلم يصب] (¬2)، ومن أين ذلك للحاكي أنَّه سماع محرَّم؟ لأنَّ شأنَ هؤلاء المنتصِرين لحلِّ ما حرَّم الله على لسان نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ووارثيه أنهم يكتَفُون بمجرَّد حِكايةٍ يجدونها فِي ¬
كتابٍ من غير بحثٍ منهم عمَّن رَواها، ولا عن مَدلولها ومَعناها، لما أنَّ حبَّ الهوى أعْماهُم، وعَنْ طريق الهدى أضلَّهم وأغْواهم. ونظيرُ ما مرَّ عن ابن عبدالسلام من الكَذِبِ والتقوُّل عليه ما نُقِلَ عن تلميذه الإمام المجتهد ابن دقيق العيد أنَّه حضَر السماع بالدُّفِّ والشَّبَّابَة، وكذا جماعة من الفقهاء من حِكاياتٍ كلها لا يُعوَّل عليها ولا يلتفتُ إليها، وبفرض صحَّة ذلك فهو فِي أمرٍ مُختَلَف فيه، وقد مرَّ فِي صحَّته عن العلماء فيه ما فيه مَقنَعٌ لِمَن رُزِقَ أدنى نوعٍ من هداية، وإنما الطامَّة اعتقاد هؤلاء حلَّ الأوتار جميعها، وأنَّه لم يَرِدْ فيها حديث صحيح افتراءً وكذبًا على الله ورسوله؛ قال - تعالى -: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ ... } الآية (¬1)، ولا منكر أقبح ممَّن يريد أنْ يُحلِّل ما أجمع العلماء على تحريمه، ويوقع العامَّة وغيرهم فِي العمل به وسَماعه، غافلاً عمَّا يترتَّب عليه من الإثم والعِقاب، عافانا الله من ذلك بمنِّه وكرمه، آمين. ومن العجب أنَّ صاحب ذلك الكتاب سرد عن كثيرين أنهم حضَرُوا السَّماع على حسَب تقوُّله وتهوُّره وكأنَّه لم يطَّلِع على كلام القرطبي وغيره السابق، ولا على كلام الأئمَّة عنهم ولا فهم محلَّ الخلاف من محلِّ الوفاق، وإنما يدلِّس ويُلبِّس [ز1/ 35/أ] ليروج خُرافاته ويُظهِر سَقطاته، ومَن الذي يُحرِّم السماع مُطلقًا حتى يُعرِّض بأنَّه حَرام، وإنما المنكر ما يَزعُمونه من حلِّه بالآلات المحرَّمة بالإجماع، وكلُّ ما حكاه عن أولئك الأئمَّة إنما هو فِي سَماعٍ اختُلِف فيه، كما مَرَّ بيان ذلك واضحًا مبسوطًا، فعليك بتحريره ¬
ودعْ تلك الحكايات، وما فيها من الكذب والتقوُّلات، إنْ أردت السلامة من الحسرة والندامة، لا سيَّما وقت العرض يوم القيامة. (تَنْبِيه رابع) إنما فسَّرت الصَّنْج فِي الترجمة بذي الأوتار لأنَّه الذي لا خلافَ فِي تحريمه، بخِلاف الصَّنْج الذي هو دَوائر يضرب بواحدة على الأخرى فإنَّ فيه خلافًا [مرَّ] بسطُه، وإطلاق الصَّنْج على الأمرين ذكَرَه الجوهريُّ وغيره؛ حيث قالوا: الصَّنْج هو الذي يُتَّخذ من صفرٍ يُضرَب إحداهما بالأخرى مختص بالعرب، وذو الأوتار مختصٌّ بالعجم وهما مُعرَّبان، وقال ابن معنٍ الجزري فِي "التنقيب على المهذب" قوله: ويحرم استعمال الآلات التي تطرب من غير غناء؛ كالعُود والطُّنْبُور [والمعزفة، والصِّلِّيل، والمِزْمَار، أمَّا العُود والطُّنْبُور] (¬1) فقد فسَّرهما الشيخ، والمعزفة أصوات القيان إذا كانت مع العُود وإلا فلا يُقال ذلك، وقد قِيل: كلُّ ذي وترٍ مِعزاف، والصِّلِّيل بكسر الصاد وتشديد اللام المكسورة، وهو الصَّنْج، واشتقاقه من الصلول وهو صوت الحديد إذا وقَع بعضه على بعض، وفي نسخ "المُهَذَّبِ" مكان الصليل (الطبل) وليس بشيءٍ، بل هو غلط وتصحيف، ا. هـ. وفي المحكم: صلَّ اللجام امتدَّ صوتُه، ومصلصل مصوت. (تَنْبِيه خامس) الطُّنْبُور بضمِّ الطاء معروفٌ [وفي كتب اللغة: الطُّنْبُور العُود] (¬2)، والمشهور فِي العُرف وعند أهل الصِّناعة أنَّه غيره، وكأنَّ كلَّ واحدٍ من العُود والطُّنْبُور وغيرهما اسمُ جنسٍ تحته أنواعٌ، وقد يشمَل اسم العُود سائر الأوتار، انظُر قول العمراني وخلائق من الأصحاب: ¬
الأصوات الملهية ثلاثة أضرب: ضَرْب محرم وهي التي تطرب من غير غناء؛ كالعيدان، والطنابير، والطبول والمَزَامِير، والمَعَازِف، والنايات، والأكبار، والرباب وما أشبهها، ا. هـ. والمعازف جمع معزفة، قيل: وهي أصوات القَيْنَات إذا كانت مع العُود وإلا فلا يُقال لها ذلك، وقيل هي كلُّ ذي وتَر. [ز1/ 35/ب] (تَنْبِيه سادس) إذا تأمَّلت ما مرَّ فِي المقدمة ممَّا يترتَّب على سامع الغناء، والمَزَامِير، والمَعَازِف وهي آلات الملاهي والأوتار، رجاء لك أنْ تُوفَّق إلى العمل بتلك الأحاديث، وأنْ تنزَجِر عن سماع تلك السفسافات، وتتوجَّه إلى الله بقِيامك فيما أمرك فيه فِي سائر الحالات، فمن تلك الأحاديث قولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إيَّاكُمْ واستماع المَعازف والغِناء؛ فإنهما يُنبِتان النِّفاق في القَلب كما يُنبِت الماءُ البقلَ)) (¬1)، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الغناء واللهو يُنبِتان النِّفاق في القَلب كما يُنبِت الماءُ العُشبَ، والذي نفسي بيَدِه، إنَّ القرآن والذِّكر ليُنبِتان الإيمانَ في القلب كما يُنبِت الماءُ العُشْب)) (¬2)، فتأمَّل ذلك مع ما مر من الأحاديث، وأقوال العلماء، وأعرض عمَّن أدَّت بهم مجازفته إلى أنْ أحلَّ سماع الآلات، وأوهم العامة أن فِي ذلك مكاشفات ومنازلات، كلا والله ليس فيه إلا النقصان، وغاية المقت والخسران، ولسنا نحرِّم مطلق السماع، ولا نعتقد أنَّ ما تفعله من ذلك كلِّه سفساف وضَياع، بل منهم العارفون وهم حزب الله {أَلاَ إِنَّ ¬
حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ} (¬1)، وما جاء عنهم أكثره لم يصحَّ، وما صحَّ عنهم سالِمٌ من المحرَّمات - بحمد الله تعالى. (تَنْبِيه سابع) قِيلَ: أوَّل مَن وضَع العُود مالك بن آدم - صلَّى الله على نبيِّنا وعليه وعلى سائر الأنبياء وسلَّم - وذلك أنَّه مات له ولدٌ فصَلبَه فِي شجرةٍ وجلس تحتَه يُراقِبه حتى تناثَر لحمُه ولم يبقَ إلا العظم والعُروق، فعرف أنها ستَفنَى فاتَّخذه على مثال وركه ورجله، وجعَل له أوتارًا نظيرَ عُروق الرجل الموصلة للورك، ثم ضَرَبَ عليها فصوَّتت صوتًا حسنًا فعكَف على ضربها وسماعها. وقيل: أوَّل مَن وضعه حكماء الهند، وضَعُوه على طباع الإنسان؛ ومن ثَمَّ حُكِي عن الفارابي إمام الموسيقا أنَّه حضَر مجلسًا حافلاً لبعض الملوك أو الرُّؤَساء، فأخرج آلة صغيرة من داخل ثوبه، وضرب عليها فضحكوا إلى أنْ خُشِي عليهم الهلاك، ثم غيَّر الضرب فبكوا كذلك، ثم غيَّره فنامُوا عن آخرهم، فتركهم وذهب عنهم. * * * * * ¬
القسم الرابع عشر: في بيان أن ما مر صغيرة أو كبيرة
القسم الرابع عشر: في بيان أنَّ ما مرَّ صغيرة أو كبيرة قد بسَطتُ ذلك فِي كتابي "الزَّواجر عن اقترافِ الكبائر"، وهو كتابٌ حافلٌ مُستوعِب لكلِّ ما قِيل: إنَّه [ز1/ 36/أ] كبيرة، وما ورد فيه من السُّنَّة وكلام الأئمَّة فقلت فيه: (الكبيرة الثامنة والتاسعة والثلاثون بعد الأربعمائة، والكبيرة الموفية للأربعين، والحادية، والثانية، والثالثة والأربعون بعد الأربعمائة: ضرب وتر واستماعه، وزمر بمزمار واستماعه، وضرب بكوبة واستماعه) قال الله - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ ... } (¬1) الآية فسَّر ابن عباس والحسن لهو الحديث بالملاهي، وسيأتي بيانُها (¬2). وقالَ - تعالَى -: {وَاسْتَفْزِزْ مَن اسْتَطَعْت مِنْهُمْ بصوتك ... } (¬3) فسَّرَهُ مجاهدٌ بالغناء والمزامير (¬4)، وسيأتي حديث أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الله يَغفِرُ لكلِّ مذنبٍ إلا صاحب عَرطَبة - أو عَرطابة - أو كُوبة - والأولى العود)) (¬5). ¬
وعَدُّ هذه الست من الكبائر تبعتُ فيه الأكثَرين في بعضِها وقياسة الباقي، بل في "الشامل" - كما يأتي - التصريحُ بذلك في الجملة، قال الإمام: قال شيخي أبو محمد: سَماع الأوتار مرَّة واحدة لا تُوجِب ردَّ الشهادة، وإنما تردُّ بالإصرار عليها، وقطع العراقيُّون ومُعظَم الأصحاب بأنَّه من الكبائر، هذا لفظُه وتابَعَه عليه الغزالي، قالا: وما ذكَرْناه من سَماع الأوتار مَفروضٌ فيما إذا لم يكن الإقدام عليها مرَّة تُشعِر بالانحلال، وإلا فالمرَّة الواحدة تُرَدُّ بها الشهادةُ، وطرَد الإمام ذلك في كلِّ ما جانَسَه، وتوقَّف ابن أبي الدم فيما نسَبَه الإمام للعِراقيِّين، وقال: لم أرَ أحدًا منهم صرَّح به، بل جزَم الماوردي - وهو منهم - بنَقِيض ما حَكاه الإمام، فقال: إذا قُلنا بتحريم الأغاني والملاهي فهي من الصَّغائر دُون الكبائر مفتقرٌ إلى الاستِغفار ولا تُرَدُّ به الشهادة إلا بالإصرار، ومتى قلنا بكَراهة شيءٍ منها فهي من الخلاعة لا مفتقر إلى الاستغفار ولا تُرَدُّ الشهادة بها إلا مع الإكثار، ا. هـ. وتابَعَه في "المهذب"، وكذلك القاضي الحسين فإنَّه قال في "تعليقه": قال بعض أصحابنا: لو جلس على الديباج عند عقد النكاح لم ينعَقِد؛ لأنَّه مخلٌّ بالشَّهادة فيه كالأداء، والذي صارَ إليه المحصلون أنَّ هذا من الصَّغائر، وما يندر منه لا يوجب الفسق، وتابَعَه الفوراني في "الإبانة"، وردَّ بعضهم إنكارَ ابن أبي الدم على الإمام ما ذكر بأنَّ مجليًا صرَّح في [ذخائره] (¬1) بما يُوافِقه، فقال: إنَّ كون ذلك من الكبائر هو ظاهِرُ كلام "الشامل" حيث قال: مَن استَمَع إلى شيءٍ من هذه المحرَّمات فسق ورُدَّتْ شهادته، ولم يشترط تكرُّر السَّماع، ا. هـ (¬2). ¬
والحاصل: أنَّ المُعتَمَد عندنا من أنَّ ذلك من الصَّغائر حيث لم يحصلْ إدمان عليه حتى غلبت مَعاصِيه طاعاته، وإلا التحَقَ بالكبائر فِي إبطال العَدالة وردِّ الشَّهادة. (تَنْبِيه) وقَع لصاحب هذا الكتاب أنَّه قال: مَن ارتكب أمرًا فيه خلافٌ لا يُعزَّر عليه؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ادرؤُوا الحدُودَ بِالشُّبُهات)) (¬1)، وهذا من جملة سَقطاته؛ للاتِّفاق على أنَّه لا عبرة بعقيدة الخصم، وإنما العِبرة بعقيدة الحاكم الذي رُفِعَ إليه الخصم، فيفعَلُ فيه الحاكم باعتِقاد نفسه دُون غيره، ولو رأينا إلى هذه السَّقطة لم يجزْ أنْ يُرفَع خصمٌ إلى قاضٍ يخالف عقيدته، وهذا بدعٌ خارق للإجماع، لا يصدر مثلُه إلا ممَّن لا يُفرِّق بين الحكم بعدَ الرَّفع إلى الحكام وقبلَه؛ وبيان ذلك أنَّ مَن ارتكب مُختَلَفًا فيه فإنْ قلَّد القائل بحلِّه وكان ذلك القائل ممَّن يجوزُ تقليده فلا حرج عليه عند الله - تعالى - وهذا الذي قال فيه العلماء: لا يُعذِّب الله الشخصَ بمسألةٍ عَمِلَ بها على قول عالم، وأمَّا بالنسبة للأحكام الظاهرة فمتى رُفِعَ لحاكمٍ فعل معه باعتقاده ولم ينظر لتقليده مَن يُجوِّز ذلك ولا لعدمه إقامَة لنظام [السياسات] (¬2) الشرعيَّة، وإلاَّ لكان كلُّ مَن ادَّعى عليه بشيءٍ يَزعُم أنَّه قلَّد فيه مَن لا يلزمه به، وتتعطَّل الأحكام وتستحلُّ الأموال، ومن ثَمَّ قالَ ¬
