كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس على قلب داود بن جرجيس
عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
مقدمة
المقدمة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزا ًعَظِيماً} (3) . أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإنه لا يشك مسلم –صاحب سنة- في أهمية التوحيد الخالص، وضرورته للبشرية أجمع، فإن من المعلوم أن الله ما أرسل رسولاً إلا
وأمره بأن يدعو الناسِ إلى عبادة الله وحده وينذرهم من الإشراك به. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُون} (1) . وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (2) . قال الحافظ ابن كثير (3) : (وكلهم –أي الرسل- يدعون إلى عبادة الله وينهون عن عبادة ما سواه.. فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم نوح، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي طبقت دعوته الأنس والجن في المشارق والمغارب، وكلهم كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُون} ، وقوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُون} ،وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت} ا. هـ. قال الإمام العلامة الإمام عبد الرحمن بن حسن (4) : (ودلت هذه الآية –أي قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا ... } -على أن الحكمة في إرسال الرسل دعوتهم أممهم إلى عبادة الله وحده والنهي عن عبادة ما سواه. وأن هذا هو دين الأنبياء والمرسلين، وإن اختلفت شريعتهم ... ) ا. هـ.
فأصل الدين هو التوحيد الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به الكتب، وهو الدين الذي لا يقبل الله ديناً سواه. وليس التوحيد مقصوراً على توحيد الربوبية فقط، وأن الله هو الخالق الرازق.. فهذا قد أقر به كفار قريش، بل التوحيد توحيد الآلهية، وهو لب التوحيد، وهو التوحيد الذي جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب. قال الإمام العلامة الشيخ سليمان بن عبد الله (1) : (وهذا التوحيد –أي توحيد الآلهية- هو أول الدين وآخره، وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى قول: لا إله إلا الله (2) ، فإن إلا إله هو المألوه المعبود بالمحبة والخشية والإجلال، والتعظيم، وجميع أنواع العبادة، ولأجل هذا التوحيد خلقت، وأرسل الرسل، وأنزلت الكتب، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء أهل الجنة وأشقياء أهل النار) . وقد رتب الله الأجر العظيم والثواب الجزيل لمن حقق التوحيد. إذا علم هذا كله، فإنه من العجب العجاب عزوف كثير من الدعاة –رزقنا الله وإياهم اتباع السنة- عن تعلم التوحيد، وتعليمه وبذله للناس. فتجد أحدهم يتخذ من أسلوب الترغيب والترهيب بصفة دائمة طريقاً لدعوة الناس إلى الله عز وجل وكأن الله عز وجل لم يرسل الرسل ولم ينزل الكتب إلا لذلك. وآخر تجده يجمع الألوف المؤلفة من الناس ليقرأ لهم قصاصات من
الصحف والمجلات، ليعلم الناس- بزعمه- فقه واقعهم وما تدبره الأعداء لهم. وآخر يشغلهم بخطر الكفرة وأذنابهم، ووجوب معاداتهم، ويغفل أو يتغافل عن خطر أهل البدع والأهواء، فلا يحذر منهم بل يعظمهم ويبجلهم مع أنهم أشد خطراً على الإسلام من اليهود والنصارى وأذنابهم. وآخر يشغلهم بالتهييج السياسي، وتفخيم أخطاء الولاة في نظر العامة مدعٍ أن ذلك من النصح للأمة. فلا تكاد تسمع لأحدهم خطبة أو محاضرة إلا ويفعل ذلك. أما تبصير الناس بأمر التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، فلا تجد له ذكراً، وإن ذكر عندهم فهو قليل بالنسبة إلى غيره. فمن باب النصيحة لهؤلاء نقول: إن في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم غنية لمن أراد الحق وطلبه، وأن في منهج السلف الصالح بياناً واضحاً، وجواباً كافياً لمن سأل عن طريقتهم في إرشاد العباد إلى عبادة رب العباد. ونقول لهؤلاء –أيضاً-: سيروا على ما كان عليه سلفكم الصالح من دعوة الناس إلى توحيد الله عز وجل وربط الناس به ربطاً وثيقاً، ودعوا عنكم الطرق المبتدعة، التي تقودكم –من حيث لا تعلمون – إلى الهاوية.. إلى النهاية. ونقول لهؤلاء –أيضاً-: إن منهج أئمة الدعوة السلفية في البلاد النجدية هو المنهج السلفي، وهو الطريق النبوي. وكيف لا يكون منهجهم كذلك؟ وهم على منهج السلف ساروا، وبأقوالهم أخذوا وبأعمالهم اقتدوا، وبهداهم اهتدوا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وقد دافع علماء الدعوة السَّلفيَّة في البلاد النَّجدية عن الإسلام والسنة دفاعاً مستميتاً، وبذلوا في ذلك كل غالٍ ونفيس، فألفوا الكتب، وبثوا الرسائل في كل البقاع، ودرسوا الناس وعلموهم أمور دينهم، ونشروا السنة في وقت كادت فيه أن تعدم، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. ولم يكتفوا بذلك بل ردوا على كل من حارب الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة، نصحاً للأمة وبراءة للذمة، ولتكون كلمة الله هي العليا. فسيروا يا شباب الإسلام على طريقهم يبلغكم الله ما بلغهم إياه من النصرة والعزة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (1) -رحمه الله -: (وأئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم، كما قال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} . ويرحمون الخلق فيريدون لهم الهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء، بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم، وجهلهم، وظلمهم، كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا ... ". وكتابنا هذا يمثل سلسلة من الردود العلمية التي قام بها أئمة الدعوة السلفية في البلاد النجدية، حماية للسنة النبوية، من الشرك والضلالات الشياطينية، ومن البدع والخزعبلات الخرافية.
وهو رد على داعية الضلال والتلبيس "داود بن سليمان بن جرجيس"، وذلك حينما جوز اتخاذ الأنداد مع رب العباد، وادعى أن ذلك هو دين الأنبياء ومن سلك سبيلهم من أهل العلم والرشاد. فقام إمامنا وعلامتنا الشيخ عبد الرحمن بن حسن في كتابنا هذا برد أضاليله، وأفكه، وتزويره فصار كتابه –رحمه الله – مرجعاً لأهل العلم وطلابه. وقد شرفنى الله عز وجل بتحقيقه، وذلك حسب الوسع والطاقة، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وفي الختام أتوجه بالشكر والثناء لله عز وجل المان بكل خير الذي أعانني على عملين ووفقني للخير ولله الحمد أولاً وآخراً. ثم لكل من ساعدني ووجهني في إخراج هذا الكتاب، وأخص منهم أخونا الشيخ الفاضل: عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم، فقد كان لي خير معين على إخراج هذا الكتاب. أسأل الله العلي القدير أن يجعل ذلك في ميزان حسناتنا يوم أن نلقاه، وأن يوفقنا للعمل الصالح الذي يرضيه عنا، وأن يجنبنا الشرك والبدع ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا بكتابه عاملين وبسنة نبيه مهتدين، ولآثار سلفنا متبعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. كتبه الفقير إلى ربه عبد العزيز بن عبد الله بن إبراهيم الزير آل حمد. غفر الله له ولوالديه وللمسلمين ومن أهل السنة الرياض – 2/4/1414هـ.
تحقيق نسبة الكتاب إلى المؤلف
تحقيق نسبة الكتاب إلى المؤلف تأكد لنا صحة نسبة الكتاب إلى المؤلف من عدة أمور منها: 1- ما كتب على طرة المخطوطة "م" و"ش" من نسبة الكتاب إلى المؤلف، وأما في النسخة "الأصلية" فقد نصت على ذلك في آخر الكتاب. 2- أن من ترجم للشيخ عبد الرحمن –رحمه الله – قد ذكر من ضمن مصنفاته هذا الرد. 3- أن الشيخ عبد الرحمن نفسه قد ذكر في كتابه "فتح المجيد" "ص 130" "ط/الافتاء" أن له رداً على ابن جرجيس، فقد قال: "ونقلته عنه في الرد على ابن جرجيس في مسألة الوسائط". وتجد ذلك صريحاً –كما في "الدرر" (9/210) - حيث يقول: "وقد أجبت داود عما كتبه في عدة كراريس فليراجع إليه". 4- أن الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى قد نص في كتابه: "الرد على شبهات المستعينين بغير الله" على أن الشيخ عبد الرحمن له رد على ابن جرجيس، فقد قال في صفحة "20" "وأعلم أنه قد تصدى للرد على رسائله ... جمع من العلماء.." وذكر منهم الشيخ عبد الرحمن. فمن خلال هذه الأمور نقطع بصحة هذا الكتاب للشيخ عبد الرحمن.
تحقيق اسم الكتاب
تحقيق اسم الكتاب ورد للكتاب عدة أسماء منها: 1- "كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس على قلب داود بن جرجيس". وهذا الاسم مذكور في ديباجة كل النسخ الخطية الثلاث. 2- "القول الفصل النفيس في الرد على المفتري داود بن جرجيس". وقد سمى الكتاب بهذا الشيخ الفقي. 3- "تأسيس التقديس في الرد على ابن جرجيس". ذكر هذا العنوان الشيخ ابن قاسم في "الدرر": (12/63) . 4- "منهاج التنزيه في الرد على المبطل الجهول السفيه". مذكور في آخر النسخة الخطية "الأصل". وأصح الأسماء للكتاب –فيما يظهر لي- هو الأول، وذلك لأسباب: 1- أن جميع النسخ الخطية الثلاث قد نصت على تسميته بهذا الاسم. 2- أن التسميتين من نسخ الكتاب قد كتبتا في عصر المؤلف –رحمه الله – وقرأتا عليه، فلا يستبعد أن تلاميذ المؤلف قد اتفقوا على تسمية الكتاب بهذا الاسم بعد أن أقرهم المؤلف عليه، كما حصل هذا في تسمية كتابه "فتح المجيد". 3- أن تسمية الكتاب بهذا الاسم معتمد على مصدر قوى، هو وجوده في ديباجة النسخ الخطية أما الأسماء الأخرى فلا يمكن أن تعارضه لعدم اعتمادها على شيء من ذلك. 4- أن تسمية الكتاب بـ"القول الفصل النفيس ... " لم يذكره إلا الشيخ
الفقي، ولم يبين من أي المصادر أخذ هذا الاسم للكتاب. وقد يقول قائل: أنه أخذ الاسم ممن ذكروا الكتاب بهذا الاسم للمؤلف. فأقول: كل من ذكر الكتاب بهذا الاسم في مؤلفات الشيخ عبد الرحمن فإنما هو تقليد لما فعله الفقي، وليس ذلك بعد تحرٍ ونظر. وإن سلمنا عدم تقليدهم له فمن فمن أي المصادر أخذوا هذا الاسم؟ وكذا يقال في التسمية التي ذكرها ابن قاسم. والتسمية التي ذكرها الشيخ ابن قاسم –رحمه الله- قريبة من اسم كتاب الشيخ عبد الله أبابطين، فلعل الشيخ ابن قاسم اختلط عليه مسمى الكتابين فسمى كتاب الشيخ عبد الرحمن باسم كتاب الشيخ عبد الله أبابطين والله أعلم. أما تسميته بـ"منهاج التنزيه ... " فلعله قبل أن يتفق على تسميته بـ"كشف ما ألقاه ... "، والله أعلم.
طبعات الكتاب
طبعات الكتاب ... طبقات الكتاب طبع الكتاب في مطبعة أنصار السنة سنة 1365هـ بتحقيق الشيخ الفقي، وهي مليئة بالسقط والتحريف، والزيادة على ما في النسخ الخطية. ثم أعيد طبعه مرة أخرى بدار الهداية، وهي مطابقة للطبعة الأولى تماماً في السقط والتحريف والزيادة –ومع ذلك كتب عليها "تقديم ومراجعة إسماعيل بن عتيق"ملحوظاتي على طبعة الكتاب: جاءت الطبعة التي قام بتحقيقها الشيخ الفقي –رحمه الله – مليئةبالسقط، والتحريف، والزيادة على ما في النسخ الخطية. وكان المأمول من الشيخ الفقي أن يخرج الكتاب على الوجه الذي أراده المؤلف، لا أنه يبدل فيه ويغير ويزيد فيه ما ليس منه من تلقاء نفسه. وقد هالني كثيراً الفرق الكبير الشاسع بين ما عليه النسخ الخطية، وبين المطبوعة. فإليك أخي الكريم بعض ملحوظاتي على هذه الطبعة، مع أن ذكري لها إنما هو من باب التمثيل لا الحصر، وذلك خوف الإطالة وخشية الملالة (1) .
أمثلة السقط
أمثلة السقط: 1- "ص 13" سقط قوله "كثيراً" بعد قوله" وسلم تسليما"". 2- "ص 14" سقط بمقدار ست كلمات من قوله: " ومجاهرة.." إلى قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّه} . 3- "ص 15" سقط بمقدار ستة أسطر من قوله: "وقد نص.."إلى قوله: "وهذه الاعتقادات". 4- "ص 17" سقط بمقدار خمس كلمات من قوله: "لغير الله.." إلى قوله: "فهو كافر". 5- "ص 17" سقط بمقدار عشر كلمات من قوله: "والإجماع.."إلى قوله: "وخالف العلماء..". 6- "ص 18" سقط بمقدار ست كلمات من قوله: "بالبطلان.."إلى قوله: "وقال شيخ الإسلام ... ". 7- "ص 19" سقط بمقدار سبعة أسطر من قوله تعالى: {إِلَّا فِي ضَلال..} إلى قوله: "ومن ذلك قوله تعالى ... ". 8- "ص 19" سقط بمقدار ست كلمات من قوله: " الإسلام.." إلى قوله: "كالآيات". 9- "ص 19" سقط بمقدار كلمتين من قوله: "غير الله.." إلى قوله: " من أي وجه..". 10- "ص 21" سقط بمقدار إحدى وعشرين كلمة من قوله: "من كراماته.." إلى قوله: "قال ابن عبد البر ... ". 11- "ص 21" سقط بمقدار سطر من قوله: "من الأوراق.." إلى قوله: "وأما صاحبه العلامة ... ".
12- "ص 25" سقط بمقدار إحدى عشرة كلمة من قوله: "فما دونه.."إلى قوله: "فأين هذا ... ". 13- "ص25" سقط بمقدار سبع كلمات من قوله" بعضهم لبعض.."إلى قوله: " لأن الله تعالى ... ". 14- "ص 28" سقط بمقدار عشر كلمات من قوله تعالى: {إِلَّا فِي ضَلال ... } إلى قوله: "فنأمل....". 15- "ص32" سقط بمقدار سطرين من قوله: "عن الوصف.." إلى قوله:"وأما قول هذا ... ".
أمثلة التحريف
أمثلة التحريف: 1- في "ص13" من المطبوعة "مانع"، وفي النسخ الخطية "قامع". 2- في "ص 18" من المطبوعة "وبيانه" وفي النسخ الخطية "وبيَّن". 3- في "ص 19" من المطبوعة "ولا ثبت عن" وفي النسخ الخطية "ولا كان". 4- في "ص 30" من المطبوعة "يجمع" وفي النسخ الخطية "يجتمع فيه..". 5- في "ص30" من المطبوعة "وفي حديث أبي ذر المتفق عليه" وفي النسخ الخطية "وفي الحديث المتفق عليه". 6- في "ص32" من المطبوعة "الآيات" وفي النسخ الخطية "الآية". 7- في "ص 33" من المطبوعة "الوسائل" وفي النسخ الخطية "الوصل". 8- في "ص 34" من المطبوعة "حين ردوه وأبوا أن" وفي النسخ الخطية "لما لم..". 9- في "ص 35" من المطبوعة "فأهلكهم الله ... " وفي النسخ الخطية "فأهلكوا بعذاب".
10- في "ص 46" من المطبوعة "وتعفير الجباه" وفي النسخ الخطية "وتعفير الوجوه". 11- في "ص 49" من المطبوعة "وما اجتمعت عليه.." وفي النسخ الخطية "وما أجمعت عليه..". 12- في "ص 49" من المطبوعة "الآيات الدالات" وفي النسخ الخطية "الدالة". 13- في "ص 57" من المطبوعة "العياسيب" وفي النسخ الخطية "اليعاسيب". 14- في "ص 58" من المطبوعة "في تجريد.." وفي النسخ الخطية "في تحقيق..". 15- في "ص 67" من المطبوعة "والطلمسات" وفي النسخ الخطية "والطلسمات". 16- في "ص68" من المطبوعة "كدعاء الميت" وفي النسخ الخطية "كدعاء غيره".
أمثلة الزيادة
أمثلة الزيادة: 1- "ص 19" زاد قوله: "ابن القيم..في كتاب إغاثة اللهفان.." وليست في النسخ الخطية. 2- "ص 19" زاد قوله: "وأنه كان.." وليست في النسخ الخطية. 3- "ص 23" زاد قوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وليست في النسخ الخطية. 4- "ص 26" زاد قوله: "كاقتضاء الصراط المستقيم ومنهاج السنة في الرد على ابن الحلي الرافضي.."وليست في النسخ الخطية.
5- "ص29" زيادة بمقدار سطرين من قوله: " فهذا الضال.."إلى قوله: "في كتابه.." وليست في النسخ الخطية. 6- "ص 29" زيادة بمقدار سطر من قوله: "كما كان.." إلى قوله: "ويجاهدون" وليست في النسخ الخطية. 7- "ص 31، و32" زيادة بمقدار أربعة وعشرين سطراً من قوله: "فالمسلم ليس هو.." إلى قوله: " وما لهم من ناصرين" وليست في النسخ الخطية. 8- "ص 36" زيادة بمقدار سطرين من قوله: "فإنها لم تحلها الحياة.."إلى قوله: "حتى ينفيه الله عنها". 9- "ص37" زاد قوله: "وسبوهم وحقروهم هم والصالحين من عباد الله المؤمنين" وليست في النسخ الخطية. 10- "ص57" زاد قوله: "اقتضاء الصراط المستقيم"، وليست في النسخ الخطية. 11- "ص57" زيادة بمقدار سطرين من قوله: "بل لو قصد.." إلى قوله: "للدعاء عندها". 12- "ص 58" زيادة بمقدار سطر من قوله: " فإن أكثر.." إلى قوله: إلا قليلاً". 13- "ص59، و 60" زيادة بمقدار عشرة أسطر من قوله: "كما قد ذكرنا.." إلى قوله: " لا يحصى عدده إلا الله". 14- "ص 66" زيادة أربعة أسطر من قوله: "ومثل النبي.." إلى قوله: "علم تام". 15- "ص66" زيادة بمقدار ستة أسطر من قوله: "ثم سبب إجابه.."إلى
قوله: "وما يكون فتنة له". 16- "ص 68" زيادة بمقدار سطرين من قوله: "وفي الحديث.." إلى قوله "إلى أن قال: والله أعلم.
وصف النسخ الخطية
وصف النسخ الخطية توفر لدي عند الشروع في تحقيق هذا الكتاب المبارك ثلاث نسخ خطية وهي كالأتي: نسخة خطية كاملة، وهي في مكتبة الأخ الشيخ عبد السلام العبد الكريم -حفظه الله – وقد صورتها منه جزاه الله خيراً. -وتقع في (121) صفحة. -ومسطرتها: ما بين 25-26سطراً. -وتاريخ نسخها: في الخامس من شهر رجب سنة (1283هـ) . -والذي قام بنسخها أولاً الشيخ صعب التويجري –رحمه الله – ثم أكمل بقيتها محمد بن عثمان آل يحيى –رحمه الله-. والذي يظهر لي أن صعباً، ومحمداً –رحمهما الله- كان بينهما تعاون في نسخ بعض مؤلفات الشيخ عبد الرحمن بن حسن، كما هو الحال في كتابه الذي رد به على ابن جرجيس، وكذلك كتابه الذي رد به على ابن منصور. ويوجد في آخر النسخة تملك للشيخ صعب رحمه الله. وقد جعلت من هذه النسخة الخطية أصلاً في تحقيق هذا الكتاب، وذلك لأسباب: 1- أن أحد كاتبي هذه النسخة –وهو الشيخ صعب- كان تلميذاً للشيخ عبد الرحمن، وقد نسخ له بعض مؤلفاته كرده على ابن منصور. 2- أن هذه النسخة قد قرئت على المصنف –رحمه الله-.
3- أن هذه النسخة قد قوبلت على أصل المؤلف. 4- ما يوجد في هوامشها من النقول عن الشيخ عبد الرحمن، وهي إما تقريرات، أو إضافات لا توجد في المخطوطتين الأخريين، وإن وجدت فهي قليلة. 5- أن السقط فيها قليل بالنسبة لغيرها من المخطوطتين. 6- وجود بياض بمقدار عدة أسطر في المخطوطتين الأخريين وسيأتي توضيحه. الثانية: - وتقع في (217) صفحة. - ومسطرتها: ما بين 26-17سطراً. - وتاريخ نسخها: سنة (1283هـ) . - وقام بنسخها: عبد الرحمن بن سليمان المسعري رحمه الله. والنسخة هذه قد وقع فيها بياض بمقدار تسعة أسطر تقريباً، كما في صفحة [207/أ] من المخطوطة. ووقع فيها أيضاً سقط كما يظهر ذلك في صفحة [199/أ] من المخطوطة حيث قال في آخرها: "من معك على هذا قال.." وفي صفحة [200/ب] من المخطوطة بدايتها "الدعاء لغير الله ... " وهذه النسخة محفوظة في مكتبة الرياض السعودية تحت رقم [33/86] ورمزت إليها بحرف "م". الثالثة: محفوظة في مكتبة الشيخ الفاضل عبد العزيز بن مرشد حفظه الله. - وتقع هذه المخطوطة في: (117) صفحة.
- ومسطرتها: ما بين 28-29سطراً. - وتاريخ نسخها: في يوم الخميس، لعشرين مضت من شهر ربيع الآخر من سنة (1337هـ) . - وقام بنسخها: صالح بن عبد العزيز بن صالح بن مرشد. والنسخة قد وقع فيها بياض في صفحة [109/ب] بمقدار 26سطراً. وقد رمزت إليها بحرف: "ش".
منهجي في التحقيق
منهجي في التحقيق 1- مقابلة النسخ بعضها مع بعض، وقد اتبعت فيها ما يلي: أ- اعتمدت النسخة الأولى أصلاً في تحقيق الكتاب، لما ذكرته آنفاً. ب- اتبعت جميع ما في النسخة الخطية "الأصل" إلا ما رأيته حريّاً بالتصحيح، أو بالحذف أو الإضافة مع التنبيه على ذلك في الهامش. ج- كل زيادة عن النسخة الخطية "الأصل" سواء من إحدى النسخ، أو من إحدى الكتب التي نقل عنها المؤلف، أو من عندي، فإني أضعها بين معقوفتين هكذا: [] ، وأنبه على ذلك في الهامش. د- كل نص وجد في النسخة الأصلية، ولم يوجد في النسختين الأخريين "م" و"ش"، أو المطبوعة، فإني أضعه بين قوسين هكذا: () ، وأشير في الهامش إلى أنه سقط من "م"و"ش" أو أحداهما، أو من المطبوعة. 2- حاولت قدر الإمكان أن أوثق النقول بإرجاعها إلى مصادرها. 3- حرصت على مقابلة النص المنقول مع مصدره الذي نُقل منه، وهذه المقابلة ليست حرفية، وإنما لبيان بعض الكلمات الناقصة أو الجمل أوالعبارات الزائدة أحياناً. 4- عزوت الآيات إلى سورها. 5- خرجت الأحاديث الواردة في الكتاب، وكذلك بعض الآثار. 6- أشرت إلى بدء أوراق المخطوطة "الأصل" ليسهل الرجوع إليها.
7- وضعت فهرساً عاماً للكتاب يشتمل على: أ- فهرس للأحاديث. ب- فهرس للمواضيع.
ترجمة موجزة للشيخ عبد الرحمن رحمه الله
ترجمة (1) موجزة للشيخ عبد الرحمن رحمه الله اسمه ومولده: هو الإمام العلامة، والبحر الفهامة العالم الرباني والمجدد الثاني الشيخ عبد الرحمن بن حسن حفيد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ولد سنة 1193هـ في بلدة الدرعية. نشأته: لما قتل والد الشيخ عبد الرحمن في إحدى الوقائع تربى في أحضان جده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وذلك في بلدة الدرعية موطن الدعوة ومهد علمائها، فكان هذا له الأثر الكبير في إقباله على العلم، فحفظ القرآن الكريم وهو في التاسعة من عمره، وقرأ على جده عدة كتب ككتاب التوحيد مثلاً، ولازم دروس العلم فترة طويلة حتى جعله الله –عز وجل- من الذين أراد بهم خيراً ففقهم في الدين. شيوخه: منهم جده شيخ الإسلام، والشيخ حمد بن ناصر بن معمر، والشيخ عبد الله بن فاضل، والشيخ عبد الله بن الإمام محمد، والشيخ عبد الرحمن ابن خميس وغيرهم.
تلاميذه: ابنه الشيخ عبد اللطيف، والشيخ حسن بن حسين آل الشيخ، والشيخ حمد بن عتيق، والشيخ عبد الرحمن بن مانع، والشيخ محمد بن عبد الله بن سليم وغيرهم. مؤلفاته: 1- فتح المجيد. 2- قرة عيون الموحدين. 3- الرد على داود بن جرجيس. وهو كتابنا الذي نحن بصدد تحيققه. 4- مجموعة كبيرة وكثيرة من الرسائل والفتاوى. وفاته: توفي –رحمه الله – عشية يوم السبت في اليوم الحادي عشر من ذي القعدة سنة 1285هـ ودفن في مقبرة العود بالرياض.
ابن جرجيس، وموقف آئمة الدعوة السلفية منه
ابن جرجيس، وموقف أئمة الدعوة السلفية منه يدعى ابن جرجيس: داود بن سليمان بن جرجيس، وقد ولد ببغداد عام1231هـ، وتوفي بها عام 1229هـ. وقد قضى حياته في محاربة أهل الإسلام والسنة، والدعوة إلى الضلال والشرك والبدعة –نعوذ بالله من رين الذنوب وانتكاس القلوب-. فألف الكتب، وجمع الكراريس لنشر دعوته، وبثها في أوساط أهل السنة. فألف كتابه "المنحة والوهبية"، وكتابه "صلح الإخوان"، وكتابه "أنموذج الحقائق" وملأها بالشرك والزور، والكذب والفجور، وادعى فيها الأباطيل، فادعى أن دعاء الأموات والغائبين والذبح والنذر لغير الله رب العالمين ليس بشرك، وادعى أن الوهابية تكفر الأمة المحمدية، وادعى أن الطلب من الأموات والغائبين لا يسمى دعاء بل نداء، وقال إن الشرك هو السجود لغير الله فقط ... إلى آخر كذبه وفجوره. وقد كان موقف أئمة الدعوة السلفية منه ومن دعوته، موقفاً حازماً، فألفوا المختصرات والمطولات من الردود لكشف شبهه وأباطيله، فصارت ردودهم – رحمهم الله – مرجعاً لمن بعدهم من أهل السنة. وممن تصدى لفه من أئمة الدعوة: 1- الإمام العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين، رد عليه بكتاب أسماه بعض الطلبة بـ "الانتصار لحزب الله الموحدين، والرد على المجادل عن المشركين"، وهو مختصر.
وبكتاب آخر اسمه: "تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن سليمان بن جرجيس". 2- والإمام العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن رد عليه بكتاب اسمه: "كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس على قلب داود بن جرجيس"، وهو كتابنا الذي بين يديك، وقد طبع باسم: "القول الفصل النفيس ... ". 3- والإمام العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رد عليه بكتاب اسمه: "تحفة الطالب والجليس في كشف شبه داود بن جرجيس". وبكتاب آخر –وبشكل موسع – اسمه: "منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس"، وقد توفي مؤلفه –رحمه الله – قبل أن يتمه، فقام بإتمامه محمود شكري الألوسي بكتاب أسماه: "فتح المنان". 4- والإمام العلامة الشيخ أحمد بن عيسى رد عليه بكتاب أسماه: "الرد على شبهات المستعينين بغير الله". كما أنه قد تصدى له العديد من العلماء غير هؤلاء، منهم: 1- العلامة نعمان الألوسي در عليه بكتاب أسماه: "شقائق النعمان في رد شقاشق داود بن سليمان". 2- والعلامة السلفي محمد بن ناصر الحازمي بكتاب أسماه: "إيقاظ الوسنان على بيان الخلل في صلح الإخوان". وهكذا علماء أهل السنة تتبابعت مؤلفاتهم ومصنفاتهم في الرد عليه، وبيان ما افتراه من الباطل، وكشف شبهه وأضاليله.
فيا مريد النجاة والسلامة، من أسباب الهلاك والندامة، تمسك بكتاب ربك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وسر على منهاج السلف الصالح، وامنح لنفسك المتعة، بالقراءة في كتب أهل السنة، واعصمها من كتب أهل الشرك والضلال والبدعة، حتى تكون لديك المناعة والحصانة من الشبه الفتانة، نسأل الله الثبات على الإسلام والسنة.
نماذج مصورة من النسخ الخطية
نماذج مصورة من النسخ الخطية
الورقة الأولى من المخطوطة "الأصل"
الصورة الأخيرة من المخطوطة "الأصل"
الورقة الأولى من المخطوطة "م"
الورقة الثانية من المخطوطة "م"
الورقة الأخيرة من المخطوطة "م"
الورقة الأولى من المخطوطة "ش"
الورقة الأخيرة من النسخة "ش"
مقدمة المؤلف
مقدمة المؤلف ... بسم الله الرحمن الرحيم وبه ثقتي وعليه اعتمادي (1) الحمد لله معزّ التوحيد بنصره، ومذلّ الشرك بقهره، ومصرّف الأحوال بأمره، الذي أظهر دينه على الدين كله. أحمده على إعزازه لأوليائه، وخفضه لأعدائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من طهر بالإخلاص قلبه، وأرضى بالمعادات فيه والمولاة ربه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ رافع الشك، وخافض الشرك، ومانع الكذب والإفك اللهم صلّ على محمدالنبي الكريم والرسول الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً (2) . وبعد: فإنه قد بلغني أنه قد ورد على بعض الإخوان مكاتبة من داود بن جرجيس مملوءة بالكذب والتلبيس، ولا ريب أنه مما أوحاه الشيطان وزخرفه إبليس، فاعجب لاتفاق الاسمين وزناً؛ وموافقته له في كل حركة وسكون، فالأول منهما مكسور، والثاني ساكن، والثالث مكسور، والرابع ساكن، والخامس متحرك بالضمة، وفي هذا بعضُ حروف هذا، وهي الياء والسين، كالاشتقاق الأكبر، فحصل بين الاسمين من الاشتقاق ما لا يخفى، فأعجب لذلك يا مننظر فيه.
وأما المشابهة في المعنى فقد سود القرطاس بضروب من الوسواس، إذا تأمله الموحد الأريب، سليم الطوية صحيح الروية، وجد أقواله كلها تدور على جحود التوحيد، ومصادرة (1) محكمات القرآن المجيد كذباً وتأويلاً، وتحريفاً وتبديلاً، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ. وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} (2) الآية (3) ؛ فمن الواجب على من عرف الحق بدليله أن يسعى فيما يبطل دعواه، ويهدم ما أسسه من الزيغ وبناه، ويبين ما فيه من المكابرة وما أتى به من المماحلة تعمداً ومجاهرة (فيما يناقض حكم الله في قوله تعالى) (4) {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه} . فأما قوله: إنه على معتقد الإمام أحمد وشيخ الإسلام وابن القيم: فهذا أول ما أبداه من الكذب والتمويه. فأيم الله لقد خالف هؤلاء الأئمة (ومن قبلهم ومن بعدهم من أمثالهم فيما اعتقدوه من الإخلاص والتوحيد، الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، فلقد صرح هؤلاء الأئمة) (5) وغيرهم بالإنكار والبراءة ممن يدعو مع الله غيره، أو يستغيث به، أو يتوسل [به] (6) في الرغبات والرهبات من الغائبين والأموات. في كل كتاب كتبه هؤلاء وألفوه، وفي كل ما
ردوا به كل صاحب بدعة وصنفوه، كما سأذكر بعضه إن شاء الله تعالى في هذا الجواب. فأما الإمام أحمد –رحمه الله – فهو إمام السنة، ومن أجل حفاظ الأمة، وفقهاء الأئمة فله "المسند" (1) الذي جمع فيه من الأحاديث في أصول الدين والأحكام/ ما لم يجتمع في غيره، ونقل المفسرون وغيرهم عنه من أدلة التوحيد ما يكفي ويشفي طالب الحق، فلو ذهبنا نسوق الأحاديث التي رواها بالأسانيد (2) في هذا المعنى، كحديث ابن مسعود: "من مات (3) وهو يدعو لله نداً دخل النار" (4) ، وكحديث جابر: " من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار" (5) ،ونحو هذه الأحاديث التي يستدل بها أهل التوحيد (6) في محل النزاع، لطال الجواب. وله التصانيف الشهيرة في بيان السنة، وما عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين، وبيان ما خالفوا فيه أهل الأهواء والبدع، فمن استقرأ ما في مصنفاته -رحمه الله تعالى (7) - عرف منها ما هو الحق، وأنه عدو من ألحد في دين الله
وخرج عن الصراط المستقيم، الذي بعث الله به رسله وأنبيائه؛ ورد على الزنادقة، وغيرهم ممن ابتدع في دين الله. (وقد نص الإمام أحمد على أنه لا يجوز الاستعاذة (1) بالمخلوق، وأن ذلك شرك بالله) (2) ، وقد استدل الإمام أحمد –رحمه الله تعالى (3) – بحديث خولة بنت حكيم (4) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نزل منزلاً فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرحل (5) من منزله ذلك" (6) . على أن كلام الله ليس بمخلوق إذ لو كان مخلوقاً لما جاز الاستعاذة به؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك، وهذا العراقي المبهرج الكذاب يجادل بقوله إن الاستغاثة بغير الله ليست بشرك، فإن الكل عبادة (7) . وهذه الاعتقادات في الأموات إنما حديت بعد الإمام أحمد ومن في طبقته من أهل الحديث والفقهاء والمفسرين وأما شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله – فأقامه الله سبحانه في زمانه بتحقيق التوحيد بأنواعه الثلاثة؛ كما أقام الإمام أحمد –رحمه الله تعالى (8) – في زمانه بذلك من توحيد الصفات، فبين هذا
الشيخ رحمه الله (1) نوعي التوحيد بأتم بيان: توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الطلب والقصد، ورد على من عارض أدلة التوحيد بشبهة أو تحريف، فهذه كتبه موجودة، وكلها متفقة على هذا المعنى، كالاقتضاء والمنهاج (2) ، وكتاب العقل النقل. وكتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ورده على ابن الأخنائي ودره على السبكي في مسألة الزيارة، ورده على ابن البكري في مسألة الاستغاثة، وسيأتيك جمل منه إن شاء الله تعالى، وكلامه في أصول الدين مطرد في جميع كتُبه لا اختلاف فيه بحمد الله. فمما نقل عنه أصحابه –رحمه الله –كصاحب الفروع، وكذلك من بعده من الحنابلة المصنفين في مذهب أحمد، كصاحب الإنصاف والتنقيح، وكذا من بعده من المصنفين، كصاحب الإقناع والمنتهى، وقد نقل هؤلاء وغيرهم في باب حكم المرتد عن شيخ الإسلام أحمد بن تيمية –رحمه الله – أنه قال: (من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعاً؛ وهذا هو مذهب أحمد عند أصحابه كلهم) (3) ، وسيأتي كلامه هذا في مسألة الوسائط إن شاء الله تعالى. فصار اعتماد الحنابلة وغيرهم من أهل السنة على اعتقاد ما ذكره (4) شيخ الإسلام –رحمه الله –من الإجماع – [مستنده ما ستذكره في الآيات المحكمات إن شاء الله]- (5) ، لأنه هو الذي اتفقت عليه دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم
وهو الذي خلق الله تعالى (1) الخلق لأجله، وهو نفي الشرك في العبادة بأن لا يُصرف شيء من أنواعها (2) لغير الله كائناً من كان، وهو الذي دل عليه القرآن من أوله إلى آخره، ولم ينقل عن أحد من سلف الأمة وأئمتها أنه أجاز دعوة الأموات والغائبين والاستغاثة (3) والاستشفاع/بهم، وقد تواتر النهي عن ذلك في الآيات المحكمات كما سنذكر بعض ذلك إن شاء الله تعالى. وبما ذكرناه من الإجماع، وما دل عليه الكتاب والسنة من قصر العبادة بجميع أنواعها على الله تعالى، وأن من صرف منها شيئاً لغير الله فاستغاث بغيره من الأموات والغائبين (4) فهو كافر، يبين أن هذا العراقي قد خالف الكتاب والسنة والإجماع-، ومن المحال أن يوجد عن سلف الأئمة وأئمتها ما يخالف هذا الإجماع (5) -، وخالف العلماء من أهل السنة من كل مذهب؛ فما أبعده عن هذا الدين الذي أجمعوا عليه كما قال الشاعر: سارت مشرقة وسرت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب ويكفيك في تقرير (6) ما ذكروه عن شيخ الإسلام من الإجماع، وأنه هو الحق الذي يجب اعتقاده، والدين الذي يدان الله به ما استند إليه من محكم القرآن، كقوله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِين} (7) ،
وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} (1) والمخاطب بهذا سيد المرسلين، وهو لجميع الأمة. وانظر إلى ما ترتب على دعوة غير الله من الوعيد الشديد، والخبر الأكيد، والآيات في هذا المعنى لا تكاد تحصى إلا بعد الاستقراء والاستقصاء، ويأتيك لهاتين الآيتين نظائر من محكم القرآن في ضمن كلام العلماء. قال شيخ الإسلام رحمه الله (2) في "الرسالة السنية" (3) : (فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة قد يمرق من الإسلام لأسباب، منها الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح عليه السلام، وكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الآلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان (4) انصرني وأغثني وارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبهفإن تاب وإلا قتل، فإن الله تعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتاب ليُعبد وحدهلا شريك له ولا يدعى معه إله آخر، والذين يدعون مع الله إلهاً آخر، مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق وتنزل المطر وتنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم (5) أو يعبدون
من النهي عن (2) أن يدعى أحد من دون (3) الله وبيَّن رحمه الله تعالى كيفية الدعاءالذي لا يجوز (4) أن يصلح منه شيء لغير الله؛ وأنه نوعان، وفيه بيان الشرك الذي نهت عنه الرسل، ومنه الاستشفاع بالشفعاء؛ كما هو بين في الآيتين المذكورتين، فهذا الكلام بحمد الله يقضي ويأتي على جميع ما ذكره هذا العراقي من الاستشفاع/ بالأموات ونحوهم بالفساد، بل بالبطلان. ويبطل ما افتراه على شيخ الإسلام رحمه الله (5) . قال شيخ الإسلام: (وكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة، قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} (6) ، وقال: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ
أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُون} (1) . وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدا} (2) ، قلت: و"أحداً" نكرة في سياق النهي وهي تعم كل مدعو من دون الله. وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} إلى قوله: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلال} (3) . قال ابن القيم –رحمه الله تعالى- على قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} : (والله سبحانه صاحب دعوة الحق في ذاته وصفاته وإن لم يوجب لداعيه بها ثواباً، فإنه يستحقها لذاته، فهو أهل أن يعبد وحده ويدعى وحده ويقصد ويشكر ويحمد ويحب ويرجى ويخاف ويتوكل عليه ويستعان به ويصمد إليه فتكون الدعوة الآلهية الحق له وحده، ومن قام بقلبه بهذا معرفة وذوقاً وحالاً صح له مقام التبتل والتجريد المحض، وقد فسر السلف دعوة الحق بالتوحيد، والإخلاص فيه، والصدق، ومرادهم هذا المعنى، فقال علي رضي الله عنه: "دعوة الحق" التوحيد، وقال ابن عباس: "شهادة أن لا إله إلا الله"، وقبل الدعاء بالإخلاص والدعاء الخالص لا يكون إلا لله، ودعوة الحق دعوة الآلهية، وحقوقها، وتجديدها، وإخلاصها) (4) . انتهى من "المدارج". ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ
رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِين} (1) } (2) فتضمنت هذه الآية حقيقة دين الإسلام وهو إخلاص نوعي التوحيد لله وحده (3) كالآيات قبلها، وأمثال هذا في القرآن في دعاء المسألة أكثر من أن تحصى، وهو يتضمن دعاء العبادة؛ لأن السائل أخلص سؤاله لله، وذلك من أفضل العبادات، وكذلك الذاكر لله (4) ، والتالي لكتابه. ونحوه طالب من الله في المعنى، فتكون داعياً عابداً (5) . وللعلامة ابن القيم مثل ذلك. فلم يبق بعد لهذا المشرك حجة يحتج بها على جواز شركه بدعائه غير الله واستغاثته بغيره (6) من أي (7) وجه كان، وهذا أيضاً يأتي داعياً على جميع ما ذكره هذا العراقي بالمنع والبطلان. وقال (8) –رحمه الله تعالى-: وذكر زيارة القبور الشرعية- ثم قال: (وأما الزيارة البدعية فمن جنس زيارة النصارى المشركين. مقصودها الإشراك بالميت، مثل طلب الحوائج منه والتمسح بقبره وتقبيله، والسجود له
ونحو ذلك، وهذا ونحوه لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين ولا كان أحد من السلف يفعله لا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند قبر غيره، بل أجدبوا واستسقوا، ولم يكونوا يأتون عند النبي صلى الله عليه وسلم يدعون عنده لا في ذلك الوقت ولا غيره، بل ثبت في "الصحيح": "أنهم لما أجدبوا في خلافة عُمر رضي الله عنه استسقوا بالعباس، فقال عمر: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون" (1) ، وكانوا في حياته يتوسلون إلى الله (2) بدعائه وشفاعته، فلما مات صلى الله عليه وسلم بقوا يتوسلون بدعاء العباس، ولم يكونوا يقسمون على الله بأحد من خلقه؛ لا نبي ولا غيره؛ ولا يسألون ميتاً ولا غائباً ولا يستعينون بميت (3) ولا غائب، سواء كان نبياً أو غير نبي. وهذا لأن جماع الدين أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع لا يعبد بالبدع، كما قال الفضيل بن عياض في قوله (4) عز وجل: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلا} (1) ، قال أخلصه وأصوبه قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل. وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً. فالخالص أن يكون لله. والصواب أن يكون على السنة) انتهى. /فتأمله يكشف عنك شبهات الشرك إن شاء الله. وقال –رحمه الله تعالى- وذكر أهل الخلوات من الصوفية قال (2) : (وهذه الخلوات قد يقصد أصحابها الأماكن التي ليس فيها أذان ولا إقامة؛ ولا مسجد يصلي فيه الصلوات الخمس (3وأما غير المساجد3) (3) مثل الكهوف والغيران والمقابر، ومثل المواضع التي يقال إن بها أثر نبي أو رجل صالح؛ [ولهذا] (4) يحصل لهم في هذه المواضع أحوال شيطانية، يظنون أنها كرامات رحمانية. فمنهم من يرى أن صاحب القبر قد جاء إليه، ويقول له: أنا (5) فلان؛ أو ربما قال له: نحن إذا وضعنا في القبر خرجنا، والشياطين تتصور بصورة الإنس في اليقظة والمنام، وقد تأتي لمن لا يعرف (6) فتقول: أنا الشيخ فلان، أو العالم فلان، وربما قال: أنا أبو بكر أو عمر، وربما أتى في اليقظة دون المنام (7)
فقال: أنا المسيح، أو أنا موسى (1) ، وقد جرى من ذلك أنواع أعرفها؛ وثم من يصدق بأن الأنبياء يأتون في اليقظة في صورهم (2) ، وثم شيوخ لهم زهد وعلم ودين يصدقون بمثل هذا، ومن هؤلاء من يظن أن النبي [صلى الله عليه وسلم] (3) يخرج من قبره في صورته فيتكلم، وفيهم (4) من يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الحجرة وكلَّمهم فجعلوا هذا من كراماته، وفيهم من يعتقد أنه سأل المقبور فأجابه، وبعضهم كان يحكي أنه إذا أشكل عليه حديث جاء إلى الحجرة النبوية ودخل فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأجابه، وآخر من أهل المغرب (5) حصل له مثل ذلك، وجعل هذامن كراماته) (6قلت: وهذه الأمور التي ذكرها عنهم شيخ الإسلام وهي أحوال شيطانية هي التي أوقعت عباد القبور في عبادتها، وصرف خالص العبادة إليها وقد ردَّه العلماء من أهل السنة6) (6) . قال ابن عبد البر لمن ظن ذلك: (ويحك ترى هذا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟ فهل من هؤلاء من سأل النبي صلى الله عليه وسلم [بعدالموت] (7) فأجابه؟ وقد تنازع الصحابة في أشياء، فهلا سألوه فأجابهم وهذه ابنته فاطمة تنازع في ميراثه؛ فهلا سألته فأجابها) انتهى.
