كشف شبهات الصوفية

شحاتة صقر

جميع الحقوق محفوظة رقم الإيداع:16433/ 2006 الناشر: مكتبة دار العلوم البحيرة ـ أبو حمص ـ حي الزهور ت 0452569826ـ0129732131

مقدمة

مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاالله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}. أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. فهذا كشف لبعض الشبهات التي يثيرها الصوفية للاستدلال على البدع التي نسبوها للإسلام ـ دين التوحيد ـ والإسلام منها براء. وقد نُقِلَتْ الردود من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام محمد بن عبد الوهاب، والشيخ الألباني ـ خاصةً كتابَيْه: (التوسل، أنواعه وأحكامه) و (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد)،ومن كتب الشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين ـ رحمهم الله جميعًا ـ ومن كتب ومقالات لآخرين. واللهَ نسأل أن ينفع المسلمين بهذه الورقات وأن يرزقنا الإخلاص في السر والعلن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه ـ سيدنا محمد ـ وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. شحاتة محمد صقر [email protected]

هل تعلم أيها الصوفي؟!

هل تعلم أيها الصوفي؟! 1 - أنك تنسب إلى لبس الصوف، وليس إلى أهل الصفة، ولا الصف الأول، ولا الصفاء، لأن اللغة لا تجيز ذلك أبدًا؟ فهلا تسميت بالاسم الذي سماك به ربك؟ {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ}. (الحج:78) 2 - هل تعلم أنك تدين الله بشيء حادث في الدين؟ إذ الصوفية من الأمور المحدثة، حيث لم تظهر إلا في نهاية القرن الثاني أو بداية القرن الثالث الهجري، وقد حذر رسولك - صلى الله عليه وآله وسلم - من البدع المحدثات. 3 - هل تعلم أن من حق الله - عز وجل - عليك أن تعبده ولا تشرك معه غيره، ومن حقك عليه إن عبدته ولم تشرك معه غيره أن يدخلك الجنة؟ وهل علمت أن الدعاء والاستغاثة بذوات الأحياء أو الأموات، وطلبك للحاجات التي لا يقدر عليها إلا الله، نحو طلب الولد، والمغفرة، ونحوهما، من باب الشرك الأكبر الذي يخلد صاحبه في النار، والمبطل لجميع الأعمال، المانع من شفاعة سيد الأبرار - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ (¬1). 4 - هل تعلم أن التوسل المشروع له ثلاث وسائل، وما سواها توسل ممنوع؟ والوسائل المشروعة هي: أ- التوسل إلى الله - عز وجل - بأي اسم من أسمائه الحسنى، وبأي صفة من صفاته العلا، نحو: يا رب، يا حي، يا قيوم. ب- التوسل بالأعمال الصالحة، كتوسل الثلاثة الذين دخلوا الغار فانسد عليهم، فتوسل كل منهم بصالح عمله، ففرَّج الله عنهم كما أخبر الصادق المصدوق - صلى الله عليه وآله وسلم -. ¬

_ (¬1) تنبيه: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «القول قد يكون كفرًا فيطلق القول بتكفير صاحبه، ويقال: مَن قال كذا فهو كافر، لكن الشخص المعين الذى قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التى يكفر تاركها». اهـ من (مجموع الفتاوى23/ 345).

جـ- طلب الدعاء من الحي الحاضر، نحو توسل الأعمى بدعاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، كما جاء في حديث عثمان بن أبي حنيف، حيث طلب الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - من الأعمى أن يتوضأ ويصلي ركعتين، ويسأل الله أن يقبل شفاعة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيه، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فرد الله بصره. وكاستسقاء عمر بدعاء العباس - رضي الله عنهما -، ولا يظنن خاطئ أن عمر استسقى بذات العباس، إذ لو كان الاستسقاء بذاته لاستسقى عمر بذات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهو أفضل من العباس ومن جميع الخلق، بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وآله وسلم -. 5 - هل تعلم أن رسولك - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ»؟ (رواه البخاري). والإطراء هو المبالغة في المدح والكذب فيه، ومن ذلك اعتقاد معظم الصوفية: أ- أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - خُلق من نور، وجميع الأنبياء من لدن آدم خلقوا من نوره، وهذا منافٍ لما أخبر به الله - عز وجل - أنه من بني آدم، وقد خلق الله آدم - عليه السلام - من طين. ب- أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - حي في قبره كحياته قبل موته، يستقبل الزائرين ويصافحهم ونحو ذلك، وقد قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}، وقال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}. مع يقيننا الصادق أن روحه - صلى الله عليه وآله وسلم - في أعلى الجنان، وأن الله حرَّم على الأرض أجساد الأنبياء، وأن الحياة البرزخية تختلف عن الحياة الدنيا وعن الحياة الآخرة. جـ- اعتقاد كثير من الصوفية أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يُرى يقظة بعد أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، بل من الصوفية من يزعم أنه يكلم الله من غير واسطة، وأن بعض الطرق خرج مرسوم إنشائها بأمر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأنهم أخذوا عنه بعض الصلوات والأذكار، وأنه يحضر الموالد، والبعض إذا جلسوا لذكر الجمعة فرشوا ملاءة، وزعموا أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يجلس في وسطها، وخلفاؤه الراشدون في أركانه.

هذا الاعتقاد ـ مع ما فيه من المخالفة ـ مخالفٌ لما كان عليه السلف الصالح من لدن الصحابة ومن بعدهم، حيث لم يزعم أحد منهم أنه اجتمع برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مع حاجتهم الماسة لذلك، ومنزلتهم العالية عنده - صلى الله عليه وآله وسلم -. 6 - هل تعلم أن كل الأوراد، والأذكار، والصلوات، والاحتفالات، والموالد، والحوليات التي لم يتعبد بها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وصحبه الكرام ربهم، والتي لم تكن معروفة لديهم ـ هل تعلم أنها مردودة عليك بحكم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأن العبادات توقيفية، لا يجوز الزيادة عليها ولا النقصان؟ قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (رواه البخاري ومسلم). وقال: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد». (رواه مسلم). لماذا تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ لماذا تترك الأذكار والصلوات التي خرجت من فم من لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وآله وسلم -، وتتمسك بأوراد وأذكار وضعها غيره من البشر؟ قال الإمام النووي - رحمه الله - بعد أن ذكر صيغ الصلاة على الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وصِفَتَها في كتابه (الأذكار1/ 164): «وأما ما قاله أصحابنا وابن أبي زيد المالكي من استحباب زيادة على ذلك (وارحم محمدًا وآل محمد)، فهذه بدعة لا أصل لها، وقد بالغ الإمام أبوبكر بن العربي المالكي في كتابه (شرح الترمذي) في إنكار ذلك، وتخطئة ابن أبي زيد، وتجهيل فاعله، قال: لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - علمنا كيفية الصلاة عليه - صلى الله عليه وآله وسلم -، فالزيادة على ذلك استقصار لقوله، واستدراك عليه - صلى الله عليه وآله وسلم -» 7 - هل تعلم أيها الصوفي أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإنما الطاعة في المعروف؟ كما أخبر صاحب الشريعة، وأن ما يشيعه بعض الصوفية: «لا تعترض فتطرد»، وزعم البعض أنه لو أمره شيخه بدخول النار لدخلها، ولو أمره بالكفر لكفر، لا أساس له في شرع المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم -.

8 - هل تعلم أن ما لم يكن في ذاك اليوم دينًا فلن يكون اليوم دينًا؟ كما قال الإمام مالك في تفسير قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (المائدة:3)، فالدين تم وكمُل. 9 - هل تعلم أن تقسيم الصوفية العلم إلى علم شريعة وحقيقة، أوعلم ظاهر وباطن، أوما يعرف بـ (العلم اللدني)، لا أساس له من الصحة؟ وأن هذا التقسيم ما أنزل الله به من سلطان، ولم يؤْثَر عن عَلَم من الأعلام، وإنما اخترعه الشيطان على أوليائه ليلبس عليهم، وليتمكن من إضلالهم؟ حيث زعموا أن العلم اللدني يلقن تلقينًا، ولا يحتاج إلى تعليم، ومعلوم من دين الله أن العلم بالتعلم، ولو كان العلم بالتلقين لناله سيد البرية - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولكن علَّمه جبريل - عليه السلام - عندما قال له: «اقرأ»، قال: «ما أنا بقارئ .. »، قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1)، الحديث. عمدتهم في هذا التقسيم قصة الخضر مع موسى سدد خطاكم، وقوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} (الكهف:65)، وليس في ذلك أدنى دليل. والقول الراجح أن الخضر نبي من الأنبياء، وأن الله أوحى إليه بأمور لم يوحها لكليمه موسى، ولهذا قال في نهاية القصة: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} (الكهف:82). والحق كذلك أن الخضر مات، ولو كتب الله الخلود لأحد لكتبه لخاتم الأنبياء والرسل: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (الأنبياء:34). 10 - هل تعلم أن الولاية ليست بالتوارث، وإنما هي بالإيمان والتقوى؟ قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} (يونس:63).فكل مؤمن تقي فهو ولي لله - عز وجل -، وطالما أن الناس يتفاوتون في إيمانهم وتقواهم فإنهم لا شك متفاوتون في ولايتهم. 11 - هل تعلم أنه ليس كل خارق كرامة؟ إذ الخوارق منها ما هو من باب الشيطان والاستدراج، ومن السحر، ولهذا فإن ضابط الكرامة الأساسي هو الاستقامة على دين الله، ولهذا ورد عن السلف أن أكبر كرامة هي الاستقامة.

ورحم الله الإمام الشافعي - رحمه الله - عندما قال: «إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء أويطير في الهواء، فلا تصدقوه ولا تغتروا به حتى تعرضوه على كتاب الله، فإن الشيطان يطير من المشرق إلى المغرب». 12 - هل تعلم كذلك أن العلماء هم الأولياء؟ ولهذا قال الإمامان أبو حنيفة والشافعي: «إن لم يكن العلماء هم الأولياء فليس لله ولي». ولهذا فإن الاشتغال بالعلم الشرعي أفضل من التفرغ للعبادة، فقد جاء في الحديث: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» (رواه الترمذي وصححه الألباني)؛ لأن العلم فضله متعدٍ، أما العابد ـ إن كان يعبد الله على بصيرة ـ فخيره قاصر عليه. 13 - هل تعلم أن هناك أمورًا خُصَّ بها نبينا وحبيبنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، لا يشاركه فيها أحد من الأمة، مهما كانت مكانته وعلت منزلته؟ منها: التبرك بما انفصل منه - صلى الله عليه وآله وسلم -، من شعر، ومن ماء وضوء، فلا يجوز لأحد أن يمارس هذا مع أحد من الخلق، ولو جاز هذا لأحد لجاز لخلفائه الراشدين والأئمة المهديين، حيث لم ينقل أن أحدًا صنع معهم شيئًا من ذلك. 14 - هل تعلم أن البناء على القبور، والتعلق بها، والتمسح والدعاء عندها، من سمات عُبَّاد الأوثان، وليس من سمات أتباع من نزل عليه القرآن؟ فقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - اليهود والنصارى لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد، ولعن زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج. 15 - هل تعلم أنه لا يسع أحد من هذه الأمة مخالفة أمر الله ورسوله، أو الخروج عن شرع محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، بأن ترفع عنه بعض التكاليف الشرعية، فمن ادعى ذلك أو صدق من ادعاه فقد كفر بما أنزل على محمد. وأخيرًا إياك أن تأخذك العزة بالإثم، وأن تستنكف وتستكبر عن قبول النصيحة، فالحكمة ضالة المؤمن. اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، والباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.

الأدلة على حرص رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على بقاء أصلي التوحيد: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله»، نقيتن صافيتن

الأدلة على حرص رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على بقاء أصلي التوحيد: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله»، نقيتن صافيتن الدليل الأول: أنه رأى يومًا بيد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ورقة من التوراة، وكان عمر قد أعجبه ما فيها، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - غضبًا شديدًا، وقال لعمر: «أهذا وأنا بين أظهركم، لقد جئتكم بها بيضاء نقية. والله لو كان موسى حيًا لما وسعه إلا أن يتبعني» (رواه الإمام أحمد وحسنه الألباني) وفي هذا الحديث من الفقه: أولا: أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - تعجب أن يبدأ الاهتداء بغير الكتاب والسنة وهو ما زال حيًا. ومن مقتضى الإيمان بالكتاب والسنة أن يعتقد أن الهدي فيهما وحدهما. ثانيًا: أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قد جاء بالدين نقيًا خالصًا، لم تَشُبْهُ شائبة من تغيير أو تبديل أو تحريف، والصحابة يتلقونه غضًا طريًا خالصًا، فكيف ينصرفون عنه ويهتدون بما شابه التحريف والتبديل والزيادة والنقص. ثالثًا: أن موسى - عليه السلام - نفسه الذي نزلت عليه التوراة لو أنه حي موجود لكان اللازم في حقه هو متابعة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، وترك شريعته التي بلغها للناس. وهذا الحديث أصل في بيان منهج الكتاب والسنة، وأنه لا يجوز لأحد أن يهتدي بعلم يقرب إلى الله، ويصلح النفس غير الذي بعث به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى لو كان أصله من شريعة منزلة علي أحد الأنبياء السابقين. الدليل الثاني: أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - سمع خطيبًا يخطب بين يديه فكان مما قاله: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «بئس خطيب القوم أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى» (رواه مسلم). فهذا الخطيب قد قاطعه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقبَّح قوله أمام الناس، والسبب أنه جمع بين الله ورسوله في ضمير واحد (ومن يعصهما) فأمره الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بأن يعيد ذكر الاسم الظاهر لله ولرسوله، حتى لا يُظن ـ ولو من بعيد ـ أن منزلة الرسول كمنزلة الله - عز وجل -.

وهذا الحرص من الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - دليل على وجوب صون جناب توحيد الله تبارك وتعالى صونًا كاملًا، ووجوب التفريق التام بين ما يجب لله - عز وجل -، وما يجب لرسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -. الدليل الثالث: أن عثمان بن مظعون - رضي الله عنه -، وكان من خيار الصحابة، لما توفي، وحضر عنده الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - سمع الصحابية الجليلة أم العلاء تقول: «شهادتي عليك أبا السائب أن الله قد أكرمك». فرد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قائلًا: «وما يدريك أن الله قد أكرمه؟» (وكان هذا تنبيهًا عظيمًا من الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لهذه الصحابية بأنها قد حكمت بحكم غيبي، وهذا لا يجوز، لأنه لا يطلع على الغيب إلا الله - عز وجل -)،ولكنها ردت قائلة: «سبحان الله يا رسول الله!! ومن يكرم الله إذا لم يكرمه؟» (أي إذا لم يكن عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - ممن يكرمهم الله فمن بقي منا حتى يكرمه الله - عز وجل -؟ وهذا رد في غاية البلاغة والفهم. ولكن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - رد عليها بما هو أبلغ من ذلك حيث قال لها): «والله إني لرسول الله لا أدري ما يفعل بي غدًا» (وكان هذا نهاية الأمر وحسمه، وهنا وصلت أم العلاء إلى الحقيقة الشرعية العظيمة) فقالت: «والله لا أزكي بعده أحدًا أبدًا» (رواه البخاري). الدليل الرابع: أن رجلًا جاء إلى الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال له: «ما شاء الله وشئت»، فقال له - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أجعلتني لله ندًا؟ قل ما شاء الله وحده» [(رواه أحمد والبخاري في (الأدب المفرد) وغيرهما، وأورده الألباني في (السلسلة الصحيحةرقم138)] الدليل الخامس: أن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - مروا في أثناء خروجهم إلى هوازن بعد فتح مكة على شجرة، كان المشركون يعلقون عليها سيوفهم، ظانين أنه من فعل ذلك حالفه النصر في معاركه مع العدو، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ـ أي شجرة ينوطون (أي يعلقون) بها أسلحتهم ـ فقال لهم الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قلتم والذي نفسي بيده كما قال بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَّنَا إِلَهَاً كَمَا لَهُمْءَالِهَةٌ}». (رواه الترمذي وصححه الألباني)، فبين - صلى الله عليه وآله وسلم - أن هذا من عمل المشركين، وأن مشابهتهم في هذا شرك بالله تبارك وتعالى، إذ طلب البركة والنصر من غير الله - عز وجل - شرك به تعالى. الدليل السادس: سدَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - باب العرافة والكهانة وادعاء علم الغيب، وأخبر - صلى الله عليه وآله وسلم - أن مدعي ذلك كافر، وأن من صدَّق عرافًا أو كاهنًا فقد كفر بما أنزل على

محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقد سُئِل - صلى الله عليه وآله وسلم - عن العرافين فقال: «ليسوا بشيء» هكذا بنفي قيمتهم وتحقيرهم: قالت عائشة - رضي الله عنها -: سأل أناس رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الكهان، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ليسوا بشيء». قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون أحيانًا الشيء يكون حقًا؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة (¬1)، فيخلطون فيها أكثر من مئة كذبة»، (رواه البخاري ومسلم) وأما صعود الشياطين إلى السماء لاستراق السمع، وقذفهم بالشهب فقد ورد في حديث آخر رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه. * ولما شك الصحابة في (ابن صياد اليهودي) الذي كان يسكن المدينة، وظنوه الدجال الذي حدث عنه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأخذ الرسول معه جماعة وزاره في منزله قال له الرسول مختبرًا: «لقد خبأت لك خبيئًا». وكان الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قد أضمر في نفسه (سورة الدخان) فسأله الرسول عما في نفسه، فقال عدو الله: «هو الدخ» ولم يستطع أن يكمل الكلمة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اخسأ فلن تعدو قدرك». أي لن تتعدى كونك كاهنًا تتصل بالجن. ولذلك قال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كيف ترى؟» قال: «يأتيني أحيانًا صادق وكاذب». أي تأتيه أخبار من الشيطان صادقة أحيانًا، وكاذبة أخرى، فقال رسول الله: «لقد لُبِّس عليه» (رواه البخاري ومسلم). وفي هذا الحديث دليل على أن الشيطان من الممكن أن يطلع على ما في نفس المؤمن، ويخبر وليَّه من الإنس، وأننا مأمورون ألا نصدق من الغيب إلا ما أتانا من طريق الله، ومن طريق رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقط. ¬

_ (¬1) الْقَرّ تَرْدِيد الْكَلَام فِي أُذُن الْمُخَاطَب حَتَّى يَفْهَمهُ، وَقَرّ الدَّجَاجَة صَوْتهَا إِذَا قَطَّعَتْهُ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره: مَعْنَاهُ أَنَّ الْجِنِّيّ يَقْذِف الْكَلِمَة إِلَى وَلِيّه الْكَاهِن، فَتَسْمَعهَا الشَّيَاطِين كَمَا تُؤَذِّن الدَّجَاجَة بِصَوْتِهَا صَوَاحِبهَا فَتَتَجَاوَب. (من شرح صحيح مسلم للإمام النووي)

دعوة إلي التمسك بالكتاب والسنة

دعوة إلي التمسك بالكتاب والسنة * قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء: 59). * قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «. .. إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (رواه أبو داود وصححه الألباني، وروى مسلم لفظة: «كل بدعة ضلالة»). «عَضُّوا عليها بالنواجذ»: كناية عن شدة التمسك بها، و «النواجذ»: الأضراس. * قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «اتَّبِعوا ولا تبتدعوا فقد كُفِيتُم» (رواه الدارمي 175). * قال الإمام مالك - رحمه الله -: «من ابتدع في الإسلام بدعةً يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3)، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا». (الاعتصام للشاطبي1/ 54). * قال الإمام الزهري - رحمه الله -: «الاعتصام بالسنة نجاة؛ لأن السنة ـ كما قال مالك ـ مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك». * ... العِلمُ قال اللهُ قال رسولُهُ ... قال الصحابةُ ليسَ بالتَمْويهِ ماالعلمُ نصْبُك للخلافِ سفاهةً ... بينَ الرسولِ وبينَ قولِ فَقيهِ * قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} (آل عمران: 31) فقد جعل سبحانه وتعالى علامة محبته اتباع الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فمن لم يتبع الرسول وادعى محبة الله تعالى فهو كاذب في دعواه فإن عصيان الرسول عصيان لله تعالى، {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} (النساء: 80) وعصيان الله تعالى ينافي محبته، فالخيرة في اتباع الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - والشر في مخالفة سنته، فإذًا الواجب علينا معاشر المسلمين اتباعه في جميع أقواله وأفعاله والتأسي به في سائر أحواله، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ

سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فعلية وتركية

عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7)، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63). * قال الحافظ ابن كثير: «{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي: عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وشريعته فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قُبِل وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله، كائنًا من كان كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» (رواه البخاري ومسلم) أي: فليحذر ولْيَخْش من خالف شريعة الرسول باطنًا أو ظاهرًا {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي: في قلوبهم، من كفر أو نفاق أو بدعة {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: في الدنيا، بقتل أو حد أو حبس، أو نحو ذلك». * لا يُعرف الحق في مسألة ما بكثرة القائلين به، بل يُعرف الحق بالدليل من الكتاب والسنة. سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فعلية وتركية * سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كما تكون بالفعل تكون بالترك، فكما كلفنا الله تعالى باتباع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في فعله الذي يتقرب به إذا لم يكن من باب الخصوصيات، كذلك طالبنا باتباعه في تركه فيكون الترك سنة، وكما لا نتقرب إلى الله تعالى بترك ما فعل، لا نتقرب إليه بفعل ما ترك فلا فرق بين الفاعل لما ترك والتارك لما فعل. والكلام في ترك شيء لم يكن في زمنه - صلى الله عليه وآله وسلم - مانع منه وتوفرت الدواعي على فعله، كتركه الأذان للعيدين، والغسل لكل صلاة، وصلاة ليلة النصف من شعبان، والأذان للتراويح، والقراءة على الموتى، فهذه أمور تُرِكت في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - السنين الطوال مع عدم المانع من فعلها ووجود مقتضيها؛ لأنها عبادات والمقتضي لها موجود وهو التقرب إلى الله تعالى، والوقت وقت تشريع وبيان للأحكام، فلو كانت دينًا وعبادة يُتقرب بها إلى الله تعالى ما تركها السنين الطويلة مع أمره بالتبليغ وعصمته من الكتمان، فتركه - صلى الله عليه وآله وسلم - لها ومواظبته على الترك ـ مع عدم المانع ووجود المقتضي ومع أن الوقت وقت تشريع ـ دليل على أن المشروع فيها هو الترك، وأن الفعل خلاف المشروع، فلا يتقرب بها؛ لأن

التمسك بالعمومات مع الغفلة عن بيان الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بفعله وتركه هو من اتباع المتشابه الذي نهى الله عنه

القربة لابد أن تكون مشروعة. وأما ما فعله الخلفاء ولم يكن موجودًا من قبلُ فهو لا يخرج عن أمور لم يوجد لها المقتضي في عهد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بل في عهد الخلفاء كجمع المصحف، أو كان المقتضي موجودًا في عهد الرسول ولكن كان هناك مانع كصلاة التراويح في جماعة فإن المانع من إقامتها جماعة والمواظبة عليها خوف الفرضية، فلما زال المانع بانتهاء زمن الوحي صح الرجوع فيها إلى ما رسمه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في حال حياته. * ما تركه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مع قيام المقتضي على فعله فتركه هو السنة وفعله بدعة مذمومة، لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يفارق الدنيا إلا بعد أن أكمل الله الدين وأتم نعمته على المسلمين {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا} (المائدة: 3). * عدم عمل السلف الصالح بالنص على الوجه الذي يفهمه مَنْ بعدهم، يمنع اعتبار ذلك الفهم صحيحًا، إذ لو كان صحيحًا لم يعزب عن فهم السلف الصالح ويفهمه من بعدهم، كما يمنع اعتبار ذلك النص دليلًا عليه؛ إذ لو كان دليلًا لعمل به السلف الصالح. التمسك بالعمومات مع الغفلة عن بيان الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بفعله وتركه هو من اتباع المتشابه الذي نهى الله عنه، ولو عوّلنا على العمومات وصرَفْنا النظر عن البيان لانفتح باب كبير من أبواب البدعة لا يمكن سده. مثال: قال تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (الأحزاب: 56) لو صح الأخذ بالعمومات لصح أن يُتقرب إلى الله بالصلاة والسلام على النبي في قيام الصلاة وركوعها واعتدالها وسجودها إلى غير ذلك من الأمكنة التي لم يضعها الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فيها، ومَن الذي يجيز التقرب إلى الله تعالى بمثل ذلك وتكون الصلاة بهذه الصفة عبادة معتبرة؟ وكيف هذا مع حديث «صلوا كما رأيتموني أصلى» (رواه البخاري)، فلا يقرب إلى الله إلا العمل بما شرع، وعلى الوجه الذي شرع.

* كان الصحابة - رضي الله عنهم - يرون في ترك الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - للفعل، مع وجود المقتضي له، الحظر وأنه منهي عنه، دليل ذلك أنه لما قُدِّم الضب إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - رفع يده عنه وترك أكْله فقال خالد بن الوليد: «أحرامٌ الضبّ يا رسول الله؟» قال: «لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه»، قال خالد: «فاجتززته فأكلته ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ينظر إلى» (رواه البخاري، والضب: حيوان من الزواحف)، فلو لم يكن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - مُتَّبَعًا في تركه كما هو متبع في فعله، لما كان لتوقف الصحابة وترْك الأكل من الضب وجه وقد فهموا، وهم أدرى الناس بالدين، أولًا أنه امتنع عنه فتركوه، وبعد أن أخبرهم بأن هناك سببًا أخر ـ وهو عدم الإلف ـ أكلوا منه ولم يروا بذلك بأسًا. * قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} (الأحقاف: 11)، قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: «أي قالوا عن المؤمنين بالقرآن لو كان القرآن خيرًا ما سبقنا هؤلاء إليه، يعنون بلالًا وعمارًا وصهيبًا وخبابًا - رضي الله عنهم - وأشباهم من المستضعفين والعبيد والإماء. .. وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة - رضي الله عنهم - هو بدعة، لأنه لو كان خيرًا لسبقونا إليه؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها». قال حذيفة - رضي الله عنه -: «كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فلا تتعبدوا بها؛ فإن الأول لم يدَعْ للآخِر مقالًا» (الأمر بالاتباع للسيوطي ص62) * يستدل كثير من الناس بالنصوص العامة لتسويغ بدعهم، والتدليل على واقعهم! وهذا خطأ كبير. مثال: الأذان في العيدين، لما أحدثه بعض الأمراء، أنكره المسلمون؛ لأنه بدعة، فلو لم يكن كونه بدعة دليلًا على كراهته، وإلا لقيل: هذا ذكر لله ودعاء للخلق إلى عبادة الله، فيدخل في العمومات. كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (الأحزاب:41) وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ} (فصلت:33) أو يقاس على الأذان في الجمعة، فإن الاستدلال على حسن الأذان في العيدين، أقوى من الاستدلال على حسن أكثر البدع. بل يقال: تَرْك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ مع وجود ما يُعتقَد

مقتضِيًا وزوال المانع ـ سنة، كما أن فِعْلَه سنة. فلما أمر بالأذان في الجمعة، وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة، كان ترْك الأذان فيهما سنة، فليس لأحد أن يزيد في ذلك، بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلوات أو أعداد الركعات، أو صيام الشهر، أو الحج، فلو أن رجلًا أحب أن يصلي الظهر خمس ركعات وقال: هذا زيادة عمل صالح، لم يكن له ذلك. وليس له أن يقول: هذه بدعة حسنة، بل يقال له كل بدعة ضلالة. ونحن نعلم أن هذه ضلالة قبل أن نعلم نهيًا خاصًا عنها، أو نعلم ما فيها من المفسدة. فهذا مثال لما حدث، مع قيام المقتضي له، وزوال المانع لو كان خيرًا. فإن كل ما يبديه المُحْدِث لهذا من المصلحة، أو يستدل به من الأدلة، قد كان ثابتًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومع هذا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فهذا الترك سنة خاصة، مقدمة على كل عموم وكل قياس. مثال آخر: عن نافع أن رجلًا عطس إلى جنب ابن عمر - رضي الله عنهما -، فقال: «الحمد لله، والسلام على رسوله»، قال ابن عمر: «وأنا أقول: الحمد لله والسلام على رسول الله، وليس هكذا علمنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حالٍ» (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، فقد أنكر ابن عمر - رضي الله عنهما - على هذا الرجل مع أن عموم قولِ الله تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (الأحزاب: 56) تدخل فيه تلك الصلاة، ولكن ما هكذا فهمها الصحابة فمَن بعدهم وما هكذا طبقها السلف الصالح - رضي الله عنهم -، وفهمُهم أوْلى، ومرتبتهم أعلى. مثال آخر: رأى سعيد بن المسيب - رحمه الله - رجلًا يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين، يكثر فيهما الركوع والسجود، فنهاه، فقال: يا أبا محمد، يعذبني الله على الصلاة؟ قال: «لا ... ولكن يعذبك على خلاف السنة» (رواه عبد الرزاق وإسناده صحيح). مثال آخر: قال رجل للإمام مالك بن أنس - رحمه الله -: «يا أبا عبد الله، من أين أُحْرِم؟» فقال الإمام مالك: «من ذي الحليفة، من حيث أحرم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -» فقال: «إني

إلى من يتبعون زلات العلماء

أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر» قال: «لا تفعل، فإني أخشى عليك الفتنة» فقال: «وأي فتنة في هذه؟ إنما هي أميال أزيدها!» قال: «وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقْتَ إلى فضيلة قصّر عنها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟! إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63)». (الاعتصام 1/ 132). ونلاحظ في هذه الأمثلة أن الدافع إلى البدعة ومخالفة السنة كان الحرص على الخير والزيادة في الطاعة ومع ذلك فقد أكد الأئمة على ضرورة الوقوف عند حدود السنن، وهم في ذلك على قاعدة عظيمة في تجريد الاتباع ذكرها التابعي الجليل سعيد بن جبير - رحمه الله - وهي قوله: «قد أحسن من انتهى إلى ما سمع» (رواه الإمام مسلم). :* قال الإمام الشَّافِعِيّ - رحمه الله -: « ... وَلَكِنَّا نَتَّبِع السُّنَّة فِعْلًا أَوْ تَرْكًا». (فتح الباري3/ 475). إلى من يتبعون زلات العلماء * قال الإمام الشاطبي - رحمه الله -: «. .. الإنسان لا ينبغي له أن يعتمد على عمل أحد البتة، حتى يتثبت ويسأل عن حكمه؛ إذ لعل المعتمَد على عمله يعمل على خلاف السُنَّة، ولذلك قيل: لا تنظر إلى عمل العالم، ولكن سَلْه يصْدُقْك، وقالوا: ضعف الروية أن يكون رأي فلانًا يعمل فيعمل مثله، ولعله فعله ساهيًا». (الاعتصام 2/ 508). * قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «. .. عادة بعض البلاد أو أكثرها، وقول كثير من العلماء، أو العبّاد، أو أكثرهم، ونحو ذلك ليس مما يصلح أن يكون معارضًا لكلام الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى يعارض به». (اقتضاء الصراط المستقيم ص245). * ما من عالم إلا وله زلة، أبى الله أن تكون العصمة لغير نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - ومن الخطير الولوع بالغرائب والزلات والتعلق بها، باعتبارها رأي فلان أو فلان ممن يشار إليهم بالبنان، وما فتيء العلماء يحذّرون من مسقطة يجريها الشيطان على لسان فاضل عليم،

أقوال الأئمة في اتباع السنة وترك أقوالهم المخالفة لها

فعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: «هل تعرف ما يهدم الإسلام؟» قال: قلت: «لا»، قال: «يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين» (رواه الدارمي 1/ 71).، ولو أن إنسانًا أخذ بكل شواذ الأقوال وغرائبها لربما خرج من الدين وهو لم يخرج بعدُ من أقوال العلماء! ولذلك قيل: وَلَيْسَ كلُّ خِلافٍ جاءَ مُعتَبَرًا ... إِلا خِلافٌ لَه حَظٌّ مِنَ النَّظَرِ» أقوال الأئمة في اتباع السنة وترك أقوالهم المخالفة لها (¬1) * الإمام أبو حنيفة - رحمه الله -: 1 - «إذا صح الحديث فهو مذهبي». 2 - «إذا قلتُ قولًا يخالف كتاب الله وخبر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فاتركوا قولي». * الإمام مالك بن أنس - رحمه الله -: 1 - «إنما أنا بشر أخطيء وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه». 2 - «ليس أحد بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -». * الإمام الشافعي - رحمه الله -: 1 - «إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقولوا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ودعوا ما قلت». 2 - «إذا صح الحديث فهو مذهبي». 3 - «كل حديث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهو قولي، وإن لم تسمعوه منى». * الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -: 1 - «لا تقلدني ولا تقلد مالكًا، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا». 2 - «من رد حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فهو على شفا هلكة». ¬

_ (¬1) صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للشيخ الألباني (ص21 - 29) بتصرف.

المقصود بالكراهة في كلام السلف

المقصود بالكراهة في كلام السلف قال الإمام الشوكاني: «والمكروه يقال بالاشتراك على أمور ثلاثة: الأول: على ما نهي عنه نهي تنزيه، وهو الذي أشعر فاعله أن تركه خير من فعله، الثاني: على ترك الأولى، الثالث: على المحظور وهو المحرم». (إرشاد الفحول، ص 6). قال الإمام ابن القيم: «قال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: لم يكن من أمر الناس ولا مَنْ مضى من سلفنا، ولا أدركتُ أحدًا ممن أقتدي به يقول في شيء: «هذا حلال، وهذا حرام» وما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره كذا ونرى هذا حسنًا، فينبغي هذا، ولا نرى هذا، ورواه عنه عتيق بن يعقوب، وزاد: ولا يقولون حلال ولا حرام، أمَا سمعت قول الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلًا قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: 59) الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ماحرمه الله ورسوله. قلت (القائل الإمام ابن القيم): وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك، حيث تورع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم، وأطلقوا لفظ الكراهة، فنفى المتأخرون التحريم عما أَطلق عليه الأئمة لفظ الكراهة، ثم سهل عليهم لفظ الكراهة وخفّت مؤنته عليهم فحمله بعضهم على التنزيه، وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولى، وهذا كثير جدًا في تصرفاتهم». ثم ذكر الإمام ابن القيم أمثلة كثيرة منها قول الإمام أحمد: «لا يعجبني أكل ما ذبح للزهرة ولا الكواكب ولا الكنيسة وكل شيء لغير الله، قال الله - عز وجل -: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ}» (المائدة: 3)،ثم قال الإمام ابن القيم: «فتأمل كيف قال: «لا يعجبني» فيما نَصّ الله ـ سبحانه ـ على تحريمه واحتج بتحريم الله له في كتابه» ا. هـ. (إعلام الموقعين 1/ 40). قال الإمام الشاطبي - رحمه الله -: «وأما كلام العلماء فإنهم وإن أطلقوا الكراهية في الأمور المنهي عنها لا يعنون بها كراهية التنزيه فقط، وإنما هذا اصطلاح المتأخرين حين أرادوا

أن يفرقوا بين القبيلَين، فيطلقون لفظ الكراهية على كراهية التنزيه فقط، ويخصون كراهية التحريم بلفظ التحريم والمنع، وأشباه ذلك. وأما المتقدمون من السلف فإنهم لم يكن من شأنهم فيما لا نص فيه صريحًا أن يقولوا: هذا حلال وهذا حرام. ويتحامون العبارة خوفًا مما في الآية من قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} (النحل: 116)، وحكى مالك عمن تقدم هذا المعنى، فإذا وجدت في كلامهم في البدعة أو غيرها: أكره هذا، ولا أحب هذا وهذا مكروه وما أشبه ذلك، فلا تقطعن على أنهم يريدون التنزيه فقط فإنه إذا دل الدليل في جميع البدع على أنها ضلالة فمن أين يعد فيها ما هو مكروه كراهية التنزية؟» (الاعتصام (2/ 397، 398). ومما يوضح كلام الإمام الشاطبي أن الإمام الترمذي قال في سننه: «باب كراهية إتيان الحائض»، وذكر فيه قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من أتى حائضًا، أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أُنزِل على محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -» (رواه الترمذي وصححه الألباني). فهل يُعقل أن يستدل الإمام الترمذي بهذا الحديث على الكراهة التنزيهية؟!!