الشَّافِعِيُّ - رضِي الله عنه - فِي حنفيٍّ شرب نبيذًا يعتَقِد حلَّه ثم رفع إليه: أحدُّه وأقبَلُ شهادته، قال أصحابُه: إنما حدَّه لأنَّ العبرة بعقيدة الحاكم لا الخصم، وإنما قَبِلَ شهادته لأنَّه أقدَمَ على جائزٍ فِي اعتقاده، وهذا هو الصَّواب فِي هذا البحث فاحفَظْه لئلاَّ تزلَّ فيه قدمُك كما زلَّ فيه قدم صاحب ذلك الكتاب، فإنَّه استدلَّ على عدم التعزير بالحديث السابق، وبما نقَلَه عن الشَّافِعِي: إنَّ الله لا يُعذِّب على فعلٍ اختَلَف العلماء فيه، فالتبس عليه الأمر الأخروي بالأمر الدنيوي، وقد علمتَ ما بينهما من الفرق الواضح. ثم ظاهِرُ كلامه أنَّ مجرَّد كون الفعل مختلفًا فيه يمنع [من] العقاب عليه، وهو خِلافُ الإجماع كما قالوا الأئمَّة، وإنما شرْط ذلك أنْ يعلم القائل بذلك، وأنَّه من المجتهدين، وأنَّه من الذين يَجُوزُ تقليدهم، ثم بعد ذلك كلِّه يُقلِّده تقليدًا صحيحًا، بألاَّ يترتَّب عليه تلفيق التقليد، وإلا لم يجزِ اتِّفاقًا، كما إذا قلَّد الشَّافِعِيُ مالكًا فِي (¬1) نجاسة الكلب، ولم يمسحْ رأسه كله، أو لم يُوالِ فِي وضوئه مثلاً، كما هو مقرَّر فِي الأصول، فاستَفِدْ ذلك فإنَّ كثيرين يزلُّون فيه؛ اعتقادًا منهم أنَّ مجرَّد الاختلاف فِي الشيء [ز1/ 37/أ] يمنَع العقاب عليه، وليس كذلك كما علمت: وإنما قُلنا: يجوز تقليده؛ لأنَّ كثيرين من المجتهِدين الخارجين عن الأئمَّة الأربعة لا يجوزُ تقليدهم كما هو مُقرَّر فِي كتب الفقه والأصول، ألا ترى إلى ما جاء عن عطاء فِي إباحة [إعارة] الجواري للوطء، وعن آخَرين فِي تحليل المطلقة ثلاثًا، وَعَن الأعمش فِي الأكْل فِي رمضان بعد الفجر وقبل طُلوع الشمس، ونحو ذلك من ¬
مذاهب المجتهِدين الشاذَّة التي كاد الإجماع أنْ ينعقد على خِلافها، فهذه كلُّها لا يجوز تقليد أربابها، ومَن قلَّدهم فهو آثِمٌ فاسق يحدُّ ويُعزَّر إجماعًا بموجب فعله. وبهذا يتَّضح لك خطَأُ ذلك الرَّجُلِ فِي إيهامه أنَّه يجوزُ تقليدُ غيرِ الأئمَّة الأربعة مطلقًا، وما درى المسكين أنَّ لذلك شروطًا كثيرةً أشَرتُ إليها بينه وبينها خرطُ القتاد (¬1)، وليس مجرَّد الاختِلاف مُسوِّغًا للهُجوم على الفعل، بل لا بُدَّ من جميع شُروط التقليد كما هو مقرَّر ومحرَّر فِي كتب الأصول، ولكنَّ الجهل بذلك يُوجِب الوُقوع فِي أوعَرِ المسالك، وقد ذكَر الأئمَّة أنَّه لا يجوزُ لمفتٍ ولا لقاضٍ تقليدُ غير الأئمَّة الأربعة، قالوا: لا لنقصهم؛ لأنَّ الصحابة وتابِعِيهم ساداتُ الأمَّة، وإنما هو لارتفاع الثقة بشُروط مَذاهبهم وتحقيقاتها وصُورها، فإنها أقوالٌ فِي جُزئيَّات مُتعدِّدة، ولم يعلمْ لهم قواعدُ يُرجَع إليها، ولا شروطٌ وتقييداتٌ يُعوَّل عليها، وارتفعت الثِّقة بها لأنَّها لم تُحرَّر وتُدوَّن بخلاف المذاهب الأربعة؛ فإنها حُرِّرتْ ودُوِّنت وتعاقَبتها الآراء، [ومَحَّصَتْها] كَوامِلُ العقول حتى نقَّحتها وحرَّرتها، ولم يقلْ منها مسألة إلا وعلم مَغزاها ودَليلها ومَعناها، فوثقت بها النُّفوس، واطمأنَّت إليها [ز1/ 37/ب] القلوب، بخِلاف بقيَّة المذاهب الخارجة عنها، ومن ثَمَّ كان الشَّافِعِيُّ يقول: الليث أفقَهُ من مالك لكن ضيَّعَه أصحابُه؛ أي: بعدَم تدوين مذهبه وتحرير مقاصده وقواعده، واعلم أنَّ الأئمَّة صرَّحوا بأنَّ الظاهريَّة لا يعتدُّ بخلافهم، ولا يجوز تقليد أحدٍ منهم؛ لأنهم سُلِبوا العقول حتى أنكَرُوا ¬
القياس الجلي، وابنُ حزم من أقبحهم فِي ذلك، فلا يجوزُ لأحدٍ أنْ ينظُر لما قاله فِي الآلات، خِلافًا لما وهم فيه صاحبُ ذلك الكتاب فإنَّ الظاهر أنَّه يشير إلى أنَّه إذا جاز تقليدُ غير الأئمَّة الأربعة جاز تقليدُ مثل ابن حزم، وهذه زلَّة قبيحة، يتعيَّن على كلِّ مَن خطرت له التوبةُ منها؛ لما علمت أنَّ العلماء لا يُقِيمُون لابن حزم وأصحابه وزنًا، وأنَّه لا يجوزُ لأحدٍ تقليده ولا الإصغاء لما يقولُه أصلاً ورأسًا.
الباب الثاني: في أقسام اللهو المحرم وغيره
الباب الثاني: فِي أقسام اللهو المحرم وغيره اعلمْ أنَّ أصل هذا الباب قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فِي الحديث الصحيح: ((كُلُّ شيء يَلهُو بهِ ابن آدم باطِلٌ إلا رَميَه بقَوْسِه، وتأدِيبَهُ فرَسَه، مُلاعَبَته امرأته)) (¬1)؛ وذلك لأنَّه أفاد أنَّ كلَّ ما يَتلهَّى به الإنسان ممَّا لا يفيد فِي العاجل والآجل فائدة دينيَّة فهو باطل، والاعتراض فيه متعيِّن إلا هذه الأمور الثلاثة، فإنَّه وإنْ فعلها على أنَّه يتلهَّى بها وليستأنس بها وينشط، فإنها حقٌّ؛ لاتِّصالها بما قد يفيد، فإنَّ الرمي بالقوس وتأديب الفرس فيهما عونٌ على القِتال، ومُلاعبة المرأة قد تُفضِي إلى ما يكون عنه ولد يُوحِّد الله ويعبده؛ فلهذا كانت هذه الثلاث من الحق وما عداها من الباطل، وحينئذٍ يتَّضح بذلك ما يأتي من التحريم في الأقسام الآتية. وقال الخطابيُّ فِي الكلام على نحو هذا الحديث: وفي هذا بيانٌ أنَّ جميع أنواع اللهو محظورةٌ وإنما استثنى - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذه الخِلال من جُملة ما حرم منها؛ لأنَّ كلَّ واحدةٍ منها إذا تأمَّلتها وجدتها مُعِينة على حقٍّ أو ذريعة إليه، ويدخُل فِي معناها ما كان من المثاقفة بالسلاح والشدِّ على الأقدام ونحوهما ممَّا يَرتاضُ الإنسان به ويتقوَّى به على مُجالَدة العدوِّ، لا كما فِي سائر ما يتلهَّى به البطَّالون من أنواع اللهو؛ كالنرد، والشِّطرَنج، واللعب بالحمام [ز1/ 38/أ] وسائر ضُروب [اللهو] ممَّا لا يُستعان به في حقٍّ [فمحظورٌ] كله، ا. هـ. ¬
القسم الأول: اللعب بالنرد
القسم الأول: اللعب بالنرد (¬1) وهو حَرامٌ كما نصَّ عليه الشَّافِعِي فِي "الأم" وجرى عليه أكثَرُ أصحابه، واعتمَدَه الشيخان وغيرهما، وعبارة الشَّافِعِي فِي "الأم": وأكرَهُ - من جِهة الخبَر - اللعبَ [بالنرد] أكثر ممَّا أكره اللعب بشيءٍ من الملاهي، ولا أحبُّ اللعبَ بالشِّطرَنج، وهي أخفُّ حالاً من النَّرْدِ، انتهت (¬2). ومُرادُه كَراهة التحريم؛ إذ هو كثيرًا ما يُطلِق الكراهة ويريدُ بها التحريم؛ ولهذا قال فِي "البيان": المنصوص فِي "الأم" التحريمُ، وقيل: إنَّه مكروهٌ كراهةَ تنزيهٍ، وعليه أبو إسحاق المروزي، والإسفراييني، وحُكِي عن ابن [خير الله] (¬3) وإفتاء أبي الطيب، وغلط الأصحاب هذا الوجه وقالوا: إنَّه ليس بشيء؛ لمخالفته الأدلة الآتية؛ إذ هي صريحة فِي التحريم بل فِي كونه كبيرةً كما يأتي، والمنقول عن الشَّافِعِي وأكثر أصحابه، فبطل هذا القول، وإنما يُحكَى ليُبيَّن بُطلانُه وزيفُه، وأنَّه لا يُعوَّل عليه ولا يُنظَر إليه، وممَّا يُزيِّفه أيضًا نقلُ القُرطبي فِي "شرح مسلم" اتِّفاقَ العلماء على تحريم اللعب به، ونقَل الموفَّق الحنبلي فِي "مغنيه" الإجماعَ على تحريم اللعب به (¬4)، وأمَّا قول جمعٍ: إنَّ المنصوصَ عليه فِي "الأم" وغيرها الكراهة، فهو غلطٌ منهم إنْ أرادوا كراهة التنزيه؛ لما مرَّ أنَّ الشَّافِعِي - رضِي الله عنه - يُطلِق قوله: ¬
وأكره كذا، مريدًا به التحريم كثيرًا؛ ولهذا قال فِي "البيان" كما مرَّ: إنَّ المنصوص فِي "الأم" التحريم، وبه قال كثير أصحابنا، وقال الروياني فِي "الحلية": أكثر أصحابنا على التحريم وقالوا: إنَّه مذهب الشَّافِعِي. (تَنْبِيه) الدليل على تحريمه وتغليظ العُقوبة فيه خَبَرُ أحمد، ومسلم، وأبي دواد، وابن ماجه، وأبي عوانة، وابن حبَّان أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن لعب [بالنَّردَشير] (أي: بفتح الدال) فكأنَّما غمَس يدَهُ في لحمِ خِنزير ودَمِه)) (¬1). وخبر أبي داود وغيره، وصحَّحه ابن حبان، وقيل: فيه انقطاعٌ عَن أبِي مُوسى الأشْعريِّ عَن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((مَن لعِب بالنَّرْدِ فقد عصَى الله ورسُولَه)) (¬2). وخبر أحمد، وأبي يعلى، والبيهقي وغيرهم: ((مَثَلُ الذي يلعَبُ بالنَّرْدِ ثم يقومُ يصلِّي، مَثَلُ الذي يتوَضَّأُ بالقيحِ ودَمِ الخِنْزِير، ثم يقومُ فيُصلِّي)) (¬3)؛ أي: فلاَ تُقبَلُ له صلاة، كما صرَّحت به روايةٌ أخرى. وخبر أحمد: [ز1/ 38/ب] ((مَن لعبَ بالكِعاب فقدْ عصَى الله ورسولَه)) (¬4). ¬
وخبر البيهقي عن يحيى بن أبي كثيرٍ قال: ((مرَّ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على قومٍ يلعَبُون بالنَّرْدِ فقال: قلوبٌ لاهيةٌ، وأيدٍ عاملةٌ، وأَلسِنَةٌ لاغيةٌ)) (¬1). وخبر أحمد: ((إيَّاكم وهاتانِ الكعبتانِ الموسُومتانِ اللتانِ [تزجُرانِ زَجْرًا]، فإنَّها من المَيْسِر؛ ميسرُ العَجَمِ)) (¬2). وخبر الطبراني: ((اجتَنِبُوا هذه الكِعابَ الموسومة التي [يُزْجَرُ بها زَجْرًا]، فإنَّها من المَيْسِرِ)) (¬3). وخبَر الديلمي: ((إذا مَررتُمْ بهؤلاءِ الذين يلعَبون بهذه الأزلام، والشطرنج، والنرد، وما كان من هذه - أي: وما شابه ذلك من كلِّ لهوٍ محرَّم - فلا تُسلِّموا عليهم، وإنْ سلَّموا عليكم فلا تردُّوا عليهم)) (¬4). وفي روايةٍ تأتي في مبحث الشِّطرنج: ((إذا مرَرتُم بهؤلاء الذين يلعَبُون بهذه الأزلام النرد والشطرنج وما كان من اللهو فلا تُسلِّموا عليهم؛ فإنهم إذا اجتمعوا وأكبُّوا عليها جاءَهم الشيطان بجنوده فأحدَق بهم كلَّما ذهَب واحدٌ منهم يصرف بصَرَه عنها، لكَزَه الشيطان بجنوده، فلا يزالون يلعَبُون ¬
حتى يتفرَّقوا كالكلاب إذا اجتمعت على جِيفةٍ فأكلت منها حتى مَلأت بُطونها ثم تفرَّقت)) (¬1). وخبر ابن أبي الدنيا والبيهقي: ((اتَّقوا هذين الكعبين الموسومين اللذَيْن يزجران زجرًا، فإنهما من ميسر العجم)) (¬2). وخبَرُ أبي داود في "مراسيله": ((ثلاثٌ [من] الميسر: [القمار]، والضرب بالكِعاب، والصفير بالحمام)) (¬3)، وحِكمة تحريمه أنَّ فيه حرزًا وتخمينًا فيُؤدِّي إلى التخاصُم والفتن التي لا غاية لها، ففطم الناس عنه حذَرًا من الشُّرور التي تترتَّب عليه. (تَنْبِيه ثانٍ) اختلف أصْحابنا فِي اللعب بالنرد كبيرة أو صغيرة، وظاهر الأخبار المذكورة أنَّه كبيرةٌ، لا سيَّما الخبر الأوَّل، والخبر الذي فيه عدَم قبول الصلاة، وقد ذكَرتُ ذلك فِي "الزَّواجر عن اجتناب الكبائِر"، فقلت عقب ذكر تلك الأحاديث: عدُّ هذا هو ظاهِرُ هذه الأخبَارِ، لا سيَّما الخبر ¬
الثاني، والخبر الثالث؛ أنَّ التشبيه الذي فيهما يفيدُ وعيدًا شديدًا لو لم يكنْ منه إلا عدَم قبول الصَّلاة، وبذلك صرَّح في "البيان" نقلاً عن أكثر الأصحاب فقال: قال أكثر أصحابنا: يحرم اللعب بالنرد، وهو المنصوص في "الأم"، ويفسق به وتردُّ به الشهادة، اهـ (¬1). وسَبَقه إلى ذلك الماورديُّ فصرَّح به في "حاويه"، [وعبارته]: الصحيح الذي ذهَب إليه الأكثَرُون [ز1/ 39/أ] تحريمُ اللعب بالنرد، وأنَّه فسقٌ تردُّ به الشهادة، انتهت، وتبعه الروياني في "البحر" على عادته فقال بعد قول الشافعي في المختصر: وأكرَهُ اللعب بالنرد [للخبر؛ قال عامَّة أصحابنا: يكره اللعب بالنرد] (¬2) وتردُّ به الشهادة والكراهة للتحريم، وقال أبو إسحاق: هو كالشِّطرنج سواء وهذا غلطٌ، ا. هـ (¬3). ¬