فأنكر العلماء رحمهم الله ما حدث في هذه الأمة من البدع والضلالات التي اغتر بها أكثر الجهال، ولو تتبعنا ما في كتب شيخ الإسلام في معنى ما ذكرنا لاحتمل كثرة من الأوراق (1) تفضي إلى التطويل، والمقصود ذكر ما تقوم به الحجة على من أشرك مع الله غيره في عبادته. وأما صاحبه العلامة محمد (2) بن القيم رحمه الله (3) فأكثر مصنفاته في أصول الدين؛ وما بعث الله (4) به المرسلين. قال في "إغاثة اللهفان" (5) : (والمقصود أن الشرك لما كان أظلم الظلم وأقبح القبائح كان أبغض الأشياء إلى الله، وأشدها مقتاً لديه وأخبر أنه لا يغفره، وأن أهله نجس، ومنعهم من قربان حرمه، وحرم ذبائحهم ومناكحهم، وقطع المولاة بينهم وبين المؤمنين؛ وجعلهم أعداء له سبحانه ولملائكته ورسله وللمؤمنين، وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم (6) ، وأن يتخذوهم عبيداً، وهذا لأن الشرك هضم لحق الربوبية، وتنقص لعظمة الإلهية، وسواء ظن برب العالمين، كما قال تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ/ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (7) فلم يجمع على أحد من الوعيد والعقوبة
ما جمع على أهل الشرك (1) ، فإنهم ظنوا به ظن السوء حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظن لوحّدوه حق توحيده؛ ولهذا أخبر سبحانه أنهم ما قدروه حق قدره في ثلاثة مواضع من كتابه (2) ، وكيف يقدره حق قدره من جعل له عدلاً ونداً يحبه ويخافه ويرجوه، ويذل له ويخضع له (3) . قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (4) ، وقال (5) : {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (6) أي: يجعلون له عدلاً في العبادة والمحبة والتعظيم، وهذه هي التسوية التي أثبتها المشركون بين الله وبين آلهتهم، وعرفوا وهم في النار أنها كانت ضلالاً وباطلاً يقولون (7) لآلهتهم وهي في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِين} (8) ومعلوم أنهم ما ساووهم به في الذات والصفات والأفعال، ولا قالوا: أن آلهتهم خلقت السموات والأرض، وإنما ساووهم به بمحبتهم لها وتعظيمهم وعبادتهم إياها كما ترى عليه أكثر (9) أهل الشرك ممن ينتسب إلى الإسلام، ومن العجب
أنهم ينسبون أهل التوحيد إلى التنقص بالمشايخ والأنبياء والصالحين، وما ذنبهم إلا أن قالوا إنهم عبيد لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياتاً ولا نشوراً؛ وأنهم (1) لا يشفعون لعابديهم أبداً، بل حرم الله شفاعتهم لهم، ولا يشفعون لأهل التوحيد إلا بعد إذن الله لهم في الشفاعة فليس لهم من الأمر شيء؛ بل الأمر كله لله، والشفاعة كلها له سبحانه، والولاية له، فليس لخلقه من دونه ولي ولا شفيع. فالمشرك إما أن يظن أن (2) الله سبحانه يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه من وزير أو ظهير (3) ، أو عوين (4) ، وهذا أعظم التنقص لمن هو غني عن كل ما سواه بذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته. (5 وأما أن يظن أن الله سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشريك5) (5) . وإما أن يظن أنه لا يعلم حتى يعلمه الواسطة، أولا يرحم حتى يجعله الواسطة يرحم؛ أو لا يكفي وحده؛ أو لا يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده الواسطة، كما يشفع المخلوق عند المخلوق، فيحتاج أن يقبل شفاعته لحاجته إلى الشافع، وانتفاعه به، وتكثر به من القلة، وتعززه به من الذلة، أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الواسطة أن يرفع تلك الحاجة إليه كما هو حال ملوك الدنيا، وهذا أصل شرك الخلق، أو يظن أنه لا يسمع دعاءه (6) لبعده عنهم حتى
يرفع الوسائط إليه ذلك. أو يظن أن للمخلوق عليه حقّاً، فهو يقسم عليه بحق ذلك المخلوق عليه، ويتوسل إليه بذلك المخلوق، كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يعز عليهم، ولا يمكنهم مخالفته (1) ، وكل ذلك تنقص للربوبية، وهضم لحقها، ولو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله، وخوفه، ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، من قلب المشرك بسبب قسمة ذلك بينه سبحانه، وبين من أشرك به، فيضعف أو يضمحل ذلك التعظيم والمحبة والخوف والرجاء بسبب صرف أكثره/ أو بعضه إلى من عبده من دون الله. فالشرك ملزوم لتنقص الرب سبحانه والتنقص لازم له ضرورة، شاء المشرك أم أبى ولهذا اقتضى حمده سبحانه وكمال ربوبيته أن لا يغفره (2) ، وأن يخلد صاحبه (3) في العذاب الأليم، ويجعله أشقى البرية، فلا تجد مشركاً قط إلا وهو متنقص لله سبحانه، وإن زعم أنه معظم له بذلك) انتهى. هذا ما قرره العلامة ابن القيم في "إغاثة اللهفان"، وذكر في "المدارج" (4) وغيره من كتبه ما هو مثل ذلك أو أبسط. فماذا بعد الحق إلا الضلال، وما أحسن ما قال –رحمه الله تعالى (5) - في "الكافية الشافعية" (6) :
والعلم يدخل قلب كل موفق ... من غير بواب ولا استئذان ويرده المحروم من خذلانه ... لا تشقنا اللهم بالخذلان ولكن هذا العراقي (1) اعتاد لهذه الأمور الشركية التي يجادل عنها، ونشأ عليها، وتمكنت من قلبه فلم يعرف غيرها، كما قال الشاعر: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً خالياً فتمكنا فيأتي (2) بأدلة يزعم أنها له وهي عليه. من ذلك: استدلاله على جواز دعاء الأموات والغائبين بقول سليمان عليه السلام (3) : {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِين} (4) . فهذا حجة عليه لا له، فإن سليمان عليه السلام ملك نبي (5) يأمر رعيته بما يقدرون عليه، وهكذا حال الأنبياء (6) والملوك وغيره، خصوصاً إذا كان مما يحبه الله ويرضاه (7) ، فهذا مما أوجبه الله تعالى على الراعي لرعيته أن يأمرهم بما ينفعهم وما يتعدى نفعه إلى غيرهم. والرسل عليهم الصلاة والسلام يأمرون الأمم بما أمرهم الله تعالى به، وأوجبه عليهم، وينهونهم عما حرم الله تعالى عليهم من الشرك فما دونه، (9 فهذا (8) الرجل دعى بما علمه الله، والله سبحانه هو المستجيب دعوته9) (9) فأين
هذا من دعاء الأموات والغائبين وسؤالهم ما لا يقدر عليه إلا الله. من قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات؟ وقد أخبر الله تعالى أن استجابتهم للداعي ممتنعة؛ لأنهم يسألونهم ما لا يجوز أن يسأل إلا من الله القريب المجيب الذي أمر عباده بدعائه والرغبة إليه، ووعدهم على ذلك الاستجابة، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} (1) فرغبة هذا المشرك في دعاء الميت أو الغائب الذي أخبر تعالى أنه لا يستجيب له؛ وأنه غافل عن دعائه، وأنه لا يرضى بذلك منه، بل يبرأ إلى الله مما فعل، ويعاديه عليه، كما دلت على ذلك الآيات المحكمات، فما خيبة من رغب عن سؤال الحي القيوم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض إلى سؤال ميت أو غائب لا يسمع ولا يستجيب (2ولا قدرة له2) (2) . ولم يشرع لنا تعالى أن نتوسل بذات أحد من خلقه، بل أرشدنا إلى أعظم الوسائل إليه (3) ، وهو أسماؤه الحسنى. قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} (4) وأما سؤال الحي الحاضر أن يدعو لأخيه المسلم فليس من هذا الباب، لأن الله تعالى أقدره على الدعاء، وأرشد العباد إلى أن يدعو بعضهم لبعض (5كما ورد في دعاء الغائب لأخيه الغائب5) (5) ؛ لأن الله تعالى أقدره عليه، وهذا من جنس أن
يعطيه مما أعطاه الله من المال ما ينتفع به لقدرته على ذلك، فهذا من باب الإحسان من بعض المسلمين لبعض. وأما أهل الشرك (1) بالله فدهاهم عدم/ الفرقان (2) بين ما شرعه الله وما لم يشرعه من دعاء من لا يسمع، ولا يضر ولا ينفع، وقد بيَّن الله (3) تعالى ذلك في كتابه بياناً (4) مفصلاً، وأنكر على من اتخذ من دون الله شفعاء، وبين أن هذا هو الشرك الذي لا يغفره (5) الله (6) ، كما قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ
شُفَعَاء} ، إلى قوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعا} (1) . وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} إلى قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} (2) . فسبحان من حال بين قلوب المشركين عن فهم القرآن؛ حتى صار هدهد سليمان أعرف منهم بالشرك، وهو السجود للشمس، وأنكره على من فعله. فقال: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُم} (3) فأنكر الشرك بالله في العبادة وهو طير من جنس الطيور، وبيّن أن الشيطان صدهم عن السبيل، وأنهم ليسوا على هدى، ولا ريب أن السجود نوع من أنواع العبادة كالدعاء ونحوه، وقد ذكرها تعالى في كتابه وتعبد عباده بها وهي أنواع كثيرة، ومن أعظمها الدعاء سماه الله عبادة في مواضع من كتابه، كما في السنن من حديث النعمان بن بشير بأسانيد صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الدعاء (4) هو العبادة" ثم قرأ قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين} (1) قال ابن الجزري (2) في تفسير (3) الحصن الحصين: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} أي عن (4) دعائي وصرح به غيره من المفسرين – (6كأبي جعفر بن جرير6 (5)) (6) - وغيرهم. وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (7) بحذف الياء أي يا ربنا، ومعناها أدعو وهو العامل للنصب في المضاف، ثم قال في آخر الآية {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} (8) ، فعلم يقيناً أن المراد بقوله {دَعْوَتُكُمَا} قول موسى {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وموسى يدعو وهارون يؤمن، وهذا هو حقيقة الدعاء في الكتاب والسنة واللغة والعرف والاستعمال مطّرد (9) ، وهذا في القرآن أكثر من أن يحصى.
وقال عن الخليل عليه السلام (1 في دعوته لأبيه وقومه1) (1) {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّه} إلى قوله: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه} (2) فسمى دعاءهم لغيره عبادة فما عرفوا من الشرك ما عرف هدهد سليمان؛ فإنه أنكر الشرك وهؤلاء قبلوه واتخذوه ديناً، ومعلوم أن الدعاء والاستغاثة كالسجود وأعظم، وقد تقرر (3) بالكتاب والسنة أنه عبادة، فجحد هذا العراقي ما كان معلوماً من الدين بالضرورة مكابرة وعناداً. وقد تقدم لشيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم أن الدعاء نوعان لا تخرج العبادة (4) عنهما: دعاء مسألة ودعاء عبادة، فدعاء المسألة يتضمن دعاء العبادة، ودعاء العبادة يستلزم دعاء المسألة (5) . وهذا العراقي (6) جهل هذه العلوم النافعة، فصار في ظلمة الجهل، فلم يعرف المعروف من المنكر، ولا عرف الحق من الباطل، فما وجدنا عنده إلا الخبط والعناد، والمرء عدو ما جهل. وفي هذه القصة ما ذكره الله تعالى (7) عن بلقيس لما جاءت سليمان عرفت من التوحيد ودعوة الرسل ما/ أوجب أن قالت: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} (8) ولم تقل: أسلمت لسليمان، بل
قالت: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} . عرفت دعوة الرسل بشواهد الأحوال، وأن الإسلام هو إخلاص الوجه والقلب وجميع الأعمال لله تعالى لا يصلح أن يقصد بشيء (1) منها أحد دون الله عز وجل، كما قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} ، إلى قوله: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} (2) . (4 وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدا} (3) 4) (4) . فتأمل ما ذكر الله تعالى (5) في كتابه في الدعاء، والتشديد في صرفه لغيره، واختصاصه به تعالى خلقه وقد قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِدا} نعوذ بالله من صرف القلوب عن الحق إلى الباطل كما هو حال هذا المماحل (6) المعاند المجادل.
فصل
فصل (1) وقد بين الله تعالى في كتابه حقيقة الإسلام الذي تصلح به القلوب والأعمال. قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِن} (2) . وفي "المسند" عن أبي قزعة الباهلي عن حكيم بن معاوية عن أبيه (3) أنه قال: والله يا رسول ما أتيتك إلا بعد ما حلفت عدد أصابعي هذه أن (4) لا أتيك فبالذي بعثك بالحق ما بعثك به؟ قال: "الإسلام"، قال: وما الإسلام؟ قال: "أن تسلم قلبك وتوجه وجهك إلى الله وأن تصلي الصلوات المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة" (5) . وقال تعالى (6) : {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (1) لا إله إلا الله، وإسلام الوجه هو إخلاص القول (2) والعمل لله وحده لا شريك له باطناً وظاهراً. قال أبو جعفر بن جرير (3) في قوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} : (4) (أي: انقدت لله وحده بلساني وقلبي وجميع (5) جوارحي، وإنما خص الوجه (6) ؛ لأنه أكرم جوارح ابن آدم (7) فإذا خضع وجهه لله (8) فقد خضع له الذي هو دونه في الكرامة من جوارح بدنه) انتهى. وأنت ترى هذا العراقي الجاهل يدعو الناس بشبهاته وضلالاته إلى أن يقصدوا بدعائهم واستغاثتهم عبداً من عباد الله، وذلك العبد يدعو الأمة إلى أن يخلصوا أعمالهم لله ويسلموا له قلوبهم وجوارحهم، رغبة إليه ورهبة منه ومحبة له، وهذا هو التوحيد الذي (9) دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب. ثم إن هذا الجاهل يقول: (إن هذا الطلب والسؤال الذي يصرف لغير الله، ليس بدعاء بل هو نداء) . فكابر المعقول والمنقول، وقد سمى الله تعالى السؤال والطلب دعاء في
كثير من (1) الآيات كما قال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّا} إلى قوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} (2) ، (5 وقال تعالى (3) : {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّه} (4) 5) (5) سمى النداء دعاء لأن مدلولهما واحد، من باب الترادف على معنى واحد، وهذا ظاهر جلي لمن تدبر (6) ، وعلى كل حال فتسميته نداء لا يخرج عن كونه عبادة كما تقدم. قال الله (7) تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} (8) فعطف النداء على الدعاء عطف مرادف، وقد تقدم أن الدعاء هو العبادة (9) ، وفي حديث أنس الذي في السنن "الدعاء مخ العبادة" (10) ، وقد قصر الله تعالى العبادة على نفسه، كما قال تعالى في فاتحة الكتاب:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} (1) ، وفي الحديث المتفق عليه: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" (2) ، فالعبادة بجميع أنواعها مادق منها وجل حق الله تعالى على عبادهن لا يصلح منها شيء لغيره كائناً من كان، فمن صرف من العبادة شيئاً لغير الله فقد جعله شريكاً لله في حقه. وذلك ينافي التوحيد الذي دلت عليه الآيات المحكمات. ومما (3) يوضح ترادف النداء والدعاء، وأنهما بمعنى واحد: ما أخبر الله تعالى عن نوح (4) عليه السلام بقوله تعالى (5) : {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَه} (6) فأخلص القصد لله بندائه فاستجاب الله له، وقال في الآية
الأخرى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِر} (1) فسماه تعالى دعاء (2) . ولا ريب أن الدعاء يجتمع فيه من أنواع العبادة ما لا يجتمع في غيره من أنواع العبادات، والنداء كذلك (3) ، كتوجه الوجه والقلب واللسان للمدعو، تذللا له (4) وخضوعاً/ واستكانة ورغبة، وهذا هو العبادة؛ لأن أصل العبادة وأساسها أن يخضع غاية الخضوع والتذلل للمعبود، ولا بد مع ذلك من المحبة، وأنت ترى ما يفعله المشركون من إقبالهم على الأموات بسؤالهم ما لا قدرة لهم عليه، وتجد عندهم من الخضوع والتذلل وإسلام الوجه والقلب والجوارح لسؤال صاحب القبر ما لا يوجد مثله (5) في المساجد، وهذا لا يخفى على من عرف حال هؤلاء المشركين مع من كانوا (6) يقصدون (7) لإغاثة لهفاتهم وتفريج كرباتهم، فيقع منهم من الشرك بالله ما يجل عن الوصف (8 فعبدوا غير الله بالقول والاعتقاد، وأقبلوا عليه بقلوبهم وألستنهم وجوارحهم، وهذا الواقع لا يقدر أحد أن يجحده، فقد عمت به البلوى في الأمصار، وأكثر الأقطار والله أعلم8) (8) . وأما قول (9) هذا الجاهل العراقي: (وكذلك المسلمون يذكرون أن طلبتهم
من غير الله إنما هي من باب التسبب) . فالجواب: أن نسبة الطلب من غير الله إلى المسلمين من أمحل المحال، وأبطل الباطل، فإن المسلم لا يطلب من غير الله ما لا يقدر عليه (1) ، فإن من طلب وسأل حاجته من ميت أو غائب، فقد فارق الإسلام؛ لأن الشرك ينافي الإسلام؛ لما تقدم من أن (2) الإسلام هو إسلام الوجه، والقلب، واللسان، والأركان لله وحده دون من (3) سواه. فالمسلم (4 مخلص يخلص دعاءه لله، والمشرك يصرف جل الدعاء والعبادة أو بعضه لغير الله4) (4) . وقد عرفت مما تقدم أن الدعاء هو العبادة، وقد نهى سبحانه وتعالى (5) نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو غيره، فقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} (6) ، وهذا خرج مخرج الخصوص وهو عام لجميع الأمة، وكذلك قوله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِين} (7) ، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُو} (8) فظهر
من هذه الآيات (1) أن الدعاء تأله للمدعو، فإن المألوه هو المعبود والعابد آله (2) له (3) ، ومصدره الآله (4) والآلهة، وقرأ (5) ابن عباس رضي الله عنهما: {ويذرك وإلهتك} بكسر الهمزة وفتح اللام قال: "لأن فرعون يُعْبد ولا يَعْبدُ" (6) . وفي هذه الآيات التي ذكرنا هنا وقبلُ ما يبين أن الله تعالى زجر الأمة وأبلغ في الزجر والوعيد لمن دعا معه غيره، (7 وبين أنه شرك والاستغاثة دعاء ويختص بالمضطر7) (7) . وقول هذا العراقي الجاهل المماحل: (أن طلبتهم من غير الله إنما هي من باب السبب) . فيقال: هذا من باب التلبيس والتمويه على الجهال، وهذا من مصائد الشيطان ووحيه، معارضة لما دلت عليه الآيات المحكمات من بيان الشرك والوعيد عليه، فإذا اعتقد المشرك أن هذا من باب التسبب فليس كل ما اعتقده [هو] (8) أو غيره سبباً يكون مشروعاً، يجوز فعله، وقد قال الخليل عليه السلام: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِين} (9) .
وقال (1) تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه} إلى قوله {وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} (2) ، قال المفسرون: "الأسباب"هي الوصل التي كانت بينهم في الدنيا، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم} (3) وما تضمنته هذه الآيات هي أسباب لأهل الإشراك يعتقدون أنها سبب في حصول مطلوبهم، ودفع مرهوبهم، فخانتهم هذه الأسباب أحوج ما كانوا إليها؛/لأنها شرك وضلال، وهي من مصائد الشيطان التي صاد بها قلوب الجهال، فمن أطاع الشيطان ندم ومن عصاه سلم، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. وأعظم الأسباب النافعة الجالبة لرضى الله، المنجية من عقابه وعذابه: إخلاص العبادة لله تعالى بجميع أنواعها؛ والاستعانة على ذلك، والعمل بطاعته والتباعد عن معصيته. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (4) رحمه الله تعالى: (والتوكل والاستعانة للعبد؛ لأنه هو الوسيلة؛ والطريق الذي به ينال مقصوده، ومطلوبه من العبادة؛ فالاستعانة كالدعاء والمسألة) . فإذا عرفت بصحيح المنقول، وصريح المعقول أن الدعاء عبادة، وأن مدلوله السؤال، والطلب فمن صرف من هذه العبادات شيئاً لغير الله فقد أشرك
مع الله غيره في عبادته كائناً من كان، لعموم النهي عن دعوة غير الله في القرآن كله من أوله إلى آخره، فمن ادعى أنه يصرف منه شيء لأحد سوى الله، فقد صادم الكتاب والسنة، وخالف ما اجتمعت عليه دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم فيما دعوا إليه أممهم بقولهم: {أن اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه} (1) .ومما يدل على أن السؤال والطلب عبادة: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لم يسأل الله يغضب عليه" (2) ، وقال: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين
ونور السموات والأرض" (1) ، وعماد الدين بلا ريب، لا يشك في هذا من له أدنى مسكة من عقل، والأدلة على هذا أكثر من أن تحصى (2) . وأما (3) قول هذا العراقي: (إن أهل السنة لا يكفرون المعتزلة) . فالجواب (4) : أولاً أن يقال: الكلام معك في أصل الإسلام الذي هو توحيد الله تعالى بالعبادة، الذي أرسل الله تعالى (5) به رسله، وأنزل (6) كتبه في بيانه والدعوة إليه، والنهي عما ينافيه من الشرك بالله، وهو الذي أهلك الله الأمم لما لم يقبلوا ما جاءت به الرسل من هذا (7) التوحيد، وأبو إلا أن يجعلوا لله (8) شريكاً في العبادة فأهلكوا بعذاب الاستئصال، وأما هذه الأمة فمن لم يقبل التوحيد الذي بعث الله به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فإن دماءهم وأموالهم حلال،
وكذلك سبي نسائهم وذراريهم، فمن أنكر هذا التوحيد أو شك فيه من مشرك أو منافق كفر بإجماع المسلمين كما ذكره شيخ الإسلام –رحمه الله (1) - في مواضع2) (2) . وأما البدع التي حدثت في هذه الأمة، فإن سببها أن أهلها أخطأوا في فهم الكتاب والسنة في بعض الأصول، وصاروا هم وأهل السنة في طرفي نقيض لخفاء الأدلة عليهم، وعدم التوفيق بينها (3) في محل النزاع، كما جرى من الخوارج، كما قال العلامة ابن القيم –رحمه الله- تعالى فيهم (4) . ولهم نصوص قصروا في فهمها ... فأتوا من التقصير في العرفان وخصومنا قد كفرونا بالذي ... هو غاية التوحيد والإيمان فكلامنا (5) مع هذا العراقي في أصل الدين الذي لا يصلح قول ولا عمل إلا به، وبضده تفسد الأقوال والأعمال. وأما قول الجهمية والمعتزلة فهو إلحاد في أسماء الله وصفاته، فاختلفوا في القَدْر نفياً وإثباتاً (6 وجحدوا معنى الأسماء والصفات التي دلت عليه6) (6) ، وأهل السنة كفّروا/ كل داعية إلى هذه البدع ونحوها، وقد ذكر ابن القيم- رحمه الله تعالى- قول أهل السنة فيهم فإنه قال (7) :
ولقد تقلد كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان إلى أن قال: أهل العناد فأهل كفر (1) ظاهر ... والجاهلون (2) فإنهم نوعان متمكنون من الهدى والعلم بـ ... بالأسباب ذات السير والإمكان لكن إلى أرض الجهالة أخلدوا ... واستسهلوا التقليد كالعميان لم يبذلوا المقدور في إدراكهم ... للحق تهوينا بهذا الشان وهم الأولى لا شك في تفسيقهم ... والكفر فيه عندنا قولان وأما قوله (3) : (إن أهل الكرامات حالهم في الممات كحالهم في الحياة) . فهذا يبطله ما ذكره الله تعالى بقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُور} (4) فلم يجعلهم تعالى (5) سواء، بل فرق بين الأحياء والأموات، وشبه بهم ما لم ينتفع بسماع الهدى. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون} (6) وليست هذه الآية في الأصنام كما يزعمه من لم يتدبر؛ لأن الأصنام لا يحلها الموت من الأخشاب، والأحجار ولا شعور لها، وقد قال تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون} (7) ، فهذه الآية فيمن.
يموت ويبعث (1 من أهل الكرامات والمعجزات وغيرهم1) (1) ، كما لا يخفى على من تدبرها، وتأمل قوله تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ [أَيَّانَ يُبْعَثُون] (2) } ، وهذا إنما يستعمل فيمن يعقل، كما لا يخفى على من له معرفة باللغة العربية (3) . فالحمد لله على ظهور الحجة وبيان المحجة. وحقيقة أمر (4) هذا العراقي مصادمة ما في القرآن من النهي عن دعوة غير الله، والقرآن ينهى عن دعوة كل ما سوى (5) الله، وهذا يقول: (يجوز (6) أو يستحب أن يُدْعى، أو يستغاث (7) مع الله غيره) . (9 فليس (8) عنده إلا تشكيك، وتخمش، وتغيير على التوحيد، ونصرة للشرك والتنديد9) (9) . ولا يخفى أن جُلَّ (10) شرك المشركين في حق من عبدوه مع الله إنما هو بدعائه وسؤاله قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم، فإن أردت أيها الموحد-وفقك الله للتمسك بدين الإسلام- حقيقة ما اشتملت (11) عليه أوراق هذا
العراقي (1) طول ما طول، وبهرج ما بهرج، لكن (2) حقيقة ما فيها: الخروج عن الصراط المستقيم إلى سبيل الشيطان الرجيم، واتباع غير سبيل المرسلين (3) والمؤمنين، وإيماناً بالجبت والطاغوت، والجهل بالتوحيد وجحوده، والكفر به، والإيمان بالشرك بالله، ونصرته، والدعوة إليه، ومسبة أهل التوحيد، وتحريف الكلم عن مواضعه، ومصادمة أدلة الكتاب والسنة، وتقليب الحقائق بجعله الحق باطلاً والباطل حقاً، وتكثير الكذب على العلماء، ونسبتهم (4) إلى ما هم بريئون منه، منكرون له، وملأ أوراقه بالمخرقة (5) والبهرجة، والتخليط والتخبيط، والسفسطة والمغالطات، والتمويه على الجهال وغير ذلك. وحقيقة أمرهم: أنهم شبهوا الأنبياء والصالحين بالأصنام من حيث اتخاذهم لهم شركاء لله في العبادة، وذلك غاية المسبة لهم، فعظموا الأنبياء والصالحين من حيث أهانوهم (6) ، وفعلوا معهم من الشرك بهم ما دعوا الأمم إلى تركه، وهذا ظاهر لمن تدبر أدلة القرآن الذي أنزله الله تعالى/ نوراً وشفاءًا لما في الصدور، ولا يمكن أن يعارض بالبهرجة والمغالطات، ولا يفعل ذلك إلا من أعمى الله قلبه، وأذهب عقله، فإن العاقل من يفعل الخير، ويترك
الشر (1) ، وهذا الرجل صار معكوس العقل، يقبل الشرك ويرضاه؛ ويترك الخير ويأباه كما هو حال الكثير من هذه الأمة وقبلها، كما قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} (2) ، وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون} (3) . وأنت ترى هذا العراقي ينصب العداوة لكل من آمن بالله، ودعا إلى توحيده وهو عدو كل موحد ونصير (4) كل (5) ملحد، وهؤلاء هم (6) أعداء الرسل في كل زمان ومكان، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُون} (7) والبصير إذا نظر في أوراق هذا العراقي علم أن ما ذكره الله تعالى في هذه الآيات (8) لا يعدوه – بل هذه حالة وأمثاله وهم كثيرون لا كثرهم الله فكم صرفوا
ضعفاء العقول عن الإيمان، وعن أدلة القرآن (1) –وذلك أنه يحاول بشبهاته وترَّهاته أن يجعل الميت أو الغائب شفيعاً يسأله ويقصده، ويرغب إليه بالدعاء والاستغاثة (2) ، والتذلل والخضوع له بما لا يصلح إلا لله تعالى (3) ، وقد أخبر (4) تعالى (5) أن اتخاذ الشفعاء من دين المشركين، كما قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء} إلى قوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (6) ، والشفاعة كذلك لا يملكها غيره، ولا تحصل إلا بشروط (7) إذن الله للشافع رحمة (8) للمشفوع له، وكرامة للشافع، ولا يقع الإذن إلا في حق من رضي الله دينه وهم أهل التوحيد والإخلاص، الذين لم يتخذوا من دونه شفيعاً [والمدعو لا يشفع لمن دعاه، كما دلَّ عليه الآيات المحكمات] (9) ، كما قال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} (10)
فسبحان الله أين ذهب عقول هؤلاء الغلاة المشركين عن هذه الآيات المحكمات البينات؟ وقد أخبر تعالى (1) أن اتخاذ الشفعاء هو دين أهل الشرك بالله من عبدة الأوثان، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه} إلى قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} (2) فأخبر أنه شرك ونزه نفسه عنه، وأخبر أن قولهم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه} (3) يمنع حصول/ الشفاعة لهم بطلبها من غير من يملكها، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (4) فأخبر تعالى أنهم تولوهم من دون الله بالعبادة؛ وأنهم إنما أرادوا بذلك أن يقربوهم (5) إلى الله بشفاعتهم لهمن فأخبر تعالى أن هذا هو الكفر بالله، بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّار} (6) و "كفار" صيغة مبالغة أبلغ من كافر. وهذا الذي ذكره الله تعالى (7) عن المشركين هو الواقع من كثير من هذه الأمة في حق أرباب القبور، جهلاً منهم بحقيقة الشرك؛ حتى إن ذلك قد وقع من كثير ممن ينتسب إلى العلم، وذلك ينافي الإخلاص في العبادة الذي هو
دينه الذي بعث الله (1) به رسله وأنزل به كتبه، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّين أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص} (2) فالإخلاص هو دينه الذي لا يقبل ديناً سواه. وهو الذي أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّين} (3) والدين هو العبادة، لا اختلاف (4) بين علماء التفسير وغيرهم في ذلك، وقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (5) ، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} (6) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدّاً، كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين} (7) . وقد تقرر في كلام العلماء، بل (8) في الآيات والأحاديث أن الدعاء صلاة، وهو كذلك لغة وعرفاً، والصلاة الشرعية قد اشتملت على نوعي الدعاء؛ دعاء المسألة ودعاء العبادة، وقد تقدم في كلام شيخ الإسلام وابن القيم –رحمهما (9) الله تعالى-إن دعاء المسألة يتضمن دعاء العبادة، ودعاء العبادة يستلزم دعاء
المسألة، وقد اشتملت الصلاة الشرعية على النوعين فلا تصح إلا بهما، وكلاهما عبادة لا يصلح منها شيء لغير الله، فلا يجوز أن يدعى غير الله، كما لا يجوز أن يتقرب بالنسك إلى غيره فمن صرف من ذلك شيئاً لغير الله فقد خرج من دين الله الذي شرعه وأمر به، وبلغه عنه رسوله (1) صلى الله عليه وسلم؛ وجاهد من تركه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" (2) ، فلو كان سؤال غير الله جائزاً لما قصر ابن عمه عبد الله بن عباس على سؤال الله وحده دون غيره، بل أمره بتوحيد السؤال والاستعانة،
وقصر ذلك على الله، وذلك في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} (1) ، أي: إياك نعبد لا غيرك، وإياك نستعين لا بغيرك، ولا يخفى أن تقديم المعمول يفيد الحصر، فاشتملت هاتان الكلمتان على نوعي التوحيد؛ توحيد الإلهية، وهو الغاية وهو فعل العبد {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} هو الوسيلة والمعين هو الله وحده. فالاستعانة بغيره فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك في الإلهية والربوبية، وقوله: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ} (2) ، أي: في ذلك كله. قال العماد ابن كثير في تفسيره (3) : (أي قصدي ونيتي وعزمي) . قلت: فتناول هذه الآية أعمال العبد باطنها وظاهرها، وإن ذلك كله لله وحده لا يستحق غيره منه (4) قليلاً ولا كثيراً. قال الله (5) تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّه} (6) . قال العماد ابن كثير (7) –رحمه الله – في تفسيره: {مُتَشَاكِسُونَ} ، أي: متنازعون (8) في ذلك العبد المشترك بينهم، {وَرَجُلاً سَلَماً (9) لِرَجُلٍ} خالصاً
لرجل لا يملكه أحد غيره، {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} أي: لا يستوي هذا وهذا؛ /كذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة مع الله والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فأين هذا من هذا؟ قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: (هذه الآية ضربت مثلاً للمشركين والمخلصين (1) ، ولما كان هذا المثل ظاهراً بيناً جلياً قال: {الْحَمْدُ لِلَّه} ، أي: على إقامة الحجة عليهم {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُون} أي: فلهذا يشركون بالله) .
فصل
فصل (1) وقد أنكر الله تعالى (2) في محكم كتابه على من دعا الأنبياء والصالحين والملائكة. فقال تعالى (3) : {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورا} (4) . نزلت هذه الآيات فيمن يدعو المسيح وأمه والعزير والملائكة، وأئمة التفسير (5) ذكروا ذلك في معنى هذه الآية الكريمة. فانظر إلى هذا التهديد والوعيد في حق من دعا الملائكة والأنبياء والصالحين؛ وأخبر تعالى أنهم لا يملكون كشف الضر عمن دعاهم، ولاتحويله، وأخبر تعالى أن أولئك الذين يدعونهم من الأنبياء والصالحين يبتغونإلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، وأعظم الوسائل (6 التي تقرب إلى الله6) (6) إخلاص العبادة لله تعالى، وتجريد التوحيد، ومخالفة ما كان يفعله المشركون من دعوةغير الله.
ومما يتوسل به إلى الله تعالى ذكر (1) أسماؤه وصفاته، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (2) ، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه (3) أن يتوسلوا إلى الله في دعائهم بحمده والإخلاص له، كما في الحديث الصحيح: "اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام" (4) ، وحديث "اللهم إني أسألك بأني أشهد (5) أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد والصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" (6)
وأمثال هذا في الأحاديث كثير. وأما ما ادعاه المنحرفون عن الإيمان م أن الوسيلة هي (1) التوسل إلى الله تعالى بذوات (2) الأنبياء والصالحين، فهذا باطل يناقض ما ذكره الله تعالى في أول الآية: من تهديد من دعاهم، وإنكاره عليهم دعوتهم، وقد تقدم ما يدل على (3) أن هذا الدعاء (4) هو بعينه دين المشركين والمتخذين الشفعاء يسألونهم أن يشفعوا لهم عند الله، ويقربوهم إليه زلفى، والقرآن كله من أوله إلى آخره يبطل هذه الوسيلة ويبين أنها شرك وكفر، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُون} (5) ، وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة} (6) الآية (7) ، وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير} إلى قوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُم} (8) .
فتظاهرت الآيات والأحاديث على أن هذه الوسيلة التي يدعيها أولئك الضلال؛ من التعلق بالأموات والغائبين برغبة أو رهبة (1) أن هذا هو (2) الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله تعالى (3) ، كما تقدم ذلك صريحاً في كلام العلماء، والاستدلال على ذلك بهذه الآيات ونظائرها. وهؤلاء الجهلة (4) الضلال قلبوا الحقائق، ودعوا الخلق إلى أن يجعلوا لله أنداداً يصرفون لهم من العبادة ما لا يستحقه إلا الله تعالى، فخالفوا الرسل والكتب، فأنكروا (5) [التوحيد] (6) الذي تضمنته دعوة الرسل والكتب، ودلت عليه كلمة الإخلاص لا إله إلا الله (7) ، وأجازوا الشرك الذي هو أعظم المنكرات، واتفقت الرسل/ والكتب على إنكاره والنهي عنه، والتحذير منه ومن عقوباته، وهذا بين واضح لمن ألهمه الله رشده، ووقاه شر نفسه، وأحياالله قلبه. وليس عند هذا العراقي –وأمثاله من المشركين (8) – ما يدفع حجج الله وبيّناته، حاش وكلا. وغاية ما يستدل به: إما حديث مختلق مفترى، والأحاديث لا يقبل منها
إلا ما رواه العلماء من أهل الحديث بالأسانيد المتصلة وليس فيها من يتهم بالكذب، [أو النسيان] (1) ، أو غير ذلك من العلل التي ذكرها المحدثون. (2 وعلى كل حال فالحديث لا يخالف ما صرح به القرآن من النهي عن الشرك قليله وكثيره، وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد 2) (2) . وقد صنف بعضهم في الموضوعات، وأفردها بالتصنيف؛ لئلا يغتر بها جاهل، ومما بهرج به ما ينسبه إلى بعض العلماء، وهو إما أن يكون كذباً عليهم، أو أنه أخطأ والخطأ جائز عليه (3) ؛ ولهذا ورد في كلام بعض الصحابة التحذير من زلة الحكيم، (6 وفي الحديث "إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين (4) ، وهذا يدل على أنه قد يوجد في الأمة من هو كذلك، بل قد وجد في كلام كثير جهلاً منهم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما 6) (5) (6) كلٌّ يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلمن فإن الله تعالى عصمه وأخبر أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وأيضاً فكل هذه الحكايات منقطعة لا يجوز الاحتجاج
بها، ولو لم تعارض نصوص الكتاب والسنة، فكيف إذا عارضت أصل (1) الإسلام الذي أكمله الله تعالى في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فلا تجد حكاية من الحكايات إلا وهي منقطعة، والناقل مجهول الحال أو متهم بالكذب (2) ، وبكل وجه اعتبرته يفسد به الاستدلال. فلا يروج ما لبس به هذا العراقي إلا على جاهل لا بصيرة له في معرفة الحق من الباطل. ولا خلاف بين العلماء –رحمهم الله تعالى- أن أدلة الشرع المتفق عليها ثلاثة: آية محكمة، أو حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه العلماء بالأسانيد المتصلة، ويحتجون به على محل النزاع، والثالث: الإجماع، وهو إجماع الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين من المجتهدين. وأما القياس: ففي الاستدلال به نزاع بين العلماء، ومن قال منهم: إنه دليل، فلقبوله شروط مذكورة في كتب العلماء من الأصوليين وغيرهم (3 فإن خالف نصاً، أو ظاهراً فسد اعتباره بالإجماع 3) (3) ، فإذا كانت هذه الحكايات التي يذكرها هذا العراقي لا يدل عليها نص كتاب ولا سنة ولا قياس، ولا أجمع عليها من يعتد بإجماعه ممن ذكرنا، ومع هذا فقد صادمت الأدلة كلها، فإذا كان الأمر كذلك –كما لا يخفى – علم يقيناً أنها من وحي الشياطين (4) ، وتلبيس الجاهلين المنحرفين عن الحق المبين.
وقد ذكر شيخ الإسلام –رحمه الله تعالى- حكايات ذكر أنه (1) اغتر (2) بها عباد القبور، وأجاب عن ذلك بم يكفي ويشفي، وسنذكر إن شاء الله (3) تعالى في هذا الجواب بعض ذلك. وقال العلامة ابن القيم (4) –رحمه الله تعالى-: (والمقصود أن الشيطان بلطف كيده يحسن الدعاء عند القبور، وأنه أرجح منه في المسجد، ثم يدعوه إلى درجة أخرى من الدعاء عنده إلى الدعاء به والإقسام به على الله تعالىن ثم ينقله إلى دعاء الميت نفسه من دون الله، ثم ينقله إلى أن يتخذ قبره معتكفاً، / ويوقد عليه القناديل، ويضع عليه الستور، ويعبده بالسجود له والطواف، والتقبيل والاستلام، والحج إليه، والذبح له (5) ، ثم ينقله إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه معبوداً، ثم إلى الإنكار على من أنكر شيئاً من هذه المفاسد، والحكم عليه بالضلال البعيد. وأعظم الفتنة بالأنصاب فتنة أصحاب القبور، وهي أصل فتنة عباد الأصنام، كما ذكره السلف من الصحابة والتابعين. فمن أعظم كيد الشيطان: أنه ينصب لأهل الشرك قبراً معظماً معبوداً، ثم يوحي إلى أوليائه أن من نهى عن عبادته واتخاذه وثناً فقد تنقصه وهضمه، فيسعى الجاهلون والمشركون في قتله وعقوبته ويكفرونه، وما ذنبه إلا أنه يأمر
بما أمر الله به ورسوله من توحيده، وينهى الله عنه ورسوله من اتخاذ القبور أوثاناً وأعياداً وإيقاد السرج عليها وبناء القباب، وغير ذلك مما تقدمت الإشارة إليه من فنون الشرك الذي كان يفعله المشركون مع أرباب القبور. فقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسله من تجريد التوحيد، فإذا نهى الموحد عن الشرك بالأموات [والغائبين] (1) إشمأزت قلوبهم؛ وقالوا: قد تنقص أهل الرتب العالية؛ وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر، ويسري (2) ذلك في نفوس الجهال والطغام وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم؛ ونفروا الناس عنهم ووالوا أهل الشرك وعظموهم وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ويأبى الله ورسوله ذلك، وما كانوا أولياؤه إن أولياؤه إلا المتقون (3) الداعون إلى توحيده على بصيرة، لا لابسوا ثياب الزور الذين يصدون الناس (4) عن سبيل الله، ويبغونها عوجا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ولا تحسب أيها المنعم عليه باتباع صراط المستقيم أن النهي عن اتخاذ القبور مساجد وأعياداً (5) ، وإيقاد السرج عليها، والسفر إليها ودعائها، والنذر لها واستلامها وتقبيلها، وتعفير الوجوه في عرصاتها ونحو ذلك: غضّمن قدر أصحابها، كما يحسبه أهل الإشراك والضلال، بل ذلك من إكرامهم
ومتابعتهم فيما يحبونه، وتجنب ما يكرهونه، بل أنت والله وليهم ومحبهم، وناصر طريقتهم وسنتهم، وعلى هديهم ومنهاجهم، وهؤلاء المشركون من أعصى الناس لهم، وأبعدهم من هديهم، كالنصارى مع المسيح والروافض مع علي، فأهل الحق أولى بأهل الحق من أهل الباطل، والمؤمنون والمؤمنات بعضهم ألياء بعض، والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض. فاعلم أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن، فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن طريقة من فيها وسنته، مشتغلين بقبره عما دعا إليه وأمره به. فتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما هي باتباع ما دعوا إليه من العلم النافع، والعمل/ الصالح، واقتفاء آثارهم وسلوك طريقهم، دون عبادة قبورهم والعكوف عليها، وقد أرسلوا إلى أممهم بالنهي عن ذلك، فنهوا عنه أشد النهي، فكيف يتقرب إليهم بما قد حرموه ونهوا عنه، ونصبوا العداوة لمن فعلهن وتبرأوا منه؟ وإنما اشتغل كثير من الناس بكثير من أنواع العبادة المبتدعة التي حرمها الله ورسوله لإعراضهم عن المشروع؛ وإن قاموا بالصورة الظاهرة، فقد حرموا المقصود منه، ومن أصغى إلى كلام الله ورسوله بقلبه وتدبره (1) بكليته، وحدّث (2) نفسه باقتباس الهدى والعلم منه، أغناه عن البدع، والآراء، والتخرصات، والشطحات، والخيالات، التي هي وساوس النفوس وتخيلاتها)
انتهى (2كلام العلامة –رحمه الله (1) –وهو يحكي ما وقع في هذه الأمة من الشرك العظيم كما لا يخفى على ذوي البصاير2) (2) . ومما يقرر ما قدمناه –من أن مدلول الدعاء هو السؤال والطلب رغبة أو رهبة (3) أو مجموعهما –ما ذكره البخاري رحمه الله تعالى وغيره من المحدثين والمفسرين فإنه قال في صحيحه: كتاب الدعوات، باب (4) قول الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين} (5) ولكل (6) نبي دعوة مستجابة. حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه (7) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي دعوة (8) بها، وأريد أن أختبأ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة" (9) زاد مسلم" وهي (10) نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً" (11) وذكر –رحمه الله- (12)
أحاديث في هذا المعنى كغيره من المحدثين والمصنفين في الأذكار والدعوات؛ مما لا يقدر مبطل على دفعه ومنعه، وبالله التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فصل
فصل (1) في بيان أمور من الشرك الأكبر – (2يشبه ما قدمناه2) (2) - الذي وقع فيه من وقع من هذه الأمة. قال العلامة ابن القيم (3) رحمه الله: (ومن أنواعه-أي الشرك –طلب الحوائج عن الموتى والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً (4) ، فضلاً لمن أستغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده) . قلت: وهذا الجهل قد عمت به البلوى (5 في زمن العلامة ابن القيم – رحمه الله- وقبله وبعده 5) (5) ، قال في الكافية الشافية (6) : ولقد رأينا من فريق يدّعي الإ ... سلام شركاً ظاهر التبيان جعلوا له شركاء والوهم وسا ... ووهم به في الحب لا السلطان إلى آخر الأبيات.
وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي الحنبلي في رده على السبكي (1) ، في قوله: (إن المبالغة في تعظيمه أي الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة) : (إن أريد بها المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيماً، حتى الحج إلى قبره والسجود له، والطواف به؛ واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه/يقضي حوائج السائلين، ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء ويدخل، الجنة من يشاء: فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك، وانسلاخ من جملة الدين) . وفي "الفتاوى البزازية" (2) من كتب الحنفية: (من قال: إن أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر) . وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في كتابه "الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفاً (3) في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة" (4) : (هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات بحياتهم وبعد مماتهم، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات؛ وبهممهم تكشف المهمات؛ فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، قالوا: منهم أبدال ونقباء، وأوتاد ونجباء وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، وعليه
المدار بلا التباس وجوزوا لهم الذبائح والنذور وأثبتوا لهم فيهما الأجور) . قال: (وهذا كلام (1) في تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي، لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادرة (2) الكتاب العزيز المصدق، ومخالف لعقائد الأئمة وما أجمعت عليه الأمة، وفي التنزيل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (3) . ثم قال: (فأما قولهم: إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات (4) ، فيرده قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّه} (5) ، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر} (6) ، {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (7) ، ونحوه من الآيات الدالة (8) على أنه المنفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير، ولا شيء (9) لغيره في شيء بوجه من الوجوه، فالكل تحت ملكه وقهره: تصرفً وملكاً، وإحياء وإماتة وخلقاً، وتمدح الرب تعالى بملكه في آيات من كتابه كقوله (10) : {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (11)
{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير} (1) وذكر آيات في هذا المعنى. ثم قال: (فقوله في الآيات كلها {مِنْ دُونِهِ} أي: من غيره، فإنه عام يدخل فيه من اعتقدته من ولي وشيطان تستمده (2) ، فإنه من لم يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره؟) . إلى أن قال: (إن هذا القول وخيم؛ وشرك عظيم) . إلى أن قال: (وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة، قال جل ذكره {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُون} (3) ، وقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى} (4) الآية، وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت} (5) الآية، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة} (6) ، وفي الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" (7) -الحديث، وجميع ذلك، وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم ممسكة، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة/ونقصان، فدل ذلك على أنه ليس للميت تصرف في ذاته فضلاً عن غيره، فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره؟
فالله (1) سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون: إن الأرواح مطلقة (2) متصرفة، {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه} (3) ؟ قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات من الكرامات فهو من أعظم المغالطة؛ لأن الكرامة (4) شيء من عند (5) الله يكرم بها أولياءه وأهل طاعته (6) ، لا قصد لهم فيه ولا تحدي، ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم ابنة عمران، وأسيد بن حضير، وأبي مسلم الخولاني) .قال: (وأما قولهم: فيستغاث بهم في الشدائد ... فهذا أقبح مما قبل (7) وأبدع لمصادمته (8) قوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (9) الآية، وقوله: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْر} (10) وذكر آيات في هذا المعنى. ثم قال: (فإنه جل ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غيره، وأنه المنفرد بإجابة المضطرين (11) ، وأنه المستغاث به لذلك كله، وأنه القادر على دفع
الضر القادر على إيصال الخير فهو المنفرد بذلك، فإذا تعين هو جل ذكره خرج غيره من ملك ونبي وولي) .قال: (والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال أو إدراك عدو أو سبع ونحوه، كقولهم: يا لزيد؛ يا للمسلمين بحسب الأفعال (1) الظاهرة بالفعل، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير، أو في الأمور المعنوية من الشدائد؛ كالمرض، وخوف الغرق، والضيق، والفقر، وطلب الرزق، ونحوه، فمن خصائص الله، لا يطلب فيها غيره) . قال: (وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم، كما تفعله جاهلية العرب، والصوفية الجهال، وينادونهم، ويستنجدون بهم، فهذا من المنكرات، فمن اعتقد أن لغير الله من نبي، أو ولي (2) ، أو روح، أو غير ذلك في كشف كربة، أو قضاء حاجة تأثيراً فقد وقع في وادي جهل خطير، فهو على شفا حفرة (3) من السعير. وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات، فحاشا لله أن تكون أولياء الله بهذه المثابة، فهذا ظن أهل الأوثان، كما (4) أخبر الرحمن: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه} (5) ، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (6) {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً} (7) ، فإن ذكر ما
ليس من شأنه النفع، ولا دفع الضر، من نبي أو ولي وغيره على وجه الإمداد منه (1) : إشراك (2) مع الله؛ إذ لا قادر على الدفع غيره، ولا خير إلا خيره) . قال: (وأما ما قالوه: إن منهم أبدالاً ونقباء، وأوتاداً ونجباء، وسبعين وسبعة، وأربعين وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، فهذا من موضوعات إفكهم، كما ذكره القاضي المحدث في "سراج المريدين"، وابن الجوزي، وابن تيمية) انتهى باختصار. فرحم الله علماء السنة فلقد كفونا مؤنة كشف ما أورده المشركون من شبهات المبطلين؛ وإلحاد الملحدين، فلله الحمد/ والمنة على عظيم النعمة. فتبين (3) لمن له عقل بطلان ما بهرج به هذا العراقي من كرامات الأولياء مستدلاً بذلك على جواز جعلهم لله أنداداً. ومما يبين ذلك: أنه وقع لعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين رضي الله عنه في غزوة خيبر من الكرامات ما لا يقع لغيره، ولما بلغه عن أناس نزلوا بالكوفة أنهم أعتقدوا فيه الألهية خدَّ لهم الأخاديد، وجعل فيها الحطب، وأوقدها بالنار وقذفهم فيها، إعظاماً لهذا الأمر، وهو بالنسبة إلى ما وقع من عباد القبور في هذه الأزمنة وقبلها قليل من كثير. والكرامة: أمر يجعله الله لا صنع للبشر فيه فالذي أوجد الكرامة لمن شاء من عباده هو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، فإن الكرامة إنما تقع
لبعض الموحدين المخلصين، بسبب توحيدهم وإخلاصهم لله (1) ، كما قال تعالى في حق المسيح ابن مريم وأمه (2) والعزير والملائكة، بعد التهديد والوعيد لمن دعاهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَب} (3) ولهم العجزات العظيمة. ومن العجب استدلال هؤلاء المشركين بما ظهر من آثار تحقيق التوحيد فيمن (4) ظهر فيه شيء من ذلك على أن يجعله لله شريكاً في عبادته (5) ، وقد قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا} (6) ، وهو صاحب المعجزات صلى الله عليه وسلم، وقد قال لمن قال له: ما شاء الله وشئت: "أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده" (7) .
وقال (1) تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُون} (2) ، وما أعطى أحد من هذه الأمة نبيها ما أعطى عيس بن مريم
عليه السلام، كما قال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِك} (1) إلى قوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي} (2) فما أوجب ذلك أن يُعبد بشيء من أنواع العبادة؛ بل أنكر تعالى على النصارى اتخاذهم له إلهاً بالعبادة، كما قال الله (3) تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّه؟} إلى قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُم} (4) الآية. والكرامة قد تقع للمفضول دون الفاضل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه كان في الأمم [قبلكم] (5) محدثون، فإن يكن أحد (6) في أمتي فعمر" (7) . قال العلامة ابن القيم (8) : (فجزم بوجود المحدثين في الأمم، وعلق وجوده في أمته بحرف الشرط، فليس هذا بنقصان لأمته عمن قبلهم، بل هذا من (9) كمال أمته على من قبلها.
فإنها لكمالها وكمال نيتها وكمال شريعته لا تحتاج (1) إلى محدث؛ بل إن وجد فهو صالح للاستشهاد والمتابعة، لا أنه عمدة؛ لأنها في غنية بما بعث الله به نبيها صلى الله عليه وسلم عن كل مقام أو مكاشفة أو إلهام أو تحديث، وأما من قبلها فللحاجة إلى ذلك جعل فيهم المحدثون) . /قلت: فعلى هذا لا مزية لمن ظهر له شيء من هذه الكرامات ولو صحت، وقد يجريها الله لبعض الناس ابتلاء وفتنة واختباراً، فارجع إلى التمسك بأدلة الكتاب والسنة، وتمسك بالوحيين، وخذ بهما تسلم من الشبهات الفاسدة، التي لا تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً. ولا يخفى أن أكثر (2) ما يقع لبعض المتأخرين مما يظن الجاهلون (3) أنها من الكرامات أكثرها أحوال شيطانية (4) ، وإن ذكرت عن بعض من له زهد وعبادة كما يذكر لـ "عبد القادر الجيلاني" _رحمه الله وأمثاله- (5) ، وكثير منها لا يعلم له صحة؛ للجهالة بالناقل لذلك (6) ، وللجهالة بمن ينقل عنهن فإنها نقل مجهول عن مجهول، وعلى كل حال فلا تفيد شيئاً فضلاً أن تعارض أدلة الكتاب والسنة. فأين هؤلاء الذين تذكر عنهم هذه الأحوال من السابقين الأولين، كأهل بيعة العقبة، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، وأكثرهم قد شهد المشاهد كلها
مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أفضل الأمة على الإطلاق، ولم يذكر (1) لهم من هذه الأمور شيء إلا نادراً، وما عد أحد منهم ذلك فضيلةً لمن وقعت له، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها قد تقع لعمر خاصة، بقوله: "فإن يكن أحد في أمتي فعمر" (2) ، ولا ريب أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أفضل من عمر رضي الله عنه، فلم يقع له شيء من ذلك كغيره من السابقين الأولين؛ فلا حجة لأحد فيما يدعي أنه كرامة من كل وجه من الوجوه كما تقدم. وقد تقدم أن المعجزات التي وقعت للرسل أعظم وأعظم، فصارت إعلاماً على صدقهم فيما دعوا إليه من تجريد (3) التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، فلم تكن دليلاً على أنه يجوز أن يستغاث بهم أو يعتقد فيهم بما لا (4) يجوز اعتقاده في أحد سوى الله من نفع أو ضر، أو رغبة أو رهبة (5) ، والقرآن ينادي بهذا في كل سورة. ونذكر هنا ما ذكره العماد ابن كثير (6) في هذا المعنى في أول تفسير سورة البقرة فإنه –رحمه الله تعالى-قال: (وذكر القرطبي هاهنا مسألة فقال: قال علماؤنا –رحمهم الله-من أظهر الله على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالاً على ولايته، خلافاً لبعض الصوفية والرافضة.
وهذا لفظه؛ ثم استدل على ما قال بأنا لا نقطع لهذا الذي جرى الخارق على يديه (1) أنه يوافي الله بالإيمان؛ وهو لا يقطع لنفسه بذلك، والولي هو الذي يقطع له بذلك في نفس الأمر. قلت (2) : وقد استدل بعضهم على أن الخارق قد تكون على يدي غير الولي، بل قد يكون على يد الفاجر والكافر أيضاً بما ثبت عن ابن صياد أنه قال: "هو الدخ" (3) حين خبأ له (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} (5) ، وبما كان يصدر عنه أنه كان يملأ الطريق إذا غضب، حتى ضربه عبد الله بن عمر، وبما ثبتت (6) به الأحاديث/ عن الدجال بما يكون على يديه من الخوارق الكثيرة، من أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض مثل: اليعاسيب (7) ، وأنه يقتل ذلك الشاب ثم يحييه، إلى غير ذلك من الأمور المهولة.
وقد قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي (1) : قلت للشافعي: كان الليث بن سعد يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به، حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة. فقال الشافعي: إذا (2) رأيتم الرجل يمشي على الماء أو يطير (3) في الهواء فلا تغتروا به، حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة) انتهى. وذكر شيخ الإسلام –رحمه الله تعالى- (4) في الاقتضاء (5) كلاماً نافعاً لمن شرح الله صدره للإسلام، وصار الحق ضالته يطلبها إلى أن يجدها. فقال –رحمه الله تعالى-: (ولو تحرى الدعاء عند صنم، أو صليب، أو في كنيسة، يرجو الإجابة بالدعاء في تلك البقعة لكان هذا من العظائم، فقصد القبور للدعاء عندها من هذا الباب، بل هو أشد (6) ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذها مساجد، واتخاذها عيداً؛ وعن الصلاة عندها (7) ، وما يرويه بعض الناس أنه قال: إذا تحيرتم بالأمور فاستغيثوا بأهل القبور ونحو هذا، فهو كلام موضوع مكذوب باتفاق العلماء يبين ذلك أمور:
أحدها: أنه قد تبين أن العلة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عندها إنما هو لئلا تتخذ ذريعة إلى نوع من الشرك، بالعكوف عليها، وتعلق القلوب بها؛ رغبة ورهبة، ومن المعلوم أن المضطر في الدعاء الذي قد نزلت به نازلة فيدعو باستجلاب خير كالاستسقاء، أو لدفع شر كالاستنصار، فحاله بافتتانه بالقبور إذا رجا الإجابة عندها أعظم من حال من يؤدي الفرض عندها في حال العافية، أما الداعون المضطرون ففتنتهم بذلك عظيمة جداً، فإذا كانت المفسدة والفتنة التي لأجلها نهى عن الصلاة عندها متحققة في حال هؤلاء كان نهيهم عن ذلك أوكد وأوكد، وهذا واضح لمن فقه في دين الله، وتبين له ما جاءت به الحنيفية من الدين الخالص لله، وعلم كمال سنة إمام المتقين في تحقيق (1) ، التوحيد ونفي الشرك بكل طريق. الثاني: أن قصد القبور للدعاء عندها ورجاء الإجابة هنالك (2) أمر لم يشرعه الله ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين، ولا ذكره أحد من العلماء ولا الصالحين المتقدمين، بل أكثر ما ينقل ذلك عن بعض المتأخرين بعد المائة الثانية، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجدبوا مرات ودهمتهم نوائب غير ذلك؛ فهلا جاءوا فاستسقوا (3) واستغاثوا (4) عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ بل خرج عمر بالعباس فاستسقى به، ولم يستسق (5) بقبر (6)
النبي صلى الله عليه وسلم وقد روينا في مغازي محمد بن إسحاق من زيادات يونس بن بكير (1) عن أبي خلدة خالد بن دينار حدثنا/ أبو العالية قال: "لما افتتحنا تستر (2) وجدنا في بيت مال الهرمزان سريراً عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف له، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر رضي الله عنه، فدعا له كعباً فنسخه بالعربية؛ وأنا أول رجل من العرب قرأه مثل ما أقرأ القرآن هذا، فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم، ولحون كلامكم، وأموركم وما هو كائن بعد، قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما كان بالليل دفناه، وسوينا القبور كلها؛ لنعميه على الناس لا ينبشونه (3) ، قلت: فما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون، فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال، فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة، قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا، إلا شعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع" (4) . ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره لئلا يفتتن به الناس، وهو إنكار منهم لذلك، وقد كان من قبور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم [بالأمصار] (5) عدد كثير، وعندهم التابعون، ومن بعدهم من الأئمة، وما
استغاثوا عند قبر صاحب (1) ولا استسقوا عنده ولا به، لا استنصروا عنده ولا به. ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، بل على ما هو دونه، ومن تأمل كتب الآثار وعرف حال السلف تيقن قطعاً أن القوم ما كانوا يستغيثون عند القبور، ولا يتحرون الدعاء عندها أصلاً، بل كانوا ينهون عن ذلك من يفعله من جهالهم. وهذا [الدليل] (2) قد دل عليه كتاب الله في غير موضع كقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه} (3) ، فإذا لم يشرع الله سبحانه الدعاء عند المقابر، فمن شرعه فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، وقد قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (4) وهذه العبادة عند المقابر نوع من الشرك (5) بالله ما لم (6) ينزل به سلطاناً؛ لأن الله لم ينزل حجة تتضمن استحباب قصد الدعاء عند القبور، ومن جعل ذلك من دين الله فقد قال على الله ما لا (7) يعلم، وما أحسن قول الله تعالى: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانا} لئلا يحتج بالمقاييس والحكايات.
فإن قيل: قد نقل عن بعضهم أنه قال: قبر معروف (1) : الترياق المجرب (2) . وروي عن معروف أنه أوصى ابن أخيه أن يدعو عند قبره، وذكر أبو علي الخرقي في "قصص من هجرة أحمد" رضي الله عنه: أن بعض المهجورين كان يجيء إلى قبر ويتوخى الدعاء عنده، ونقل عن جماعات أنهم دعوا عند قبر جماعات من الأنبياء والصالحين من أهل البيت وغيرهم، فاستجيب لهم الدعاء، وعلى هذا عمل كثير من الناس. وقد ذكر المصنفون في مناسك الحج: إذا زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يدعو عنده، وذكر بعضهم أن من صلى عليه سبعين مرة/ عند قبره ودعا استجيب له، وذكر بعض الفقهاء في حجة من يجوّز القراءة على القبر أنها بقعة يجوز السلام والدعاء والذكر عندها، فجازت القراءة كغيرها، وذكر بعضهم منامات في الدعاء عند قبر بعض المشايخ، وجرت قوم (3) استجابة (4) الدعاء عند قبور معروفة؛ كقبر الشيخ أبي الفرج الشيرازي والمقدسي وغيره، وقد أدركنا في زماننا وما قاربها من ذوي الفضل علماً وعملاً من كان يتحرى الدعاء عندها؛ والعكوف عليها، وفيهم من كان بارعاً في العلم، وفيهم من كان له كرامات، فكيف يخالف هؤلاء؟ وإنما ذكرت هذا السؤال مع بعده عن طريق العلم والدين لأنه غالباً ما يتمسك به القبوريون (5)) .
قلت: الله أكبر كيف يؤخذ هذا بدلاً عن نصوص الكتاب والسنة {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (1) وقدأحسن من قال: تخالف الناس فيما قد رأو ورووا ... وكلهم يدعون الفوز بالظفر فخذ بقول يكون النص ينصره ... إما عن الله أو عن سيد البشر ثم قال رحمه الله تعالى: (قلنا الذي ذكرنا لا ينقل في استحبابه فيما علمناه شيء ثابت عن القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم؛ ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (2) مع شدة المقتضي فيهم لذلك، فلو كان فيه فضيلة، فعدم أمرهم، وفعلهم لذلك مع قوة المقتضي لو (3) كان فيه فضل يوجب القطع بأنه لا فضل فيه) . إلى أن قال: (وإذا اختلف (4) المتأخرون فالفاصل بينهم هو الكتاب والسنة، وإجماع المتقدمين نصاً واستنباطاً، فكيف والحمد لله لا ينقل هذا عن إمام معروف ولا عالم متبع، بل المنقول في ذلك إما أن يكون كذباً على صاحبه، مثل ما حكى بعضهم عن الشافعي أنه قال: إذا نزلت بي شدة أجيء فادعو عند قبر أبي
حنيفة فأجاب، أو كلاماً هذا معناه، وهذا كذب معلوم كذبه بالاضطرار عند من له معرفة بالنقل، فإن الشافعي لما قدم بغداد لم يكن ببغداد قبر ينتاب للدعاء عند البتة، بل (1) ولم يكن هذا على عهد الشافعي معروفاً، وقد رأى الشافعي بالحجاز، واليمن، والشام، والعراق، ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء، فما باله لم يتوخ الدعاء إلا عنده، ثم أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه مثل أبي يوسف، ومحمد، وزفر، والحسن بن زياد، وطبقتهم لم يكونوا يتحرون الدعاء لا عند قبر أبي حنيفة ولا غيره، ثم قد تقدم عن الشافعي ما هو ثابت في كتابه من كراهة تعظيم المخلوقين خشية الفتنة بها، وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه. وأما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف، ونحن لو روى لنا مثل هذه الحكايات المسيبة (2) أحاديث عمن لا ينطق عن الهوى لما جاز التمسك (3) بها حتى تثبت، فكيف بالمنقول عن غيره. ومنها ما قد يكون صاحبه قاله أو فعله باجتهاد يخطئ أو يصيب (4) ، أو قاله بقيود أو شروط كثيرة على وجه (5) / لا محذور فيه، فحرف النقل عنه، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم (6) لما أذن في زيارة القبور بعد النهي فهم المبطلون أن ذلك هو
الزيارة التي يفعلونها، من حجمها للصلاة عندها، والاستغاثة بها. ثم سائر هذه الحجج دائرة بين نقل لا يجوز إثبات الشرع به، أو قياس لا يجوز استحباب العبادات بمثله، مع العلم بأن الرسول لم يشرعها، وتركه مع قيام المقتضى للفعل بمنزلة فعله، وإنما يثبت العبادات بمثل هذه الحكايات والمقاييس من غير نقل عن الأنبياء والنصارى وأمثالهم، وإنما المتبع في إثبات أحكام [الله] (1) : كلام (2) الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسبيل السابقين الأولين، لا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة نصاً واستنباطاً بحال. والجواب عنها (3) من وجهين: مجمل، ومفصل. أما المجمل: فالنقض: فإن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات والقياسات من هذا النمط كثير، بل المشركون (4) الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون عند أوثانهم فيستجاب لهم أحياناً كما قد يستجاب لهؤلاء أحياناً، وفي وقتنا هذا عند النصارى من هذا طائفة، فإن كان هذا وحده دليلاً على أن الله يرضى ذلك ويحبه، فليطرد الدليل، وذلك كفر متناقض. ثم إنك تجد كثيراً من هؤلاء يستغيثون عند قبر أو غيره، كل منهم قد اتخذ وثناً أحسن به الظن، وأساء الظن بآخر (5) ، وكل منهم يزعم أن وثنه يستجاب عنده ولا يستجاب عند غيره، فمن المحال إصابتهم جميعاً، وموافقة بعضهم دون بعض تحكم، وترجيح بلا مرجح، والتدين بدينهم جميعاً جمع بين
الأضداد، فإن أكثر هؤلاء إنما يكون تأثيرهم فيما يزعمون بقدر إقبالهم على وثنهم وانصرافهم عن غيره، وموافقتهم جميعاً فيما يثبتونه دون ما ينفونه يضعف التأثير على زعمهم، فإن الواحد إذا أحسن الظن بالإجابة عند هذا وهذا وهذا لم يكن تأثير الحسن الظن بواحد دون واحد آخر، وهذه كلها من خصائص الأوثان. ثم قد استجيب لبلعم بن باعوراء (1) في قوم موسى وسلبه الله الإيمان، والمشركون قد يستسقون فيسقون ويستنصرون فينصرون) . قلت: وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام –رحمه الله تعالى- (2) إنما (3) يقع لهم استدراجاً، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (4) ، وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُون} (5) .
ثم قال –رحمه الله تعالى-: (وأما الجواب المفصل فنقول: مدار هذه الشبه على أصلين: منقول، وهو ما يحكى من فعل هذا الدعاء عند (1) بعض الأعيان، ومعقول، وهو ما يعتقد من منفعته بالتجارب والأقيسة (2) . فأما النقل في ذلك فإما كذب أو غلط، أو ليس بحجة، بل قد ذكرنا النقل عمن يقتدى به بخلاف ذلك. وأما المعقول فنقول: عامة المذكور من المنافع كذب، فإن هؤلاء الذين يتحرون الدعاء عند القبور وأمثالهم إنما يستجاب لهم في النادر؛ بل يدعو الرجل منهم ما شاء الله من دعوات (3) فيستجاب له في واحدة، ويدعو خلق كثير منهم فيستجاب للواحد بعد الواحد، وأين هذا من الذين يتحرون الدعاء في أوقات الأسحار، ويدعون الله في سجودهم وأدبار صلواتهم، وفي بيوت الله؟ / فإن هؤلاء إذا ابتهلوا من جنس ابتهال المقابرين لم تكد لهم دعوة إلا لمانع. بل الواقع أن الابتهال الذي يفعله المقابريون (4) إذا فعله المخلصون، لم يرد المخلصون إلا نادراً، ولم يستجب للمقابريين إلا نادراً، والمخلصون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله فيها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل الله له دعوته، أو يؤخر له من
الخير مثلها، أو يصرف عنه من السوء مثلها" قالوا يا رسول الله: إذن نكثر قال: "الله أكبر" (1) . فهم في دعائهم لا يزالون بخير، وجميع الأمور التي تظن أن لها تأثيراً في العالم، وهي محرمة في الشرع، كالتمريجات (2) الفلكية؛ والتوجيهات (3) النفسانية، كالعين والدعاء المحرم؛ والرقى المحرمة والتمريجاب (4) الطبيعية
ونحو ذلك، فإن مضرتها أكثر من منفعتها، حتى في نفس ذلك المطلوب، فإن هذه الأمور لا يطلب بها غالبً إلا أموراً دنيوية فقلَّ أن حصل لأحد بسببها أمر دنيوي إلا كانت عاقبته فيه في الدنيا عاقبة خبيثة، دع الآخرة، ثم إن فيها من النكد والضرر ما الله به عليم فهي نفسها مضرة؛ ولا يكاد يحصل الغرض بها إلا نادراً، وإذا حصل فضرره أكثر من منفعته. والأسباب المشروعة في حصول هذه المطالب المباحة [أو] (1) المستحبة (2) ، سواء كانت طبيعية كالتجارة والحراثة، أو كانت دينية كالتوكل على الله والثقة به، وكدعاء الله سبحانه على الوجه المشروع في الأمكنة والأزمنة التي فضلها الله ورسوله بالكلمات المأثورة عن إمام المتقين صلى الله عليه وسلم، والصدقة وفعل المعروف –يحصل بها (3) الخير أو الغائب، وهذا الأمر كما أنه قد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، فهو أيضاً معقول بالتجارب المشهورة والأقيسة الصحيحة. فإن الصلاة والزكاة يحصل بهما خير الدنيا والآخرة، ويجلبان كل خير ويدفعان كل شر إذا ثبت ذلك: فليس علينا من سبب التأثير (4) أحياناً فإن الأسباب التي يخلق الله بها الحوادث في الأرض والسماء، لا يحصيها على الحقيقة إلا هو، أما أعيانها فبلا ريب، وكذلك أنواعها أيضاً لا يضبطها المخلوق؛ لسعة ملكوت الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا كانت طريقة الأنبياء عليهم السلام أنهم يأمرون الخلق بما فيه صلاحهم، وينهونهم عما فيه
فسادهم، ولا يشغلونهم بأسباب الكائنات كما تفعل الفلاسفة، فإن ذلك كثير التعب قليل الفائدة أو موجب للضرر. والكلام (1) في بيان تأثير بعض هذه الأسباب قد يكون فيه فتنة لمن ضعف عقله ودينه، بحيث (2) يختطف عقله فيتألهه (3) إذا لم يرزق من العلم والإيمان ما يوجب له الهدى واليقين، ويكفي العاقل أن يعلم أن ما سوى المشروع لا يؤثر بحال، فلا منفعة فيه أو إنه إن أثر فضرره أكثر من نفعه، كما أن ثعلبة لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بكثرة المال ونهاه صلى الله عليه وسلم عن ذلك مرة بعد مرة، فلم ينته حتى دعا له، فكان ذلك سبب شقائه في الدنيا والآخرة (4) ، وكم من عبد دعا
دعاء غير مباح حاجته في ذلك الدعاء، فكان سبب هلاكه في الدنيا والآخرة، كأقوام ناجوا الله في دعواتهم بمناجاة فيه جرأة على الله واعتداء لحدوده، وأعطوا طلبتهم فتنة؛ ولم يشاء الله/ سبحانه، بل أشد من ذلك، ألست ترى السحر، والطلسمات (1) والعين، وغير ذلك من المؤثرات في العالم بإذن الله؟ قد يقضي بها كثير من أغراض النفوس ومع هذا فقد قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} إلى قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون} (2) . ومن هنا يغلط (3) كثير من الناس: يبلغهم أن بعض الأعيان (4) عبدوا عبادة أو دعوا دعاء وجدوا أثر تلك العبادة [وذلك] (5) الدعاء، فيجعلون ذلك دليلاً على استحباب (6) ذلك، فيجعلونه سنة كأنه قد فعله نبي، وهذا غلط، وقد علمت جماعة ممن سأل حاجته من بعض المقبورين من الأنبياء والصالحين. وليس ذلك بشرع يتبع ولا سنة، وإنما يثبت استحباب الأفعال (7) واتخاذها
ديناً بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السابقون الأولون، وما سوى ذلك (1) من الأمور المحدثة فلا يستحب، وإن اشتملت أحياناً على فوائد، لأنا نعلم أن مفاسدها راجحة على فوائدها. ثم من غرور هؤلاء وأشباههم: [اعتقادهم] (2) أنَّ استجابة مثل هذا الدعاء كرامة من الله تعالى، وليس في الحقيقة كرامة، وإنما الكرامة في الحقيقة: ما نفعت في الآخرة، أو نفعت في الدنيا ولم تضر في الآخرة، وإنما هي بمنزلة ما ينعم به الكفار والفساق من الرياسات والأموال [في الدنيا] (3) ، ولهذا اختلف أصحابنا وغيرهم من العلماء: هل ما ينعم به الكافر نعمة، أو ليس (4) بنعمة؟ وإن كان الخلاف لفظياً. قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ، نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} (5) ، وقال تعالى: (6) {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ] (7) مُبْلِسُونَ} (8) .
ومن رحمة الله تعالى أن الدعاء المتضمن شركاً، كدعاء غيره أن يفعل، أو دعائه أن يدعو، ونحو ذلك لا يحصّل غرض صاحبه، ولا يورث حصول الغرض، إلا في الأمور الحقيرة، فأما الأمور العظيمة، كإنزال الغيث عند القحوط، أو كشف العذاب النازل، فلا ينفع فيه هذا الشرك، كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُون} (1) . وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُورا} (2) . وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْض} (3) وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا} إلى قوله: {مَحْذُوراً} (4) . وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ، قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعا} (5) .
فكون هذه المطالب العظيمة لا يستجيب فيها إلا هو سبحانه دل على توحيده، وقطع شبهة من أشرك به، وعُلم بذلك [أن] (1) ما دون هذا أيضاً من الإجابات إنما فعله هو وحده لا شريك له، وإن كانت تجري بأسباب محرمة أو مباحة، كما أن خلقه السموات، والأرض، والرياح، والسحاب، وغير ذلك من الأجسام العظيمة، دال على وحدانيته سبحانه، وأنه خالق كل شيء، وأن ما دون هذا بأن يكون خلقاً له أولى، إذ هو منفعل عن مخلوقاته/ العظيمة (2) ، فخالق السبب التام خالق للمسبب لا محالة. جماع الأمر: أن الشرك نوعان: شرك في ربوبيته: بأن يجعل لغيره معه تدبيراً ما (3) ، كما قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِير} (4) ؛ فبين أنهم لا يملكون مثقال ذرة استقلالاً، ولا يشركونه في شيء من ذلك، ولا يعينونه على ملكه، ومن لم يكن مالكاً ولا شريكاً ولا عوناً (5) فقد انقطعت علاقته. وشرك (6) في الألهية: بأن يدعي (7) غيره دعاء عبادة، أو دعاء مسألة؛ كما
قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} (1) ، فكما أن إثبات المخلوقات أسباباً لا يقدح في توحيد الربوبية ولا يمنع أن يكون الله خالق كل شيء، ولا يوجب أن يدعي المخلوق دعاء عبادة أو دعاء استغاثة (2) ، كذلك إثبات بعض الأفعال المحرمة من شرك أو غيره، أسباباً لا تقدح في توحيد الإلهية، ولا يمنع أن يكون الله هو الذي يستحق الدين الخالص، ولا يوجب أن يستعمل الكلمات والأفعال التي فيها شرك، إذا كان الله يسخط ذلك، ويعاقب العبد عليه، ويكون مضرة ذلك على العبد أكثر من منفعته، إذ قد جعل الخير كله في أن لا نعبد إلا إياه، ولا نستعين إلا إياه، وعامة آيات القرآن تثبت هذا الأصل، حتى إنه سبحانه قطع أثر الشفاعة بدون إذنه. كقوله سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه} (3) . وكقوله سبحانه: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} (4) . وقوله تعالى (5) : {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيع} (6) . وقول (7) {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا..} الآية (8) ،
وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ (1) وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء} الآية. وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيع} (2) . وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (3) . وقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ، قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} (4) . وسورة الزمر أصل عظيم في هذا (5) ، ومن هذا قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْف} إلى قوله: {وَلَبِئْسَ الْعَشِير} (6) . وكذلك قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} إلى قوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون} (7) والقرآن عامته إنما هو في تقرير هذا الأصل العظيم، الذي هو أصل الأصول. وهذا الذي ذكرناه كله في تحريم هذا الدعاء، ولا (8) تغتر بكثرة العادات
الفاسدة، فإن هذا من التشبه بأهل الكتاب الذي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه كائن في هذه الأمة. وأصل ذلك: إنما هو اعتقاد فضل الدعاء عندها، وإلا فلو لم يقم هذا الاعتقاد بالقلوب انمحى ذلك كله، فإذا كان قصدها للدعاء يجر هذه المفاسد (1 كان حراماً، كالصلاة عندها وأولى، وكان ذلك فتنة للخلق، وفتحاً/ لباب الشرك وإغلاقاً لباب الإيمان1) (1) .
فصل
فصل (1) وقال شيخ الإسلام أيضاً: (ومن المحرمات العكوف عند قبر، والمجاورة عنده، وسدانته، وتعليق الستور عليه، كأنه بيت الله الكعبة، وقد بيّنا أن نفس بناء المسجد عليه منهي عنه باتفاق الأمة، محرم بدلالة السنة، فكيف إذا ضم إلى ذلك المجاورة في ذلك المسجد، والعكوف فيه، كأنه المسجد الحرام؟ بل عند بعضهم العكوف فيه أحب من العكوف في المسجد الحرام، إذ من الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حباً لله، بل حرمة ذلك المسجد المبني على القبر الذي حرمه الله ورسوله، أعظم عند المقابريين من بيوت الله التي (2) أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وقد أسست على تقوى من الله ورضوان. وقد بلغ الشيطان بهذه البدع إلى الشرك العظيم من كثير من الناس، حتى إن منهم من يعتقد أن زيارة المشاهد التي على القبور، إما لنبي، أو شيخ، أو بعض أهل البيت: أفضل من حج البيت الحرام، ويسمى زيارتها الحج الأكبر، ومنهم من يرى أن السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من حج البيت؛ وبعضهم إذا وصل إلى المدينة رجع، وظن أنه حصل [له] (3) المقصود، وهذا لأنهم ظنوا أن زيارة القبور لأجل الدعاء عندها والتوسل بها، وسؤال الميت ودعائه، ولهذا كثير من هؤلاء يسأل الميت والغائب كما يسأل ربه، وكثير من
الناس تمثل له صورة الشيخ المستغاث به، ويكون ذلك شيطاناً قد خاطبه، كما تفعل الشياطين بعبدة الأصنام. وأعظم من قصد الصلاة عنده، النذر (1) له، أو للسدنة، أو المجاورين (2) عنده من أقاربه، أو غيرهم، واعتقاد أنه بالنذر له قضيت الحاجة، وكشف البلاء. واعلم أن أهل القبور المدفونين من الأنبياء والصالحين يكرهون ما يفعل عندهم كل الكراهة، كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعل النصارى به، وكما كان أنبياء بني إسرائيل يكرهون ما يفعله (3) الأتباع) . (11 قلت: (فمن ظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكره ما كرهه (4) المسيح- عليه السلام (5) -وتبرأ منه فقد سبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم السبِّ، وصار بهذا كافراً؛ لكونه نسب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرضاء بما نهاه الله تعالى (6) عنه في مواضع (7) من كتابه، والنبي (8) صلى الله عليه وسلم بلَّغ عن الله وحيه، واشتدت عداوته لمن ارتكب ما نهى الله عنه من هذا (9) الشرك العظيم، وقاتل من لم يتب منه، واستحل دمائهم، وأموالهم، ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى (10)) 11) :
(فلا يحسب المرء المسلم أن النهي عن اتخاذ القبور أعياداً وأوثاناً غض من أصحابها، بل هو من باب إكرامهم، وذلك أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن (1) فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن سنة ذلك المقبور وطريقته، مشتغلين بقبره عما أمر به ودعا إليه، ومن كرامة الأنبياء والصالحين أن يتبع ما ادعوا إليه من العمل الصالح؛ ليكثر أجرهم بكثرة أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء" (2) . وإنما اشتغلت طوائف من الناس بنوع من العبادات المبتدعة، لإعراضهم عن المشروع أو بعضه، وإلا فمن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه؛ عاقلاً لما اشتملت عليه من الكلم الطيب والعمل الصالح؛ فاهتم بها كل الاهتمام، أغنته عن كل ما يتوهم فيه خير من جنسها، ومن/أصغى إلى كلام الله ورسوله بعقله وتدبره بقلبه، وجد فيه من الفهم والحلاوة والبركة والمنفعة ما لا يجده في شيء من الكلام، ومن اعتاد الدعاء المشروع في أوقاته (3) ، كالأسحار وإدبار الصلوات والسجود أغناه عن كل دعاء مبتدع، فعلى العاقل أن يجتهد في اتباع السنة في كل شيء، فإنه من يتحر الخير يعطه ومن يتق (4) الشر يوقه) .
فصل
فصل (1) ثم ذكر –رحمه الله – (2) تتبع آثار الأنبياء، وما ذهب إليه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه من النهي عن ذلك، وذكر أنه قطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر عن محمد بن وضاح قال: كان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد، وتلك الآثار التي بالمدنية، ما عدا قباء وأحداً، ولأن ذلك يشبه الصلاة عند المقابر، إذ هو ذريعة إلى اتخاذها أعياداً، وإلى التشبه بأهل الكتاب. وما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة، فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين، ولا غيرهم من المهاجرين والأنصار، أنه كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي صلى الله عليه وسلم. والصواب مع جمهور الصحابة؛ لأن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم تكون بطاعة أمره، وتكون في فعله بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله، فإذا قصد العبادة في مكان كان قصد العبادة فيه متابعة له، كقصد المشاعر والمساجد، وأما إذا نزل في مكان (3) بحكم الاتفاق، لكونه صادف وقت النزول أو غير ذلك فهذا لم ينقل عن غير ابن عمر من الصحابة، بل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار يذهبون من المدينة إلى مكة
حجاجاً وعماراً أو مسافرين، ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحباً لكانوا إليه أسبق، فإنهم أعلم الناس بسنته، واتبع لها من غيرهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" (1) ، وتحري هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين، بل هو مما (2) ابتدع، وقول الصحابي إذا خالفه نظيره ليس بحجة. فكيف إذا انفرد (3) به عن جماهير الصحابة؟
وأيضاً فإن تحري الصلاة فيها ذريعة إلى اتخاذها مساجد، والتشبه بأهل الكتاب مما نهينا عن التشبه بهم فيه، وذلك ذريعة إلى الشرك بالله، والشارع قد حسم هذه المادة بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وبالنهي عن اتخاذ القبور مساجد. ثم ذلك يفضي إلى ما أفضت إليه مفاسد القبور، فإنه يقال: إن هذا مقام نبي، أو قبر نبي (1) أو ولي، بخبر لا يعرف قائله، أو بمنام لا تعرف حقيقته (2) ، ثم يترتب على ذلك اتخاذه مسجداً (3) ، فيصير وثناً يعبد من دون الله تعالى. شرك مبني على إفك" انتهى ما نقلته عن اقتضاء الصراط المستقيم (4) . وفي هذا القدر المنقول عن شيخ الإسلام كفاية، لأنه واف في (5) المقصود، ويكشف ما يلبس به كل مصدود، ولا يرده إلا من استحوذ عليه الشيطان، وأنساه ذكر الرحمن، وصد عن معرفة/ الإسلام والإيمان، كما قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ
الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} (1) . فلله الحمد على بيان الحق، وإزاحة الكذب عن الصدق، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، غير مكفي ولا مودع ولا مستغني عنه ربنا (2) . وأما العلامة ابن القيم – رحمه الله – (3) فله في بيان التوحيد وتحقيقه، وكشف ما ينافيه أو يضعفه فصول كثيرة في مصنفاته، فتذكر من كلامه البعض على نحو ما ذكرنا من كلام شيخه. قال –رحمه الله تعالى- في كتابه"الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" (4) : (فصل (5) عظيم النفع جليل القدر، ينتفع به من عرف نوعي: التوحيد القولي العلمي، الخبري، والتوحيد القصدي، الإرادي، العملي، كما دل على الأول سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} (6) ، وعلى الثاني سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون} (7) ، وكذلك دل على الأول قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} (8) الآية، وعلى الثاني: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم} (9) الآية، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهاتين السورتين في سنة
الفجر (1) ، وسنة المغرب (2) ، ويقرأ بهما في ركعتي الطواف (3) ، ويقرأ بالآيتين في سنة الفجر (4) ؛ لتضمنهما التوحيد العلمي والعملي. والتوحيد العلمي أساسه: إثبات الكمال للرب تعالى؛ ومباينته لخلقه، وتنزيهه عن العيوب والنقائص والتمثيل. والتوحيد العملي أساسه: تجريد القصد بالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والاستعانة، والاستغاثة، والعبودية بالقلب، واللسان، والجوارح لله وحده. فمدار ما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه على هذين التوحيدين، وأقرب الخلق إلى الله أقومهم بهما علماً وعملاً؛ ولهذا كانت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أقرب الخلق إلى الله، وأقربهم إليه وسيلة أولو العزم، وأقربهم الخليلان، وخاتمهم سيد ولد آدم وأكرمهم على الله؛ لكمال عبوديته وتوحيده لله (5) .
فهذا الأصلان هما قطب رحى القرآن، وعليهما مداره، وبيانهما من أهم الأمور، والله سبحانه بينهما غاية البيان بالطرق العقلية والنقلية (1) ، والفطرية والنظرية، والأمثال المضروبة، ونوّع سبحانه الطرق بإثباتهما أكمل التنويع، بحيث صارت معرفة القلوب الصحيحة، الفطر السليمة لهما بمنزلة رؤية الأعين المبصرة التي لا آفة بها (2) للشمس، والقمر، والنجوم، والأرض، والسماء، فذلك للبصيرة بمنزلة هذه (3) للبصر، فإن سُلِّط (4) التأويل على التوحيد الخيري العلمي كان تسليطه على التوحيد العملي القصدي (5) أسهل، وانمحت رسوم التوحيد، وقامت معالم التعطيل والشرك. ولهذا كان الشرك والتعطيل متلازمين لا ينفك أحدهما عن صاحبه، وإمام المعطلين المشركين فرعون، فهو إمام كل معطل ومشرك إلى (6) يوم القيامة، كما أن إمام الموحدين إبراهيم ومحمد عليهما السلام (7) إلى يوم القيامة"انتهى. فأعجب لهذين الإمامين رحمهما الله تعالى (8) : تشابهت قلوبهما في العلم والإيمان، وألسنتهما في بيان الحق وإيضاحه، وكشف ما لبس به الملبسون، واعتمده المشركون، من المنامات والحكايات، التي اغتر بها
الجاهلون، وضل بها الأكثرون./ وبما بينَّاه –رحمهما الله-وأوضحاه يتبين به (1) الفرقان (2) بين أهل الشرك وأهل الإيمان، وبه يبطل كل ما زعمه هذا المماحل الفتان من أكاذيبه التي صادم بها الإيمان والقرآن، وجحود (3) ما بعث الله به المرسلين من توحيد رب العالمين، وما أنزله في كتابه المبين من قواطع الحجج والبراهين، التي دحضت حجج المشركين والمبطلين كما قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرا} (4) . فلقد ترامى بهذا العراقي (5) ما خامره من داء الشرك العضال، حتى هام في كل واد من البهرج والمحال، وأطنب في المماحلة وسيء المقال، حتى زعم أن عنده كثير من الأدلة على جواز أنواع الشرك والضلال، وهيهات هيهات. إذ لا صواب ولا هدى إلا فيما نطقت به السنة والكتاب، الذي أنزله الله هدى لأولي الأبصار والألباب؛ تنزيل من حكيم حميد. فالدعاء الذي ينازع (6) فيه المبطلون وفيه يلحدون؛ وبه يشركون: هو من أشرف أنواع العبادة إذا قصر على الله الذي لا يستحقه أحد سواه، وقد قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَق} (7) ، فهي له وحده ليس لغيره منها ولا مثقال ذرة،
ومدلولها الطلب والسؤال، كما دل عليه قوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} (1) . فأنكر تعالى (2) على من صرف شيئاً من الدعوة (3) لغيره، وأنه يكون بذلك كافراً، وهو نص في دعاء المسألة بدليل قوله: {لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} (4) ، وقد قال تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} إلى قوله: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِين} (5) ، تبين بهذه الآية ونظائرها أن كل مدعو من دون الله لا ينفع داعيه ولا يضره، وأن دعوة من يدعي من دونه تنافي الإسلام، لأن أساسه التوحيد والإخلاص، وهذا الشرك ينافيه. وقد وقع في هذه الأمة من هذا الشرك الذي بيّنه الله تعالى، وبيّن ضلال من فعله ما لا يخفى على من له أدنى بصيرة، ومعرفة بالإسلام والإيمان، والناصح لنفسه لا يغتر بما زخرفه المشركون، ولبِّس به الملحدون. قال تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّه} الآية (6) ،
فما أوضحها من آية في بيان أن جل شرك (1) المشركين إنما هو بدعاء من أشركوا مع الله في العبادة. قال (2) العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : "فالخطاب من الله تعالى في كتابه هو حجة على أجل (4) وجوه الحجاج (5) ، وأسبقها إلى القلوب، وأعظمها ملاءمة للعقول، وأبعدها عن (6) الشكوك والشبه، في أوجز لفظ، وأبينه، وأعذبه، وأحسنه، وأشرفه، وأدله على المراد؛ كقوله تعالى فيما حاج به عباده من إقامة التوحيد وبطلان الشرك، وقطع أسبابه، وحسم مواده كلها: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَه} (7) . فتأمل كيف أخذت هذه الآية (8) إلى المشركين مجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك، وسد بها عليهم أحكم سد وأبلغه، فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجوا من نفعه، وإلا فلو لم يرج منه منفعة لم يتعلق به قلبه (9) ،
وحينئذ (1) فلابد/ أن يكون المعبود مالكاً للأسباب التي يقع بها عبَّاده (2) ، أو شريكاً لمالكها، أو ظهيراً أو وزيراً معاوناً (3) ، أو وجيهاً ذا حرمة وقدر يشفع (4) عنده، فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه، وبطلت (5) ، انتفت أسباب الشرك، وانقطعت مواده. فنفى سبحانه عن آلهتهم ملك مثقال ذرة في السموات والأرض، وقد يقول المشرك: هي شريكة المالك الحق فنفى شركتها (6) له، فيقول المشرك: قد يكون ظهيراً، ووزيراً ومعاوناً، فقال: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} (7) فلم يبق إلا الشفاعة، فنفاها عن آلهتهم وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وهو الذي يأذن للشافع، وإن لم يأذن له لم يتقدم بالشفاعة بين يديه، (8 كما يكون لأحد المخلوقين 8) (8) فإن المشفوع عنده (9) يحتاج إلى الشافع، ومعونته له، فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها، وأما من كل ما سواه فقير إليه بذاته، وهو الغني بذاته عن كل ما سواه، فإن الآلهة التي كانوا يثبتونها معه سبحانه كانوا يعترفون أنها عبيده ومماليكه ومحتاجة إليه، فلو كانوا آلهة كما يقولون [لعبدوه و] (10)
تقربوا إليه وحده دون غيره، فكيف يعبدونهم [من] (1) دونه؟ وقد أفصح سبحانه بهذا بعينه بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَه} (2) ، أي: هؤلاء الذين تعبدونهم من دوني هم عبيدي، كما أنتم عبيدي يرجون رحمتي كما أنتم ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون أنتم عذابي فلماذا تعبدونهم من دوني؟ ومن ذلك قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِه} (3) فلله (4) ما أحلى هذا الكلام، وأوجزه وأدله على بطلان الشرك، فإنهم إن زعموا أن آلهتهم خلقت شيئاً مع الله طولبوا بأن يروه إياه؛ وإن اعترفوا بأنها أعجز وأضعف وأقل من ذلك كانت إلهيتها باطلاً ومحالاً. وقال تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّا} (5) الآية. فاحتج على تفرده بالإلهية بتفرده بالخلق، وعلى بطلان إلهية ما سواه بعجزهم عن الخلق، وعلى أنه واحد بأنه (6) قهار والقهر التام يستلزم الوحدة، فإن الشركة تنافي تمام القهر. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَه} إلى قوله: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز} (1) .فتأمل هذا المثل الذي أمر الناس كلهم باستماعه، فمن لم يسمعه فقد عصى أمره، كيف تضمن إبطال الشرك وأسبابه بأصح برهان، في أوجز عبارة وأحسنها وأجلاها، وأسجل (2) على جميع آلهة المشركين أنهم لو اجتمعوا كلهم في صعيد واحد، وساعد بعضهم بعضاً وعاونه بأبلغ المعاونة لعجزوا عن خلق ذباب واحد، ثم بيَّن ضعفهم وعجزهم (3) عن استنقاذ ما يسلبهم (4) الذباب إياه (5) ، فأي إله أضعف من هذا الإله المطلوب ومن عابده الطالب نفعه (6) ، فهل قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه آلهة هذا شأنها؟ فأقام سبحانه/ حجة التوحيد؛ وبيّن إفك أهل الشرك والإلحاد بأعذب الألفاظ وأحسنها، لم يستكرهها غموض، ولم يشنها (7) تطويل، ولم يعيبها تعقيد، ولم تزر بها (8) زيادة ولا تنقيص، بل بلغت في الحسن والفصاحة والإيجاز ما لا يتوهم متوهم ولا يظن ظان أن يكون أبلغ في معناها منها، وتحتها من المعنى الجليل القدر، العظيم الشرف (9) ، البالغ في النفع ما هو أجل من الألفاظ) انتهى من "الصواعق المرسلة".