ما هو التصوف؟

ما هو التصوف؟ التصوف حركة دينية انتشرت في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنزعات فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة كَرَدّ فعل مضاد للانغماس في الترف الحضاري. ثم تطورت تلك النزعات بعد ذلك حتى صارت طرقًا مميزة معروفة باسم الصوفية. ولا شك أن ما يدعو إليه الصوفية من الزهد والورع والتوبة والرضا إنما هي أمور يحث الإسلام على التمسك بها والعمل من أجلها ولكن الصوفية في ذلك يخالفون ما دعا إليه الإسلام حيث ابتدعوا مفاهيم وسلوكيات مخالفة لما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وصحابته فالمتصوفة يتوخون تربية النفس والسمو بها بغية الوصول إلى معرفة الله تعالى بالكشف والمشاهدة لا عن طريق اتباع الوسائل الشرعية. * يخلط الكثيرون بين الزهد والتصوف ومن هنا كان تأثر الكثيرين بالتصوف فالزهد ليس معناه هجر المال والأولاد وتعذيب النفس والبدن بالسهر الطويل والجوع الشديد والاعتزال في البيوت المظلمة والصمت الطويل وعدم التزوج. * يعتقد كثير من الصوفية في الأولياء بأن لهم القدرة على إنزال المطر وشفاء الأمراض وإحياء الموتى وحفظ العالم من الدمار. ولا شك أن هناك آثارًا خطيرة تترتب على هذه العقيدة من أهمها الوقوع في شرك الربوبية والعياذ بالله. تلبيس الشيطان على الصوفية: كتب الإمام أبو الفرج عبدالرحمن بن الجوزي البغدادي المتوفي سنة 597هـ كتابًا فريدًا سماه (تلبيس إبليس) خص الصوفية بمعظم فصوله وبيَّن تلبيس الشيطان عليهم، وكان مما ذكره الآتي: * «وكان أصل تلبيسه عليهم أنه صدهم عن العلم وأراهم أن المقصود العمل فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا في الظلمات. فمنهم من أراه أن المقصود من ذلك ترك الدنيا في الجملة فرفضوا ما يصلح أبدانهم. وشبهوا المال بالعقارب، ونسوا أنه خلق للمصالح وبالغوا في الحمل على النفوس حتى إنه كان فيهم من لا يضطجع. وهؤلاء

كانت مقاصدهم حسنة غير أنهم على غير الجادة. وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة وهو لا يدري. * ثم جاء أقوام يتكلمون لهم في الجوع والفقر الوساوس والحظوات وصنفوا في ذلك مثل الحارث المحاسبي. وجاء آخرون فهذبوا مذهب التصوف وأفردوه بصفات ميزوه بها من الاختصاص بالمرقعة والسماع والوجد والرقص والتصفيق وتميزوا بزيادة النظافة والطهارة. * ثم مازال الأمر ينمى والأشياخ يضعون لهم أوضاعًا ويتكلمون بواقعاتهم. ويتفق بُعدُهم عن العلماء لا بل رؤيتهم ما هم فيه أو في العلوم حتى سموه العلم الباطن وجعلوا علم الشريعة العلم الظاهر. * ومنهم من خرج به الجوع إلى الخيالات الفاسدة فادعى عشق الحق والهيمان فيه كأنهم تخايلوا شخصًا مستحسن الصورة فهاموا به، وهؤلاء بين الكفر والبدعة، ثم تشعبت بأقوام منهم الطرق، ففسدت عقائدهم، فمن هؤلاء من قال بالحلول ومنهم من قال بالاتحاد. * فالتصوف مذهب معروف يزيد على الزهد ويدل على الفرق بينهما أن الزهد لم يذمه أحد وقد ذموا التصوف. * جاء أبو حامد الغزالي فصنف لهم كتاب (الإحياء) على طريقة القوم وملأه بالأحاديث الباطلة وهو لا يعلم بطلانها، وتكلم في علم المكاشفة وخرج عن قانون الفقه. وقال: إن المراد بالكوكب والشمس والقمر اللواتي رآهن إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ أنوار هي حجب الله - عز وجل - ولم يرد هذه المعروفات. وهذا من جنس كلام الباطنية. وقال في كتابه (المفصح بالأحوال): إن الصوفية في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتًا ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصورة إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق. * وكان السبب في تصنيف هؤلاء مثل هذه الأشياء قلة علمهم بالسنن والإسلام والآثار وإقبالهم على ما استحسنوه من طريقة القوم. وإنما استحسنوها لأنه قد ثبت في

كيف تجادل صوفيا؟

النفوس مدح الزهد وما رأوا حالة أحسن من حالة هؤلاء القوم في الصورة ولا كلامًا أرق من كلامهم. وفي سير السلف نوع خشونة، ثم إن ميل الناس إلى هؤلاء القوم شديد لما ذكرنا من أنها طريقة ظاهرها النظافة والتعبد وفي ضمنها الراحة والسماع والطباع تميل إليها. وقد كان أوائل الصوفية ينفرون من السلاطين والأمراء فصاروا أصدقاء (أي بعد أن صار التصوف حرفة وتكسبًا صاحبوا الأمراء والسلاطين). * وجمهور هذه التصانيف التي صنفت لهم لا تستند إلى أصل وإنما هي واقعات تلقفها بعضهم عن بعض ودونوها وقد سموها بالعلم الباطن. * وعن سعيد بن عمرو البردعي، قال شهدت أبا زرعة، وسئل عن الحارث المحاسبي وكتبه، فقال للسائل: «إياك وهذه الكتب. هذه الكتب كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب». وقيل له: في هذه الكتب عبرة. قال: «من لم يكن له في كتاب الله - عز وجل - عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة. بلغكم أن مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والأئمة المتقدمة، صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء؟ هؤلاء قوم خالفوا أهل العلم يأتوننا مرة بالحارث المحاسبي ومرة بعبدالرحيم الدبيلي ومرة بحاتم الأصم ومرة بشقيق، ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع». (تلبيس إبليس 163 - 167). (بتصرف يسير). كيف تجادل صوفيًا؟ كثير من المسلمين الغيورين على الدين والكارهين للتصوف وخزعبلاته يبدءون في جدال الصوفي بالأمور الهامشية الفرعية كبِدَعهم في الأذكار، وتسميتهم بالصوفية، وإقامتهم للحفلات والموالد، أو لبسهم للمرقعات أو نحو ذلك من المظاهر الشاذة التي يظهرون بها، والبدء بالنقاش حول هذه الأمور بداية خاطئة تمامًا، وبالرغم من أن هذه الأمور جميعها هي بدع تخالف الشريعة، ومفتريات في الدين، إلا أنها تُخفي ما هو أمَرّ وأعظم، ولذلك يجب على من يجادل الصوفي أن يبدأ بالأصول لا بالفروع.

أولا: البداية في النقاش بمنهج التلقي وإثبات الدين

أولًا: البداية في النقاش بمنهج التلقي وإثبات الدين. كيف نتلقى الدين؟ ونُثْبِت العقيدة والعبادة، وما هي مصادرنا لهذا التلقي؟ الإسلام يحصر مصدر التلقي في الكتاب والسنة الصحيحة فقط ولا يجوز إثبات عقيدة إلا بنص من القرآن وقول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولا إثبات شريعة إلا بكتاب وسنة واجتهاد موافق لهما، والاجتهاد يصيب ويخطئ، ولا معصوم إلا كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقط. أما الصوفية فيزعمون أن شيوخهم يتلقونه عن الله رأسًا، وبلا واسطة، وعن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي يزعمون أنه يحضر مجالسهم وأماكن ذكرهم دائمًا، وعن الملائكة وعن الجن الذين يسمونهم بالروحانيين وبالكشف الذي يزعمون أن قلب الولي تنكشف له الغيوب فيرى ما في السموات والأرض، وما سبق وما يأتي من الحوادث، فالولي عندهم لا يعزب عن علمه ذرة في السموات ولا في الأرض. ثانيًا: تبيِّن للصوفي المفاهيم الآتية: 1 - ديننا هو الإسلام لا يقبل الله من أحد سواه. قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل عمران: 85) 2 - معنى شهادة أن لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله. 3 - معنى شهادة أن محمدًا رسول الله: تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع. 4 - أمرَنا اللهُ بالكفر بالطاغوت والإيمان بالله. قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (البقرة: 256) والعروة الوثقى هي: لا إله إلا الله، ومعناها: لا معبود بحق إلا الله. 5 - أول ما فرض الله على الناس الإيمان بالله والكفر بالطاغوت. كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36)، والطاغوت: كل ما عُبِد من دون الله وهو راضٍ. 6 - صفة الكفر بالطاغوت: أن تعتقد بطلان عبادة غير الله تعالى وتتركها وتبغضها، وتكفِّر أهلها وتعاديهم.

7 - خلق الله الجن والإنس لعبادته وحده. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) 8 - العبادة ليست مقتصرة على الصلاة والصيام والزكاة والحج، بل العبادة اسم جامع لما يحبه الله - عز وجل - ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. 9 - أنواع العبادة كثيرة منها: الدعاء، والخوف، والتوكل، والصلاة، والذكر، وبر الوالدين وغيرها. ودليل الدعاء قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: 60)، ودليل الخوف قوله تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175)، ودليل التوكل قوله تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة: 23)، ودليل الصلاة قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الروم: 31)، ودليل الذكر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (الأحزاب: 41)، ودليل بر الوالدين قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} (الأحقاف: 15) 10 - تُصْرَفُ جميع أنواع العبادة لله وحده لا شريك له، وصرف شيءٍ منها لغير الله كفر وشرك. قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (المؤمنون: 117) 11 - الكفر والشرك منه الأصغر والأكبر على ما هو مفصل في كتب التوحيد. 12 - الشرك ضد التوحيد، فالتوحيد هو إفراد الله تعالى بالعبادة، والشرك هو صرف إحدى العبادات لغير الله تعالى، مثل أن يدعو غير الله، أو يسجد لغير الله. 13 - الشرك أكبر الذنوب وأعظمها؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء:48).والشرك الأكبر يبطل جميع الطاعات، ويوجب الخلود في النار وعدم دخول الجنة، كما قال تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ

يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 88) وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (المائدة: 72) 14 - الكفر ينافي التوحيد، فالكفر أقوال وأعمال تخرج فاعلها عن التوحيد والإيمان. ومثال الكفر: الاستهزاء بالله تعالى، أو آيات القرآن، أو الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - كما قال تعالى: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ... (التوبة:65، 66) 15 - النفاق ينافي التوحيد، فالنفاق: أن يظهر للناس التوحيد والإيمان ويبطن في قلبه الشرك والكفر. ومثال النفاق: أن يظهر بلسانه الإيمان بالله ويبطن الكفر كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (البقرة: 8) أي يقولون بألسنتهم آمنا بالله وما هم بمؤمنين حقيقة في قلوبهم. 16 - أنواع التوحيد: أ- توحيد الربوبية: وهو توحيد الله بأفعاله - عز وجل - مثل الخلق والرزق وتدبير الأمور والإحياء والإماتة ونحو ذلك. فلا خالق إلا الله، كما قال تعالى: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (الزمر: 62) ولا رازق إلا الله، كما قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} (هود: 6)، ولا مدبِّر إلا الله، كما قال تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} (السجدة: 5)، ولا محيي ولا مميت إلا الله، كما قال تعالى: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يونس: 56). وهذا النوع قد أقر به الكفار على زمن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولم يُدخِلهم في الإسلام، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} (لقمان: 25) ب - توحيد الألوهية: وهو توحيد الله بأفعال العباد التي أمرهم بها. فتصرف جميع أنواع العبادة لله وحده لا شريك له، مثل الدعاء والخوف والتوكل والاستعانة والاستعاذة وغير ذلك. وهذا النوع من التوحيد هو الذي جاءت به الرسل - عليهم السلام -، حيث قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36) وهذا النوع من

ثالثا: التدرج في مناقشة أخطائه حسب خطورتها على العقيدة

التوحيد هو الذي أنكره الكفار قديمًا وحديثًا، كما قال تعالى على لسانهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5) جـ - توحيد الأسماء والصفات: وهو الإيمان بكل ما ورد في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة من أسماء الله وصفاته التي وصف بها نفسه أو وَصفه بها رسوله على الحقيقة. وأسماء الله كثيرة، منها: الرحمن، والسميع، والبصير، والعزيز، والحكيم. قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: 11). 17 - من أُصول عقيدة السلف الصالح ـ أَهل السنة والجماعة ـ حُب أَصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. 18 - من أُصول عقيدة السلف الصالح ـ أَهل السنة والجماعة ـ حُب أَهلِ بيتِ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ عملًا بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أذَكِّرُكُمُ اللهَ في أَهْلِ بَيْتِي، أذَكِّرُكُم اللهَ في أَهْلِ بَيْتِي» رواه البخاري. ومن أَهل بيته أَزواجه ـ رضي الله عنهُن ـ وهن أُمهات المؤمنين بنص القرآن. وحب آل البيت - رضي الله عنهم - ليس معناه عبادتهم من دون الله كدعائهم والاستغاثة بهم؛ فإن من الناس من يَدْعُ غير الله - عز وجل - من الأنبياء والصالحين وهذا الدعاء عبادة وصرفها لغير الله شرك، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن الدعاء هو العبادة» ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: 60). (رواه الإمام أحمد وأبو داود وصححه الألباني). ثالثًا: التدرج في مناقشة أخطائه حسب خطورتها على العقيدة فتكون البداية بأخطائه في صرف العبادة ـ من الدعاء والنذر والذبح وغيرهم ـ لغير الله - عز وجل -. رابعًا: الرد على الشبهات التي يستدل بها: واعلم أن الله سبحانه ـ من حكمته ـ لم يبعث نبيًا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداءً كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (الأنعام: 112) وللصوفية كتب وشبهات كثيرة.

خامسا: عليك بالرفق والمجادلة بالتي هي أحسن

فالواجب علينا أن نتعلم من دين الله ما يصير لنا سلاحًا نقابلهم به فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان، وإنما الخوف على من يسلك الطريق إلى الله وليس معه سلاح. وقد مَنَّ الله تعالى علينا بكتابه الذي جعله: {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل:89).فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها، كما قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (الفرقان:33). * أحيانًا يستدل الصوفي بشبهات عقلية، وعندئذ يجب أن يعلم أن العقل ليس مصدرًا من مصادر التشريع، وأنه يجب رد النزاع إلى الكتاب والسنة الصحيحة؛ قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء:59) خامسًا: عليك بالرفق والمجادلة بالتي هي أحسن؛ لعل الله أن يهديه على يديك: قال الله - عز وجل -: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} قال الحافظ ابن كثير: «يقول تعالى آمرًا رسوله محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يدعو الخلق إلى الله {بِالْحِكْمَةِ} قال ابن جرير: وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} أي: بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس، ذكِّرهم بها، ليحذروا بأس الله تعالى. وقوله: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب، كما قال: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (العنكبوت: 46) فأمره تعالى بلين الجانب، كما أمر موسى وهارون سدد خطاكم، حين بعثهما إلى فرعون فقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 44).

وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي: قدم عَلِمَ الشقيَّ منهم والسعيدَ، وكتب ذلك عنده وفرغ منه، فادْعُهم إلى الله، ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات، فإنه ليس عليك هداهم إنما أنت نذير، عليك البلاغ، وعلينا الحساب، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} (القصص: 56)، و {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} (البقرة: 272). اهـ * ولك في رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الأسوة الحسنة حيث قال: «عليك بالرفق، إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانَهُ، ولا ينزع من شيء إلا شانَهُ» (رواه مسلم).وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - أيضًا: «إن الله تعالى رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف» (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).

أولا: الدعاء والذبح والنذر والاستغاثة بغير الله

كشف شبهات الصوفية أولا: الدعاء والذبح والنذر والاستغاثة بغير الله * النذر نوع من أنواع العبادة التي هي حق لله وحده، لا يجوز صرْفُ شيء منها لغيره، فمن نذر لغيره فقد صرف نوعًا من العبادة ـ التي هي حق الله تعالى ـ لمن نذر له، وصرف نوعٍ من أنواع العبادة نذرًا أو ذبحًا أو غير ذلك لغير الله يعتبر شركًا مع الله غيره داخلًا تحت عموم قول الله - سبحانه وتعالى -: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (المائدة: 72) وكل من اعتقد من المكلفين المسلمين جواز النذر والذبح للمقبورين؛ فاعتقاده هذا شرك أكبر مخرج عن الملة. * النذر لغير الله شرك، والذبح لغير الله شرك؛ لقول الله سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ} (البقرة:270) وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ} (الأنعام: 162، 163) الآية، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لعنَ اللهُ مَن ذبحَ لغيرِ اللهِ» (رواه مسلم).والنذر داخل في قوله تعالى: {وَنُسُكِي}. * إن الاستغاثة بالأموات أو الغائبين ودعاءهم من دون الله أو مع الله شرك أكبر يخرج من ملة الإسلام، سواء كان المستغاث به نبيًا أم غير نبي، قال - سبحانه وتعالى -: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (المؤمنون: 117)، وقوله - عز وجل -: {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 13، 14). * أما من استغاث بالله وسأله سبحانه ـ وحده ـ متوسلًا بجاههم أو طاف حول قبورهم دون أن يعتقد فيهم تأثيرًا وإنما رجا أن تكون منزلتهم عند الله سببًا في استجابة

الله له فهو مبتدع آثم مرتكب لوسيلة من وسائل الشرك، ويخشى عليه أن يكون ذلك منه ذريعة إلى وقوعه في الشرك الأكبر. * التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده. فأولهم نوح - عليه السلام - أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين ودًا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا، وآخر الرسل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهو الذي كسر صور هؤلاء الصالحين، أرسله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيرًا، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله. يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده؛ مثل الملائكة، وعيسى، ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين. فبعث الله إليهم محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم - عليه السلام -، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله لا يصلح منه شيء لغير الله لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل فضلًا عن غيرهما، وإلا فهؤلاء المشركون مقرون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يحيي إلا هو، ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو، وأن جميع السموات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيها كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره. فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يشهدون بهذا فاقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (يونس:31). فإذا تحققْتَ أنهم مُقِرُّون بهذا وأنه لم يُدْخِلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة. ثم منهم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله ليشفعوا له، أو يدعوا رجلًا صالحًا مثل اللات: أو نبيًا مثل عيسى وعرفت أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، قاتلهم على هذا الشرك ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله وحده كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} (الجن:

الرد على الشبهات من طريقين: مجمل، ومفصل

18) وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} (الرعد:14) وتحققت أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قاتلهم ليكون الدعاء كله لله، والنذر كله لله، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها لله، وجميع أنواع العبادات كلها لله، وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة أو الأنبياء، أو الأولياء، يريدون شفاعتهم، والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم، عرفت حينئذٍ التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وأبى عن الإقرار به المشركون، وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله، فإن الإله هو الذي يُقصَد لأجل هذه الأمور، سواء ملكًا، أو نبيًا، أو وليًا، أو شجرةً، أو قبرًا، أو جنيًا، لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر، فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده. فأتاهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي (لا إله إلا الله) والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها. الرد على الشبهات من طريقين: مجمل، ومفصل. أما المجمل فعن عائشة - رضي الله عنهما - قالت: تلا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هذه الآية: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} (آل عمران: 7)، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا رأيتِ الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى اللهُ فاحذروهم». (رواه البخاري) فحذرنا نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - من الذي يتبع المتشابه من القرآن أو من السنة وصار يُلَبِّس به على باطله فهؤلاء الذين سماهم الله ووصفهم بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}. وكان سبب تحذير النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الخشية من أن يضلونا عن سبيل الله باتباع هذا المتشابه، فحذرنا من سلوك طريقهم، وحذرنا منهم.

وأما الجواب المفصل

مثال ذلك: إذا قال لك: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس:62) أو استدل بالشفاعة أنها حق، وأن الأنبياء لهم جاه عند الله أو ذكر كلامًا للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يستدل به على شيء من باطله، وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره، فجاوبه بقولك: إن الله ذكر أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه، والله - سبحانه وتعالى - ذكر أن المشركين يقرون بالربوبية، وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم: {هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ} (يونس:18) وهذا أمر مُحكَمٌ بَيِّنٌ، لا يقدر أحد أن يغير معناه، وما ذكرتَه لي من القرآن أو كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا أعرف معناه، ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يخالف كلام الله - عز وجل -. وأما الجواب المفصل: فإن لهم شبهات كثيرة، منها: الشبهة الأولى: قولهم: نحن لا نشرك بالله، ونشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، ولكننا مذنبون، والصالحون لهم جاه عند الله، ونطلب من الله بهم. الجواب: اعلم أن الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - واستباح دماءهم ونساءهم مقرون بذلك، ومقرون بأن أوثانهم لا تدبر شيئًا، وإنما أرادوا الجاه والشفاعة، ولم يُغْنِهم هذا التوحيد شيئًا. وقد ذكر الله - عز وجل - في محكم كتابه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:25).وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56).وقال تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران:18).وقال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة:163).وقال تعالى: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (العنكبوت:56) إلى غيرها من الآيات الكثيرة الدالة على وجوب توحيد الله - عز وجل - في عبادته، وأن لا يعبد أحد سواه.

الشبهة الثانية: قولهم: إن الآيات التي ذكرتها نزلت فيمن يعبد الأصنام، وهؤلاء الأولياء ليسوا بأصنام.

الشبهة الثانية: قولهم: إن الآيات التي ذكرتها نزلت فيمن يعبد الأصنام، وهؤلاء الأولياء ليسوا بأصنام. الجواب: اعلم أن كل من عبد غير الله فقد جعل معبوده وثنًا فأي فرق بين من عبد الأصنام وعبد الأنبياء والأولياء؟! فالكفار منهم من يدعو الأصنام لطلب الشفاعة، ومنهم من يعبد الأولياء، والدليل على أنهم يدعون الأولياء قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} (الإسراء: 57) (أي أن المعبودين يبتغون القربة إلى ربهم). وكذلك يعبدون الأنبياء كعبادة النصارى المسيح ابن مريم والدليل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} (المائدة:116)، وكذلك يعبدون الملائكة كقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} (سبأ:40). فبهذا تبين تلبيسهم بكون المشركين يعبدون الأصنام وهم يدعون الأولياء والصالحين من وجهين: الوجه الأول: أنه لاصحة لتلبيسهم؛ لأن مِن أولئك المشركين مَن يعبد الأولياء والصالحين. الوجه الثاني: لو قدَّرنا أن أولئك المشركين لا يعبدون إلا الأصنام فلا فرق بينهم وبين المشركين لأن الكل عبَد من لا يغني عنه شيئًا. وبهذا عرفنا أن الله كفَّر مَن قصد الأصنام، وكفر أيضًا من قصد الصالحين وقاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على هذا الشرك ولم ينفعهم أن كان المعبودون من أولياء الله وأنبيائه. الشبهة الثالثة: قولهم: الكفار يريدون من الأصنام أن ينفعوهم أو يضروهم، ونحن لا نريد إلا من الله والصالحون ليس لهم من الأمر شيء، ونحن لا نعتقد فيهم ولكن نتقرب بهم إلى الله - عز وجل - ليكونوا شفعاء.

الشبهة الرابعة: قولهم: نحن لا نعبد إلا الله، وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة.

الجواب: اعلم أن هذا قول الكفار سواءً بسواء حيث قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} (الزمر:3) وقوله تعالى: {هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ} (يونس:18). الشبهة الرابعة: قولهم: نحن لا نعبد إلا الله، وهذا الالتجاء إلى الصالحين ودعاؤهم ليس بعبادة. الجواب: اعلم إن الله فرض عليك إخلاص العبادة له وهو حقه على الناس، حيث قال تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (الأعراف:55).والدعاء عبادة، وإذا كان عبادة فإن دعاء غير الله شركٌ بالله - عز وجل - والذي يستحق أن يُدعى ويُعبد ويُرجى هو الله وحده لا شريك له. فإذا علمنا أن الدعاء عبادة، ودعونا الله ليلًا ونهارًا، خوفًا وطمعًا، ثم دعونا في تلك الحاجة نبينًا - صلى الله عليه وآله وسلم - أو غيره فقد أشركنا في عبادة الله غيره. وقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر} (الكوثر:2) فإذا أطعنا الله ونحرنا له، فهذه عبادة لله، فإذا نحرنا لمخلوق ـ نبي، أو جني أو غيرهما ـ فقد أشركنا في العبادة غير الله. والمشركون الذين نزل فيهم القرآن، كانوا يعبدون الملائكة والصالحين واللات، وما كانت عبادتهم إياهم إلا في الدعاء والذبح والالتجاء ونحو ذلك، وهم مقرون أنهم عبيد لله وتحت قهره، وأن الله هو الذي يدبر الأمر، ولكن دعوهم والتجأوا إليهم للجاه والشفاعة وهذا ظاهر جدًا. الشبهة الخامسة: قولهم: أنتم تنكرون شفاعة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -. الجواب: نحن لا ننكر شفاعة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا نتبرأ منها، بل هو - صلى الله عليه وآله وسلم -، الشافع المشفع ونرجو شفاعته، ولكن الشفاعة كلها لله، كما قال تعالى: {قُل للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} (الزمر:44).ولا تكون إلا من بعد إذن الله كما قال - عز وجل -: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة:255) ولا يشفع إلا من بعد أن يأذن الله فيه كما قال - عز وجل -: {وَلا يَشْفَعُونَ

الشبهة السادسة: قولهم: إن الله أعطى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الشفاعة، ونحن نطلبه مما أعطاه الله.

إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء:28).والله لا يرضى إلا التوحيد كما قال - عز وجل -: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل عمران:85). فإذا كانت الشفاعة كلها لله، ولا تكون إلا من بعد إذنه، ولا يشفع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد، فاطلب الشفاعة من الله، فقل: اللهم لا تحرمني شفاعة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، اللهم شفِّعْهُ فِيَّ، وأمثال هذا. الشبهة السادسة: قولهم: إن الله أعطى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الشفاعة، ونحن نطلبه مما أعطاه الله. الجواب: اعلم أن الله أعطى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الشفاعة ونهانا عن هذا فقال: {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن:18). واعلم أن الله سبحانه وتعالى أعطى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الشفاعة ولكنه - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يشفع إلا بإذن الله، ولا يشفع إلا لمن ارتضاه الله، ومن كان مشركًا فإن الله لا يرتضيه فلا يأذن أن يشفع له كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء:28). واعلم أن الله تعالى أعطى الشفاعة غير النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فالملائكة يشفعون، والأفراط (¬1) يشفعون، والأولياء يشفعون. فهل نطلب الشفاعة من هؤلاء؟ فإن كنت تريد من الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - الشفاعة فقل: «اللهم شفع فيَّ نبيك محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -».وكيف تريد شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأنت تخالف أمره وتدعوه - صلى الله عليه وآله وسلم - مباشرة، ودعاء غير الله شرك أكبر مخرج من الملة. الشبهة السابعة: قولهم: نحن لا نشرك بالله شيئًا ولكن الالتجاء إلى الصالحين ليس بشرك. فالشرك عبادة الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام. الجواب: اعلم أن عُبَّاد الأصنام لا يعتقدون أنها تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها، وإن القرآن يكذب من قال أنهم كانوا يعتقدون غير ذلك. وأن عُبَّاد الأصنام هم من قصد خشبة، أو حجرًا، أو بنية على قبر أو غيره، يدعون ذلك ويذبحون له ويقولون: إنه ¬

_ (¬1) فرَطُ الولدِ صِغارُه ما لم يُدْرِكوا وجمعُه أَفراط، وفي الدعاء للطِّفل الميت: «اللهم اجعله لنا فَرَطًا» أَي أَجرًا يتقدَّمُنا حتى نَرِدَ عليه، وفرَطَ فلانٌ وُلْدًا: ماتوا صِغارًا.

الشبهة الثامنة: قولهم: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويكذبون الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -

يقربنا إلى الله زلفى ويدفع الله عنا ببركته أو يعطينا. وأن فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور وغيرها هو نفس فعلهم، وبهذا يكون فعلكم هو عبادة الأصنام. وقولكم: الشرك عبادة الأصنام، هل هذا يعني أن الشرك مخصوص بهذا، وأن الاعتماد على الصالحين ودعاءهم لا يدخل في ذلك؟ فهذا يرده ما ذكر الله في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصالحين. الشبهة الثامنة: قولهم: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله، ويكذبون الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، وينكرون البعث، ويكذبون القرآن ويجعلونه سحرًا، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي ونصوم، فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟ الجواب: اعلم أن العلماء أجمعوا على أن من كفر ببعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وكذَّب به، فهو كمن كذب بالجميع وكفر به، ومن كفر بنبي من الأنبياء فهو كمن كفر بجميع الأنبياء لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ ِوَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} (النساء: 150 - 151) وقوله تعالى في بني إسرائيل: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} (البقرة:85). فمن أقر بالتوحيد وأنكر وجوب الصلاة فهو كافر، ومن أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة فإنه يكون كافرًا، ومن أقر بوجوب ما سبق وجحد وجوب الصوم فإنه يكون كافرًا، ومن أقر بذلك كله وجحد وجوب الحج فإنه كافر والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ (يعني من كفر بكون الحج واجبًا أوجبه الله على عباده) فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران:97).

ومن أقَرَّ بهذا كله، ولكنه كذب بالبعث فإنه كافر بالإجماع لقول الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} (التغابن:7). فإذا أقررت بهذا فاعلم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو أعظم من الصلاة، والزكاة، والصوم والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئًا من هذا الأمور كفَر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟ سبحان الله، ما أعجب هذا الجهل! فمنكر التوحيد أشد كفرًا وأبين وأظهر. وها هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قاتلوا بني حنيفة وقد أسلموا مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ويؤذِّنون ويصلون وهم إنما رفعوا رجلًا، وهو مسيلمة الكذاب، إلى مرتبة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فكيف بمن رفع مخلوقًا إلى مرتبة جبار السماوات والأرض، يدعوه ويذبح له ويستغيث به ويعتقد فيه النفع والضر؟ أفلا يكون أحق بالكفر ممن رفع مخلوقًا إلى منزلة مخلوق آخر؟! وقد أجمع العلماء على كفر بني عبيد القداح (الفاطميين) الذين الذين ملكوا المغرب ومصر وكانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويصلون الجمعة والجماعات ويدَّعون أنهم مسلمون، ولكن ذلك لم يمنعهم من حكم المسلمين عليهم بالردة حين أظهروا مخالفة المسلمين في أشياء دون التوحيد حتى قاتلوهم واستنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين. وإذا كان الكفار الأولون لم يكفروا إلا حين جمعوا جميع أنواع الكفر من الشرك والتكذيب والاستكبار فما معنى ذِكر أنواع من الكفر في (باب حكم المرتد)؟ كل نوع منها يُكَفّر حتى ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أو كلمة يذكرها على وجه المزاح واللعب، فلولا أن الكفر يحصل بفعل نوع منه وإن كان الفاعل مستقيمًا في جانب آخر لم يكن لذكر الأنواع فائدة.

الشبهة التاسعة: قولهم: في قول بني إسرائيل لموسى {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} وقول بعض الصحابة للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط» إن الصحابة وبني إسرائيل لم يكفروا.

وقد حكم الله تعالى بكفر المنافقين الذين قالوا كلمة الكفر مع أنهم كانوا مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يصلون ويزكون ويحجون ويجاهدون ويوحدون، فقال الله تعالى فيهم: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} (التوبة:74). وحكم الله تعالى بكفر المنافقين الذين قالوا كلمةً ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح، فقال الله تعالى فيهم: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (التوبة: 96). ومن الدليل على أن الإنسان قد يقول أو يفعل ما هو كفر من حيث لا يشعر قول بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم لموسى عليه الصلاة والسلام: {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} وقول أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط» فقال: «الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (الأعراف: 138) لتركبن سنة من كان قبلكم». (رواه الترمذي وصححه الألباني). وهذا يدل على أن موسى ومحمدًا ـ عليهما الصلاة والسلام ـ قد أنكروا ذلك غاية الإنكار. الشبهة التاسعة: قولهم: في قول بني إسرائيل لموسى {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} وقول بعض الصحابة للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط» إن الصحابة وبني إسرائيل لم يكفروا. الجواب: أن الصحابة وبني إسرائيل لم يفعلوا ذلك حين لقوا من الرسولين الكريمين إنكار ذلك، ولا خلاف أن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك لكفروا، وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا. الشبهة العاشرة: قولهم: إن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم بنوح، ثم إبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، فكلهم يعتذر حتى ينتهوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركًا.