وعبارة [تحريم] (¬1) الروياني: وقال بعض أصحابنا فإنْ فعل فسق وردت شَهادته، وعبارة المحاملي فِي "تجريده": مَن لعب به فسق ورُدَّتْ شَهادته، هذا قول عامَّة أصحابنا إلا أبا إسحاق قال: هو كالشِّطرَنج وليس بشيءٍ، والأوَّل هو المذهب، ا. هـ. وقال إمام الحرمين: الصحيح أنَّه من الكَبائر، [واعتمد] ذلك الأذرعيُّ فقال: مَن لعب بالنرد عالِمًا بما [جاء] فيه مستحضرًا له، فسق وردَّت شهادته فِي أيِّ بلد كان، لا من جهة ترْك المروءة بل لارتكاب النَّهي الشديد، ا. هـ. والذي جرَى عليه الرَّافِعِي وسبَقَه إليه الشيخ أبو محمَّد أنَّه صغيرة، وعبارة الرَّافِعِي: ما حكمنا بتحريمه كالنرد هل هو من الكبائر حتى ترد الشهادة بالمرَّة الواحدة منه، أو من الصغائر يتعيَّن فيه الإكثار؟ فيه وجهان: كلام الإمام يميلُ إلى ترجيح أوَّلهما، والأشبه الثاني، وهو المذكور فِي "التهذيب" وغيره، ا. هـ. واعتَمَده الأسنوي فقال: والصحيح ما قاله الشيخ أبو محمد، كذا رجَّحَه الرَّافِعِي فِي آخِر الفصل ثم أورد كلامه هذا، ثم قال: ورجَّحه الشرح الصغير لكن اعترض الإمام البلقيني ما رجَّحَه الرَّافِعِيُّ فقال: إنْ كان مورد التصحيح ما صحَّحه الأكثرون فقَد نقَل المحاملي فِي "التجريد" عن عامَّة الأصحاب مثلَ ما صحَّحه الإمام؛ أي: إنَّه كبيرة مطلقًا، وذكره الماوردي عن الأكثَرين أيضًا وقال: إنَّه الصحيح، وحينئذٍ فلا يستقيمُ قول الرَّافِعِي: إنَّه المذكور فِي "التهذيب" وغيره، وإنْ كان المراد الدليل فأين الدليل الذي استدلَّ به على مُدَّعاه، ا. هـ. ¬
وأشار بذلك إلى أنَّ القول بأنَّه صغيرةٌ مخالفٌ لما عليه الأكثرون، وهو ظاهر؛ لما مرَّ من النَّقل عنهم، ولما جاء فيه من السُّنَّة وهو ظاهرٌ أيضًا لما مرَّ من الوعيد الشديد فيه، وفصَّل بعضُهم فقال: ينظر إلى عادة البلد؛ فحيث استعظَمُوه رُدَّتْ [شهادته] بمرَّة واحدة منه [ز1/ 39/ب] وإلا فلا، وهذه التفرِقة ضعيفة كما قاله البلقيني، وعلى القول بأنَّه صغيرةٌ فمحلُّه حيث خَلا عن القمار وإلا فهو كبيرةٌ بلا نِزاع كما أشار إليه الزركشي، وهو واضحٌ. (تَنْبِيه ثالث) يُسمَّى نردشير بالشين المعجمة والراء نسبةً لأوَّل مُلوك الفرس؛ من حيث كونه أوَّل مَن وضَع له ذكره فِي "المهمات"، وقال القاضي البيضاوي فِي "شرح المصابيح": يُقال: وضَعَه سابور ابن أزدشير ثاني ملوك الساسان ولأجْله يُقال له: النردشير، وشبَّه رقعته بالأرض وقسمها أربعة أقسام تشبيهًا بالفصول الأربعة، وقال الماوردي: قيل: إنَّه على الفصول الاثني عشر، والكواكب السبعة؛ لأنَّ بيوته اثنا عشر كالبروج ونقطه من جانبي الفص سبع كالكواكب السبعة، فعدل به إلى تدبير الكواكب والبروج. (خاتمة): فِي بيان أنَّ اللهو المباح مأذونٌ فيه منه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنَّه فِي بعض الأحوال قد لا يُنافِي الكمال: عن ابن عبَّاس - رضِي الله عنهما - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((خيرُ لهوِ المؤمِن السباحةُ، وخيرُ لهوِ المرأة المِغزَل))؛ أخرجه ابن عدي (¬1). ¬
وعن جابر بن عبدالله وجابر بن عمير أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((كلُّ شيءٍ ليس من ذِكر الله لهوٌ ولعب، إلا ملاعبة الرَّجل امرأتَه، وتأدِيب الرَّجل فرسَه ... )) الحديث؛ رواه النسائي (¬1). وفي روايةٍ: ((اللهو في ثلاثٍ: [في] تأديب فرسك، ورميك بقوسك، ومُلاعبتك أهلَك)) (¬2). وعن المطَّلب بن عبدالله أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الهوا والعَبوا؛ فإنِّي أكرَهُ أنْ أرى في دِينكم غِلظة))؛ رواه البيهقي (¬3). ¬
وعن عائشة - رضي الله عنها وعن أبيها - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الأنصار فيهم غزل، فلو أرسَلتُم مَن يقولُ: أتيناكم أتيناكم، فحيَّانا وحيَّاكم))؛ رواه البيهقي (¬1). وعن جابرٍ أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أهديتُم الجارية - أي: زفَفتُموها إلى زوجها - فهلا بعَثْتُم معها مَن يغنيها يقول: أتيناكم أتيناكم، ¬
فحيونا [نحيِّيكم]، فإنَّ الأنصار قومٌ فيهم غزل))؛ رواه أحمد، وابن منيع وغيرهما (¬1). وعن عائشة - رضِي الله عنها - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((هل كان معكم من لهوٍ، فإنَّ الأنصار يحبون اللهو))؛ رواه الحاكم (¬2). وعن [زوج ابنة أبي لهب] (¬3) [ز1/ 40/أ] [قال]: دخَل علينا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين تزوَّجتُ ابنة أبي لهب فقال: ((هل من لهو؟))؛ رواه أحمد (¬4). وعن أبي أيُّوب - رضِي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((ما من شيءٍ تحضره الملائكة من اللهو إلا ثلاثة: الرجل مع امرأته، وإجراء الخيل، والنضال))؛ رواه الحاكم في "الكنى" (¬5). وعن عائشة - رضِي الله عنها - قالت: دخَل علينا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعِندى جاريتان من جَوارِى الأنصار تُغنِّيان بما تَقاوَلت به الأنصار يوم بُعاث وليستا بمغنِّيتين، فقال أبو بكر [الصِّدِّيق - رضي الله عنه -]: أبمزامير الشيطان في بيت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وذلك ¬
في يوم عيد، فقال: ((يا أبا بكرٍ، لكلِّ قوم عيدٌ، وهذا عيدُنا))؛ رواه البخاري ومسلم (¬1). وجاء عن عمر - رضي الله عنه - ((أنه كان إذا خلا في بيته ترنم بالبيت والبيتين))؛ ذكره المبرد في "كامله" في قصة، وذكره البيهقي في "المعرفة" عن عمر وغيره، ورواه المعافى النهرواني في كتاب "الجليس والأنيس" (¬2)، وابن منده في "المعرفة" في ترجمة أسلم الحاوي في قصة، وروى أبو القاسم الأصبهاني شيئًا من ذلك في قصة (¬3). ¬
(تنبيه) قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الهوا والعَبوا فإنِّي أكرَهُ أنْ أرى في دِينكم غِلظة)) (¬1)، فيه دليلٌ لطلب ترويح النفوس إذا [سَئِمتْ]، وجَلائها إذا صدأت باللهو واللعب المباح. ومن ثَمَّ جاء عن عليٍّ كرم الله وجهه: "القلب إذا [كره] عمي" (¬2). وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: "القلوب تملُّ كما تملُّ الأبدان، فاطلُبوا لها [طرائفَ] الحكمة" (¬3). وعن غيره: "روِّحوا هذه القُلوب؛ فإنها سريعة [الدثور])) (¬4). وعن عمر بن عبدالعزيز: "أنَّ ولده لَمَّا قال له: إنَّك لتَنام القائلة وذو الحاجة على بابك غير نائم! أجابَه بقوله: يا بنيَّ، إنَّ نفسي مطيَّتي، وإنْ حملت عليها في الطلب خسرتها)) (¬5). ¬
وعن ابن عباسٍ أنَّه كان إذا أكثر الكلام في القُرآن والسنن قال لِمَن عنده: ((احمضوا بنا - أي: نوصوا [بنا] في الشعر والأخبار)) (¬1)، وأصل ذلك أنَّ الإبل إذا أكثَرت الرعي في النبات الحلو أخرَجُوها إلى ما فيه حموضة؛ خَوفًا عليها من الهلاك. ورُوِيَ: إنَّ في صحيفةٍ لآل داود - صلَّى الله على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء وسلَّم -: "لا ينبغي للعاقل الكامل أنْ يخلي نفسَه من واحدةٍ من أربع: [ز1/ 40/ب] عمل لمعادٍ، أو صَلاح لمعاشٍ، أو فكر يَقِفُ به على ما يصلحه ممَّا يفسده، أو لذَّة في غير كرمٍ يستعينُ بها على الحالات الثلاث)) (¬2). وروى الخطيب عن علي: "رَوِّحوا القُلُوب وابتغوا لها طَرائف الحكمة؛ فإنها تَمَلُّ كما تَمَلُّ الأبدان" (¬3). وقال غيرُه: "رَوِّحوا القلوب تَعِي الذِّكرَ" (¬4)، وقال الزهري: "كان رجلٌ يُجالِس أصحابَ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويُذاكِرهم، فإذا كثُر ¬
وثقُل عليه الحديثُ قال: "إنَّ الأذُن مجاجة، ألا فهاتوا من أشعاركم وحَدِيثكم" (¬1). ¬
القسم [الثاني]: اللعب بالشطرنج
القسم [الثاني]: اللعب بالشِّطرَنج هو حَرامٌ عند أكثر العلماء، وكذا عندنا، أنَّ لعبَه مع مَن يعتقدُ تحريمه أو اقترن به قمارٌ أو إخراجُ صلاة عن وقتها أو سباب أو نحو ذلك من الفَواحش التي تغلب على أهله، وإلا كره كراهةَ تنزيهٍ. (تَنْبِيه) الدليل على تحريمه مطلقًا أو بقيدٍ ممَّا ذكرناه الأحاديثُ الكثيرةُ فيه. أخرَجَ أبو بكرٍ الأثرم في "جامعه" بسنده عن واثلة بن الأسقع عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((إنَّ لله - عزَّ وجلَّ - في كلِّ يوم ثلاثمائةً وستين نظرةً إلى خلقه، ليس لصاحب الشاه [فيها نصيب))، وفسَّر صاحب الشاه] بلاعب الشطرنج؛ لأنَّه يقول: شاه، وأخرجه الديلمي بلفظ: ((إنَّ لله - تعالى - في كلِّ يومٍ وليلة ثلاثمائةً وستين نظرة لا ينظُر فيها إلى صاحب الشاه))؛ يعني: الشطرنج (¬1). وأخرج الخرائطي في "مساوئ الأخلاق" بلفظ: ((إنَّ لله - تبارك وتعالى - لوحًا ينظُر فيه في كلِّ يومٍ وليلة ثلاثمائةً وستين نظرة يرحَمُ بها عباده، ليس لأهل الشاه فيها نصيبٌ)) (¬2). وأخرج أبو بكرٍ الآجري بسنده عن أبي هريرة أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا مرَرتُم بهؤلاء الذين يلعَبُون بهذه الأزلام - النرد والشطرنج وما كان من اللهو - فلا تُسلِّموا عليهم؛ فإنهم إذا اجتمَعُوا وأكبُّوا عليها جاءَهُم الشيطان بجنوده فأحدَقَ بهم، كلَّما ذهَب واحدٌ منهم ¬
يصرف بصره عنها [لكَزَه] الشيطان بجنوده، فما يزالون يلعبون حتى يتفرَّقوا كالكلاب اجتمعت على جيفة فأكلت منها حتى ملأت بطونها ثم تفرَّقت)). وفي روايةٍ للآجُرِّي والدارقطني وأخرى: ((إذا مرَرْتُم بهؤلاء الذين يلعَبُون بالأزلام أو الشِّطرنج والنرد وما كان من اللهو [ز1/ 41/أ] فلا تُسلِّموا عليهم، وإنْ سلَّموا عليكم فلا تردُّوا عليهم، فإنهم إذا اجتمعوا وأكبُّوا عليها جاء إبليس - أخزاه الله - بجنوده فأحدَق بهم كلَّما ذهَب رجلٌ يصرف بصره عن الشطرنج [لكَزَه في ثغره] وجاءت الملائكة من وراء ذلك فأحدقوا بهم ولم يدنوا منهم، فما يزالون يلعبون حتى يتفرَّقوا عنها حين يتفرَّقون كالكلاب اجتمعت على جِيفة، فأكَلتْ منها حتى مَلأت بُطونها ثم تفرَّقت)) (¬1). وأخرج ابن حزم أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أشدُّ الناس عَذابًا يوم القيامة صاحب الشاه - يعني: صاحب الشطرنج - أمَا تراه يقول: قتلته، والله مات، والله افترى كذبا على الله)) (¬2). وأخرج الديلمي: ((ملعونٌ من لعب بالشِّطرنج)) (¬3). وأخرج ابن حزم: ((الشِّطرنج ملعونةٌ، ملعونٌ من لعب بها، والناظر إليها كآكل لحم الخنزير)) (¬4). ¬
وأخرج الديلمي أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَلعونٌ مَن لعب بالشِّطرنج)) (¬1). وأخرج أيضًا أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يأتي على الناسِ زمانٌ يلعَبُون بها، ولا يلعَبُ بها إلا كلُّ جبَّار، والجبَّار في النار (يعني: الشطرنج) لا يُوقَّر فيه الكبير، ولا يُرحَم فيه الصغير، يقتُل بعضهم بعضًا على الدنيا، قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب، لا يَعرفون معروفًا ولا يُنكرون مُنكرًا، يمشي الصالح فيهم مُستخفِيًا، أولئك شِرار خَلق الله لا ينظر إليهم)) (¬2). وأخرج أيضًا: ((ألاَ إنْ أصحاب الشاه في النار، الذين يقولون: قتلت والله شاهك)) (¬3). وأخرج أيضًا: ((مَن لعب بالشِّطرنج فقد قارَف شِركًا، ومَن [يشرك] بالله فكأنما خرَّ من السَّماء)) (¬4). وفي روايةٍ: ((مَن لعب بالشِّطرنج فقد عصَى الله ورسولَه)) (¬5). ¬