وقال (1) –رحمه الله تعالى-: (والشرك تشبيه للمخلوق بالخالق (2) تعالى (3) وتقدس في خصائص الإلهية، من ملك الضر والنفع والعطاء والمنع، الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله تعالى وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً (4) ولا حياة ولا نشوراً شبيهاً بمن له الخلق كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، فأزمّة الأمور كلها بيده سبحانه، ومرجعها إليه، فما شاء كان؛ وما لم يشأ لم يكن، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، الذي إذا فتح للناس رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم، فأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات، بالقادر الغني بالذات. ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه (5) ، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم، والإجلال، والخشية، والدعاء، والرجاء، والإنابة، والتوكل، والتوبة، والاستغفار، وغاية الحب مع غاية الذل كل ذلك يجب عقلاً وشرعاً وفطرة أن تكون لله وحده، ويمتنع عقلاً وشرعاً وفطرة أن يكون لغيره، فمن فعل ذلك بغيره فقد شبه ذلك (6) الغير بمن لا شبيه له، ولا مثل له ولاند له، وذلك
أقبح التشبيه وأبطله، فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة) . هذا معنى كلام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى. وأما ما يزعمه هذا العراقي من أن طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته مجمع عليه. فالجواب (1) أن نقول (2) : الله أكبر!، ما أعظمها من فرية على الله، وعلى كتابه، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى السلف، وأئمة الدين، فانظر إلى هذه الجرأة العظيمة جعل ما أجمع عليه الرسل، والكتب، والسلف، والمسلمون من تحريم دعوة غير الله والنهي عنها، واتخاذ الشفعاء جعل ذلك المحرم الذي هو دين أهل الجاهلية مجمعاً عليه، ووضع الشرك موضع التوحيد، والباطل موضع الحق، نعوذ بالله من زيغ القلوب، ومسخ العقول، فإن هذا لا يقوله إلا من زاغ قلبه، ومسخ عقله. كيف ينسب الأمة إلى الإجماع على ما نفاه الكتاب والسنة، من الشرك الذي هو دين المشركين؟ وقد أخبر الله عنهم بأنهم اتخذوا الشفعاء في مواضع من كتابه، وأنكر ذلك عليهم غاية الإنكار، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ [وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ] } (3) الآية، وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (4) الآية.
وقد حذر الله الأمة عن هذا الشرك، وبلغهم نبيهم ما أنزل عليه في ذلك الشرك، وحذرهم منه غاية التحذير في حق كل أحد كائناً من كان، وهو يناقض الدين الذي اختاره (1) لنفسه، وهو إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى (2) ، وبعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزله في كتابه، ودعى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة إليه، وأخبرهم أنه هو دينه، وجاهدهم عليه، وأجمع عليه سلف الأمة، وأئمتها، ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة، فإنهم أجمعوا على ما أنزله (3) الله تعالى في كتابه، واختاره لنفسه، وبعث به نبيه، قال الله (4) تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص} (5) ، وقال (6) تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ [مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين] } (7) الآية، وقال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} (8) ، ونهى فيما أنزل في كتابه عن اتخاذ الشفعاء، والنبي صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله وحيه [وقد نهاه عن دعوة غيره في مواضع كثيرة من القرآن] (9) ، ونهى (10) عما نهى الله عنه، فهو يدعو الأمة إلى تركه، ويدعو إلى ما شرعه الله لأنبيائه (11) ورسله من الإخلاص، وأخبر أنه لا ينتفع إلا من تخلى عن الشفعاء رأساً.
فالإجماع إنما هو على ما يحبه الله ورسوله، ويأمر به من دينه، والنهي عما نهى عنه من دين المشركين من أهل الجاهلية، ومن قبلهم من مشركي العرب، كما (1) ورد عن مشركي قوم نوح أنهم قالوا: ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله. وقد أبلغ تعالى في كتابه في البيان بقوله في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي (2) لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَدا} إلى قوله: {إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِه} (3) ، وقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّا} (4) الآية، وقال تعالى (5) : {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدا} (6) الآية. فيقال لمدعي الإجماع: صحح لنا القول بجوازه عن واحد من سلف الأمة وأئمتها، ومن المحال أن يجد ذلك، والقرآن ينادي بالنهي عنه، وتكفير من فعله وظلمه وضلاله. فسبحان الله! كيف ينسب هذا العراقي، وأمثاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يرضى في حقه ما (7) ينافي ما اختاره الله لنفسه من الإخلاص، فقد افترى على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وبدل دينه الذي بعث به الأنبياء والمرسلين، واختار لنفسه دين المشركين مع الكذب والزور والإفك والفجور.
وما ذكره من هذا الإجماع باطل من وجوه: الأول: أن الله نهى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو أحداً من دونه، ووجّه الخطاب إليه بالنهي عن هذا الأمر في مواضع من كتابه، تعظيماً لهذا المنهى عنه، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغه أمته، فقال (1) : {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِين} (2) وهذا عام يتناول كل مدعو، حتى الأنبياء والملائكة والصالحين، كما قال تعالى:/ {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا} (3) . اتفق المفسرون والأئمة أن هذه الآية نزلت فيمن يدعو الأنبياء والصالحين والملائكة، فانظر إلى هذا التهديد والوعيد الشديد فيمن يدعو مع الله غيره من الأنبياء والملائكة والصالحين، فمن المحال أن يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعل ما نهاه الله (4) عنه: من دعوة غير الله، فمن (5) ادعى ذلك فقد افترى على الله، وعلى رسوله بما لم ينزل الله به سلطاناً. ومن المحال أيضاً في حق من بلغه القرآن من سلف الأمة وأئمتها أن يرضى أن تقلب حقيقة الدين التي أحقها الله تعالى (6) في كتابه: من تحريم الشرك به (7) بدعوة الأموات والغائبين، وتعلق القلوب في خصائص الإلهية بغير
رب العالمين، وهذا هو الباطل المحض، والاجتراء على الله وعلى كتابه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. سبحان الله! كيف يخفي هذا على من سمعه؟ وكيف تخفى حال من وضعه هذا (1) الوضع وبدل دين الله، وأقام الشرك مقام التوحيد، والتوحيد مقام الشرك؟. وهذا القول ينبئك عن فساد ما سوّد به (2) القرطاس، من وسواس الخناس، الذي يوسوس (3) في صدور الناس. وهذا (4) الذي ادعاه هذا العراقي هو عين المحادة لله ولرسوله وللمؤمنين،
ولا ريب أن مدلول الدعاء هو السؤال والطلب، كما دل على ذلك الكتاب والسنة واللغة والفطرة والعقول وإن جحد ذلك من جحده، وقد أمر الله تعالى عباده بسؤاله فقال: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِه} (1) ، وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألت فسأل الله" (2) . وقد قصر صلى الله عليه وسلم ابن عمه في سؤاله على ربه تعالى، ولا ريب أن ذلك من أنواع العبادة التي لا يصلح أن يصرف منها شيء لغير الله كائناً من كان، والدعاء هو العبادة في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، شاء المشرك أم أبى. الوجه الثاني: أن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من الصحابة، حتى من هو أفضل منه من الخلفاء الراشدين، ومن في طبقة ابن عباس كابن عمر وغيره، ومن دونهم: لم يعهد عن أحد منهم أنه أتى إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يا رسول الله (3) اشفع لي أو أسألك الشفاعة"، ولو كان خيراً سبقوا إليه، ولما أجدبوا خرج عمر فاستسقى بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وجعله إماماً يدعو ويؤمنون فقال: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فأسقنا فيسقون" (4) . فسبحان الله! كيف يجوز على أفضل الصحابة بعد أبي بكر أن يعدل عن
النبي صلى الله عليه وسلم في التوسل في حال الحاجة والضرورة إلى عمه العباس (1وهو يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم هذا محال1) (1) . هذا والسابقون الأولون متوافرون، لم ينكر ذلك على عمر أحد منهم (2) ، ولو كان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته عندهم جائزاً لما جاز على عمر والسابقين الأولين أن يعدلوا عنه إلى العباس. والميت قد غاب عن الدنيا وأهلها، وأفضى إلى الذي بيده ملكوت السموات والأرض، وفي سؤال الميت تنزيل له منزلة علام الغيوب الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وفيه تشبيه المخلوق بالخالق في خصائص الآلهية، وهي تجريد القصد، والإرادة، والطلب، والنية لله وحده، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (3) وهي "لا إله إلا الله". وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} (4) "والحنيف" هو المقبل على الله المعرض عن كل ما سواه. والمقصود أن من أقبل على غير الله بقلبه ووجهه/ ولسانه وسائر (5) جوارحه رغبة ورهبة إليه، فقد أعرض لذلك القصد والإرادة، وقد قال تعالى:
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي [وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ] (1) } فإن كانت الصلاة الشرعية هي مدلول الآية، فقد تضمنت نوعي الدعاء: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، فالصلاة لا تصلح إلا باجتماعهما فيها، ومعلوم أن ما اشتملت عليه الصلاة الشرعية فهو عبادة، تعبد الله به العباد، وكذلك قوله: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} (2) فما أبقت هذه الآية في العبد نصيباً لغير الله في كل ما يحبه (3الله من عبده ويرضاه3) (3) . وقد تقرر هذا التبيان من محكم [القرآن] (4) فيما أسلفته في أول الجواب، ولله الحمد والمنة، وبه الحول والقوة. ولا ريب أن اتخاذ الشفعاء والتوجه إليهم بالقلب واللسان ينافي إسلام القلب والوجه لله [وحده] (5) ، وقد قال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} (6) . أخبر الله تعالى أن النذارة بالقرآن لا ينتفع بها إلا من تخلى عن الشفعاء في دار العمل، وعلق رغبته ورهبته وسؤاله وطلبه بمن له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله؛ وإليه يرجع الأمر كله، وهذا هو الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي تحقيقه وتقريره من الآيات ما لا يحصى. فمن تدبر القرآن والسنة عرف أن النبي صلى الله عليه وسلم حَمى حِمى التوحيد، وأبطل وسائل الشرك، كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي رواه
الطبراني وغيره (1) أنهم لما قال بعض الصحابة لبعض: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، قال صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله" (2) فهذا في حال حياته (3) صلى الله عليه وسلم نهاهم سداً للذريعة، وأن لا يجعلوا
استغاثتهم بأحد دون الله عز وجل. وقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" (1) ، وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد" (2) . ويأتي من زيادة البيان في هذا المقام من كلام السلف والعلماء ما يكفي طالب الحق {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُور} (3) . الوجه الثالث (4) : أن النبي صلى الله عليه وسلم في حال نزول الموت به قال: "اللهم الرفيق الأعلى" (5) ، ومن كان في الرفيق الأعلى فقد غاب عن الدنيا
وأهلها (1) ، كما قال تعالى في حق المسيح ابن مريم: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} (2) ، فأخبر عليه السلام أنه لما كان بين أظهرهم كان شهيداً عليهم؛ فلما غاب عنهم كان الشهيد هو الله، الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، فكيف ينزّل الغائب منزلة من لا يخفى عليه شيء في الأرض (3) ولا في السماء؟. الوجه الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّم أمته كل خير يعلمه لهم، وحذرهم (4) عن كل شر يعلمه لهم، كما في حديث سلمان: "علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: أجل" (5) الحديث، والخراءة آداب التخلي. وعلمهم نبيهم كيفية الصلاة عليه والسلام (6) ، لما فيه من أداء حقه عليهم ونفعه لهم، ولو كان الاستشفاع به بعد وفاته ينفعهم ويجوز منهم لما ترك تعليمهم ذلك وإرشادهم إليه، فلما لم يفعل ذلك علم أنه مما لا يجوز منهم، كما دل عليه ما تقدمت الإشارة إليه/ من آيات الشفاعة، وأن الله أنكر على المشركين اتخاذهم الشفعاء، بسؤال الشفاعة، وطلبها منهم، وأخبر أنها منتفية في حق من طلبها من غير الله، وبيَّن أن ذلك شرك نزه (7) تعالى نفسه عنه،
سبحان الله عما يشركون، وهذا الحكم عام لا تخصيص فيه لأحد أصلاً. فتأمل هذه الأوجه يتبين لك خطأ هذا العراقي المغرور، وأنه عكس الإجماع، كما قد تبين من حاله، والإجماع الصحيح هو ما ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- وتلقاه (1) عنه الفقهاء في كتبهم، فإنه قال: "من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم كفر إجماعا" وقد تقدم (2) . (4 وتأمل قول الله تعالى: {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ، وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُون} (3) ، ونظائر هذه الآية كثير، ويدركها من تدبر 4) (4) . فمن تأمل أحوال الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والأمة عرف أن هذا هو الإجماع الصحيح، المستند إلى ما لا يحصى من أدلة الكتاب والسنة، ولو ذكرنا مستند هذا الإجماع من الكتاب والسنة لطال الجواب، وقد تقدم الكثير من ذلك: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (5) والحق عليه نور وله ظهور، والباطل عليه ظلمة ودثور. فتدبر قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدا} (6) ،
وقوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْء} (1) فإن قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} يفيد الحصر؛ أي: فدعوة الحق له لا لغيره، فدعوة غيره ليست من الحق في شيء، وقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} ، فهذا الاسم لا يستعمل إلا في حق من يعقل، كما هو معروف عند النحاة، وقوله: {لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْء} ، فيه دليل على أن المراد دعاء المسألة، فأخبر سبحانه أنهم لو دعوهم فإجابتهم لهم فيما سألوهم ممتنعة منتفية بالكلية، وقوله: {إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلال} (2) ؛ لأنهم لم يجدوا مما طلبوه وأمَّلوه منهم شيئاً، وبيَّن تعالى أن دعوة غيره كفر وضلال. وهذه الآية وأمثالها تقطع كل من دعا غير الله، من ميت أو غائب ولهذا أعدت الاستدلال بها، فإن أصل دين الإسلام أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، لا بالأهواء والبدع، وليس في الصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة من أجاز أن يسأل ميت أو غائب من دون الله؛ لأنه لا قدرة له على شيء من أمر الدنيا، ولا من أمر الآخرة، مع غفلتهم وعدم استجابتهم لمن دعاهم، وكراهتهم لذلك، وقد تقدم التصريح بذلك في الآيات المحكمات، ولم ينقل عن أحد من علماء الصحابة والتابعين والأئمة أنه استغاث بنبي أو غيره، أو استشفع به بعد وفاته، ولما أعتقد أناس في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الألهية، كاعتقاد كثير من هؤلاء في أرباب القبور خد الأخاديد وأضرمها
بالنار (1) وقال: لما رأيت الأمر أمراً منكرا ... أججت ناري، ودعوت قنبرا وهذا هو الشرك الأكبر، وهو أعظم ذنب عصى الله به، وهو الذي بعث الله [به] (2) رسله بإنكاره، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ/ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً. وقد تقدم قول الإمام مالك وغيره: (إن الطاغوت ما عبد من دون الله) . وقد حده العلامة ابن القيم بحد جامع مانع، فقال: (الطاغوت: ما تجاوز به العبد حده: من معبود، أو متبوع، أو مطاع) (4) . فلا ذنب أعظم من أن يعتقد أحد أنه إذا دعا ميتاً أو غائباً أو استشفع به أنه يشفع له، وقد أبطل الله هذا الزعم الكاذب في الآيات المحكمات وفي الآيات التي ذكر فيها الشفاعة، وبيَّن تعالى الشفاعة المثبتة، ونفى كل شفاعة فيها شرك تُطلب من غيره، كما تقدم من أنه شرك ينافي الإخلاص هو دينه الذي لا يرضى من أحد ديناً سواه، كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (5) . ولا ريب أن الاستشفاع بالأموات يتضمن أنواعاً من العبادة سؤال غير الله، وإنزال الحوائج به من دون الله، ورجائه، والرغبة إليه، والإقبال عليه بالقلب
والوجه والجوارح واللسان، وهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- في مسألة الوسائط: وقد سئل عن رجل قال: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله تعالى. فأجاب: (الحمد لله رب العالمين إن (1) أراد أنه لا بد لنا من واسطة تبلغنا أمر الله، فهذا حق، فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به ونهى عنه (2) ، ولا يعرفون ما يستحقه من أسمائه الحسنى وصفاته العلى (3) ، وأمثال ذلك إلا بالرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده) . -إلى أن قال-: (وإن أراد بالواسطة: أنه لابد من واسطة يتخذه (4) العباد بينهم وبين الله (5) في جلب المنافع، ودفع المضار، يسألونه ويرجونه (6) ، فهذا من أعظم الشرك الذي كفَّر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع، ويستدفعون (7) بهم المضار. لكن الشفاعة لمن أذن (8) الله له فيها. قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُون} (1) ، وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيع} (2) ، وذكر قول الله تعالى (3) {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (4) وقد تقدم. فبيَّن الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله، وأنهم يتقربون إليه بما يحبه ويرضاه (5) ، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (6) فبين سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كفر، فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويسألهم جلب المنافع، وسد الفاقات (7) ، وتفريج الكربات، فهو كافر بإجماع المسلمين) انتهى (8) . قلت: فتفطن لقوله –رحمه الله تعالى-: (يدعوهم ويسألهم) .
وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد (1) قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود/ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهودياً. وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيّاً، فأنزل الله فيهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} إلى قوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) ، فقال رجل من الأحبار: أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى (3) ابن مريم؟ وقال رجل من نصارى نجران: وذلك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا أمرني". فأنزل الله في ذلك: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (4) انتهى ما رواه ابن إسحاق (5) . وذكر شيخ الإسلام أيضاً- بعد كلامه الذي سبق – في (6) مشايخ العلم
[والدين] (1) ، جعلهم الله وسائط بين الرسول وبين (2) أمته (3) ، يبلغون عنه، ويقتدون به فمن جعلهم وسائط بين الرسول وبين (4) أمته (5) في البلاغ عنه فقد أصاب؛ وهم إذا اجتمعوا فاجتماعهم حجة قاطعة، لا يجتمعون على ضلالة، وإن تنازعوا في شيء ردوه إلى الله والرسول، إذ الواحد منهم ليس بمعصوم على الإطلاق، بل كل أحد (6) يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم. فمن أخذه أخذ بحظ وافر" (7) .
وأما جعل الوسائط بين الله وبين خلقه، كالحجاب الذين بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، بمعنى أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو أن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك؛ لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك، يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وهؤلاء شبهوا (1) الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله
أنداداً، وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى) -إلى أن قال- رحمه الله تعالى-: (والمشركون يتخذون شفعاء من جنس ما يعهدونه من الشفاعة عند المخلوقين، قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) ، (3وقال تعالى عن صاحب يس: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ، إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِين} (2) 3) (3) ، وقال (4) تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (5) -إلى أن قال: (وقد (6) قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ/ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (7) ، فبيَّن سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كفر، فمن جعل الملائكة والأنبياء (8) وسائط يدعوهم، ويسألهم
جلب المنافع، ودفع المضار، وسد الفاقات، وتفريج الكربات، فهو كافر بإجماع المسلمين، ومن ذلك اتخاذهم شفعاء) (1) . وقد تقدم ما يدل على ذلك صريحاً، ويأتي هذا الكلام عنه-رحمه الله- مبسوطاً. وذكر قول الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَه} (2) . ثم قال رحمه الله تعالى: (نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به (3) المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا الشفاعة فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال تعالى (4) : {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (5) فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده" لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يقال له:
"ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع" (1) ، وقال له أبو هريرة (2) : من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: " من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه" (3) ، فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله. وحقيقته (4) : أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه، وينال المقام المحمود، فالشفاعة التي نفاها القرآن: ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين (5) النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص) (6) انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وقال العلامة ابن القيم –رحمه الله تعالى-في معنى حديث أبي هريرة: (تأمل هذا الحديث، كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال شفاعته: تجريد التوحيد عكس ما عند المشركين: أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء، وعباداتهم ومولاتهم، فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب
الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ (1) يأذن الله للشافع أن يشفع، ومن جهل المشرك: اعتقاده أن من اتخذ وليّاً، أو شفيعاً أنه يشفع له، وينفعه عند الله، كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع من والاهم، ولم يعلموا أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال تعالى في الفصل الأول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِ} (2) . وفي الفصل الثاني: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (3) . وبقي فصل ثالث، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد واتباع رسوله (4) صلى الله عليه وسلم فهذه ثلاثة فصول تقطع شجرة الشرك من قلب من دعاها وعقلها) . انتهى (5) . قلت: وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام، وابن القيم –رحمهما الله تعالى- هو الذي أجمع عليه أهل الحق سلفاً وخلفاً، كما قال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُون} (6) وقد (7) تقدم لشيخ الإسلام أن هذا مجمع عليه. فلا يلتفت إلى ما أحدثه المشركون، وزخرفوه/ من الأكاذيب والأباطيل، وإن اعتمدها من زاغ قلبه عن الهدى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"بدأ (1) الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ" (2) ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه" قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ "قال: فمن" (3) . وقد ذكر تعالى ما وقع من اليهود والنصارى من التغيير للحق والتبديل؛ كما قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُون} (4) الآية، وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون} (5) . وقد جرى في طوائف من هذه الأمة ما جرى من أهل الكتاب من الشرك بالأخبار والرهبان، وغيرهم من الأموات والغائبين ما لا يخفى على من له بصيرة يعقل بها ما ذكره الله تعالى في كتابه، وما حدث في الأمة من مشابهة اليهود
والنصارى من الشرك والتبديل والتحريف، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث أنه قال: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا (1) " (2) . وقد ذكر شيخ الإسلام –رحمه الله تعالى-طرفاً مما شابه فيه أهل الكتاب كثيراً من هذه الأمة، وما شابهوا فيه أعداء الرسل من الأمم، فإنه قال (3) : (وما زال المشركون يسفهون الأنبياء، ويصفونهم بالجنون والضلال، كقوم نوح وعاد وثمود، وهكذا تجد من فيه شبه (4) بهم، إذا رأى من يدعو إلى توحيد الله، وإخلاص الدين له؛ وأن لا يعبد الإنسان إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه: استهزؤا ذلك لما عندهم من الشرك، وكثير من هؤلاء يخربون المساجد (5) ، فتجد المسجد الذي بني للصلوات الخمس معطلاً مخرباً، والمشهد (6) الذي بني على الميت عليه الستور والزينة والرخام، والنذور تغدو/ وتروح إليه، فهل هذا إلا لاستخافهم (7) بالله، وباياته، ورسوله، وتعظيمهم للشرك؟
فإنهم اعتقدوا أن دعاء الميت الذي بني له المشهد أنفع لهم (1) من دعاء الله والاستغاثة به في البيت الذي بني لله عز وجل، وإذا (2) كان لهذا وقف، ولهذا وقف، كان وقف الشرك أعظم عندهم منه (3) ؛ مضاهاة لمشركي العرب الذين ذكر الله حالهم في قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُون} (4) . يجعلون لله زرعاً وماشية ولآلهتهم زرعاً وماشية، فإذا أصيب نصيب آلهتهم أخذوا من نصيب الله فوضعوه فيه، وقالوا: الله غني وآلهتنا فقراء (5) ، وهكذا هذه الوقوف والنذور التي تبذل عندهم للمشاهد هي عندهم أعظم (6) مما يبذل عندهم للمساجد ولعمارة المساجد، وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه بكى عنده، وخضع ويدعو ويتضرع، ويحصل له من الرقة والعبودية وحضور القلب ما لا يحصل مثله في الصلوات الخمس والجمعة (7) وقراءة القرآن، فهل هذا (8) إلا من حال المشركين المبتدعين، لا من حال الموحدين المخلصين المتبعين لكتاب الله (9) وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
ومن هؤلاء: من إذا كانوا في السماع (1) فأذن المؤذن قالوا: نحن في شيء أفضل مما دعانا إليه، والذين يجعلون دعاء الموتى من الأنبياء والملائكة (2) والشيوخ أفضل من دعاء الله أنواعاً متعددة. ومنهم من يحكي أنواعاً من الحكايات: حكاية أن بعض المريدين استغاث بالله فلم يغثه، واستغاث بشيخه فأغاثه، وحكاية أن بعض المأسورين في بلاد العدو دعا الله فلم يخرجه، ودعا بعض المشايخ الموتى فجاء فأخرجه إلى بلاد الإسلام، وحكاية أن بعض الشيوخ قال لمريده: إذا كانت لك حاجة إلى الله (3) ؛ فتعال فقف (4) إلى قبري (5) ، وتوسل إلى الله بي، وآخر قال: قبر فلان هو الترياق المجرب، فهؤلاء وأشباههم يرجحون/ هذه الأدعية على أدعية المخلصين لله مضاهاة لسائر المشركين) . قلت: وهذا مما شابهت فيه هذه الأمة من قبلهم من أهل الكتاب والمشركين، ويأتي في كلام شيخ الإسلام كثير من هذا الضرب، مما اختلقه المشركون من هذه الأمة أسوة بأمثالهم (6) ممن ألحد في الدين، واتبع غير سبيل المؤمنين، ومن كذب على الله وافترى ونبذ الكتاب وراء ظهره واجتراء، وقد قال الله عز وجل: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ. وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ. وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ. وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ
بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ. إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ. إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} (1) . وقد بيَّن الله تعالى في كتابه هذا الشرك الذي انتحله هؤلاء المشركون بياناً شافياً، وقد تقدم في الآيات المحكمات ما يبينه ويوضحه، وما يترتب على فعله من التهديد، والوعيد الشديد وتكفير (2) من فعله، فأخذ هؤلاء ما زخرفوه من الترهات والخيالات والشبهات، بدلاً عن الآيات المحكمات، وصريح السنة وصحيحها، فلا محال أبين من هذا المحال؛ ولا ضلال أبعد من هذا الضلال، ألم يسمعوا إلى قول الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِين} (3) . وقوله (4) تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير} (5) .
وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُون} (1) ، وقد تقدمت هذه الآيات وبعض نظائرها من الآيات المحكمات. وقد عرفت أن كل داع قد أقبل قلبه (2) على المدعو، ووجه وجهه إليه، ورغب إليه ورجاه، وأحبه مع الله، وتوكل عليه، وخضع له وأناب إليه؛ وغير ذلك، وكل هذا عبادة لا تصلح إلا للحي القيوم، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السموات وما في الأرض، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في /الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين. وسبحان الله! أين ذهبت عقول (3) المشركين عن عبادة الذي خلقهم ورزقهم؛ ويحييهم ويميتهم، ويتصرف فيهم بمشيئته وإرادته؟ ولا نفع ولا ضر إلا بمشيئته وقدرته (4) وحكمته (5) ، وقد قال الله (6) تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُون} (7) ، وقال (8) : {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُون} (9) .
ثم أخبر تعالى أن العلة التي صرفتهم عن قبول الحق، الإنكار والاستكبار، فأخذوا الضلال عوضاً عن الهدى، وقد أنذرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم غاية الإنذار، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ. قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} (1) ، وقال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ ِالْعِبَادِ} (2) ، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً. قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً. قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} (3) . فسبحان الله! كيف جاز في عقول هؤلاء أن يتقربوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشرك الذي بعثه الله بإنكاره، والإنذار عنه، وعداوة من فعله (4) ، وأصر عليه، وقتاله، وإباحة دمه وماله؟ كما دلت عليه هذه الآيات المحكمات ونظائرها. قال الله (5) تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه} (6) والفتنة: الشرك بالله في العبادة، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا
وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا} (1) . والعجب أن كثيراً من هؤلاء لم يفهموا من هذه الآية إلا الشرك الأصغر، كيسير الرياء، وهذا من فساد العقول، والجهل بمضمون الدال والمدلول. (4 والشرك بأرباب القبور والغائبين هو الشرك الأكبر المخرج عن الإسلام، و [هو] (2) شرك مشركي قريش والعرب، بل هو في أواخر هذه الأمة، فلا ينفع معه صلاة ولا عمل، وقد قال تعالى في حق المشركين: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} (3) الآية، فكفرهم تعالى بالشرك بالدعاء الذي جحده كذباً على الله4) (4) . وتأمل قوله: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فلا تصلح الإلهية إلا له وحده. و"الإله" هو الذي تألهه القلوب بأي نوع كان من أنواع العبادة كما تقدم، فمن صرف من العبادة شيئاً لغير الله، كالدعاء ونحوه فقد ألهه بالعبادة، واتخذه إلهاً من دون الله، ولا يختلف كلام أهل اللغة وأهل السنة سلفاً وخلفاً عن هذا المعنى (5) . وقد تقدم في هذا الجواب نحو (6) مما ذكرناه هنا، ولو ذهبنا نذكر جميع الأدلة على هذا الأصل العظيم لاحتمل عدة أجزاء، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
/ومن أعظم أسباب (1) الوقوع في الشرك: استصحاب العوائد وإلفها، وكثرة من ضل عن الحق إما جهلاً وإما عناداً، وبهذه الأسباب ونحوها كثر اللبس الذي نهى الله تعالى عنه اليهود في قوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) ذكره تعالى في أول سورة البقرة تحذيراً لهذه الأمة أن يشابهوا أهل الكتاب فيما ذمهم تعالى به، ونهاهم عنه. وقد عمت البلوى بذلك، ولم يستندوا فيه إلا إلى خيالات شيطانية، كما قال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُون} (3) . قال العلامة ابن القيم (4) –رحمه الله تعالى –لما ذكر سبب عبادة الأصنام التي صورها قوم نوح على صور الصالحين قال: (وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور ويلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بهم (5) ، والأقسام بهم (6) على الله، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه، أو يسأل بأحد من خلقه، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه وعبادته، وسؤاله الشفاعة، واتخاذ قبره وثناً تعلق عليه القناديل والستور، ويطاف به، ويستلم ويقبل، ويحج إليه، ويذبح
عنده، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً (1) ، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم. وكل (2) هذا مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، من تجريد التوحيد، وأن لا يعبد إلا الله. فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية، وحطهم عن منزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، وغضب المشركون، وأشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُون} (3) وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُون} (4) انتهى كلامه-رحمه الله تعالى- (5 وقد تقدم، وقد كرره في مواضع فأتبعناه، وهو كلام/ عظيم مطابق لما يقع من المشركين في كل زمان ومكان 5) (5) . وليتأمل ما ذكره العلماء –رحمهم الله تعالى (6) - في قوله تعالى (7) : {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ
أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير} (1) . قال ابن عطية (2) في هذه الآية: (في الكلام حذف دل عليه الظاهر، كأنه قال: ولا هم شفعاء كما تزعمون أنتم، بل عبدة (3) مسلمون أبدا، يعنى منقادون) . وقال أبو حيان (4) : (وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآية تتسق هذه الآية على الأولى، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم} لم (5) تتصل له هذه الآية بما قبلها) . وقال مقاتل بن حيان (6) في قوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} (7) الآية. قال: (فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا أي: لأنهم يعتقدون ذلك فيها، وإنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط، وشفعاء عند الله، لا أنهم (8) يكشفون الضر ويجيبون دعاء المضطر، فهم يعلمون أن ذلك لله وحده، كما قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ. ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ
مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} (1) . انتهى (2) . ولا عجب من وقوع الكثير من الناس في الجهل بالتوحيد، ووقوعهم في الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، مع انتسابهم إلى الإسلام، وقراءتهم القرآن، وانتسابهم إلى شريعة الإسلام، فقد روى الإمام أحمد وابن ماجه عن زياد بن لبيد-رضي الله عنه-قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فقال: "ذلك عند أوان ذهاب العلم" قلت: يا رسول الله وكيف يذهب ونحن نقرأ القرآن ونقرؤه أبناءنا، ويقرؤه أبنائنا (3) ، أبناءهم؟، قال: "ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأراك من أفقه رجل في المدينة، أوليس هذه (4) اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيها؟ " (5) . وعن علي –رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا يبقى من القرآن إلا رسمه،
مساجدهم (1) عامرة، وهي يومئذٍ (2) خراب من الهدى، علماؤهم أشر من تحت أديم السماء [من] (3) عندهم تخرج الفتنة، وفيهم تعود" (4) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان". قلت: وقد ظهر الشرك والبدع في هذه الأمة بعد القرون المفضلة، بظهور الدول بالمشرق والمغرب، / كالأزارقة، وبني بويه، والقرامطة، ونبي عبيد القداح، والإسماعيلية ونحوها، فاشتدت غربة الإسلام، وصار أهل السنة غرباء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس أو يصلحون ما أفسد الناس" (5) ، وقد تقدم
هذا، وأعيد لئلا ينسى كنظائره، فإن الحق يحلو مع التكرار والبيان. وقد أشار إلى ما وقع في هذه الأمة من مصداق هذا الحدث كثير من العلماء، قديماً وحديثاً، فمن ذلك ما ذكره يحيى بن يوسف (1) الصرصري قال:
نُح وابكِ، والمعروف أقفر رسمه ... والمنكر استعلى وآثر وسمه (1) لم يبق إلا بدعة فتانة ... بهوى مضل مستطير سمه هذا الذي (2) وعد النبي المصطفى ... بظهوره وعداً توثق (3) حتمه هذا لعمر إلهك الزمن الذي ... تبدو جهالته ويرفع علمه ذهب النصيح لربه ونبيه ... وإمامه نصحاً تحقق عزمه لم يبق إلا حاكم هو مرتش ... أو عالم تخشى (4) الرعية ظلمه والصالحون على الذهاب تتابعوا ... فكأنهم عقد تناثر نظمه لم يبق إلا راغب، هو مظهر ... للزهد، والدنيا الدنية همه لولا بقايا سنة ورجالها ... لم يبق نهج (5) واضح نأتمه (8 وقد قال العلامة ابن القيم –رحمه الله تعالى (6) -: وأي اغتراب (7) فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكم (8) قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى-في "الاقتضاء" أيضاً: "ولم يكن أحد من السلف يأتي إلى قبر نبي أو (9) غير نبي لأجل الدعاء
[له] (1) ، ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عند قبر غيره من الأنبياء، وإنما كانوا يصلون عليهم ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، فاتفق الأئمة على أنه إذا دُعي (2) في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يستقبل قبره. وتنازعوا عند السلام عليه، فقال مالك وأحمد وغيريهما: يستقبل قبره ويسلم عليه، وهو الذي ذكره أصحاب (3) الشافعي، وقال مالك –فيما ذكره إسماعيل بن إسحاق في "المسبوط" والقاضي عياض وغيريهما-: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يسلم/ ويمضي، وقال في "المبسوط": (لا بأس لمن قدم من سفر، أو خرج أن يقف على النبي صلى الله عليه وسلم (4 ويصلي ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم4) (4) ، ويدعو له ولأبي بكر وعمر، فقيل له: إن ناساً من أهل المدينة يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، فيسلمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني [هذا] (5) عن أحد من أهل الفقه (6) ببلدنا، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، إلا من جاء من سفر أو أراده) . قال: (وقد تقدم من الآثار عن السلف ما يوافق هذا من أنهم إنما كانوا يستحبون عند قبر (7) النبي صلى الله عليه وسلم ما هو من جنس الدعاء له، كالصلاة والسلام، ويكرهون قصده للدعاء والوقوف عنده، وليس في أئمة المسلمين من استحب
للمرء أن يستقبل قبره (1) ويدعو. وهذا الذي ذكرناه عن مالك والسلف يبين (2) ضعف ما ينقله المحرفون عن مالك ونحوه، مما يخالف ذلك مما هو خلاف مذهبه المعروف بنقل الثقات من أصحابه، وهو نص على أنه لا يقف عند قبره للدعاء مطلقاً، ولم يذكر أحد من الأئمة أن أحداً منهم استحب أن يسأل أحداً (3) بعد الموت، وإنما يعرف ذلك في حكاية ذكرها طائفة من متأخري الفقهاء عن أعرابي أنه أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم فاحتجوا بهذا الحكاية التي لم (4) يثبت بها حكم شرعي، لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعاً لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل (5) .
وذكر أن معاوية [رضي الله عنه] (1) استسقى بيزيد بن الأسود (2) ، قال: ولم يذكر عن أحد من الصحابة أنه أتى إلى قبر نبي ولا غيره يستسقي عنده ولا به، وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة (رضي الله عنه) (3) [عن النبي صلى الله عليه وسلم] (4) أنه قال: "ما من رجل يسلم علىَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام" (5) ، وفي
"سنن النسائي" وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام/ والصلاة على" (1) فما أمر الله به ورسوله وشرعه لنا عند زيارة قبور (2) الأنبياء والصالحين هو من جنس المشروع عند جنائزهم، كما أن المقصود بالصلاة على الميت الدعاء له. والمقصود (3) بزيارة قبره الدعاء له، كما ثبت في الصحيح والسنن والمسند أنه صلى الله عليه وسلم "كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور [أن يقولوا] (4) : السلام
عليكم (1) دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون (2) ، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين. نسأل الله لنا ولكم العافية. اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم" (3) . وأما أن يقصد بالزيارة سؤال الميت والأقسام على الله به أو استجابة (4) الدعاء عند تلك البقعة، فهذا لم يكن من فعل أحد من سلف الأمة، لا الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولم يوجد في عصرهم من يستشفع بالأموات ويتوسل بهم، وإنما الثابت عنهم ترك ذلك، كما فعل عمر ومعاوية رضي الله عنهما، فإنهم عدلوا في التوسل إلى دعاء الأحياء (5) ، لحضورهم وقدرتهم على الدعاء؛ لأنهم في دار العمل، وأما الأموات فانتقلوا عنها، وقد فارقت أرواحهم، [وأجسامهم] (6) تحت الثرى، وأرواحهم في الرفيق الأعلى. فسبحان الله، والله أكبر فكيف جاز في عقول من جعل الله له عقلاً أن يعدل عن سؤال (7) القريب المستجيب- وقد وعد من سأله الإجابة، وهو القادر على كل شيء، العليم (8) بكل شيء، لا يخفى عليه شيء من أقوال خلقه
وأعمالهم وإرادتهم – إلى ميت غائب (1) لا يسمع ولا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع، في تلك الحال؟ ولا ريب أن هذا من أبطل الباطل عقلاً، ونقلاً، وفطرة، وقد قال الله (2) تعالى محتجاً بصفاته-التي دلت على كماله تعالى – على (3) أنه تعالى هو المدعو وحده المعبود (4) وحده، فقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ (5) فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} (6) فأمر تعالى بإخلاص الدعاء له وأنه المستحق له دون كل ما سواه.
فصل
فصل (1) وقال شيخ الإسلام (2) –رحمه الله تعالى-: (ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في زيارة قبر مخصوص، ولا روى في ذلك لأهل الصحيح ولا السنن والأئمة المصنفين في المسند (3) ، وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره. وأجل حديث وري في ذلك ما رواه الدارقطني –وهو ضعيف باتفاق أهل العلم-بل الأحاديث المروية في زيارة قبره كقوله: "من زارني وزار أبي الخليل في عام واحد ضمنت له على الله (4) الجنة" (5) ، /"ومن زارني بعد مماتي فكأنما
زارني في حياتي" (1) ، "ومن حج ولم يزرني فقد جفاني" (2) ، ونحو هذه الأحاديث كلها مكذوبة موضوعة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم رخص زيارة القبور مطلقا، بعد أن كان قد نهى عنها (3) لتذكر الآخرة؛ والدعاء للميت أو للأموات والاستغفار لهم، فهذا هو المشروع، وهو سبب الإذن في زيارة القبور، لا لدعائهم (4) والاستشفاع بهم. فإن هذا لم يشرعه الله ولا رسوله [صلى الله عليه وسلم] (5) ، بل نهى عنه وحرمه؛ كما تقدم في الآيات المحكمات، فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم، فإن أهل (6) القبور لا ينفعون ولا يضرون، ولا يسمعون ولا يستجيبون بنص القرآن
العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. وقال جل ذكره: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون} (1) . وقال أيضاً (2) شيخ الإسلام –رحمه الله تعالى-: (فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، فهو كافر بإجماع المسلمين، فإن الله جعل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وسائط في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، فليس لأحد طريق إلى الله (3) إلا بمتابعة الرسول بفعل ما أمر وترك ما حذر، وأما إجابة الدعوات، وتفريج الكربات، فهذا لله وحده لا يشركه فيه أحد؛ ولهذا فرق سبحانه وتعالى في كتابه بين ما فيه حق للرسول وبين ما هو لله وحده (4) ، كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون} (5) . فبيَّن سبحانه ما يستحقه الرسول من الطاعة، فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، وأما الخشية والتقوى فجعل ذلك لله وحده، وكذلك قوله تعالى (6) :
{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} (1) ، فجعل الإيتاء لله وللرسول، وأما التوكل والرغبة فله (2) وحده، كما في قوله تعالى (3) : {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} ولم يقل: ورسوله وقال: {ِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} ولم يقل: وإلى رسوله، وذلك موافق لقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب} (4) فالعبادة والخشية والتوكل والدعاء والرجاء/ والخوف لله وحده لا يشركه فيه أحد، وأما الطاعة والمحبة والإضاء فعلينا أن نطيع الله ورسوله، ونحب الله ورسوله، ونرضى الله ورسوله؛ لأن طاعته طاعة لله (5) ؛ ورضاه إرضاء لله (6) ، وحبه من حب الله. والله سبحانه لم يجعل أحداً من الأنبياء والمؤمنين واسطة في شيء من الربوبية والإلهية. قال تعالى (7) : {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه} (8) ، وقال تعالى (9) : {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (10) ، وقال تعالى (11) : {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيَرْضَى} (1) ، وقال تعالى (2) : {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (3) فبيَّن سبحانه أن اتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً كفر) . وقال –رحمه الله تعالى- (4) : (والأعمال الدينية لا يجوز أن تتخذ سبباً إلا أن تكون مشروعة، فإن العبادات مبناها على التوقيف، فلا يجوز للإنسان أن (5) يشرك بالله فيدعو غيره، وإن ظن أن (6) ذلك سبب لحصول بعض أغراضه، وكذلك لا يعبد الله بالبدع والمخالفة للشريعة؛ وإن ظن ذلك، فإن الشياطين قد تعين الإنسان على بعض مقاصده إذا أشرك. فما أمر الله به فمصلحته راجحة، وما نهى عنه فمفسدته راجحة. والمقصود هنا: أن من أثبت وسائط بين الله وبين خلقه، كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك، بل هذا دين المشركين عباد الأوثان، وهو من الشرك الذي أنكره الله تعالى على النصارى حيث قال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون} (7) .