الشبهة الحادية عشرة: قولهم: أن في قصة إبراهيم - عليه السلام - لما ألقي في النار اعترض له جبريل في الهواء فقال: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا، دليل على أنه لو كانت الاستغاثة بجبريل شركا لم يعرضها على إبراهيم؟

الجواب: الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها، كما قال الله تعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (القصص:15). والناس لم يستغيثوا بهؤلاء الأنبياء الكرام ليزيلوا عنهم الشدة، ولكنهم يستشفعون بهم عند الله - عز وجل - ليزيل هذه الشدة، وهناك فرق بين من يستغيث بالمخلوق ليكشف عنه الضرر والسوء، ومن يستشفع بالمخلوق إلى الله ليزيل الله عنه ذلك، وهذا أمر جائز كما أن الصحابة - رضي الله عنهم - يسألون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في حياته أن يدعو الله لهم، وأما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوه ذلك عند قبره، بل أنكر السلف الصالح على من قصد دعاء الله عند قبره فكيف بدعائه نفسه؟ ولا بأس أن تأتي لرجل صالح حي تعرفه وتعرف صلاحه فتسأله أن يدعو الله لك، وهذا حق إلا أنه لا ينبغي للإنسان أن يتخذ ذلك ديدنًا له كلما رأى رجلًا صالحًا قال: ادع الله لي، فإن هذا ليس من عادة السلف - رضي الله عنهم -، وفيه اتكال على دعاء الغير، ومن المعلوم أن الإنسان إذا دعا ربه بنفسه كان خيرًا له؛ لأنه يفعل عبادة يتقرب بها إلى الله - عز وجل -. الشبهة الحادية عشرة: قولهم: أن في قصة إبراهيم - عليه السلام - لما أُلقِي في النار اعترض له جبريل في الهواء فقال: ألك حاجة؟ فقال إبراهيم: أما إليك فلا، دليل على أنه لو كانت الاستغاثة بجبريل شركًا لم يعرضها على إبراهيم؟ الجواب: أولًا: قال العجلوني في (كشف الخفاء:1136): «(حسبي من سؤالي علمه بحالي) ذكره البغوي في تفسير سورة الأنبياء بلفظ: رُوِي عن كعب الأحبار أن إبراهيم قال حين أوثقوه ليلقوه في النار: «لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك» ثم رموا به في المنجنيق إلى النار فاستقبله جبريل، فقال: «يا إبراهيم ألك حاجة؟» قال: «أما إليك فلا»، قال جبريل: «فسَلْ ربك»، فقال إبراهيم: «حسبي من سؤالي علمه بحالي» انتهى، وذكر البغوي في تفسير {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ} (الأنبياء:68) أن إبراهيم - عليه السلام - قال: «حسبي الله ونعم الوكيل» حين قال له خازن المياه لما أراد النمرود إلقاؤه في النار: إن أردتَ أخمدتُ النار، وأتاه خازن الرياح فقال له: إن

شئتَ طيرتُ النار في الهواء، فقال إبراهيم: «لا حاجة لي إليكم، حسبي الله ونعم الوكيل» انتهى. قال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/ 74): (حسبي من سؤالي علمه بحالي). لا أصل له. أورده بعضهم من قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو من الإسرائيليات ولا أصل له في المرفوع، وقد ذكره البغوي في تفسير سورة الأنبياء مشيرًا لضعفه فقال: رُوِيَ عن كعب الأحبار: أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما رموا به في المنجنيق إلى النار استقبله جبريل. .. وقد أخذ هذا المعنى بعض من صنَّف في الحكمة على طريقة الصوفية فقال: سؤالك منه ـ يعني الله تعالى ـ اتهامٌ له، وهذه ضلالة كبري! فهل كان الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ متَّهِمين لربهم حين سألوه مختلف الأسئلة؟. .. وأدعية الأنبياء في الكتاب والسنة لا تكاد تحصى. .. وبالجملة فهذا الكلام المعزو لإبراهيم عليه الصلاة والسلام لا يصدر من مسلم يعرف منزلة الدعاء في الإسلام فكيف يصدر ممن سمانا المسلمين؟! ثم وجدت الحديث قد أورده ابن عراق في (تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبارالشنيعة الموضوعة) وقال (1/ 250): قال ابن تيمية موضوع».انتهى كلام الألباني (بتصرف). * الذي في البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ آخِرَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» ثانيًا: على فرض ثبوت الأثر ـ وقد تبين لك أنه من الإسرائيليات ـ فإن جبريل - عليه السلام - إنما عرض على إبراهيم - عليه السلام - أمرًا ممكنًا يمكن أن يقوم به فلو أذن الله لجبريل لأنقذ إبراهيم بما أعطاه الله تعالى من القوة فإن جبريل كما وصفه الله تعالى: {شَدِيدُ الْقُوَى} (النجم:5) فلو أمره الله أن يأخذ نار إبراهيم وماحولها ويلقيها في المشرق أو المغرب لفعل ولو أمره أن يحمل إبراهيم إلى مكان بعيد عنهم لفعل ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل.

الشبهة الثانية عشرة: قال بعض أهل البدع الذين يدعون أهل القبور: كيف تقولون: الميت لا ينفع وقد نفعنا موسى - عليه السلام - حيث كان السبب في تخفيف الصلاة من خمسين إلى خمس؟

وهذا يشبه لو أن رجلًا غنيًا أتي إلى فقير فقال هل لك حاجة في المال؟ من قرض أو هبة أو غير ذلك؟ فإنما هذا مما يقدر عليه، ولا يُعَدُّ هذا شركًا لو قال: «نعم لي حاجة أقرضني، أو هِبْني» لم يكن مشركًا. الشبهة الثانية عشرة: قال بعض أهل البدع الذين يَدْعُون أهل القبور: كيف تقولون: الميت لا ينفع وقد نفعنا موسى - عليه السلام - حيث كان السبب في تخفيف الصلاة من خمسين إلى خمس؟ الجواب: الأصل في الأموات أنهم لا يسمعون نداء من ناداهم من الناس، ولا يستجيبون دعاء من دعاهم، ولا يتكلمون مع الأحياء من البشر ولو كانوا أنبياء، بل انقطع عملهم بموتهم؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر:14) وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (فاطر:22) وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف:5 - 6) وقول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وولد صالح يدعو له وعلم ينتفع به» (رواه مسلم). ويستثنى من هذا الأصل ما ثبت بدليل صحيح، كسماع أهل القليب من الكفار كلام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عقب غزوة بدر، وكصلاته بالأنبياء ليلة الإسراء، وحديثه مع الأنبياء - عليهم السلام - في السماوات حينما عرج به إليها، ومن ذلك نصح موسى لنبينا ـ عليهما الصلاة والسلام ـ أن يسأل الله التخفيف مما افترضه عليه وعلى أمته من الصلوات فراجَعَ نبيُّنا - صلى الله عليه وآله وسلم - ربه في ذلك حتى صارت خمس صلوات في كل يوم وليلة، وهذا من المعجزات وخوارق العادات فيقتصر فيه على ما ورد. ولا يقاس عليه غيره مما هو داخل في عموم الأصل؛ لأن بقاءه في الأصل أقوى من خروجه عنه بالقياس على خوارق العادات، علمًا بأن القياس على المستثنيات من الأصول ممنوع خاصة إذا لم تعلم العلة، والعلة في هذه

الشبهة الثالثة عشرة:

المسألة غير معروفة؛ لأنها من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا بالتوقيف من الشرع، ولم يثبت فيها توقيف فيما نعلم، فوجب الوقوف بها مع الأصل. الشبهة الثالثة عشرة:1 - ما رُويَ عن عتبة بن غزوان عن نبي الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «إذا ضل أحدكم شيئًا أو أراد عونًا وهو بأرض ليس بها أنيس فليقل يا عباد الله أعينوني فإن لله عبادًا لا نراهم». الرد: قال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني، ورجاله وثقوا على ضعف في بعضهم، إلا أن يزيد بن علي لم يدرك عتبة. وقال الحافظ ابن حجر في (تخريج الأذكار): «أخرجه الطبراني بسند منقطع عن عتبة بن غزوان مرفوعًا. وزاد في آخره: «وقد جُرِّب ذلك». ثم قال الحافظ: «كذا في الأصل ـ أي الأصل المنقول منه هذا الحديث من كتاب الطبراني ـ ولم أعرف تعيين قائله، ولعله مصنف المعجم، والله أعلم». قال الشيخ الألباني: وأما دعوى الطبراني - رحمه الله - بأن الحديث قد جُرِّب، فلا يجوز الاعتماد عليها، لأن العبادات لا تثبت بالتجربة. 2 - ما رُويَ عن عبد الله ابن مسعود أنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا يا عباد الله احبسوا فإن لله حاصرًا في الأرض سيحبسه». الرد: قال الحافظ الهيثمي: رواه أبو يعلى والطبراني وزاد سيحبسه عليكم، وفيه معروف بن حسان وهو ضعيف. 3 - ما رُويَ عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إن لله ملائكة في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة فليناد أعينوا عباد الله. الرد: قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات. قال الشيخ الألباني - رحمه الله - في (السلسلة الضعيفة والموضوعة) (2/ 109): وأخرجه البزار عن ابن عباس بلفظ: «إن لله تعالى ملائكة في الأرض سوى الحفظة

يكتبون ما يسقط من ورق الشجر، فإذا أصابت أحدكم عرجة بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله أعينوني».قال الحافظ كما في (شرح ابن علان) (5/ 151): «هذا حديث حسن الإسناد غريب جدًا، أخرجه البزار وقال: لا نعلم يروى عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد».وحسنه السخاوي أيضا في (الابتهاج) وقال الهيثمي: «رجاله ثقات».قلت (أي الألباني): ورواه البيهقي في (الشعب) موقوفًا كما يأتي .... ثم قال الشيخ الألباني: وقفت على إسناد البزار في " زوائده " (ص 303): حدثنا موسى بن إسحاق: حدثنا منجاب بن الحارث: حدثنا حاتم بن إسماعيل عن أسامة بن زيد (عن أبان) ابن صالح عن مجاهد عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: فذكره. قلت: وهذاإسناد حسن كما قالوا، فإن رجاله كلهم ثقات غير أسامة بن زيد وهو الليثي وهو من رجال مسلم، على ضعف في حفظه، قال الحافظ في (التقريب): «صدوق يهم». وموسى بن إسحاق هو أبو بكر الأنصاري ثقة، ترجمه الخطيب البغدادي في (تاريخه) (13/ 52 - 54) ترجمة جيدة. نعم خالفه جعفر بن عون فقال: حدثنا أسامة بن زيد. ... فذكره موقوفا على ابن عباس. أخرجه البيهقي في (شعب الإيمان) (2/ 455).وجعفر بن عون أوثق من حاتم بن إسماعيل، فإنهما وإن كانا من رجال الشيخين، فالأول منهما لم يجرح بشيء، بخلاف الآخر، فقد قال فيه النسائي: ليس بالقوي. وقال غيره: كانت فيه غفلة. ولذلك قال فيه الحافظ: «صحيح الكتاب، صدوق يهم». وقال في جعفر: «صدوق».ولذلك فالحديث عندي معلول بالمخالفة، والأرجح أنه موقوف، وليس هو من الأحاديث التي يمكن القطع بأنها في حكم المرفوع، لاحتمال أن يكون ابن عباس تلقاها من مسلمة أهل الكتاب. والله أعلم. ولعل الحافظ ابن حجر - رحمه الله - لو اطلع على هذه الطريق الموقوفة، لانكشفت له العلة، وأعله بالوقف كما فعلت، ولأغناه ذلك عن استغرابه جدًا، والله أعلم.» اهـ. تنبيه: قولهم: «رجاله رجال الصحيح» أو «رجاله ثقات»، ليس تصحيحا للحديث؛ لأن من شروط الحديث الصحيح أن يسلم من العلل التي بعضها الشذوذ

والاضطراب والتدليس، وعليه فقول بعض المحدثين في حديث ما: «رجاله رجال الصحيح» أو: «رجاله ثقات» أو نحو ذلك لا يساوي قوله: «إسناده صحيح» فإن هذا يثبت وجود جميع شروط الصحة التي منها السلامة من العلل، بخلاف القول الأول، فإنه لا يثبتها، وإنما يثبت شرطًا واحدًا فقط وهو عدالة الرجال وثقتهم وبهذا لا تثبت الصحة كما لا يخفى. تنبيه آخر: قد يَسْلَم الحديث المقول فيه ذلك القول من تلك العلل ومع ذلك فلا يكون صحيحًا، لأنه قد يكون في السند رجل من رجال الصحيح ولكن لم يحتَجّ به، وإنما أخرج له استشهادًا أو مقرونًا بغيره لضعف في حفظه، أو يكون ممن تفرد بتوثيقه ابن حبان، وكثيرًا ما يشير بعض المحققين إلى ذلك بقوله: «ورجاله موثقون» إشارة إلى أن في توثيق بعضهم لِينًا، فهذا كله يمنع من أن تفهم الصحه من قولهم الذي ذكرنا. تنبيه أخير: قال أحد دعاة الصوفية المعاصرين بعد أن استشهد بالحديث: «ولا يبعد أن يقاس على الملائكة أرواح الصالحين فهي أجسام نورانية باقية في عالمها» الرد: أولًا: من أين لك هذا؟ كيف يقال: «إن أرواح الصالحين أجسام نورانية» مع أن الله - عز وجل - قد قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء:85) قال الحافظ ابن كثير: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي: من شأنه، ومما استأثر بعلمه دونكم؛ ولهذا قال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} أي: وما أطلعكم من علمه إلا على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى. ثانيًا: بقاء أرواح الصالحين في عالمها ليس دليلًا على أنها تنفع أو تضر. فالحياة البرزخية حياة لا يعلمها إلا الله تعالى، وليس لها أية علاقة بالحياة الدنيا وليس لها بها أي صلة ... فهي حياة مستقلة نؤمن بها ولا نعلم ما هيتها. وإن ما بين الأحياء والأموات حاجز يمنع الاتصال فيما بينهم قطعيًا وعلى هذا فيستحيل الاتصال بينهم لا ذاتًا ولا صفات والله سبحانه يقول: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (المؤمنون:100) والبرزخ معناه: الحاجز الذي يحول دون اتصال هؤلاء

الشبهة الرابعة عشرة: قالوا: من الأدلة على جواز دعاء الصالحين وندائهم، ما ذكره الله - عز وجل - عن نبيه سليمان - عليه السلام - وقوله لآصف بن برخيا وقد طلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله.

بهؤلاء. لا سيما وأن الله تعالى يقول: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} (النمل:80) ويقول - عز وجل -: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (فاطر:22). قال الشيخ الألباني: فهذا الحديث ـ إذا صح ـ يعين أن المراد بقوله في الحديث الأول: «يا عباد الله» إنما هم الملائكة، فلا يجوز أن يلحق بهم المسلمون من الجن أو الإنس ممن يسمونهم برجال الغيب من الأولياء والصالحين، سواء كانوا أحياء أو أمواتًا، فإن الاستغاثة بهم وطلب العون منهم شرك بيِّن لأنهم لا يسمعون الدعاء، ولو سمعوا لما استطاعوا الاستجابة وتحقيق الرغبة، وهذا صريح في آيات كثيرة، منها قوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر 13 - 14). الشبهة الرابعة عشرة: قالوا: من الأدلة على جواز دعاء الصالحين وندائهم، ما ذكره الله - عز وجل - عن نبيه سليمان - عليه السلام - وقوله لآصف بن برخيا وقد طلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله. قال - عز وجل -: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل:38 - 40). وقوله - عز وجل -: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} أي: ارفع بصرك وانظر مُدّ بصرك مما تقدر عليه، فإنك لا يكلّ بصرك إلا وهو حاضر عندك. وذُكر أنه أمره أن ينظر نحو اليمن التي فيها هذا العرش المطلوب، ثم قام فتوضأ، ودعا الله - عز وجل -. قال مجاهد: قال: يا ذا الجلال والإكرام. وقال الزهري: قال: يا إلهنا وإله كل شيء، إلهًا واحدًا، لا إله إلا أنت، ائتني بعرشها. قال: فتمثل له بين يديه».

الرد: ما الدليل على أن المقصود هو آصف بن برخيا، إن قصة آصف بن برخيا لم يرِدْ فيها حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما نعلم. نريد إسناداً ـ على الأقل ـ لهذه القصة؟ في المسألة أقوال كثيرة؛ أقواها أربعة أقوال وهي: 1 - أنه آصف بن برخيا كاتب سليمان - عليه السلام -. 2 - أنه سليمان - عليه السلام - نفسه. 3 - أنه جبريل - عليه السلام -. 4 - أنه ملك من الملائكة. * القول الأول: بأنه آصف بن برخيا، وكان وزيراً لسليمان - عليه السلام - وكان صدّيقاً يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى. وهذا القول رواه محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان، وهذا إسناد لا يسمن ولا يغني من جوع، فإن بين يزيد بن رومان وبين سليمان - عليه السلام - مفاوز تقطع دونها أعناق الإبل. * القول الثاني: قال ابن عطية: وقالت فرقة هو سليمان نفسه، ويكون الخطاب على هذا للعفريت، كأن سليمان استبطأ ما قاله العفريت فقال له تحقيراً له: {أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} وهذا القول أقرب لمعنى الآية، ودلالته ظاهرة، ورجحه بعض العلماء؛ لأن سليمان - عليه السلام - نبي ورسول وملِك، فلا ينبغي أن يكون من حاشيته أعلم بالكتاب منه، فالذي عنده علم من الكتاب أيكون أحد حاشيته أو كاتبه؟ ويكون لديه من القوة أعظم مما لدى سليمان نفسه؟ وكيف يكون ذلك وقد استجاب الله دعوة سليمان {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (ص:35) فكيف يكون لكاتبه قوة أقوى منه أليست القوة من أهم أسباب الملك، ولا سيما وأنه نبي مؤيد بالمعجزات؟ فبدهي أن يكون عند سليمان علم من الكتاب وذلك من باب أولى من جميع أفراد مملكته. وإلا فيكون في مملكته من هو أصلح للنبوة والملك منه؟!! فهل يعقل أن يكون عند آصف علم من الكتاب، وسليمان يجهل هذا العلم؟!!!

* إذا لم يكن المقصود هو سليمان - عليه السلام -، فإما من أن يكون جبريل - عليه السلام - أو يكون مَلَكاً آخر. وسواءً كان هو القول الأول أو الثاني أو الثالث أو الرابع فإنه ليس به أي دلالة لما يُريدُ أن يستدل به المستغيثون بغير الله. فعل فرض أن قصة آصف صحيحة ـ وهي ليست كذلك ـ فإنها من أدلة التوحيد، حيث إن آصف توسل إلى الله بتوحيده وإلهيته، وكرر ذلك في دعائه، وقد قيل إنه يعرف الاسم الأعظم، فهو طالب من الله، راغب إليه سائل له، وسليمان - عليه السلام - آمِر ليس بسائل ولا طالب. وفرق بين الأمر والمسألة: فالأمر هو طلب فعل الشيء على وجه الاستعلاء. وأما المسألة فهي طلب الشيء على وجه الضعف والرجاء والتذلل. وأمر سليمان لآصف هو من باب أمر السيد لمملوكه والأب لابنه والملك لرعيته. وهذا من جنس الأسباب العادية، فإن الرجل إذا كان معروفاً بالصلاح وإجابة الدعاء فطُلِب منه الدعاء، أو أمِر به فدعا الله واستجيب له، لا يكون هو الفاعل للاستجابة، وليس المطلوب منه ما يختص بالله من الفعل، وإنما يطلب منه ما يختص به من الدعاء والتضرع، فالآية من أدلة التوحيد، وصرف الوجوه إلى الله، وإقبال القلوب عليه، فإن آصف توسلَ إلى الله بتوحيده وربوبيته، وقصَدَه وحده، ولم يقصد سليمان، ولا غيره مع أن سليمان أفضل منه لنبوته. وفي هذه القصة أن الأنبياء لا يُسألون ولا يُقصَدون، بل ربما صار حصول مقصودهم، ونيل مطلوبهم على يد من هو دونهم من المؤمنين، وإن أعظم الوسائل، وأشرف المقاصد هو: توحيد الله بعبادته ودعائه وحده لا شريك له كما فعل آصف. وفيها براءة أولياء الله من الحول والقوة كما دلت عليه القصة، فإنه توضأ وصلى ودعا.

ثانيا: الرد على من زعم رؤية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقظة بعد موته

ثانيًا: الرد على من زعم رؤية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقظة بعد موته!! يزعم البعض أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - حي في قبره كحياتنا، ولو كان الأمر كذلك لما انصرف الصحابة - رضي الله عنهم - عن الصلاة وراءه - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى الصلاة وراء غيره ممن لا يدانيه أبدًا في منزلته وفضله. رؤية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقظة غير ممكنة والدليل على ذلك: أن أمورًا عظيمة وقعت لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهم أفضل الأمة بعد نبيها كانوا في حاجة ماسة إلى وجوده بين أظهرهم ولم يظهر لهم، نذكر منها: 1 - أنه وقع خلاف بين الصحابة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بسبب الخلافة، فكيف لم يظهر لأصحابه ويفصل النزاع بينهم. 2 - اختلاف أبي بكر الصديق مع فاطمة - رضي الله عنهما - على ميراث أبيها - صلى الله عليه وآله وسلم - فاحتجت فاطمة عليه بأنه إذا مات هو إنما يرثه أبناؤه فلماذا يمنعها من ميراث أبيها؟ فأجابها أبو بكر بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث وما تركنا صدقة» (رواه البخاري). 3 - الخلاف الذي وقع بين طلحة والزبير وعائشة من جهة وعلي بن أبي طالب وأصحابه - رضي الله عنهم - أجمعين من جهة أخرى، والذي أدى إلى وقوع معركة الجمل، فقتل فيها خلق كثير من الصحابة والتابعين، فلماذا لم يظهر لهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى يحقن هذه الدماء؟ 4 - الخلاف الذي وقع بين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مع الخوارج، وقد سفكت فيه دماء كثيرة، ولو ظهر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لرئيس الخوارج وأمره بطاعة إمامه لحقَن تلك الدماء. 5 - النزاع الذي وقع بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - والذي أدى إلى وقوع حرب صفين حيث قتل خلق كثير جدًا منهم عمار بن ياسر. فلماذا لم يظهر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى تجتمع كلمة المسلمين وتحقن دمائهم. أقوال بعض أهل العلم في هذه المسألة: 1 - ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري) (12/ 385) «أن ابن أبى جمرة نقل عن جماعة من المتصوفة أنهم رأوا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في المنام ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة

وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى طريق تفريجها فجاء الأمر كذلك»، ثم تعقب الحافظ ذلك بقوله: «وهذا مشكل جدًا ولو حُمِل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة ويعكر عليه أن جمعًا جمًا رأوه في المنام، ثم لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة وخبر الصادق لا يتخلف». 2 - قال الحافظ السخاوي في رؤية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في اليقظة بعد موته: «لم يصل إلينا ذلك ـ أي ادعاء وقوعها ـ عن أحد من الصحابة ولا عمن بعدهم وقد اشتد حزن فاطمة - رضي الله عنها - عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى ماتت كمدًا بعده بستة أشهر على الصحيح وبيتُها مجاور لضريحه الشريف ولم تنقل عنها رؤيته في المدة التي تأخرتها عنه» نقل ذلك القسطلاني في (المواهب اللدنية) (5/ 295) عن السخاوي. 3 - وقال ملا علي قاري في (جمع الوسائل شرح الشمائل للترمذي) (2/ 238): «إنه ـ أي ما دعاه المتصوفة من رؤية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في اليقظة بعد موته ـ لو كان له حقيقة لكان يجب العمل بما سمعوه منه - صلى الله عليه وآله وسلم - من أمر ونهي وإثبات ونفي ومن المعلوم أنه لا يجوز ذلك إجماعًا كما لا يجوز بما يقع حال المنام، ولو كان الرائي من أكابر الأنام». 4 - قال الشيخ رشيد رضا في (فتاويه) (6/ 2385): «صرح بعض العلماء المحققين بأن دعوى رؤية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد موته في اليقظة والأخذ عنه دعوى باطلة، واستدلوا على ذلك بأن أَوْلى الناس بها ـ لو كانت مما يقع ـ ابنته سيدة النساء وخلفاؤه الراشدون وسائر أصحابه العلماء، وقد وقعوا في مشكلات وخلاف أفضى بعضه إلى المغاضبة وبعضه إلى القتال؛ فلو كان - صلى الله عليه وآله وسلم - يظهر لأحد ويعلمه ويرشده بعد موته لظهر لبنته فاطمة لوأخبرها بصدق خليفته أبى بكر - رضي الله عنه - فيما روى عنه من أن الأنبياء لا يورثون وكذا للأقرب والأحب إليه من آله وأصحابه ثم لمن بعدهم من الأئمة الذين أخذ أكثر أمته دينهم عنهم، ولم يدّع أحد منهم ذلك وإنما ادعاه بعض غلاة الصوفية بعد خير القرون وغيرهم من العلماء الذين تغلب عليهم تخيلات الصوفية، فمن العلماء من جزم بأن من ذلك ما هو كذب مفترى وأن الصادق من أهل هذه الدعوى من خُيِّلَ إليه في حال غيبة ـ أو ما

يسمى بين النوم واليقظة ـ أنه رآه - صلى الله عليه وآله وسلم - فخال أنه رآه حقيقة على قول الشاعر: ومثلك من تخيَّل ثم خالا. والدليل على صحة القول بأن ما يدَّعُونه كذب أو تخيُّل ما يروونه عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذه الرؤية. .. وكون بعضه مخالفًا لنص كتاب الله وما ثبت من سنته - صلى الله عليه وآله وسلم - ثبوتًا قطعيًا ومنه ما هو كفر صريح بإجماع المسلمين». 5 - قال الشيخ عبد الحي بن محمد اللكنوي - رحمه الله - في (الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة) (ص46): (ومنها ـ أي من القصص المختلقة الموضوعة ـ ما يذكرونه من أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يحضر بنفسه في مجالس وعظ مولده عند ذكر مولده وبنَوا عليه القيام عند ذكر المولد تعظيمًا وإكرامًا. وهذا أيضا من الأباطيل لم يثبت ذلك بدليل، ومجرد الاحتمال والإمكان خارج عن حد البيان». 6 - قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - في (حكم الاحتفال بالمولد النبوي): «بعضهم يظن أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يحضر المولد؛ ولهذا يقومون له مُحَيِّين ومرحّبين، وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل، فإن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة، ولا يتصل بأحد من الناس، ولا يحضر اجتماعاتهم، بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة، وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة، كما قال الله تعالى في سورة المؤمنون: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (المؤمنون:15 - 16)، وقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر. وأول شافع وأول مشفع» عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام. فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف وما جاء في معناهما من الآيات والأحاديث، كلها تدل على أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة». اهـ (والحديث رواه مسلم).

الرد على الشبهات

الرد على الشبهات الشبهة الأولى: أكثر ما يستدل به هؤلاء: الحكايات، والادعاءات المنقولة عن أرباب الأحوال الصوفية، وهذه الشبهة لا تستحق الرد عليها؛ فدين الله - عز وجل - لا يُؤخَذ من أمثال هذه الحكايات، وإن صحت فإن مَن تُروى عنهم غيرُ معصومين. * ومن أعجب الحكايات ما ذكره أحد دعاة التصوف المعاصرين ـ في أحد كتبه ـ من أن أهل الكشف تجتمع روح أحدهم بروح رسوا الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ويسألونه عن كل شيء توقفوا فيه من الأدلة: هل هذا من قولك يا رسول الله أم لا؟ يقظة ومشافهة، وكذلك كانوا يسألونه عن كل شيء من الكتاب والسنة قبل أن يدونوه في كتبهم ويدينون لله تعالى به، ويقولون: «يا رسول الله، قد فهمنا من قولك في الحديث الفلاني كذا فهل ترضاه أم لا؟»، ويعملون بمقتضى قوله وإشارته - صلى الله عليه وآله وسلم -. اهـ كلامه. وله نقول: لو كان الأمر بهذه السهولة لما اختلف الصحابة ومن بعدهم في كثير من المسائل، ولأصبح الكشف الصوفي أحد مصادر التشريع في الإسلام وهذا ما لا يقول به عاقل. وننقل له قول عبد الفتاح أبو غدة (¬1) في تعليقه على (المصنوع في معرفة الحديث الموضوع) لعلي قاري - رحمه الله - (ص273): «ومن غريب ما وقفتُ عليه بصَدَدِ (التصحيح الكشفي) و (التضعيف الكشفي):ما أورده الشيخ إسماعيل العجلوني الدمشقي في مقدمة كتابه (كشف الخفاء ومزيل الإلباس) (1/ 9 - 10)، على سبيل الإقرار والاعتداد به! قال: «والحكم على الحديث بالوضع والصحة أو غيرهما، إنما بحسب الظاهرِ للمحدثين، باعتبار الإسناد أو غيره، لا باعتبار نفس الأمرِ والقطع، لجواز أن يكون ¬

_ (¬1) وأبو غدة إنما نقلنا كلامه حجة على أتباعه الصوفية، وإلا ففي كتبه كثير من الضلال، وقد رد عليه العلامة الألباني رحمه الله في (كشف النقاب) وفي مقدمة (شرح العقيدة الطحاوية) كما رد عليه العلامة بكر أبو زيد في كتابه (براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء السنة) وقدم لهذه الرسالة العلامة عبدالعزيز بن باز - رحمه الله -.

الصحيح مثلًا باعتبار نظر المحدِّث: موضوعًا أو ضعيفًا في نفس الأمر، وبالعكس. نعم المتواتر مطلقًا قطعي النسبة لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - اتفاقًا. ومع كون الحديث يحتمل ذلك، فيعمل بمقتضى ما يثبت عند المحدثين، ويترتب عليه الحكم الشرعي المستفاد منه للمستنبطين. وفي (الفتوحات المكية) للشيخ الأكبر قدس سره الأنور (¬1)، ما حاصله: فَرُبَّ حديث يكون صحيحًا من طريق رواته يحصل لهذا المكاشف أنه غير صحيح لسؤاله لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيعَلم وضعه، ويترك العمل به وإن عمل به أهل النقل لصحة طريقه. ورُبَّ حديثٍ تُرِك العمل به لضعف طريقه، من أجل وضاع في رواته، يكون صحيحًا في نفس الأمر، لسماعِ المكاشف له من الروح حين إلقائه على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -» انتهى». قال عبد الفتاح أبو غدة: «هذا ما نقله العجلوني وسكت عليه واعتمده! ولا يكاد ينقضي عجبي من صنيعه هذا! وهو المحدث الذي شرح (صحيح البخاري)، كيف استساغ قبول هذا الكلام الذي تُهْدَر به علوم المحدثين، وقواعد الحديث والدين؟ ويصبح به أمر التصحيح والتضعيف من علماء الحديث شيئًا لا معنى له بالنسبة إلى من يقول: إنه مكاشَف أو يَرى نفسه أنه مكاشَف! ومتى كان لثبوت السنة المطهرة مصدران: النقل الصحيح من المحدثين والكشف من المكاشفين؟! فحذارِ أن تغتر بهذا، والله يتولاك ويرعاك» اهـ كلام أبي غدة. الشبهة الثانية: قد يقول قائل إنه قد ورد أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «أنا في قبري حي طري، من سلَّم علي سلَّمتُ عليه». وأنه يستفاد منه أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - حيٌّ مثل حياتنا، فإذا توسلنا به سمعَنا واستجاب لنا، فيحصل مقصودنا، وتتحقق رغبتنا، وأنه لا فرق في ذلك بين حاله - صلى الله عليه وآله وسلم - في حياته، وبين حاله بعد وفاته. وهذا مردود من وجهين: الأول: الحديث المذكور لا أصل له بهذا اللفظ، كما أن لفظة (طريّ) لا وجود لها في شيء من كتب السنة إطلاقًا ـ فيما نعلم ـ ولكن معناه قد ورد في عدة أحاديث صحيحة، منها قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - «إن أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه قبِض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ» قالوا: يا رسول الله! وكيف تُعرض صلاتنا عليك، وقد أرمتَ (قال: يقولون: بَليتَ)، قال: «إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء» (رواه أبو داود وصححه الألباني)، (أرم أي صار رميما ـ أي عظمًا باليًا)، ومنها قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الأنبياء أحياء في قبورهم يصَلُّون» (رواه أبو يعلى والبزار وصححه الألباني) وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مررت ليلة أسري بي على موسى قائمًا يصلي في قبره» (رواه مسلم) وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام». (رواه النسائي وصححه الألباني). الوجه الثاني: أن حياته - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد وفاته مخالفة لحياته قبل الوفاة، ذلك أن الحياة البرزخية غيب من الغيوب، ولا يدري كيفيتها إلا الله - عز وجل -، ولكن من الثابت والمعلوم أنها تختلف عن الحياة الدنيوية، ولا تخضع لقوانينها، فالانسان في الدنيا يأكل ويشرب، ¬

_ (¬1) يقصد ابن عربي الصوفي الهالك. أما ابن العربي) بالألف واللام) فهو القاضي أبو بكر من علماء المالكية، وهو صاحب كتاب (العواصم من القواصم)، وهو كتاب قيِّم، وشرَحَ (سنن الترمذي) في كتاب عنوانه (عارضة الأحوذي). أما ابن عربي (بدون الألف واللام) فهو الصوفي الهالك، صاحب كتاب (الفتوحات المكية)، قال الحافظ ابن حجر: أنه ذكر لشيخ الإسلام سراج الدين البلقيني، شيئًا من كلام ابن عربي المشكل، وسأله عن ابن عربي، فقال له شيخ الإسلام البلقيني: هو كافر. قال ابن خلدون: ومن هؤلاء المتصوفة: ابن عربي، وابن سبعين، وابن برّجان، وأتباعهم، ممن سلك سبيلهم ودان بنحلتهم، ولهم تواليف كثيرة يتداولونها، مشحونة من صريح الكفر، ومستهجن البدع، وتأويل الظواهر لذلك على أبعد الوجوه وأقبحها، مما يستغرب الناظر فيها من نسبتها إلى الملّة أو عدّها في الشريعة. وقال السبكي: ومن كان من هؤلاء الصوفية المتأخرين، كابن عربي وأتباعه، فهم ضلاّل جهال، خارجون عن طريقة الإسلام، فضلًا عن العلماء.