وأخرج أيضًا: ((اللاعِب بالشِّطرنج كالقاطع لحم الخنزير، والناظر إلى مَن يلعَبُ بالشطرنج كالغامس يده في لحم الخنزير)) (¬1). وأخرج أيضًا: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - نهى أنْ يُسلَّم على مَن لعب بنردٍ أو شِطرنج وعلى شارب الخمر)) (¬2). وأخرج أيضًا: أنَّ عليًّا كرم الله وجهه مرَّ بقومٍ يلعَبون بها فلم يُسلِّم عليهم، فقال: أُسلِّم على قومٍ يَعكُفون على أصنامٍ لهم، سمعتُ خليلي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول ذلك (¬3). وأخرج أيضًا: ((اللاعِبُ بالشِّطرنج يَأكُل لحمَ الخنزير)) (¬4). وأخرج أيضًا: مرَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقومٍ يلعَبُون الشِّطرنج فقال: ما هذه الكوبة؟ ألم أنه عنها؟! لعَن الله مَن لعب بها)) (¬5). [ز1/ 41/ب] وفي روايةٍ: ((لعنَةُ الله على مَن يلعَبُ بها)) (¬6). وأخرج أيضًا: ((نفرٌ من أمَّتي لا يُكلِّمهم الله ولا يَنظُر إليهم ولهم عَذاب أليم: المانعون الزكوات، والنائمون عن العِبادات، والمتلذِّذون بالشَّهوات، واللاعبون بالشاه، ومات الضاربون بالكُوبات ... )) الحديث (¬7). ¬
وأخرج الطبراني: إنَّ أعرابيًّا قال: يا نبيَّ الله، إنِّي رأيت البارحةَ في المنام أنَّه ليس من عبدٍ يشهَدُ أن لا إله إلا [الله] ويشهد أنَّك رسولُ الله إلا رفَعَه الله درجةً في الجنَّة، إلا أصحاب الشاه))؛ وهي الشطرنج (¬1). وأخرج الديلمي: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن اللعب بالشطرنج (¬2). وأيضًا: ((يُغفَر ليلة النصف من شعبان لكلِّ متكبرٍ إلا صاحب الشاه))؛ يعني: الشطرنج (¬3). وأخرج الحليمي حديثًا طويلاً فيه: ((ومَن لعب بالشطرنج والنرد [والجوز] والكعاب مقَتَه الله، ومَن جلس إلى مَن يلعَبُ بالشِّطرنج والنرد ينظُر إليهم [مُحيَتْ] عنه حسَناته كلها وصار ممَّن [مقته] الله)) (¬4). قال علي كرم الله وجهه: ((الشطرنج ميسر الأعاجم)) (¬5). ¬
ومرَّ [علي] كرم الله وجهه على قومٍ يلعَبون الشِّطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكِفون؛ لأنْ يمسَّ أحدكم جمرًا حتى تُطفَأ خيرٌ له من أنْ يمسَّها، ثم قال: والله لغيرِ هذا خُلِقتم (¬1). وقال أيضًا: صاحب الشِّطرنج أكثَرُ الناس كذبًا يقول أحدهم: قتلت، وما قتل، ومات، وما مات (¬2). وقال أبو موسى الأشعري: لا يلعَبُ بالشطرنج إلا خاطئ (¬3). وقيل لإسحاق بن راهويه: أترى في اللعب بالشِّطرنج بأسًا؟ فقال: البأس كلُّه فيه، قيل له: أهل الثغور يلعَبُون بها لأجل الحرب، فقال: هو فُجور (¬4). وسُئِلَ محمَّد بن كعب القرظي عن اللعب بها، فقال: أدنى ما يكون فيه أنَّ اللاعب بها يعرض - أو قال: يُحشَر - يومَ القِيامة مع أصحاب الباطل (¬5). وسُئِلَ ابنُ عمر عنها - وهو صحيحٌ عنه - فقال: هي شرٌّ من الميسر (¬6)، ويُوافِقه قول مالك، وقد سُئِلَ عنها [فقال]: هي من النرد، ومرَّ في النرد أنَّه كبيرةٌ عند أكثر العلماء. ¬
وقال مالكٌ: بلغنا عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّه ولي مالاً ليتيمٍ فوجدها في تركة والد اليتيم فأحرقها، ولو كان اللعب بها حَلالاً لما أجازَ إحراقها؛ لكونها مالَ يتيمٍ، لكنْ لَمَّا كان [ز1/ 42/أ] اللعب بها حَرامًا أحرَقَها، فتكون مثل الخمر إذا وجدت في مال اليتيم يجبُ إراقتها، هذا مذهب حبر الأمَّة ابن عباس - رضي الله عنهما - لكن قال الحافظ: هذا منقطعٌ، بل مُعضَل (¬1). وعنه بسندٍ لا يصحُّ: المَيْسِرُ: النرد، والشِّطرَنج، والقمارُ حتى [الجُوزُ]، والفُلُوس، والحصَى، والكِعاب وما أَشبَه ذلكَ باطل حرامٌ (¬2). وقيل لإبراهيم النخعي: ما تقولُ في اللاعب بها؟ فقال: إنَّه ملعون (¬3). وقال وكيعٌ وسفيان (¬4) في قوله - تعالى -: {وأنْ تستَقسِموا بالأزلام} هي الشطرنج (¬5). وقال مجاهد: ما من ميتٍ يموت إلا مُثِّلَ له جلساؤه الذي كان يجالسهم، فاحتضر بعض لاعبيها، فقيل له: قُل: لا إله إلا الله، فقال: شاهك، ثم ¬
ماتَ (¬1)، فكانت تلك الكلمة الخبيثة هي خاتمةَ نُطقِه بدل الكلمة الطيِّبة التي هي: لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ التي وعد - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن كانت آخِرُ كلامِه بأنَّه يدخل الجنَّةَ)) (¬2) مع الناجين الفائزين السابقين. (تَنْبِيه) إنْ قلت: هذه الأحاديث كلها [فيها] أعدَل شاهد وأظهَر مستند لما قاله أكثر العلماء أنَّ اللعب بالشِّطرَنج حرام مطلقًا وإن لم يقترن به شيء ممَّا مرَّ فما دليل القائلين بالحل؟ قلت: قال الحفَّاظ: إنَّ جميع تلك الأحاديث ليس فيها حديثٌ صحيحٌ ولا حسن، بل أقلها ضعيف وأكثرها منكر ساقط؛ ومن ثَمَّ قال الحافظ المنذري: وقد ورد ذكر الشِّطرَنج فِي أحاديث لا أعلم لشيء منها إسنادًا صحيحًا ولا حسنًا (¬3). وقال شيخ الإسلام أبو الفضل العسقلاني: لا يَثبُت فِي الشِّطرَنج عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - شيءٌ، وقال تلميذه الحافظ السخاوي بعد ذِكره تلك الأحاديثَ والكلام على كلِّ واحدٍ منها بما يعلم منه أنَّه منكر ساقط - وهو الأكثر فيها - أو ضعيف: ليس فِي هذا الباب حديث صحيح، بل ولا حسن، فإنْ قلت: جاء عن عشرةٍ من الصحابة أنهم كرهوه وذموه كما مرَّ بعض ذلك، قلت: أكثر هؤلاء لم يصحَّ عنه ما نُقِلَ عنه وهم: عُقبة بن عامِرٍ، بل ما روي: لأَنْ أعبد وثنًا من دُون الله أَحَبُّ إلَيَّ من أنْ ألعَبَ ¬
بالشِّطْرَنج (¬1)، كذبٌ صراح عليه؛ لأنَّ مثلَ هذه العبارةِ لا تصدر من مسلم، ومُعاذ، وأبو بكرة، وأبو سعيدٍ الخدري، وأبو موسى الأشعري، فإنَّ ما رُوِيَ عنه وإنْ صحَّ لكنَّه منقطعُ [ز1/ 42/ب] وعائشة، وابن عباس (¬2). وأمَّا ما مرَّ عن ابن عمر فلا يلزم من كونه شرًّا من النرد الحرمة؛ لاحتمال أنَّه يرى حلَّ النرد، كما هو وَجْهٌ لبعض أصحابنا على أنَّه كما مرَّ عن علي مذهب صحابي وهو غير حجَّة عندنا لا سيَّما وقد جاء عن سبعةٍ من الصحابة أنَّ بعضهم لعبه وبعضهم أقرَّ عليه، وأُجِيبَ عن قول عليٍّ السابق أيضًا بأنَّ الشِّطرَنج إذ ذاك كان مصورًا بصور الفيلة ونحوها ممَّا هو موضوعٌ لها، وجاء عن كثيرٍ من التابعين ومَن بعدهم حلُّه وَعَنْ آخَرين امتناعه فيَتكافَآن نظير ما ذكر عن الصحابة، وإنْ كان القائلون بالحرمة أكثر. فإنْ قلت: قد نازَع بعض الحفَّاظ المتأخِّرين فِي ثُبوت ما مرَّ عن أولئك السبعة الصحابة بأنَّ البيهقي أعلَمُ أصحاب الشَّافِعِي بالحديث وأنصحهم له ذكر إجماع الصحابة على المنْع منه ولم يحكِ عن الصحابة فِي ذلك نِزاعًا، قال: ومَن نقَل عن واحدٍ من الصحابة أنَّه رخَّص فيه فهو غالِطٌ، والبيهقي ¬
وغيره من أهل الحديث أعلَمُ بأقوال الصحابة ممَّن ينقل أقوالاً بلا إسناد، والعلم عند الله - تعالى - ا. هـ. قلت: الإجماع مدخولٌ؛ فقد جاء عن عمرَ من طرقٍ إباحتُه، فهو حسنٌ لغيره، بل صحَّح التاج السبكي بعضَ طرقه، وإنِ اعتُرِض، وصَحَّ عن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - لكن من طريق الكلبي بن مزاحم، وهو وإنْ كان ثقةً على الأصحِّ إلا أنَّ اجتماعه بالصحابة مُنظَرٌ فيه، وكيف يُتعقَّل إجماع الصحابة والقائلون بالحلِّ من التابعين ومَن بعدهم لا يُحصَوْن؟ وصحَّ عن سعيد بن جبيرٍ أنَّه كان يلعبه من وَراء ظهره كثيرًا، وزعَم أنَّه تستَّر به عن طلَب الحجَّاج منه القضاء (¬1)، وكذا كان يلعبه بالغيب جماعةٌ آخَرون من التابعين؛ كالشعبي (¬2)، وهشام بن عروة (¬3). (تَنْبِيه ثانٍ) ظاهر ما مرَّ عن ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - وَعَنْ مالك، ووكيع، وسفيان، وإسحاق وغيرهم أنَّه كبيرة عند القائلين بتحريمه، وأمَّا القائلون بحِلِّه فلا يُنافِي كونه معصيةً فضلاً عن كونه صغيرة (¬4) فإنَّه إذا انضمَّ إليه قِمار أو إخراج صَلاة عن وقتها أو سب أو غير ذلك، فالمعصية والكبيرة إنما جاءَتْ من المنضمِّ إليه لا من ذاتِه، لكنْ قد يُفِيد ¬
الانضِمام من القبح ما لم يُفدْه الانفِراد فلا يبعد جعْل [ز1/ 43/أ] هذا الانضِمام [من القُبح] مقتضيًا لمزيد التغليظ والتنفير عنه. فإنْ قلت: كيف يكونُ إخراج الصلاة عن وقتها به كبيرةً مع أنَّه مشغولٌ به فهو غافلٌ، والغافل غير مُكلَّف، وكذا الجاهل والناسي فكيف يحكم بتأثيمه فضلاً عن كونه كبيرة؟ قلت: محلُّ عدَم تكليف النَّاسي والغافل والجاهل حيث لم ينشأ النسيان والغفلة والجهل عن تقصيره وإلا كان مُكلفًا آثمًا، أمَّا فِي الغَفلة فلمَّا صرَّحوا به فِي الشِّطرَنج من أنَّه لا يُعذَر باستغراقه فِي اللعب حتى خرَج وقت الصلاة وهو لا يشعُر؛ لما تقرَّر أنَّ هذه الغفلة نشَأتْ عن تقصيره بمزيدِ انكِبابه ومُلازمته على هذا المكروه حتى ضيَّع بسببه الواجب عليه، وأمَّا فِي الجهل فلِمَا صرَّحوا به من أنَّه لو مات إنسانٌ فمضَتْ عليه مُدَّةٌ ولم يُجهَّز ولا صُلِّي [عليه] أثم جاره وإنْ لم يعلم بموته؛ لأنَّ تركَه البحثَ عن أحوال جاره إلى هذه الغاية تقصيرٌ شديدٌ، فلم يبعد القول بعِصيانه وتأثيمه. فإنْ قلت: ما الفرق عندكم بين النرد والشِّطرَنج؟ قلت: قد أشَرتُ إلى الفرق بقولي فِي النرد: وحِكمة تحريمه ... إلى آخِر ما قدَّمته فِي مبحثه، وهو مستمدٌّ من فَرقِ أئمَّتنا بأنَّ التعويل فِي النرد على ما يخرجه الكعبان فهو كالأزلام، وفي الشِّطرَنج على الفكر والتأمُّل وأنَّه ينفع فِي تدبير الحرب. (تَنْبِيه ثالث) اختلفوا فِي مشروعيَّة السلام على لاعبه والرد عليه، فعندنا يُشرَع عليه وإنْ علم أنَّه لا يجيب ويجب الردُّ عليه لو سلَّم، واختلف القائلون بحرمته؛ فقال أبو حنيفة: يسلم عليه؛ لأنَّه يشتغل بالرد عمَّا هو فيه،
وكَرِهَه أبو يوسف تحقيرًا له! لعلَّه يتوبُ، ومرَّ عن عليٍّ وغيره ما يشهَدُ له، وبه قال مالك وأحمد. (تَنْبِيه رابع) فِي جملة الأقوال فِي الشِّطرَنج قد مرَّ أنَّ أكثر الصحابة والتابعين ومَن بعدهم على تحريم لعب الشِّطرَنج؛ ومنهم أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، ونُوزِع فِي نقْل التحريم عن مالك، ويردُّه قول ابن عبدالبر: أجمع مالك وأصحابه على تحريمه (¬1)، وبه جزَم الحليمي من كبار أصحابنا، واختاره القاضي الروياني، وجزم الذبيلي من أئمَّتنا أيضًا بأنَّه من الصغائر، وتمسَّك القائلون بالتحريم بقوله - تعالى -: {إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ} الآية (¬2)، فَسَّر علي وغيره الميسرَ بما يشمل الشِّطرَنج؛ حيث جعله منه [ز1/ 43/ب] ولم يَثبُتْ عن صحابيٍّ أنَّه خالَفَه فِي هذا التفسير، فهو إمَّا تفسير لغة فهو من أعلم أئمَّة اللسان فيُرجَع إليه، أو إبداء حُكمٍ فهو إجماع سُكوتي، أو قول صحابي لم يُخالَفْ، وهو حجَّة عند الجمهور، أو غيرهما فهو فِي حُكم المرفوع؛ إذ لا مجالَ للرأي فيه، وبقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ} الآية (¬3)، دلَّ على أنَّ كلَّ لهوٍ دعا قليلُه إلى كثيرِه وأوقع العَداوة والبَغضاء بين العاكفين عليه وصدَّ عن ذِكر الله وعَن الصلاة فهو كشُرب الخَمْر والميسر؛ فيكون حرامًا مثلهما، ولا شكَّ أنَّ الشِّطرَنج إذا استُكثِر منها يُؤدِّي لذلك كله، كيف ولاعبها لا يحسُّ بجوعٍ ولا عطشٍ ولا غيرهما من أحواله الضروريَّة فضلاً عن العاديَّة والعباديَّة، وقد شبَّه عليٌّ لاعبها بعابد ¬