ثم ذكر-رحمه الله تعالى-نحو ما تقدم من قوله: "فإن الله تعالى (1) جعل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وسائط في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده، وليس لأحد طريق إلى الله إلا بمتابعة الرسول للخاصة أو العامة فهو كافر بالله ورسوله، مثل من زعم أن من خواص الأولياء والعلماء والفلاسفة وأهل الكلام والملوك من له طريق إلى الله غير متابعة الرسول [صلى الله عليه وسلم] (2) ، ويذكرون في ذلك من الأحاديث المفتراة ما هو من أعظم الكفر والكذب، كقول بعضهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم استأذن على أهل الصفة فقالوا: اذهب إلى من أنت رسول إليه، وقال بعضهم إنهم/ (4 لما (3) أصبحوا (4) ليلة المعراج؛ فأخبروه بالسر الذي ناجاه الله به، وأن الله أعلمهم بذلك بدون إعلام الرسول، وقال بعضهم: أنهم قاتلوا في بعض الغزوات مع الكفار، وقالوا من كان الله معه كنا معه، وأمثال هذه الأمور (5) التي هي من أعظم الكفر والكذب. ومثال احتجاج بعضهم في قصة الخضر وموسى عليهما السلام على أن من الأولياء من يستغني عن محمد صلى الله عليه وسلم كما استغنى (6) الخضر عن موسى، ومثل قول بعضهم: أن خاتم الأولياء له إلى الله طريق يستغني به عن خاتم
الأنبياء، وأمثال هذه الأمور التي كثرت في كثير من المنتسبين إلى الزهد والفقه والتصوف والكلام، وكفر هؤلاء قد تكون من جنس كفر [اليهود] (1) والنصارى وقد تكون أعظم، وقد تكون أخف بحسب أحوالهم) . قلت: والمقصود بما ذكرنا عن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (2) : بيان ما وقع في الأمة مما يناقض ما جاءت به الرسل، من توحيد العبادة الذي أرسلوا به ودعوا الناس إليه. وقال –رحمه الله- (3) في كتاب الاستغاثة (4) في الرد على ابن البكري قال: (وسؤال الله بالميت، والأقسام على الله به، واستحباب (5) الدعاء عند تلك البقعة لم يكن هذا من فعل أحد من سلف الأمة لا الصحابة ولا التابعين له بإحسان، وإنما حدث بعد ذلك. وقد استفاض عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا. قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً" (6) . وفي "الصحيح"أنه ذكر له كنيسة بأرض الحبشة وذكر له حسنها وتصاوير فيها فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا
فيه تلك الصور (1) ، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة" (2) (3وهذا في الصحيح3) (3) وفي "صحيح مسلم"عن جندب بن عبد الله، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلا. ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبابكر خليلاً. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" (4) . وفي "السنن"عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيداً؛ وصلوا علي حيثما (5) كنتم، فإن صلاتكم تبلغني" (6) . (1) في "م" و"ش": "التصاوير" وهو تحريف والمثبت هو موافق للصحيحين. (2) أخرجه البخاري في الصلاة باب هلي تنبش قبور مشركي الجاهلية (ح/427) ، ومسلم في المساجد باب النهي عن بناء المساجد على القبور (ح/528) من حديث عائشة –رضي الله عنها, (3) ما بين القوسين سقطت من (المطبوعة) . (4) أخرجه مسلم في المساجد باب النهي عن بناء المساجد على القبور (ح/532) . (5) في "م" و"ش": "حيث". (6) أخرجه الإمام أحمد في "مسنده": (2/367) ، وأبو داود في "المناسك" باب زيارة القبور (ح/2042) ، عن أبي هريرة وفي إسناده عبد الله بن نافع الصائغ، قال الحافظ في "التقريب ": "ثقة صحيح الكتاب في حفظه لين". وقال شيخ الإسلام بعد أن ذكر الحديث: "هذا إسناد حسن فإن رواته كلهم ثقات مشاهير لكن عبد الله بن نافع الصائغ الفقيه المدني صاحب مالك فيه لين لا يقدح في حديثه قال يحيى بن معين: هو ثقة وحسبك بابن معين موثقاً. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ وهو لين تعرف حفظه وتنكر فإن هذه العبارات تنزل حديثه من مرتبة الصحيح إلى مرتبة الحسن إذ لا خلاف في عدالته وفقهه وأن الغالب عليه الضبط لكن قد يغلط أحياناً ثم هذا الحديث مما يعرف من حفظه ليس مما ينكر لأنه سنة مدنية" انظر "اقتضاء الصراط المستقيم": (654-655) . وقال ابن الهادي في "الصارم المنكي"ص 414 "حديث حسن جيد الإسناد وله شواهد كثيرة يرتقي بها إلى درجة الصحة. قلت: ومن شواهد الحديث: * حديث علي بن الحسين: أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير": (2/186) ، وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (20) ، وأبو يعلى (1/245) ، والضياء في "المختارة" كما في "الاقتضاء" ص 298، و"الرد على الإخنائي" ص 92 عن علي بن الحسين عن أبيه عن جده وفيه قصة. قال شيخ الإسلام في "الرد على الإخنائي" ص 92: "وهذا الحديث مما خرجه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي فيما اختاره من الأحاديث الجياد المختارة الزائدة على ما في الصحيحين، وهو أعلى مرتبة من تصحيح الحاكم، وهو قريب من تصحيح الترمذي وأبي حاتم البستي ونحوهما..". * حديث الحسن بن علي: أخرجه أبو يعلى كما في "جلاء الأفهام": (ص 41و 42) ، وفي سنده عبد الله بن نافع مولى ابن عمر، وهو ضعيف، وموسى بن محمد بن حبان وقد تركه أبو زرعة "الجرح والتعديل": (4/161) . تنبيه: وقع في "الميزان": "ابن جيّان"، وفي "اللسان": "بن حسان" وكلاهما خطأ فليتنبه. * حديث الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب: أخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (30) ، وسعيد ابن منصور كما في "الاقتضاء "ص 299، و"الرد على الأخنائي"ص 93، وزاد في آخره: "ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء"، وابن أبي شيبة (3/345) ، وفيه قصة عن الحسن بن الحسن مرسلاً. * أبي سعيد مولى المهري: أخرجه سيعد بن منصور كما في "الرد على الأخنائي"ص 93، و"الاقتضاء" ص 656 فقال: حدثنا حيان بن علي حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد المهدي مرسلاً، وأبو سعيد هذا قد وثقه ابن حبان فقط، وقال ابن حجر في "التقريب": "مقبول".
وفي "الموطأ" وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:/ "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (1) . وفي "المسند" و"صحيح أبي حاتم" عن ابن مسعود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد" (2) . ومعنى هذه الأحاديث متواتر عنه صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، وكذلك عن الصحابة. وهذا الذي نهى عنه من اتخاذ القبور مساجد، مفارق لما أمر به وشرعه، من السلام على الموتى والدعاء لهم، فالزيادة المشروعة من جنس الصلاة على
الجنازة، والزيارة المبتدعة من جنس الأول. فإن نهيه عن اتخاذ القبور مساجد يتضمن النهي عن بناء المساجد عليها وعن قصد الصلاة عندها، وكلاهما منهي عنه باتفاق العلماء، فإنهم قد نهوا عن بناء المساجد على القبور، بل صرحوا بتحريم ذلك كما دل عليه النص. واتفقوا أيضاً على أنه لا يشرع قصد الصلاة والدعاء عند القبور، ولم يقل أحد من أئمة المسلمين: أن الصلاة والدعاء عندها أفضل منه في المساجد الخالية، بل هو مكروه باتفاقهم. والفقهاء قد ذكروا في تعليل كراهة (1) الصلاة في المقبرة علتين: إحداهما (2) : نجاسة التراب؛ لاختلاطه بصديد الموتى، وقد ثبت في "الصحيح" أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان حائطاً لبني النجار، وكان فيه قبور من قبور المشركين، ونخل وخرب، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنخيل فقطعت، وبالخرب فسويت، وبالقبور فنبشت، وجعل النخل في صف القبلة (3) ، فلو كان تراب قبور المشركين نجساً لأمر بنقل ذلك التراب، فإنه لابد أن يختلط بغيره. والعلة الثانية: ما في ذلك من مشابهة الكفار بالصلاة عند القبور (4) ؛ لما يفضي إليه من الشرك، وهذه العلة صحيحة باتفاقهم.
والمعللون بالأولى-كالشافعي وغيره- عللوا بهذه أيضاً، وكرهوا ذلك لما فيه من الفتنة، وكذلك الأئمة من أصحاب أحمد ومالك –كأبي بكر الأثرم وغيره-وعللوا بهذه الثانية أيضاً. وقد قال الله (1) تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ [وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً. وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالا] (2) } (3) ، ذكر ابن عباس وغيره من السلف أن هذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم وصورا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم، وقد ذكر هذا البخاري في "صحيحه" (4) ، وأهل التفسير، كابن جرير (5) وغيره من المفسرين. ويبين صحة هذه العلة أنه صلى الله عليه وسلم: "لعن من يتخذ (6) قبور الأنبياء مساجد" (7) ، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا تنبش، ولا يكون ترابها نجساً، وقال صلى الله عليه وسلم عن نفسه: "اللهم لا تجعل قبري (10وثناً يعبد" (8) . وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا قبري عيداً" (9) ، 10) (10) فمعلوم أن نهيه [عن] (11) ذلك من جنس نهيه عن الصلاة عند
طلوع الشمس، وعند غروبها، لأن الكفار يسجدون للشمس حينئذ، فسد الذريعة وحسم المادة، (1لئلا يصلى1) (1) في هذه الساعة (2) ، وإن كان (3) المصلى لا يصلي إلا لله تعالى، ولا يدعو إلا الله، وكذلك نهيه (4) عن اتخاذ القبور مساجد، وإن كان المصلي عندها لا يصلي إلا لله، ولا يدعو إلا الله لئلا يفضي ذلك إلى دعائها (5) ، والصلاة عندها (6) ، وكلا الأمرين وقع، فإن من الناس من يسجد (7) للشمس وغيرها من الكواكب، ويدعو [لها بأنواع] (8) الأدعية والتسبيحات، ويلبس لها من اللباس والخواتم ما يظن مناسبتها لها في زعمه، وهذا من أعظم أسباب الشرك الذي ضل به كثير من الأوليين والآخرين، وصنف فيه بعض المشهورين كتاباً سماه "السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم" على مذهب المشركين من الهند والصائبين والمشركين من العرب وغيرهم، مثل طمطم الهندي، وملك شاه البابلي، وابن (9) وحشية، وأبي معشر البلخي، وثابت بن قرة، وأمثالهم ممن دخل في الشرك، وآمن بالجبت والطاغوت، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ
بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} إلى قوله: {وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرا} (1) ، وقد قال غير واحد من السلف (2) : الجبت السحر، والطاغوت الأوثان، وبعضهم قال: الشيطان، وكلاهما حق. وهؤلاء يجمعون بين الجبت الذي هو السحر، والشرك الذي هو عبادة الطاغوت، كما يجمعون بين السحر ودعوة الكواكب، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام –بل هو (3) دين جميع الرسل-أنه شرك محرم، بل هو من أعظم أنواع الشرك الذي بعثت الرسل بالنهي عنه، ومخاطبة إبراهيم الخليل لقومه كانت في نحو هذا الشرك، كما (4) قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِين} إلى قوله: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم} (5) . فإن إبراهيم عليه السلام سلك السبيل؛ لأن قومه كانوا يتخذون الكواكب أرباباً يدعونها ويسألونها، ولم يكونوا هو ولا أحد من العقلاء يعتقدون أن كوكباً من الكواكب خلق السموات والأرض، وإنما كانوا يدعونها من دون الله على مذهب هؤلاء المشركين؛ ولهذا قال الخليل عليه السلام: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} (6) ، وقال:
{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِين} (1) ، والخليل-صلوات الله وسلامه عليه- أنكر شركهم بالكواكب العلوية، / وشركهم بالأوثان التي هي تماثيل وطلاسم لتلك، أو هي تماثيل لمن مات من الأنبياء والصالحين وغيرهم، وكسر الأصنام [كما] (2) قال تعالى (3) [عنه] (4) : {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً [إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ] (5) } (6) . والمقصود هنا أن الشرك واقع كثيراً، وكذلك بأهل القبور من دعائهم والتضرع إليهم، والرغبة إليهم، ونحو ذلك. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة التي تتضمن الدعاء لله وحده خالصاً عند القبور؛ لئلا يفضي ذلك إلى نوع (7) من الشرك بهم، فكيف إذا وجد (8) ما هو نوع شرك من الرغبة: سواء طلب منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، أو طلب منهم أن يطلبوا ذلك من الله؟ بل لو أقسم على الله ببعض خلقه من الأنبياء والملائكة وغيرهم لنهي عن ذلك، ولو (9) لم يكن عند قبره، كما لا يقسم بمخلوق مطلقاً، وهذا القسم منهي عنه غير منعقد باتفاق الأئمة، وهل هو نهي تحريم أو تنزيه؟ أصحهما أنه تحريم.
ولم يتنازع العلماء إلا في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فإن فيه قولين في مذهب أحمد، لكن القول الذي عليه الجمهور جمهور الأئمة، كمالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم أنه لا تنعقد اليمين بمخلوق البتة، ولا يقسم بمخلوق البتة وهذا هو الصواب، واتفقوا على أن الله يسأل ويقسم عليه بأسمائه وصفاته، كالأدعية المعروفة، كما (1) في السنن " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت، أنت [الله] (2) المنان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام" (3) ، وفي الحديث الآخر: "اللهم إني أسألك بأنك أنت الله (4 لا إله إلا أنت4) (4) الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" (5) ونحو ذلك، فهذه الأدعية ونحوها مشروعة باتفاق العلماء. وفي الحديث الذي رواه أهل السنن "الدعاء هو العبادة"، ثم قرأ قوله تعالى (6) : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} (7) ، وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب} (8) الآية، وقد روي أن بعض الصحابة قال: "يا رسول الله، ربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية" (9) ، فمن
استجاب لربه بامتثال أمره ونهيه حصل مقصوده من الدعاء وأجيب دعاؤه. والمقصود هنا أن دعاء الله قد يكون عبادة لله يثاب العبد عليه في الآخرة مع ما يحصل له في الدنيا، وقد يكون دعاء مسألة تقضى به حاجته (1) ، ثم (2) قد يثاب عليه إذا كان مما يحبه الله، وقد لا يحصل له إلا تلك الحاجة، فالوسيلة التي أمر الله بابتغائها تعم الوسيلة في عبادته وفي مسألته، وقول عمر –رضي الله عنه-: "إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا" (3) معناه (4نتوسل بدعائه وشفاعته وسؤاله، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وشفاعته 4) (4) ليس المراد نقسم عليك به، أو ما يجري هذا المجرى، مما يفعل بعد موته، وفي مغيبته، كما يقول (5) بعض (6) الناس: أسألك بجاه فلان عندك، ويقولون: إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه وأوليائه (7) ، ويروون حديثاً موضوعاً "إذا سألتم الله فسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عريض" (8) ، فإنه لو كان هذا هو
التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه، -كما ذكر عمر رضي الله عنه-لفعلوا ذلك بعد موته، ولم يعدلوا عنه إلى العباس، فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه هو مما يفعل بالأحياء دون الأموات، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم، فإن الحي يطلب منه ذلك، والميت لا يطلب منه شيء لا دعاء ولا غيره. وكذلك حديث الأعمى (1) ، فإنه طلب (2) من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع فيه، وأن قوله: "إنا [كنا] (3) نتوسل إليك بنبينا" (4) ، فلفظ التوجه والتوسل في الحديث بمعنى واحد، ثم قال: "يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي بحاجتي ليقضيها، اللهم شفعه في" (5) ، فطلب من الله أن يشفع فيه
نبيه، وقوله: "يا محمد" هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب، كما يقول المصلي: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" والإنسان يفعل مثل هذا يخاطب من يتصوره في نفسه، وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب. فلفظ التوسل بالشخص فيه إجمال واشتراك، غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة: يراد به التسبب [به] (1) لكونه داعياً وشافعاً مثلاً، أو لكون (2) الداعي محباً له، مطيعاً لأمره مقتدياً به، فيكون التسبب إما بمحبة السائل له واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته، ويراد به الأقسام به والتوسل بذاته، فلا يكون التوسل لا شيء منه، ولا شيء من السائل، بل ذاته (3) ، أو مجرد الأقسام به على الله، فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه. ومن الأول حديث الثلاثة الذين –آووا إلى الغار، وهو في الصحيحين وغيرهما، فإن الصخرة انطبقت عليهم، فقالوا: "ليدع كل رجل منكم بأفضل عمله" (4) وذكر الحديث، فهؤلاء دعوا الله سبحانه (5) بصالح الأعمال، لأن
الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به [العبد] (1) إلى الله تعالى، ويتوجه به إليه ويسأله به، لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويزيدهم من فضله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} (2) ، وهؤلاء دعوه بعبادته، وفعل ما أمر به من العمل الصالح، وهذا كما قال المؤمنون: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} (3) إلى قولهِ: {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (4) . فسؤال الله والتوسل إليه بامتثال أمره واجتناب نهيه، وفعل ما يحبه من العبودية والطاعة هو (5) من جنس فعل ذلك، رجاء لرحمة الله، وخوفاً من عذابه، وسؤال الله بأسمائه وصفاته، ونحو ذلك يكون من باب التسبب. والمقصود هنا أنه إذا كان / السلف والأئمة قالوا في سؤاله بالمخلوق ما قد ذكرنا (6) ، [فكيف] (7) بسؤال (8) المخلوق الميت، سواء سأل أن يسأل الله، أو يسأل قضاء الحاجة، ونحو ذلك؟ مما يفعله بعض الناس إما عند قبر الميت، وإما عند غيبته، وصاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم حسم المادة، وسد الذريعة بلعنه من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وأن لا يصلى عندها –وإن كان (9)
لا يسأل إلا الله – وحذر أمته ذلك، فكيف إذا وقع نفس المحذور من الشرك وأسباب الشرك؟ فتبين (1) أن أحداً من السلف لم يفعل (2) ذلك (3) . قلت: وقد تقرر بما تقدم أن سؤال الميت والغائب والاستشفاع به إلى الله أنه هو دين المشركين من العرب ومن قبلهم، فإن (4) الله تعالى بعث رسله إلا به، وتقرر ذلك في آيات الشفاعة وما في معناها من الآيات وما فيها من سيد المرسلين: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً. (5 قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً5) (5) . قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدا} (6) . فتأمل ما في هذه الآيات، وما رتب سبحانه على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما وعد إليه، وبلغه عن الله من توحيده، بالوعيد بالنار والخلود فيها، والقرآن كله من أوله إلى آخره يقرر هذه الدعوة، ويرشد إليها، وينهى عن كل ما ينافيها من قول أو فعل أو اعتقاد، ويحذرهم نفسه وينذرهم بأسه.
وقد قال الله (1) تعالى في وصف القرآن المجيد: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ كِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} (2) *) ، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِير الْأُمُور} (3) ، وقد صح عنه (4) صلى الله عليه وسلم بالإسناد المتصل الصحيح أنه قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" (5) . قال ابن الأثير (6) وغيره في معناه: (أي: لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى (7) عليه السلام، فادعوا فيه الآلهية، إنما أنا عبد، فصفوني بذلك (8كما وصفني ربي8) (8) "فقولوا: عبد الله ورسوله"، فأبى المشركون أن يقبلوا ما أمرهم به (9) ، وأن (10) يتركوا ما نهاهم عنه، وناقضوه أعظم مناقضة،
وشاقوا (1الله ورسوله1) (1) أعظم مشاقة، (2 وأتوا بما هو أعظم من ذلك من الشرك الذي لا يغفره الله2) (2) . وذلك أن الشيطان أظهر لهم التوحيد والإخلاص الذي بعث الله به رسله في قالب التنقص للنبي صلى الله عليه وسلم، وأظهر لهم ما نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنه في قالب محبته وتعظيمه. وتأمل (3) ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وما نهى عنه تَعْلَمُ (4) يقيناً أن هؤلاء (5) المتنقصون الناقصون أفرطوا في تعظيمه بارتكاب ما نهى الله عنه (6) في كتابه، في مواضع (7) لا يمكن حصرها، من (8) دعوة غيره خصوصاً وعموماً، ثم أن هؤلاء فرَّطوا في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا (9) أخذوا بقوله/ وفعله، بل ولا رضوا بحكمه وأمره، ولا سلموا له، وهذا الذي تركوه هو الذي يحصل به تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، فيُعظَّم أمره ويقبل، ويُعظَّم نهيه ويترك، ويكون هو المتبع والمطاع، ويدعو إلى دينه الذي دعا إليه من إخلاص العبادة لله وحده، وينصره بنصرة ما بعث به من الحق، ويواليه بالمتابعة والاقتداء بهديه، ويعادي من خالفه بارتكاب ما نهى عنه.
وأنت ترى ما وقع اليوم وقبله من كثير الجهال، من الإفراط والتفريط، فقال (1) صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" (2) ، وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد، والترمذي (3) ، وابن ماجه بالأسانيد المتصلة عن ابن عباس. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (4) : (وهذا عام في جميع أنواع الغلو بالاعتقادات والأعمال، ثم إنه علله بما يقتضي مجانبة هدى من كان قبلنا، إبعاداً عن الوقوع فيما هلكوا به، وأن (5) المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك) انتهى.
قلت: وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم الأمة أعظم تحذير من الغلو وأسبابه الموصلة إلى الشرك بالله، فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من المحدثين في كتبهم (1) ، بأسانيد صحيحة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها "أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله" (2) وهذا يقتضي تحريم بناء المساجد على القبور. يحقق ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لعن من فعل ذلك. قال شيخ الإسلام (3) : (وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور، هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل الصالحين، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك، فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر (4) ، ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها، ويخشون ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجون في المساجد، فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها، (5 حتى نهى5) (5) عن الصلاة في المقبرة مطلقاً، / وإن لم يقصد المصلى بركة البقعة بصلاته، كما يقصد في صلاته بركة المساجد، كما
نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها، لأنها أوقات يقصد المشركون فيها الصلاة للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ، وإن لم يقصد ما قصده المشركون، سداً للذريعة. وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركاً بالصلاة في تلك البقعة، فهذا عين المحادة لله ورسوله (1) ، والمخالفة لدينه، وابتداع (2) دين لم يأذن الله به. فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصلاة عند القبور منهي عنها؛ وأنه لعن من اتخذها مساجد. فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك: الصلاة عندها واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك، والتغليظ فيه، وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها، متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة، وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك) . قلت: والأحاديث الصحيحة تدل على ذلك بلا ريب، كما في "الصحيحين"عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها"، فقال-وهو كذلك- "لعنة (3) الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما فعلوا" (4) .
ومن المعلوم أن اللعنة إنما تقع على من فعل ذلك الاتخاذ؛ لأنه من فعل اليهود والنصارى، فمن فعل فعلهم وقع به ما وقع بهم؛ لأنه من أعظم الذرائع الموصلة إلى الشرك، وهذا الذي لعن النبي صلى الله عليه وسلم (1 اليهود والنصارى1) (1) على فعله قد وقع من كثير من هذه الأمة بعد القرون المفضلة. قال القرطبي في معنى هذا الحديث: (وكل ذلك لقطع الذريعة (2) المؤدية إلى عبادة من فيها، كما كان السبب في عبادة الأصنام. قال: ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن يتخذ قبره قبلة، إذ كان مستقبل المصلين، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فنبوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره) . وفي "الصحيح" (3) عن ابن عباس رضي الله عنه (4) في قول (5) الله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعا} (6) الآية، قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا/ أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون عليها أنصاباً، وسموها بأسمائهم: ففعلوا ولم تُعْبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسخ (7) العلم عبدت" (8) .
وقال العلامة ابن القيم (1) رحمه الله تعالى: "وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور، ويلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أصحاب القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء به، والإقسام على الله به، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه (2) ، أو يسأل بأحد من خلقه. فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثناً تعلق عليه الستور والقناديل، ويطاف به، ويستلم ويقبل، ويحج إليه، ويذبح عنده، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه (3) عيداً ومنسكاً، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم. وكل هذا مما قد (4) علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم: من تجريد التوحيد، وأن لا يعبد إلا الله، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية، وحطهم عن منزلتهم، وزعم أن لا حرمة لهم ولا قدر، وغضب المشركون، واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (5) ، وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا
أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم، ونفروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك، وما كانوا أولياءه، إن أولياؤه إلا المتقون"انتهى. وقد تقدم وأعيد ليستحضر. قال شيخ الإسلام (1) رحمه الله تعالى (2) : (والذي يجري عند المشاهد من جنس ما يجري عند الأصنام، وقد ثبت في الطرق المتعددة أن ما يشرك به من دون الله من (3) صنم ووثن، أو قبر قد يكون عنده شياطين تضل من أشرك به، وأن تلك الشياطين [لا] (4) يقضون بعض أغراضهم، وإنما يقضونها إذا حصل منه الشرك والمعاصي، ومنهم من يأمر الداعي أن يسجد له؛ وقد/ ينهاه عما أمره (5) الله به من التوحيد والإخلاص والصلوات الخمس وقراءة القرآن، ونحو ذلك، وقد وقع في هذا النوع كثير من الشيوخ الذين لهم نصيب من الدين والزهاد والعبادة، ولعدم (6) علمهم بحقيقة الدين الذي بعث الله به رسله طمعت فيهم الشياطين، حتى أوقعوهم فيما يخالف الكتاب والسنة، وقد جرى لغير واحد من أصحابنا المشايخ يستغيث بأحدهم بعض أصحابه (7) ، فيرى (8) الشيخ جاء في اليقظة حتى قضى ذلك المطلوب، وإنما هي شياطين تتمثل للذين يدعون غير الله، فالكافر للكافر،
والفاجر للفاجر، والجاهل للجاهل) . وقال رحمه الله (1) : (وقد حدثني بعض الثقات عن هذا الشخص (2) –يعني ابن البكري الذي جوز في كتابه الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث بالله- إلى أنه كان يقول: النبي صلى الله عليه وسلم علم مفاتيح الغيب التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "خمس لا يعلمهن (3) إلا الله: إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت [إن الله عليم خبير] " (4) ، ذكر (5) عنه أنه قال: علمها بعد أن أخبره أنه لا
يعلمها إلا الله. وأخر من جنسه يباشر التدريس وينسب إلى الفتيا، كان يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر الله عليه، وأن هذا السر انتقل بعده إلى الحسن، ثم انتقل في ذرية الحسن إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي، وقالوا: هذا مقام القطب الغوث الفرد الجامع) . قلت: وهذا الذي ذكر (1) شيخ الإسلام هو مضمون أبيات البردة التي نصرها داود وأمثاله، ممن استحسن الشرك بالله، وأجاز أن يُدعى مع الله غيره، ويستغاث بغيره، ولا ريب أن المفتتن بهذه الفتن الشركية كثير في هذه الأزمنة وقبلها، فسلكوا سنن من كان قبلهم من المفتونين الذين نقلنا عن شيخ الإسلام رحمه الله (2) بعض ما جرى منهم، نعوذ بالله من فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال. فما أكثر من فتن في هذه الأزمنة وقبلها بمثل فتنة المسيح الدجال، بما غرتهم به الشياطين من الإنس والجن، الذين قال الله تعالى فيهم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ/ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ. وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُون} (3) . وقال رحمه الله تعالى (4) : (وما زال المشركون يسفهون الأنبياء، ويصفونهم بالجنون والضلال والسفاهة، كما قال قوم نوح لنوح، وعاد لهود عليهما
السلام: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَه} (1) فأعظم ما سفهوه لأجله، وأنكروه هو التوحيد، [وهكذا] (2) تجد من عليه شبه من هؤلاء إذا رأى من يدعو إلى توحيد الله، وإخلاص الدين لله (3) ، وأن لا يعبد الإنسان [إلا الله] (4) ولا يتوكل إلا عليه، استهزؤا بذلك، لما عندهم من الشرك، وأنهم (5) اعتقدوا أن دعاء الميت الذي بني له المشهد والاستغاثة به أنفع لهم من دعاء الله والاستغاثة به في البيت الذي نبي لله عز وجل، ففضلوا البيت الذي بني لدعاء الميت. وإذا كان لهذا وقف ولهذا وقف كان وقف الشرك أعظم عندهم منه (6) ، مضاهاة لمشركي العرب الذين ذكر الله حالهم في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (7) . وهكذا هذه النذور والوقوف التي تبذل عندهم للمشاهد أعظم مما تبذل عندهم للمساجد، ولعمَّار (8) المساجد، والجهاد في سبيل الله، وهؤلاء إذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه يبكي عنده ويخضع (9) ، ويدعو ويتضرع،
ويحصل له من الرقة والتواضع والتذلل والعبودية وحضور القلب ما لا يحصل مثله في الصلوات الخمس والجمعة وقيام الليل وقراءة القرآن، فهل هذا إلا من حال المشركين المبتدعين لا الموحدين المخلصين، المتبعين لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) . إلى أن قال رحمه الله تعالى (1) : (والذين يجعلون دعاء الموتى من الأنبياء والأئمة والشيوخ أفضل من دعاء الله؛ أنواع متعددة، منهم من تقدم. ومنهم من يحكي أنواعاً من الحكايات كحكاية (2) أن بعض المأسورين في بلاد العدو دعا الله فلم يخرجه؛ ودعا بعض المشايخ الموتى فأخرجه إلى بلاد الإسلام. ومن هؤلاء من إذا نزلت به شدة لا يدعو إلا شيخه، ولا يذكر إلا اسمه قد لهج به كما يلهج الصبي بذكر أمه. فإذا كان دعاء الموتى (3) مثل الأنبياء والصالحين يتضمن هذا/ الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، فأي الفريقين أحق بالاستهزاء بالله وآياته ورسوله (4) : من كان يأمر بدعاء الموتى والاستغاثة بهم مع ما يترتب على ذلك من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله (5) ، أو من (6) كان يأمر بدعاء الله وحده لا شريك له، كما أمر
بطاعته (1) ، ويوجب طاعة الرسول ومتابعته في كل ما جاء؟) . إلى أن قال: (وأما أولئك الضلال أشباه المشركين النصارى، فعمدتهم أحاديث (2) ضعيفة، أو موضوعة، أو منقولة (3) عمن لا يحتج بقوله، إما أن تكون كذباً عليه؛ وإما أن يكون غلطاً منه؛ إذ هي نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم، وإن عصموا بشيء مما ثبت عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (4) ، حرفوا الكلم عن مواضعه، وتمسكوا بمشابهه، وتركوا محكمه، كما يفعله (5) النصارى، وكما فعل هذا الضال أخذ لفظ الاستغاثة، وهي تنقسم إلى الاستغاثة بالحي والميت، والاستغاثة بالحي تكون فيما (6) يقدر عليه وما لا يقدر عليه، فجعل حكم ذلك (7) واحداً، ولم يكفه حتى جعل السؤال بالشخص من مسمى الاستغاثة (8)
أيضاً، ولم يكفه (1 ذلك حتى1) (1) جعل الطالب منه إنما يطلب (2) من الله لا منه، فالمستغيث به مستغيث بالله، ثم جعل الاستغاثة بكل ميت من نبي وصالح (3) جائزة. فدخل عليه الخطأ (4) من وجوه: منها: أنه جعل المتوسل به بعد موته في دعاء الله مستغيثاً به، وهذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم، لا حقيقة ولا مجازاً، مع دعواه الإجماع على ذلك، فإن (5) المستغاث هو المسئول المطلوب منه لا المسئول به. الثاني: ظنه أن توسل الصحابة [به] (6) في حياته كان توسلاً بذاته، لا بدعائه وشفاعته، فيكون التوسل به بعد موته كذلك، وهذا غلط. الثالث: أنه أدرج السؤال أيضاً في الاستغاثة به (7) ، وهذا صحيح جائز في حياته، وهو قد سوى (8) في ذلك بين محياه ومماته، وهذا أصاب في لفظ الاستغاثة، لكنه (9) أخطأ في التسوية بين المحيا والممات، وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، لكنه موجود في كلام بعض الناس، مثل (10) الشيخ
يحيى الصرصري، ففي شعره قطعة منه، والشيخ محمد بن النعمان له كتاب "المستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام" وهؤلاء ليسوا من العلماء العالمين بمدارك الأحكام، الذين (1) يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام، وليس/ لهم دليل شرعي، ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها، وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم ولهم فضل وعلم وزهد إذا نزل به أمر، خطا إلى الشيخ (2) عبد القادر خطوات معدودة، واستغاث به، وهذا يفعله كثير من الناس؛ ولهذا لما نبه من نبه (3) [من] (4) فضلائهم تنبهوا، وعلموا أن ما كانوا عليه ليس من دين الإسلام، بل مشابهة لعباد الأصنام) . قلت (5) : وهذه الطريقة التي سلكها هذا، هي طريقة أهل البدع –كداود بن جرجيس – الذين يجمعون بين الجهل والظلم، فيبتدعون بدعة (6) مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الصحابة، ويكفرون من خالفهم من بدعتهم، كالخوارج المارقين، لكن الخوارج كفروا الصحابة بالذنوب، وهؤلاء كفروا أهل الإسلام بالإخلاص والتجريد، كما قال العلامة ابن القيم (7-رحمه الله-7) (7) في الخوارج: ولهم نصوص قصروا في فهمها ... فأُتوا من التقصير في العرفان
وخصومنا قد كفرونا بالذي ... هو غاية التوحيد والإيمان (1) إلى أن قال: (وهو قد احتج بحديث الأعمى الذي قال: "اللهم أني أتوجه إليك بنبينا (2) محمد نبي الرحمة" (3) ، وهذا الحديث لا حجة فيه لوجهين: أحدهما: أنه ليس استغاثة، بل توجهاً به. الثاني: أنه إنما توجه بدعائه وشفاعته، فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء، وقال في آخر دعائه "اللهم فشفعه في"، فعلم أنه شفع له، فتوسل بشفاعته لا بذاته، كما كان الصحابة يتوسلون بدعائه في الاستسقاء، وكما توسلوا بدعاء العباس بعد مماته، وكذلك في أول الحديث أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له. فدل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له (4) ودعا له، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأن (5) يدعو الله، وأن يسأله (6) قبول شفاعته النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: "يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجاتي هذه لتقضي" (7) خطاب لحاضر (8) في قلبه، كما نقول في صلاتنا؛ "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، وكما يستحضر الإنسان في قلبه من يحبه أويبغضه ويخاطبه، وهذا كثير.
وما ذكره (1) من توسل آدم، وحكاية المنصور، فجوابهما (2) من وجهين: أحدهما: أن هذا لا أصل له، ولا تقوم به حجة، ولا إسناد لذلك (3) . الثاني: لو دل على التوسل بذاته فلا يدل على الاستغاثة. وأما اشتكاء البعير [إليه] (4) ، فهذا كاشتكاء الآدمي إليه، وقد قلنا إنه إذا طلب منه مما يليق بمنصبه فهذا لا نزاع فيه، والاستغاثة به في حياته فيما يقدر عليه لا ينازع (5) فيها أحد، ولكن هذا أخذ لفظ الاستغاثة ومعناها العام، فجعل
يتشبث به (1) ، / ولكن النهي (2) عاد (3) إلى شيئين: إلى الاستغاثة به بعد الموت، وإلى أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى. وأما قول (4) هؤلاء الجهال: فيستلزم الردة عن الدين، والكفر برب العالمين، ولا ريب أن أصل قول هؤلاء هو من باب الإشراك بالله، الذي هو الكفر، الذي لا يغفره الله؛ فإن الله سبحانه يقول في كتابه: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً. وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} (5) . وقد قال غير واحد من السلف: إن هذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم (6) ، وقد ذكروا ذلك بعبارات متقاربة في كتب الحديث والتفسير، وقصص الأنبياء، كما ذكره البخاري في صحيحه وجماعة من أهل الحديث، وقد تقدم (7) في كلام شيخ الإسلام أيضاً، فأعدناه لعظيم فائدته. (وقد أمر الله نبيه أن يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (8) ، فيقول أهل الضلال: هذا يقوله في نفسه، وأما نحن فليس لنا أن
نقول هو بشر، بل نقول كما قال فلان وفلان، ومن زعم أن محمداً بشر كله فقد كفر، وهذا يقوله طائفة منهم، وهو يشبه قول النصارى في المسيح، ونحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأحد أن يدعو أحداً من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين، ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت (1) ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن هذه الأمور كلها، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ما جاء به الرسول مما يخالفها) (2) . إلى أن قال (3) رحمه الله تعالى: (وهؤلاء يدعون الميت أو الغائب (4) ، يقول أحدهم: بك أستغيث، بك أستجير، أغثنا، أجرنا، ويقول: أنت تعلم ذنوبي، ومنهم من يقول للميت: اغفر لي وارحمني وتب علي، ونحو ذلك، ومن لم يقل ذلك من عقلائهم فإنه يقول: أشكو إليك عدوي، أشكو إليك ظهور البدع أو جدب الناس، أو غير ذلك (5) ، فيشكو إليه ما حصل من ضرر/ في الدين والدنيا، ومقصوده بالشكوى أن يشكيه، فيزيل ذلك الضرر، وقد يقول مع ذلك للميت: أنت تعلم ما فعلته من الذنوب، فيجعل الميت، أو الحي، أو الغائب عالماً بذنوب العباد وجزئياتهم التي يمتنع أن يعلمها بشر، حي أو
ميت، ثم منهم من يطلق سؤاله إليه والشكوى ظاناً أنه يقضي حاجته، كما يخاطب ربه بناء على أنه يمكن ذلك بطريق من الطرق، وأنه وسيلة وسبب، وإن كان السائل لا يعلم وجود ذلك. وعقلاؤهم يقولون: مقصودها أن يسأل الله لنا، ويشفع لنا، ويظنون أنهم إذا سألوه بعد موته أن يسأل الله لهم، فإنه يسأل ويشفع، كما يسأل ويشفع (1) ، وكما تسأله الصحابة الاستسقاء وغيره، وكما يشفع يوم القيامة إذا سئل الشفاعة، ولا يعلمون أن سؤال الميت والغائب غير مشروع البتة، ولم يفعله أحد من الصحابة، بل عدلوا عن سؤاله وطلب الدعاء منه إلى سؤال غيره وطلب الدعاء منه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم (2) وسائر الأنبياء والصالحين وغيرهم لا يطلب (3) من أحدهم بعد موته من الأمور ما كان يطلب منه في حياته والله أعلم) انتهى كلام الشيخ رحمه الله تعالى (4) . وقال الحافظ محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحافظ (5) رحمه الله تعالى: (ومن جعل زيارة الميت من جنس زيارة الفقير للغني، لينال من بره وإحسانه، فقد أتى بما هو من أعظم الباطل المتضمن لقلب الحقيقة والشريعة، ولو كان ذلك مقصود الزيارة لشرع [من] (6) دعاء الميت، والتضرع
إليه، وسؤاله ما يناسب هذا المطلوب، ولكن هذا يناقض ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوحيد، وتجريده مناقضة ظاهرة، ولا ينبغي الاقتصار على ذلك بأنه بدعة، بل فتح لباب الشرك، وتوسل (1) بأقرب وسيلة إلى الشرك". قلت: ولا ريب أن هذا الذي ذكره هذا الإمام مطابق لحال داود، فإنه قلب الحقائق، وفتح باب الشرك والأكبر. ثم قال الحافظ-رحمه الله - (2) : (وهذا أصل عبادة الأصنام كما قال ابن عباس –رضي الله عنهما – في قوله تعالى (3) : {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً (4) وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (5) قال هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح؛ فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، فلما طال عليهم الأمد عبدوهم (6) ، فهؤلاء لما قصدوا الانتفاع بالموتى قادهم ذلك إلى عبادة الأصنام. يوضحه: أن الذين تكلموا في زيارة الموتى من أهل الشرك صرحوا بأن القصد انتفاع الزائر بالمزور، وقالوا: من /تمام الزيارة أن يعلق همته وروحه بالميت وقبره، فإذا فاض على روح (7) الميت من العلويات الأنوار فاض منها على روح الزائر بواسطة ذلك التعلق والتوجه إلى الميت، كما ينعكس النور
على الجسم المقابل للجسم الشفاف (1) ، بواسطة مقابلته-وهذا من زخرف ابن سينا لعنه الله، فما أعظم هذا من فرية وضلال وإلحاد ومحال –وهذا المعنى بعينه ذكره عباد الأصنام في زيارة القبور، وتلقاه عنهم من تلقاه ممن لم يحط علماً بالشرك وأسبابه ووسائله. ومن هنا يظهر نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تعظيم القبور، واتخاذ المساجد عليها، ولعنه فاعل ذلك، وإخباره بشدة غضب الله (2) ، ونهيه عن الصلاة إليها، ونهيه عن اتخاذ قبره عيداً، وسؤاله ربه أن لا يجعل قبره وثناً يعبد، فهذا نهيه عن تعظيم القبور، وذلك تعليمه وإرشاده (3) للزائر أن يقصد نفع الميت والدعاء له والإحسان إليه، لا الدعاء به ولا الدعاء عنده) انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وهذا الذي ذكره عن المشركين هو قول ابن سينا تلقاه عنه (4) من تلقاه، وكلام العلماء في ذلك أكثر مما ذكرنا عن بعضهم بأضعاف. وما ذكرنا هنا ففيه (5) ما يكفي المستفيد الذي قصده تمييز الحق من الباطل، وأما من قصده الشقاق والعناد فلا حيلة فيه. واعلم أن هذا المعترض لو نوقش على جميع ما يقع في كلامه من الدعاوي والخلل لطال الجواب، ولكن التنبيه على بعض ذلك كاف لمن له أدنى فهم، أو عنده أدنى علم.