ويتنفس ويتزوج، ويتحرك ويتبرز، ويمرض ويتكلم، ولا أحد يستطيع أن يثبت أن أحدًا بعد الموت حتى الأنبياء - عليهم السلام -، وفي مقدمتهم نبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - تعرِض له هذه الأمور بعد موته. ومما يؤكد هذا أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يختلفون في مسائل كثيرة بعد وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولم يخطر في بال أحد منهم الذهاب إليه - صلى الله عليه وآله وسلم - في قبره، ومشاورته في ذلك، وسؤاله عن الصواب فيها، لماذا؟ إن الأمر واضح جدًا، وهو أنهم كلهم يعلمون أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - انقطع عن الحياة الدنيا، ولم تعد تنطبق عليه أحوالها ونواميسها. فرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد موته حي أكمل حياة يحياها إنسان في البرزخ، ولكنها حياة لا تشبه حياة الدنيا، ولعل مما يشير إلى ذلك قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ما من أحد يُسَلّم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرُدَّ عليه السلام» (رواه أبو داود وحسنه الألباني)، وعلى كل حال فإن حقيقتها لا يدريها إلا الله؛ ولذلك فلا يجوز قياس الحياة البرزخية أو الحياة الأخروية على الحياة الدنيوية، كما لا يجوز أن تعطى واحدة منهما أحكام الأخرى، بل لكل منها شكل خاص وحكم معين، ولا تتشابه إلا في الاسم، أما الحقيقة فلا يعلمها إلا الله. الشبهة الثالثة: منهم من يستدل بحديث أبي هريرة الذي رواه البخاري في صحيحه (حديث رقم 6993) ولفظه: «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي». والكلام على الاستدلال بهذه الرواية من عدة أوجه: الوجه الأول: بالنظر في ألفاظ الحديث ورواياته نجد ملاحظات على لفظ «فسيراني في اليقظة» لا ريب أنها تقلل من قيمة الاستدلال بها وهذه الملاحظات هي: 1 - رَوَى هذا الحديث اثنا عشر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أو يزيد، مما يدل على شيوعه واستفاضته. 2 - أن ثمانية من أئمة الحديث المصنفين اهتموا بهذا الحديث فأخرجوه في كتبهم مما يؤكد اهتمامهم به وفهمهم لمدلوله. ومع ذلك لم يُبَوِّب له أحد منهم بقوله مثلًا: باب في إمكان رؤية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في اليقظة، ولو فهموا منه ذلك لبَوَّبُوا به أو بعضهم على الأقل؛ لأنه أعظم من كل ما ترجموا به تلك الأبواب. 3 - أن المواضع التي أخرجوا فيها هذا الحديث بلغ (44) موضعًا، ومع كثرة هذه المواضع لم يرد في أي موضع لفظ «فسيراني في اليقظة» بالجزم إلا في إحدى روايات البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.أما بقية الروايات فألفاظها: «فقد رآني» أو «فقد رأى الحق» أو «فكأنما رآني في اليقظة «أو «فسيراني في اليقظة أو فكأنما رآني في اليقظة» بالشك. 4 - أن البخاري أخرج الحديث في ستة مواضع من صحيحه: ثلاثة منها من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وليس فيها لفظ «فسيراني في اليقظة» إلا في موضع واحد. 5 - أن مسلم (حديث رقم 2266)، وأبو داود (حديث رقم 5023)، وأحمد (5/ 306)، أخرجوا الحديث بإسناد البخاري الذي فيه اللفظ المذكور بلفظ «فسيراني في اليقظة. أو لكأنما رآني في اليقظة» وهذا الشك من الراوي يدل على أن المحفوظ إنما هو لفظ «فكأنما رآني» أو «فقد رآني «؛ لأن كلًا منهما ورد في روايات كثيرة بالجزم وليس فيها شيء شك فيه الراوي. وعند الترجيح ينبغي تقديم رواية الجزم على رواية الشك. الوجه الثاني: لو فرضنا أن هذا اللفظ «فسيراني» هو المحفوظ فإن العلماء المحققين لم يحملوه على المعنى الذي حمله عليه الصوفية. * قال الإمام النووي - رحمه الله - في شرحه لصحيح مسلم (15/ 26): «فيه أقوال: * أحدها: أن يُرادَ به أهلُ عصره، ومعناه: أن من رآه في النوم ولم يكن هاجر يوفقه الله للهجرة ورؤيته - صلى الله عليه وآله وسلم - في اليقظة عيانًا. * وثانيها: أنه يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة؛ لأنه يراه في الآخرة جميع أمته. * وثالثها: أنه يراه في الآخرة رؤية خاصة في القرب منه وحصول شفاعته ونحو ذلك». * قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) (12/ 385): «وحاصل تلك الأجوبة ستة: *أحدها: أنه على التشبيه التمثيل، ودل عليه قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الرواية الأخرى: «فكأنما رآني في اليقظة».

* ثانيها: أن معناها سيرى في اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة أو التعبير. * ثالثها: أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه. * رابعها: أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكن ذلك، وهذا من أبعدالمحامل. * خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية لا مطلق من يراه. * سادسها: أنه يراه في الدنيا حقيقة ويُخاطبه، وفيه ما تقدم من الإشكال.» الوجه الثالث: ما يَرِدُ على الصوفية من الإشكال على المعنى الذي قالوا به: والإشكال أشار إليه ابن حجر - رحمه الله - بقوله: «ونُقل عن جماعة من الصالحين أنهم رأوا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في المنام ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى طريق تفريجها فجاء الأمر كذلك. قلت (أي الحافظ ابن حجر):وهذا مُشكِل جدًا ولو حُمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة، ويُعَكّرُ عليه أن جمعًا جمًا رأوه في المنام ثم لم يُذكَر عن واحد منهم أنه رآه في اليقظة وخبر الصادق لا يتخلف. وقد أشتد إنكار القرطبي على من قال: من رآه في المنام فقد رأى حقيقته ثم يراها كذلك في اليقظة». (فتح الباري) (12/ 385) (. والإنكار الذي أشار إليه ابن حجر هو قول القرطبي: «اختُلِفَ في معنى الحديث: فقال قوم هو على ظاهره فمن رآه في النوم رأى حقيقته كمن رآه في اليقظة سواء، وهذا قول يُدرَكُ فسادُه بأوائل العقول، ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن لا يراه رائيان في آن واحد في مكانين وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى من قبره فيه شيء، فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب؛ لأنه جائز أن يُرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره، وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل». الوجه الرابع: أن هذه العقيدة مخالفة لإجماع أهل السنة والجماعة وهي خاصة بأهل البدعة، قال ابن حزم في (مراتب الإجماع) (ص176): «واتفقوا أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - وجميع أصحابه لا يرجعون إلى الدنيا إلا حين يبعثون مع جميع الناس». الوجه الخامس: اضطراب مقالات الصوفية في كيفية الرؤية: لما اشتد الإنكار على هؤلاء القائلين برؤيته - صلى الله عليه وآله وسلم - في الدنيا بعد وفاته يقظة لا منامًا، اضطربت مقالاتهم في كيفية تلك الرؤيا: * فمنهم من أخذته العزة بالإثم فنفى الموت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالكلية وزعم أن موته - صلى الله عليه وآله وسلم - هو تَسَتّرُه عمن لا يفقه عن الله. * ومنهم من زعم أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه ويسير حيث شاء في أقطار الأرض في الملكوت وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته. * ومنهم من زعم أن له - صلى الله عليه وآله وسلم - مقدرة على التشكل والظهور في صور مشايخ الصوفية. * ومنهم من زعم أن المراد برؤيته كذلك يقظة القلب لا يقظة الحواس الجسمانية. * ومنهم من قال إن الاجتماع بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يكون في حالة بين النائم واليقظان. * ومنهم من قال إن الذي يُرَى روحه - صلى الله عليه وآله وسلم -. * ومنهم من قال إنه لا يُرَى جسمُه وبدنه بل يُرَى مثالٌ له. * وبعد أن ظهر تفرد تلك الرواية ـ التي استدل بها الصوفية ـ عن روايات الجمهور، وتلك الاحتمالات التي تأولها أهل العلم في المراد بمعناها، وتلك الإشكالات والإنكارات التي وردت على المعنى الذي قصده الصوفية، واضطراب مقالاتهم في كيفية تلك الرؤيا، بكل ذلك يسقط استدلالهم بها، والقاعدة المشهورة في ذلك: إذا ورد على الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال. الشبهة الرابعة: الاحتجاج على حياة الأنبياء بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - اجتمع بهم ليلة الإسراء في بيت المقدس. وما دام هذا ممكنًا في حق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - معهم، فيمكن أن يكون جائزًا في حق أولياء أمته معه، فيرونه في اليقظة. الجواب: أولاً: ليس النزاع في حياة الأنبياء في قبورهم ولا في اجتماع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بهم ليلة الإسراء ولا صلاته بهم إمامًا، فإن ذلك كله ثابت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فيجب على جميع المؤمنين التصديق به. ثانيًا: حياة الأنبياء في قبورهم حياة برزخية لا نعلم كيف هي، وحكمها كحكم غيرها من المغيّبات، نؤمن بها ولا نشتغل بكيفيتها، ولكننا نجزم بأنها مخالفة لحياتنا الدنيا. ثالثًا: أن الذي أخبرنا بأنه اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء هو الصادق المصدوق - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي يجب على كل مؤمن أن يصدقه في كل ما أخبر به من المغيّبات دقيقِها وجليلِها، ولذا آمنا بما أخبرنا به واعتقدناه عقيدة لا يتطرق إليها شك إن شاء الله تعالى. أما من جاءنا بخبر وقوع رؤية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في اليقظة فمجموعة من الدراويش خالفت الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، فلا يَجوز أن نصدقهم في دعواهم تلك. بل وجب على كل موحد أن يردها بما استطاع لأنه باب يؤدي فتحه إلى ضلال عظيم وخراب للدين والعقل ويفتح باب التشريع من جديد، ولا حول ولا قوة إلا بالله. تنبيه هام: روى الإمام البخاري أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي» قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِذَا رَآهُ فِي صُورَتِهِ. قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري):قوله (قال أبو عبد الله: قال ابن سيرين: إذا رآه في صورته) سقط هذا التعليق للنسفي ولأبي ذر وثبت عند غيرهما، وقد رويناه موصولًا من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي عن سليمان بن حرب وهو من شيوخ البخاري عن حماد بن زيد عن أيوب قال: كان محمد ـ يعني ابن سيرين ـ إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «صِفْ لي الذي رأيتَه، فإن وصف له صفة لا يعرفها قال: لم تَرَهُ» وسنده صحيح. ووجدت له ما يؤيده: فأخرج الحاكم من طريق عاصم بن كليب: حدثني أبي قال: قلت لابن عباس: رأيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في المنام، قال: صِفْهُ لي، قال: ذكرتُ الحسنَ بنَ عليّ فشبهتُه به، قال: قد رأيتَه» وسنده جيد، ويعارضه ما أخرجه ابن أبي عاصم من وجه آخر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من رآني في المنام فقد رآني، فإني أُرَى في

كل صورة» وفي سنده صالح مولى التوأمة وهو ضعيف لاختلاطه، وهو من رواية من سمع منه بعد الاختلاط». اهـ كلام الحافظ ابن حجر - رحمه الله -.

ثالثا: الرد على من زعم أن الأنبياء والأولياء يتصرفون في الكون

ثالثًا: الرد على من زعم أن الأنبياء والأولياء يتصرفون في الكون 1 - لما اشتدت أذية المشركين للمسلمين بمكة واستفحل شرهم وتطاولهم حتى على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - رفع صوته ثم دعا عليهم: «اللهم عليك بقريش. .. اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعقبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأمية بن خلف، وعقبة ابن أبي معيط» (رواه البخاري ومسلم). فالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - دعا الله - عز وجل - ولا يخفى على عاقل أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - لو كان يتصرف في الكون لاكتفى بقوله لهم: موتوا فيموتون. 2 - في يوم بدر عندما واجه المسلمين خطرٌ جسيم عندما قابلهم جيش قريش ورأوا تفوقه عَددًا وعُددًا لم يكن منه - صلى الله عليه وآله وسلم - إلا أن استقبل القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض» (فما زال يهتف بربه مادًا يديه، مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه). رواه مسلم. وهذا نص آخر صريح في أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان أمره غاية في العبودية والخضوع والتذلل لربه. 3 - بل ثبت بالدليل أن الله - عز وجل - لم يكن يحقق كل ما يدعوه به - صلى الله عليه وآله وسلم - فعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «سألتُ ربي ثلاثًا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة. سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» (رواه مسلم). (السَنَة: القحط، والمقصود به هنا القحط الذي يعمّهم، فإن وقع قحط فيكون في ناحية يسيرة بالنسبة إلى باقي بلاد الإسلام، ويوضح ذلك رواية أخرى لمسلم) 4 - قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يا معشر قريش ـ أو كلمة نحوها ـ اشتروا أنفسكم. .. لا أُغْني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف! لا أغني عنكم من الله شيئًا. يا عباس بن عبد

بعض الأدلة التي تثبت بقاء الأجساد في القبور

المطلب! لا أُغْني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد، سليني ما شئتِ من مالي، لا أُغْني عنك من الله شيئًا» (رواه البخاري ومسلم). فهذا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يصرح بأنه لا يغني عن أحد من الله شيئًا، ولا حتى ابنته فاطمة - رضي الله عنها -. وإذا كان لا يملك شيئًا لفلذة كبده فاطمة - رضي الله عنها - وهو حي، أفيملكه لغيرها وهو ميت؟! 5 - قال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} (الجن:21) 6 - قال تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولًا} (الإسراء:90 - 93). 7 - وقال تعالى عن نوح - عليه السلام -: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} (هود:31) بعض الأدلة التي تثبت بقاء الأجساد في القبور 1 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إذا مات أحدكم عُرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة». (رواه البخاري ومسلم) 2 - قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خُلِق آدم، وفيه قُبِض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا على الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ» قالوا: يا رسول الله! وكيف تُعرَض صلاتُنا عليك، وقد أرمتً، قال: «إن الله حرَّم على الأرض أجسادَ الأنبياء» (رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني). فهذا الحديث يدل على أن أجساد الأنبياء - عليهم السلام - لا تفارق قبورهم. 3 - قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر. وأول شافع وأول مشفع» رواه مسلم.

بعض الأدلة التي تثبت أن أرواح الشهداء والصالحين تتنعم في الجنة وتتمنى الرجوع إلى الدنيا لفعل الخيرات ولكن تمنع من ذلك:

4 - ما ثبت في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - «أن موسى - عليه السلام - نقل عظام يوسف - عليه السلام - لما خرج من مصر». (رواه الحاكم وصححه الألباني). وقد أشار الألباني - رحمه الله - أن معنى قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحديث «عظام يوسف» لا يعارض حديث: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء»؛ لأنه قد ثبت في حديث بسند جيد رواه أبو داود على شرط مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما بدن، قال له تميم الداري - رضي الله عنه -: ألا أتخذ لك منبرًا يا رسول الله، يجمع أو يحمل عظامك؟ قال: «بلى» فاتخذ له منبرًا مرقاتين».فدل هذا أنهم كانوا يطلقون العظام، ويريدون به البدن كله. بعض الأدلة التي تثبت أن أرواح الشهداء والصالحين تتنعم في الجنة وتتمنى الرجوع إلى الدنيا لفعل الخيرات ولكن تمنع من ذلك: 1 - عن طلحة بن خراش قال: سمعت جابرًا - رضي الله عنه - يقول: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال لي: «يا جابر مالي أراك منكسرًا؟» فقلت: يا رسول الله استُشهِد أبي، قتل يوم أحد، وترك عيالًا وديْنًا. فقال: «أفلا أُبَشرك بما لقي الله به أباك؟» قال: قلت: بلى يا رسول الله. قال: «ما كلَّم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك وكلمه كفاحًا، فقال: يا عبدي تَمَنَّ عليَّ أُعْطِكَ. قال: يا رب تُحييني فأقتل فيك ثانية. قال الرب - عز وجل -:إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون» (رواه الترمذي وحسنه الألباني). وهو حديث صريح في منع القول بوقوع الرجعة فضلًا عن أن تكون عقيدة إسلامية يجب اعتقادها. ويستفاد منه أيضًا أن جابرًا - رضي الله عنه - لم يكن يعلم عن النعيم الذي كان يتنعم به والده - رضي الله عنه -. 2 - عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سألوه عن هذه الآية: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران:169). فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطّلع إليهم ربهم اطلاعة، فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يُسألوا قالوا: يا رب نريد أن تردّ أرواحنا في أجسادنا حتى

هل الأموات يسمعون

نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُركوا» (رواه مسلم). * يستفاد من هذا الحديث: أ- أن قول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أرواحهم في جوف طير» يدل على أنها ليست في الأجساد المدفونة في الأرض. ب- أنهم سألوا ربهم أن ترد أرواحهم في أجسادهم، وهذا صريح في أنها قد فارقتها بالموت. جـ - أنهم تمنَّوا الرجوع إلى الدنيا ليقاتلوا في سبيل الله لما رأوا من عظيم ثواب الشهادة، فمنعوا من ذلك، فقد انقطع التكليف وانقطع العمل وما بقي إلا الجزاء، فإذا لم يملكوا هم لأنفسهم نفعًا ولا حياة ولا تصرفًا، مع كرامتهم عند ربهم ووجاهتهم عنده، فكيف يملكون لغيرهم من الخلق جلب منفعة أو دفع مضرة؟! فكيف يقال أن الأنبياء والصالحين يخرجون من قبورهم بأجسادهم لإنقاذ من يستغيث بهم؟! هل الأموات يسمعون الراجح في هذه المسألة هو أن الأصل في الأموات أنهم لا يسمعون إلا ما ورد الدليل بخصوصه مثل سماعهم لقرع النعال بعد وضع الميت في قبره، وكذلك سماع قتلى بدر من المشركين قول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - حيث إن الله أسمعهم صوت نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم -. ومن أوضح الأدلة على عدم سماع الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وغيره من الأموات كلام الأحياء قول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن لله ملائكة سياحِين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام». (رواه النسائي وصححه الألباني). قال الشيخ الألباني - رحمه الله - في مقدمته لكتاب (الآيات البينات في عدم سماع الأموات) للعلامة الألوسي - رحمه الله -: «ووجه الاستدلال به أنه صريح في أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يسمع سلام المسلمين عليه، إذ لو كان يسمعه بنفسه، لما كان بحاجة إلى من يبلغه إليه، كما هو ظاهر إن شاء الله. وإذا كان الأمر كذلك، فبالأولى أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يسمع غير السلام من الكلام، وإذا كان كذلك فلأن لا يسمع السلامَ غيرُه من الموتى أولى وأحرى». ومن أراد التفصيل في هذه

المسألة فليرجع إلى كتاب الألوسي - رحمه الله - المشار إليه سابقًا. رد بعض الشبهات حول هذا الموضوع: 1 - قد يستدل البعض بمعجزات المسيح - عليه السلام -.وهذا الاستدلال باطل لأن إحياء الموتى ـ بإذن الله ـ من خصوصيات المسيح - عليه السلام -، وليس لغيره من البشر لا من الأنبياء ولا غيرهم، ومما يؤيد هذه الخصوصية دعاء إبراهيم - عليه السلام -: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} (البقرة:260).فإنه - عليه السلام - لو كان من شأنه إحياء الموتى لما دعا بمثل هذا الدعاء، وإذا انتفى كون إحياء الموتى من معجزات نبي آخر غير المسيح فانتفاؤه عمن دون الأنبياء من الأولياء والصالحين من باب أولى. 2 - قد يستدل البعض أيضًا بقول الله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون:14). والجواب: أننا نثبت للمخلوق خلقًا، لكنه ليس كخلق الله تعالى. فخلق الله - عز وجل - إيجاد من العدم. وخلق المخلوق لا يكون إلا بالتغيير والتحويل والتصرف في شيء خلقه الله تعالى. ومن ذلك ما جاء في (الصحيحين) عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه يقال للمصورين يوم القيامة: «أحيوا ما خلقتم». ومعلوم أن المصوِّر لم يوجِد شيئًا من العدم إنما حوَّل الطين، أو الحجر إلى صورة إنسان أو طير ـ بدون روح ـ، وحوَّل بالتلوين الرقعة البيضاء إلى ملونة، والطين والحجر والمواد والورق كلهم من خلق الله تعالى. شبهة: رُوي عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ووفاتي خير لكم تعرض عليَّ أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله عليه وما رأيت من شر استغفرتُ الله لكم». يستدل الصوفية بهذا الحديث على سماع الأموات وعلمهم بحال الأحياء بعد وفاتهم، من أجل ترويج عقائدهم الفاسدة في جواز الطلب والاستمداد من القبور ومن يدفن فيها من الصالحين والأولياء، واستدلالهم هذا باطل عقلًا ونقلًا. أولًا: تخريج الحديث: أخرجه البزار في مسنده 9/ 24 حديث رقم 1925، وقال: وهذا الحديث آخره لا نعلمه يروى عن عبد الله إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد. وأخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده (2/ 884) حديث رقم: (953) وأخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (2/ 194) وأخرجه الديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب (1/ 184). ثانيا: حكم علماء الحديث عليه: قال الحافظ العراقي في كتابه (طرح التثريب) (3/ 297): «إسناده جيد»، ولكنه فصَّل في كتابة (المغني عن حمل الأسفار) (2/ 1051) حديث رقم: (3810) فقال: أخرجه البزار من حديث عبد الله بن مسعود ورجاله رجال الصحيح، إلا أن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي داود وإن أخرج له مسلم ووثقه ابن معين والنسائي فقد ضعفه كثيرون، ورواه الحارث ابن أبي أسامة في مسنده من حديث أنس بنحوه بإسناد ضعيف. ومن المعلوم أن هذا التعارض في قولي الحافظ العراقي - رحمه الله - سببه أن كلامه في طرح التثريب ـ وهو كتاب فقه ـ كلام مجمل، وأن كلامه في كتابه المعني ـ وهو كتاب تخريج وحكم على الحديث ـ كلام تفصيل وبيان لسبب الضعف، فعلم أن في مثل هذه الحالة يقدم قول التفصيل في كتاب خص للحكم على الحديث. وممن حكم على الحديث بالضعف، العجلوني فقال: بأنه مرسل، كما في كتابه (كشف الخفاء 1/ 442) (حديث رقم 1178)، وكذلك ضعفه ابن القيسراني في كتابه (معرفة التذكرة 3/ 1250) (حديث رقم 2694). لمزيد من الفائدة انظر كتاب (الكامل في ضعفاء الرجال) لابن عدي (3/ 75) (ترجمة رقم 622) وكتاب (ميزان الاعتدال) للإمام الذهبي (2/ 438) (ترجمة رقم 2503) وكتاب (لسان الميزان) للحافظ ابن حجر) (2/ 395) (ترجمة رقم 1620) * هذا الحديث ضعفه الألباني في (السلسلة الضعيفة والموضوعة) (2/ 404) وحكم عليه بالشذوذ؛ لتفرد عبد المجيد بن عبد العزيز به لاسيما وهو متكلم فيه من قبل حفظه مع أنه من رجال مسلم وقد وثّقه جماعة وضعفه آخرون، فقال الخليلي: «ثقة

لكنه أخطأ في أحاديث وقال النسائي: «ليس بالقوي يُكتب حديثه». وقال ابن عبد البر: «روَى عن مالك أحاديث أخطأ فيها». وقال ابن حبان في (المجروحين) (2/ 152): «منكر الحديث جدًا يقلب الأخبار ويروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك». قال الألباني: «ولهذا قال فيه الحافظ في (التقريب): «صدوق يخطىء». وإذا عرفت ما تقدم فقول الحافظ الهيثمي في (المجمع) (6/ 24): «رواه البزار ورجاله رجال الصحيح».فهو يوهم أنه ليس فيه من هو متكلم فيه! ولعل السيوطي اغتر بهذا حين قال في (الخصائص الكبرى) (2/ 281): «سنده صحيح».ولهذا فإني أقول: «إن الحافظ العراقي - شيخ الهيثمي - كان أدق في التعبير عن حقيقة إسناد البزار حين قال عنه في (تخريج الإحياء) (4/ 128): «ورجاله رجال الصحيح ... إلا أن عبد المجيد بن أبي رواد وإن أخرج له مسلم ووثقه ابن معين والنسائي فقد ضعفه بعضهم، ومخالفة عبد المجيد للثقات هي علة الحديث» اهـ كلام الألباني بتصرف. * راجع ما تقدم ـ في باب الدعاء والذبح والنذر والاستغاثة بغير الله، الشبهة الثالثة عشرة ـ من أن قولهم: «رجاله رجال الصحيح» أو «رجاله ثقات»،ليس تصحيحا للحديث. * والكذب أسوأ من الاستدلال بالأحاديث الضعيفة، فقد كذب داعية التصوف علي الجفري فعزى هذا الحديث إلى مستدرك الحاكم على الصحيحين، ليوهم مستمعيه بأن الحديث صحيح، وبكل جرأة قال: «إن الحديث رواه الحاكم في المستدرك بإسناد حسن»، والحديث غير موجود في هذا الكتاب نهائيًا، لا حسنًا ولا ضعيفًا ولا موضوعًا. * لو ثبت هذا الحديث لم يكن فيه ما ادعاه الصوفية من جواز التوسل بعموم استغفار رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لأمته؛ لأنَّ دعاء الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في حياته لأمته وسؤاله الله لهم أبلغ وأقطع من استغفاره بعد موته ـ إن ثبت ـ وهذا السبب الذي كان موجودًا في حياته هو عين السبب الذي علق الحكم بعد مماته؛ فلما لم يشرع هذا العمل، وهو التوسل بالاستغفار العام مع القيام المقتضي له في حياة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عُلم أنَّ إحداثه بدعة.

ويؤيد هذا أنَّ خير القرون ثم الذين يلونهم ثمَّ الذين يلونهم؛ لم يستعمل أحد منهم التوسل بهذا الطريق الذي اخترعه عشاق البدع، وهُجَّار السُنَن. * واعلم أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يُعرض عليه من أعمالنا شيءٌ؛ باستثناء السلام والصلاة عليه. قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أُمتي السلام» رواه النسائي وصححه الألباني، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «صلوا عليَّ فإنَّ صلاتكم تبلغني حيثُ كنتم» رواه أبوداود صححه الألباني. وقد ورد في الأحاديث الصحيحة ما يبين بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يعلم من أعمال أُمَّته شيئاً بعد وفاته. فهذا الحديث الضعيف فيه لفظة (تعرض عليَّ أعمالكم) وهي تخالف الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول، وهو بين ظهراني أصحابه: «إني على الحوض. أنتظر من يَرِدُ عليَّ منكم. والله ليقتطعن دوني رجال. فلأقولَنَّ: أي رب! مني ومن أمتي. فيقول: إنك لا تدري ما عملوا بعدك. ما زالوا يرجعون على أعقابهم». فإذا كانت أعمال أمته تُعرض عليه ـ كما في الحديث الضعيف الذي يستدلون به ـ فكيف لا يدري ما أحدثوا بعده؟ فهذا يدلُّ على عدم علم النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بما يحدث في أُمته من بعده، وهذا يدلُّ على بطلان الحديث المتقدم ـ لو صحَّ سنده ـ فكيف والسند ضعيف!!.

رابعا: الرد على شبهات من زعم جواز التوسل بالمخلوقين فى الدعاء، وطلب الشفاعة منهم بعد وفاتهم

رابعًا: الرد على شبهات من زعم جواز التوسل بالمخلوقين فى الدعاء، وطلب الشفاعة منهم بعد وفاتهم * التوسل المشروع: 1 - التوسل إلى الله تعالى باسم من أسمائه الحسنى، أو صفة من صفاته العليا: كأن يقول المسلم في دعائه: «اللهم إني أسألك بأنك أنت الرحمن الرحيم اللطيف الخبير أن تعافيني»، أو يقول: «أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن ترحمني وتغفر لي»، ومثله قول القائل: «اللهم إني أسألك بحبك لمحمد»، فإن الحب من صفاته تعالى. 2 - التوسل إلى الله بعمل صالح قام به الداعي: كأن يقول المسلم: «اللهم بإيماني بك ومحبتي لك واتباعي لرسولك - صلى الله عليه وآله وسلم - اغفر لي. .. »، أو يقول: «اللهم إني أسألك بحبي لمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وإيماني به أن تفرج عني»، ومنه أن يذكر الداعي عملًا صالحًا ذا بال، فيه خوفه من الله سبحانه وتقواه إياه، ثم يتوسل به إلى ربه في دعائه. 3 - التوسل إلى الله بدعاء الرجل الصالح الحي الحاضر: كأن يقع المسلم في ضيق شديد، أو تحل به مصيبة كبيرة، ويعلم من نفسه التفريط في جنب الله تبارك وتعالى، فيحب أن يأخذ بسبب قوي إلى الله تعالى، فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح والتقوى، أو الفضل والعلم بالكتاب والسنة، فيطلب منه أن يدعو له ربه ليفرج عنه كربه ويزيل عنه همه. * التوسل غير المشروع له ثلاث مراتب: 1 - أن يدعو غير الله ويستغيث به، أو يطلب منه المدد، وهو ميت أو غائب، سواء كان من الأنبياء، أم الصالحين، أم الملائكة، أم الجن، أم غيرهم كأن يقول: «يا سيدى فلان أغثنى أو اقض حاجتى، أو اشف مريضي» ونحو هذا، فهذا شرك أكبر مخرج من الملة، وإن سماه صاحبه توسلًا، فهو توسل شركى من جنس توسل المشركين بعبادة غير الله، القائلين {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفى} (الزمر: 3). 2 - أن يقول للميت والغائب: ادْعُ الله لي أو اشفع لي في كذا، فهذا لا خلاف بين السلف أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يقل بها أحد من علماء الأمة وهو من ذرائع

الشرك، فهو من الشرك الأصغر، والفرق بينه وبين الذي قبله أن الأول دعاء غير الله، والثاني مخاطبة الميت بما لم يَرِدْ في الكتاب والسنة، ولكنه لم يَدْعُه، ولم يسأله قضاء الحاجات وتفريج الكربات؛ فلم يصرف له العبادة. 3 - أن يقول في دعائه لله - عز وجل -: «أسألك يا رب بفلان»، يقصد بذاته أو بحقه أو بجاهه، ونحو ذلك، وليس هذا مشهورًا عن الصحابة - رضي الله عنهم - بل عدلوا عنه إلى التوسل بدعاء العباس - رضي الله عنه -، وتَرْكهم لهذا النوع ـ مع وجدود المقتضي له وانتفاء الموانع منه، واستحضارهم له ـ يدل على أنهم تركوه تعبدًا لله ففِعْله بدعة، ولا يصح عن أحد من الصحابة خلافه. وهذا النوع الأخير فيه خلاف بين أهل العلم لكن الصحيح النهي عنه. * اعتاد كثير من المسلمين منذ قرون طويلة أن يقولوا في دعائهم مثلًا: «اللهم بحق نبيك أو بجاهه أو بقدره عندك عافني واعف عني» و «اللهم إني أسألك بحق البيت الحرام أن تغفر لي» و «اللهم بجاه الأولياء والصالحين، ومثل فلان وفلان» ويسمون هذا توسلًا، ويدَّعُون أنه سائغ ومشروع، وأنه قد ورد فيه بعض الآيات والأحاديث التي تقره وتشرعه، بل تأمر به وتحض عليه، وبعضهم غلا في إباحة هذا حتى أجاز التوسل إلى الله تعالى ببعض مخلوقاته التي لم تبلغ من المكانة ما يؤهلها لرفعة الشأن، كقبور الأولياء، والحديد المبني على أضرحتهم، والتراب والحجارة والشجر القريبة منها، زاعمين أن ما جاور العظيم فهو عظيم، وأن إكرام الله لساكن القبر يتعدى إلى القبر نفسه حتى يصح أن يكون وسيلة إلى الله. وفي قضية التوسل التي نحن بصددها الحق مع الذين حظروا التوسل بمخلوق، ولم نر لمجيزيه دليلًا صحيحًا يعتد به، ونحن نطالبهم بأن يأتونا بنص صحيح صريح من الكتاب أو السنة فيه التوسل بمخلوق، وهيهات أن يجدوا شيئًا يؤيد ما يذهبون إليه، أو يسند ما يدعونه، اللهم إلا شبهًا واحتمالات. ومن الغريب حقًا أنك ترى هؤلاء يُعرِضون عن أنواع التوسل المشروعة السابقة، فلا يكادون يستعلمون شيئًا منها في دعائهم أو تعليمهم الناس مع ثبوتها في الكتاب والسنة وإجماع الأمة عليها، وتراهم بدلًا من ذلك يعمدون إلى أدعية اخترعوها،

دفع توهم:

وتوسلات ابتدعوها لم يشرعها الله - عز وجل -، ولم يستعملها رسوله المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولم ينقل عن سلف هذه الأمة من أصحاب القرون الثلاثة الفاضلة، وأقل ما يقال فيها: إنها مختلف فيها، فما أجدرهم بقوله تبارك وتعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة:61). دفع توهم: حينما ننفي التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وجاه غيره من الأنبياء والصالحين فليس ذلك لأننا ننكر أن يكون لهم جاه، أو قدر أو مكانة عند الله، كما أنه ليس ذلك لأننا نبغضهم، وننكر قدرهم ومنزلتهم عند الله، ولا تشعر أفئدتنا بمحبتهم. بل إن كل مخلص منصف ليعلم علم اليقين بأن أتباع سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والحمد لله من أشد الناس حبًا لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومن أعرفهم بقدره وحقه وفضله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وبأنه أفضل النبيين، وسيد المرسلين، وخاتمهم وخيرهم، وصاحب اللواء المحمود، والحوض المورود، والشفاعة العظمى، والوسيلة والفضيلة، والمعجزات الباهرات، وبأن الله تعالى نسخ بدينه كل دين، وأنزل عليه سبعًا من المثاني والقرآن العظيم، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس. إلى آخر ما هنالك من فضائله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومناقبه التي تبين قدره العظيم، وجاهه المنيف صلى الله عليه وآله وسلم تسليمًا كثيرًا. إننا من أول الناس اعترافًا بذلك كله، ولعل منزلته - صلى الله عليه وآله وسلم - عندنا محفوظة أكثر بكثير مما هي محفوظة لدى الآخرين، الذين يدّعون محبته، ويتظاهرون بمعرفة قدره، لأن العبرة في ذلك كله إنما هي في الاتباع له - صلى الله عليه وآله وسلم -، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، كما قال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران:31)، وطاعة الله - عز وجل -، واتباع نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - هما أصدق الأدلة على المودة والمحبة الخالصة بخلاف الغلو في التعظيم، والإفراط في الوصف اللذين نهى الله تعالى عنهما، فقال سبحانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقِّ} (النساء: 171) كما نهى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عنهما فقال: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ». (رواه البخاري).