الصنم (¬1)، كما شبَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - شارِبَ الخَمْرِ بعابدِ الوَثَنِ (¬2)، وتمسَّكوا أيضًا بالأحاديث السابقة، وأقوال الصحابة فما كان منها صحيحًا فواضح أو مرسلاً قَوِيَ بتعدُّد طرقِه، وتمسَّكوا أيضًا بأنَّ العلَّةَّ فِي تحريم النرد أنَّه يوقع العَداوة والبَغضاء، ويصدُّ عن ذِكر الله وَعَن الصلاة، ويشغل القلب، والشِّطرَنج كذلك، بل هو أبلَغُ فِي إفساد القلوب من النرد؛ فإنَّه محتاجٌ إلى تقديرٍ وتفكُّر وحِساب النقلات قبل النقل، بخِلاف النرد فإنَّ صاحِبَه يلعب ويحسب بعد ذلك؛ ولهذا يُقال: إنَّ الشِّطرَنج مبني على مذهب الغدر، والنرد مبنيٌّ على مذهب الجبر؛ ومن ثَمَّ حُكِي عن بعض العلماء أنَّه قال: اللعب بالنرد خيرٌ من اللعب بالشِّطرَنج؛ لأنَّ لاعب النَّرد يعتَرِف بالقَضاء والقدر، ولاعب الشِّطرَنج ينفي ذلك؛ فهو أقرب إلى الاعتزال، وحكَى ابن أبي الدُّنْيَا عن بعضهم تفسيرَ النرد بالشِّطرَنج، قال المحرِّمون جوابًا عمَّا مرَّ: ممَّا يدلُّ للجواز، ولعبُ ابن جبير به إنما هو لكون الحجاج طلَبَه للقَضاء ففعَلَه ليكون قادحًا فيه، وحمل زجر عليٍّ على أنها كانت مُصوَّرة، يردُّه صِدق اسم التماثيل عليها وإنْ لم تكن مصورة؛ لأنها ¬
تمثل ببني آدم وغيرهم فِي أسمائها، ومَن لم ينهَ عنها من الصحابة ظنَّ أنها ليست ممَّا يلهي، وزعَم بعضهم أنَّ فيها تدبيرًا للحرب ممنوع، بل لا تنفع فِي الحرب وإنْ سُلِّمَ فهو لا يقصد منها، بل المقصود منها غالبًا اللعب والقمار، وتجويز إباحة ابن عمر للنرد بعيدٌ، كيف والأدلة ظاهرة فِي تحريمه [ز1/ 44/أ] لا سيَّما وهو من أشدِّ الصحابة اتِّباعًا وأعظمهم تحرِّيًا، وقد بالَغ ابن العربي المالكي فِي الإنكار على لاعِبِها فقال: انتهى مقال بعض الشافعيَّة إلى أنْ يقول: هو مندوبٌ إليه لأنَّ جمعًا من الصحابة والتابعين فعَلُوه، وهو يشحَذُ الذهن، حتى اتَّخذوه فِي المدارس ليلعَبُوا به عند الأعياد، تاللهِ ما مسَّها [يد تقي]، ولا لعب بها صحابيٌّ ولا غيرُه، ولا يتمهَّر فيها رجلٌ قطُّ له ذهن. القول الثاني: إنَّه مباح، وهو - وإنْ قال به جماعة من أكابر أصحابنا وغيرهم - شاذٌّ، وقد تطابَق كثيرٌ منهم على قولهم وإفتائهم بما لفظه: إذا سلمت الأموال عن الخسران، واللسان عن الطُّغيان، والصلاة عن النِّسيان، فهو أنسٌ بين الإخوان، واشتغالٌ عن الغيبة والبهتان (¬1)، وحُكِي نحو هذه العبارةِ عن الشَّافِعِيِّ، وشرَط الماورديُّ للإباحة انتفاءَ سائر وُجوه الخلاعة، وتمسَّكوا بأنَّ الإباحة هي الأصل، وبأنَّ فعله والإقرارَ عليه جاء عمَّن لا يُحصَى من العلماء، وبأنَّه ينفَعُ فِي تدبير الحرب، وبأنَّ بعضَهم رأى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فشكا ولدَه فِي إدمانه عليه فقال: ((دعْه، فلا بأس به))، وقد ذهب بعض أصحاب الشَّافِعِي إلى جواز العمل بذلك؛ لأنَّ مَن رآى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد رآه حقًّا، قال التاج السبكي: ¬
واعلم أنَّا لم نجعَل عُمدتنا فِي إباحته ما مرَّ من الآثار، ولا ندَّعي أنها جميعها صحيحة؛ ولذلك لم نشتغلْ بالكلام على رجالها، ولكنَّا نقول: إنَّه غير محرَّم لعدم قيام ما يدلُّ على التحريم، وما أوردناه من الآثار ومذاهب السَّلَفِ يساعد القول بالحل، وإن لم يكن هو المستند، ا. هـ. قال الماوردي: وفيها مع تدبير الحرب، ومكيدة العدوِّ، وتشحيذ الخواطر، وتزكية الأفهام، ووُجوه الحزم [ما يشبه] اللعب بالحِراب والرِّماية والفروسيَّة، فإنْ لم يكن لأجل ذلك ندبًا مستحبًّا، فأولى ألاَّ يكون حظرًا محرمًا (¬1)، وأجاب هؤلاء عن أدلَّة التحريم السابقةِ بأنَّ الميسر هو القمار ولا خِلافَ فِي تحريمه، وتفسير عليٍّ السابقُ لم يصحَّ عنه، لا سيَّما وقد حصَل فيه شكٌّ من بعض رواته، بل فِي حديثٍ مرسل مرَّ: ((ثَلاَثة مِن المَيْسِرِ: القِمارُ، والضربُ بالكِعابِ، [والصَّفيرُ] بالحمامِ)) (¬2). والخصم لا يحرِّم الأخيرَ مع الحكم عليه بأنَّه من الميسر، وبأنَّه حيث صَدَّ عن ذِكر الله وعَن الصلاة فهو كسائر [ز1/ 44/ب] المباحات إجماعًا حَرام حِينئذٍ، وليس هذا من محلِّ النِّزاع؛ إذ محلُّه فِي مجرَّد لعبٍ لم يقتَرِنْ به فُحْشٌ مطلقًا، وبأنَّ قولَ علي للاعِبيه ما مرَّ إرشادٌ على أنَّه كان يصور مسمياته كما مرَّ، قال الصولي: ولم يزل الشِّطرَنج على ذلك أيَّام بني أميَّة، وقد رأيت منها شيئًا كثيرًا، وكثرت فِي ذلك الزمن لقُرب أيَّام الأعاجم منه، ولأجل ذلك قال: التماثيل، ولم يُنهَ عنها نصًّا تامًّا؛ ومن ثَمَّ استدلَّ به بعضهم على أنَّه كان يقول بعدم تحريمها، وإلا لأمرهم بالمعروف وأقامهم عنها قهرًا عليهم؛ ومن ثَمَّ لعبها كثيرون من التابعين وهم بقَوْلِ عليٍّ أعلم، وهم إليه ¬
أقرب، وقيل: إنما كَرِهَها منهم لتشاغُلِهم بها [عن] الأذان، وقوله: ((مَيْسِرُ الأعاجِم)) (¬1) لا يدلُّ على التحريم على أنَّه مرسل، وقوله: ((صاحِبُ الشِّطرَنجِ أكذَبُ الناس)) (¬2) لا يدلُّ على التحريم؛ لأنه كذبٌ صوري لا حقيقي، أو المراد أنَّه ينبغي التنزُّه عنه لأنَّه قد يُؤدِّي إلى الكذب، وقول ابن عمر: ((إنَّه شرٌّ من النَّرْدِ)) (¬3) لا يدلُّ على صريح التحريم؛ لأنَّا لا نعلم مذهبه فِي النرد، على أنَّه قول صحابيٍّ خُولِف فيه، وأيضًا لم يقلْ أحد: إنَّه أغلظ تحريمًا من النرد، وإنما أخرَجَه مخرج المبالغة فِي الزجر عنه، و [ممَّن] قال: إنَّ الشِّطرَنج شرٌّ من النرد [السبكي وشرطه] أنْ يكونَ فيه قمار، وإلا فلا فيكون هذا الأمر متروكَ الظاهرِ بالإجماع فلا يحتجُّ به، قاله ابن السبكي. واعتُرِضَ بأنَّ المالكيَّة يقولون: إنَّه شرٌّ من النرد مطلقًا، قيل: والعجب من أنَّه حَكاه، وأجاب عنه بأنَّ هذا اجتهادٌ لمالك، وليس اجتهادُه حجَّة علينا، قالوا: ولم يصحَّ فيه خبرٌ كما مرَّ، والخبر الصحيح السابق أوَّل هذا الباب لا دليل فيه؛ إذ لا يبعد أنْ يكون هذا قياسًا على ما استَثْناه - صلَّى الله عليه وسلَّم - من اللعب على أنَّه ورد فِي روايةٍ زيادةٌ رابعة وهي: تعلُّم السباحة، وأيضًا هو لا يستلزم التحريم لما عدا الخصال المذكورة فيه، بل قد يتمسَّك به القائل بالكراهة فإنَّه عام مخصوص بِمُلاعَبة الأطفال، كما ورد من قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا أبا عُمَيْر، ما فعَل النُّغَيْرُ؟)) (¬4)، [وبلعب] ¬
الحبشة بالحِراب بين يدَيْه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما مرَّ، وقد قال البخاري فِي باب الجهاد: باب اللعب بالحراب وغيرها، وأورد حديثَ الحبشة السابق (¬1)، وقياسه على النرد ممنوعٌ؛ لوضوح الفرق بينهما، إذ الشِّطرَنج موضوعةٌ لصحَّة الفكر [ز1/ 45/أ] وصَواب التدبير ونظام السياسة، فهي تُعِينُ على تدبير الحروب والحساب، والنرد موضوعٌ لما يُشبِه الأزلام، وتفسير النرد بالشِّطرَنج غير صحيح، وزعم أنَّ ابن جبير إنما فعَلَه خوفَ ولاية القضاء، يردُّه أنَّه لو كان كذلك اكتَفَى بمرَّة أو مرَّتين منه، وقد كان يلعَبُها من وَراء ظهر، وهذا إنما يأتي بإدامة طويلة حتى يحصل له تلك الملَكَة، وتمثيله بالحيوانات فِي الأسماء لا يضرُّ؛ لأنها مجازات. وبالجملة: فقد قال التاج السبكي: إنَّ المنصف إذا نظَر فيما أوردناه من الجانبين علم أنَّ القول بالحلِّ هو الحق الأبلج، وجاءَ عن بعض أئمَّة أهل البيت أنَّه قال: ما مات شريفٌ من الطالبيين إلا بِيعَت الشِّطرَنج فِي ميراثه، قيل: ووُجِدَ فِي تركة الشَّافِعِي، وبالَغ بعض الحفَّاظ فِي ردِّه وتزييفه. القول الثالث: أنَّه مكروهٌ كراهة تغليظٍ تُوجِب المنع، وكذا مذهب أبي حنيفة على ما حَكاه الماورديُّ فِي "حاويه" (¬2)، واعترض بأنَّ مذهبه التحريم كما مرَّ، ورُدَّ بأنَّ أصحابه كثيرًا ما يُرجِّحون خلاف ما ذهب إليه. القول الرابع: أنَّه مكروهٌ كراهةَ تنزيهٍ، وهو الصحيح من مذهبنا، قال التاج السبكي: وهذا هو الذي نَدِين الله به [وهو الصحيح] ونراه الحقَّ الواضح والنهار الجلي، والمنصف إذا أزال العصبيَّة عن نفسه ونظَر فِي دلائل الفريقين علم أنَّ ذلك هو الحق الأبلج، وقيَّد الغزالي الكراهة بالمواظَبة، والأصحُّ أنَّه لا ¬
فرق، وعَنْ مالك قول أنه كمذهبنا، ورجحه بعض أصحابه، ونازَع البلقيني فِي نقل الكراهة عن الشَّافِعِي بأنَّ كلامه فِي موضعٍ يُفهَم أنَّه خلاف ما يحبُّه، وفي موضعٍ [يقتضي] أنَّه استحسن ما مرَّ عن ابن جبير أنَّه كان يلعَبه خلف ظهره، بل نُقِلَ عنه نفسه أنَّه لعب به استدبارًا، ورُدَّ بأنَّ الأصحَّ فِي النقل عنه ما مرَّ من الكراهة، ومحلُّ حلِّه عندنا حيث لم يلعبْه مع مُعتقِدِ تحريمه، وإلا حرُم عليه كما رجَّحه التقي السبكي وتَبِعُوه؛ لما فيه من الإعانة على انتهاك الحرمة والجراءة وإنْ جاز الفِعلُ فِي اعتقاده فِي غير هذه الحالة فهو كمَن يُناوِل قدح خلٍّ لمن علم منه أنَّه يشربه مع ظنِّه كونه خمرًا؛ لأنَّه حينئذٍ مُعِينٌ له على معصيته فِي زعْم مُعتقِد التحريم، ونظيرُ ذلك ما لو تَبايَع رجُلان بعد أذان الجمعة: أحدهما تلزَمه والآخر لا تلزَمه، فيحرم على هذا [ظ1/ 45/ب] أيضًا على أصحِّ الوجهين وهو المنصوص، واعتَمَده الشيخان وغيرهما لإعانته الأوَّلَ على المعصية. قال السبكي: لكنَّ التحريم فِي مسألتنا أخفُّ منه فِي هذه، فإنَّه على مَن تلزمه معلومٌ عندنا وعنده، وتحريم لعب الشِّطرَنج غير معلومٍ عندنا ولا عنده إذا كان حُكم الله فيه الحل فِي نفس الأمر، وإنما الحرام فعلُه مع اعتقاد حُرمتِه لا فعله مطلقًا، وهذا المجموعُ لم تحصل المعاونة عليه بل على بعضه، قال: وهذه دقيقةٌ ينبغي أنْ يُتنبَّه لها، ا. هـ. فإنْ قلت: يُنافِي ما ذكر من التحريم فِي مسألة الجمعة قولَ الروياني فِي "بحره": لو أُرِيدَ بيع مال يتيم وقت نداء الجمعة للضرورة فبذل فيه مَن تلزَمُه دينارًا ومَن لا تلزمه نصفه، يحتمل وجهين: أحدهما: [يباع] ممَّن لا جمعةَ عليه؛ لئلاَّ يوقع الآخَر فِي معصية.