قال العلامة ابن القيم (1) رحمه الله تعالى (2) في "الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية" (3) : يا من له عقل ونور قد غدا ... يمشي به في الناس كل زمان لكننا قلنا مقالة صارخ ... في كل وقت بينكم بأذان الرب رب، والرسول فعبده ... حقا. وليس لنا إله ثان (4) فلذاك لم نعبده مثل عبادة الر ... حمن، فعل المشرك النصراني كلا ولم نغلُ الغلو كما نهى ... عنه الرسول مخافة الكفران لله حق لا يكون لغيره ... ولعبده حق، هما حقان لا تجعلوا الحقين حقاً واحداً ... من غير تمييز ولا فرقان /فالحج للرحمن دون رسوله ... وكذا الصلاة وذبح ذا القربان وكذا، السجود، ونذرنا، ويميننا ... وكذا متاب العبد من عصيان (5) وكذا التوكل والإنابة والتقى ... وكذا الرجاء، وخشية الرحمن وكذا العبادة واستغاثتنا به ... إياك نعبد، ذان توحيدان وعليهما قام الوجود بأسره ... دنيا وأخرى حبذا الركنان وكذلك (6) التسبيح والتكبير والتـ ... ـهليل حق إلهنا الديان لكنما التعزير والتوقير ... حق للرسول بمقتضى القرآن
والحب والتصديق والإيمان لا ... يختص؛ بل حقان مشتركان هذي تفاصيل الحقوق ثلاثة ... لا تجملوها يا أولي العدوان حق الإله: عبادة بالأمر، لا ... بهوى (1) النفوس، فذاك للشيطان من غير إشراك به شيئاً هما ... سبب النجاة؛ فحبذا السببان ورسوله فهو المطاع، وقوله الـ ... مقبول، إذا هو صاحب البرهان والأمر منه الحتم لا تخيير فـ ... ـيه عند ذي عقل وذي إيمان فهو المطاع وأمره العالي على ... أمر الورى وأوامر (2) السلطان وهو المقدم في محبتنا على ... الأهلين والأزواج والولدان وعلى العباد جميعهم، حتى على ... النفس التي قد ضمها الجنبان ونظير هذا قول أعداء المسيح ... من النصارى عابدي الصلبان أنا تنقصنا المسيح بقولنا ... عبد، وذلك (3) غاية النقصان لو قلتموا: ولد إله خالق ... وفيتموه حقه. بوزان وكذاك أشباه النصارى من (4) غـ ... ـلوا في دينهم بالجهل والطغيان صاروا مُعادين الرسول ودينه ... في صورة الأحباب والإخوان وانظر إلى تبديلهم توحيده ... بالشرك والتوحيد (5) بالكفران وانظر إلى تجريده التوحيد من ... أسباب كل الشرك بالرحمن واجمع مقالتهم وما قد قاله ... واستدع بالنقاد والوزان
عقل (1) وفطرتك السليمة ثم زن ... هذا وذا (2) لا تطغ في الميزان /فهناك تعلم أي حزبينا هو الـ ... متنقص (3) المنقوص ذو العدوان (4) رامي البرىء بدائه ومصابه ... فعل المباهت أوقح الحيوان كمعير للناس (5) بالزَّغل الذي ... هو ضربه، فاعجب لذا البهتان والله ما قال الشيوخ وقال ألا ... كنتمو معهم بلا كتمان والله أغلاط الشيوخ لديكم ... عين الصواب ومقتضى البرهان تباً لكم ماذا التنقص بعد ذا؟ ... لو تعرفون العدل بالنقصان والله ما يرضيه جعلكم له ... تُرساً لشرككم وللعدوان وكذاك جعلكم المشايخ جنة ... لخلافه والعقصد ذو تبيان والله ما عظمتوه طاعة ... ومحبة يا فرقة العصيان أني؟ وجهلكم به وبدينه ... وخلافكم للوحي: معلومان [والله أمركم عجيب معجب ... ضدان فيكم ليس يتفقان] (6) تقديم (7) آراء الرجال عليه مع ... هذا الغلو، فيكف يجتمعان؟
كفرتم من جرد التوحيد ... جهلاً منكم بحقائق الإيمان لكنكم تجردتم لنصر الشرك والـ ... ـبدع المضلة في رضى الشيطان والله لو يُرضى الرسول دعاءنا ... إياه بادرنا إلى الإذعان (والله لو يرضى الرسول دعاءنا ... كنا نخر له على الأذقان) (1) والله ما يرضيه منا غير إخـ ... ـلاص وتحكيم لذا القرآن ولقي نهى ذا الخلق عن إطرائه ... فعل النصارى عابدي الصلبان ولقد نهانا (2) أن نصيّر قبره ... عيداً حذار الشرك بالرحمن ودعا بأن لا يجعل القبر الذي ... قد ضمنه وثناً من الأوثان فأجاب رب الرحمن دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران حتى اغتدت أرجاؤه بدعائه ... باللعن يصرخ فيهم بأذان ولقد غدا عند الوفاة مصرحاً ... في عزة وحماية وصيان وعنى (3) الأولى جعلوا القبور مساجداً ... وهم اليهود وعابدوا الصلبان والله لولا ذاك أبرز قبره ... لكنهم حجبوه بالحيطان قصدوا إلى تسنيم حجرته ... ليمتنع السجود له على الأذقان /قصدوا موافقة الرسول وقصده ... التجريد للتوحيد للرحمن يا فرقة جهلت نصوص نبيهم ... وقصوده وحقيقة الإيمان فسطوا على أتباعه وجنوده ... بالبغي والعدوان والبهتان لا تعجلوا وتبينوا وتثبتوا ... فمصابكم ما فيه من جبران قلنا الذي قال الأئمة قبلنا ... وبه النصوص أتت على التبيان
القصد حج البيت وهو فريضة الر ... حمن واجبة على الأعيان ورحالنا شدت إليه من بقا ... ع الأرض قاضيها كذاك (1) الدان من لم يزر بيت الآله فما له ... من حجة سهم ولا سهمان وكذا نشد (2) رحالنا للمسجد ... النبوي خير مساجد البلدان من بعد مكة أو على ألا ... طلاق؛ فيه الخلف منذ زمان وصلاتنا في بألف في سواه ... ما خلا ذا الحجر والأركان وكذا صلاة في قبا فكعمرة ... في أجرها والفضل للمنان ثم ذكر –رحمه الله (3) – الزيارة الشرعية التي (4) تقدمت في كلام شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية –رضي الله عنهما (5) وأرضاهما- والله سبحانه وتعالى أعلم. فإذا تأمل الناصح لنفسه الطالب لتمييز (6) الحق من الباطل، وعرف ذلك مما تقدم من الآيات المحكمات، وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما قرره العلماء المحققون، في بيان توحيد العبادة، وما ينافيه من الشرك بالله، فليعلم أن هذا المجادل المماحل أتى فيما كتبه (7) وأتعب نفسه فيه، ضروباً (8) من لبس الحق بالباطل، وإيقاع المغرورين في الشرك الأكبر الذي يطلبه وهو يحاوله
قال (1) بعض السلف في قوله تعال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه} (2) قال: السبل: البدع والشبهات ذكره مجاهد وغيره، وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورا} (3) . وليعلم أن هذا العراقي سود الأوراق، بأمور حاول بها (4) الصدف عن الدين/ الذي بعث الله به الأنبياء والمرسلين، وثبت وتقرر في كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد: من الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة ما سواه وضرب الأمثال في ذلك. فاشتمل ما سوده في معارضته (5) للحق على أمور: منها: أنه أكثر (6) السباب، والكذب والافتراء على المسلمين من أهل نجد، ونسب إليهم أموراً كثيرة؛ قد اختلقها هو وأمثاله تنفيراً منهم (7) للجهال عما كانوا يدعون إليه من توحيد تعالى، وإخلاص العبادة له. وتأييداً لما انتحله هو وغيره من الأمور الشركية التي أظهر الدعوة إليها في تسويده، وأتى فيها بضروب من المحال، وقلب المعاني، وصرف اللفظ عن
مدلوله الذي وضع له، وهذا [هو] (1) الأمر الثاني. فإن ساعد القدر تتبعت ما افتراه بالنقض والأبطال. ومنها: أنه ينقل عن بعض العلماء، وينسب إليهم نقيض ما كانوا يعتقدونه، فيكثر الكذب عليهم، وينسبهم إلى خلاف ما هم عليه من الحق الذي قرروه في كتبهم، وأعلنوا به على رؤوس الأشهاد. [الأمر] (2) الرابع: أنه ينقل أموراً عن بعض من يجوز عليه الخطأ من أهل العلم، لم يثبت عنهم ما نسبه إليهم، فلو قدر ثبوته فليسوا ممن تقوم بأقوالهم الحجة، وعلى كل حال فلا حجة فيه، لمصادمته الوحيين، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ما من أحد إلا ويؤخذ (3) من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى (4) : (عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله (5) يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} (6) أتدري: ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك) . فإذا كان هذا في حق سفيان الثوري، وهو من أئمة المسلمين ومن أتباع التابعين، فأقوال من بعده ممن لا يشق غباره، أولى بأن يؤخذ بقوله (7) ، ويترك
فما وافق أدلة الكتاب والسنة أخذ وقبل، وما خالف الكتاب والسنة رد على قائله. ولا خلاف بين العلماء من المجتهدين/ أن القياس –وهو من الأدلة عند جمهور العلماء- إذا خالف نصّاً، أو ظاهراً من كتاب أو سنة، ترك وفسد اعتباره، فكيف ما خالف جميع أدلة الكتاب والسنة في الأصل الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وخالف الفطر (1) السليمة، والعقول الصحيحة، من تسوية المخلوق بالخالق، والمربوب بالرب، والإله بالمألوه، والعابد بالمعبود؟ فإنها مصيبة ما أعظمها، فإنا لله وإنا راجعون. وخالف صريح الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؛ كما تقدم من الآيات المحكمات (2) . والأمر الخامس: أنه يأتي ببعض أحاديث لا يعرف لها صحة؛ ولبست في دواوين أهل الإسلام، ولم يذكر له سند (3) حتى يكشف عنه، ويحتمل أن تكون مما وضعه الواضعون، وقد صنف العلماء كتباً في الموضوعات. وعلى كل حال فما ناقض أدلة الكتاب والسنة، فلا يجوز الأخذ به، بل يجب تركه وعدم الالتفات إليه. ولا خلاف بين العلماء أن المتشابه يرد إلى المحكم، وإن كان صحيحاً، فكيف إذا كان ضعيفاً أو موضوعاً، فلا يجوز الاحتجاج به في معارضة ما ثبت
به الكتاب (1) والسنة. ومن أصول أهل العلم التي لا يمكن أحد أن ينازع فيها: أنه إذا تعارض دليلان، وصار أحدهما أصح من الآخر أخذ بالصحيح وترك ما دونه، كما إذا تعارض الصحيح والحسن فكيف إذا عارض الصحيح، الضعيف، والمنقطع، أو الموضوع، أو المعضل (2) ، أو الحكايات المكذوبة، والهفوات المنسوبةإلى من لا تقوم بقوله حُجة؟ فيتعين (3) الأخذ بالصحيح عند جميع العلماء. وهذا الذي يورده هذا المماحل قد عارض القرآن كله من أوله إلى آخره، وعارض ما في الصحاح والسنن والمسانيد: من تقرير الإخلاص والتوحيد، وإبطال الوسائل والوسائط (4) بين رب العالمين وعباده، فإنه تعالى أرشدهم إلى أعظم ما يتوسلون به إليه في رغبتهم ورهبتهم، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (5) ، وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَب} (6) ، فأخبر أن الملائكة والأنبياء والصالحين الذين يدعوهم من يدعوهم إنما كانت وسيلتهم إلى الله في طلب (7) قربهم منه ورجاءه وخوفه إنما هو بالإخلاص/ له (8) والتوحيد، كما قرره أئمة التفسير من السلف
والخلف، وهو أصل الدين: أن لا يُعْبَد إلا الله، بأي نوع (1) من أنواع العبادة، ولا يعبد (2) الله إلا بما شرع؛ لا بالأهواء والشبهات والخيالات والباطلة، التي تعب فيها من تعب ممن خرج عن الصراط المستقيم. وهذا العراقي إنما ساق [هذه] (3) الأمور التي أكثر فيها الكذب، وقلب الحقائق، ليتوصل بها إلى أن يُعْبد مع الله غيره، من ميت أو غائب، لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع الداعي، ولا يستجيب، غافلاً عمن دعاه ورغب إليه ورجاه، نعوذ بالله من زيغ القلوب وعقوبات الذنوب. وقد أرشدنا الله تعالى في كتابه إلى ما يجب علينا من حق نبيه صلى الله عليه وسلم، من محبته واتباعه، وتعظيم أمره ونهيه، والصلاة عليه في نفس الصلاة، وبعد الأذان، وعند ذكره، وأن نسأل (4) له الوسيلة والفضيلة التي لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وإكثار الصلاة عليه والتسليم عند كل حديث يرفع إليه، فهذه هي أسباب حصول شفاعته يوم القيامة صلوات الله وسلامه عليه، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه، والتابعين (5) ، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين. فلا تتعب ذهنك بهذيان الملحدين، فإنها عند من عرفها من وسواس الشياطين، وخيالات (6) المبطلين؛ وإذا طلع فجر الهدى، وأشرقت أنوار النبوة
فعساكر تلك الخيالات والوساوس في أول المنهزمين؛ والله متم نوره ولو كره الكافرون. وبهذه الأمور التي ذكرناها عنه ينسخ العلم؛ ويغلب الجهل، كما ذكره (1) البخاري في صحيحه عن قوم نوح (2) ، أنهم لما صوروا صور الصالحين بما أوحاه الشيطان إليهم من قولهم (3) : "لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة. قال: فلما هلك أولئك، ونسخ العلم عبدت" (4) فما أشبه الليلة بالبارحة، فلو تتبعنا ما في القرآن من أوله إلى آخره من الأمر بإخلاص الدعاء لله وحده، والنهي عن دعاء غيره الذي هو مخ العبادة، لاحتمل عدة أوراق كثيرة، ولو تكلمنا على الآيات بتفسير السلف لها والأئمة، لاحتمل مجلداً ضخماً. فسبحان من طبع على قلوب أعدائه بحكمته وعدله (5) ، وهدى إلى دينه- الذي خلق الخلق/ لأجله –من شاء من عباده برحمته وفضله. وقد تقدم من (6) الآيات المحكمات، والأحاديث الصحيحة ما يبين الحق، ويبين ما ينافيه من الباطل، ولكنه كما قال القائل: لقد أسمعت (7) لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي فلو ناراً (8) نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت (9) تنفخ في رماد
ونذكر طرفاً من كلام العلماء بأن مدلول الدعاء هو السؤال والطلب. قال الحافظ ابن حجر –رحمه الله تعالى-في شرح البخاري، في أول كتاب الدعوات (1) من الصحيح: (الدعوات بفتح المهملتين، جمع دعوة بفتح أوله، وهي المسألة الواحدة، والدعاء والطلب (2) ، والدعاء إلى الشيء الحث إلى (3) فعله، دعوت (4) فلاناً سألته، ويطلق أيضاً (5) على العبادة. ويطلق الدعاء على التسمية، كقوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} (6) . وقال الشيخ أبو القاسم القشيري في شرح الأسماء الحسنى ما ملخصه: منها العبادة: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّك} (7) . ومنها الاستغاثة: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم} (8) . ومنها السؤال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} (9) .
ومنها: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُم} (1) . ومنها النداء: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} (2) . ومنها: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَن} (3) . قوله وقول الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} وهذه الآية ظاهرة على ترجيح الدعاء على التفويض. وقال طائفة: الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء. وأجاب الجمهور: على أن الدعاء من أعظم العبادة، فهو كما في الحديث "الحج عرفة" (4) ، أي: معظمه وركنه الأكبر، ويؤيده: ما أخرجه الترمذي من حديث أنس رفعه: "الدعاء مخ العبادة" (5) .
وقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالترغيب في الدعاء، والحث عليه، كحديث أبي هريرة (1) رفعه: "ليس (2) شيء أكرم على الله من الدعاء" (3) أخرجه الترمذي، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، والحاكم، وحديث: "من لم يسأل الله يغضب عليه" (4) أخرجه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وابن ماجه، والبزار، كلهم من رواية أبي صالح الخوزي (5)) انتهى. وقال (6) شيخ الإسلام ابن تيمية (7) : (ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام والانقياد، ويتضمن من قوله تعالى (8) : {ضَرَبَ اللَّهُ/ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً
لِرَجُلٍ} (1) فلابد في الإسلام من الاستسلام لله وحده، وترك الاستسلام لما سواه، وهذا حقيقة قولنا: "لا إله إلا الله" فمن استسلم لله ولغيره، فهو مشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، ومن لم يستسلم فهو مستكبر (2) عن عبادته، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين} (3) . إلى أن قال (4) : (ولم يشرع الله لنبي من الأنبياء أن يعبد غير الله البتة. قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه} (5) (6فأمر الرسل أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه6) (6) . وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون} (7) ، فأهل الإشراك متفرقون، وأهل الإخلاص متفرقون، [وقد] (8) قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (9) فأهل الرحمة متفقون مجتمعون، والمشركون فرقوا
دينهم وكانوا شيعاً؛ ولهذا تجد ما أحدث من الشرك والبدع بتفرق أهله) . إلى أن قال (1) : (وأهل التوحيد يعبدون الله في بيوته التي أذن (2) أن ترفع ويذكر فيها اسمه، مع أنه قد (3) جعلت له الأرض مسجداً وطهوراً، والله عز وجل هو معبودهم، إياه يعبدون، وعليه يتوكلون، وله يخشون (4) ويرجون، وبه يستغيثون ويستعينون، وله يدعون ويسألون، فإن خرجوا إلى المساجد كانوا مبتغين فيها (5) فضلاً من الله (6) ورضواناً، كما قال تعالى في نعتهم: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانا} (7) ، وكذلك إذا سافروا إلى المساجد الثلاثة، لاسيما المسجد الحرام الذي أمروا بالحج إليه، فهم يؤمون بيته يبتغون (8) فضلاً من ربهم (9) ورضواناً، لا يرغبون إلى غيره، ولا يرجون سواه ولا يخافون إلا إياه. وقد زين الشيطان لكثير من الناس سوء عملهم (10) ، واستزلهم (11) عن (12)
إخلاص الدين لله؛ إلى نوع من الشرك (1) ، فيقصدون بالسفر والزيارة رجاء غير الله (2) والرغبة إليه، ويشدون الرحال/ إلى قبر (3) نبي، أو صاحب، أو صالح (4) ، داعين له راغبين إليه، ومنهم من يظن أن المقصود من الحج هو هذا، فلا يستشعر إلا قصد المخلوق المقبور، ومنهم من يرى أن ذلك أنفع له من الحج إلى البيت، ومن جهالهم من يتوهم أن زيارة القبر واجبة، ومنهم من يسأل المقبور الميت كما يسأل الحي الذي لا يموت. يقول: يا سيدي فلان اغفر لي، وارحمني، وتب عليَّ، وانصرني على فلان، وأنا في حسبك أو جوارك. وقد ينذرون أولادهم للقبور، ويسيبون لهم السوايب من البقر وغيرها، كما كان المشركون يسيبون لطواغيتهم. قال الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُون} (5) .انتهى. فإذا جوز هؤلاء-كالعراقي وأمثاله-الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، (6 وخالفوا نهيه الصريح الصحيح 6) (6) ، وخالفوا ما كان عليه الخلفاء الراشدون والسابقون الأولون، فليعلم أن في ذلك من المفاسد العظيمة، وفتح باب (7)
الشرك من كل أحد، ومع كل أحد (1) ، كما هو الواقع الموجود، فصاروا لا يفرقون بين الصالح والطالح في اعتقاد الربوبية والإلهية (2) ، كما كان (3) يفعله (4) بعض الناس بمصر والشام والعراق، مع ما كانوا يعبدونه من دون الله، كفعل أهل مصر مع أحمد البدوي ونحوه، وقد صح عنه أنه لا يصلي، ويبول في المسجد، ولا يتطهر، ذكر ذلك السخاوي عن أبي حيان مشاهدة منه لذلك، وقد افتتن أهل مصر به وبأمثاله من الأموات، فاعتقدوا فيه أن يفك الأسير إذا دعاه، وهو في أيدي الكفار، وينجي من أشفى على الغرق في البحار، ويطفئ الحريف إذا أضطرمت فيه النار، وينادونه من مكان بعيد، وهم لا يعتقدون أن حيّاً من الفضلاء فيهم يسمع ويبصر، [يسمع من] (5) ينادونه (6) من فرسخ فأقل، فصار هذا الميت المدفون في قعر (7) الأرض الذي تقطعت أوصاله، وصار (8) في اعتقادهم أنه يسمع مناديه من البحور، ومن هو عنه بمسافة شهور، كما كان أهل العراق يعتقدون ذلك في عبد القادر وغيره. وهل هذا إلا لاعتقادهم أنه يعلم الغيب، ويضر وينفع، ويقدر على ما لا يقدر عليه إلا الله (9 وقد كانوا 9) (9) يفعلون في مولد البدوي من عظائم الشرك
والفساد/ما يطول تعداده؛ أنه (1) يتحمل عن الزناة واللوطية في مولده ذنوبهم، بمعنى أنه يكفرها عنهم (2 وقد كان2) (2) بعضهم يسجد على باب حضرته. (3 وقد كان3) (3) بعض المؤذنين بالقاهرة إذا فرغ من الأذان ينادي بأعلى صوته قائلا: يا أبو (4) فراج، يعنون بهذه الكنية أن يفرج الكربات، ولا يخفى ما بين القاهرة وقبره من البعد، فإنه كان (5) في قرية في غربي مصر اسمها طنطا، وهذا وأمثاله تفرع عن [دعوى] (6) من جوز (7) أنه يستغاث بنبي أو صالح. ومن ذلك ما يفعله (8) أهل الشام عند قبر (9) ابن عربي الاتحادي صاحب الفصوص (10) الذي يقول في فصوصه: (وكنت امرءا من جند إبليس فارتمى ... بي الدهر حتى صار (11) إبليس من جندي) وهو إمام الاتحادية، فيعتقد (12) فيه بعض أهل الشام مثل ما كان (13)
يعتقده أهل مصر في أحمد البدوي على مثل ما ذكرناه عنهم. وكذلك ما كان (1) يفعله أهل العراق، والمغرب، والسواحل، من البناء على قبر عبد القادر الجيلاني، وبناء المشاهد لعبادة عبد القادر، كالمشهد الذي في أقصى المغرب، وينادونه من (2) مسافة أشهر؛ بل سنة لتفريج كرباتهم، وإغاثة لهفاتهم، ويعتقدون أنه من تلك المسافة يسمع داعيه، ويجيب مناديه. يقول قائلهم: إنه يسمع ومع سماعه ينفع، وهو لما كان حياً يسمع ويبصر، لم يعتقد أحد فيه أنه يسمع من ناداه من وراء جدار، ثم بعد موته صار منهم ما صار، وهل هذا (3) إلا لاعتقادهم أنه يعلم الغيب، ويقدر على ما لا يقدر عليه إلا الله؟ فلو جاز في حق عبد القادر لجاز في حق من هو أفضل منه بإضعاف، من الخلفاء الراشدين، والسابقين والأولين، (6 والأئمة المهتدين (4) أن يدعي من تلك المسافة، ويستجيب، لكن الله تعالى (5) صان أولياءه6) (6) ، وخيار أهل الإيمان أن يفعل معه مثل هذا، فأين هذا من اعتقاد من اعتقد في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الإلهية، فخدَّ لهم الأخاديد، وألقى فيها من الحطب، وأضرم فيها النار فقذفهم فيها (7) .
قال (1) ابن عباس: "إنهم يقتلون بالسيف"، وفعله أمير المؤمنين لشدة غيرته على التوحيد، وشدة إنكاره للشرك والتنديد. وهذا الذي يفعله هؤلاء مع من (2) ذكرنا إنما هو من تأله القلوب بهم، وشدة اعتقادهم فيهم، وصرف خصائص الربوبية والإلهية لهم. وعبد القادر –رحمه الله –لا شك أنه (3) له فضل ودين، وهو/حنبلي المذهب، وأكثر أصحاب الإمام أحمد أفضل منه في العلم، وكذلك الإمام أحمد، ومن في طبقته من أئمة المحدثين والفقهاء أفضل من عبد القادر بالاتفاق، فلو جازت هذه الأمور في حق عبد القادر لجاز أن تفعل في [حق] (4) أحد من هؤلاء، بل وفي حق من هو أفضل من الكل، كأعيان التابعين ومن قبلهم من (5) الصحابة كالخلفاء الراشدين. وعبد القادر من سائر أهل مذهبه، وله كتاب "الغنية" في مذهب أحمد، وله زهد وعبادة، وليس أفضل من الفضيل (6) بن عياض، وبشر الحافي والجنيد، بل أهل العلم يعلمون أن هؤلاء أفضل منه، فهو فاضل بالنسبة إلى من دونه، مفضول بالنسبة إلى من ذكرنا من الأئمة قبله، وإن كان يذكر له كرامات الله أعلم بصحة ذلك، وما آفة الأخبار إلا رواتها، فإن صح منها شيء فكرامات الصحابة أعظم، كما وقع لعمر وعلي وغيرهما، فلم يعبدوا لأجل ما وقع لهم من الكرامات.
والكرامة فعل الله تعالى، وليست فعلاً لمن وقعت له، ومن أحين مناقب عبد القادر أن إبليس تراءى له في غمامة فقال: أنا ربك وقد أبحت لك المحارم، فقال له (1) : اخسأ أنت إبليس، إن الله لا يأمر بالفحشاء، أو قال (2) : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن} (3) فرحم الله عبد القادر، فلقد كان لا يرضى بما (4 قد كانوا 4) (4) يفعلونه معه، ولا بمثل قطرة منه. وأعظم المحارم التي ينكرها ما كان يفعل اليوم وقبله عند ضريحه من الشرك الذي لا يغفره الله، فإنه أعظم ذنب عصى الله (5) به، لا يرتاب في هذا مؤمن (6) . وهذا الذي ذكرناه على سبيل التمثيل، وإلا فبناء المساجد، والمشاهد على القبور وعبادتها، قد عمت به (7) البلوى في كثير، وقد (8) لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا" (9) ، وقال لأم سلمة لما ذكرت له كنيسة رأتها (10) بأرض الحبشة، وما فيها من الصور قال: "أولئك إذا مات فيهم
الرجل الصالح أو العبد الصالح (1) بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة" (2) . فما أعظم ما وقع من الشرك في كثير من هذه الأمة، فقد ربا على شرك أهل الجاهلية، فإن أولئك أقروا بتوحيد الربوبية/ وجحدوا توحيد الإلهية، وهؤلاء صرفوا خصائص الربوبية لغير الله، فالله المستعان. وهذا باب دخل فيه أهل الشرك ما فتحه لهم من ينتسب إلى العلم بحكايات تحكي لا تقوم بها حجة ولا عليها تعويل، وغايتها التحريف التبديل والتهويل والتضليل، وصدف الجهال عن سواء السبيل، حتى وقع الشرك في هذه الأمة جيلاً فجيل، فجادل به من جادل وما حل به من (3) ماحل، كما (4) يعلمه الله من هؤلاء الملحدين وأمثالهم. فإن هؤلاء المجادلين الجاحدين المبين قد ما حلوا بقلب الحقائق، حتى جعلوا ما تنزه الله عنه من اتخاذ الشفاء والشركاء [هضماً] (5) من حق الرسل والأنبياء؛ وهو هضم لربوبية (6) الله، وسلب لإلهيته (7) ، وسواء ظن به، وقد نزه نفسه عن ذلك في الآيات المحكمات التي أنزلها (8) على رسوله الصادق
المصدوق؛ ودعا الأمة إلى أن يؤمنوا بها ويقبلوها. فمن ذلك قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} (1) إلى قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} (2) ، فنزه نفسه تعالى عن هذا الشرك المقتضى لوضع حقه تعالى (3) في غير محله، ومسبتهم (4) له بهذا الشرك (5) . ولا ريب أن متخذي الشفعاء إنما كانوا يطلبونهم (6) ويسألونهم أن يشفعوا لهم، كما كان يفعله المشركون مع الأموات والغائبين، فهذا الطلب والسؤال والقصد والإرادة، من توجيه الوجه والقلب إلى غير الله تعالى رجاء لهذا الغير ورغبة إليه (7شرك عظيم 7) (7) ، قال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَن} (8) ، وقال تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} (9) الآية فإسلام الوجه (10) ينفي الشرك بنوعيه (11) ، والإحسان ينفي البدع في الدين
كلها، وقد قال أمام الحنفاء (1 في قوله1) (1) : {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) . فتبين بهذه الآية أن توجيه الوجه (3) والقلب [إلى] (4) الله دون من سواه (5) . قال في "الشرح الكبير"لعبد الرحمن بن أبي عمر رحمه (6) الله تعالى: (الإخلاص عمل القلب وهو أن يقصد بعمله الله (7) دون غيره) انتهى (8) . وقال شيخ الإسلام: (الإخلاص/ محبة الله، وإرادة وجهه، وقد تقرر في الجواب أن الشفاعة التي أثبتها الله في كتابه بإذنه ورضاه إنما تقع لأهل الإخلاص خاصة، فمن طلبها من ميت أو غائب فقد وقع في الشرك الذي لا لا يغفره الله، وحرم نفسه الشفاعة بطلبها ممن لا يملكها، وإعراضه عن طلبها ممن يملكها (9) سبحانه وتعالى عما يشركون) . وهذا العراقي من جهله وضلاله يدعي أن هذا الشرك (*مجمع على جوازه. قلت: بل الإجماع منعقد على أنه الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه (10) ، ومستند هذا الإجماع الآيات المحكمات، وما فيها من التصريح
بتحريمه*) (1) كما (2) في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم [كان] (3) يقول في دبر كل صلاة: "لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون" (4) فإخلاص العبادة له هو الدين (5) الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وأمر به عباده، كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (6) . ثم ذكر تعالى ما ينافي الإخلاص من شرك المشركين، فقال (7) : {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (8) وهذه السورة كلها كأمثالها من القرآن، فيها بيان الإخلاص والأمر به؛ وبيان ما ينافيه من الشرك في العبادة والنهي عنه، وتغليظ أمره، وحبوطه للأعمال، فتدبر وتذكر وتفكر، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فصل
فصل (1) وقد كان شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية –رحمه الله -، لما قدم مصر فوجد الكثير قد جهل ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه: من دين الإسلام الذي رضيه لعباده، واتفقت عليه دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم. (3 [فبيَّن] (2) ما وقع فيها من البدع3) (3) ، فبيَّن –رحمه الله –لمن حضره (4) ما جهله أكثر الناس من وجوب إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى، وبيَّن ذلك بالأدلة (5) من الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة وأئمتها: من تجريد العبادة لله تعالى، وترك عبادة ما يعبد من دونه، ونهاهم عن دعوة الأموات والغائبين، وأخبرهم أن هذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، فعارضه ابن البكري المصري على حسب ما اعتاده من هذا الشرك وجهله بأنواع (6) التوحيد، /وكتب في المعارضة كثيراً من الشبهات الفاسدة الباطلة، وقلب الحقائق، مع سوء الفهم، وعدم العلم، فهجم على دين الإسلام فيما أبداه من الشبهات والضلالات.
وأخذها شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله – (1) فأجاب عنها بصريح المنقول وصحيح المعقول، فردها رداً شافياً بالأدلة والبراهين، فصار علماً لأهل التوحيد، وحجة على أهل الشرك والتنديد. فرأيت هذا العراقي – الذي نحن بصدد الرد عليه- قد تلقى كثيراً من تلك الشبهات والخيالات والأباطيل والترهات، فرأيت أن أكتب في آخر الرد جملاً من كلام شيخ الإسلام –رحمه الله تعالى (2) -وإن كان فيه نوع تكرار، مع ما قدمناه له، فإنه يشتمل على مزيد فائدة، فإن الحاجة إليه ماسة، والمنفعة به عظيمة، والمكرر أحلى؛ لما فيه من الرد على كل ملحد ومبطل ومعاند، فرحم الله ذلك الشيخ، فلقد صارت كتبه سلاحاً للموحدين، وحجة على جميع المبطلين. قال رحمه الله تعالى (3) : (الوجه الخامس: أن يقال: نحن لا ننازع في إثبات ما أثبته الله من الأسباب والحكم، لكن من هو الذي جعل الاستغاثة بالمخلوق ودعاءه سبباً في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله؟ ومَن الذي قال: إنك إذا استغثت بميت أو غائب من البشر، بنبي أو غير نبي، كان ذلك سبباً في حصول الرزق والنصر والهدى، وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى (4) ؟ ومَن الذي شرع ذلك وأمر به؟ ومَن الذي فعل ذلك من الأنبياء والصحابة والتابعين لهم بإحسان؟
فإن المقام يحتاج إلى مقدمتين: إحداهما (1) : أن هذه أسباب لحصول المطالب التي لا يقدر عليها إلاالله. والثانية: أن هذه الأسباب مشروعة، لا يحرم فعلها، فإنه ليس كل ما كان سبباً كونيّاً يجوز تعاطيه، فإن [قتل] (2) المسافر قد يكون سفره (3) سبباً لأخذ ماله، وكلاهما-أي المقدمتين – محرم، والدخول في دين النصارى قد يكون سبباً لمال يعطونه وهو محرم، وشهادة الزور قد تكون سبباً لمال (4) يؤخذ من المشهود له، وهو حرام، كثير من الفواحش والظلم قد يكون سبباً لنيل مطالب وهو محرم،/ والسحر والكهانة سبب في بعض المطالب وهو محرم، وكذلك الشرك كدعوة الكواكب والشياطين، وعبادة البشر، قد يكون سبباً لبعض المطالب وهو محرم. فإن الله تعالى حرم من الأسباب ما كانت (5) مفسدته راجحة على مصلحته، كالخمر والميسر (6) ، وإن كان يحصل به بعض الأغراض أحياناً. وهذا المقام مما يظهر به ضلال هؤلاء المشركين خلقاً وأمراً، فإنهم مطالبون بالأدلة الشرعية على أن الله شرع لخلقه أن يسألوا ميتاً أو غائباً، أو يستغيثوا به، سواء كان ذلك عند قبره، أو لم يكن عند قبره، وهم لا يقدرون
على ذلك، بل نقول: في الوجه السادس: سؤال الميت والغائب: نبيّاً كان أو غيره: من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله تعالى به ولا رسوله (1) ، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين، وهذا [مما] (2) يعلم بالاضطرار من دين المسلمين (3) ، فإن أحداً منهم ما كان يقول إذا نزلت به شدة، أو عرضت له حاجة لميت: يا سيدي فلان أنا في حسبك، أو اقض حاجتي، كما يقول هؤلاء المشركون لمن يدعونهم من الموتى والغائبين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند (4) قبورهم، ولا إذا (5) بعدوا عنها، بل ولا أقسموا بمخلوق على الله أصلاً، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا قبور (6) غير الأنبياء، ولا الصلاة عندها، وقد كره العلماء كمالك وغيره أن يقف الرجل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه، وذكروا أن هذا من البدع التي لم (7) يفعلها السلف. وأما ما يروى عن بعضهم أنه قال: قبر معروف الترياق المجرب، وقول بعضهم: فلان يدعي عند قبره، وقول بعض الشيوخ: إذا كانت لك حاجة إلى
الله فاستغث بي، أو قال: استغث عند قبري، ونحو ذلك، فإن هذا قد وقع عند (1) كثير من المتأخرين وأتباعهم، وكثير من هؤلاء إذا استغاث بالشيخ رأى صورته، وربما قضى بعض حاجته، فيظن أنه الشيخ نفسه، أو أنه ملك تصور /على صورته، وأن هذا من كراماته، ولا يعلم (2) أن هذا من جنس ما يفعله (3) الشياطين بعباد الأوثان، بحيث تتراءى (4) أحياناً لمن يعبدونها، تخاطبهم ببعض الأمور الغائبة، وتقضي لهم بعض الطلبات؛ ولكن هذه الأمور كلها بدع محدثة في الإسلام بعد القرون الثلاثة المفضلة، وكذلك المساجد المبنية على القبور التي تسمى المشاهد محدثة في الإسلام، والسفر إليها محدث (5) في الإسلام، لم يكن (6) شيء من ذلك في القرون الثلاثة المفضلة، بل ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذّر ما فعلوا" (7) قالت عائشة: "ولولا ذلك أبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً"، وثبت في الصحيح عنه أنه قال، قبل أن يموت بخمس: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك" (8) .
وقد تقدم في الجواب أن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه (1) -: "لما أجدبوا استسقى بالعباس، وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون" (2) فلم يذهبوا إلى القبور، ولا توسلوا بميت ولا غائب، وتوسلوا بالعباس كما كانوا يتوسلون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان توسلهم به توسلهم بدعائه، كالإمام مع المأموم، وهذا تعذر بموته. فأما قول القائل، عند ميت من الأنبياء والصالحين: اللهم إني أسألك بفلان، [أو بجاه فلان] (3) أو بحرمة فلان، فهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، ولا (4) عن التابعين، وقد نص غير واحد من العلماء أنه لا يجوز، ونقل بعضهم جوازه. قلت: لكن بغير مستند، فكيف يقول (5) القائل للميت: إني أستغيث بك، أو أستجير بك، أو أنا في حسبك، أو أسأل لي الله، ونحو ذلك. فتبين أن هذا ليس من الأسباب المشروعة، لو قدر أن له تأثيراً، فكيف إذا لم يكن له تأثير صالح، بل مفسدته راجحة على مصلحته: كأمثال (6) من دعا غير الله؟ وذلك أن من الناس الذين يستغيثون بغائب أو ميت من تتمثل (7) لهم
الشياطين، وربما كانت [على] (1) صورة الغائب، وربما كلمته، وربما قضت /له أحياناً بعض حوائجه، كما تفعل شياطين الأصنام، وهذا مما جرى لغير واحد، فينبغي أن يعرف هذا. ومن هؤلاء من يؤذي الميت بسؤاله إياه أعظم مما يؤذيه لو كان حياً، وربما قضيت (2) حاجته مع ذم تلحقه، كما كان الرجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً فيعطيه، ويقول: "إن أحدكم يسألني المسألة فيخرج بها يتأبطها ناراً" (3) ، وقال
صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيداً" (1) ، وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (2) الحديث. قال غير واحد من السلف في قول الله (3) : {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعا} (4) الآية "هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم" (5) ؛ ولهذا لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يتخذون قبور الأنبياء [والصالحين] (6) مساجد. وهذا مما تقدم في أول الجواب، والمكرر أحلى. إلى أن قال رحمه الله تعالى (7) : الوجه الثاني: أن يقال: التحقيق في هذا الباب إن (8) كان المنفى لا يصلح، لمخلوق فذكره الأنبياء والملائكة على سبيل تحقيق النفي العام، فهذا من أحسن الكلام، كما يقال: لا يجوز العبادة إلا لله تعالى، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، فينبه (9) بنفيها عن الأعلى عن انتفائها عمن هو (10) دونهم بطريق الأولى
وكذلك إذا كان المخصوص بالذكر ممن (1) قد حصل فيه غلو، كما يقال: ليس في الصحابة معصوم لا علي ولا غيره، وليس في النبيين إله لا المسيح ولا غيره، فهذا حسن (2) ، ومنه قوله تعالى (3) : {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (4) (6 تنبيهاً بذلك [على] (5) أن من دونهم أولى أن لا تغني شفاعتهم شيئاً6) (6) {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه} إلى قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (7) . وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً. لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} (8) الآية. /
(2 فإنه لما كان الكلام في إثبات توحيد الله تعالى، والنهي عن (1) الغلو في الدين فيه تشبيه المخلوق بالخالق قال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} 2) (2) ، وأبلغ من هذا قوله تعالى (3) : {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعا} (4) فخص المسيح وأمه بالذكر (5) ؛ لأن المسيح وأمه اتخذا إلهين فكان التخصيص بالذكر؛ لنفي الشرك والغلو الذي وقع في المسيح وأمه، ولم يكن ذلك من باب التنقيص للمسيح وأمه. وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (6) فتخصيص الأنبياء والملائكة (7) بالذكر تنبيه على من دونهم. ومنه قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} إلى قوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ. وَمَنْ يَقُلْ
مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين} (1) فذكر هذا الوعيد في الملائكة تنبيهاً على أن دعوى الإلهية لا تجوز لأحد من المخلوقين، لا ملك ولا غيره، وأنه لو قدر وقوع ذلك من ملك من الملائكة لكان جزاؤه جهنم، فكيف من دونهم؟ وهذا التخصيص لإفراد الله بالإلهية. ومنه قوله تعالى: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) ، والأنبياء معصومون من الشرك، لكن (3) المقصود بيان أن الشرك لو صدر من أفضل الخلق لأحبط عمله، فكيف بغيره؟ وكذلك قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} (4) مع أن الشرك منه (5) ممتنع، لكن بيَّن بذلك أنه إذا قدر وجوده كان مستلزماً لحبوط عمل (6) المشرك وخسرانه/ كائناً من كان، وخوطب بذلك أفضل الخلق لبيان عظم [هذا] (7) الذنب، لا لحط قدر المخاطب، كما قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِين} (8) . ليبيِّن أنه ينتقم ممن يكذب بالرسالة كائناً من كان، وأنه لو قدر أنه
غيَّر الرسالة لا نتقم منه، وهذا باب واسع. فمن (1) غلا في طائفة من الناس، فإنه يذكر له من هو أعلى منه، ويبين أنه لا يجوز هذا الغلو فيه، فكيف يجوز الغلو في الأدنى، كما قال بعض الشيعة لبعض شيوخ أهل (2) السنة: نقول إن مولانا أمير المؤمنين علياً كان معصوماً، فقال: أبو بكر وعمر: عندنا أفضل منه، وما كانا معصومين. وكما يقال لمن يعظم شيخه أو أميره، بأنه يطاع في كل شيء، وأنه لا ينبغي مخالفته: أبو بكر الصديق (3) أفضل منه، وقد قال: "أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم، إنما أنا متبع ولست مبتدع، فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني" (4) (5) . وكما إذا ظن الغالي أن الصالحين لا يؤذيهم عدوهم، لاعتقاده أن ذلك نقص فيهم، وأنهم قادرون على دفع كل أذى؛ فيقال: أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم قد أوذي وعودي، وقد جرح يوم أحد، وذلك كرامة له من الله تعالى (6) ، ليعظم أجره، ويزيده رفعة بالصبر على الأذى. وكذلك لو حلف بشيخه، فقيل له: لا تحلف بغير الله، فمن حلف بغير الله فقد أشرك.
وكذلك إذا اعتقد معتقد في شيخه أنه يشفع (1) لمريديه، أو أنه راية في الآخرة يدخل تحتها مريده الجنة، فيقال: [له] (2) : المرسلون أفضل منه؛ وسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا جاء يشفع يسجد بين يدي الله، ويحمد ربه بمحامد فيقال له: "ارفع رأسك؛ وقل يسمع؛ وسل تعطه؛ واشفع تشفع، فيقول: يا رب أمتي، فيحد لي حداً، فأدخلهم الجنة" (3) فهو صلى الله عليه وسلم لا يشفع إلا بعد أن يؤذن له، بل يبدأ بالسجود لله والثناء عليه، ثم إذا أذن له في الشفاعة وشفع حد له حداً، يدخلهم الجنة (4) . فليست الشفاعة مطلقة في حقه؛ ولا يشفع إلا بإذن الله، فكيف يكون الشيخ إذا (5) كانت له شفاعة؟ وكذلك إذا / قيل عن بعض الشيوخ: إن قبره ترياق مجرب، فيقال له: إذا كانت قبور الأنبياء –عليهم السلام-ليست ترياقاً مجرباً؛ فكيف تكون قبور الشيوخ ترياقاً مجرباً؟. وكذلك إذا قيل: إن الشيخ الميت يستسقى عند قبره، ويقسم به على الله؛ ويعَّرف عنده عشية عرفة ونحو ذلك. قيل له: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم سيد الخلق لم يستق الصحابة –رضوان الله عليهم-عند قبره، ولا أقسموا به على الله؛ ولا عرَّفوا عند قبره فكيف بغيره؟
وكذلك إذا قيل: إنه يسجد لقبر الشيخ أو يستلم ويقبل (1) ، قيل له: إذا كان قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يسجد ولا يقبل باتفاق الأئمة، فكيف بقبر غيره؟. [وكذلك إذا قيل: الموضع الذي كان الشيخ يصلي فيه لا يصلى فيه] (2) احتراماً له قيل له: إذا كان الصحابة –رضي الله عنهم-لم يصلوا في الموضع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه، فكيف لا يصلى في موضع مصلى غيره؛ وهو أحق بالاحترام من كل أحد؟ وكذلك إذا قيل: إن الشيخ الميت يدعى، ويسأل، ويستغاث به، قيل: إذا كان الأنبياء بعد موتهم لا يدعون، ولا يسئلون؛ ولا يستغاث بهم؛ فكيف بمن دونهم؟ وإذا قيل: يطلب من الشيخ كل شيء. قيل: ما لا يقدر عليه إلا الله، لا يطلب من الأنبياء، فكيف يطلب ممن دونهم؟ وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ألفين (3) أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رُغاء؛ فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: قد أبلغتك، لا أملك لك من الله شيئاً (4) -الحديث" فقد أخبر أنه يستغيث به أهل الغلول يوم القيامة فلا يغيثه، بل يقول: "لا أملك لكم من الله شيئاً" كما قال: "يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفة
عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً (1) . وحينئذ (2) فإذا قدر أن سائلاً (3) سأل: هل يستغاث بميت من الأنبياء والصالحين؟ فقيل [له] (4) : لا تستغيث بأحد منهم، لا نبي ولا غيره، أو قيل: لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بمن دونه (5) ؟، أو قيل: أفضل الخلق لا يستغاث به، ونحو ذلك من/ العبارات التي يفهم منها (6) عموم النفي (7) ؛ وأنه (8) ذكر الأفضل تحقيقاً (9) للعموم: كان هذا من أحسن الكلام، كما تقدم. كما إذا قيل: لا يسجد لقبر؛ ولا يتمسح به ولا يقبل؛ ولا يتخذ وثناً يعبد ونحو ذلك. وكذلك لو كان الخطاب ابتداء في سياق التوحيد، ونفى خصائص الرب
عن العبد، وقيل: ما لا يقدر عليه إلا الله (1) لا يطلب إلا منه، لا من نبي ولا غيره، وقيل: ما لا يستغاث فيها إلا بالله، لا يستغاث فيه بنبي ولا غيره: كان حسناً. فالاستغاثة المنفية نوعان: أحدهما: الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق. وليس لأحد أن يسأل غير الله ما لا يقدر (2) عليه إلا الله لا نبي ولا غيره، وليس لأحد أن يسأل غير الله أو يستغيث به في شيء من الأشياء، سواء كان نبياً أو غيره، وإذا كان كذلك، فكثير مما وقع هو من هذا الباب. وأما قوله: فمن خص الرسول والملائكة بنفي خاص، يفهم منه طرح رتبهم، وعدم صلاحيتهم للأسباب [فقد نقصهم بعبارته] (3) . فيقال له: قولك: "خصهم بنفي خاص يفهم منه طرح رتبتهم وعدم صلاحيتهم للأسباب"لفظ مجمل، أتريد صلاحيتهم للأسباب التي أثبتها الله لهم، مثل عدم صلاحية الملائكة للنزول بالوحي والعذاب، وعدم صلاحية الرسول لتبليغ (4) رسالات الله، ونحو ذلك، مما أثبته الله لهم، أو عدم صلاحيتهم لما اختص الرب (5) تبارك وتعالى به، مثل أن يطلب منهم الأمور التي لا يقدر عليها غيره، وعدم صلاحيتهم لكونهم يُسألون ويُدعون بعد
موتهم، أو يطلب منه كل ما يطلب من الله؟ فإن عنيت الأول (1) فقائله أعظم جرماً [من] (2) أن يقال: تنقصهم بعبارته (3) ، إذ قد يكون كافراً؛ مثل أن يتضمن نفيه مثل جحد رسالة الرسول، أو جحد ما يدخل في الإيمان، من الإيمان بالملائكة، ولكن ما نحن فيه ليس من هذا الباب. وإن أردت الثاني، فليس في نفي خصائص الربوبية عن المخلوق نقص له يجيب تنزيهه عنه، فضلاً عن أن يجب نفيه [عنه] (4) فمن قال: لا إله إلا الله، لم يكن قد تنقص (5) الملائكة والأنبياء بنفي الإلهية عنهم، ومن قال: إن الأنبياء والملائكة ليسوا أرباباً ولا آلهةً، ولا يُعبدون ولا يُطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، كان قد نفى عنهم ما يختص به الرب تبارك وتعالى [ولم ينف عنهم الأسباب] (6) . قلت (7) : وهذا النفي هو الذي خلقوا له، وهو دينهم الذي كانوا عليه وهو الذي يرضيهم من أتباعهم، وهو كمال في حقهم كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّه} (8)
الآية ونظائرها (1) . [قال شيخ الإسلام] (2) : وإنما (3) يكون نافياً للأسباب إذا قال: لا شفاعة لهم، أو قال: إنه لا يتوسل/ إلى الله بالإيمان بهم ومحبتهم وطاعتهم، ولا يتوسل إليه بدعائهم (4) ، فهذا باطل، بل كفر. وأما من قال: إنه لا يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، أو قال: [إنه] (5) لا يسأل بعد موته كما كان يسأل في حياته، فهذا قد أصاب، ومن قال: إنه لا يقسم على الله بمخلوق، ولا يتوسل [بميت، ولا يسأل] (6) بذات مخلوق، فإن الصحابة إنما توسلوا بدعائه وشفاعته، ولما مات لم يتوسلوا بذاته، إذ لم ينقل عن أحد من السلف أنه توسل إلى الله بميت في دعائه، ولا أقسم على الله به (7) . قال أبو حنيفة وأبو يوسف وغيرهما: أنه لا يجوز أن يقال: أسألك بحق الأنبياء. وكذلك قال أبو محمد بن عبد السلام: إنه لا يقسم عليه بحق الأنبياء، وتوقف في نبينا لظنه أن في ذلك خبراً يخصه (8) ، وليس كذلك.