الرد على الشبهات

الرد على الشبهات الشبهة الأولى: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة:35). الجواب: قال إمام المفسرين الحافظ ابن جرير - رحمه الله - في تفسيرها: «يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله فيما أخبرهم، ووعد من الثواب، وأوعد من العقاب. {اتَّقُواْ اللهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} يقول: أجيبوا الله فيما أمركم، ونهاكم بالطاعة له في ذلك. {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}:يقول: «واطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه». ونقل الحافظ ابن كثير عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن: معنى الوسيلة فيها القربة، ونقل مثل ذلك عن مجاهد وأبي وائل والحسن وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد، ونقل عن قتادة قوله فيها: «أي تقربوا إليه بطاعته، والعمل بما يرضيه» ثم قال ابن كثير: «وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه ... والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود» .. الشبهة الثانية: قوله سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (الإسراء:57). الجواب: بَيَّنَ الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - مناسبة نزولها التي توضح معناها فقال: «نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرًا من الجن، فأسلم الجنيّون، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون». (رواه مسلم والبخاري بنحوه)، وفي رواية له: «فأسلم الجن، وتمسك هؤلاء بدينهم». قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: «أي استمر الإنس الذين كانوا يعبدون الجن على عبادة الجن، والجن لا يرضون بذلك، لكونهم أسلموا، وهم الذين صاروا يبتغون إلى ربهم الوسيلة، وهذا هو المعتمد في تفسير الآية». (فتح الباري) (10/ 12 - 13). وهي صريحة في أن المراد بالوسيلة ما يتقرب به إلى الله تعالى، ولذلك قال: {يَبْتَغُونَ} أي يطلبون ما يتقربون به إلى الله تعالى من الأعمال الصالحة، وهي كذلك تشير إلى هذه الظاهرة الغريبة المخالفة لكل تفكير سليم: ظاهرة أن يتوجه بعض الناس بعبادتهم

الشبهة الثالثة: قوله تبارك وتعالى: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما}

ودعائهم إلى بعض عباد الله، يخافونهم ويرجونهم، مع أن هؤلاء العباد المعبودين قد أعلنوا إسلامهم، وأقروا لله بعبوديتهم، وأخذوا يتسابقون في التقرب إليه سبحانه، بالأعمال الصالحة التي يحبها ويرضاها، ويطمعون في رحمته، ويخافون من عقابه، فهو سبحانه يُسَفّه في هذه الآية أحلام أولئك الجاهلين الذين عبدوا الجن، واستمروا على عبادتهم مع أنهم مخلوقون عابدون له سبحانه، وضعفاء مثلهم، لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، وينكر الله عليهم عدم توجيههم بالعبادة إليه وحده، تبارك وتعالى، وهو الذي يملك وحده الضر والنفع، وبيده وحده مقادير كل شيء وهو المهيمن على كل شيء. ومن الغريب أن بعض مدعي العلم اعتادوا الاستدلال بالآيتين السابقتين على ما يلهج به كثير منهم من التوسل بذوات الأنبياء أو حقهم أو حرمتهم أو جاههم، وهو استدلال خاطئ لا يصح حمل الآيتين عليه؛ لأنه لم يثبت شرعًا أن هذا التوسل مشروع مرغوب فيه، ولذلك لم يذكروا هذا الاستدلال عن أحد من السلف الصالح، ولا استحبوا التوسل المذكور، بل الذي فهموه منهما أن الله تبارك وتعالى يأمرنا بالتقرب إليه بكل رغبة، والتقدم إليه بك قربة، والتوصل إلى رضاه بكل سبيل. ولكن الله سبحانه قد علمنا في نصوص أخرى كثيرة أن علينا إذا أردنا التقرب إليه أن نتقدم إليه بالإعمال الصالحة التي يحبها ويرضاها، وهو لم يَكِل تلك الأعمال إلينا، ولم يترك تحديدها إلى عقولنا وأذواقنا، لأنها حينذاك ستختلف وتتباين، وستضطرب وتتخاصم، بل أمرنا سبحانه أن نرجع إليه في ذلك، ونتبع إرشاده وتعليمه فيه، لأنه لا يعلم ما يرضي الله ? إلا الله وحده، فلهذا كان من الواجب علينا حتى نعرف الوسائل المقربة إلى الله أن نرجع في كل مسألة إلى ما شرعه الله سبحانه، وبينه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويعني ذلك أن نرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهذا هو الذي وصانا به رسولنا محمد صلوات الله عليه وسلامه حيث قال: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله». (رواه مالك، والحاكم وحسّن إسناده الألباني). الشبهة الثالثة: قوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} (النساء:64). * قال الصوفية: يطلب الله - عز وجل - من المؤمنين الذهاب إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - واستغفار الله - عز وجل - عند ذاته الشريفة، وأن ذلك أرجى في قبول استغفارهم. واستدلوا بالحكاية المشهورة التي ذكرت في تفسير ابن كثير عن العتبي قال: كنت جالسا عند قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} (النساء:64). وقد جئتك مستغفرًا لذنبي، مستشفعًا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول: يا خيرَ من دُفِنتْ بالقاعِ أعظُمُه ... فطاب مِن طِيبِهنّ القاعُ والأكَمُ نفسي الفداءُ لقبرٍ أنت ساكنُه ... فيه العفافُ وفيه الجودُ والكرَمُ ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني فرأيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في النوم فقال: «يا عتبي الحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له» والجواب من وجوه: أولا: هذه القصة ضعيفة لم يثبتها أحد ممن أوردها، بل صنيع بعضهم يدل على ضعفها:1 - فالنووي قال في (المجموع شرح المهذب) (8/ 274) وفي آخر منسكه المعروف بـ (الإيضاح): «ومن أحسن ما يقول: ما حكاه أصحابنا عن العتبي مستحسنين له، قال: كنت جالسا عند قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ... 2 - قال ابن كثير في (تفسيره): «ذكر جماعة منهم الشيخ أبو منصور الصباغ في كتابه الشامل الحكاية المشهورة عن العتبي. 3 - حكاها ابن قدامة في (المغني) بصيغة التمريض وهي تفيد التضعيف. (3/ 557) فقال: "ويُرْوَى عن العتبي ... ".

تخريج القصة: قال الألباني - رحمه الله - في (الصحيحة2928):أورد البيهقي في (الشُعَب) بإسناده عن أبي يزيد الرقاشي عن محمد بن روح بن يزيد البصري: حدثني أيوب الهلالي قال: «حج أعرابي فلما جاء إلى باب مسجد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أناخ راحلته فعقلها ثم دخل المسجد حتى أتى القبر ووقف بحذاء وجه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! جئتك مُثْقَلًا بالذنوب والخطايا أستشفع بك على ربك؛ لأنه قال في محكم كتابه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} (النساء:64) ثم أقبل في عرض الناس وهو يقول: يا خيرَ من دُفِنتْ بالقاعِ أعظُمُه ... فطاب مِن طِيبِهنّ القاعُ والأكَمُ نفسي الفداءُ لقبرٍ أنت ساكنُه ... فيه العفافُ وفيه الجودُ والكرَمُ قلت (الألباني): وهذا إسناد ضعيف مظلم لم أعرف أيوب الهلالي ولا من دونه. وأبو يزيد الرقاشي أورده الذهبي في (المقتنى في سرد الكنى) (2/ 155) ولم يُسَمِّه وأشار إلى أنه لا يُعرَف بقوله: «حكى شيئًا».وأرى أنه يشير إلى هذه الحكاية. وهي منكرة ظاهرة النكارة وحسبك أنها تعود إلى أعرابي مجهول الهوية!. وهي في (ابن كثير) غير معزوة لأحد من المعروفين من أهل الحديث بل علَّقها على (العتبي) ... وهو غير معروف إلا في هذه الحكاية ويمكن أن يكون هو أيوب الهلالي في إسناد البيهقي. وهي حكاية مستنكرة بل باطلة لمخالفتها الكتاب والسنة ولذلك يلهج بها المبتدعة لأنها تجيز الاستغاثة بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وطلب الشفاعة منه بعد وفاته وهذا من أبطل الباطل كما هو معلوم. قال الحافظ ابن عبد الهادي في (الصارم المنكي في الرد على السبكي) (ص 212): «وهذه الحكاية التي ذكرها ـ يعني السبكي ـ بعضهم يرويها عن العتبي بلا إسناد، وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب الهلالي، وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب بلا إسناد، عن أبي الحسن الزعفراني عن الأعرابي. وقد ذكرها البيهقي في كتاب (شعب الإيمان) بإسناد مظلم عن محمد بن روح بن يزيد البصري حدثني أبوحرب الهلالي ... وفي الجملة؛ ليست الحكاية المذكورة عن الأعرابي مما تقوم به الحجة، وإسنادها مظلم، ولفظها مختلف أيضًا، ولو كانت ثابتة لم يكن فيها حجة على مطلوب المعترض، ولا يصلح الاحتجاج بمثل هذه الحكاية، ولا الاعتماد على مثلها عند أهل العلم». فهذه القصة مروية عن العتبي وعن محمد بن حرب الهلالي وعن أبي الحسن الزعفراني وعن علي بن أبي طالب بإسناد موضوع، كما حقق ذلك الحافظ ابن عبد الهادي، وكلهم يرويها عن أعرابي أنه أتى إلى القبر فقرأ الآية فرأى العتبي في المنام أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أتاه وقال له: «الحق بذاك الأعرابي وأخبره أن الله قد غفر له بشفاعتي» وهذا منام لا يحتج به، والأعرابي مجهول لا حجة في فعله لو صح الإسناد إليه، فكيف وإسناد القصة لا تقوم به الحجة. ثانيًا: على فرض صحة القصة ـ وهي غير صحيحة ـ فإن دليل الصوفية في القصة قول العتبي: «فغلبتني عيني فرأيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في النوم فقال: «يا عتبي الحق الأعرابي فبشِّره أن الله قد غفر له». ومتى كانت الأحلام والرؤى مصدرًا من مصادر التشريع؟!!! ولو جاء رجل لأحد هؤلاء الصوفية وقال له: رأيتُ الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في الرؤيا يأمرك أن تعطيني بيتك بلا مقابل، فهل سيعطيه بيته بلا مقابل؟ بالطبع لن يفعل؛ لأنها مجرد رؤيا، فكيف يقبلون الدين من الرؤى وهو عند كل مسلم أعز عليه من بيته وماله ووالده وولده والناس أجمعين؟ ثالثًا: هذه الآية لم تنزل لهذا الغرض مطلقًا إنما الآية نزلت في المنافقين الذين كانوا يصدون الناس عن متابعة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ويتحاكمون إلى الطاغوت ... فهؤلاء إذا جاءوا النبي واستغفروا الله من نفاقهم في مجلسه، وسألوه أن يعقب على استغفارهم لأنفسهم ... بأن يستغفر الرسول لهم عندها يجدون الله توابًا رحيمًا ... ولكن لم يجيئوا ولم يستغفروا، ولم يستغفر لهم الرسول فما علاقة هذا بواقع الأعرابي الذي جاء رسول الله بعد وفاته وطلب منه وهو ميت أن يستغفر لهم. .؟!!

لا علاقة بين الموضوعين؛ بل ولا قياس بين الواقعين لاختلافهما. وليس هناك لفظ عام لا من جهة الآتي ولا الذي يؤتى إليه حتى يقال أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ولو صح حمل الآية على العموم لصح ذلك في قوله تعالى: {َيا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيم} (الممتحنة:12).فلو صح الاستدلال بالآية المذكورة على المجيء إلى قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لكان هنا من باب أولى ولا أحد يقول بهذا. رابعًا: يدعي الصوفية أن العبرة في هذه الآية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ولكن هاهنا سؤال: ألم يكن الصحابة من هذا العموم؟!! إذا كان الجواب: نعم. فمَن مِن الصحابة عمل بمقتضى هذا المفهوم الذي تزعمونه؟ لقد تركوا التوسل به - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ كما عند البخاري ـ ولم يأتوا قبره ولم يثبت عن واحد منهم أنه جاء إلى قبره - صلى الله عليه وآله وسلم - وطلب الاستغفار هناك بعد موته. وهذا يؤكد أن هذا العموم قد انقطع بموته ولو كانت العبرة بالعموم لفعلوه بعد موته - صلى الله عليه وآله وسلم -. وإذا كانت الآية عامة لزم منه أن خير القرون قد عطلوا هذا الواجب وتجاهلوه حتى جاء المتأخرون وعملوا به، أو أن السلف جهلوه وضلوا عنه وفقهه الخلف!!! خامسًا: هذا القول فيه مصادمة لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا تجعلوا قبري عيدًا» (رواه أبو داود وصححه الألباني)؛ لأنه حينئذ سيكون عيدًا للمذنبين كلما أذنبوا. سادسًا: مادام أنها ليست من سنة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا فعل خلفائه الراشدين، وصحابه المكرمين، ولا من فعل التابعين والقرون المفضلة وإنما هي مجرد حكاية عن مجهول، نقلت بسند ضعيف فكيف يحتج بها في عقيدة التوحيد الذي هو أصل الأصول، وكيف يحتج بها وهي تعارض الأحاديث الصحيحة التي نهى فيها - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الغلو في القبور والغلو في الصالحين عموما وعن الغلو في قبره والغلو فيه - صلى الله عليه وآله وسلم - خصوصًا. * وأما من نقلها من العلماء أو استحسنها فليس ذلك بحجة تعارَض بها النصوص الصحيحة وتخالَف من أجلها عقيدة السلف فقد يخفى على بعض العلماء ما هو واضح لغيرهم وقد يخطئون في نقلهم ورأيهم وتكون الحجة مع من خالفهم. وما دمنا قد علمنا طريق الصواب فلا شأن لنا بما قاله فلان أو حكاه فلان فليس ديننا مبنيًا على الحكايات والمنامات. وإنما هو مبني على البراهين الصحيحة. سابعًا: كيف يتجاسر أحد أن يعارض نصوص كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بقول حكاه حاكٍ مستحسنا له، والله سبحانه يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور:63) فطاعة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مقدمة على طاعة كل أحد، وإن كان خير هذه الأمة أبا بكر وعمر، كما قال ابن عباس: أراهم سيهلكون، أقول: قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وتقولون: نهى أبو بكر وعمر. (رواه الإمام أحمد وصححه الشيخ أحمد شاكر). فكيف لو رأى ابن عباس هؤلاء الناس الذين يعارضون السنة الثابتة، والحجة الواضحة بقول أعرابي في قصة العتبي الضعيفة المنكرة. ثامنًا: ما يضير هذا المستغفر إذا توجه إلى الله وتاب من ذنوبه، وطلب من الله المغفرة ... ؟ أو اختار أحد الصالحين الأحياء وكلفه أن يدعو له فلا مانع من ذلك كما طلب عمر من العباس - رضي الله عنهما - أن يستسقي للمسلمين بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولم يطلب عمر - رضي الله عنه - من رسول الله بعد وفاته أن يستسقي للمسلمين. ولو كان هذا جائزًا لفعله عمر - رضي الله عنه - ولكن لم يفعل ذلك ... لأنه يعلم أن رسول الله التحق بالرفيق الأعلى ولم يعد يستطيع الدعاء وما أشبه ذلك. تاسعًا: يقول الله تعالى: ({وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} و (إذ) هذه ظرف لما مضى، وليست ظرفًا للمستقبل، لم يقل الله - عز وجل -: «ولو أنهم إذا ظلموا» بل قال: {إِذ ظَّلَمُواْ} فالآية

تتحدث عن أمرٍ وقع في حياة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - والآية نزلت في قوم تحاكموا، أو أرادوا التحاكم إلى غير الله ورسوله؛ كما يدلُّ على ذلك سياقها السابق واللاحق. عاشرًا: الآية ليس فيها التوسل بذات الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بل فيها (كما قال الحافظ ابن كثير): يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فيستغفروا الله عنده ويسألوه أن يستغفر لهم فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم» فالآية دليل على التوسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -،وهو حي، فهي حجة عليهم. واستغفار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للمذنبين ممكن حال حياته - صلى الله عليه وآله وسلم - أما بعد وفاته فغير ممكن؛ لأن حياته - صلى الله عليه وآله وسلم - في قبره حياة برزخية لا نعلم كيفيتها وهي تختلف عن حياتنا هذه. ولو كان المراد من هذه الآية الذهاب إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وطلب الاستغفار منه بعد مماته لقال تعالى (ولو أنهم إذا ظلموا أنفسهم) بصيغة الاستقبال، ولكنه ـ قال: {إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بصيغة الماضي. حادي عشر: لم يفهم الصحابة - رضي الله عنهم - من الآية ما فهمه الصوفية؛ فلم يثبت بسند صحيح ـ فيما نعلم ـ أن أحدًا من الصحابة ذهب إلى قبر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد وفاته، وطلب منه أن يستغفر له، أو طلب منه أن يدعوَ الله له أن يرزقه مثلًا، مع العلم أن الصحابة كانوا من أحرص الناس على الخير، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه. * والعجب من هؤلاء الصوفية أنهم لا يحتجون بالأحاديث الصحيحة في باب الاعتقاد، فكيف يتعلقون فيما يوافق أهواءهم بروايات المجهولين، الذين لا يعرفهم علماء الجرح والتعديل، الذين دونوا أسماء الثقات والضعفاء والمجهولين، وفاتَهم هؤلاء المجهولون الذين يتعلق برواياتهم أصحاب الأهواء. ثم العجب ـ ثانيًا ـ أنهم يتعلقون بالمنامات، ويحتجون بها في الاعتقادات. ثم العجب ـ ثالثًا ـ أنهم يتعلقون بما ينسب إلى الأعراب الأجلاف، ويعرضون عما ثبت عن أئمة الأسلاف من مثل ما روى عبد الرزاق عن معمر عن عبيد الله بن عمر،

الشبهة الرابعة: حديث استسقاء عمر بالعباس - رضي الله عنهما -:

أنه لا يعلم عن أحد من الصحابة أنه كان يزور قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهي رواية ثابتة صحيحة لا غبار عليها. وهل هذا الأعرابي أفقه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأعلم بالقرآن منهم، وأحرص على تطبيقه منهم؟ كيف لم يأت أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى قبره، مستغفرين من ذنوبهم، مستشهدين بهذه الآية؟ الشبهة الرابعة: حديث استسقاء عمر بالعباس - رضي الله عنهما -: يحتجون على جواز التوسل بجاه الأشخاص وحرمتهم وحقهم بحديث أنس - رضي الله عنه -: «أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان إذا قَحَطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا، فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا. قال: فيسقون». (رواه البخاري) فيفهمون من هذا الحديث أنّ توسل عمر - رضي الله عنه - إنما كان بجاه العباس - رضي الله عنه -، ومكانته عند الله سبحانه، وأن توسله كأنه مجرد ذِكْر منه للعباس في دعائه، وطلب منه لله أن يسقيهم من أجله، وقد أقره الصحابة على ذلك، فأفاد ـ بزعمهم ـ ما يدعون. وأما سبب عدول عمر - رضي الله عنه - عن التوسل بالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بزعمهم ـ وتوسله بدلًا منه بالعباس - رضي الله عنه -، فقالوا: إنما كان لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل ليس غير. وفهمهم هذا خاطىء، وتفسيرهم هذا مردود من وجوه كثيرة أهمها: 1 - إن القواعد المهمة في الشريعة الإسلامية أن النصوص الشرعية يفسر بعضها بعضًا، ولا يفهم شيء منها في موضوع ما بمعزل عن بقية النصوص الواردة فيه. وبناء على ذلك فحديث توسل عمر السابق إنما يُفهم على ضوء ما ثبت من الروايات والأحاديث الواردة في التوسل بعد جمعها وتحقيقها، ونحن والمخالفون متفقون على أن في كلام عمر: (كنا نتوسل إليك بنبينا .. وإنا نتوسل إليك بعم نبينا) شيئًا محذوفًا، لا بد له من تقدير، وهذا التقدير إما أن يكون: (كنا نتوسل بـ (جاه) نبينا، وإنا نتوسل إليك بـ (جاه) عم نبينا) على رأيهم هم، أو يكون: (كنا نتوسل إليك بـ (دعاء) نبينا، وإنا

نتوسل إليك بـ (دعاء) عم نبينا) على رأينا نحن. ولا بد من الأخذ بواحد من هذين التقديرين ليُفهَم الكلام بوضوح وجلاء. ولنعرف أي التقديرين صواب لا بد من اللجوء إلى السنة، لتبين لنا طريقة توسل الصحابة الكرام بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. هل كانوا إذا أجدبوا وقحَطوا قَبَع كل منهم في داره، أو مكان آخر، أو اجتمعوا دون أن يكون معهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم دعَوا ربهم قائلين: «اللهم بنبيك محمد، وحرمته عندك، ومكانته لديك اسقنا الغيث» مثلًا أم كانوا يأتون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ذاته فعلًا، ويطلبون منه أن يدعو الله تعالى لهم، فيحقق - صلى الله عليه وآله وسلم - طلْبتهم، ويدعو ربه سبحانه، ويتضرع إليه حتى يسقوا؟ أما الأمر الأول فلا وجود له إطلاقًا في السنة النبوية الشريفة، وفي عمل الصحابة - رضي الله عنهم -، ولا يستطيع أحد من الصوفية أن يأتي بدليل يثبت أن طريقة توسلهم كانت بأن يذكروا في أدعيتهم اسم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويطلبوا من الله بحقه وقدره عنده ما يريدون. بل الذي نجده بكثرة، وتطفح به كتب السنة أن طريقة توسل الأصحاب الكرام بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما كانت إذا رغبوا في قضاء حاجة، أو كشف نازلة أن يذهبوا إليه - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويطلبوا منه مباشرة أن يدعو لهم ربه، أي أنهم كانوا يتوسلون إلى الله تعالى بدعاء الرسول الكريم - صلى الله عليه وآله وسلم - ليس غير. ومن أمثلة ذلك مارواه البخاري من مجيء الأعرابي إلى المسجد يوم الجمعة حيث كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يخطب، وعرضه له ضنك حالهم، وجدب أرضهم، وهلاك ماشيتهم، وطلبه منه أن يدعو الله سبحانه لينقذهم مما هم فيه، فاستجاب له - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهو الذي وصفه ربه بقوله: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة:128)، فدعا - صلى الله عليه وآله وسلم - لهم ربه، واستجاب سبحانه دعاء نبيه، ورحم عباده ونشر رحمته، وأحيا بلدهم الميت. ومن ذلك أيضًا ما رواه البخاري من مجيء الأعرابي السابق نفسه أو غيره إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو يخطب الجمعة الثانية، وشكواه له انقطاع الطرقات وتهدم البنيان، وهلاك المواشي، وطلبه منه أن يدعو لهم ربه، ليمسك عنهم الأمطار، وفعل - صلى الله عليه وآله وسلم - فاستجاب له ربه جل شأنه أيضًا. 2 - وهذا الذي بيناه من معنى الوسيلة هو المعهود في حياة الناس واستعمالهم، فإنه إذا كانت لإنسان حاجة ما عند مدير أو رئيس أو موظف مثلًا، فإنه يبحث عمن يعرفه ثم يذهب إليه ويكلمه، ويعرض له حاجته فيفعل، وينقل هذا الوسيط رغبته إلى الشخص المسؤول، فيقضيها له غالبًا. فهذا هو التوسل المعروف عند العرب منذ القديم، وما يزال، فإذا قال أحدهم: إني توسلت إلى فلان، فإنما يعني أنه ذهب إلى الثاني وكلمه في حاجته، ليحدث بها الأول، ويطلب منه قضاءها، ولا يفهم أحد من ذلك أنه ذهب إلى الأول وقال له: بحق فلان (الوسيط) عندك، ومنزلته لديك اقض لي حاجتي. وهكذا فالتوسل إلى الله - عز وجل - بالرجل الصالح ليس معناه التوسل بذاته وبجاهه وبحقه، بل هو التوسل بدعائه وتضرعه واستغاثته به ـ، وهذا هو بالتالي معنى قول عمر - رضي الله عنه -: «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا» أي: كنا إذ قل المطر مثلًا نذهب إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ونطلب منه أن يدعو لنا الله جل شأنه. 3 - ويؤكد هذا ويوضحه تمام قول عمر - رضي الله عنه -: «وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا»، أي إننا بعد وفاة نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - جئنا بالعباس عم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وطلبنا منه أن يدعو لنا ربنا سبحانه ليغيثنا. * لماذا عدل عمر عن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى التوسل بالعباس - رضي الله عنه -، مع العلم أن العباس مهما كان شأنه ومقامه فإنه لا يُذكَر أمام شأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ومقامه؟ لأن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - غير ممكن بعد وفاته، فأنى لهم أن يذهبوا إليه - صلى الله عليه وآله وسلم - ويشرحوا له حالهم، ويطلبوا منه أن يدعو لهم، ويؤَمِّنوا على دعائه، وهو قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، وأضحى في حال يختلف عن حال الدنيا وظروفها مما لا يعلمه إلا الله ـ، فأنى لهم أن

يحظوا بدعائه - صلى الله عليه وآله وسلم - وشفاعته فيهم، وبينهم وبينه كما قال الله عز شأنه: {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (المؤمنون:100). ولذلك لجأ عمر - رضي الله عنه -، وهو العربي الأصيل الذي صحب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولازمه في أكثر أحواله، وعرفه حق المعرفة، وفهم دينه حق الفهم، ووافقه القرآن في مواضع عدة، لجأ إلى توسل ممكن فاختار العباس - رضي الله عنه -، لقرابته من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من ناحية، ولصلاحه ودينه وتقواه من ناحية آخرى، وطلب منه أن يدعو لهم بالغيث والسقيا. وما كان لعمر ولا لغير عمر أن يدع التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويلجأ إلى التوسل بالعباس أو غيره لو كان التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ممكنًا، وما كان من المعقول أن يقر الصحابة - رضي الله عنهم - عمر على ذلك أبدًا؛ لأن الانصراف عن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى التوسل بغيره ما هو إلا كالانصراف عن الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الصلاة إلى الاقتداء بغيره، سواء بسواء، ذلك أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يعرفون قدر نبيهم - صلى الله عليه وآله وسلم - ومكانته وفضله معرفة لا يدانيهم فيها أحد. * إن تعليل الصوفية لعدول عمر - رضي الله عنه - عن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى التوسل بالعباس - رضي الله عنه - بأنه لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل هو تعليل مضحك وعجيب. أ- إذ كيف يمكن أن يخطر في بال عمر - رضي الله عنه -، أو في بال غيره من الصحابة الكرام ن تلك الحذلقة الفقهية المتأخرة، وهو يرى الناس في حالة شديدة من الضنك والكرب، والشقاء والبؤس، يكادون يموتون جوعًا وعطشًا لشح الماء وهلاك الماشية، وخلو الأرض من الزرع والخضرة حتى سمي ذاك العام بعام الرمادة، كيف يَرِد في خاطره تلك الفلسفة الفقهية في هذا الظرف العصيب، فيدَع الأخذ بالوسيلة الكبرى في دعائه، وهي التوسل بالنبي الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ لو كان ذلك جائزًا ـ ويأخذ بالوسيلة الصغرى، التي لا تقارن بالأولى، وهي التوسل بالعباس، لماذا؟ لا لشيء إلا ليبين للناس أنه يجوز لهم التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل!! إن المشاهد والمعلوم أن الإنسان إذ حلّت به شدة يلجأ إلى أقوى وسيلة عنده في دفعها، ويدَع الوسائل الأخرى لأوقات الرخاء، وهذا كان يفهمه الجاهليون المشركون أنفسهم، إذ كانوا يَدعون أصنامهم في أوقات اليسر، ويتركونها ويدْعون الله تعالى وحده

في أوقات العسر، كما قال ـ: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت:265). فنعلم من هذا أن الإنسان بفطرته يستنجد بالقوة العظمى، والوسيلة الكبرى حين الشدائد، وقد يلجأ إلى الوسائل الصغرى حين الأمن واليسر، وقد يخطر في باله حينذاك أن يبين ذلك الحكم الفقهي الذي افترضوه، وهو جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل. ب- هبْ أن عمر - رضي الله عنه - خطر في باله أن يبين ذلك الحكم الفقهي المزعوم، ترى فهل خطر ذلك في بال معاوية والضحاك بن قيس حين توسلا بدعاء التابعي الجليل: يزيد بن الأسود الجُرَشي أيضًا؟ 4 - إننا نلاحظ في حديث استسقاء عمر بالعباس - رضي الله عنهما - أمرًا جديرًا بالانتباه، وهو قوله: «إن عمر بن الخطاب كان إذا قَحطوا، استسقى بالعباس بن عبدالمطلب، ففي هذا إشارة إلى تكرار استسقاء عمر بدعاء العباس - رضي الله عنهما -، ففيه حجة بالغة على الذين يتأولون فعل عمر ذلك أنه إنما ترك التوسل به - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى التوسل بعمه - رضي الله عنه -، لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل، فإننا نقول: لو كان الأمر كذلك لفعل عمر ذلك مرة واحدة، ولما استمر عليه كلما استسقى. 5 - لقد فسرت بعض روايات الحديث الصحيحة كلام عمر المذكور وقصده، إذ نقلت دعاء العباس استجابةً لطلب عمر - رضي الله عنهما -، فمن ذلك ما نقله الحافظ العسقلاني - رحمه الله - في (الفتح) (3/ 150) حيث قال: «قد بين الزبير بن بكار في (الأنساب) صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقع فيه ذلك، فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: «اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجّه القوم بي إليك لمكاني من نبيك، وهذا أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث»، قال: فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض، وعاش الناس».

وفي هذا الحديث: أولا: التوسل بدعاء العباس - رضي الله عنه - لا بذاته كما بينه الزبير بن بكار وغيره، وفي هذا رد واضح على الذين يزعمون أن توسل عمر كان بذات العباس لا بدعائه، إذ لو كان الأمر كذلك لما كان ثمة حاجة ليقوم العباس، فيدعو بعد عمر دعاءً جديدًا. ثانيًا: أن عمر صرح بأنهم كانوا يتوسلون بنبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - في حياته، وأنه في هذه الحادثة توسل بعمه العباس، ومما لا شك فيه أن التوسليْن من نوع واحد: توسلهم بالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وتوسلهم بالعباس، وإذ تبين للقارىء أن توسلهم به - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما كان توسلًا بدعائه - صلى الله عليه وآله وسلم - فتكون النتيجة أن توسلهم بالعباس إنما هو توسل بدعائه أيضًا، بضرورة أن التوسليْن من نوع واحد. أما أن توسلهم به - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما كان توسلًا بدعائه، فالدليل على ذلك صريح رواية الإسماعيلي في مستخرجه على الصحيح لهذا الحديث بلفظ: (كانوا إذ قحطوا على عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - استسقوا به، فيستسقي لهم، فيسقون، فلما كان في إمارة عمر ... ) فذكر الحديث، (انظر الفتح) (2/ 399))، فقوله: (فيستسقي لهم) صريح في أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يطلب لهم السقيا من الله تعالى ففي (النهاية) لابن الأثير: (الاستسقاء، استفعال من طلب السقيا أي إنزال الغيث على البلاد والعباد، يقال: سقى الله عباده الغيث وأسقاهم، والاسم السقيا بالضم، واستقيت فلانًا إذا طلبت منه أن يسقيك). إذا تبين هذا، فقوله في هذه الرواية (استسقوا به) أي بدعائه، وكذلك قوله في الرواية الأولى: (كنا نتوسل إليك بنبينا)، أي بدعائه، لا يمكن أن يفهم من مجموع رواية الحديث إلا هذا. ثالثًا: لو كان توسل عمر إنما هو بذات العباس أو جاهه عند الله تعالى، لما ترك التوسل به - صلى الله عليه وآله وسلم - بهذا المعنى، لأن هذا ممكن لو كان مشروعًا، فعدول عمر عن هذه إلى التوسل بدعاء العباس - رضي الله عنه - أكبر دليل على أن عمر والصحابة الذين كانوا معه كانوا لا يرون التوسل بذاته - صلى الله عليه وآله وسلم -، وعلى هذا جرى عمل السلف من بعدهم، كما في توسل معاوية بن

الشبهة الخامسة: حديث الضرير:

أبي سفيان والضحاك ابن قيس بيزيد بن الأسود الجرشي، وفيهما بيان دعائه بصراحة وجلاء. فهل يجوز أن يُجمِع هؤلاء كلهم على ترك التوسل بذاته - صلى الله عليه وآله وسلم - لو كان جائزًا، سيّما والمخالفون يزعمون أنه أفضل من التوسل بدعاء العباس وغيره؟! اللهم إن ذلك غير جائز ولا معقول، بل إن هذا الإجماع منهم من أكبر الأدلة على أن التوسل المذكور غير مشروع عندهم، فإنهم أسمى من أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير. الشبهة الخامسة: حديث الضرير: أخرج الإمام أحمد وغيره بسند صحيح عن عثمان بن حنيف أن رجلًا ضرير البصر أتى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: «إن شئتَ دعوتُ لك، وإن شئتَ أخّرتُ ذاك، فهو خير»، (وفي رواية: «وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك»)، فقال: ادْعهُ. فأمره أن يتوضأ، فيحسن وضوءه، فيصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهتُ بك إلى ربي في حاجتي هذه، فتقضى لي، اللهم فشفّعْه فيَّ، وشفّعني فيه. قال: ففعل الرجل فبرأ». يرى الصوفية: أن هذا الحديث يدل على جواز التوسل في الدعاء بجاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو غيره من الصالحين، إذ فيه أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - علم الأعمى أن يتوسل به في دعائه، وقد فعل الأعمى ذلك فعاد بصيرًا. وهذا الحديث لا حجة لهم فيه على التوسل المختلَف فيه، وهو التوسل بالذات، بل هو دليل آخر على النوع الثالث من أنواع التوسل المشروع؛ لأن توسل الأعمى إنما كان بدعائه. والأدلة على ما نقول من الحديث نفسه كثيرة، وأهمها: أولًا: أن الأعمى إنما جاء إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليدعو له، وذلك قوله: (ادعُ الله أن يعافيني) فهو توسل إلى الله تعالى بدعائه - صلى الله عليه وآله وسلم -، لأنه يعلم أن دعاءه - صلى الله عليه وآله وسلم - أرجى للقبول عند الله بخلاف دعاء غيره، ولو كان قصد الأعمى التوسل بذات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو جاهه أو حقه لما كان ثمة حاجة به إلى أن يأتي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويطلب منه الدعاء له، بل كان يقعد في بيته، ويدعو ربه بأن يقول مثلًا: «اللهم إني أسألك بجاه نبيك ومنزلته عندك أن يشفيني،

وتجعلني بصيرًا». ولكنه لم يفعل، لماذا؟ لأنه عربي يفهم معنى التوسل في لغة العرب حق الفهم، ويعرف أنه ليس كلمة يقولها صاحب الحاجة، يذكر فيها اسم المتَوسَّل به، بل لابد أن يشتمل على المجيء إلى من يعتقد فيه الصلاح والعلم بالكتاب والسنة، وطلب الدعاء منه له. ثانيًا: أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وعده بالدعاء مع نصحه له ببيان ما هو الأفضل له، وهو قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن شئتَ دعوتُ، وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك». وهذا الأمر الثاني هو ما أشار إليه - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحديث الذي رواه عن ربه ـ أنه قال: «إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه ـ أي عينيهـ فصبر، عوضته منهما الجنة». (رواه البخاري) ثالثًا: إصرار الأعمى على الدعاء وهو قوله: (فادْعُ) فهذا يقتضي أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - دعا له؛ لأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - خير من وفَّى بما وعد، وقد وعده بالدعاء له إن شاء كما سبق، فقد شاء الدعاء وأصر عليه، فإذن لا بد أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - دعا له، فثبت المراد. وقد وجَّهَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الأعمى بدافع من رحمته، وبحرص منه أن يستجيب الله تعالى دعاءه فيه، وجهه إلى النوع الثاني من التوسل المشروع، وهو التوسل بالعمل الصالح، ليجمع له الخير من أطرافه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو لنفسه وهذه الأعمال طاعة لله ـ يقدمها بين يدي دعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - له، وهي تدخل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}. وهكذا فلم يكتف الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بدعائه للأعمى الذي وعده به، بل شغله بأعمال فيها طاعة لله ـ وقُربة إليه، ليكون الأمر مكتملًا من جميع نواحيه، وأقرب إلى القبول والرضا من الله ـ، وعلى هذا، فالحادثة كلها تدور حول الدعاء ـ كما هو ظاهر ـ وليس فيها ذكر شيء مما يزعمون. رابعًا: أن في الدعاء الذي علمه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إياه أن يقول: «اللهم فشَفّعْهُ فِيّ» وهذا يستحيل حمله على التوسل بذاته - صلى الله عليه وآله وسلم -، أو جاهه، أو حقه، إذ أن المعنى: اللهم اقبل شفاعته - صلى الله عليه وآله وسلم - فِيّ، أي اقبل دعائه في أن ترد عليَّ بصري، والشفاعة لغةً الدعاء، وهو المراد