والثاني: يُباع بالدينار؛ لأنَّ الذي إليه الإيجاب وهو غير عاصٍ به، وإنما القبول للطَّالِب وهو الذي يَعصِي به. قلت: إنما يتوهَّم المنافاة على الثاني فقط، ولكنْ عند التحقيق لا مُنافاة، بل الثاني هو الأوجَهُ، وليس ممَّا نحن فيه؛ لأنَّ كلامنا فِي مُبايَعة مَن لا يلزمه لِمَن تلزَمه بلا ضرورة وهنا ضرورةٌ، وجوب الحظِّ لليتيم اقتضت المسامحة للوليِّ فِي بيع مَن تلزَمُه بالدينار، وإنْ أثم المشتري إنْ خشي فَوات الجمعة، ثم رأيت احتمالاً ثالثًا للروياني يوافق بعض ما ذكرته وهو قوله: يحتمل أنْ يرخص له فِي القبول [لنَفعِ] اليتيم إذا لم يُؤدِّ إلى ترك الجمعة، كما يرخص للولي الإيجاب لحاجة اليتيم إليه. فإنْ قلت: ما مرَّ عن السبكي يُنافِيه قول ولده عنه فِي ترجمة الروياني فِي "طبقاته الوسطى" سمعت والدي يقول: لا يأثم شافعيٌّ لعب الشِّطرَنج مع حنفي، وفرَّق بينه وبين مسألة البيع وقتَ النداء بأنَّه حينئذٍ محرَّم عندهما، ولعب الشِّطرَنج ليس محرَّمًا عند الشَّافِعِي، وإنما المحرَّم عند الحنفي لعبه مع ظنِّه التحريمَ، وكلُّ واحدٍ من الجزأين ليس بِحَرام، أمَّا الظنُّ فهو [نتيجة] اجتهاد يُثاب عليه وليس بحرام، وأمَّا اللعب من حيث هو فليس بحرام لا عليه ولا [على] غيره إذا كان حُكم الله فيه ذلك فِي نفس الأمر. فإن قلت: يظنُّ الحنفي - أي المحرِّم - صار حراما عليه، قلت: الذي صار حرامًا عليه لعبه مع ظنِّه لا لعبه مطلقًا، فالهيئة الاجتِماعيَّة [ز1/ 46/أ] هي المحرَّمة، وهي النسبة الحاصلة بين اللَّعِب المظنون والظنِّ، والشَّافِعِي اللاعب لم يعن إلا على أحد الجزأَيْن، وهو اللعب وهو بلسان [الحال] يردُّ على الحنفيِّ ويقول له: لا تظنُّ، ا. هـ ما فِي "الطبقات".
قلت: المعتمَد ما قدَّمته عنه أوَّلاً من الحرمة قِياسًا على مسألة الجمعة، وأمَّا هذا فهو اختيارٌ [له]، ويُجاب عنه بأنَّ المذاهب بعدَ أنْ تقرَّرت واتَّبع الناس [كلامها] (¬1) والتزَمُوا العمل بها، لم يبقَ للنظر إلى نفس الأمر مَساغ، ولم يتوجَّه من شافعيٍّ على حنفيٍّ مثلاً ردٌّ، ولم يسغْ قوله له: لِمَ لا تظن حرمة الشِّطرَنج؟ وإذا تمهَّد هذا وتقرَّر فالشافعيُّ إذا لعبه مع حنفيٍّ مثلاً كان مُعينًا على معصيةٍ حتى فِي اعتقاد الشَّافِعِي؛ لأنَّ من جملة اعتقاده أنَّ مَن قلَّد مالكًا مثلاً يَحرُم عليه لعب الشِّطرَنج، فإذا لاعَبَه كان معينًا له على معصيةٍ فِي اعتقادهما، أمَّا فِي اعتقاد المالكي فواضح، وأمَّا فِي اعتقاد الشَّافِعِي فهو لا مُطلقًا، بل من حيث نظرنًا لاعتقاد المالكي؛ إذ لو استَفتَى مالكيٌّ شافعيًّا قال: أنا مذهبي مالكيٌّ فهل يحرم عليَّ لعبُ الشِّطرَنج؟ وجَب على الشَّافِعِي أنْ يقول له: نعم، يحرم عليك لعبه ما دمت مالكيًّا، وقد صرَّح الأئمَّة بما يدفع ما قاله السبكي هنا؛ حيث قالوا: يجبُ النهيُ عن المنكر فِي اعتقاد الفاعل وإنْ لم يكن منكرًا فِي اعتقاد المنكِر، وهذا شاملٌ لمسألتنا، فيُعلَم منه نصًّا أنَّه يجبُ على شافعيٍّ رأى مالكيًّا مثلاً يلعب بالشِّطرَنج وهو مستمر على [تقليد مالك] أنْ يُنكِر عليه بيَدِه ثم بلِسانه ثم بقَلبِه؛ نظَرًا لِمُباشَرته حَرامًا فِي اعتقاده، وهو واضحٌ، وكذا فِي اعتقاد الشَّافِعِي لا مُطلقًا، بل نظرًا لاعتقاد الفاعل، وإذا صرَّحوا بأنَّه يلزَم الإنكار عليه كانوا مُصرِّحين بأنَّه يحرم عليه اللعب [معه]؛ لأنَّه ضد الإنكار الذي أوجَبُوه عليه، فاتَّضح ما مرَّ أولاً وهو حُرمة لعبِه معه، وأنَّه منقولُ المذهب، وليس بحثًا للسبكي ولا لغيره، فتأمَّله، فإنَّ مَن تكلَّموا على المسألة كلهم يحكيها عن السبكي ¬
ومَن تَبِعَه فقط، ولم يستَحضِروا ما ذكرته الذي علم منه أنَّ الحرمة منقولُ الأصحابِ، وأنَّه لا غبار عليها من حيث المعنى أيضًا، وأنَّ جميع ما نقَلَه التاج عن والده ثانيًا مردودٌ بما قرَّرته كما لا يَخفَى على مَن له أدنى ذوق (¬1). (تَنْبِيه [خامس] (¬2) علم ممَّا مرَّ أنَّ محلَّ القول بالإباحة أو الكراهة ما لم تكنْ [ز1/ 46/ب] بَيادق الشِّطرَنج ونحوها مُصوَّرة كلها أو بعضها ولو [كان] واحدًا بصُورة حَيوان، وإلا حرم اللعب به لأنَّ فيه تعظيمًا له، وبه فارق الجلوس والنوم ونحوهما على المصور؛ لأنَّ فيه إهانةً له، وما لم يقترن به فُحشٌ وسفه، وإلا حرم كما قاله الصيمري (¬3)، بل نقل الإجماعَ على رَدِّ ¬
الشهادة به حينئذٍ، [وأمَّا] إذا لم يلعَبْه على الطريق وإلا حرم كما صرَّح به الصيمري أيضًا، وقال تلميذه الإمام الماوردي: تردُّ شَهادته بذلك، وفيما صرَّح به الصيمري فِي المسألتين نظَر؛ لأنَّ الفحشَ والسَّفه [إنْ] حُرِّمَ لذاته فالحرمة فيه لا فِي لعب الشِّطرَنج، إلا على ما قدَّمته فِي اجتماع الدُّفِّ والشَّبَّابَة مثلاً فراجِعْه، وكذا يُقال فيما إذا اقتَرَن به قمارٌ أو نحوه ممَّا يأتي، وأمَّا لعبه على الطريق فلا وجْه لحرمته، نعم إنْ كان قد تحمَّل شهادة حُرِّمَ عليه لا من حيث كونه لَعِبَ بشطرنج، بل من حيث كونه إزالة مُروءة يفضي لردِّ أمانةٍ تحمَّلها وهي الشهادة المتعلق بها حق الغير، واللازم على ردِّها ضَياع حقه ففيه إضرار له أي إضرار، فهو كمَن فرَّط فِي حِفظ وديعةٍ عنده يأثَم وتردُّ شهادته به، [وأمَّا] إذا لم يقتَرِن به قمار وإلا حرم إجماعًا، كما أشار إليه الشَّافِعِي فِي "الأم"، وما إذا لم تخرج الصلاة عن وقتها وإلا حرم إجماعًا، وما إذا لم يلعَبْه مع الأراذل ولم يورث نحو حقدٍ، ولم يؤدِّ إلى التكلُّم بكلامٍ غير لائقٍ بمثله، كذا قاله بعضهم، وفيه ما قدَّمته فِي لعبه على الطريق. (تَنْبِيه [سادس] (¬1) يجوز بيعُ الشِّطرَنج ومَن كسر منه شيئًا ضمنه إلا أنْ يكون مصورًا، ولا يجوزُ الإنكارُ على لاعبيه إلا إنِ اعتقدوا حُرمته أو لعبوا مع مُعتقدِيها أو فعلوا شيئًا من المحرَّمات المذكورة، فيجبُ الإنكارُ عليهم كما مرَّ. (تَنْبِيه [سابع] (¬2) اختلفوا فِي سُقوط عَدالة لاعبه؛ فعند أبي حنيفة ومالك هي ساقطة وشهادته مردودة على أيِّ وجْه لَعِبَه، لكن شرط ابن الحاجب ¬
إدمان لعبه، وهو فِي "المدونة" فِي موضعٍ ولم يقيد به فِي موضعَيْن آخرين منها، فإمَّا أنْ يحمل المطلق على المقيَّد أو يكون له فِي المسألة قولان، فظاهر كلام غير ابن الحاجب مُوافقته، قال بعض المالكيَّة: والإدمان أنْ يلعب بها فِي السَّنة أكثر من مرَّة، وقال آخَر منهم: أنْ يلعَب بها فِي السنة مرَّة، وبالإدمان قيَّد بعض الحنفيَّة أيضًا وهو صاحب "البدائع" (¬1) [ز1/ 47/أ] وصاحب "الذخيرة"، وفرَّقا بينه وبين النرد أنَّه حَرام بالنصِّ، وحكَى صاحب "المغني" من الحنابلة عن مالكٍ وأبي حنيفة أنَّه مثله، وكذا نقَلَه عن بعض أكابر أصحابهم (¬2)، وَعَنْ بعض أصحابه أنَّ لعبه مع معتقدٍ تحريمَه فكالنرد أو مع معتقد إباحته لم تردْ إلا إنِ اقترن به نحو قمار، وأمَّا عندنا فلا تسقُط العدالة إلا إنِ اقترن به محرم كما مرَّ وكذا إذا اقترن معه خارم مروءة؛ كلعبه به على الطريق، ولا نِزاع فيه وانقِطاعه إليه فِي أكثَرِ أحواله فتُرَدُّ به الشهادة على المنقول المعتمَد خِلافًا للبلقيني، قال بعضهم: وعلى هذا المنقول، فمَن أكبَّ عليه ممَّن بيده تدريس أو مشيخة أو غير ذلك من الوظائف التي يُشتَرط فيها العدالةُ فهو معزولٌ عنها شرعًا، وتَعاطِيه لذلك حَرامٌ إنْ كان قد وَلِيَها بطريق مُعتبَر شرعًا، ووجدت فيه الشُّروط المعتبرة أو أكثرها، فأمَّا مَن [اقتات] (¬3) بذلك من أجْل [انتمائه] إلى مَن لا تمييز عنده فهو مُرتكبٌ للإثم ابتداءً وانتهاءً، انتهى. وهي نفثة مَصدُور، على أنها سقطة فاحشة؛ إذ الذي تقرَّر أنَّ الإكباب عليه مخلٌّ بالمروءة، وهي ليست شرطًا فِي مُطلَق العدالة فِي قبول الشهادة فقط، ¬
ألا ترى أنَّ الولي فِي النكاح شرطه العدالة، ومع ذلك لا يُؤثِّر فيه خرم المروءة؛ لأنَّه لا يخلُّ بالعدالة فِي غير [الشهادة]؛ ومن ثَمَّ كان المعتمَد فيه أنَّه إذا تابَ توبةً صحيحة زوَّج فِي الحال، وإنْ لم تُقبَل شَهادته إلا بعدَ استِبرائه سنة؛ لأنَّه يحتاط للشهادة ما لم يحتَطْ بغيرها، فقياس غيرِها عليها فِي ذلك اشتباهٌ، والقياس نشَأ عن فقْد استِحضار كلامهم فِي غير باب الشهادة، ويلزم على ما قاله هذا المصدور المقهور على أقذَر وظيفةٍ منه سعى عليها أنْ ولي اليتيم لو باشَر خرم مروءة؛ كأنْ أكَل فِي السوق وهو لا يَلِيقُ به سقطَتْ ولايته، وهو باطلٌ كما هو واضحٌ. (تَنْبِيه [ثامن] (¬1) قد سبق أنَّه إذا اقترَنَ به قمار كان حَرامًا، وصُورة القمار المجمَع عليها أنْ يخرج العوض من الجانبين مع تَكافُئِهما لتحريم ذلك بالنصِّ؛ إذ الميسر فِي الآية هو القمار، ووجْه حُرمته أنَّ كلَّ واحدٍ منهما مُتردِّد بين أنْ يغلب صاحبه فيغنم أو يغلبه صاحبه فيغرم، فإنْ عدلا عن ذلك إلى حُكم السبق [ز1/ 47/ب] والرمي بأنْ ينفرد أحدُ اللاعبين بإخراج العوض ليُؤخَذ منه إنْ كان مغلوبًا ويمسكه إنْ كان غالبًا، فهذا مختلفٌ فِي جَوازه والأصح حُرمته، وبه جزَم الشيخان، وفرَّقوا بينه وبين جَوازه فِي المسابقة بأنَّ له غرَضًا فيها وهو الحذق فِي الفروسية والرماية، بخلاف الشِّطرَنج ليس [فيه] كبير غرض، وإذا قامر لم يلزم المال المشروط فإنْ أمسَكَه ولم يردَّه فسق ورُدَّتْ شهادته؛ لأنَّه غاصبٌ سواء الصورة الأولى والثانية، فإنْ لم [يأخُذْه] لم يفسقْ بالصورة الثانية؛ لوجود الخِلاف فيها، وكذا الأولى إنْ قطَع فيها بأنَّ أحدهما غالبٌ لزَوال صُورة القمار حينئذٍ. ¬
(تَنْبِيه [تاسع] (¬1) مرَّ أنَّه إذا أخرج به الصلاة عن وقتِها فسق ورُدَّتْ شَهادته، ومرَّ ما فِي ذلك من إشكالٍ وجواب وتحقيقه، مع زيادة أنَّ الشيخين ذكَرَا أنَّه إذا لم يتعمَّدْ أخراجها به ولكنْ شغله اللعب بها حتى خرج وهو غافلٌ أنَّه إذا لم يتكرَّر ذلك منه لم تردَّ شهادته وإنْ كثُر منه فسق ورُدَّتْ شهادته، بخلاف ما إذا ترَكَها ناسيًا مِرارًا؛ لأنَّه هنا شغل نفسه بما فاتت به الصلاة. قال الرَّافِعِيُّ: هكذا ذكَرُوه وفيه إشكالٌ لما فيه من تعصية الغافل واللاهي، ثم قِياسه الطَّرد فِي شغل النفس بسائر المباحات، وأشار الروياني إلى وجْه أنَّه يفسق، تكرَّر [ذلك منه] أو لم يتكرَّر، ا. هـ. ومرَّ فِي التَّنْبِيه الثاني جوابُه مبسوطًا، وقد نصَّ الشَّافِعِي - رضِي الله عنه - بما يُوضِّح ذلك الجواب فقال: إنْ غفل به عن صلاةٍ فأكثَرَ حتى تفوته ثم يعود له حتى تفوته، ردَدْنا شَهادته على الاستِخفاف بمواقيت الصلاة، كما نردُّها لو كان جالسًا فلم يُواظِبْ على الصلاة من غير نِسيانٍ ولا [علة] حتى غفل، فإنْ قِيلَ: فهو لا يترك الصلاة حتى يخرج وقتها للعب إلا وهو ناسٍ، قيل: كلا، يعودُ للعب الذي يورث النسيان وإنْ عاد له وقد جرَّب أنَّه يورثه ذلك فذلك استخفافٌ، فأمَّا الجلوس والنسيان بما لم يجلب على نفسه فيه شيئًا إلا حديث النفس الذي لم يمتنعْ منه أحدٌ، فلا يأثَمُ به، وإنْ قبح ما يحدث به نفسه والناس يمتنعون من ذلك، ا. هـ. نصُّ الشَّافِعِي وهو مُؤيِّد لما فرَّقت به فيما مرَّ من أنَّ سبب العصيان تقصيره بتعاطيه ما يعلم أنَّ من شأن نفسه أنها إذا اشتَغلَتْ به ذهلت عن إدراك ¬