وقد تنازع العلماء في القسم به (1) ، هل تنعقد به اليمين؟ على قولين: أشهرهما: أنه لا تنعقد (2) به، وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب أحمد. والثاني: تنعقد اليمين به، وهي الرواية الأخرى عن أحمد، اختارها طائفة من أصحابه. والصواب، ما عليه الجمهور من أنه لا تنعقد اليمين (3) بمخلوق لا النبي صلى الله عليه وسلم، ولا غيره. ولكن لم يسم أحد من الأمم هذا استغاثة، فإن الاستغاثة [به] (4) طلب منه لا طلب به، وهذا اعتقد جواز هذا بالإجماع (5) ، وسماه استغاثة، فلزم جواز الاستغاثة به بعد موته بالإجماع، فجوز أن يتوسل به في كل شيء. ثم إنه لم يجعل هذا وحده معنى الاستغاثة، بل جعل الاستغاثة الطلب منه أيضاً فكان لا يميز بين هذا المعنى وهذا المعنى، بل يجوز عنده أن يستغاث به في كل ما يستغاث الله (6) فيه، على معنى أنه وسيلة من وسائل الله في طلب الغوث، وهذا ثابت عنده للصالحين، ولو كان هذا حقاً لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل" (7)
فدخل عليه الخطأ من وجوه: منها: أنه جعل المتوسل (1) به بعد موته بالدعاء مستغيثاً، وهذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم، [لا] (2) حقيقة ولا مجازاً، مع دعواه الإجماع على ذلك، فالمستغاث (3) به هو المسئول المطلوب منه، [لا] (4) المسئول به. والثاني: ظنه أن توسل الصحابة به (5) في حياته كان توسلاً بذاته، لا بدعائه وشفاعته، فيكون التوسل به بعد موته كذلك، وهذا غلط (6) . الثالث: أنه أدرج سؤاله أيضاً في الاستغاثة به، وهذا صحيح جائز في حياته، وقد سوى في ذلك بين محياه ومماته، فأخطأ في التسوية بين المحيا والممات، وهذا ما علمته ينقل عن أحد من العلماء (7) ، لكنه موجود في كلام بعض الناس، مثل الشيخ يحيى الصرصري في شعره قطعة منه، ومحمد بن النعمان كان له كتاب "المستغيثين بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والمنام". /وهؤلاء ليسوا من أهل العلم العالمين بمدارك الأحكام، الذين يؤخذ بقولهم في شرائع الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام، وليس معهم (8) دليل شرعي
ولا نقل عن إمام (1) مرضي؛ بل عادة (2) جروا عليها، كما جرت عادة (3) كثير (4) من الناس أن يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه، وهؤلاء ليس لهم مستند شرعي من كتاب أوسنة، أو قول من الصحابة والأئمة، وليس عندهم إلا قول طائفة من الشيوخ: إذا كانت لكم حاجة فاستغيثوا بي، وتعالوا إلى قبري، ونحو ذلك مما فيه تصويب (5) لأصحابه بالاستغاثة به حياً وميتاً، وإن كان له نوع من العلم والعبادة. فليس معهم بذلك حديث يروى، ولا نقل عن صحابي (6) ولا تابعي، ولا قول عن إمام مرضي؛ ولهذا لما نُبه من نبه من فضلائهم تنبهوا، وعلموا أن ما هم عليه ليس من دين الإسلام، بل هو مشابهة لعباد الأصنام. لكن هؤلاء كلهم ليس فيهم من يعُدّ (7) نفي هذا، والنهي عنه، كفر إلا مثل هذا الأحمق الضال الذي حاق به وبيل النكال، فإنه من غلاة أهل البدع الذين يبتدعون القول، ويكفرون من خالفهم فيه، كالخوارج، والروافض، والجهمية، فإن هذا القول الذي قاله لم يوافقه عليه أحد من المسلمين الأولين والآخرين (8) ، وما علمت عالماً نازع في أن الاستغاثة بالنبي (9) وغيره من
المخلوقين لا تجوز. وهذه الطريقة التي سلكها هذا وأمثاله هي طريقة أهل البدع، الذين يجمعون بين الجهل والظلم، فيبتدعون (1) بدعة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الصحابة، ويكفرون من خالفهم في بدعتهم (2) ، كالحلولية، والمعطلة في الذات والصفات، يكَفَّر كثير منهم من خالفهم، والذين يقولون ليس كلامه إلا معنى واحداً قائماً بذاته: ومعنى التوراة والإنجيل واحد، والقرآن العزيز ليس هو كلامه؛ بل كلام جبريل وغيره، فمنهم من يكفر من خالفه، ونظائر هذا متعددة. وأما أئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي (3) يكونون به موافقين للسنة، / سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم، كما قال تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (4) ويرحمون الخلق، ويريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء بل إذا (5) عاقبوهم، وبينوا خطأهم، وجلهم، وظلمهم كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وأن يكون الدين (1) كله لله، وأن تكون (2) كلمة الله هي العليا. وقوله: إن الاستغاثة به بعد موته ثابتة ثبوتها في حياته؛ لأنه عند الله في مزيد دائم لا ينقص جاهه. فيقال (3) : إذا كان معنى الاستغاثة هو الطلب منه، فما الدليل [على] (4) أن الطلب منه شيئاً كالطلب منه حياً؟ وعُلُوُّ درجته بعد الموت لا يقتضي أن يسأل، كما لا يقتضي أن يستفتى، ولا يمكن أحداً أن يذكر دليلاً شرعياً على أن سؤال الموتى من الأنبياء والصالحين وغيرهم مشروع (5) ، بل الأدلة الدالة على تحريم ذلك كثيرة، كما لا يجوز دعاء الملائكة وإن [كان] (6) الله وكّلهم بأعمال يعملونها؛ لما في ذلك من الشرك. وهو يحتج بحديث الأعمى الذي قال: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد (7) نبي الرحمة". وهذا الحديث لا حجة فيه لوجهين: أحدهما: أنه ليس هو استغاثة به (8) بل توجه به.
والثاني: أنه (1) إنما توجه بدعائه وشفاعته، فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء، وقال في آخره "اللهم فشفعه في"فعلم أنه يشفع (2) له، فتوسل بشفاعته لا بذاته، كما كان الصحابة يتوسلون بدعائه في الاستسقاء، وكما توسلوا بدعاء العباس بعد مماته. وهذا المحتج به بنى حجته على مقدمتين فاسدتين: على أنهم توسلوا (3) بذاته، وأن ذلك يسمى استغاثة به (4) ، فلزم من ذلك (5) جواز ذلك بعد موته، وفساد إحدى المقدمتين يبطل كلامه (6) ، فكيف إذا بطلتا؟ وما ذكره من توسل آدم وحكاية المنصور، /فجوابها من وجهين: أحدهما: أن هذا لا أصل له، ولا تقوم به حجة، ولا إسناد لذلك. والثاني: أنه (7) لو دل لدل (8) على التوسل بذاته، لا على الاستغاثة به. وأما فتح الكوة لينزل المطر، فهذا (9) أيضاً باطل، كما تقدم التنبيه عليه، ومع هذا فليس من هذا، وكذلك استسقاؤهم بدعائه ليس من هذا الباب. وأما اشتكاء البعير إليه، فهذا كاشتكاء الآدمي إليه (10) ، وما زال الناس
يستغيثون به في حياته كما يستغيثون به يوم القيامة، وقد قلنا أنه إذا طلب منه ما يليق بمنصبه فهذا لا نزاع فيه، والطلب منه في حياته والاستغاثة به في حياته فيما يقدر عليه لم يُنازع فيه، فما ذكره لا يدل على مورد (1) النزاع. وأما قوله: ولم يجعل الله لأحد تنقيص الرسل، وأجمع السلف والخلف على وجوب (2) تعظيمهم في الاعتقاد والأقوال (3) والأفعال. فيقال: هذا حق لكنه كما قال علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] (4) : (كلمة حق أريد بها باطل) (5) . وهو أن من سألهم ما لا يقدرون عليه أحياء وأمواتاً، فقد آذاهم واعتدى عليهم، فهو مستحق للعقوبة التي يستحقها مثله، بل من سألهم ما لا يريدون فعله حتى فعلوا (6) ما يكرهونه فهو مستحق للذم والمقت. ومن ابتدع في دينهم ما لم يأذن به الله وما يخالف ما جاءوا به، لزم أن يكون دينهم ناقصاً، وأنهم أتوا بالباطل، وهذا مناقض بلا ريب لما يجب من الإيمان بهم وتعزيرهم وتوقيرهم، ومن خالف ما جاءوا به من توحيد الله، وإفراده بالدعاء، فهو من أعظم المخالفين لهم اعتقاداً وقولاً وعملاً. فإن أعظم ما دعوا إليه التوحيد، فالمخالف له (7) من أعظم الناس مخالفة
لهم، وقد بينا "بالصارم (1) المسلول"أن التوحيد والإيمان بالرسل متلازما، وكل أمة لا تصدق الرسل فلا تكون إلا مشركة، وكل مشرك فإنه مكذب للرسل، فمن دخل فيه نوع من الشرك الذي نهت عنه الرسل فإنه مناقض لهم، مخالف لموجب رسالاتهم (2) . وإن (3) كان كذلك فما قال هذا المفتري وأمثاله هو بدعة لم تشرعها الرسل، لو لم يرد ما يتضمن (4) النهي عنها، فكيف إذا علم أنه نهى عنها؟ أما/ المقام الأول: فإنه لا يمكن أحداً أن يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته أن يستغيثوا بميت ولا غيره، لا في (5) جلب منفعة، ولا دفع مضرة (6) ، لا بهذا (7) اللفظ ولا بمعناه، فلا شرع لهم أن يدعوا ميتاً ولا يسألوه، ولا يدعو به (8) ، ولاأن (9) يستجيروا به ولا يدعوه؛ لا رغبة ولا رهبة (10) ، ولا يقول أحد لميت: أنا في حسبك، أو أنا في جوارك، أو أنا أريد أن تفعل كذا وكذا، ولا أن يخطو إلى قبر ميت خطوات، وأن يتوجه إلى جهة قبره ويسأله، كما يفعل كثير من (11)
النصارى وأشباه النصارى، من ضلال (1) هذه الأمة، بكثير من شيوخهم وغير شيوخهم، ولا يشرع لأحد أن يقول لميت: سل لي الله أو ادع لي، ولا يشرع لهم أن يشكوا إلى ميت، فيقول أحدهم مشتكياً إليه: عليَّ دين، أو آذاني فلان، أو (2) قد نزل بي العدو، أو أنا مريض، أو أنا خائف ونحو ذلك من الشكاوي؛ سواء كان هذا السائل عند قبر الميت، أو كان بعيداً منه، وسواء كان الميت نبياً أو غيره، بل ولا يشرع لأمته إذا كان لأحد (3) حاجة أن يقصد قبر نبي أو صالح فيدعو لنفسه، ظاناً أن الدعاء عند قبره يجاب، ولا يشرع (4) لأمته أن يتوسلوا إلى الله بذات نبي أصلاً، بل ولا بذات حي، إلا أن يكون مما أمر الله به من الإيمان به وطاعته أو بدعاء المتوسِّلِ وشفاعته، فأما إذا (5) لم يكن المتوسل يتوسل بما أمر الله به، ولا بدعاء الداعي له، فليس هناك وسيلة شرعها الله ورسوله، فإذا كان النبي (6) والرجل الصالح له (7) عند الله من الجاه، والقدر، والحرمة، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فهذا لا ينتفع المتوسل به إلا بأحد وجهين: إما أن يتوسل المتوسل بما أمر الله به من الإيمان به، ومحبته (8) ، وطاعته، وموالاته، والصلاة عليه والسلام، ونحو ذلك: فهذه هي الوسيلة التي أمر الله
بها في قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (1) فالوسيلة تجمعها طاعة الرسول، فكل وسيلة طاعة، وكل طاعة للرسول وسيلة: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (2) ، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ/ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} (3) . والوجه الثاني: أن يدعو له الرسول، فهذه أيضاً مما يتوسل به إلى الله تعالى فإن دعاءه وشفاعته (4) عند الله من أعظم الوسائل. فأما إذا لم يتوسل العبد بفعل واجب أو مستحب، ولا الرسول دعا له، فليس في عظم قدر الرسول ما ينفعه، ولكن بعض الناس الذين دخلوا في دين الصابئين والمشركين ظنوا أن شفاعة الرسول لأمته لا يحتاج إلى دعاء منه، بل الرحمة التي تفيض على الرسول تفيض على المُسْتَشِفعِ، من غير شعور من الرسول، ولا دعاء منه، ومثلوا ذلك بانعكاس شعاع الشمس إذا (5 وقع على جسم صقيل ثم انعكس على غيره فإن5) (5) الشمس إذا وضعت على ماء، أو مرآة، وانعكس شعاعها على حائط أو غيره، حصل النور في الموضع الثاني بواسطة الشعاع المنعكس على المرآة. قالوا: فهكذا (6) : الرحمة تفيض على النفوس الفاضلة، كنفوس الأنبياء والصالحين، ثم تفيض بتوسطهم على
نفوس المتعلقين بهم، وكما أن انعكاس الشعاع يحتاج إلى المحاذاة، فكذلك الفيض لابد فيه من وتوجه الإنسان إلى النفوس الفاضلة. وجعل هؤلاء الفائدة في زيارة القبور من هذا الوجه، وقالو: إن (1) الأرواح المفارقة تجتمع هي والأرواح الزائرة فيقوى تأثيرهما (2) . وهذه المعاني ذكرها طائفة من الفلاسفة ومن أخذ عنهم، كابن سينا وأبي حامد وغيرهم. وهذه الأحوال هي من أصول الشرك وعبادة الأصنام، وهي من [المقاييس الفاسدة] (3) وهي من أقوال من قال: إن الدعاء إنما تأثيره بكون النفس تتصرف في العالم (4) ، لا بكون الله هو يجيب الداعي، وهي مبنية على أن الله ليس بفاعل مختار؛ يحدث الحوادث بمشيئته واختياره. وقول هذا المفتري وأمثاله يجر (5) إلى مثل هذا، لكنهم لا يعرفون أصل قولهم ولوازمه، إتباع لشيوخ لهم (6) نوع من علم ودين، وليس لهم خبرة بما جاء به الرسول. وعندهم تعظيم الأنبياء والصالحين من جنس تعظيم النصارى والمشركين، يعظمونهم تعظيم ربوبية، من جهة ما يرجونه في حصول
مطالبهم، لا يعظمونهم/ لكونهم رسل الله الذين أمرَ (1) بطاعتهم، فيجب أن يطاعوا فيما أمروا به، (3 وأن يقتدي بهم فيما يشرع التأسي فيه بهم، بل هم (2) يعرضون عن بعض طاعتهم، والتأسي بهم3) (3) ، ويقبلون على نوع من دعائهم، وسؤالهم والإشراك بهم، وهؤلاء بالنصارى أشبه منهم بالصابئة (4) الفلاسفة، لكن الجميع فيهم شرك. وهذا الضال وأمثاله يجعلون الأنبياء والصالحين من جنس الذين يظنون أن النفع والضر يحصل لهم بتوسطهم، كما يجعل الشعاع والحرارة بتوسط الشمس. ونحن نقول: إن كل ما شرعه الله ورسوله فهو من أعظم الوسائل إلى الله، لكن دعاؤهم بعد الموت لم يشرعه الله ورسوله، فليس من الوسائل، كذلك سؤال أحدهم ما لا يقدر عليه إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرع، وما ذكره هؤلاء يتضمن عبادة غير الله. المقام الثاني: أن يقال هذا مما نهت عنه الرسل، فقد ثبت في الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ القبور مساجد وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا" (5) ، وقال: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها" (6) .
فلو كان الدعاء عند القبور أجوب منه في غير تلك البقعة؛ لكان قصدها للدعاء (1) عندها مشروعاً لم ينه أن يتخذ مسجداً، فإن اتخاذ القبور مساجد يدخل فيه الصلاة وغيرها، ويدخل فيه بناء المساجد [عليها] (2) ، وكلاهما منهي عنه، بل محرم كما صرح به غير واحد من العلماء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من فعل ذلك تحذيراً، وهذا يقتضي توكيد التحريم، فإن الدعاء في الصلاة أجوب منه في غيرها، كالدعاء في دبرها، / كما جاءت به السنة في الأدعية الشرعية فإنها مشروعة في آخر الصلاة، كذلك الدعاء عقب الصلاة، وأفضل الدعاء دعاء (3) يوم عرفة، وإنما يكون بعد صلاة الظهر والعصر، والوقوف بمزدلفة ودعاؤها بعد صلاة الفجر، والطواف يجري مجري الصلاة، ولهذا يستحب الدعاء في آخره، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بين الركنين {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ [النَّارِ] } (4) ، والطواف
تحية المسجد الحرام (1) ، وأما منى فعبادتها رمي الجمار، ولهذا يرجمونها يوم النحر ثم ينحرون، فليس بمنى (2) صلاة عيد، بل رمي جمرة العقبة لهم كصلاة العيد لغيرهم، وسائر الجمرات ترمى بعد الزوال، قبل صلاة الظهر، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله" (3) فلما كان هذا (4) من شعائر الصلاة والطواف كان كالدعاء عندها مشروعاً؛ كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم: "كان يدعو بين الجمرتين بقدر (5) سورة البقرة" (6) .
ففي الجملة: أحق البقاع بذكر الله فيها المساجد التي يصلى فيها، والمشاعر التي [شرع الله] (1) فيها الذكر، وأمر أن يكون الدين خالصاً له، كما قال تعالى (2) : {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَه} (3) فإذا كانت (4) الصلاة والذكر لله وحده لم يكن ذلك مشروعاً عند قبر، كما لا يذبح للميت ولا عند قبره، بل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن (5) العقر (6) ، وكره العلماء الأكل من تلك الذبيحة، فإنها شبه ما ذبح لغير الله. فلو كانت مقابر الأنبياء والصالحين مما يستحب الدعاء عندها، لكانت إما من المساجد، وإما من المشاعر [التي] (7) يحج إليها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا وهذا، بل لعن الذين يتخذون القبور مساجد، وقال في الحديث الذي
رواه أبو داود وغيره: "لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيث كنتم (1) ، فإن صلاتكم/ تبلغني" (2) فنهى أن نتخذ (3) قبره عيداً، والعيد اسم للوقت والمكان (4) الذي يعتاد الاجتماع (5) فيه. وقد ثبت عن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (6) أنه: "رأى رجالاً ينتابون مكاناً يصلون فيه فقال (7) : ما هذا؟ قالوا مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا، من أدركته الصلاة فيه (8) فليصل وإلا فليمض" (9) فقد نهاهم عن اتخاذ آثار أنبيائهم مساجد (10) . وأما نقل عن ابن (11) عمر أنه كان يتحرى النزول في مكان النبي صلى الله عليه وسلم (12) ،
فهذا أمر انفرد به ابن عمر –رضي الله عنه- (1) ، والخلفاء الراشدون (2) من الأكابر والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يكونوا يفعلون ذلك، وهم أفضل من ابن عمر وأعظم اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم ولو كان هذا مستحباً لفعله هؤلاء. وأيضاً فلما فتح المسلمون تستر وجدوا فيه قبر (3) دانيال، وكان أهل البلد يستسقون به، فكتب في ذلك أبو موسى إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه: "أن احفر بالنهار ثلاثة عشر قبراً وادفنه بالليل في واحد منهما؛ لئلا يفتن (4) به الناس فيستسقون به" (5) . فهذه كانت سنة الصحابة رضوان الله عليهم. ولهذا لم يكن في زمن الصحابة والتابعين لهم بإحسان (6) ، على وجه الأرض في ديار الإسلام مسجد (7) على قبر؛ ولا مشهد يزار، لا في الحجاز، ولا في اليمن، ولا الشام، ولا مصر، والعراق، ولا خراسان. وقد ذكر مالك –رحمه الله (8) – أن وقوف الناس للدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم بدعة لم يفعلها الصحابة والتابعون، وقال: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها".
وأما دعاء الميت، وسؤاله بلفظ الاستغاثة وغيرها، فهذا مما نهى عنه القرآن، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (1) . وفي/ التفسير الصحيح عن مجاهد {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} قال: "عيسى ابن مريم وعزير والملائكة" (2) . وكذلك عن إبراهيم قال: كان ابن عباس يقول في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} "هو عزير والمسيح والشمس والقمر". وكذلك رواه شعبة عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: "عيسى وأمه والعزير في هذه الآية" {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} . وروى قتادة عن عبد الله بن معبد الزماني عن ابن (3) مسعود قال: "كان قبائل من العرب يعبدون صنفاً من الملائكة يقال لهم الجن يقولون: هم بنات الله، فأنزل الله تبارك وتعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} . وفي رواية الزماني عن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله قال: "نزلت
في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن، فاسلم الجنيون (1) ، والأنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم، فنزلت: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} . وكذلك قال ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال (2) : الذين يدعون الملائكة تبتغي إلى ربها الوسيلة أيهم أقرب، ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذوراً. قال: "وهؤلاء (3) الذين عبدوا الملائكة من المشركين". وكذلك ذكر (4) العوفي في تفسيره عن ابن عباس قال: "يقولون: نعبد الملائكة والمسيح وعزيراً". وثبت أيضاً في الصحيح للبخاري (5) عن ابن مسعود قال: "كان ناس يعبدون قوماً من الجن. فأسلم الجن، وبقي الأنس على كفرهم، فأنزل الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} يعني الجن" وهذا معروف عن ابن مسعود من غير وجه. وهذه الأقوال كلها حق، فإن الآية تعم كل من كان معبوده عابداً لله؛ سواء كان من الملائكة، أو من (6) الجن، أو [من] (7) البشر.
والسلف –رض الله عنهم- في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل، كما/ يقول الترجمان لمن سأله عن الخبز فيريه رغيفاً، فيقول: هذا، فالإشارة إلى نوع لا إلى عينه. فالآية خطاب لمن دعا من دون الله مدعواً، وذلك المدعو يبتغي إلى ربهالوسيلة ويرجو رحمته، ويخاف عذابه، وهذا (1) موجود في الملائكة والجن والإنس. والاستغاثة هي طلب كشف الشدة، فكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأنبياء والصالحين، أو دعا الملائكة، أو دعا الجن، فقد دعا م لا يغيثه، وقد قال (2) تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقا} (3) . وقد نص الأئمة، كأحمد وغيره على (4) أنه لا يجوز الاستعاذة (5) بمخلوق، وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله التامات، من غضبه، وعقابه، [وشر عباده] ، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون" (6) .
وقال (1) : "أعوذ بكلمات الله التامات، التي لا يجاوزهن برٌّ ولا فاجر، من شر ما خلق، وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ومن شر ما يلج في الأرض، وما يخرج منها، ومن شر فتن (2) الليل والنهار، ومن شر كل طارق يطرق (3) إلا طارقاً يطرق بخير يارحمن (4) ".
قالوا: والاستعاذة لا تجوز بالمخلوق، وقول القائل: "أعوذ بالله" معناه أستجير بالله، فإذا لم يجز أن يستعاذ بمخلوق؛ لا نبي ولا غيره، فإنه لا يجوز أن يقال أنت خير معاذ (1) يستعاذ به، بطريق الأولى والأحرى (2) ، كقول القائل لمن مات من الأنبياء وغيرهم: بك استجير من كذا، وكذا كقوله: بك أستعين، وقوله: بك أستغيث في معنى ذلك إذا كان مطلوبه منع الشدة أو رفعها، والمستعيذ بطلب منع المستعاذ منه أو رفعه، فإذا كان مخوفاً طلب منعه؛ كقوله: أعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، وإذا كان حاضراً طلب رفعه، كما في الحديث الصحيح: "أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" (3) فتعوَّذ من شر الموجود، وشر المحاذر. والداعي يطلب حصول (4) أحد شيئين: إما حصول منفعة، أو دفع مضرة، فالاستعاذة (5) والاستجارة والاستغاثة /كلها من نوع الطلب والدعاء. ومما يبين حكمة الشريعة وعظم قدرتها، وأنها كما قيل: "سفينة نوح من
ركبها (1) نجا ومن تخلف عنها غرق" إن الذين خرجوا عن المشروع، زين لهم الشيطان أعمالهم، حتى خرجوا إلى الشرك. وطائفة من هؤلاء يصلون إلى الميت، ويدعو أحدهم الميت ويقول: اغفر لي وارحمني. ومنهم من يستقبل (2) القبر، ويصلي إليه، مستدبر (3) الكعبة، ويقول: القبر قبلة الخاصة والكعبة (4) قبلة العامة، وجمهور هؤلاء المشركين يجدون عند (5) عبادة القبور من الرقة، والخشوع، والدعاء، وحضور القلب ما لا يجده أحدهم في مساجد الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وآخرون يحجون إلى القبور. وطائفة صنفوا كتباً وسموها "مناسك حج المشاهد"، كما صنف محمد بن النعمان الملقب بالمفيد، أحد شيوخ الإمامية كتاباً في ذلك، وذكر فيه من الحكايات المكذوبة عن أهل البيت ما لا يخفى كذبه على من له معرفة بالنقل، وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ، وإن لم يسموا (6) ذلك منسكاً وحجاً، والمعنى واحد. ومن هؤلاء من يقول: حق النبي الذي تحج إليه المطايا، فيجعل الحج إلى النبي لا إلى بيت الله عز وجل.
وكثير من هؤلاء أعظم قصده من الحج قصده قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا حج البيت) . وذكر –رحمه الله-كثيراً من هؤلاء ما هو من جنس ما تقدم، وأعظم –إلى أن قال (1) : (ومنهم من يجعل السفر إلى المشهد والقبر الذي يعظمه أفضل من الحج، ويقول أحد المريدين للآخر وقد حج سبع حجج إلى بيت الله العتيق: أتبيعني زيارة قبر الشيخ بالحجج السبع؟ فشاور الشيخ؛ فقال: لو بعت لكنت مغلوباً. ومنهم من يقول: من طاف بقبر الشيخ سبعاً كان حجة، وذكر عن أمثال هؤلاء كثيراً من هذا الضرب) . ثم قال: (وهؤلاء وأمثالهم صلاتهم ونسكهم لغير الله رب العالمين، فليسوا على ملة إبراهيم إمام الحنفاء، وليسوا من عمار مساجد (2) الله الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّه} (3) [فعمار مساجد الله لا يخشون إلا الله] (4) ، وعمار مساجد المقابر يخشون غير الله، ويرجون غير الله. وآخرون قد جعلوا الميت بمنزلة الإله، والشيخ الحي المتعلق به كالنبي، فمن الميت يطلب قضاء (5) الحاجات، وتفريج الكربات، وأما الحي فالحلال
ما أحله، والحرام ما حرمه، وكانوا في أنفسهم/ قد عزلوا الله عن أن يتخذوه إلهاً، وعزلوا نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن أن يتخذه رسولاً. وقد يجيء الحديث العهد بالإسلام، أو التابع لهم الحسنُ الظنِّ بهم، أو غيره (1) يطلب من الشيخ الميت إما (2) دفع ظلم ملك يريد أن يظلمه، أو غير ذلك، فيدخل ذلك السادن فيقول: قد قلت للشيخ، والشيخ يقول للنبي، والنبي يقول لله، والله قد بعث رسولاً للسلطان (3) فلان، فهل هذا إلا دين المشركين والنصارى؟ وفيه من الكذب والجهل ما لا يستجيزه كل مشرك ونصراني، ولا يروج عليه. ويأكلون من النذور وما يؤتى به إلى قبورهم ما يدخلون به في معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} (4) والله تعالى لم يذكر في كتابه المشاهد، بل ذكر المساجد، قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} (5) ، قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} إلى قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِين} (6) .
لم (1) يذكر بيوت الشرك؛ كبيوت الأصنام والمشاهد، ولا ذكر بيوت النار، ولا ذكر بيوت الصائبة المشركين، كالذي يسمونه هيكل العلة الأولى، هيكل العقل، هيكل النفس، (2 هيكل زحل2) (2) ، هيكل المشترى، هيكل المريخ، هيكل الشمس، هيكل عطارد، هيكل الزهرة، هيكل القمر، فإن هذه البيوت ليس في أهلها مؤمن، ولم يكن في أهلها عبادة أمر الله بها، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: أنه لم ذكر له كنيسة بأرض الحبشة، وذكر حسنها، وتصاوير فيها (3) ، فقال: "أولئك (4) إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا (5) فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة" (6) . وفي الصحيح عن أبي الهيَّاج الأسدي قال: قال لي (7) علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ألا أبعثك (8) على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أمرني أن لا أدع قبراً مشرفاً إلا سويته (9) ، ولا تمثالاً إلا طمسته" (10) .
إلى أن قال (1) : (الوجه الرابع أن يقال: الغلاة المشركون هم في الحقيقة بخسوا الرسل ما يستحقونه من التعظيم؛ دون الأمة الوسط أهل التوحيد، المتبعين لشريعة/الرسل. وبيان ذلك بأمور: منها أنهم يقولون: إن النصارى يعظمون المسيح، وكذلك الغالية في علي، أو الأئمة (2) أو الشيوخ أو غيرهم، وهم في الحقيقة متنقصون لهم، فإن المسيح عليه السلام أمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، وأخبرهم أنه عبد الله؛ فهم إذا اتبعوه كان له من الأجر مثل أجورهم؛ من غير أن ينقص من أجورهم شيء، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من دعا إلى هدى كان له (3) من الأجر مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص (4) من أجورهم شيء" (5) وإذا غلوا فيه، واتخذوه ربّاً انقطع (6) العمل الصالح الذي كان يحصل بالتوحيد والطاعة، وحصل لهم مع ذلك عذاب أليم.
وأما أهل الاستقامة (1) ، فهم إذا وحدوا الله وعبدوه (2) ، كما شرعته لهم (3) الرسل، وأطاعوهم صاروا أولياء الله مستحقين لثوابه، وحصل للرسول الذي دعاهم مثل أجورهم، وكان في هذا من التعظيم للرسول (4) ما ليس في طريق الغلاة. الثاني: أن الغلاة يحرمون ثواب الدعاء لمن كانوا يعبدونه من الأنبياء والصالحين، فيشغلهم عن الدعاء لهم، فيحرمون ثواب ذلك. الثالث: أن أهل (5) التوحيد والسنة يصدقون الرسل فيما أخبروا، ويطيعونهم فيما أمروا، ويحفظون ما قالوا، ويفهمونه ويعملون به، وينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ويجاهدون من خالفهم، تقرباً إلى الله، وطلباً للجزاء من الله لا منهم، وأهل الجهل والغلو لا يميزون بين ما أمروا به ونهوا عنه، ولا بين ما صح عنهم، ولا ما كذب عليهم (6) ، ولا يفهمون حقيقة مرادهم، ولا يتحرون طاعتهم بل هم جهال لما أتوا به، معظمون لأغراضهم، فالسدنة الذين هم (7) عند القبور ونحوهم: غرضهم تعظيم أنفسهم عند الناس؛ وأخذ أموالهم بهم، فأي الفريقين أشد تعظيماً؟ أولئك أو هؤلاء؟
حتى إن بعض أصحابنا لما بلغه أني أنهي (1) عن ذلك صار عنده شبهة، قال لبعض أصحابنا شراً: أنا (2) جربت إجابة الدعاء عند قبر (3) بالقرافة، فقال له ذلك الرجل: أنا أذهب معك إليه، لأعرف قبر من هو، فذهبنا إليه فوجدا مكتوباً عليه: / عبد علي، فعلموا أنه إما رافضي، وإما إسماعيلي، وكان بالبلد جماعة كثيرون يظنون في العبيديين أنهم أولياء الله صالحون. وكم من مشهد يعظمه الناس وهو كذب، بل يقال أنه قبر كافر، كالمشهد الذي بسفح جبل لبنان، فإن أهل المعرفة يقولون إنه قبر بعض العمالقة، وكذلك (4) مشهد الحسين في القاهرة، وقبر أبي بن كعب بدمشق، اتفق العلماء أنه كذب. وكثير من المشاهد عندها (5) شياطين تضل بسببها من تضل، ومنهم من يرى في المنام شخصاً يظن أنه المقبور، ويكون ذلك شيطاناً تصور بصورته، أو بغير صورته، كالشياطين الذين [يكونون (6) بالأصنام، وكالشياطين الذين] (7) ، يتمثلون لمن يستغيث بالأصنام والموتى والغائبين) . وذكر –رحمه الله تعالى-من هذا الضرب-إلى أن قال: (والمقصود أن هؤلاء بهم الأمر أن يسووا بين الأنبياء والكفار،
ويطلبون من هذا ما يطلبون من هذا، فأي الفريقين أشد تعظيماً للأنبياء (1) ، هؤلاء [أو] (2) من يوجب تعظيمهم باتباع شريعتهم، ويفرق بين الحق الذي جاؤا به وبين غيره، ولا ينزل أحداً منزلتهم، ولا يشبه بهم من ليس منهم، ولا يبتدع في الدين ما لم يأذن به الله، فإن المبتدع من شرع ديناً لم يأذن به الله؛ لا من أمر بما أمر الله به ونهى عن ما نهى الله عنه. ومن أعظم المبتدعين من جوز أن يستغاث بالمخلوق الحي والميت في كل ما يستغاث فيه الله عز وجل، بل [من] (3) جوز أن يسأل الميت، ويدعى على أي وجه كان، بل من حمل ألفاظ الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم على التوسل، وجعل توسل الصحابة به (4) هو توسلهم بذاته، أو الأقسام به على الله تعالى. ومن أعظم المبتدعين من جعل التوحيد كفراً والشرك إيماناً، وكفر من هو (5) أحق بالإيمان من طائفته، ونفى الكفر عن طائفته الذين هم أحق بالكفر ممن كفروه) . /إلى أن قال: (الثالث: أن قول المجيب؛ ليس هو قوله وحده، بل هو قول جميع أئمة الدين، وعلماء المسلمين، فليس في (6) علماء المسلمين من يقول: إنه يستغاث بمخلوق في كل ما يستغاث الله به، ولا من يقول إن الميت يستغاث
به، وما علمت إلى ساعتي هذه أحداً من علماء المسلمين الذين يستحقون الإفتاء نازع في هذا، وأما الشيوخ الذين يسألون الميت فهؤلاء ليس فيهم أحد ممن يرجع المسلمون إلى فتياه، فلهذا قال بعض السلف: لا تنظر إلى عمل الفقيه، ولكن اسأله يصدقك) . ثم قال رحمه الله تعالى (1) : (فإذا قيل لا يعبد إلا الله، لا الأنبياء ولا غيرهم، ونحو ذلك، كان ذلك (2) تعظيماً للرسول صلى الله عليه وسلم، وتبيينا (3) أنه لا أحد أرفع منه من الخلق، وخصائص الرب عز وجل منتفية عنه؛ فعن غيره بطريق الأولى، كقوله تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون} (4) . وقوله تعالى (5) : {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّه} (6) . وقوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل} (7) فإن الحاجة داعية إلى ذكر (8) المسيح، لوقوع النزاع (9) فيه.
فلو (1) تنازع اثنان: هل يخص النبي (2صلى الله عليه وسلم2) (2) بالحلف (3) به دون سائر الأنبياء؟ فقال أحدهما (4) : لا يحلف به؛ لم يكن هذا تنقصاً، بل هذا قول الجمهور، وهو الصواب. وكذلك إذا تنازع اثنان، [هل يخص] (5) الاستغاثة به، أو بالإقسام على الله به بعد موته، فقال أحدهما: لا يستغاث، ولا يقسم به، فليس هذا (6) من خصائصه، لكان من هذا الباب. قال أبو يزيد (7) : استغاثة المخلوق بالمخلوق، كاستغاثة الغريق بالغريق، (8 وما قاله أبو يزيد رحمه الله تعالى8) (8) تلقاه الناس بالقبول، وقاله بعده أبو عبد الله القرشي، قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق، كاستغاثة المسجون بالمسجون، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" (9) ، وقوله لطائفة من أصحابه (10) : "لا تسألوا الناس
شيئاً" (1) ومنه قوله تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَب} (2) ، / ومنه قول (3) النبي صلى الله عليه وسلم في وصف السبعين ألفاً: "هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون" (4) ، فالاسترقاء طلب الرقية من المخلوق. وقد تقدم أن دعواه أن الميت هو عين المنفي في كلام الله ورسوله خطأ، بل ما نفاه الرب عن غيره لم يثبته له، والمنفي عن المخلوق ما اختص الرب به. والمقصود أن كثيراً من الضالين الجاهلين، يستغيثون بمن يحسنون به الظن من الأموات والغائبين، في كل ما يستغاث الله فيه، ولا يتصور أن هؤلاء يسألونهم مطالبهم كلها (5) ، ولا أكثرها (6) ، بل غاية ما يطلبونه منهم من جنس تحصيل المنافع ودفع المضار لا يحصل، بل قد يحصل بعض المطالب، كما يحصل لعباد الأصنام، والكواكب، وغيرهم من المشركين، ويكون [ما] (7) يخبرون به ويفعلونه شبهة للمشركين، كما أن ما يخبر به الكاهن ونحوه، فإنه يصدق في واحدة ويكذب في مائة.
فهذا القول الذي يقوله هذا هو (1) مطابق لأحوال هؤلاء المشركين الضالين، وهذا ليس يقوله مسلم، ولا عاقل يتصور ما يقول، بل هو من جنس قول النصارى: دعاء المسيح دعاء الله (2) ؛ لكن أولئك يقولون باعتبار الحلول والاتحاد، وأما بدون هذا فهو كلام غير معقول، فإن الله تعالى أمر أن يدعى هو ويسأل هو، ولم يجعل دعاء أحد المخلوقين دعاء له؛ بل قد نهى الله عن دعائه، ولو كان هذا حقاً لكان من دعى (3) الملائكة والأنبياء دعى (4) الله (5) ، فلا يكون شركاً) قلت: فيلزم على (6) هذا أن من سجد للشمس يكون ساجداً لله، ويلزم على هذا أيضاً أن كل مشرك بعبادة غير الله عابداً لله، واللازم باطل، فيبطل الملزوم (7) . (والله قد جعلهم مشركين، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (8) الآية.
فإن هؤلاء الضالين جعلوا الصالحين مع الله سبحانه كالوكيل مع موكله، فإذا طلب من الوكيل الدعاء (1) كانت المطالبة للموكل في المعنى، لكن هذا ليس من أقوال الموحدين، بل هو من أعظم شرك الملحدين، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يضمن للخلق أن يرزقهم، ويحاسبهم، ولا يجيب (2) / دعاءهم، بل أخبر أن (3) هذا كله لله وحده. قال تعالى: {فَإِنَّمَا (4) عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَاب} (5) . وقال تعالى (6) : {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَي} (7) . وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً (8) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (9) . وقال تعالى (10) : {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُون} (11) .
فبين تعالى أن التحسب بالله وحده، والرغبة إلى الله وحده، وأما (1) الإيتاء فلله وللرسول؛ لأن الحلال ما حلله الرسول، والحرام ما حرمه الرسول، كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) . فالله تعالى قد جعل الرسول مبلغاً كلامه الذي هو أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وهؤلاء يجعلون الرسل (3) والمشايخ يدبرون العالم، بالخلق، والرزق، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، بل النصارى تقول هذا في المسيح وحده، لشبهة الاتحاد والحلول؛ ولهذا لم يقولوا هذا في إبراهيم وموسى وغيرهم من الرسل، مع أنهم في غاية الجهل في ذلك، فإن الآيات التي بعث بها موسى أعظم) . إلى أن قال رحمه الله تعالى (4) : (فما الدليل على جواز السؤال لله بذوات (5) المخلوقين مطلقاً، أو بعد (6) موتهم؟، ومن قال هذا من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان؟ والصحابة إنما كانوا يتوسلون بدعائه وشفاعته؛ ولهذا توسلوا بعده بالعباس، ولو كان التوسل بذاته ممكناً بعد موته لم يعدلوا إلى العباس، والأعمى إنما توجه بدعائه وشفاعته، وكذلك الناس يوم القيامة يستغيثون به ليشفع لهم إلى الله، فهم يتوسلون بشفاعته؛ أما بمجرد الذات بعد الممات فلا
دليل عليه، ولا قاله أحد من السلف، بل المنقول عنهم يناقض ذلك، وقد نص غير واحد من العلماء أن هذا لا يجوز، وإن نقل عن بعضهم جوازه، وقد قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} (1) . وإن أراد بقوله: لا يكون وسيلة، أي: لا يكون الإيمان به، ومحبته، وطاعته، وموالاته، واتباع سنته، والمجاهدة في دينه ونحو ذلك وسيلة إلى الله تعالى، فهذا لم ينفه أحد، ونفى الاستغاثة به (2) لا ينفي هذه/الوسائل. قوله: وهذا نفي لوصف من أوصاف الكمال الثابتة له صلى الله عليه وسلم. فيقال له: لا نسلم أن هذا النفي لشيء من صفات الكمال، [بل] (3) ولا نفي لشيء موجود، بل هو نفي لشيء منتف في نفس الأمر. ويقال أيضاً: ليس كل (4) من نفى وصفاً من أوصاف الكمال يكون كافراً، وقد قال ابن عباس وطائفة: إنه رأى ربه، ونفى ذلك آخرون من الصحابة وغيرهم، بل نفس المعراج قال الجمهور: إنه كان ببدنه، وآخرون من السلف والخلف قالوا: إنه كان بروحه فقط، وقال أكثر المنتسبين إلى السنة: إن الأنبياء أفضل من الملائكة، وآخرون قالوا: الملائكة أو بعضهم أفضل من الأنبياء إلى غير ذلك. وقال بعض الغلاة: إنه كان يعلم علم الله؛ ويقدر قدرته، وكفر المسلمين من قال ذلك. وهذا باب واسع، فما زال المسلمون يتنازعون في شيء من إثبات صفات
الكمال، ولا يقول المثبت للنافي: إنك كفرت، فإن الكمال الثابت ليس محدوداً يعلمه الناس كلهم، والكمال المطلق الذي لا غاية فوقه لله تبارك وتعالى، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: "كمل من الرجال كثير" (1) وهؤلاء الكاملون بعضهم أكمل من بعض. فإذا قال قائل: إذا كان الرسول الذي هو أفضل الخلق لا يضر ولا ينفع، فكيف بمن دونه؟، ونحو ذلك، فهذا مثل (2) قوله: لا يضر ولا ينفع (3) إلا الله، وهو نظير أن يقال: الرسول لا يستغاث به وإنما يستغاث بالله، والمراد به (4) بعد وفاته؛ كما قال تعالى: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً. قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِه} (5) ، فأخبر أنه لا يملك من الله لا ضرهم ولا رشدهم.:وقال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (6) ، وقد ثبت في الصحيحين أنه قال: "يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً" (7) ، فهذا تخصيص له بنفي ذلك، وهو الصادق
ومن صدَّق الرسول فيما (1) قاله فهو مؤمن ليس بكافر. فإذا قال قائل: الرسول (3 لا يغني عن بنته (2) 3) (3) ، ولا عمه، ولا عمته من الله /شيئاً، فكيف بمن دونهم؟، فهذا من أحسن الكلام وأصدقه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في دبر كل صلاة يقول (4) : "اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" (5) وكان يقول في رقيته: "أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك" (6) . وما يظنه المشركون (7) ، والغلاة من النصارى، وأشباههم أن الأنبياء والصالحين بعد موتهم، أو في حياتهم ينزلون المطر، ويدفعون العدو، ويشفون المرضى، ونحو ذلك من الحوادث، فهذا (8) معلوم البطلان، وهو شرك عظيم، كما تقدم بيانه بالأدلة والبراهين، وقد قال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ
تَكُنْ تَعْلَمُ} (1) ، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (2) ، وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِين} (3) ، وقال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} (4) فهذا المعنى ليس بكفر، بل هو صحيح. (6 وقد يكون في سياق أن الله هو المختص بكمال السمع والعلم، وأن غيره لا يبلغ مبلغه (5) وهذا أيضاً صحيح6) (6) ؛ ولهذا يقول المسلم لا ينفعني ولا يضرني إلا الله، ويقول: لا يعلم ما في نفسي إلا الله، ولا يسمع كلام العباد إلا الله، وأدلة هذا في القرآن كثيرة (7) ، كقوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء} (8) . فإذا كان هذا (9) يدَّعي أن ما يدل على تجريد التوحيد من هذه الألفاظ سوء عبارة في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك كفر، فسوء العبارة في حق الله أعظم
كفراً، كقولهم: إنه يستغاث بالمخلوق في كل ما يستغاث فيه بالخالق (1) ، فهذا يشعر أنه جعل المخلوق ندّاً للخالق، وما يفهم الشرك كان من سوء (2) العبارة، فيجب أن يكون كفراً يلزم هذا القائل، وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: "ما شاء الله وشئت، قال: "أجعلتني لله ندّاً، بل ما شاء الله وحده" (3) ، وقال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" (4) ، ومثل هذا كثير كقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} (5) ، فمن جعل الرسول (6) صلى الله عليه وسلم يطلب منه الناس ما يطلبونه من الله، فقد عصى الله ورسوله، وآذى الرسول، وأساء في حقه، وسلط عليه العامة على اختلاف أغراضهم: هذا يطلب منه الولد؛ وهذا يطلب [منه] (7) / جارية حسنة؛ وهذا يشتكي إليه (8) ظهور البدع، فنزلوا المخلوق منزلة الخالق، وطلبوا منه من جلب المنافع ودفع
المضار ما لا يقدر عليه إلا الله. فمن سلط الناس على الرسول صلى الله عليه وسلم يطلبون هذا كله منه، فهو من أعظم الناس إساءة إليه. ثم إنه إذا كان الكلام في توحيد الرب، ونفى خصائصه عما سواه لم يجز أن يقال: هذا سوء عبارة في حق من دون الله من الأنبياء والملائكة؛ فإن المقام أجل من ذلك، وكل ما سوى الله يتلاشى عند تجريد توحيده (1) ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان من أعظم الناس تقريراً لهذا، كما في الصحيحين من حديث الإفك: "لما نزلت براءة عائشة من السماء أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقالت لها أمها: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي" (2) ، وفي رواية: "نحمد الله ولا نحمدك" (3) ، فأقرها (4) النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الكلام الذي نفت به أن يحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن لا يحمد إلا الله؛ ولم
يقل أحد هذا سوء أدب عليه وسوء الأدب عليه كفر. قال البيهقي: حدثنا أبو عبد الله (1) الحافظ- وساق السند إلى حبان (2) صاحب ابن المبارك-قلت لعبد الله بن المبارك: قول عائشة: "بحمد الله لا بحمدك، إني لأستعظم هذا القول، فقال عبد الله: ولت الحمد (3) أهله"، وكذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بأسير فقال: "اللهم إني أتوب إليك، ولا أتوب إلى محمد"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عرف الحق لأهله" (4) . وأيما أبلغ؟ قول عائشة: "لا أحمد الرسول ولا أحمد إلا الله"، وقول (5) الأسير: "أتوب إلى الله لا إلى محمد"، وقول القائل: لا يستغاث بالرسول بل
بالله تعالى، أو (1) ما يُدْعى (2) الرسول وإنما يُدعى الله تعالى (3) ، ونحو ذلك؟ وهذا الرجل لا تمييز له في أقوال الناس، وبيان حقها من باطلها، ولا له معرفة بطرق الاستدلال فلا ذاكر (4) لكلام منقول، ولا مبين لمعنى مقبول (5) ، ولا أثر منقول (6) . العلم شيئان: إما نقل مصدق، وإما بحث محقق، وما سوى ذلك فهذيان مسروق، وكثير من كلام هؤلاء فهو (7) من الهذيان، وما يوجد فيه من نقل فمنه ما لا يميز صحيحه من فاسده، وفيه ما لا ينقله على وجهه، ومنه ما لا /يضعه (8) في غير موضعه، ولا يحقق جنس الأدلة حتى يميز بين ما يدل وما لا يدل، ولهذا كان أصول الفقه مقصودها معرفة الأدلة الشرعية، وقد قيل إن ما يفسد الناس نصف متكلم؛ ونصف فقيه، ونصف نحوي، ونصف طبيب، هذا يفسد الأديان (9) ، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد اللسان، وهذا يفسد الأبدان، لاسيما إذا خاض هذا في المسألة التي لم يسبقه إليها عالم، ولا هي من مسائل النزاع بين العلماء، فيختار أحد القولين؛ بل يهجم على ما يخالف دين الإسلام بالضرورة.