بالشفاعة الثابتة له - صلى الله عليه وآله وسلم - ولغيره من الأنبياء والصالحين يوم القيامة، وهذا يبين أن الشفاعة أخص من الدعاء، إذ لا تكون إلا إذا كان هناك اثنان يطلبان أمرًا، فيكون أحدهما شفيعًا للآخر، بخلاف الطالب الواحد الذي لم يشفع غيره، قال في (لسان العرب): (الشفاعة كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره، والشافع الطالب لغيره، يتشفع به إلى المطلوب، يقال تشفعت بفلان إلى فلان، فشفعني فيه).فثبت بهذا الوجه أيضًا أن توسل الأعمى إنما كان بدعائه - صلى الله عليه وآله وسلم - لا بذاته. خامسًا: إن مما علم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الأعمى أن يقوله: «وشفعني فيه» أي اقبل شفاعتي (أي دعائي) في أن تقبل شفاعته - صلى الله عليه وآله وسلم - (أي دعاءه) في أن ترد عليَّ بصري. هذا الذي لا يمكن أن يفهم من هذه الجملة سواه. ولهذا ترى المخالفين يتجاهلونها ولا يتعرضون لها من قريب أو من بعيد؛ لأنها تنسف بنيانهم من القواعد، وتجتثه من الجذور، وإذا سمعوها رأيتهم ينظرون إليك نظر المغشي عليه. ذلك أن شفاعة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في الأعمى مفهومة، ولكن شفاعة الأعمى في الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - كيف تكون؟ لا جواب لذلك عندهم البتة. ومما يدل على شعورهم بأن هذه الجملة تبطل تأويلاتهم أنك لا ترى واحدًا منهم يستعملها، فيقول في دعائه مثلًا: اللهم شفع فيَّ نبيك، وشفعني فيه. سادسًا: إن هذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ودعائه المستجاب، وما أظهره الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات، فإنه بدعائه - صلى الله عليه وآله وسلم - لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره، ولذلك رواه المصنفون في (دلائل النبوة) كالبيهقي وغيره، فهذا يدل على أن السر في شفاء الأعمى إنما هو دعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. كما أنه لو كان السر في شفاء الأعمى أنه توسل بجاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقدره وحقه، كما يفهم عامة المتأخرين، لكان من المفروض أن يحصل هذا الشفاء لغيره من العميان الذين يتوسلون بجاهه - صلى الله عليه وآله وسلم -، بل ويضمون إليه أحيانًا جاه جميع الأنبياء المرسلين، وكل الأولياء والشهداء والصالحين، وجاه كل من له جاه عند الله من الملائكة، والإنس

والجن أجمعين! ولم نعلم ولا نظن أحدًا قد علم حصول مثل هذا خلال القرون الطويلة بعد وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى اليوم. * قول الأعمى في دعائه: «اللهم إني أسألك، وأتوسل إليك بنبيك محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -» إنما المراد به: أتوسل إليك بدعاء نبيك، أي على حذف المضاف، وهذا أمر معروف في اللغة، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} (يوسف:82) أي أهل القرية وأصحاب العير. ونحن والمخالفون متفقون على ذلك، أي على تقدير مضاف محذوف، وهو مثل ما رأينا في دعاء عمر وتوسله بالعباس، فإما أن يكون التقدير: إني أتوجه إليك بـ (جاه) نبيك، ويا محمد إني توجهت بـ (ذات) ك أو (مكانت) ك إلى ربي كما يزعمون، وإما أن يكون التقدير: إني أتوجه إليك بـ (دعاء) نبيك، ويا محمد إني توجهت بـ (دعاء) ك إلى ربي كما هو قولنا. ولا بد لترجيح أحد التقديرين من دليل يدل عليه. فأما تقديرهم (بجاهه) فليس لهم عليه دليل لا من هذه الحديث ولا من غيره، إذ ليس في سياق الكلام ولا سياقه تصريح أو إشارة لذكر الجاه أو ما يدل عليه إطلاقًا، كما أنه ليس عندهم شيء من القرآن أو من السنة أو من فعل الصحابة يدل على التوسل بالجاه، فيبقى تقديرهم من غير مرجح، فسقط من الاعتبار، والحمد لله. ولو حمل حديث الضرير على التوسل بالذات لكان معطلًا لقوله فيما بعد: «اللهم فشفّعه فِيَّ، وشفّعني فيه» وهذا لا يجوز كما لا يخفى، فوجب التوفيق بين هذه الجملة والتي قبلها. وليس ذلك إلا على ما حملناه من أن التوسل كان بالدعاء، فثبت المراد، وبطل الاستدلال به على التوسل بالذات، والحمد لله. تنبيه: وقع في بعض الطرق الأخرى لحديث الضرير السابق زيادتان لا بد من بيان شذوذهما وضعفهما، حتى يكون القارىء على بينة من أمرهما، فلا يغتر بقول من احتج بهما على خلاف الحق والصواب. الزيادة الأولى: زيادة حماد بن سلمة قال: حدثنا أبو جعفر الخطمي .. فساق إسناده مثل رواية شعبة، وكذلك المتن إلا أنه اختصره بعض الشيء، وزاد في آخره بعد

قوله: وشفع نبيي في رد بصري: «وإن كانت حاجة فافعل مثل ذلك» رواه أبو بكر بن أبي خيثمة في تاريخه، فقال: حدثنا مسلم بن إبراهيم: حدثنا حماد بن سلمه به. وقد أعلَّ هذه الزيادة شيخ الإسلام ابن تيمية في (القاعدة الجليلة) (ص102) بتفرد حماد بن سلمة بها، ومخالفته لرواية شعبة. الزيادة الثانية: قصة الرجل مع عثمان بن عفان، وتوسله به - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى قضى له حاجته، وأخرجها الطبراني في (المعجم الصغير) وفي (الكبير) من طريق عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف أن رجلًا كان يختلف إلى عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته فلقي عثمان بن حنيف، فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان: ائت الميضأة، فتوضأ، ثم ائت المسجد، فصل فيه ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك - عز وجل -، فيقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك، ورح إليَّ حتى أروح معك، فانطلقَ الرجل فصنع ما قال، ثم أتى باب عثمان - رضي الله عنه - فجاء البواب حتى أخذ بيده، فأدخله عليه، فأجلسه معه على الطنفسة، وقال: حاجتك؟ فذكر حاجته، فقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: «ما كانت لك من حاجة فَأْتِنا، ثم إن الرجل خرج من عنده، فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيرًا، ما كان ينظر في حاجتي، ولا يلتفت إلي حتى كلمتَه فيَّ، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأتاه ضرير، فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -:فتصبر، فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد، وقد شق علي، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ائت الميضأة، فتوضأ ثم صلي ركعتين، ثم ادعُ بهذه الدعوات» قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا، وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط.

الشبهة السادسة: الأحاديث الضعيفة في التوسل:

* قال الطبراني: (لم يروه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبو سعيد المكي وهو ثقة، وهو الذي يحدث عنه أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي، وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي - واسمه عمير بن يزيد - وهو ثقة تفرد به عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة، والحديث صحيح). قال الشيخ الألباني: لا شك في صحة الحديث، وإنما البحث الآن في هذه القصة التي تفرد بها شبيب بن سعيد كما قال الطبراني، وخلاصة القول: إن هذه القصة ضعيفة منكرة، لأمور ثلاثة: ضعف حفظ المتفرد بها، والاختلاف عليه فيها، ومخالفته للثقات الذين لم يذكروها في الحديث، وأمر واحد من هذه الأمور كاف لإسقاط هذه القصة، فكيف بها مجتمعة؟ * الطبراني إنما صحح الحديث فقط دون القصة، بدليل قوله: (قد روى الحديث شعبة ... والحديث صحيح) فهذا نص على أنه أراد حديث شعبة، وشعبة لم يرو هذه القصة، فلم يصححها إذن الطبراني، فلا حجة لهم في كلامه. * وفي القصة جملة إذا تأمل فيها العاقل العارف بفضائل الصحابة - رضي الله عنهم - وجدها من الأدلة الأخرى على نكارتها وضعفها، وهي أن الخليفة الراشد عثمان - رضي الله عنه - كان لا ينظر في حاجة ذلك الرجل، ولا يلتفت إليه! فكيف يتفق هذا مع ما صح عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن الملائكة تستحي من عثمان، ومع ما عرف به - رضي الله عنه - من رفقه بالناس، وبره بهم، ولينه معهم؟ هذا كله يجعلنا نستبعد وقوع ذلك منه، لأنه ظلم يتنافى مع شمائله - رضي الله عنه - وأرضاه. الشبهة السادسة: الأحاديث الضعيفة في التوسل: الحديث الأول: عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: «من خرج من بيته إلى الصلاة، فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ... أقبل الله عليه بوجهه».رواه أحمد (3/ 21) واللفظ له، وابن ماجه، وانظر تخريجه مفصلًا في (سلسلة الأحاديث الضعيفة) (رقم 24). وإسناده ضعيف لأنه من رواية عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري، وعطية ضعيف كما قال النووي

في (الأذكار) وابن تيمية في (القاعدة الجليلة) والذهبي في (الميزان) بل قال في (الضعفاء) (88/ 1): «مجمع على ضعفه». الحديث الثاني: حديث بلال - رضي الله عنه - وهو ما روي عنه أنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا خرج إلى الصلاة قال: بسم الله، آمنت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله. اللهم بحق السائلين عليك، وبحق مخرجي هذا، فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا .. » الحديث أخرجه ابن السني في (عمل اليوم والليلة، رقم82) من طريق الوازع بن نافع العقيلي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله عنه. وهذا سند ضعيف جدًا، وآفته الوازع هذا، فإنه لم يكن عنده وازع يمنعه من الكذب، كما بينه الألباني في (السلسلة الضعيفة)، وقال النووي في (الأذكار): «حديث ضعيف أحد رواته الوازع بن نافع العقيلي وهو متفق على ضعفه، وأنه منكر الحديث» وقال الحافظ ابن حجر بعد تخريجه: «هذا حديث واه جدًا». * ومع كون هذين الحديثين ضعيفين فهما لا يدلان على التوسل بالمخلوقين أبدًا، وإنما يعودان إلى أحد أنواع التوسل المشروع الذي تقدم الكلام عنه، وهو التوسل إلى الله تعالى بصفة من صفاته - عز وجل -؛ لأن فيهما التوسل بحق السائلين على الله وبحق ممشى المصلين. فما هو حق السائلين على الله تعالى؟ لا شك أنه إجابة دعائهم، وإجابة الله دعاء عباده صفة من صفاته - عز وجل -، وكذلك حق ممشى المسلم إلى المسجد هو أن يغفر الله له، ويدخله الجنة ومغفرة الله تعالى ورحمته، وإدخاله بعض خلقه ممن يطيعه الجنة. كل ذلك صفات له تبارك وتعالى. الحديث الثالث: عن أبي أمامة قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا أصبح، وإذا أمسى دعا بهذا الدعاء: اللهم أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد .. أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض، وبكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك ... ». قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) (10/ 117): «رواه الطبراني، وفيه فضال بن جبير، وهو ضعيف مجمع على ضعفه». قال الألباني: «بل هو ضعيف جدًا»، اتهمه ابن حبان فقال: «شيخ يزعم أنه سمع أبا أمامة، يروي عنه ما ليس منه حديثه». وقال أيضًا: «لا يجوز الاحتجاج به بحال، يروي أحاديث لا أصل لها».وقال ابن عدي في (الكامل) (25/ 13): «أحاديثه كلها غير محفوظة». الحديث الرابع: عن أنس بن مالك قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي - رضي الله عنهم - دعا أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلامًا أسود يحفرون ... فلما فرغ دخل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فاضطجع فيه فقال: «الله الذي يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بين أسد، ولقنها حجتها، ووسع مدخلها بحق نبيك، والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين ... ». قال الهيثمي في (مجمع الزوائد): (رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه روح بن صلاح، وثقة ابن حبان والحاكم وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح). قال الألباني: ومن طريق الطبراني رواه أبو نعيم في (حلية الأولياء) وإسناده عندهما ضعيف، لأن روح بن صلاح الذي في إسناده قد تفرد به، كما قال أبو نعيم نفسه، وروح ضعّفه ابن عدي، وقال ابن يونس: رويت عنه مناكير، وقال الدارقطني: «ضعيف في الحديث»، وقال ابن ماكولا: «ضعَّفوه»، وقال ابن عدي بعد أن أخرج له حديثين: «له أحاديث كثيرة، في بعضها نكرة» فقد اتفقوا على تضعيفه فكان حديثه منكرًا لتفرده به. وقد ذهب بعضهم إلى تقوية هذا الحديث لتوثيق ابن حبان والحاكم لروح هذا، ولكن ذلك لا ينفعهم، لما عرفا به من التساهل في التوثيق، فقولهما عند التعارض لا يقام له وزن حتى لو كان الجرح مبهمًا، فكيف مع بيانه كما هي الحال هنا. الحديث الخامس: عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يستفتح بصعاليك المهاجرين». فيرى المخالفون أن هذا الحديث يفيد أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يطلب من الله تعالى أن ينصره، ويفتح عليه بالضعفاء المساكين من المهاجرين، وهذا ـ بزعمهم ـ هو التوسل المختلف فيه نفسه. قال الألباني: «والجواب من وجهين: الأول: ضعف الحديث، فقد أخرجه الطبراني في (المعجم الكبير):حدثنا محمد بن إسحاق بن راهويه حدثنا أبي حدثنا عيسى بن يونس حدثني أبي عن أبيه عن أميه به. وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي بن عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن أبي إسحاق عن أمية بن خالد به. ثم رواه من طريق قيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن المهلب بن أبي صفرة عن أمية بن خالد مرفوعًا بلفظ: «. .. يستفتح ويستنصر بصعاليك المسلمين». قال الألباني: «مداره على أمية هذا، ولم تثبت صحبته، فالحديث مرسل ضعيف، وقال ابن عبد البر في (الاستيعاب) (1/ 38): «لا تصح عندي صحبته، والحديث مرسل» وقال الحافظ ابن حجر في (الإصابة) (1/ 133): «ليست له صحبة ولا رواية». قال الألباني: وفيه علة أخرى، وهي اختلاط أبي اسحاق وعنعنته، فإنه كان مدلسًا، إلا أن سفيان سمع منه قبل الاختلاط، فبقيت العلة الأخرى وهي العنعنة. فثبت بذلك ضعف الحديث وأنه لا تقوم به حجة. وهذا هو الجواب الأول. الثاني: أن الحديث لو صح فلا يدل إلا على مثل ما دل عليه حديث عمر، وحديث الأعمى من التوسل بدعاء الصالحين. قال المناوي في (فيض القدير): «كان يستفتح» أي يفتتح القتال، من قوله تعالى: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ} (الأنفال: 19) ذكره الزمخشري. «ويستنصر» أي يطلب النصرة «بصعاليك المسلمين» أي بدعاء فقرائهم الذين لا مال لهم. قال الألباني: وقد جاء هذا التفسير من حديثه، أخرجه النسائي بلفظ: «إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم، وصلاتهم وإخلاصهم» وسنده صحيح، وأصله في (صحيح البخاري)، فقد بين الحديث أن الاستنصار إنما يكون بدعاء الصالحين، لا بذواتهم وجاههم. ومما يؤكد ذلك أن الحديث ورد في رواية قيس بن الربيع المتقدمة بلفظ: «كان يستفتح ويستنصر ... » فقد علمنا بهذا أن الاستنصار بالصالحين يكون بدعائهم وصلاتهم

بيان كذب قصة أبي جعفر المنصور مع الإمام مالك عند الحجرة النبوية:

وإخلاصهم، وهكذا الاستفتاح، وبهذا يكون هذا الحديث ـ إن صح ـ دليلًا على التوسل المشروع، وحجة على التوسل المبتدع، والحمد لله. الحديث السادس: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مرفوعًا: «لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال: يا آدم ‍! وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه؟ قال: يا رب لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوبًا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضِف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال: غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتُك». أخرجه الحاكم في (المستدرك) (2/ 615) من طريق أبي الحارث عبد الله بن مسلم الفهري: حدثنا إسماعيل بن مسلمة: أنبأ عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر. وقال: (صحيح الإسناد وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب). فتعقبه الذهبي فقال: «قلت: بل موضوع، وعبد الرحمن واهٍ، وعبد الله بن أسلم الفهري لا أدري مَن ذا» قال الشيخ الألباني: ومن تناقض الحاكم في (المستدرك) نفسه أنه أورد فيه حديثًا آخر لعبد الرحمن هذا ولم يصححه، بل قال: «والشيخان لم يحتجا بعبد الرحمن بن زيد!». قال الشيخ الألباني: «والفهري هذا أورده الذهبي في (الميزان) وساق له هذا الحديث وقال: «خبر باطل»، وكذا قال الحافظ ابن حجر في (اللسان) (3/ 360) وزاد عليه قوله في الفهري هذا: «لا أستبعد أن يكون هو الذي قبله فإنه من طبقته» قلت (أي الشيخ الألباني): «والذي قبله هو عبد الله بن مسلم بن رُشيد، قال الحافظ: ذكره ابن حبان، متهم بوضع الحديث، يضع على ليث ومالك وابن لهيعة، لا يحل كتب حديثه». قال الشيخ الألباني «والحديث رواه الطبراني في (المعجم الصغير):ثنا محمد بن داود بن أسلم الصدفي المصري: ثنا أحمد ابن سعيد المدني الفهري: ثنا عبد الله بن إسماعيل المدني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم به. وهذا سند مظلم فإن كل من دون عبد الرحمن لا يعرفون. وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف باتفاقهم يغلط كثيرًا، ضعفه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي والدارقطني، وغيرهم. وقال ابن حبان: «كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك من روايته من رفع المراسيل، وإسناد الموقوف، فاستحق الترك». وأما تصحيح الحاكم لمثل هذا الحديث وأمثاله فهذا مما أنكره عليه أئمة العلم بالحديث، وقالوا: إن الحاكم يصحح أحاديث موضوعة مكذوبة عند أهل المعرفة بالحديث. ولهذا كان أهل العلم بالحديث لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم. تنبيه هام: قال الشيخ الألباني: وقد أورد الحاكم نفسه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في كتابه (الضعفاء) كما سماه العلامة ابن عبد الهادي، وقال في آخره: «فهؤلاء الذين قدمت ذكرهم قد ظهر عندي جرحهم، لأن الجرح لا يثبت إلا ببينة، فهم الذين أبين جرحهم لمن طالبني به، فإن الجرح لا أستحله تقليدًا، والذي أختاره لطالب هذا الشأن أن لا يكتب حديث واحد من هؤلاء الذين سميتهم، فالراوي لحديثهم داخل في قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَيْن» (رواه مسلم) فمن تأمل في كلام الحاكم هذا والذي قبله يتبن له بوضوح أن حديث عبد الرحمن بن زيد هذا موضوع عند الحاكم نفسه، وأن من يرويه بعد العلم بحاله فهو أحد الكاذبَيْن. فلا يجوز لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصحح الحديث بعد اتفاق هؤلاء على وضعه تقليدًا للحاكم في أحد قوليه، مع اختياره في قوله الآخر لطالب العلم أن لا يكتب حديث عبد الرحمن هذا، وأنه إن فعل كان أحد الكاذبين كما سبق. * قال الشيخ الألباني: «للحديث علتان: الأولى: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأنه ضعيف جدًا. الثانية: جهالة الإسناد إلى عبد الرحمن. وللحديث عندي علة أخرى. وهي اضطراب عبد الرحمن أو من دونه في إسناده، فتارة كان يرفعه، وتارة كان يرويه موقوفًا على عمر، لا يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -». * ثم على افتراض أن هذا الحديث ضعيف فقط كما يزعم بعض المخالفين ـ خلافًا لمن سبق ذكرهم من العلماء والحفاظ ـ فلا يجوز الاستدلال به على مشروعية التوسل المختلف فيه، لأنه ـ على قولهم ـ عبادة مشروعة، وأقل أحوال العبادة أن تكون مستحبة، والاستحباب حكم شرعي من الأحكام الخمسة التي لا تثبت إلا بنص صحيح تقوم به الحجة. شيء عجيب: يعجب المسلم من اهتمام الصوفية بالقصص المختلَقة، وتتبعهم للحكايات المخالفة للنصوص المعتبرة، وعدم رفع الرأس بالآيات القامعة لأباطيل عقائدهم، وعزوفهم وتأويلاتهم للأحاديث الصريحة الصحيحة؛ بقصص وأحاديث مكذوبة موضوعة!! ثم هم يزعمون المحبة؟! أي محبة في عدم الاتباع، وبناء العقائد على الحكايات التي لا ترتفع إلى الضعف ـ في الغالب ـ فما بالك إلى الصحة، ظلمات موضوعة، وقصص مكذوبة! بيان كذب قصة أبي جعفر المنصور مع الإمام مالك عند الحجرة النبوية: * يُروى عن الإمام مالك بن أنس - رحمه الله - قصة مع أبي جعفر المنصور العباسي يعتقد الصوفية أنها تؤيد احتجاجاتهم بتوسلاتهم بذوات المخلوقين، وفيها: «أنه ـ أي أبو جعفرـ سأل مالكاً فقال: يا أبا عبدالله، أأستقبل القبلة وأدعوا، أم أستقبلُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ فقال: ولِمَ تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلةُ أبيك آدم - عليه السلام - إلى الله تعالى يوم القيامة؛ بل استقبله واستشفع به، فيشفعه الله». الكلام على سند هذه القصة: هذه القصة أخرجها القاضي عياض في (الشفا) باسناده عن الإمام مالك. وهي ليست بصحيحة عنه، بل إسنادها إسناد مظلم منقطع، وهو مشتمل على من يتهم بالكذب وعلى من يجهل حاله، فابن حميد هو محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف كثير المناكير غير محتج بروايته، ولم يسمع من مالك شيئاً ولم يلقه؛ بل روايته عنه منقطعة غير متصلة. وقد تُكُلِّم في محمد بن حميد الرازي ـ وهو الذي رويت عنه هذه الحكاية ـ من غير واحد من الأئمة، ونسبه بعضهم إلى الكذب. قال يعقوب بن شيبة السدوسي: محمد بن حميد الرازي كثير المناكير. وقال البخاري: حديثه فيه نظر. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: ردئ المذهب، غير ثقة. وقال أبو القاسم عبدالله بن محمد بن عبدالكريم الرازي ابن أخي أبي زرعة: سألت أبا زرعة عن محمد بن حميد فأومأ بأصبعه إلى فمه، فقلت له: كان يكذب؟ فقال برأسه: نعم. قلت له: قد شاخ، لعله كان يعمل عليه ويدلس عليه؟ فقال: لا يا بني، كان يتعمد. وقال أبو حاتم الرازي: حضرت محمد بن حميد وحضره عون بن جرير، فجعل ابن حميد يحدث بحديث عن جرير فيه شِعر، فقال عون: ليس هذا الشعر في الحديث، إنما هو من كلام أبي. فتغافل ابن حميد فمر فيه. وقال أبو نعيم عبدالملك بن محمد بن عدي: سمعت أبا حاتم محمد بن إدريس الرازي في منزله وعنده عبدالرحمن بن يوسف بن خراش وجماعة من مشايخ أهل الري وحفاظهم للحديث، فذكروا ابن حميد، فأجمعوا على أنه ضعيف في الحديث جدًا، وأنه يحدث بما لم يسمعه وأنه يأخذ أحاديث لأهل البصرة والكوفة فيحدث به الرازيين. فهذه حال محمد بن حميد الرازي عند أئمة هذا الشأن، ورغم ذلك يزعم أحد دعاة الصوفية المعاصرين أن سندها صحيح. فالقصة مكذوبة، وسندها غريب. وهذه الحكاية أيضًا منقطعة؛ فإن محمد بن حميد الرازي لم يدرك مالكًا لا سيما في زمن أبي جعفر المنصور. وفي الإسناد أيضاً من لا يعرف حاله. هذه الحكاية لم يذكرها أحدٌ من أصحاب مالك المعروفين بالأخذ عنه، ومحمَّد بن حميد ضعيف عند أهل الحديث إذا أسند، فكيف إذا أرسل حكاية لا تُعرف إلا من جهته!!. هذا إن ثبت عنه، وأصحاب مالك متفقون على أنه بمثل هذا النقل لا يثبت عن مالك قول له في مسألة في الفقه. الكلام على متن القصة: قوله: «أستقبل القبلة وأدعوا أم استقبل رسول الله وأدعو؟» فقال: «ولِمَ تصرفُ وجهَكَ عنه، وهو وسيلتُكَ ووسيلةُ أبيكَ آدم».

* المعروف عن الإمام مالك وغيره من الأئمَّة، وسائر السلف من الصحابة والتابعين؛ أنَّ الداعي إذا سلم على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ثمَّ أراد أن يدعو لنفسه؛ فإنه يستقبل القبلة ويدعو في مسجده، ولا يستقبل القبر عند السَّلام على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والدُّعاء له. فما في الحكاية المنقطعة من قوله: «استقبله واستشفع به» كذب على الإمام مالك، مخالف لأقواله، وأقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم التي نقلها الإمام مالك وأصحابه، ونقلها سائر العلماء، كل أحد منهم لم يستقبل القبر للدُّعاء لنفسه فضلاً عن أن يستقبله ويستشفع به. الحديث السابع: «توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم»: وبعضهم يرويه بلفظ: «إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم». وهذا باطل لا أصل له في شيء من كتب الحديث البتة، وإنما يرويه بعض الجهال بالسنة كما نبَّه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (القاعدة الجليلة) (ص132، 150) قال: «مع أن جاهه - صلى الله عليه وآله وسلم - عند الله أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين، ولكن جاه المخلوق عند الخالق ليس كجاه المخلوق عند المخلوق فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه، فهو شريك له في حصول المطلوب، والله تعالى لا شريك له. فلا يلزم إذن من كون جاهه - صلى الله عليه وآله وسلم - عند ربه عظيمًا، أن نتوسل به إلى الله تعالى لعدم ثبوت الأمر به عنه - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويوضح ذلك أن الركوع والسجود من مظاهر التعظيم فيما اصطلح عليه الناس، فقد كانوا وما يزال بعضهم يقومون ويركعون ويسجدون لمليكهم ورئيسهم والمعظم لديهم، ومن المتفق عليه بين المسلمين أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - هو أعظم الناس لديهم، وأرفعهم عندهم. فهل يجوز لهم أن يقوموا ويركعوا ويسجدوا له في حياته وبعد مماته؟ الجواب: إنه لا بد لمن يُجَوِّز ذلك، من أن يثبت وروده في الشرع، وقد نظرنا فوجدنا أن السجود والركوع لا يجوزان إلا لله - سبحانه وتعالى -، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يسجد أو يركع أحد

الشبهة السابعة: أثران ضعيفان:

لأحد، كما أننا رأينا في السنة كراهية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للقيام. فهل يستطيع أحد أن يقول عنا حين نمنع السجود لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -:إننا ننكر جاهه - صلى الله عليه وآله وسلم - وقدره؟ كلا ثم كلا. فظهر من هذا بجلاء إن شاء الله تعالى أنه لا تلازم بين ثبوت جاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبين تعظيمه بالتوسل بجاهه ما دام أنه لم يرد في الشرع. هذا، وإن من جاهه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه يجب علينا اتباعه وإطاعته كما يجب إطاعة ربه، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «ما تركت شيئًا يقربكم إلى الله إلا أمرتكم به» (رواه الشافعي والطبراني وغيرهما) فإذا لم يأمرنا بهذا التوسل ـ ولو أمْرَ استحباب ـ فليس عبادة، فيجب علينا اتباعه في ذلك وأن ندع العواطف جانبًا، ولا نفسح لها المجال حتى ندخل في دين الله ما ليس منه بدعوى حبه - صلى الله عليه وآله وسلم -، فالحب الصادق إنما هو بالاتباع، وليس بالابتداع كما قال - عز وجل -: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران:31) الشبهة السابعة: أثران ضعيفان: 1 - أثر الاستسقاء بالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد وفاته: قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) (2/ 397) ما نصه: «وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار ـ وكان خازن عمر ـ قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: يا رسول الله! استسق لأمتك، فإنهم قد هلكوا، فأُتِيَ الرجلُ في المنام، فقيل له: ائت عمر .. الحديث. وقد روى سيف في (الفتوح) أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة». قال الشيخ الألباني: والجواب من وجوه: الأول: عدم التسليم بصحة هذه القصة، لأن مالك الدار غير معروف العدالة والضبط، وهذان شرطان أساسيان في كل سند صحيح كما تقرر في علم المصطلح، وقد أورده ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) ولم يذكر راويًا عنه غير أبي صالح هذا، ففيه

إشعار بأنه مجهول، ويؤيده أن ابن أبي حاتم نفسه ـ مع سعة حفظه واطلاعه ـ لم يَحْكِ فيه توثيقًا فبقي على الجهالة. * ولا ينافي هذا قول الحافظ: ( ... بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان ... ) لأننا نقول: إنه ليس نصًا في تصحيح جميع السند بل إلى أبي صالح فقط، ولولا ذلك لما ابتدأ هو الإسنادَ من عند أبي صالح، ولقال رأسًا: (عن مالك الدار ... وإسناده صحيح) ولكنه تعمد ذلك؛ ليلفت النظر إلى أن ها هنا شيئًا ينبغي النظر فيه، والعلماء إنما يفعلون ذلك لأسباب منها: أنهم قد لا يحضرهم ترجمة بعض الرواة، فلا يستجيزون لأنفسهم حذف السند كله، لما فيه من إيهام صحته لاسيما عند الاستدلال به، بل يوردون منه ما فيه موضع للنظر فيه، وهذا هو الذي صنعه الحافظ - رحمه الله - هنا، وكأنه يشير إلى تفرد أبي صالح السمان عن مالك الدار كما سبق نقله عن ابن أبي حاتم، وهو يحيل بذلك إلى وجوب التثبت من حال مالك هذا أو يشير إلى جهالته. والله أعلم. ويؤيد ما ذهبت اليه أن الحافظ المنذري أورد في (الترغيب) قصة أخرى من رواية مالك الدار عن عمر ثم قال: «رواه الطبراني في (الكبير)، ورواته إلى مالك الدار ثقات مشهورون، ومالك الدار لا أعرفه». وكذا قال الهيثمي في (مجمع الزوائد). الثاني: أنها مخالفة لما ثبت في الشرع من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء لاستنزال الغيث من السماء، كما ورد ذلك في أحاديث كثيرة، وأخذ به جماهير الأئمة، بل هي مخالفة لما أفادته الآية من الدعاء والاستغفار، وهي قوله تعالى في سورة نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا} (نوح:10 - 11) وهذا ما فعله عمر بن الخطاب حين استسقى وتوسل بدعاء العباس - رضي الله عنهما -، وهكذا كانت عادة السلف الصالح كلما أصابهم القحط أن يصلوا ويدعوا، ولم ينقل عن أحد منهم مطلقًا أنه التجأ إلى قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وطلب منه الدعاء للسقيا، ولو كان ذلك مشروعًا لفعلوه ولو مرة واحدة، فإذا لم يفعلوه دل ذلك على عدم مشروعية ما جاء في القصة. الثالث: هب أن القصة صحيحة، فلا حجة فيها، لأن مدارها على رجل لم يُسَمَّ، فهو مجهول أيضًا، وتسميته بلالًا في رواية سيف لا يساوي شيئًا، لأن سيفًا هذا ـ وهو ابن عمر التميمي ـ متفق على ضعفه عند المحدثين، بل قال ابن حبان فيه: «يروي الموضوعات عن الأثبات، وقالوا: إنه كان يضع الحديث». فمن كان هذا شأنه لا تقبل روايته ولا كرامة، لا سيما عند المخالفة. تنبيه: سيف هذا يَرِدُ ذِكْره كثيرًا في تاريخ ابن جرير وابن كثير وغيرهما، فينبغي على المشتغلين بعلم التاريخ أن لا يغفلوا عن حقيقة أمره حتى لا يعطوا الروايات ما لا تستحق من المنزلة. الفرق بين التوسل بذات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبين طلب الدعاء منه: هذا الأثر ليس فيه التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، بل فيه طلب الدعاء منه بأن يستسقي الله تعالى أمته، وهذه مسألة أخرى لا تشملها الأحاديث المتقدمة، ولم يقل بجوازها أحد من علماء السلف الصالح - رضي الله عنهم -، أعني الطلب منه - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد وفاته. * قياس بعض المتأخرين حياة الأنبياء في البرزخ على حياتهم في الدنيا قياس باطل مخالف للكتاب والسنة والواقع، وحسبنا الآن مثالًا على ذلك أن أحدًا من المسلمين لا يجيز الصلاة وراء قبورهم، ولا يستطيع أحد مكالمتهم، ولا التحدث اليهم، وغير ذلك من الفوارق التي لا تخفى على عاقل. الاستغاثة بغير الله تعالى: ونتج من هذا القياس الفاسد والرأي الكاسد تلك الضلالة الكبرى، والمصيبة العظمى التي وقع فيها كثير من عامة المسلمين وبعض خاصتهم، ألا وهي الاستغاثة بالأنبياء الصالحين من دون الله تعالى في الشدائد والمصائب حتى إنك لتسمع جماعات متعددة عند بعض القبور يستغيثون بأصحابها في أمور مختلفة، كأن هؤلاء الأموات يسمعون ما يقال لهم، ويطلب منهم من الحاجات المختلفة بلغات متباينة، فهم عند المستغيثين بهم يعلمون مختلف لغات الدنيا، ويميزون كل لغة عن الأخرى، ولو كان الكلام بها في آن واحد! وهذا هو الشرك في صفات الله تعالى الذي جهله كثير من الناس، فوقعوا بسببه في هذه الضلالة الكبرى. ويبطل هذا ويرد عليه آيات كثيرة. منها قوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلًا} (الإسراء: الآية 56). والآيات في هذا الصدد كثيرة. 2 - أثر فتح الكوى فوق قبر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى السماء: روى الدارمي في (سننه):حدثنا أبو النعمان ثنا سعيد ابن زيد ثنا عمرو بن مالك النكري حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال: قحَط أهل المدينة قحطًا شديدًا، فشكوا إلى عائشة، فقالت: انظروا قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا، فمطرنا مطرًا حتى نبت العشب، وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق. قال الشيخ الألباني: وهذا سند ضعيف لا تقوم به حجة لأمور ثلاثة: أولها: أن سعيد بن زيد فيه ضعف. قال فيه الحافظ في (التقريب): «صدوق له أوهام». وقال الذهبي في (الميزان): «قال يحيى بن سعيد: ضعيف، وقال السعدي: ليس بحجة، يضعفون حديثه، وقال النسائي وغيره: ليس بالقوي». وثانيهما: أنه موقوف على عائشة وليس بمرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولو صح لم تكن فيه حجة، لأنه يحتمل أن يكون من قبيل الآراء الاجتهادية لبعض الصحابة، مما يخطئون فيه ويصيبون، ولسنا ملزمين بالعمل بها. وثالثها: أن أبا النعمان هذا هو محمد بن الفضل، يعرف بعارم، وهو وإن كان ثقة فقد اختلط في آخر عمره. وقد أورده الحافظ برهان الدين الحلبي حيث أورده في (المختلطين) من كتابه (المقدمة) وقال (ص391): «والحكم فيهم أنه يقبل حديث من أخذ عنهم قبل الاختلاط ولا يقبل حديث من أخذ عنه قبل الاختلاط أو بعده». وهذا الأثر لا يدرى هل سمعه الدارمي منه قبل الاختلاط أو بعده، فهو إذن غير مقبول، فلا يحتج به، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الرد على البكري) (ص68 - 74): «وما رُوي عن عائشة - رضي الله عنها - من فتح الكوة من قبره إلى السماء، لينزل المطر فليس بصحيح، ولا يثبت إسناده، ومما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت

الشبهة الثامنة: قياس الخالق على المخلوقين:

كوة، بل كان باقيًا كما كان على عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، بعضه مسقوف وبعضه مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه، كما ثبت في (الصحيحين) عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يصلي العصر والشمس في حجرتها، لم يظهر الفيء بعد، ولم تزل الحجرة النبوية كذلك في مسجد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -. ومن حينئذ دخلت الحجرة النبوية في المسجد، ثم إنه ُبنِي حول حجرة عائشة التي فيها القبر جدار عال، وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك لأجل كنس أو تنظيف. وأما وجود الكوة في حياة عائشة فكذبٌ بيِّن. الشبهة الثامنة: قياس الخالق على المخلوقين: يقول المخالفون، إن التوسل بذوات الصالحين وأقدارهم أمر مطلوب وجائز، لأنه مبني على منطق الواقع ومتطلباته، ذلك أن أحدنا إذا كانت له حاجة عند ملك أو وزير أو مسؤول كبير فهو لا يذهب إليه مباشرة، لأنه يشعر أنه ربما لا يلتفت إليه، هذا إذا لم يرده أصلًا، ولذلك كان من الطبيعي إذا أردنا حاجة من كبير فإننا نبحث عمن يعرفه، ويكون مقربًا إليه أثيرًا عنده، ونجعله واسطة بيننا وبينه، فإذا فعلنا ذلك استجاب لنا، وقضيت حاجتنا، وهكذا الأمر نفسه في علاقتنا بالله سبحانه ـ بزعمهم ـ فالله - عز وجل - عظيم العظماء، وكبير الكبراء، ونحن مذنبون عصاة، وبعيدون لذلك عن جناب الله، ليس من اللائق بنا أن ندعوه مباشرة، لأننا إن فعلنا ذلك خفنا أن يردنا على أعقابنا خائبين، أو لا يلتفت إلينا فنرجع بخُفّيْ حنين، وهناك ناس صالحون كالأنبياء والرسل والشهداء قريبون إليه سبحانه، يستجيب لهم إذا دعوه، ويقبل شفاعتهم إذا شفعوا لديه، أفلا يكون الأولى بنا والأحرى أن نتوسل إليه بجاههم، ونقدم بين يدي دعائنا ذكرهم، عسى أن ينظر الله تعالى إلينا إكرامًا لهم، ويجيب دعاءنا مراعاة لخاطرهم، فلماذا تمنعون هذا النوع من التوسل، والبشر يستعملونه فيما بينهم، فلِمَ لا يستعملونه مع ربهم ومعبودهم؟ الجواب على هذه الشبهة: هؤلاء يقيسون الخالق على المخلوق، ويشبهون قيوم السماوات والأرض، أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، الرؤوف الرحيم بأولئك الحكام الظالمين، والمتسلطين المتجبرين الذين لا يأبهون لمصالح الرعية، ويجعلون بينهم

الشبهة التاسعة: هل هناك مانع من التوسل المبتدع على وجه الإباحة لا الاستحباب؟ يقولون: ما المانع منه إذا فعلناه على طريق الإباحة؛ لأنه لم يأت نهي عنه؟

وبين الرعية حجبًا وأستارًا، فلا يمكنها أن تصل إليهم إلا بوسائط ووسائل، ترضي هذه الوسائط بالرشاوي والهبات، وتخضع لها وتتذلل، وتترضاها وتقرب إليها، فهل خطر ببالهم أنهم حين يفعلون ذلك يذمون ربهم، ويطعنون به، ويؤذونه، ويصفونه بما يمقته وما يكرهه؟ ترى لو كان يمكن لأحد الناس أن يخاطب الحاكم وجهًا لوجه، ويكلمه دون واسطة أو حجاب أيكون ذلك أكمل وأمدح له، أم حين لا يتمكن من مخاطبته إلا من خلال وسائط قد تطول وقد تقصر؟ الشبهة التاسعة: هل هناك مانع من التوسل المبتدع على وجه الإباحة لا الاستحباب؟ يقولون: ما المانع منه إذا فعلناه على طريق الإباحة؛ لأنه لم يأتِ نهْي عنه؟ والجواب: يجب أن لا ننسى في هذا المقام معنى الوسيلة إذ هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود كما تقدم بيانه. ولا يخفى أن الذي يراد التوصل إليه إما أن يكون دينيًا، أو دنيويًا، وعلى الأول لا يمكن معرفة الوسيلة التي توصل إلى الأمر الديني إلا من طريق شرعي، فلو ادعى رجل أن توسله إلى الله تعالى بآية من آياته الكونية العظيمة كالليل والنهار مثلًا سبب لاستجابة الدعاء لَرُدَّ عليه ذلك إلا أن يأتي بدليل، ولا يمكن أن يقال حينئذ بإباحة هذا التوسل؛ لأنه كلام ينقض بعضه بعضًا، إذ أنك تسميه توسلًا، وهذا لم يثبت شرعًا، وليس له طريق آخر في إثباته، وهذا بخلاف القسم الثاني من القسمين المذكورين وهو الدنيوي، فإن أسبابه يمكن أن تعرف بالعقل أو بالعلم أو بالتجربة ونحو ذلك، مثل الرجل يتاجر ببيع الخمر، فهذا سبب معروف للحصول على المال، فهو وسيلة لتحقيق المقصود وهو المال، ولكن هذه الوسيلة نهى الله عنها، فلا يجوز اتباعها بخلاف ما لو تاجر بسبب لم يحرمه الله - عز وجل -، فهو مباح، أما السبب المدَّعَى أنه يقرب إلى الله وأنه أرجى في قبوله الدعاء، فهذا سبب لا يُعرف إلا بطريق الشرع، فحين يقال: بأن الشرع لم يرد بذلك، لم يجز تسميته وسيلة حتى يمكن أن يقال إنه مباح التوسل به. وشيء ثان: وهو أن التوسل الذي سلمنا بعدم وروده قد جاء في الشرع ما يغني عنه، وهو التوسلات الثلاثة التي سبق ذكرها في أول البحث، فما الذي يحمل المسلم على اختيار هذا التوسل الذي لم يَرِد، والإعراض عن التوسل الذي ورد؟ وقد اتفق العلماء على أن البدعة إذا صادمت سنة فهي بدعة ضلالة اتفاقًا، وهذا التوسل من هذا القبيل، فلم يجز التوسل به، ولو على طريق الإباحة دون الاستحباب! وأمر ثالث: وهو أن هذا التوسل بالذوات يشبه توسل الناس ببعض المقربين إلى الملوك والحكام، والله تبارك وتعالى ليس كمثله شيء باعتراف المتوسلين بذلك، فإذا توسل المسلم إليه تعالى بالأشخاص فقد شبهه عملًا بأولئك الملوك والحكام، وهذا غير جائز. الشبهة العاشرة: قياس التوسل بالذات على التوسل بالعمل الصالح: حيث يقولون: إن من التوسل المشروع اتفاقًا التوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح، فإذا كان التوسل بهذا جائزًا فالتوسل بالرجل الصالح الذي صدر منه هذا العمل أولى بالجواز، وأحرى بالمشروعية، فلا ينبغي إنكاره. والجواب من وجهين: الوجه الأول: أن هذا قياس، والقياس في العبادات باطل. الوجه الثاني: أن هذه مغالطة مكشوفة، لأننا لم نقل ـ كما لم يقل أحد من السلف قبلناـ إنه يجوز للمسلم أن يتوسل بعمل غيره الصالح، وإنما التوسل المشار إليه إنما هو التوسل بعمل المتوسل الصالح نفسه، فإذا تبين هذا قلَبْنا عليهم كلامهم السابق، فقلنا: إذا كان لا يجوز التوسل بالعمل الصالح الذي صدر من غير الداعي فأولى ثم أولى ألا يجوز التوسل بذاته. الشبهة الحادية عشرة: قياس التوسل بذات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على التبرك بآثاره: إن التبرك هو التماس من حاز أثرًا من آثار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حصول خير به خصوصية له - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأما التوسل فهو إرفاق دعاء الله تعالى بشيء من الوسائل التي شرعها الله تعالى

لعباده، كأن يقول: اللهم إني أسألك بحبي لنبيك - صلى الله عليه وآله وسلم - أن تغفر لي، ونحو ذلك. ويتبدى هذا الفرق في أمرين: أولهما: أن التبرك يرجى به شيء من الخير الدنيوي فحسب، بخلاف التوسل الذي يرجى به أي شيء من الخير الدنيوي والأخروي. ثانيهما: أن التبرك هو التماس الخير العاجل، بخلاف التوسل الذي هو مصاحب للدعاء ولا يستعمل إلا معه. وبيانًا لذلك نقول: يشرع للمسلم أن يتوسل في دعائه باسم من أسماء الله تبارك وتعالى الحسنى مثلًا، ويطلب بها تحقيق ما شاء من قضاء حاجة دنيوية كالتوسعة في الرزق، أو أخروية كالنجاة من النار، فيقول مثلًا: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بأنك أنت الله الأحد، الصمد، أن تشفيني أو تدخلني الجنة ... ، ولا أحد يستطيع أن ينكر عليه شيئًا من ذلك، بينما لا يجوز لهذا المسلم أن يفعل ذلك حينما يتبرك بأثر من آثاره - صلى الله عليه وآله وسلم -، فهو لا يستطيع ولا يجوز له أن يقول مثلًا: «اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بثوب نبيك - صلى الله عليه وآله وسلم - أو بصاقه أن تغفر لي وترحمني .. ومن يفعل ذلك فإنه يعرّض نفسه لشك الناس في عقله وفهمه فضلًا عن عقيدته ودينه. * آثار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يُتَوسل بها إلى الله تعالى وإنما يُتَبَرَّك بها فحسب، أي يرجى بحيازتها حصول بعض الخير الدنيوي. إن التوسل بآثار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - غير مشروع البتة، وإن من الافتراء على الصحابة - رضي الله عنهم - الادعاء بأنهم كانوا يتوسلون بتلك الآثار، ومن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل، بأن يثبت أن الصحابة كانوا يقولون في دعائهم مثلًا: اللهم ببصاق نبيك اشفِ مرضانا، إن أحدًا من العقلاء لا يستسيغ رواية ذلك مجرد رواية فكيف باستعماله. * لابد من الإشارة إلى أننا نؤمن بجواز التبرك بآثاره - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولا ننكره، ولكن لهذا التبرك شروطًا منها الإيمان الشرعي المقبول عند الله، فمن لم يكن مسلمًا صادق الإسلام فلن يحقق الله له أي خير بتبركه هذا، كما يشترط للراغب في التبرك أن يكون حاصلًا على أثر من آثاره - صلى الله عليه وآله وسلم - ويستعمله، ونحن نعلم أن آثاره - صلى الله عليه وآله وسلم - من ثياب أو شعر أو فضلات قد

الشبهة الثانية عشرة: قد يقول الرجل لغيره: بحق الرحم

فقدت، وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين، وإذا كان الأمر كذلك فإن التبرك بهذه الآثار يصبح في زماننا هذا أمرًا نظريًا محضًا، فلا ينبغي إطالة القول فيه. * أمر يجب تبيانه: وهو أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وإن أقر الصحابة في غزوة الحديبية وغيرها على التبرك بآثاره والتمسح بها، وذلك لغرض مهم وخاصة في تلك المناسبة، وذلك الغرض هو إرهاب كفار قريش وإظهار مدى تعلق المسلمين بنبيهم، وحبهم له، وتفانيهم في خدمته وتعظيم شأنه، إلا أن الذي لا يجوز التغافل عنه ولا كتمانه أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد تلك الغزوة رغّب المسلمين بأسلوب حكيم وطريقة لطيفة عن هذا التبرك، وصرفهم عنه، وأرشدهم إلى أعمال صالحة خير لهم منه عند الله - عز وجل -، وأجدى، وهذا ما يدل عليه الحديث الآتي: عن عبد الرحمن بن أبي قراد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - توضأ يومًا، فجعل أصحابه يتمسحون بوضوئه، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ما يحملكم على هذا؟» قالوا: حب الله ورسوله. فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من سره أن يحب الله ورسوله، أو يحبه الله ورسوله فليصدق حديثه إذا حدث، وليؤد أمانته إذا اؤتمن، وليحسن جوار من جاوره» [قال الألباني: وهو حديث ثابت، له طرق وشواهد في معجمي الطبراني وغيرهما وقد أشار المنذري في (الترغيب) إلى تحسينه، وقد خرجته في (الصحيحة) برقم (2998)]. الشبهة الثانية عشرة: قد يقول الرجل لغيره: بحق الرحم، قال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ} (النساء:1) على قراءة حمزة وغيرِه ممن خفض الأرحام. الجواب: على قراءة الخفض قال طائفة من السلف: «هو قولهم: أسألك بالله وبالرحم»، وهذا إخبار عن سؤالهم، وقد يُقال: إنه ليس بدليل على جوازه، فإن كان دليلًا على جوازه فمعنى قوله: أسألك بالرحم ليس إقسامًا بالرحم، والقسم هنا لا يسوغ، لكن بسبب الرحم، أي لأن الرحم توجب لأصحابها بعضهم على بعض حقوقًا كسؤال الثلاثة لله تعالى بأعمالهم الصالحة.

الشبهة الثالثة عشرة: الحكاية المنقولة عن الإمام الشافعي - رحمه الله - أنه كان يقصد الدعاء عند قبر الإمام أبي حنيفة - رحمه الله -:

فقول الناس: أسألك بالله وبالرحم، وقراءة من قرأ: {وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ} (النساء:1) هو من باب التسبب بها، فإن الرحم توجب الصلة، وتقتضي أن يصل الإنسان قرابته، فسؤال السائل بالرحم لغيره، يتوسل إليه بما يوجب صلته من القرابة التي بينهما، ليس هو من باب الإقسام، ولا من باب التوسل بما لا يقتضي المطلوب، بل هو توسل بما يقتضي المطلوب، كالتوسل بطاعة الأنبياء،، والصلاة عليهم. ومن هذا الباب: ما يُرْوَى عن عبد الله بن جعفر أنه قال: «كنت إذا سألت عليًا - رضي الله عنه - شيئًا فلم يعطنيه قلت له: بحق جعفر إلا ما أعطيتَنيه، فيُعطينيه» أو كما قال. فإن بعض الناس ظن أن هذا من باب الإقسام عليه بجعفر، أو من باب قولهم: أسألك بحق أنبيائك، ونحو ذلك. وليس كذلك، بل جعفر هو أخو عليّ، وعبد الله هو ابنه، وله عليه حق الصلة، فصلة عبد الله صلة لأبيه جعفر، كما في الحديث: «إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يُوَلِّي» (رواه مسلم) ولو كان هذا من الباب الذي ظنوه لكان سؤاله لعليّ - رضي الله عنه - بحق النبي وإبراهيم الخليل سدد خطاكم ونحوهما، أولى من سؤاله بحق جعفر، فكان عليّ - رضي الله عنه - إلى تعظيم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومحبته وإجابة السائل به أسرع منه إلى إجابة السائل بغيره. الشبهة الثالثة عشرة: الحكاية المنقولة عن الإمام الشافعي - رحمه الله - أنه كان يقصد الدعاء عند قبر الإمام أبي حنيفة - رحمه الله -: الرد: أولاً: هذه القصة أكذوبة من أكذوبات القبوريين، وليس لها أي سند صحيح يُعتضد به. فهذه الرواية سندها إلى الشافعي فيه مجاهيل كما حكى العلامة المعلمي. وقال الشيخ الألباني في (السلسلة الضعيفة 1/ 31): «هذه رواية ضعيفة بل باطلة، فإن عمر بن إسحاق بن إبراهيم غير معروف وليس له ذكر في شيء من كتب الرجال» والصوفية مطالبون بتبيين صحة سند هذه الرواية. وإلا فهم محجوجون بقول الشافعي: «مثل الذي يطلب الحديث بلا اسناد كمثل حطاب ليل حزمة حطب وفيها أفعى وهو لا

يدري». (فيض القدير 1/ 433). فأنتم حُطّاب ليل إن لم تأتوا بالسند صحيحاً. هذا من مذهب الشافعي. ثانياً: هذا سندٍ قوي عن الشافعي من كتبه، فقد قال: «وأكره أن يعظم مخلوق حتى يُجعل قبره مسجداً مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس» (الأم 1/ 278). (راجع معنى الكراهة في كلام السلف في بداية هذا الكتاب) وهذا تناقض بين القول والفعل ينزه عنه الشافعي. ولو كان هذا التبرك صحيحاً لقال له الناس: «كيف تخشى على الناس فتنة لا تخشها على نفسك!».ولو كان الشافعي محبذا للتبرك بالقبور لما نهى عن البناء عليها وأنتم لا توافقون على ذلك. ثانياً: في عصر الإمام الشافعي لم يكن ببغداد قبر للإمام أبي حنيفة ينتابه الناس للدعاء عنده ألبته. وكان المعروف عند أهل العلم هدم ما يبنى على القبور وذلك باعتراف الشافعي نفسه. فقد روى عنه النووي قوله فيما يبنى على القبر: «رأيت من الولاة من يهدم ما بُنىَ فيها ولم أر الفقهاء يعيبون ذلك» (المجموع 5/ 298، شرح مسلم 7/ 24). ثالثًا: أين كان الشافعي ليأتي قبر أبي حنيفة (كل يوم) وقد كان في أول أمره بالحجاز ثم انتقل إلى مصر. وقد كان الشافعي بالحجاز بمكة أو المدينة وفيها قبر من هو خير من أبي حنيفة: وهو قبر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وقبور أصحابه، فلم يعرف عنه أنه كان يأتيه ليدعو عنده ويتبرك به. فما له يفضل قبر أبي حنيفة على قبر سيد ولد آدم - صلى الله عليه وآله وسلم - وصحابته؟! أأنتم أعلم بمذهب الشافعي أم النووي الذي حكى إجماع الأمة على النهي عن الاقتراب من القبر ولمسه باليد وتقبيله، ونقل مثله عن الحليمي والزعفراني وأبي موسى الأصبهاني؟ رابعًا: قد نهى أبو حنيفة - رحمه الله - عن التوسل إلى الله بأنبيائه ـ ولا يمكن أن يكون ذلك خافياً على الشافعي ـ فهل يرضى أبو حنيفة أن يتخذ أحد قبره للصلاة والعبادة. ولم يكن أحد من أصحاب أبي حنيفة وطبقته كمحمد وأبي يوسف يتحرون الدعاء عند قبره بعد موته. ولا يزالون ينكرون على من يمس القبر ويقولون ـ كما في (الفتاوى

البزازية)، و (التتارخانية)، و (رد المحتار) ـ أن مس الرجل القبر للتبرك من عادة النصارى. خامسًا: علَّمَنا الشافعي - رحمه الله - أن ندور مع الكتاب والسنة مهما عظم الرجال قائلاً: «إذا رأيتم قولي يعارض قول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فاضربوا بقولي عرض الحائط».وبناءً على تعاليم الشافعي نضرب بفعله المزعوم ـ إن صح ـ عرض الحائط ونتمسك بنهي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد. وهذا أصل يعلم الله كم خالف فيه الصوفية الشافعي وسائر الأئمة الأفاضل. فالحق والشافعي حبيبان إلى قلوبنا: فإن افترقا فالحق أحب إلى قلوبنا من الشافعي. سادسًا: على افتراض صحة سند هذه القصة المزعومة، فإن الصوفية لا يزالون مخالفين للشافعي - رحمه الله -، فالرواية المكذوبة تُفيد بأن الشافعي - رحمه الله - كان يدعو الله عند القبر، وأما الصوفية فمنهم من يدعون القبر نفسه فيطلبون المدد من الأولياء ويمسحون وجوههم وأيديهم بالقبر، وهيهات أن يفعل الشافعي ذلك.

خامسا: اتخاذ القبور مساجد

خامسًا: اتخاذ القبور مساجد أحاديث النهي عن اتخاذ القبور مساجد: 1ـ عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في مرضه الذي لم يقُم منه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». قالت: فلولا ذاك أبرز قبره (أي كشف قبره - صلى الله عليه وآله وسلم - ولم يتخذ عليه الحائل، والمراد دُفِن خارج بيته) غير أنه خُشي أن يُتَّخَذَ مسجدًا». (رواه البخاري ومسلم). 2ـ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». (رواه البخاري ومسلم). 3 ـ عن عائشة وابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لما حضَرَتْه الوفاة جعل يُلقِي على وجهه طرف خميصة له (ثوب صوف مُعَلَّم)، فإذا اغتم كشفها عن وجهه وهو يقول: «لعنةُ اللهِ على اليهودِ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». تقول عائشة: يحذر مثل الذي صنعوا. (رواه البخاري ومسلم) قال الحافظ ابن حجر: «وكأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - علم أنه مرتحل من ذلك المرض، فخاف أن يُعَظَّم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذم من يفعل فعلهم». 4ـ عن عائشة - رضي الله عنه - قالت: لما كان مرض النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تذاكر بعضُ نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها: مارية ـ وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتَتَا أرض الحبشة ـ فذكرْنَ من حُسنها وتصاويرها قالت: فرفع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - رأسه فقال: «أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، ثم صوروا تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» (رواه البخاري ومسلم) قال الحافظ ابن رجب في (فتح الباري3/ 197): «هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صورهم فيها، كما يفعله النصارى، ولا ريب أن كل واحد منهما محرم على انفراده، فتصوير صور الآدميين يحرم، وبناء القبور على المساجد بانفراده يحرم، كما دلت عليه نصوص أخر ... والتصاوير التي في الكنيسة التي

معنى اتخاذ القبور مساجد:

ذكرتها أم حبيبة وأم سلمة كانت على الحيطان ونحوها، ولم يكن لها ظل، فتصوير الصور على مثال صور الأنبياء والصالحين للتبرك بها، والاستشفاع بها يحرم في دين الإسلام، وهو من جنس عبادة الأوثان، وهو الذي أخبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن أهله شرار الخلق عند الله يوم القيامة، وتصوير الصور للتأسي برؤيتها أو للتنزه بذلك، والتلهي محرم، وهو من الكبائر وفاعله من أشد الناس عذابًا يوم القيامة، فإنه ظالم ممثل بأفعال الله التي لا يقدر على فعلها غيره، وأنه تعالى ليس كمثله شئ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله سبحانه وتعالى». 5ـ عن جندب بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «قد كان لي فيكم إخوة وأصدقاء، وإني أبرأ (¬1) إلى الله أن يكون لي فيكم خليل، وإن الله - عز وجل - قد اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» (رواه مسلم). 6 ـ عن زيد بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «لعن الله (وفي رواية: قاتل الله) اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». (رواه الإمام أحمد وقال الألباني: الحديث صحيح لشواهده) 7ـ عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد». (رواه ابن خزيمة وابن حبان وابن أبي شيبة وأحمد وصححه الألباني) معنى اتخاذ القبور مساجد: 1 - الصلاة على القبور، بمعنى السجود عليها. ¬

_ (¬1) أي امتنع من هذا وأنكره، والخليل هو المنقطع إليه، قيل: هو مشتق من الخَلة ـ بفتح الخاء ـ وهي الحاجة، وقيل: من الخُلة ـ بضم الخاء ـ وهي تخلل المودة في القلب، فنفى - صلى الله عليه وآله وسلم - أن تكون حاجته وانقطاعه إلى غير الله تعالى. (شرح مسلم للنووي).

* النهي عن بناء المساجد على القبور يستلزم النهي عن الصلاة فيها

2 - السجود إليها واستقبالها بالصلاة والدعاء. 3 - بناء المساجد عليها، وقصد الصلاة فيها. وبكل واحد من هذه المعاني قال طائفة من العلماء، وجاءت بها نصوص صريحة عن سيد الأنبياء - صلى الله عليه وآله وسلم -. * النهي عن بناء المساجد على القبور يستلزم النهي عن الصلاة فيها، من باب أن النهي عن الوسيلة يستلزم النهي عن المقصود بها والتوسل بها إليه، مثاله إذا نهى الشارع عن بيع الخمر، فالنهي عن شربه داخل في ذلك، كما لا يخفى، بل النهي عنه من باب أولى. ومن البيِّن جدًا أن النهي عن بناء المساجد على القبور ليس مقصودًا بالذات، كما أن الأمر ببناء المساجد في الدور والمحلات ليس مقصودًا بالذات، بل ذلك كله من أجل الصلاة فيها، سلبًا أو إيجابًا، يوضح ذلك المثال الآتي: لو أن رجلًا بنى مسجدًا في مكان قفر غير مأهول، ولا يأتيه أحد للصلاة فيه، فليس لهذا الرجل أي أجر في بنائه لهذا المسجد، بل هو آثم لإضاعة المال، ووضعه الشئ في غير محله! فإذا أمر الشارع ببناء المساجد فهو يأمر ضمنًا بالصلاة فيها، لأنها هي المقصودة بالبناء، وكذلك إذا نهى عن بناء المساجد على القبور، فهو ينهى ضمنًا عن الصلاة فيها؛ لأنها هي المقصودة بالبناء أيضًا، وهذا بين لا يخفى على العاقل إن شاء الله تعالى. اتخاذ المساجد على القبور من الكبائر إن كل من يتأمل في تلك الأحاديث الكريمة يظهر له بصورة لا شك فيها أن الاتخاذ المذكور يحرم، بل كبيرة من الكبائر؛ لأن اللعن الوارد فيها، ووصف المخالفين بأنهم من شرار الخلق عند الله تبارك وتعالى، لا يمكن أن يكون في حق من يرتكب ما ليس كبيرة كما لا يخفى. وقد اتقفت المذاهب الأربعة على تحريم ذلك، ومنهم من صرح بأنه كبيرة وإليك تفاصيل المذاهب في ذلك:

1ـ مذهب الشافعية أنه كبيرة: قال الفقيه ابن حجر الهيتمي في (الزواجر عن اقتراف الكبائر) (1/ 120): «الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثانًا، والطواف بها، واستلامها، والصلاة إليها» ثم ساق بعض الأحاديث المتقدمة وغيرها. 2ـ مذهب الحنفية الكراهة التحريمية: والكراهة بهذا المعنى الشرعي قد قال به هنا الحنفية فقال الإمام محمد تلميذ أبي حنيفة في كتابه (الآثار) (ص45): «لا نرى أن يزاد على ما خرج من القبر، ونكره أن يجصص أو يطين أو يجعل عنده مسجدًا». والكراهة عن الحنفية إذا أطلقت فهي للتحريم، كما هو معروف لديهم، وقد صرح بالتحريم في هذه المسألة ابن الملك منهم. 3ـ مذهب المالكية التحريم: قال القرطبي في تفسيره (10/ 38): «فاتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها، إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهى عنه ممنوع لا يجوز،. .. قال علماؤنا: وهذا يحرم على المسلمين: أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد». 4ـ مذهب الحنابلة التحريم: ومذهب الحنابلة التحريم أيضًا كما في (شرح المنتهى) (1/ 353) وغيره، بل نص بعضهم على بطلان الصلاة في المساجد المبنية على القبور، ووجوب هدمها. فتبين مما نقلناه عن العلماء أن المذاهب الأربعة متفقة على ما أفادته الأحاديث المتقدمة، من تحريم بناء المساجد على القبور. وقد نقل اتفاق العلماء على ذلك أعلمُ الناس بأقوالهم ومواضع اتفاقهم واختلافهم، ألا وهو شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، فقد سئل بما نصه: هل تصح الصلاة في المسجد إذا كان فيه قبر؛ والناس تجتمع فيه لصلاتي الجماعة والجمعة أم لا؟ وهل يمهد القبر، أو يعمل عليه حاجز أو حائط؟ فأجاب: «اتفق الأئمة أنه لا يبنى مسجد على قبر، لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا

القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك».وأنه لا يجوز دفن ميت في مسجد فإن كان المسجد قبل الدفن غُيِّر، إما بتسوية القبر، وإما بِنَبْشِه إن كان جديدًا، وإن كان المسجد بُنِي بعد القبر، فإما أن يُزال المسجد وإما تزال صورة القبر، فالمسجد الذي على القبر لا يصلى فيه فرض ولا نفل، فإنه منهي عنه» (كذا في الفتاوى له (1/ 107/، 2/ 192). وقد تبنت دار الإفتاء في الديار المصرية فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية هذه، فنقلتها عنه في فتوى لها أصدرتها تنص على عدم جواز الدفن في المسجد، فليراجعها من شاء في (مجلة الأزهر) (ج112ص501و503) وفي المجلة نفسها مقال آخر في تحريم البناء على القبورمطلقا فانظر (مجلد سنة1930ص359و364). وقال ابن تيمية في (الاختيارات العلمية) (ص52): «يحرم الإسراج على القبور، واتخاذ القبور المساجد عليها، وبينها، ويتعين إزالتها، ولا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعروفين».

الشبهة الأولى: قوله تعالى في سورة الكهف: {قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا}

شبهات وجوابها الشبهة الأولى: قوله تعالى في سورة الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا} (الكهف:21) وجه دلالة الآية على ذلك: أن الذين قالوا هذا القول كانوا نصارى، على ما هو مذكور في كتب التفسير، فيكون اتخاذ المسجد على القبر من شريعتهم، وشريعة من قبلنا شريعة لنا إذا حكاها الله تعالى، ولم يعقبها بما يدل على ردها كما في هذه الآية الكريمة. الجواب: أولًا: إن الصحيح المتقرر في علم الأصول أن شريعة من قبلنا ليست شريعة لنا لأدلة كثيرة منها قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أعطِيتُ خمسًا لم يُعطَهُنَّ أحد من الأنبياء قبلي ... (فذكرها، وآخرها) وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبُعثتُ إلى الناس كافة» (أخرجه البخاري ومسلم) فإذا تبين هذا فلسنا ملزمين بالأخذ بما في الآية لو كانت تدل على أن جواز بناء المسجد على القبر كان شريعة لمن قبلنا! ثانيًا: هَبْ أن الصواب قول من قال: (شريعة من قبلنا شريعة لنا) فذلك مشروط عندهم بما إذا لم يَرِدْ في شرعنا ما يخالفه، وهذا الشرط معدوم هنا؛ لأن الأحاديث تواترت في النهي عن بناء المساجد على القبور، فذلك دليل على أن ما في الآية ليس شريعة لنا. ثالثًا: لا نسلِّم أن الآية تفيد أن ذلك كان شريعة لمن قبلنا، غاية ما فيها أن جماعة من الناس قالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا} فليس فيها التصريح بأنهم كانوا مؤمنين، وعلى التسليم فليس فيها أنهم كانوا مؤمنين صالحين، متمسكين بشريعة نبي مرسل، بل الظاهر خلاف ذلك، وهو قول الله - عز وجل - في قصة أصحاب الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا} فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بأن مستنده القهر والغلبة واتباع الهوى وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المنتصر لما أنزل الله على رسله من الهدى.

الشبهة الثانية: كون قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في مسجده الشريف، ولو كان ذلك لا يجوز لما دفنوه - صلى الله عليه وآله وسلم - في مسجده!

الشبهة الثانية: كون قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في مسجده الشريف، ولو كان ذلك لا يجوز لما دفنوه - صلى الله عليه وآله وسلم - في مسجده! والجواب: أن هذا وإن كان هو المشاهد اليوم، فإنه لم يكن كذلك في عهد الصحابة - رضي الله عنهم -، فإنهم لما مات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دفنوه في حجرته التي كانت بجانب مسجده، وكان يفصل بينهما جدار فيه باب، كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يخرج منه إلى المسجد، وهذا أمر معروف مقطوع به عند العلماء، ولا خلاف في ذلك بينهم، والصحابة - رضي الله عنهم - حينما دفنوه - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحجرة، إنما فعلوا ذلك كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ قبره مسجدًا، كما سبق بيانه في حديث عائشة وغيره، ولكن وقع بعدهم ما لم يكن في حسبانهم! ذلك أن الوليد بن عبدالملك أمر سنة ثمان وثمانين بهدم المسجد النبوي وإضافة حُجَر أزواج رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إليه، فأدخل فيه الحجرة النبوية حجرة عائشة - رضي الله عنها -، فصار القبر بذلك في المسجد، ((تاريخ ابن جرير) (5/ 222ـ223) و (تاريخ ابن كثير) (9/ 74ـ75))، ولم يكن في المدينة أحد من الصحابة حينذاك خلافًا لما توهم بعضهم، قال العلامة الحافظ محمد ابن عبد الهادي في (الصارم المنكي) (ص 136): «وإنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبدالملك، بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة، وكان آخرهم موتًا جابر بن عبدالله، وتوفي في خلافة عبدالملك، فإنه توفي سنة ثمان وسبعين، والوليد تولى سنة ست وثمانين، وتوفي سنة ست وتسعين، فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك». فلا يجوز لمسلم أن يحتج بما وقع بعد الصحابة - رضي الله عنهم -؛ لأنه مخالف للأحاديث الصحيحة وما فهم الصحابة والأئمة منها، وهو مخالف أيضًا لصنيع عمر وعثمان حين وسعا المسجد ولم يدخلا القبر فيه، ولهذا نقطع بخطأ ما فعله الوليد بن عبد الملك ـ عفا الله عنه ـ، ولئن كان مضطرًا إلى توسيع المسجد، فإنه كان باستطاعته أن يوسعه من الجهات الأخرى دون أن يتعرض للحجرة الشريفة، وقد أشار عمر بن الخطاب إلى هذا النوع من الخطأ حين قام هو - رضي الله عنه - بتوسيع المسجد من الجهات الأخرى ولم يتعرض للحجرة، بل

الشبهة الثالثة: أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلى في مسجد الخيف وقد ورد في الحديث أن فيه قبر سبعين نبيا!