الزمن [ز1/ 48/أ] ومضيِّه حتى يخرُج وقت الصلاة وهو لا يشعُر ومفيد للفرق بين الشِّطرَنج وغيره، ورادٌّ لقول الرَّافِعِيّ: ثم قياسه الطرد ... إلخ، ولم يحطْ بعضهم بحقيقة هذا النص فقال: [ويحتاج] إلى تأمُّل، ا. هـ. وقد قال البلقيني بعد ذِكرِه النصَّ: وبه يحصل الجواب عن إشكال الرَّافِعِيِّ، وأنَّه لا يطرد فِي حديث النفس للفرق الذي أبْداه الشَّافِعِي، فقال: إنْ كان يسهو عن وقت الصلاة لشغله به فلا يعلم حتى يفوته [شطرها] هنا بأنْ كان ذلك الدُّفعة والدُّفعتين فلم ترد شهادته، فإنْ كثُر ذلك منه رُدَّتْ شهادته بذلك. قال الشَّافِعِي: فإنْ كان متفكرًا فِي نفسه فكرًا شغَلَه عن الصلاة ولا يعلم خُروج وقتها لشغله لم تُرَدَّ شهادته بذلك وإنْ كثُر منه، قال: والفرق بينهما أنَّ اللاعب بالشِّطرَنج هو الذي أدخَلَ على نفسه ذلك فغلظ عليه، فلهذا لم تُقبَل شَهادته، وليس كذلك الذي لحقه الفكر والهوس؛ لأنَّه لم يدخل ذلك على نفسه، وذلك أنَّ الإنسان لا ينفكُّ عن فكرٍ يتفكَّر فيه، فلهذا قُبِلتْ شَهادته فدلَّ على الفرق بينهما، ا. هـ (¬1). (تَنْبِيه [عاشر] (¬2) الشِّطرَنج فارسيٌّ مُعرَّب، وكسر شينه أجود، بل منَع الصاغاني الفتح، ووجَّه الحريري الكسر بأنَّه القياس فِي كلام العرب فِي المعرَّب أنَّه يُرَدُّ إلى نظيره فِي لغتهم، وليس منها فَعلَل بفتح أوَّله بل بكسره كجردحل وهو الضخم من الإبل، ومقتضى كلام آخَرين أنَّ الفتح أشهر؛ لأنَّه أعجمي، وقال آخَرون: الفتح غلطٌ، ومشى عليه فِي "القاموس"، ويجوز إبدال شينه سينًا، كالتشميت بالشين المعجمة إشارة لجمع الشمل، ¬
وبالمهملة إشارة إلى أنَّه يرزق السمت الحسن، وزعم اشتقاق الشِّطرَنج من المشاطرة أو التشطير مردودٌ بأنَّ الأسماء الأعجميَّة لا تشتقُّ من الأسماء العربيَّة. (تَنْبِيه [حادي عشر] (¬1) أوَّل من وضَع الشِّطرَنج صِصَّة بمهملتين أولهما مكسورة وثانيهما مشدَّد ابن زاهر الهندي وضَعَه لبهلبث، ويُقال له: بِهرم، بكسر أوَّله المعجم ملك الهند مُضاهاة لأزدشير أوَّل مُلوك الفرس الأخيرة حيث وضع النرد مُضاهاة للدنيا وأهلها، وافتخرت الفرس به فقضَتْ حُكَماء ذلك العصر بتَرجِيحه على النَّرد، وعُدَّ ككتاب "كليلة ودمنة"، والتسعة أحرف التي تجمَعُ أنواعَ الحساب فيما يُميَّز به أهلُ الهند على غيرهم، وقيل: إنَّ صِصَّة لَمَّا عرَضَه [ز1/ 48/ب] على الملك فرح به كثيرًا، وسأَلَه أنْ يقترح إليه ما يشتهي، فقال له: اقترحتُ أنْ تضع حبَّةً فِي البيت الأول ولا تزال يضاعفها حتى تنتهي إلى آخِرها فمهما [تبلغ] تعطيني، فاستصغر الملك ذلك من همَّته، وأنكر عليه ما قابَلَه من الفوز اليسير فِي ذلك المقام فقال: ما أريد غير ذلك، فأمَر له به فلمَّا حسبه أرباب الديوان قالوا للملك: ما عندنا ما يُقارب القليل من ذلك، فأنكر عليهم مقالَهم، فأوضَحُوا له بالبرهان، فلمَّا علم ذلك قال: أنت فِي اقتِراحك لما سألت أعجب حالاً من وَضعِك الشِّطرَنجَ، وسرُّ ذلك أنَّك تُضاعِف الأعداد إلى البيت السادس عشر فأثبت به اثنين وثلاثين ألفًا وسبعمائة وثمانية وستين حبَّة، فهذه الجملة مِقدار قدحٍ ثم تُضاعف السابع عشر إلى البيت العشرين يكونُ فيه ويبة، ثم تنتقل من الويبات إلى الأرادب، ولم تزَلْ تضعفها ففي ¬
البيت الأربعين تنتهي إلى مائة ألف أردب وأربعمائة وستين ألف أردب وسبعمائة واثنين وستين أردبًّا وثلثي أردب وهذا المقدار شونة، وهي الحظيرةُ الكبيرةُ التي تخزن فيها الحبوب، ثم تُضاعف الشون إلى البيت الخمسين يكون الجملة ألفًا وأربعة وعشرين شونة، وهذا المِقدار مدينة، ثم ضاعَف ذلك إلى الرابع والستين تكون الجملة ستة عشر ألف مدينة وثلاثمائة وأربعة وثمانين مدينة، والعلم حاصِلٌ أنَّه ليس فِي الدُّنْيَا مدن أكبر من هذا المقدار، فإنَّ دور كرة الأرض ثمانية ألاف، ولم يُعرَف الشِّطرَنج إلا بعد أنْ فُتِحت البلاد، فإنَّ أصلَه من الهند، وانتقل منهم إلى الفرس بخلاف النرد فإنَّه كان معروفًا عند العرب. وعن كعبٍ: أوَّل مَن لعب بالشِّطرَنج يوشع بن نون وصاحبه كالب بن موفثا - صلَّى الله على نبيِّنا وعليهما وسلَّم - وأوَّل مَن علمها قارون وتعلَّمتها الفرس من يوشع. وأخرج الديلمي عن مالك بن أنسٍ أنّ أَوَّلُ مَنْ جَاءَ بِالشِّطْرَنْجِ، والنَّرْدِ عمرو بن العاصِ فعلم الحبري (¬1)، وبه ردَّ على مَن زعَمُوا أنَّ الصولي محمد بن يحيى هو الذي وضَعَه ووفاته سنة ست أو خمس وثلاثين [وثلاثمائة] أثنى عليه الخطيب فقال: كان أحد العُلَماء بفنون الآداب، حسَن المعرفة بالتواريخ، واسع الرِّواية، حسَن الحِفظ للآداب، حاذِقًا بتَصنِيف الكتب، حسَن الاعتقاد، جميل الطريقة، مقبول القول، كثير الشعر، وهو مَنسُوب لجدِّه صُول بضم أوَّله [ز1/ 49/أ] من مُلوك جرجان ثم أسلَمَ، لا لصُول المدينة المشهورة، ونادَمَ عدَّة من الخُلَفاء، وأخَذ عن أبي داود السجستاني، ¬
والبزار، والمبرد، وثعلب وآخَرين وروى عنه الدارقطني، وابن شاذان، قيل: لعلَّ السبب فِي نسبه أوَّل واضع الشِّطرَنج إليه أنَّه كان أوحَدَ زمنه فِي لعبه، حتى إنَّه يضرب به المثل فيه (¬1). واختلف فِي سبب وضْع صِصَّة له فقيل: مضاهاة، كما مرَّ، وقيل: إنَّ امرأةً كان لها ابن ملك قُتِلَ فِي حرب وحده، فطلبت أنْ تراه عيانًا، فلمَّا عمل لها الشِّطرَنج ورأَتْه تَسلَّت، وقِيل: لأنَّ مُلوك الهند كانوا حُكَماء لا يرَوْن قِتالاً، فوضَعُوه ليروا صُورة ذلك، وقيل: إنَّه وُضِعَ لملكٍ جبان فأدمَنَه حتى صار أشجَع أهل زمنه. ¬
القسم الثالث: اللعب بالحزة والقرق
القسم الثالث: اللعب بالحزة والقِرق الأولى بحاء مهملة وزاي مشدَّدة: قطعة خشب تحفر فيها حفر ثلاثة أسطر، ويجعل فيها حصى صِغار يُلعَب بها، وقد تُسمَّى الأربعة عشر، وهي المسمَّاة فِي مصر بالمنقلة، وفسَّرَها سليم فِي "تقريبه" بأنها: خشبة تحفر فيها ثمانية وعشرون حُفرة؛ أربعة عشر من ناحية وأربعة عشر من الجانب الآخَر، ويلعب بها، والظاهر أنها نوعان، فلا تخالف بين هذا وما قبلَه، والثانية بكسر القاف وسُكون الراء، وحكى الرَّافِعِيّ عن خطِّ القاضي الرُّوياني فتحهما، ويسمى شطرنج المغاربة أنْ يُخَطَّ على الأرض خط مربع ويجعل فِي وسطه خطَّان كالصليب، ويُجعَل على رأس الخطوط حصى صغارٌ يلعب بها، هذا حقيقتهما، وأمَّا حُكمهما فاختَلَف أئمَّتنا فيه على رأيين ذكرَهُما الرَّافِعِيُّ فقال: وفي "الشامل" أنَّ اللعب بهما لهوٌ كالنرد، وفي تعليق الشيخ أبي حامد أنَّه كالشِّطرَنج، ويشبه أنْ يُقال ما يعتمد فيه على إخراج الكعبين فهو كالنرد، وما يعتمد فيه على الفكر فهو كالشِّطرَنج. قال الأذرعي، وهذا صحيح مليح، موافق لفَرْقِ الجمهور بين النرد والشِّطرَنج، ثم نازَع الرَّافِعِيّ فيما نقَلَه عن الشيخ أبي حامد أنَّه كالشِّطرَنج بأنَّ المحاملي نقل عنه أنَّ الحزة كالنرد، وسليمًا نقل عنه أنهما كالنرد، وبأنَّ البندنيجي صَرَّحَ بأنهما كالنرد، وهؤلاء الثلاثة هم رُواة طريقة الشيخ أبي حامد، وتعليقه وهو ما أورَدَه الروياني والعمراني، ونقل ابن الرفعة فِي "المطلب" أنَّ تحريمهما هو ما ذهَب إليه [ز1/ 49/ب] العراقيُّون كما صرَّح به البندنيجي، وابن الصَّبَّاغ ثم ذكَر ابن الرفعة حكايةَ الرَّافِعِيِّ عن تعليق أبي حامد وما بَحَثَّه وأقرَّه، وقال الأسنوي: يُؤخَذ من بحث الرَّافِعِيِّ الفَرق
السابق حلهما؛ لأنَّ كلاًّ منهما يعتَمِد فيه الفكر لا على شيءٍ يُرمَى، وأسقط من "الروضة" هذا البحث، ا. هـ. واعترضه الأذرعي بما مرَّ عن سليم وغيره من أنهما فِي معنى النرد سواء؛ إذ لو كان المعتمَد فيهما الفكر لم يكونا كالنرد سواء. ثم قال الأذرعي: ولعلَّ ذلك يختلف باختلاف عادات البلاد أو غير ذلك، ا. هـ. والحق أنَّ الخلاف فِي ذلك ليس له كبيرُ جَدوَى؛ لأنَّ الضابط السابق في ذلك فِي كلام الرَّافِعِيِّ أخذًا من فرقهم السابق بين النرد والشِّطرَنج، إذا عرف وتقرَّر أُدِيرَ الأمرُ عليه، فمتى كان المعتمد على الفِكر والحساب فلا وجْه إلا الحل كالشِّطرَنج، ومتى كان المعتمَد على الحزر والتخمين فلا وجْه إلا الحرمة كالنرد. (تَنْبِيه) قال أبو حنيفة: يُكرَه اللعب بالنرد، وبالشِّطرَنج، وبالأربعة عشر، ونقل مجليٌّ من أصحابنا عنه ما نصُّه: أكرهه كراهةَ تحريم، فظاهره أنَّه يكره ذلك كله كراهة تحريم.
القسم الرابع: اللعب بما تسميه العامة الطاب والدك
القسم الرابع: اللعب بما تسميه العامة الطاب والدك هو حَرام كما اقتَضاهُ الفرق المذكور؛ لأن معتمده ليس إلا على الحزر والتخمين؛ إذ هو أنْ يُؤخَذ أربع قصبات أو جريدات لكلِّ بطن وظهر، فتُرمَى ثم ننظُر كم فيها بطن وكم فيها ظهر، ثم يتَرتَّب على ذلك ما اتَّفَقَا عليه أو اقتضَتْه قاعدة هذا اللعب، فليس فيه اعتمادٌ على حساب ولا فكر ألبتَّة، وإنما الاعتمادُ فيه على ما تخرجه تلك التي تُرمَى من ظهر وثلاثة بطون، أو عكسه، أو بطنين، أو ظهرين، أو محض بُطون أو ظُهور، وممَّا يقتضي الحرمة أيضًا فِي ذلك قول الماوردي: والصحيح الذي ذهب إليه الأكثرون تحريمُ اللعب بالنرد، وأنَّه فسقٌ تُرَدُّ به الشهادة، وهكذا اللعب بالأربعة عشر المفوضة إلى الكعاب، وما ضاهاها فهي فِي حُكم النرد فِي التحريم، ا. هـ. وما أشار إليه الماوردي فِي الأربعة عشر موجودٌ الآن؛ فإنَّه تُؤخَذ الخشبة السابقة ويجعل فيها بُيوت أربعة عشر ثم يرمي تلك القصبات، وينقل من تلك البُيوت بحسب ما يخرجه من تلك الكعاب التي يرمى بها. وأمَّا توقُّف الأذرعي [ز1/ 50/أ] فِي التحريم فِي هذه فهو مبنيٌّ على ما مرَّ عنه من المنازعة للرافعي، وقد مرَّ أنَّه نِزاعٌ لا جَدوَى له، وأنَّ الصواب فِي ذلك التعويل على الفَرْقِ الذي أبْداه الرَّافِعِيُّ وصرَّح به كلامُهم أنَّ ما كانت العُمدة فيه على الحزر والتخمين يكون كالنرد، وقد علمت أنَّ هذا اللعب ليست العمدة فيه إلا على ذلك، ثم رأيتُ الأذرعي جزَم بِحُرمة الطاب فِي توسُّطه كالنرد، وهو واضحٌ جَلِيٌّ لا غبار عليه، واعتمده الزركشي وغيره.