وقد علم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ (1) الاستغاثة، ولا بلفظ (2) الاستعانة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت، ولا إلى ميت ونحو ذلك، بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين لم يمكن تكفيرهم بذلك، (3 حتى يبين لهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم3) (3) ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لم يعرف أصل الإسلام إلا تفطن، وقال: هذا أصل دين الإسلام. وكان بعض الأكابر العارفين يقول: هذا أعظم من بينته لنا، لعلمه أن هذا أصل الدين، وكان هذا وأمثاله في ناحية أخرى، يدعون الأموات ويسألونهم، ويستجيرون بهم ويتضرعون إليهم، فيدعونهم دعاء المضطر، راجين قضاء حاجاتهم بدعائه أو بالدعاء به) (4) . وهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، وهو الظلم المذكور في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم} (5) . قالوا: "يا رسول الله، وأينا لم يظلم نفسه؟ قال: إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: إن الشرك لظلم عظيم" (6) وهذا الذنب العظيم الذي هو أعظم ذنب عصى الله به،
فمن فعله ولم يتب منه ارتفع الأمن والاهتداء في حقه؛ فلم يبق له أمن ولا اهتداء، وقد تظافرت نصوص الكتاب والسنة على النهي عنه، والوعيد عليه (1) بالنار. وقد تقدم من الأدلة على ذلك ما يكفي ويشفي لمن أراد الله هدايته، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور. ولنختم الجواب بآيتين عظيمتين: الأولى: قوله تعالى (2) : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوب مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز} (3) . حقيق على كل عبد أن يستمع/ لهذا المثل؛ ويتدبره حق تدبره، فإنه يقطع مواد الشرك من قبله. وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده وإعدام ما يضره، والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لا (4) تقدر على خلق ذباب، ولو اجتمعوا (5) كلهم على خلقه، فكيف ما هو أكبر منه؟ ولا يقدرون
على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئاً مما عليهم من طيب ونحوه، فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوان ولا على الانتصار منه، واسترجاع ما سبلهم. فلا أعجز من هذه الآلهة، ولا أضعف منها، فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله؟ وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله سبحانه وتعالى (1) في بطلان الشرك، وتجهيل أهله، وتقبيح عقولهم؛ وأن الشيطان قد تلاعب بهم مثل (2) تلاعب الصبيان بالكرة. كيف أعطوا الإلهية التي من بعض لوازم القدرة على جميع المقدورات، والإحاطة بجميع المعلومات، والغني عن جميع المخلوقات؟ وأن يعمدوا (3) إلى الرب في جميع الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإجابة الدعوات؟ فأعطوها صوراً وتماثيل تمتنع عليها القدرة على أقل مخلوقات الإله الحق، وأذلها، وأصغرها، وأحقرها، ولو اجتمعوا على الذباب، وتعاونوا عليه لدل ذلك على عجزهم، وانتفاء آلهتهم، ثم سوى بين العابد والمعبود في الضعف والعجز، بقوله: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوب} (4) قيل: الطالب العابد، والمطلوب المعبود، فهو عاجز متعلق بعاجز. فمن جعل هذا إلهاً مع القوي العزيز؛ فما قدره حق قدره، ولا عرفه حق معرفته، ولا عظمه حق تعظيمه) (5) انتهى.
وتأمل قول الله تعالى: {وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ. وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُون} (1) ، فرجع الأمر يوم القيامة إلى أن كل معبود ينكر عبادة من عبده، ويكذبه فيما قصده. فرحم الله هذا الشيخ فلقد أتى بما يشفي العليل، ويروي الغليل، ويهدي ببيانه وكشفه إلى سواء السبيل.
خاتمة
خاتمة تقدم في كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ما يكفي ويشفي في الرد على من غلا في الدين، وأشرك مع الله في ربوبيته وإلهيته، ونزَّل (1) المخلوق منزلة الخالق، والعبد منزلة المعبود، والمربوب منزلة الرب العظيم، الذي له الأمر كله، وله الحمد كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، فعظم هؤلاء المشركون (2) المخلوق بما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعظم به أحد غير الله، وسد الذرائع الموصلة إلى هذا الشرك بقوله صلى الله عليه وسلم لمن/ قال له: "أنت سيدنا، وابن سيدنا، وخيرنا، وابن خيرنا" قال: "قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي (3) أنزلني الله" (4) ، وقال: "لا تطروني كما أطرت
النصارى ابن مريم؛ إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" (1) ، وقال: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل" (2) وأمثال هذا في السنة كثير. وكان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس (3) عبودية لله، وخضوعاً، وتذللا، ومحبة، وكلما كان العبد أعظم محبة لله (4) ، وعبودية، وتذللاً فهو إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم أقرب، وبالعمل بالسنة أكمل.
فأبي هؤلاء المشركون الناقصون المنقوصون إلا الوقوع في الغلو الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقع في النصارى، ونهى عنه أمته بقوله: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" (1) . فصار في هؤلاء المجادلين في الدين شبه من النصارى في الغلو الذي نهى الله عنه أهل الكتاب بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّه} (2) [الآيات] (3) . وقوله تعالى (4) : {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} إلى قوله: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} (5) . وهذا في سياق النهي عن عبادة المسيح وأمه عليهما السلام، كما في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} (6) ، وقد تقدم في (7) هذا أن المعني (8) بهذا عيسى، وأمه، والعزير، والملائكة. (1) سبق تخريجه. (2) سورة النساء، الآية: 171وفي هامش (الأصل) زيادة قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا ... } الآية. (3) ما بين المعقوفتين إضافة من: "م" و"ش". (4) سقطت "تعالى": من "م" و"ش". (5) سورة المائدة، الآيتان: 75و 76، وسقطت: "قل"من النسخة (الأصل) . (6) سورة الإسراء، الآية: 56. (7) في "ش": "أن هذا". (8) في "م": "المعين".
ومقام الربوبية (1) والإلهية لله وحده لا يشركه فيه أحد من خلقه، وكل هذا هو الذي (2) دعت إليه الرسل، وأنزلت به الكتب. ومعلوم أن الدعاء والاستغاثة من أعظم العبادات؛ ولا يجادل فيها إلا مماحل مكابر معاند. إذا عرفت ذلك فاعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بدأ الإسلام غريباً (3) ، وسيعود غربياً كما بدأ، فطوبي للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس" (4) ، وهم طائفة من ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة، كما في الحديث، وستفترف هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة (5) ، وتقدم الحديث من أوله، وهم أهل السنة والجماعة وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان: "وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان" (6) .
وقد ذكر العلماء –رحمهم/ الله (1) – أن (2) غربة الإسلام استحكمت في القرن السادس وما بعده، حتى آل الأمر إلى أن ناساً (3) ممن يشار إليهم بالعلم والفهم، قد وضعوا تصانيف في جواز الشرك في العباد، وغلطوا في مسمى التوحيد، وظنوا أن الغاية في التوحيد هو ما أقر به مشركوا قريش والعرب ومن بعدهم، كلهم أقروا بهذا التوحيد الذي (4 هو توحيد الربوبية الذي4) (4) ظن من ظن أنه هو الغاية في التوحيد. إذا تبين أن الإسلام عاد غريباً كما بدأ، كما أخبر به الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، قلنا جواب ما تقدم عما (5) أدعاه (6) هذا العراقي من الإجماع على (7) الاستشفاع بالأموات والغائبين. فنقول: نعم (8) أجمع على هذا الشرك، وما هو أعظم منه، الهمج الرعاع، أتباع (9) كل ناعق، يميلون مع كل ريح (10) ، لم يستضيئوا بنور العلم
ولم يلجؤا إلى ركن وثيق، كما أخبر عنهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه (1) فيما رواه عنه كميل بن زياد وشبههم بالأنعام السائمة. فليس إجماع هؤلاء حجة، وليسوا من أهل الإجماع الذي يحتج به في الأحكام؛ لمخالفتهم (2) ما جاءت به الرسل من توحيد الله، وما بُعث (3) به خاتم النبيين محمداً صلى الله عليه وسلم من النهي من الشرك، وقتال أهله واستحلال دمائهم وأموالهم، (7 وخالفهم أتباع الرسل فعرفوا ما جهلوه (4) من التوحيد، وأنكروا ما وقعوا فيه من الشرك، وهم الفرقة الناجية، والطائفة التي لا تزال على الحق ظاهرة (5) ، وما أجتمع (6) عليه7) (7) [سلف] (8) [هذه] (9) الأمة وأئمتها من إنكار الشرك، ومعادات أهله، وقتالهم، فإجماع الرسل، وأتباعهم من سلف الأمة وأئمتها هو الإجماع الصحيح، وما خالفه فباطل لا يلتفت إليه، ولا يحتج به ولو لم يخالف هذا الإجماع الذي ادعاه هذا المفتري إلا مصادمة الوحيين، ومخالفته لما جاءت به الرسل من دين الله لكفى به بطلاناً. ويبطل أيضاً- (ما ادعاه من الإجماع) (10) -ببقاء الفرقة الناجية التي أخبر
النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تزال على الحق إلى قيام الساعة (1) ، فهم أتباع الرسل، وإجماعهم هو الحجة أيضاً وإن كانوا هو الأقلون عدداً، فهم الأعظمون قدراً (2) عند الله؛ وأما الهمج الرعاع الذين اشتدت بهم غربة الإسلام، الذين وقع فيهم من الشرك ما وقع (3) ، وإن كانوا الأكثر (4) عدداً فهم الأقلون قدراً عند الله؛ لظهور الشرك فيهم والبدع؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فطوبى للغرباء (5) /الذين يصلحون إذا فسد الناس" (6) ، فسماهم غرباء لقلتهم، وقلة أتباعهم على الحق، كثرة معاديهم، كما قال الشاطبي (7) . وهذا زمان الصبر من لك بالتي ... كقبض على جمر؟ فتنجو من البلاء فكم من جاهل اغتر بما عليه الهمج الرعاع، وظن أن كثرتهم تدل على صحة ما كانوا عليه من الشرك والبدع على اختلاف آرائهم ومذاهبهم، فالاحتجاج بهم، والاقتداء بهم يشبه ما ذكره الله تعالى (8) عن المشركين بقولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُون} (9) الآيتين.
فما احتج به المشركون من أعداء الرسل، احتج به هؤلاء على ما أحدثه الجاهلون، فما أشبه الليلة بالبارحة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القُذّة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" (1) ، وفي رواية: "شبراً بشبر وذراعاً بذراع"، وفي رواية: " [حتى] (2) لو كان فيهم من أتى (3) أمه علانية، لكان في أمتي من يفعل ذلك" (4) فوقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم،
وصار علماً من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم فإنه قال: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة؛ وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة". قالوا من (1) هي يا رسول الله؟ قال: "ما كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" (2) . وفي (3) الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما هلك من كان
قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم" (1) .
وهذا الذي ذكره هذا العراقي من أن الاستشفاع بالأموات مجمع عليه، ليس في شريعة أحد من الأنبياء جوازه، وأما شريعة النبي صلى الله عليه وسلم ففي الكتاب وفي السنة (1) من النهي عن ذلك، وأنه هو الشرك الذي كان يفعله أهل الجاهلية ومن قبلهم من الأمم المكذبة للرسل. ومما يدل على فساد هذا الإجماع الذي حكاه ما رواه الدارمي في مسنده: قال حدثنا سعيد (2) بن منصور حدثنا أبو عوانة عن بيان هو [ابن] (3) بشر الأحمسي عن قيس عن مرداس الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يذهب الصالحون أسلافاً؛ ويبقى حثالة كحثالة الشعير" (4) . وقد أخبر العلماء –رحمهم الله تعالى-كالصرصري- كما تقدم في شعره، وغيره من العلماء أن ذلك وقع في زمنهم، وهم كانوا في القرن السادس قبله وبعده: إن الصالحين مضوا، وذهبوا، وبقيت الحثالة التي اشتدت بها غربة الإسلام؛ وعاد المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والسنة بدعة، والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير؛ وهدم عليه الكبير؛ وهؤلاء هم الذين ذكر/ العراقي إجماعهم، وبهم اشتدت غربة الإسلام. وبهذا يحصل الجواب عما ذكره هذا العراقي: أن فلاناً وفلاناً شرحوا البردة، وهؤلاء كلهم ليسوا من أهل العلم، ولا من أهل السنة، وإن كان لهم درايات (5) في علم المعقول، فليسوا من أهله.
وقد أخطأ في هذا الأمر أناس لهم ذكاء ومصنفات، ظهر فيها خطؤهم، كالفخر الرازي، وأبي معشر البلخي، وابن الأخنائي، وابن البكري، والمفيد (2 محمد ابن النعمان ذكره (1) شيخ الإسلام2) (2) ، وقبلهم الغزالي وغيره من أكثر المتكلمين، كأبي بكر الباقلاني وإمام الحرمين والآمدي، وغيرهم من المتكلمين. وقد اشتدت بهم غربة الإسلام لإعراضهم عن الوحيين، كما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وما ذكروه في مصنفاتهم، وخالفوا أهل السنة في توحيد الأسماء والصفات، وأيضاً فإذا كان (3الخطاء في أمر3) (3) التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه قد أخطأ في معرفته من هو أفضل من هؤلاء المتأخرين، الذين هم حثالة الحثالة، فكيف يحتج بهم؟ وقد قال ابن عباس: "كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقال الأئمة كذلك، فلا حجة في قول أحد ولا فعله ممن يجوز عليه الخطأ، فكيف إذا تبين خطأه، ومخالفته للكتاب والسنة في هذا الأصل العظيم؟. فمن تتبع ما ذكره هذا العراقي لم يجد فيه كلمة تقوم بها حجة، بل ما ذكره مردود بصريح القرآن والسنة وما عليه سلف الأمة وأئمتها، وكل من خالف الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح-وهم الذين إجماعهم حجة –فقوله مردود عليه في أي مسألة كانت، فكيف إذا كان في أصل دين الإسلام الذي بعث الله به المرسلين؛ وأظهر براهينه في كتابه المبين، وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الصادق الأمين.
فما أشبه هذا المجادل المماحل بمن قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) ، وقال تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} (2) . فيا خيبة من أعرض عن كتاب الله وسنة رسوله، واتبع الأغلوطات والشطحات.
تتمة
تتمة قال أبو جعفر بن جرير –رحمه الله تعالى- في تفسير قوله الله (1) تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} (2) قال: (وهذا الذي وصاكم به ربكم أيها الناس في هاتين الآيتين، من قوله {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} (3) وأمركم بالوفاء به هو صراطه/يعني طريقه، ودينه الذي ارتضاه لعباده مستقيماً، يعني قويماً لا اعوجاج به عن الحق {فَاتَّبِعُوهُ} يقول (4) : فأعملوا به. واجعلوه لأنفسكم منهجاً (5) تسلكونه {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل} يعني لا تسلكوا طريقاً سواه، ولا تركبوا منهاجاً (6) غيره، ولا تتبعوا ديناً خلافه: من اليهودية والنصرانية والمجوسية، وعبادة الأوثان، وغير ذلك من الملل (7) ، فإنها بدع وضلالات {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه} [يقول] (8) : فتشتت بكم إن اتبعتم السبل المحدثة، التي ليست لله بسبل (9) ، ولا طرق ولا أديان.
{عَنْ سَبِيلِه} يعني: طريقه، ودينه الذي شرعه لكم، وارتضاه (1) ، وهو الإسلام الذي وصى به الأنبياء، وأمر به (2) الأمم قبلكم {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِه} يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصاكم به ربكم [من قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً] فَاتَّبِعُوهُ (3) وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل} [وصاكم به] (4) {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يقول: لتتقوا الله في أنفسكم فلا تهلكوها، وتحذروا (5) ربكم فيها. فلا تسخطوه [عليها] (6) ، فتحل بكم نقمته وعذابه. وذكر عن مجاهد: أن السبل هي البدع والشهوات، وذكره (7) عن ابن أبي نجيح، وعن ابن عباس: "ولا تتبعوا (8) الضلالات". ثم قال: حدثنا المثنى (9) حدثنا (10) الحماني (11) قال: حدثنا حماد عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله، يعني ابن مسعود قال: "خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا، فقال: "هذا سبيل الله"؛ ثم خط عن يمين ذلك الخط وعن شماله خطوطاً فقال: "هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها"، ثم قرأ هذه
الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه} (1) . وذكر بالإسناد عن ابن زيد قال: "سبيله: الإسلام، وصراطه الإسلام، نهاهم (2) أن يتبعوا السبل سواه، فتفرق بكم عن سبيله عن الإسلام". وبسنده أن رجلاً قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال: "تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في (3) أدناه وطرفه في الجنة؛ وعن يمينه جوادّ، وعن يساره جوادّ، وثَم رجال يدعون من مَرّ بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} الآية) انتهى (4) . فتأمل هذه الآيات، وما دلت عليه، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من اتباع السبل، والخروج بها عن الصراط المستقيم. ومن تدبر أحوال الأمة بعد القرون الثلاثة علم أن السبل تفرقت بالأكثر (5) من هذه الأمة وتشعبت بهم، حتى (6) إن منها ما وقع في القرن الأول والثاني والثالث، لكن (7) الإسلام في هذه الثلاثة أظهر؛ وأهل السنة والجماعة فيها
/أكثر؛ وهم للبدعة (1) أنكر، ولأهلها أهجر، كبدعة الخوارج والرافضة والجهمية، يعرف ذلك من له اطلاع على ما ذكره أهل السير والتاريخ وغيرهم من أهل الحديث والتفسير. فإذا كانت مبادئ هذه الأمور قد وقعت في القرن الثلاثة، ففي ما بعدها أعظم، كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون" (2) الحديث، والواقع يشهد لذلك، كما في حديث أنس: "لا يأتي
على الناس (1) زمان إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم" (2) . وقد علم ما آلت إليه (3) تلك السبل بكثير من الأمة، حتى عاد المعروف منكراً؛ والمنكر معروفاً، فنشأ (4) على ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير. وقد حفظ الله على الأمة دين نبيها محمد (5) صلى الله عليه وسلم، وشرعه الذي بُعث (6) به، بطائفة الحق، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد إخباره بما يقع من الأمة: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم (7) حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك" (8) .
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الحق لا يزال (1) في طائفة من ثلاثة وسبعين فرقة، كلها من هذه الأمة، وكل هذه الفرق قد وجدت، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من طرق معروفة، وكلها في النار إلا فرقة أهل السنة؛ وهي الفرقة الناجية، وذلك علم (2) من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، كما ترى ذلك في أكثر من ينتسب إلى الإسلام، وقد خرجوا من الإسلام رأساً، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- في هذا الضرب: "اتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح (3) -وفي لفظ مع كل صاح – لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤا إلى ركن وثيق" (4) أي من صاح بهم ودعاهم تبعوه، سواء دعاهم إلى هدى أو ضلال، فإنهم لا علم لهم بالذي يدعون إليه أحق هو أم باطل؟ فهم مستجيبون (5) ، وهؤلاء من أضر الخلق على الأديان، فإنهم الأكثرون عدداً الأقلون عند الله قدراً، وهم حطب كل فتنة؛ بهم توقد ويشب ضرامها، فإنها تعتزلها أولوا الدين ويتولاها الهمج الرعاع. قال (6) ابن القيم رحمه الله تعالى: (فما سلم من الأمة إلا من سلم له دينه، وقوى إيمانه ويقينه، من المتمسكين بالكتاب والسنة، المتبعين (7) للحق، الداعين إليه، وهم الأقلون
عدداً الأعظمون عند الله قدراً، فمن (1) كان كذلك فما أعطى أحد نعمة/ أعظم مما أعطى، فلا سلامة للعبد إلا بالعلم، والعمل به (2) ، وهو معرفة الهدى بدليله) . نسأل الله (3) الثبات والاستقامة على الإيمان الذي هو مركب الأمان، وعلى الإسلام الذي هو مركب السلامة، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب (4) . ولا يخفى أنه قد حدث في أواخر القرون المفضلة دول شرعوا في (5) الدين ما لم يأذن به الله وألحدوا، وبدلوا التوحيد بالشرك، والسنة بالبدعة. فمنها دولة الروافض في المشرق، ودولة القرامطة، ودولة بني عبيد القداح في مصر والمغرب وظهرت فيها الإسماعيلية والنصيرية (6) . وكل هذه الدول أظهروا من الشرك ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، كما بيَّن ذلك أهل السير والتاريخ (7) ، من علماء المسلمين، وظهرت فيها الفلاسفة، وألقوا من الشبهات ما تلقوه عن الصائبة والمشركين، فاشتدت غربة الإسلام بما أظهره هؤلاء من البدع والشرك.
وأما أهل الكلام ممن ينتسب إلى السنة، فاختلفت أقوالهم، وتشتت آراؤهم وصنفوا كتب الكلام، وفيها من الانحراف عن التوحيد ما لا يخفى على من له معرفة بالسنة، فاستحكمت الغربة، وبنيت المساجد على القبور، وحدث من البدع والشرك (1) بأهل القبور (2) ما لا يخفى على من له عقل ودين، واتخذوا ذلك ديناً وقربة، وزعم أكثر هؤلاء أن الغلو في الأنبياء والصالحين وعبادتهم هو الدين الذي يحبه الله ويرضاه، واشتد تكفيرهم (3) على من دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وترك ما كانوا عليه من الشرك الذي لا يغفره الله. كل (4) العداوة قد (5) ترجى مودتها ... إلا عداوة من عاداك في الدين وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هذه الأمة تأخذ مأخذ القرون (6) قبلها، شبراً بشبرٍ، وذراعاً بذراع، وأخبر أنهم فارس والروم، وفي حديث آخر: "لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة (7) ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن". وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما قدمنا الإشارة إليه وأعظم، وقد أخبر
علماء [أهل] (1) السنة من المتقدمين والمتوسطين أن هذه الأمور التي أخبر بها الصادق المصدوق قد وقعت في تلك القرون المتقدمة، وقد قال عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: وهل أفسد الدين إلا الملو ... ك وأحبار سوء ورهبانها وباعوا النفوس ولم يربحوا ... /ولم يغل في البيع أثمانها لقد رتع القوم في جيفة ... يبين (2) لذي العقل (3) إنتانها وفي حديث علي بن أبي طالب المتقدم ما يشير إلى ذلك (4) . وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له (5) : "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث" (6) . وقد تقدم من (7) كلام شيخ الإسلام –رحمه الله تعالى- (8) في حقيقة الشفاعة، ونرجع إلى ما ذكره مبسوطاً من (9) كتاب الإيمان فإنه قال: "قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ. وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَه} (1) ، فنفى عما سواه كل ما يتعلق به المشركون. فنفى أن يكون لغيره ملك، أو قسط من (2) الملك، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبيَّن أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال تعالى (3) : {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (4) ، وقال عن الملائكة: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (5) ،وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (6) فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن. وأما ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكون، فأخبر أنه: "يأتي فيسجد لربه ويحمده" (7) لا يبدأ بالشفاعة أولاً، فإذا سجد حمد ربه بمحامد يفتحها عليه، [ثم] (8) يقال له: أي محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع وسل تعطه، واشفع تشفع، فيقول: أي رب أمتي فيحد له حداً، فيدخلهم الجنة"، وكذلك في الثانية، وكذلك في الثالثة، وقال له (9) أبو هريرة: "من أسعد الناس بشفاعتك؛ يوم القيامة؟ قال: "من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه" فتلك الشفاعة هي لأهل
التوحيد والإخلاص (1) ، بإذن الله ليست لمن أشرك بالله ولا تكون إلا بإذن الله. وحقيقته: أن الله هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء (2) الشافع الذي أذن له أن يشفع؛ ليكرمه وينال المقام المحمود الذي يغبطه به (3) الأولون والآخرون صلى الله عليه وسلم، كما كان في الدنيا يستسقى لهم، ويدعو لهم، وتلك شفاعة منه لهم، فكان الله يجيب دعاءه وشفاعته. وإذا كان كذلك فالظلم/ ثلاثة أنواع، فالظلم الذي هو شرك لا شفاعة فيه، وظلم الناس بعضهم بعضاً لابد فيه من إعطاء المظلوم حقه، لا يسقط حق المظلوم لا بشفاعة ولا بغيرها، ولكن قد يعطى (4) المظلوم من (5) الظالم، كما قد يغفر الظال (6) نفسه بالشفاعة. فالظالم المطلق ما له من شفيع مطاع، وأما الموحد فلم يكن ظالماً مطلقاً، بل هو موحد مع ظلمه لنفسه، وهذا إنما نفعه في الحقيقة إخلاصه لله، فبه (7) صار من أهل الشفاعة. ومقصود القرآن بنفي الشفاعة (8) : نفي الشرك، وهو أن أحداً لا يعبد إلا الله، ولا يدعو ولا يسأل غيره، ولا يتوكل على غيره؛ لا في شفاعة ولا غيرها، فليس لأحد أن يتوكل على أحد في أن يرزقه، وإن كان الله يأتيه برزقه بأسباب
يتوكل على غير الله في أن يغفر له، ويرحمه في الآخرة، وإن كان الله يغفر له، ويرحمه بأسباب من شفاعة وغيرها. فالشفاعة (1) التي نفاها القرآن مطلقاً (2) : ما كان فيها شرك (4 وتلك منفية مطلقاً، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع (3) 4) (4) وتلك قد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص، فهي من التوحيد، ومستحقها أهل التوحيد". إلى أن قال –رحمه الله – (5) في قوله تعالى: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِين} (6) : (لم (7) يريدوا بهم أنهم جعلوهم مساوين لله من كل وجه، فإن هذا لم يقله أحد من بني آدم؛ ولا نقل عن قوم من المكذبين، وكذلك مشركوا العرب كانوا متفقين على أن أربابهم لم تشارك الله في خلق السموات والأرض، بل كانوا مقرين بأن الله وحده خلق السموات والأرض وما بينهما، كما أخبر الله عنهم بذلك (8) في غير (9) آية، كقوله (10) [تعالى] (11) : {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (1) . اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} (2) . وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون} (3) الآيات. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} (4) وكذلك قوله: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (5) . أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ (6) مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ/ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ. أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّه} (7) وهذا استفهام إنكار، وهم مقرون بأنه لم (8) يفعل هذا إله أخر مع الله. ومن قال من المفسرين إن المراد: هل مع الله إله آخر، فقد غلط، فإنهم كانوا يجعلون مع الله آلهة أخرى، كما قال تعالى: {أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ
آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ} (1) . وقال تعالى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} (2) . وقال تعالى عنهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَاب} (3) . وكانوا مقرين (4) بأن آلهتهم لم تشارك (5) الله في خلق السموات والأرض؛ ولا خلق شيء بل كانوا يتخذونهم شفعاء ووسائط كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ (6) اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ (7) وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (8) وقال [عن] (9) صاحب يس: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ} (10) ، وقال تعالى (11) : {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون} (12) ، وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ
دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ؟} (1)) انتهى كلامه رحمه الله تعالى. وقد أتى على كشف كل شبهة يوردها مبطل، فيما ينافي التوحيد والإخلاص، كما قال تعالى: {أَقِمْ (2) وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ.وَاتَّبِعْ (3) مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ/ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (4) . وبهذه الآيات العظيمة حصل الختام، فلله الحمد لا نحصي يناء عليه والله أسأل أن يجعل ما كتبناه من هذا الرد وغيره خالصاً لوجهه الكريم، موجباً للفوز بجنات النعيم، (5 وصلى الله على سيدنا المرسلين، وإمام المتقين، وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً (5) .
فهرس الأحاديث
فهرس الأحاديث الحديث الصفحة "أجعلتني لله نداً" ... 110 "اخسأ فلن تعدو" ... 115 "إذا تحيرتم بالأمور ... 116 "إذا سألت ... "... 87 "إذا سألتم الله ... "... 215 "إذا مات ابن آدم ... "... 106 "اذهب البأس ... "... 325 "ارفع رأسك ... "... 176 "أسألك وأتوجه إليك ... "... 216 "الإسلام ... "... 69 "أعوذ بعزة الله وقدرته ... "... 308 "أعوذ بكلمات الله التامات ... "... 48، 306، 307 "افترقت اليهود على ... "... 338 "اللهم ارزق ثعلبة ... "... 128 "اللهم إنا كنا إذا ... "... 55، 159 "اللهم إني أتوجه ... "... 216 "اللهم إني أسألك ... "... 92، 214 "اللهم الرفيق الأعلى ... "... 163 "اللهم لا تجعل قبري عيداً ... "... 206 "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد ... "... 163، 208، 210
الحديث الصفحة "اللهم لا مانع لما ... "... 325 "ألا أبعثك على ما بعثني ... "... 312 "إن أحدكم ليسألني المسألة ... "... 275 "أن تسلم فلبك ... "... 69 "إن الله وكل بقبري ... "... 196 "إنما أخاف على أمتي ... "... 95 "إنما جعل السعي ... "... 300 "أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ... "... 209 "إن من أشرار الناس ... "... 208 "إنما هلك من كان قبلكم ... "... 302، 343 "إنما هو الشرك ... "... 331 "إنه كان في الأمم قبلكم محدثون ... "... 112 "إنه يستغاث بي ... "... 162 "أنهلك وفينا الصالحون ... "... 359 "إني أبرأ إلى الله ... "... 206 "أولئك إذا مات فيهم ... "... 205، 223، 264، 312 "إياكم والغلو ... "... 222 "بدأ الإسلام غريباً ... "... 178 "حتى لو كان فيهم ... "... 178، 342 "الحج عرفة ... "... 254 "حكاية المنصور مع الإمام مالك" ... 236 خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ... "... 352 خمس لا يعلمها إلا الله ... "... 228 "خير أمتي القرن الذي ... "... 121
الحديث الصفحة "خير القرون ... "... 354 "الدعاء سلاح المؤمن ... "... 77 "الدعاء مخ العبادة ... "... 71، 254 "الدعاء هو العبادة ... "... 65، 214 "ذلك عند أوان ذهاب العلم ... "... 189 "الذين يصلحون إذا فسد ... "... 190 "ربنا آتنا في الدنيا حسنة ... "... 299 "السلام عليكم دار قوم ... "... 197 "صلاة في مسجدي هذا ... "... "عرف الحق لأهله ... "... 329 "علمكم نبيكم كل شيء ... "... 164 "عليكم بسنتي ... "... 142 "العلماء ورثة الأنبياء ... "... 171 "فإن حق الله على العباد ... "... 72 "قصة اشتكاء البعير ... "... 236 "قولوا بقولكم. الركنين."كان يدعو بين ... "... 300 "كان يعلم أصحابه ... "... 196 "كان يقرأ ... "... 145 "كان يقول بين الركنين ... "... 299 "كلمة حق أريد بها ... "... 293 "كمل من الرجال ... "... 324 "لا إله إلا الله وحده ... "... 267 "لا أتعين أحدكم ... "... 282
الحديث الصفحة "لا تتخذوا قبري عيداً ... "... 206 "لا تجلسوا على القبور ... "... 298 "لا تزال طائفة من أمتي ... "... 341 "لا تسألوا الناس شيئاً ... "... 318 "لا تطروني كما أطرت ... "... 163، 220 "لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ... "... 110 "لا تنسانا يا أخي من دعائك ... "... 63 "لا عقر في الإسلام ... "... 301 "لتتبعن سنن من ... "... 178 "لعنة الله على اليهود والنصارى ... "... 179، 205، 263 "لكل نبي دعوة ... "... 100 "ليدع كل رجل منكم ... "... 217 "لما أذنب آدم ... "... 236 "لما فتحنا تستر ... "... 118 "لما نزلت براءة عائشة ... "... 328 "ليس شيء أكرم على ... "... 255 "ما من رجل يسلم ... "... 195 "ما من عبد يدعو ... "... 126 "معاذ الله أن ... "... 170 "من أسعد الناس ... "... 176 من حج ولم يزرني ... "... 200 "من حلف بغير الله ... "... 327 من دعى إلى هدى ... "... 139، 313 "من زارني بعد مماتي ... "... 199
الحديث الصفحة "من زارني وزار أبي ... "... 199 "من قال لا إله إلا الله ... "... 176 "من لقي الله لا يشرك ... "... 47 "من لم يسأل الله ... "... 77، 255 "من مات وهو يدعو ... "... 47 "من نزل منزلاً ... "... 48 "نحمد الله ولا نحمدك ... "... 328 "هذه أسماء رجال ... "... 225 "هم الذين لا يسترقون ... "... 319 "وحتى تعبد فئام ... "... 338 "يا أخي لا تنسنا ... "... 63 "يا رسول الله ربنا ... "... 214 "يا فاطمة بنت محمد ... "... 283، 324 "يا معاذ أتدري ... "... 72 "يذهب الصالحون ... "... 347 "يوشك أن يأتي على ... "... 189
فهرس الموضوعات
فهرس الموضوعات الموضوع الصفحة المقدمة ... 5 تحقيق نسبة الكتاب إلى المؤلف ... 11 طبعات الكتاب ... 13 الملحوظات على طبعة الكتاب ... 15 أمثلة السقط ... 15 أمثلة التحريف ... 16 أمثلة الزيادة ... 17 وصف النسخ الخطية ... 18 منهج التحقيق ... 21 ترجمة المؤلف ... 25 ابن جرجيس وموقف أئمة الدعوة السلفية منه ... 27 نماذج مصورة للنسخ الخطية ... 29 نص الكتاب ... 33 مقدمة المؤلف ... 45 إبطال ما ادعاه من أنه على معتقد الإمام أحمد وابن تيمية وابن القيم ... 46 زمن حدوث الاعتقادات في الأموات ... 48 كفر من جعل بينه وبين الله وسائط ... 49 مروق المنتسب إلى الإسلام والسنة بسبب الغلو ... 51 دعاء العبادة ودعاء المسألة ... 52 تفسير قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَق} ... 53
الموضوع الصفحة الزيارة البدعية ... 54 استسقاء عمر بالعباس –رضي الله عنهما ... 55 جماع الدين ... 55 حال أهل الخلوات من الصوفية ... 56 منزلة الشرك والشرك عند الله ... 58 إبطال ما استدل به العراقي على جواز دعاء الموتى والغائبين يقول سليمان –عليه السلام- ... 62 التوسل بذات أحد من خلقه ... 63 بيان جهل العراقي ... 67 فصل ... 69 إبطال ما استدل به العراقي على أن الطلب والسؤال الذي يصرف لغير الله نداء وليس دعاء ... 70 ترادف النداء والدعاء ... 72 إبطال ما زعمه العراقي من أن طلبه المسلمين من غير الله إنما هي من باب التسبب ... 74 مناقشة العراقي في قوله: (إن أهل السنة لا يكفرون المعتزلة) ... 78 سبب حدوث البدع في هذه الأمة ... 79 إبطال ما زعمه العراقي من أن أهل الكرامات حالهم في الممات كحالهم في الحياة ... 80 حقيقة أمر العراقي ومن على شاكلته ... 82 لا تحصل الشفاعة إلا بشروط ... 84 الاستعانة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك ... 88 تفسير قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِه} ... 91 إبطال ماادعاه النحرفون من أن الوسيلة هي التوسل إلى الله بذات أحد ...
الموضوع الصفحة من خلقه ... 93 غاية ما يستدل به العراقي ... 94 أدلة الشرع المتفق عليها ... 96 تعظيم الأنبياء والصالحين إنما يكون بمتابعة أمرهم ... 99 أنواع الشرك الأكبر ... 103 كلام ابن عبد الهادي في المراد من المبالغة في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ... 104 النقل من الفتاوى البزازية ... 104 كلام صنع الله الحلبي فيمن يستغيث بأصحاب القبور ... 104 معنى الكرامة ... 109 وقوع الكرامة للمفضول دون الفاضل، وبيان المحدثين ... 112 بيان بطلان حديث إذا تحيرتم بالأمور ... 116 الأمر الأول ... 117 الأمر الثاني ... 117 الفاصل بين اختلاف المتأخرين ... 121 بطلان الحكاية المنسوبة إلى الشافعي ... 122 الإجابة عن الحكايات المنسوبة ... 122 الجواب المجمل ... 123 الجواب المفصل ... 125 الأسباب المشروعة في حصول المطالب المباحة أو المستحبة ... 127 بيان نوعي الشرك ... 132 قطع أثر الشفاعة بدون إذن الله ... 133 حكم العكوف عند القبر والمجاورة عنده ... 137 تتبع آثار الأنبياء لم يكن من هدي السلف ... 141 ما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه الصحابة ... 141
الموضوع الصفحة كلام ابن القيم في بيان التوحيد وتحقيقه ... 144 أساس التوحيد العلمي ... 145 أساس التوحيد العملي ... 145 تلازم الشرك والتعطيل ... 146 حال داود العراقي ... 147 الآية التي أخذت إلى المشركين مجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك ... 149 الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق ... 153 إبطال ما زعمه العراقي من أن طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته مجمع عليه ... 154 الإجماع إنما يكون على ما يحبه الله ورسوله ... 156 الوجوه الدالة على بطلان الإجماع الذي ذكره العراقي ... 157 الوجه الأول ... 157 الوجه الثاني ... 159 حماية النبي صلى الله عليه وسلم لجانب التوحيد ... 161 الوجه الثالث ... 163 الوجه الرابع ... 164 الإجماع الصحيح الذي خالفه العراقي ... 165 أصل دين الإسلام ... 166 جواب شيخ الإسلام ابن تيمية عمن قال: لابد لنا من واسطة بيننا وبين الله ... 168 حقيقة الشفاعة ... 176 كلام ابن القيم حول حديث أبي هريرة في الشفاعة ... 176 الأسباب التي تناول بها الشفاعة ... 176 مشابهة هذه الأمة لأهل الكتاب ... 179 حال الداعي مع المدعو ... 183
الموضوع الصفحة حكم الشرك بأرباب القبور والغائبين ... 185 تعريف "الإله" ... 185 أعظم الأسباب التي توقع في الشرك ... 186 كلام ابن القيم في بيان حال عبَّاد القبور وأهلها ... 186 كلام العلماء حول الآيتين: 22، و 23 من سورة سبأ ... 188 لم يكن من هدي السلف الإتيان إلى القبور لأجل الدعاء له ... 191 اتفاق السلف على أنه لا يستقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم عند الدعاء واختلفوا في السلام ... 193 حكاية العتبي لا يثبت بها حكم شرعي ... 194 المقصود بزيارة القبور الدعاء لأهلها لا الإقسام بهم على الله ... 196 فصل: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في زيارة قبر مخصوص، والأحاديث الواردة في ذلك كلها موضوعة ... 199 جميع الرسل جعلهم الله وسائط في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده ... 204 لم يكن من هدي السلف سؤال الله بالميت والإقسام على الله به والدعاء عنه ... 205 الأحاديث الدالة على النهي من اتخاذ القبور مساجد ... 207 علة كراهية الصلاة في المقبرة ... 209 النهي عن الإقسام بالمخلوق ... 213 تنازع أهل العلم في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ... 214 تضمن الدعاء لنوعين ... 215 توجيه حديث الأعمى "اللهم إني أسألك.." ... 216 لفظ التوسل بالشخص فيه إجمال واشتراك ... 217 سؤال الميت والغائب والاستشفاع به إلى الله هو من دين المشركين ... 219 النهي عن الغلو في الدين ... 222
الموضوع الصفحة العلة التي لأجلها نهى الشارع صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور ... 223 الصلاة عند القبور للتبرك بها عين المحادة لله وللرسول ... 224 ما يجري عند المشاهد من جنس ما يجري عند الأصنام ... 227 مضمون أبيات البردة ... 229 حال المشركين مع الداعي إلى توحيد الله عز وجل ... 230 حال الأحاديث التي يعتمد عليها عبَّاد القبور ... 232 دخول الخطأ على من جعل الاستغاثة بكل ميت وصالح جائزة ... 233 طريقة أهل البدع الجمع بين الجهل والظلم ... 234 الجواب عن توسل آدم، وحكاية المنصور، واشتكاء البعير وفتح الكوة ... 236 قياس زيارة الميت على زيارة الفقير للغني من أعظم الباطل ... 239 الاستشهاد بعدد من ألفاظ النونية ... 242 اشتمال ما سود به ابن جرجيس في معارضته للحق على أمور ... 247 موقف أهل العلم من القياس إذا خالف نصّاً أو ظاهراً من كتاب الله ... 249 ما أورده العراقي معارض للقرآن من أوله إلى آخره ... 250 أسباب حصول شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ... 251 بيان أن مدلول الدعاء هو السؤال والطلب ... 253 بيان معنى الإسلام كما ذكره ذلك شيخ الإسلام ... 256 تجويز العراقي الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته من المفاسد العظيمة ... 258 حال أهل مصر مع قبر السَّيد البدوي، وذكر حكايات عنه ... 259 حال أهل الشام مع قبر ابن عربي الاتحادي ... 260 حال أهل العراقي والمغرب مع قبر الجيلاني ... 261 منزلة عبد القادر الجيلاني عند الحنابلة ... 262 الرد على ادعاء ابن جرجيس من أن هذا الشرك مجمع على جوازه ... 266 فصل: موقف الشيخ ابن تيمية من البدع لما حضر مصر ... 269
الموضوع الصفحة تعاطي الأسباب لا يكون حجة على جواز الاستغاثة بالميت أو الغائب وبيان ذلك بمقدمتين ... 270 بيان ما روى عن بعضهم قوله: (قبر معروف الترياق المجرب) ... 272 قول القائل اللهم إني أسألك بفلان أو بحقه أو بجاهه لم ينقل عن السلف ... 274 نفي العبادة عن الأعلى لينفيه عن الأدنى بطريق الأولى ... 276 الشرك مستلزم لحبوط العمل ... 279 الاستغاثة المنفية نوعان ... 284 تخصيص الرسول والملائكة بنفي لا يعني منه طرح رتبتهم ... 284 تنازع أهل العلم في انعقاد القسم بالنبي صلى الله عليه وسلم ... 287 طريقة أهل البدع في معاملة خصومهم، وطريقة أهل السنة ... 290 بيان بطلان قول من يقول إن الاستغاثة به بعد موته ثابتة بثبوتها في حياته ... 291 المقام الأول ... 294 التوسل الذي ينفع صاحبه من وجهين ... 295 المقام الثاني ... 298 أحق البقاع بذكر الله ... 301 القرآن نهى عن دعاء الميت وسؤاله بلفظ الاستغاثة ... 304 معنى الاستغاثة وبيان أنها لا يجوز للمخلوق ... 306 الأمور الدالة على أن المشركين الغلاة هم الذين بخسوا الرسل ... 313 عبَّاد القبور مآل أمرهم التسوية بين الأنبياء والكفار ... 316 المستغيث بغير الله مشرك بنص الكتاب ... 320 توسل الصحابة بالنبي إنما هو بدعائه وشفاعته ... 322 إخلاص التوحيد ليس فيه تنقص للأنبياء ... 328 ختم الجواب بتفسير آيتين من سورة الحج 73، 74 ... 332
الموضوع الصفحة خاتمة في النهي عن الغلو في الصالحين ... 335 بطلان ما ادعاه العراقي من الإجماع على جواز الاستشفاع بالأموات والغائبين ... 339 كل من شرح البردة ليس من أهل العلم ولا من أهل السنة ... 347 تتمة في وجوب اتباع السنة وبيان أهميتها ... 351 بقاء الطائفة الناجية المنصورة ... 355 حقيقة الشفاعة ومقصود القرآن بنفيها ... 359