القسم الخامس: اللعب بالكنجفة
القسم الخامس: اللعب بالكنجفة هو حَرامٌ أيضًا كاللعب بالطاب والدك كما صرَّح به فِي "الخادم"؛ لأنَّه ليسَت العمدة فيه إلا على الحزر والتخمين، كما أنها العمدة فِي الطاب كما تقرَّر، ثم رأيتُ الأذرعيَّ نقَل ذلك عن بعض مُتقدِّمي أصحابنا فقال: وممَّا أظهَرَه المردة للترك فِي هذه الأعصار أوراق مزوقة بنُقوش سموها كنجفةٍ يلعَبُون بها، فإنْ كان بعِوَضٍ فقِمارٌ، وإلا فهي كالنَّرد ونحوه ممَّا سبق من التوجيه، ا. هـ.
القسم السادس: اللعب بالخاتم ونحوه
القسم السادس: اللعب بالخاتم ونحوه ظاهر كلام الصيمري من أصحابنا جَوازُه، وجرى عليه الأذرعي فقال فِي "توسطه": اللاعب بالمداحي والخاتم مقبولُ الشهادة إذا لم يتَظاهَر بذلك، وواضحٌ أنَّ محلَّ ذلك حيث لم يكنْ فيه حزر ولا تخمين، وإلا فهو حَرام كما عُلِمَ ممَّا مَرَّ.
القسم السابع: اللعب بالجوز
القسم السابع: اللعب بالجوز جزَم بعضُ أصحابنا بتحريمه، وقال شريح الروياني: اللعب به أخفُّ من اللعب بالحمام والشِّطرَنج، وهذا حيث لا قمار، وإلا فهو حرام إجماعًا، ولا يجوز عقْد المسابقة على المداحاة وهي رمْي بَنادق أو حصًى إلى حُفرةٍ، قال الدارمي: وإنْ كان مجانًا فهو لعب، ا. هـ. وحقيقة اللعب بالخاتم، والجوز، والمداحاة لا أعرفها، ولكن قد علمت أنَّ الضابط الذي عليه المعوَّل أنَّ ما كان مُعتَمده الحساب والفكر حلالٌ، وما كان معتمده الحزر والتخمين حرام، فإنْ وجد في شيءٍ ممَّا ذُكِرَ حزر وتخمين فهو حرام على المعتمد، وقد سبَق فِي النرد رأي غلط لا مُعول عليه أنَّه مكروه، فلعلَّ مَن قال بالحلِّ مع وجود الحزر والتخمين جرَى على ذلك الرأي الذي قد عرفت أنَّه غلطٌ، فتنبَّه لذلك.
القسم الثامن: اللعب بالحمام
القسم الثامن: اللعب بالحمام [ز1/ 50/ب] قال الشيخان والعبارة للرافعي: اتِّخاذ الحمام للبيض والفرخ أو الأنس أو حمل الكتب جائزٌ بلا كَراهة، وأمَّا اللعب به بالتطيير والمسابقة ففيه وجه أنَّ حكمه كذلك؛ لأنَّ فيه تعليمها وترسيخها لإنهاء الأخبار. والظاهر وعبارة "الروضة": والصحيح أنَّه مكروهٌ كالشِّطرَنج (¬1)، وهذه الفائدة تتعلَّق بتَطييرها دون المسابقة واللعب بها، ثم لا تُرَدُّ الشهادة بمجرَّده، فإنِ انضمَّ إليه قمارٌ وما فِي معناه رُدَّتِ الشهادة، ا. هـ. وذكَر الماوردي لمتَّخِذ الحمام ثلاثة أحوال: أحدها: اتخاذه للفرخ وغيره كما سبق فلا تُرَدُّ به الشهادة. الثاني: أنْ يخرج باتِّخاذها إلى السَّفاهة، أمَّا للمُتدلِّه فِي أفعاله والخنا فِي أقواله فتُرَدُّ بذلك شَهادته. الثالث: ما اختُلِف فِي ردِّ الشهادة به، وهو اتِّخاذها للمسابقة، وفيه وجهان بِناءً على ما سبق فِي خبر: ((لا سَبَقَ)) وقد سبق؛ أي: ولفظه: ((لا سَبَقَ إلا في خُفٍّ أو نَصْلٍ أو حافِرٍ)) (¬2)، وهو حديث صحيح، والسَّبَق بفتح السين والباء الموحدة ما يجعل للسابق على سبقه من جُعْلٍ، واقتصر الدارمي وغيره على قولهم: ويكره اللعب بالشِّطرَنج، والحمام، وعبارة مجموع المحاملي: فأمَّا اللعب بها فهو مكروهٌ نصَّ عليه الشَّافِعِي. ومن أصحابنا مَن قال: مُباح لإنهائه بعلم المجيء من البلاد ونقل الأخبار، وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ اللعب بها لا يحصل به منفعةٌ، والكلام إنما هو فِي كراهته دُون إرسالها ¬
من البلاد، وإذا ثبَت أنَّه مكروهٌ فلا يفسق به ولا تسقط الشهادة، وَعَنْ مالكٍ وأبي حنيفة: يفسق وتسقُط شهادته، والدليل على هذا ما ذكَرَاه فِي الشِّطرَنج، ا. هـ. قال الأذرعي: واعلَمْ أنَّ اتِّخاذ الحمام لحمل الكتب من شَأن الملوك ونوَّابهم لا من أغْراض العامَّة ومَقاصدهم، فالمختار الجاري على القَواعد أنَّ مَن أظهَرَ اللعب بها بالتطيير والمسابقة مجانًا - أي: من غير قمار - وعرف بذلك مردود الشهادة؛ إذ العرف [فِي هذه الأعصار] (¬1) مطَّردٌ بأنَّه لا يَتعاطَى ذلك إلاَّ أراذل الناس وسفلتهم، ومَن خلَع جِلبابَ الحياء والمروءة على أنَّ الذي يُقتَنَى للعب به بالتطيير نوعٌ غير ما يُقتنَى لحمل الكتب، والأوَّل لا يكاد يخرج عن سَماء الدار أو البلد [ز1/ 51/أ] إلا نادرًا. وقال الشيخ الموفَّق الحنبلي: اللاعب بالحمام بتطييرها لا شَهادة له؛ لأنَّه سفهٌ ودَناءة وقلَّة مُروءة، ويتضمَّن أذَى الجيران بتطييره وإشْرافه على دُورِهم ورميه إيَّاها بالحجارة، وقد رأَى النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلاً يتبعُ حَمامةً، فقال: شَيْطانٌ يَتْبَعُ شَيْطانةً (¬2)، ا. هـ (¬3). وصرَّح صاحب "الترغيب" بأنَّ اللعب بها مكروهٌ واقتناؤها مباح، إلا إذا اقتناها لسرقةِ حمامِ غيرِه، وظاهرٌ أنَّ الحمام مثال وأنَّ غيرها ممَّا يُقتَنى للعب به من الحيوانات كذلك. ¬
(تَنْبِيه) ممَّا يدلُّ لقٌبح اللعب بالحمام بل لحرمته حديثٌ أبي داود فِي "المراسيل"، والبَغَوي فِي "الصحابة" وهو مرسلٌ أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ثلاثةٌ من المَيْسِرِ: القِمارُ، والضَّربُ بالكِعاب، والصفيرُ بالحمامِ)) (¬1). (فائدة) نقَل بعض المفسِّرين أنَّ اللعب بالحمام كان من دأب قومِ لوط، وأنَّه من جملة المنكر الذي كانوا يأتونه فِي ناديهم كما أخبر الله - تعالى - عنهم به (¬2). ¬
القسم التاسع: اللعب بغير الحمام
القسم التاسع: اللعب بغير الحمام وحكمه أنَّه يأتي فيه ما مرَّ فِي اللعب بالحمام، ومحله إنْ لم يكن فيه إضرار بحيوان وإلا كان حرامًا تحريمًا غليظًا كنطاح الكباش والثيران ومهارشة الديوك وغير ذلك ممَّا فِي معناه، فكلُّ ذلك حَرامٌ كما صرَّحوا به فِي البعض ويُقاس به الباقي، والكلام كلُّه حيث لا قمار، وإلا بانَ شرطُ المال من الجانبين، فالكلُّ حرامٌ إجماعًا، وكذا إذا وُجِدَ المال من إحدى الجانبين فإنَّ ذلك يكون حَرامًا أيضَا؛ لأنَّ تَعاطِي العقد الفاسد حَرام، فإنْ أخَذ المال كان أخذُه فِسقًا مع عِلم تحريمه؛ لأنَّه حينئذٍ كالغصب.
القسم العاشر: اللعب بأمور أخرى في معنى ما مر
القسم العاشر: اللعب بأمورٍ أخرى في معنى ما مرَّ كما ذكره الصيمري فِي "شرح كفايته" حيث قال: ويُلحَق باللعب بالنرد اللعبُ بالأربعة عشر، وبالصرير، والمنقلة، والنواقيل، والكعاب، والرباريب، والدرامات، قال: وكلُّ مَن لعب بهذا الجنس فسخيفٌ مردودُ الشهادة، قمارًا أو غيره، ا. هـ. قال الأذرعي: وبعض ما ذكره لا أعرفه، ا. هـ. وإذا حفظتَ ما مرَّ من الضابط الذي عليه المعوَّل فِي ذلك وهو: أنَّ ما كان المعتمَد فيه الحزر والتخمين حَرامٌ، وما كان المعتمَد فيه الفكر والحساب حَلال، ظهر لك الحقُّ فِي كلِّ ما عُرِضَ عليك من أنواع اللعب التي ذكروها [ز1/ 51/ب] ولم [تعرف] مدلولها والتي لم يذكروها أصلاً.
القسم الحادي عشر: اللعب بالمسابقة بالجري ونحوه وبالمصارعة ونحوها
القسم الحادي عشر: اللعب بالمسابقة بالجري ونحوه وبالمصارعة ونحوها هو جائزٌ حيث لا مالَ من الجانبين ولا قِمار، والأصل فِي ذلك أَنَّ رسُولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تسابَقَ هو وعائشة؛ رواه الشافعي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والبيهقي، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: سابَقتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فسبقتُه، فلمَّا حملت اللحم سابقته، فسبقني، فقال: ((هذه بتلك)) (¬1). واختُلِف فيه على هشامٍ، فقيل هكذا، وقيل: عن رجل، عن أبي سلمة، وقيل: عن أبيه، وعن أبي سلمة، عن عائشة - رضي الله عنها (¬2). وأنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - صارَع ركانة على شاة؛ رواه بو داود، والترمذي [من حديث أبي الحسن العسقلاني، عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة:] (¬3) أنَّ ركانة صارَع النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال ركانة: ¬
وسمعت النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((فرق ما بيننا وبين أهل الكتاب العمائمُ على القلانس)) (¬1). وقال الترمذي: غريبٌ، وليس إسناده بالقائم (¬2). وروى أبو داود في "مراسيله" عن سعيد بن جبير قال: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالبَطحاء، فأتى عليه يزيد بن ركانة - أو ركانة بن يزيد - ومعه أعنزٌ له، فقال له: يا محمد، هل لك أن تصارعني؟ قال: ((ما تسبقني؟)) قال: شاة من غنمي، فصارعه فصرعه، فأخذ شاة، فقال ركانة: هل لك في العود؟ ففعل ذلك مرارًا، فقال: يا محمد، والله ما وضع جنبي أحدٌ إلى الأرض، وما أنت بالذي تصرعني؛ يعني: فأسلم، فردَّ عليه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - غنمَه (¬3). إسناده صحيح إلى سعيد بن جبير لكنَّه لم يُدرِك ركانة ولا يضرُّه؛ لأنَّه جاء موصولاً من طريقٍ أخرى، فقد رواه أبو بكرٍ الشافعي، وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مطولاً (¬4)، ورواه أبو نعيم [في "معرفة ¬
الصحابة"] (¬1) من حديث أبي أمامة مطولاً وسندهما ضعيف (¬2)، ورواه ¬
عبدالرزَّاق [عن معمر، عن يزيد بن أبي زياد، أحسبه] (¬1) عن عبدالله بن الحارث، قال: صارَع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أبا رُكانة في الجاهليَّة، وكان شديدًا، فقال: شاة بشاة، فصرَعَه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: عاودني في أخرى، فصرعه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: عاودني، فصرعه الثالثة، فقال أبو ركانة: ماذا أقول لأهلي؛ شاة أكلها الذئب، وشاة نشزت، فما أقول في الثالثة؟ فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما كنَّا لنجمع عليك أنْ نصرعك ونغرمَك، خُذْ غَنَمَك)) (¬2) ¬
[ز1/ 52/أ] وسندُه ضعيفٌ، وصَوابه رُكانة لا أبو رُكانة الذي وقَع فيه (¬1). (تَنْبِيه) أخْذُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - المالَ منه لا يقتضى جَواز أخْذه فِي المُصارَعة ويُوجَّه بوجهين: أحدهما: أنَّ الظاهر أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - إنما أراد أنْ يُبيِّن غلبَه وعجزَه من وجهين صرَعَه وأخذ ماله فلمَّا ظهر ذلك ردَّه إليه. ثانيهما: لو سلَّمنا خلاف هذا الظاهر لم يكن فيه حجَّة أيضًا؛ لأنَّ رُكانة إذ ذاك كان كافرًا، فهو حربيٌّ يجوزُ أَخْذُ ماله مُطلقًا، ومن ثَمَّ لَمَّا أسلم تفضَّل عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وردَّ إليه غنمه، ثم بتقدير صحَّة تلك الأحاديث يتعيَّن حملُها على أنهما واقعتان. (تَنْبِيه ثانٍ) قال الحافظ عبدالغني: ما رُوِيَ من مُصارَعة النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أبا جهلٍ لا أصلَ له، وحديث رُكانة أمثلُ ما رُوِيَ في مصارعة النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم وشرَّف وكرَّم (¬2). وليكنْ هذا آخِرَ ما أرَدْناه، ونهايةَ ما قصَدْناه، والحمد لله الذي هَدانا لهذا وما كنَّا لنهتدي لولا أنْ هَدانا الله. يا ربَّنا لك الحمدُ كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سُلطانك، حمدًا كثيرًا طيبًا مُبارَكًا فيه أبدَ الآبِدين، وصلِّ اللهمَّ وسلِّم وبارِك أفضل صلاةٍ وأفضل سلامٍ وأفضل بركة على أفضل مخلُوقاتك وزين عِبادك سيدنا محمَّد، وعلى آله وأصْحابه وتابعيهم كلهم بإحسانٍ عدد معلُوماتك أبدًا. ختَم الله لنا بالحُسنَى في عافيةٍ بلا محنة ... أمين. ¬
وحسبُنا الله ونعمَ الوكيل، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله العليِّ العظيم. وكان الفراغ من كتابة هذه النسخة المباركة يوم الثلاثاء أربعة وعشرون الحجة 1293 على يد كاتبه علي حسانين غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ... آمين (¬1). * * * * * ¬