قال: «إنه لا سبيل إليها» (¬1) فأشار - رضي الله عنه - إلى المحذور الذي يترقب من جراء هدمها وضمها إلى المسجد. ومع هذه المخالفة الصريحة للأحاديث المتقدمة وسنة الخلفاء الراشدين، فإن المخالفين لما أدخلوا القبر النبوي في المسجد الشريف احتاطوا للأمر شيئًا ما، فحاولوا تقليل المخالفة ما أمكنهم حيث «بنوا على القبر حيطانًا مرتفعة مستديرة حوله، لئلا يظهر في المسجد، فيصلي إليه العوام، ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر. (انظر (شرح مسلم) للنووي (5/ 14) الشبهة الثالثة: أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلى في مسجد الخيف وقد ورد في الحديث أن فيه قبر سبعين نبياّ! الجواب: لا نشك في صلاته - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذا المسجد، ولكننا نقول: إن ما ذكر في الشبهة من أنه دفن فيه سبعون نبيًا لا حجة فيه من وجهين: الأول: أننا لا نسلم بصحة الحديث المشار إليه، لأنه لم يروه أحد ممن عني بتدوين الحديث الصحيح، ولا صححه أحد ممن يوثق بتصحيحه من الأئمة المتقدمين، ولا النقد الحديثي يساعد على تصحيحه؛ فإن في إسناده من يروي الغرائب وذلك مما يجعل القلب لا يطمئن لصحة ما تفرد به، قال الطبراني في (معجمه الكبير) (3/ 204/2):حدثنا عبدان بن أحمد نا عيسى بن شاذان، نا أبو همام الدلال، نا إبراهيم بن طمهان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ: «في مسجد الخيف قَبْر سبعين نبيًا». وأورده الهيثمي (المجمع ((3/ 298) بلفظ: « ... قُبِرَ سبعون نبيًا» وقال: «رواه البزار ورجاله ثقات». ¬

_ (¬1) انظر (طبقات ابن سعد) (4/ 21) و (تاريخ دمشق) لا بن عساكر. (8/ 478/2) وقال السيوطي في (الجامع الكبير) (3/ 272/2):وسنده صحيح إلا أن سالمًا أبا النضر لم يدرك عمر.

الشبهة الرابعة: ما ذكر في بعض الكتب أن قبر إسماعيل - عليه السلام - وغيره في الحجر من المسجد الحرام، وهو أفضل مسجد يتحرى المصلى فيه.

قال الشيخ الألباني: أخرجه الطبراني أيضًا. ورجال الطبراني ثقات أيضا غير عبدان بن أحمد وهو الأهوازي كما ذكر الطبراني في (المعجم الصغير) (ص136) ولم أجد له ترجمة، لكن في رجال هذا الإسناد من يروي الغرائب مثل عيسى بن شاذان، قال فيه ابن حبان في (الثقات): «يغرب».وإبراهيم بن طمهان، قال فيه ابن عمار الموصلي: «ضعيف الحديث مضطرب الحديث». وقال فيه الحافظ ابن حجر في (التقريب): «ثقة يغرب» وشيخ منصور ـ وهو ابن المعتمر ـ ثقة، وقد روى له ابن طهمان حديثًا آخر في مشيخته (244/ 2)، فالحديث من غرائبه، أو من غرائب ابن شاذان. * أما قول الهيثمي: «رجاله ثقات»، فإن مثل هذه الكلمة لا تقتضي الصحة؛ لأن عدالة الرواة وثقتهم شرط واحد من شروط الصحة الكثيرة، بل إن العالم لا يلجأ إلى هذه الكلمة معرضًا عن التصريح بالصحة، إلا لأنه يعلم أن في السند مع ثقة رجاله علة تمنع من القول بصحته، أو على الأقل لم يعلم تحقق الشروط الأخرى فيه، فلذلك لم يصرح بصحته. وجملة القول أن الحديث ضعيف لا يطمئن القلب لصحته. فإن صح فالجواب عنه: أن الحديث ليس فيه أن القبور ظاهرة في مسجد الخيف، ومن المعلوم أن الشريعة إنما تبنى أحكامها على الظاهر، فإذ ليس في المسجد المذكور قبور ظاهرة، فلا محظور في الصلاة فيه البتة؛ لأن القبور مندرسة ولا يعرفها أحد، بل لولا هذا الخبر الذي عرفت ضعفه لم يخطر في بال أحد أن في أرضه سبعين قبرًا! ولذلك لا يقع فيه تلك المفسدة التي تقع عادة في المساجد المبنية على القبور الظاهرة والمشْرِفة!. الشبهة الرابعة: ما ذُكِر في بعض الكتب أن قبر إسماعيل - عليه السلام - وغيره في الحِجْر من المسجد الحرام، وهو أفضل مسجد يتحرى المصلى فيه. الجواب: أولًا: لم يثبت في حديث مرفوع أن اسماعيل - عليه السلام - أو غيره من الأنبياء الكرام دُفنوا في المسجد الحرام، ولم يَرِدْ شئ من ذلك في كتاب من كتب السنة المعتمدة كالكتب الستة، ومسند أحمد، ومعاجم الطبراني الثلاثة وغيرها، وذلك من أعظم علامات كَوْن الحديث ضعيفًا بل موضوعًا عند بعض المحققين، وغاية ما وري في ذلك

الشبهة الخامسة: بناء أبي جندل - رضي الله عنه - مسجدا على قبر أبي بصير - رضي الله عنه - في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كما جاء في (الاستيعاب) لابن عبد البر.

من آثار معضلات، بأسانيد واهيات موقوفات، أخرجها الأزرقي في (أخبارمكة) (ص39و219و220) فلا يلتفت إليها. نقل السيوطي في (التدريب) عن ابن الجوزي قال: «ما أحسن قول القائل: إذا رأيت الحديث يباين العقول، أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع. قال: ومعنى مناقضته للأصول أن يكون خارجًا من دواوين الإسلام من المسانيد والكتب المشهورة». كذا في (الباعث الحثيث) (ص85). ثانيًا: أن القبور المزعوم وجودها في المسجد الحرام غير ظاهرة ولا بارزة، ولذلك لا تقصد من دون الله تعالى، فلا ضرر من وجودها في بطن أرض المسجد، فلا يصح حينئذ الاستدلال بهذه الآثار على جواز اتخاذ المساجد على قبور مرتفعة على وجه الأرض لظهور الفرق بين الصورتين. والقبر إذا لم يكن ظاهرًا غير معروفًا مكانه، فلا يترتب من وراء ذلك مفسدة كما هو مشاهد، حيث ترى الوثنيات والشركيات إنما تقع عند القبور المشرفة، حتى ولو كانت مزورة! لا عند القبور المندرسة، ولو كانت حقيقية، فالحكمة تقتضي التفريق بين النوعين، وهذا ما جاءت به الشريعة، فلا يجوز التسوية بينهما. الشبهة الخامسة: بناء أبي جندل - رضي الله عنه - مسجدًا على قبر أبي بصير - رضي الله عنه - في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كما جاء في (الاستيعاب) لابن عبد البر. الجواب: هذه شبهة لا تساوي حكايتها! والكلام عليها من وجهين: الأول: رد ثبوت البناء المزعوم من أصله، لأنه ليس له إسناد تقوم الحجة به، ولم يروه أصحاب (الصحاح) و (السنن) و (المسانيد) وغيرهم، وإنما أورده ابن عبدالبر في ترجمة أبي بصير من (الاستيعاب) مرسلًا، فقال: «وله قصة في المغازي عجيبة، ذكرها ابن إسحاق وغيره وقد رواها معمر عن ابن شهاب. ذكر عبدالرزاق عن معمر عن ابن شهاب في قصة عام الحديبية، قال: «ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلت قريش في طلبه رجلين، فقالا لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -:

العهد الذي جعلت لنا أن ترد إلينا كل من جاءك مسلمًا. فدفعه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى الرجلين، فخرجا حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيد يا فلان! فاستله الآخر، وقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت، فقال له أبو بصير: «أرني أنظر إليه»، فأمكنه منه، فضربه به حتى برد، وفرَّ الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد بعده، فقال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حين رآه: لقد رأى هذا ذعرًا، فلما انتهى إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: قتل والله صاحبي، وإني لمقتول. فجاء أبو بصير، فقال: يا رسول الله، قد والله وفَّى الله ذمتك، قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ويل أمه مسعر حرب، لو كان معه أحد»، فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر، قال: وانفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير ... وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر في أبي بصير بأتم ألفاظًا وأكمل سياقا قال: ... وكتب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى أبي جندل وأبي بصير ليقدُما عليه ومن معهما من المسلمين، فقدم كتاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على أبي جندل، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بيده يقرؤه، فدفنه أبو جندل مكانه، وصلى عليه، وبنى على قبر مسجدًا». قال الألباني: هذه القصة مدارها على الزهري فهي مرسلة على اعتبار أنه تابعي صغير، سمع من أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وإلا فهي معضلة. وكيف ما كان الأمر فلا تقوم بها حجة، على أن موضع الشاهد منها وهو قوله: «وبنى على قبره مسجدًا» لا يظهر من سياق ابن عبد البر للقصة أنه من مرسل الزهري، ولا من رواية عبد الرزاق عن معمر عنه، بل هو من رواية موسى بن عقبة، كما صرح به ابن عبد البر، لم يجاوزه، وابن عقبة لم يسمع أحدًا من الصحابة، فهذه الزيادة ـ أعني قوله «وبنى على قبره مسجدًا» ـ معضلة، بل هي عندي منكرة؛ لأن القصة رواها البخاري في (صحيحة) وأحمد في (مسنده) موصولة من طريق عبد الرزاق عن معمر قال

الشبهة السادسة: زعم بعضهم أن المنع من اتخاذ القبورمساجد إنما كان لعلة خشية الافتتان بالمقبور، زالت برسوخ التوحيد في قلوب المؤمنين، فزال المنع!

:أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بها دون هذه الزيادة، وكذلك أوردها ابن إسحاق في (السيرة) عن الزهري مرسلًا كما في (مختصر السيرة) لابن هشام، ووصله أحمد من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عروة به مثل رواية معمر وأتم وليس فيها هذه الزيادة، وكذلك رواه ابن جرير في تاريخه من طريق معمر وابن إسحاق وغيرهما عن الزهري به دون هذه الزيادة، فدل ذلك كله على أنها زيادة منكرة؛ لإعضالها وعدم رواية الثقات لها. الوجه الثاني: أن ذلك ـ لو صح ـ لم يجز أن ترد به الأحاديث الصريحة، في تحريم بناء المساجد على القبور لأمرين: أولًا: أنه ليس في القصة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - اطلع على ذلك وأقره. ثانيا: أنه لو فرضنا أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - علم بذلك وأقره، فيجب أن يُحمل ذلك على أنه قبل التحريم، لأن الأحاديث صريحة في أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حرم ذلك في آخر حياته كما سبق، فلا يجوز أن يترك النص المتأخر من أجل النص المتقدم ـ على فرض صحته ـ عند التعارض. الشبهة السادسة: زعم بعضهم أن المنع من اتخاذ القبورمساجد إنما كان لعلة خشية الافتتان بالمقبور، زالت برسوخ التوحيد في قلوب المؤمنين، فزال المنع! الجواب: أن يقال: أثبت العرش ثم انقش! أثبت أولا أن الخشية المذكورة هي وحدها علة النهي، ثم أثبت أنها قد انتفت. فإنه لا دليل مطلقًا على أن العلة هي الخشية المذكورة فقط، نعم من الممكن أن يقال: إنها بعض العلة، وأما حصولها بها فباطل؛ لأن من الممكن أيضًا أن يضاف إليها أمور أخرى معقولة كالتشبه بالنصارى، وكالإسراف في صرف المال فيما لا فائدة فيه شرعًا، وغير ذلك. وأما زعم أن العلة انتفت برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين. فهو زعم باطل أيضًا وبيانه من وجوه: الأول: أن الزعم بني على أصل باطل، وهو أن الإيمان بأنه الله هو المنفرد بالخلق، والإيجاد كافٍ في تحقيق الإيمان المنجي عند الله تبارك وتعالى، وليس

الشبهة السابعة: روى ثابت البناني عن أنس - رضي الله عنه - عنه قال: «كنت أصلي قريبا من قبر، فرآني عمر بن الخطاب، فقال: القبر القبر. فرفعت بصري إلى السماء وأنا أحسبه يقول: القمر!».

كذلك، فإن هذا التوحيد وهو المعروف عند العلماء بتوحيد الربوبية، كان يؤمن به المشركون الذين بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كما قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (لقمان:25)، ومع ذلك فلم ينفعهم هذا التوحيد شيئًا، لأنهم كفروا بتوحيد الألوهية والعبادة، وأنكروه على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أشد الإنكار، بقولهم فيما حكاه الله عنهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص:5). ومن مقتضيات هذا التوحيد الذي أنكروه ترك الاستغاثة بغير الله، وترك الدعاء والذبح لغير الله، وغير ذلك مما هو خاص بالله تعالى من العبادات، فمن جعل شيئًا من ذلك لغير الله تبارك وتعالى فقد أشرك به، وجعل له ندًا وإن شهد له بتوحيد الربوبية، فالإيمان المنجي إنما هو الجمع بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإفراد الله بذلك. فإذا تبين هذا نعلم أن الإيمان الصحيح غير راسخ في نفوس كثير من المؤمنين بتوحيد الربوبية. الوجه الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حذر من اتخاذ المساجد على القبور في آخر حياته، بل في مرض موته، فمتى زالت العلة التي ذكروها؟ إن قيل: زالت عقب وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم - فهذا نقض لما عليه جميع المسلمين أن خير الناس قرنه - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأن القول بذلك يستلزم ـ بناء على كلامهم ـ أن الإيمان لم يكن قد رسخ بعدُ في نفوس الصحابة - رضي الله عنهم -، وإنما رسخ بعد وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم -! ولذلك لم تزل العلة وبقي الحكم، وهذا مما لا أتصور أحدًا يقول به لوضوح بطلانه. وإن قيل: زالت قبل وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم -، قلنا: وكيف ذلك وهو - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما نهى عن ذلك في آخر نَفَسٍ من حياته؟! الوجه الثالث: أن الصحابة - رضي الله عنهم - إنما دفنوه في حجرته - صلى الله عليه وآله وسلم - خشية أن يتخذ قبره مسجدًا، كما تقدم عن عائشة - رضي الله عنها -، فهذه خشية إما أن يقال: إنها كانت منصبة على الصحابة أنفسهم، أو على من بعدهم: فإن قيل بالأول، قلنا فالخشية على من بعدهم أولى، وإن قيل بالثاني، وهو الصواب عندنا، فهو دليل قاطع على أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا لا يرون زوال العلة المستلزم زوال الحكم، لا في عصرهم ولا فيما بعدهم، فالزعم بخلاف رأيهم ضلال بَيِّن. الوجه الرابع: أن العمل استمر من السلف على هذا الحكم ونحوه، مما يستلزم بقاء العلة السابقة، وهي خشية الوقوع في الفتنة والضلال، فلو أن العلة المشار إليها كانت منتفية لما استمر العمل على معلولها. مثال على ما ذكرنا: عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ أن لا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشْرِفًا إلا سويته. (رواه مسلم). الشبهة السابعة: روى ثابت البناني عن أنس - رضي الله عنه - عنه قال: «كنت أصلي قريبًا من قبر، فرآني عمر بن الخطاب، فقال: القبر القبر. فرفعت بصري إلى السماء وأنا أحسبه يقول: القمر!». قال الألباني: رواه أبو الحسن الدينوري في (جزء فيه مجالس من أمالي أبي الحسن القزويني) بإسناد صحيح، وعلقه البخاري، ووصله عبدالرزاق أيضًا في (مصنفه) وزاد: (إنما أقول القبر: لا تُصَلّ إليه). الجواب: هذا الأثر دليل على إنكار الصحابة - رضي الله عنهم - الصلاة بالقبور. وأنس - رضي الله عنه - لم يعلم أن هناك قبرًا. فلما علم أنه قبر تنحى عنه. قال الحافظ ابن حجر:. .. الْأَثَر الْمَذْكُور عَنْ عُمَر رَوَيْنَاهُ مَوْصُولًا فِي كِتَاب (الصَّلَاة) لِأَبِي نُعَيْمٍ شَيْخ الْبُخَارِيّ وَلَفْظه: «بَيْنَمَا أَنَس يُصَلِّي إِلَى قَبْر نَادَاهُ عُمَر: الْقَبْر الْقَبْر، فَظَنَّ أَنَّهُ يَعْنِي الْقَمَر، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ يَعْنِي الْقَبْر جَازَ الْقَبْر وَصَلَّى» وَلَهُ طُرُق أُخْرَى بَيَّنْتهَا فِي (تَعْلِيق التَّعْلِيق) مِنْهَا مِنْ طَرِيق حُمَيْدٍ عَنْ أَنَس نَحْوه وَزَادَ فِيهِ: «فَقَالَ بَعْض مَنْ يَلِينِي: إِنَّمَا يَعْنِي الْقَبْر، فَتَنَحَّيْت عَنْهُ». وَقَوْله: «الْقَبْر الْقَبْر» بِالنَّصْبِ فِيهِمَا عَلَى التَّحْذِير». الشبهة الثامنة: أين كانت عائشة - رضي الله عنها - تصلي بعد أن دفن في بيتها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وغيره، في داخل بيتها أم خارجه؟ الجواب: إن عائشة - رضي الله عنها - ممن روى الأحاديث الثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وهذا من حكمة الله - عز وجل -. وبهذا يعلم أنها ما كانت تصلي في الحجرة التي فيها القبور؛ لأنها لو كانت تصلي فيها لكانت مخالفة للأحاديث التي روتها عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهذا لا يليق بها، وإنما تصلي في بقية بيتها. ومن ادعى خلاف ذلك فليأت بالدليل. تنبيه: ليس في إقامة القبة على قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حجة لمن يتعلل بذلك في بناء قباب على قبور الأولياء والصالحين؛ لأن إقامة القبة على قبره لم تكن بوصية منه ولا من عمل أصحابه - رضي الله عنهم - ولا من التابعين ولا أحد من أئمة الهدى في القرون الأولى التي شهد لها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالخير، إنما كان ذلك من أهل البدع، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وثبت عن علي - رضي الله عنه - أنه قال لأبي الهياج الأسدي: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ ألا تدع تمثالًا إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته» (رواه مسلم)؛ فإذا لم يثبت عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - بناء قبة على قبره، ولم يثبت ذلك عن أئمة الخير، بل ثبت عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - ما يبطل ذلك ـ لم يكن لمسلم أن يتعلق بما أحدثه المبتدعة من بناء قبة على قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.

سادسا: شد الرحال لزيارة القبور

سادسًا: شد الرحال لزيارة القبور لا يجوزالسفر لزيارة القبور؛ لأن هذا السفر بدعة، لم يكن في عصر السلف، ولأن في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «لا تُشَدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا». (رواه البخاري ومسلم) وهذا النهي يعم السفر إلى المساجد والمشاهد، وكل مكان يقصد السفر إلى عينه للتقرب، بدليل أن بصرة بن أبي بصرة الغفاري، لما رأى أبا هريرة - رضي الله عنه - راجعًا من الطور الذي كلم الله عليه موسى قال: لو رأيتك قبل أن تأتيه لم تأته؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» (رواه مالك في الموطأ بإسناد صحيح) فقد فهم الصحابي الذي روى الحديث، أن الطور وأمثاله من مقامات الأنبياء، مندرجة في العموم، وأنه لا يجوز السفر إليها، كما لا يجوز السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة. وأيضًا فإذا كان السفر إلى بيت من بيوت الله ـ غير الثلاثة ـ لا يجوز، مع أنه قد جاء في قصد المساجد من الفضل ما لا يُحْصى ـ فالسفر إلى بيوت الموتى من عباده أولى أن لا يجوز. * نفس السفر لزيارة قبر من القبور ـ قبر نبى أو غيره ـ مَنهىٌّ عنه عند جمهور العلماء حتى أنهم لا يجوّزون قصر الصلاة فيه بناء على أنه سفر معصية لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - الثابت فى الصحيحين: «لا تُشَدّ الرحال الا الى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدى هذا».وهو أعلم الناس بمثل هذه المسألة. الرد على الشبهات: الشبهة الأولى: احتج بعض المتأخرين على جواز السفر لزيارة القبور بأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يزور مسجد قباء. الجواب: فى الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال:: «لا تُشَدّ الرحال الا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدى هذا» وهذا الحديث مما اتفق الأئمة على صحته والعمل به فلو نذر الرجل أن يشد الرحل ليصلى بمسجد أو مشهد أو يعتكف فيه أو يسافر إليه غير هذه الثلاثة لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة.

الشبهة الثانية: أجابوا عن حديث «لا تشد الرحال» بأن ذلك محمول على نفى الاستحباب.

ولو نذر أن يسافر ويأتي المسجد الحرام لحج أو عمرة وجب عليه ذلك باتفاق العلماء. وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليه إذا نذره حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسجد قباء؛ لأنه ليس من المساجد الثلاثة مع أن مسجد قباء يستحب زيارته لمن كان فى المدينة؛ لأن ذلك ليس بشَدّ رحل كما فى الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «صلاة في مسجد قباء كعمرة» (رواه ابن ماجه وصححه الألباني). وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء، فصلى فيه صلاة، كان له كأجر عمرة» (رواه ابن ماجه وصححه الألباني). قال بعض العلماء: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء» تنبيه على أنه لا يشرع قصْده بشد الرحال، بل إنما يأتيه الرجل من بيته الذي يصلح أن يتطهر فيه ثم يأتيه فيقصده كما يقصد الرجل مسجد مصره دون المساجد التي يسافر إليها. *السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين ـ فيما نعلم ـ فمن اعتقد ذلك عبادة وفعله فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة. وهذا مما ذكره أبو عبدالله بن بطة فى الإبانة الصغرى من البدع المخالفة للسنة والإجماع. وبهذا يظهر بطلان هذه الشبهة؛ لأن زيارة النبى - صلى الله عليه وآله وسلم - لمسجد قباء لم تكن بشد رحل. الشبهة الثانية: أجابوا عن حديث «لا تشد الرحال» بأن ذلك محمول على نفى الاستحباب. الجواب: قولهم يجاب عنه بوجهين: أحدهما: أن هذا تسليم منهم أن هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة ولا طاعة ولا هو من الحسنات فإنّ مَن اعتقد أن السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع وإذا سافر لاعتقاد أن ذلك طاعة كان ذلك محرمًا بإجماع المسلمين فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة ومعلوم أن أحدًا لا يسافر إليها إلا لذلك. الوجه الثانى: أن هذا الحديث يقتضى النهى والنهى يقتضى التحريم وما ذكروه من الأحاديث فى زيارة قبر النبى - صلى الله عليه وآله وسلم - فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث بل هى

موضوعة لم يرْوِ أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها ولم يحتجّ أحد من الأئمة بشىء منها. وفى سنن أبى داود عن النبى - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلُّوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم». (صححه الألباني). ووجه الدلالة: أن قبر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيدًا. فقبر غيره أولى بالنهي كائنًا من كان، ثم إنه قَرَن ذلك بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ولا تتخذوا بيوتكم قبورًا» أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم. ثم إنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أعقب النهي عن اتخاذه عيدًا بقوله: «صَلُّوا عليَّ فإن صلاتَكم تبلغُني حيثما كنتم» يشير بذلك - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم منه فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدًا. والأحاديث عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - بأن صلاتنا وسلامنا تعرض عليه كثيرة. مثل ما روى أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرُدّ عليه السلام» - صلى الله عليه وآله وسلم -. (حسنه الألباني) ومثل ما روى أبو داود أيضًا عن أوس بن أوس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي»، قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرِمْتَ؟ فقال: «إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء». (صححه الألباني) (أرم أي صار رميمًا، أي عظمًا باليًا).وفي النسائي عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «إن لله ملائكة سياحين في الأرض يُبَلَّغوني عن أمتي السلام» (صححه الألباني). * الذى يقتضيه مطلق الخبر النبوى في قوله: «لا تُشَدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدى هذا» أنه لا يجوز شد الرحال إلى غير ما ذكر أو وجوبه أو ندبيته فإن فعله كان مخالفًا لصريح النهى ومخالفة النهى معصية إما كفر أو غيره على قدر المنهى عنه ووجوبه وتحريمه وصفة النهى.

الشبهة الثالثة: إن حديث (لا تشد الرحال الا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدى هذا)

الشبهة الثالثة: إن حديث (لا تُشَدّ الرحال الا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدى هذا) لم يتناول النهي عن السفر لزيارة المقابر، كما لم يتناول النهي عن السفر إلى الأمكنة التي فيها الوالدان، والعلماء والمشايخ، والإخوان، أو بعض المقاصد، من الأمور الدنيوية المباحة. الجواب: المسافر إلى طلب العلم أوالتجارة أو زيارة قريبه ليس مقصوده مكانًا معينًا إلا بالعرَض إذا عرف أن مقصوده فيه، (فهو لا يقصد المكان لذاته، بل يقصده لأن حاجته فيه، فلولا أن قريبه ـ مثلًا ـ في هذا المكان ما ذهب إلى هذا المكان أصلًا، ولولا أن العالم الفلاني يُدَرس العلم في المسجد الفلاني ـ مثلًا ـ ما سافر إلى هذا المسجد أصلًا، فهو لم يسافر لاعتقاده فضيلة للمسجد بل سافر لتلقي العلم)، ولو كان مقصوده فى غير هذا المكان لذهب إليه؛ فالسفر إلى مثل هذا لم يدخل فى الحديث باتفاق العلماء وإنما دخل فيه من يسافر لمكان معين لفضيلة ذلك بعينه. زيارة المسجد النبوي والسلام على الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه ليست زيارة مسجد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - واجبة، ولكن إذا أراد المسلم السفر إلى المدينة المنورة من أجل الصلاة في مسجده - صلى الله عليه وآله وسلم - فذلك سنة، وإذا دخلت مسجده فابدأ بالصلاة ثم ائت قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقل: «السلام عليك أيها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ورحمة الله وبركاته، صلى الله عليك وعلى آلك وأصحابك»، وأكثر من الصلاة والسلام عليه؛ لما ثبت من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» ثم سلِّم على أبي بكر وعمر، وترَضّ عنهما، ولا تتمسح بالقبر، ولا تدعُ عنده، بل انصرف وادعُ الله حيث شئت من المسجد وغيره، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» رواه البخاري ومسلم. * فزيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ليست واجبة، بل هي سنة بالنسبة لمن لم يتوقف ذلك منه على سفر كزيارة سائر قبور المسلمين، وذلك للعبرة والاتعاظ وتذكر الآخرة بزيارتها، وقد زار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - القبور وحث على زيارتها لذلك لا للتبرك بها ولا لسؤال من فيها من الموتى قضاء الحاجات وتفريج الكربات كما يفعل ذلك كثير من المبتدعة رجالًا ونساءً. أما إذا توقفت زيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أو غيره على سفر فلا يجوز ذلك من أجلها؛ لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى» رواه البخاري ومسلم. روى عبدالرزاق في مصنفه وابن أبي شيبة أن علي بن الحُسين - رضي الله عنه - رأى رجلاً يأتي فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: «ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي ـ يعني علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ـ عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «لا تتخذوا قبري عيداً ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً وسلموا على فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم» قال السخاوي: «وهو حديث حسن»

سابعا: الحلف بغير الله

سابعًا: الحلف بغير الله عن عبد الله ابن عمر - رضي الله عنهما -: «أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أدرك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو يسير في ركب يحلف بأبيه، فقال: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت» (رواه البخاري ومسلم) وزاد مسلم قول عمر - رضي الله عنه -: «فَوَاللهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - نَهَى عَنْهَا ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا».قال الإمام النووي - رحمه الله -:مَعْنَى ذَاكِرًا: قَائِلًا لَهَا مِنْ قِبَل نَفْسِي، وَلَا آثِرًا ـ بِالْمَدِّ ـ أَيْ: حَالِفًا عَنْ غَيْرِي. وعند ابن أبي شيبة في مصنفه من طريق عكرمة قال: قال عمر: «حدثتُ قومًا حديثًا فقلت: لا وأبي. فقال رجل من خلفي: «لا تحلفوا بآبائكم» فالتفَتّ فإذا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «لو أن أحدكم حلف بالمسيح هلك والمسيح خير من آبائكم». قال الحافظ: وهذا مرسل يتقوى بشواهده. وعند الترمذي من وجه آخر عن ابن عمر: «أنه سمع رجلًا يقول: لا والكعبة، فقال: لا تحلِفْ بغير الله فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك». (قال الترمذي: حسن، وصححه الحاكم والألباني). وقال النووي: «قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: «لأن أحلف بالله مائة مرة فآثم خير من أن أحلف بغيره فأبر» وروى عبد الرزاق عن الثوري عن أبي سلمة عن وبرة قال: «قال عبد الله ـ لا أدري ابن مسعود أو ابن عمر ـ: «لأَنْ أحلف بالله كاذبًا أحب إليّ من أن أحلف بغيره صادقًا». قال الهيثمي: «ورواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح». قال الشيخ ابن باز - رحمه الله -: «لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات لا بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا بالكعبة ولا بالأمانة ولا غير ذلك في قول جمهور أهل العلم. بل حكاه بعضهم إجماعًا. وقد روي خلاف شاذ في جوازه بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو قول لا وجه له بل هو باطل، وخلاف لما سبقه من إجماع أهل العلم وخلاف للأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك، ومنها ما خرجه الشيخان عن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «من حلف فقال في حلفه باللات

والعزى فليقل لا إله إلا الله» ووجه ذلك أن الحالف بغير الله قد أتى بنوع من الشرك فكفارة ذلك أن يأتي بكلمة التوحيد عن صدق وإخلاص ليكفر بها ما وقع منه من الشرك. وخرج الترمذي والحاكم بإسناد صحيح عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» وخرج أبو داود من حديث بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «من حلف بالأمانة فليس منا» وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون» (أخرجه أبو داود والنسائي)، وممن حكى الإجماع في تحريم الحلف بغير الله الإمام أبو عمر بن عبد البر النمري - رحمه الله -.وقد أطلق بعض أهل العلم الكراهة فيجب أن تحمل على كراهة التحريم عملًا بالنصوص وإحسانًا للظن بأهل العلم. وقال الشيخ ابن باز أيضًا: «الحلف بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أو غيره من المخلوقات منكر عظيم ومن المحرمات الشركية ولا يجوز لأحد الحلف إلا بالله وحده ... والأحاديث في هذا الباب كثيرة معلومة والواجب على جميع المسلمين ألا يحلفوا إلا بالله وحده ولا يجوز لأحد أن يحلف بغير الله كائنا من كان للأحاديث المذكورة وغيرها. ويجب على من اعتاد ذلك أن يحذره وأن ينهى أهله وجلساءه وغيرهم عن ذلك لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان. (خرجه مسلم في صحيحه)». والحلف بغير الله من الشرك الأصغر للحديث السابق، وقد يكون شركا أكبر إذا قام بقلب الحالف أن هذا المحلوف به يستحق التعظيم كما يستحقه الله، أو أنه يجوز أن يعبد مع الله ونحو ذلك من المقاصد الكفرية».اهـ كلامه - رحمه الله -. * إذا كان الحالف معَظّمًا لما يحلف به من دون الله كتعظيم الله أو أشد كان الحلف شركًا أكبر كمن يقال له: «احلف بالله»، يحلف كاذبًا، فإذا قيل له: «احلف بالشيخ الفلاني»، أقر واعترف، وخاف أن يحلف به كذبًا.

الشبهة الأولى: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - لما سئل: أي الصدقة أفضل؟ فقال: «أما وأبيك لتنبأنه»، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أفلح وأبيه إن صدق» رواهما مسلم.

* لا يجوز لمسلم أن يطلب من أحد أن يحلف بغير الله، ولو كان كافرًا، لا بالمسيح ولا غيره؛ لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من حُلِفَ له بالله فلْيَرض، ومن لم يَرْض فليس من الله في شيء». (رواه ابن ماجة وصححه الألباني) شبهات وجوابها الشبهة الأولى: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - لما سئل: أي الصدقة أفضل؟ فقال: «أما وأبيك لتنبأنه»، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أفلح وأبيه إن صدق» رواهما مسلم. الجواب: أولًا: قال الإمام النووي - رحمه الله -:قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَمَا وَأَبِيك لَتُنَبَّأَنَّهُ» قَدْ يُقَال: حَلَفَ بِأَبِيهِ وَقَدْ نَهَى عَنْ الْحَلِف بِغَيْرِ اللهِ وَعَنْ الْحَلِف بِالْآبَاءِ، وَالْجَوَاب: أَنَّ النَّهْي عَنْ الْيَمِين بِغَيْرِ اللَّه لِمَنْ تَعَمَّدَهُ، وَهَذِهِ اللَّفْظَة الْوَاقِعَة فِي الْحَدِيث تَجْرِي عَلَى اللِّسَان مِنْ غَيْر تَعَمُّد فَلَا تَكُون يَمِينًا وَلَا مَنْهِيًّا عَنْهَا. ثانيًا: قال ابن عبد البر: لا يجوز الحلف بغير الله تعالى بالإجماع ولا اعتبار لقول بعض المتأخرين بأنه مكروه؛ لأنه مخالف لقول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ونهيه عن ذلك. قال ابن عباس - رضي الله عنه -: «لَأَنْ أحلف بالله صادقًا أو كذبا خير من أن أحلف بغيره صادقًا» فهذا يدل على أن الحلف بغير الله من أكبر المحرمات. ثالثًا: هذه اللفظة «وأبيه» فيها أقوال: (1) قال الإمام ابن عبد البر - رحمه الله -: هذه اللفظة منكرة وغير محفوظة وقد جاءت عن راويها إسماعيل بن جعفر «أفلح والله إن صدق» وهي أولى من رواية «أفلح وأبيه»؛ لأن الآثار تدل على ردها ولم تقع برواية مالك أصلًا. (2) قال غيره: إنها مصحفة عن قوله: «أفلح والله» فحذف لفظ الجلالة وصحف بلفظ وأبيه. (3) إن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم بدون قصد القسم به. ذكره البيهقي وارتضاه سفيان الثوري رحمهما الله تعالى. (4) قال المارودي والسهيلي ـ وعليه أكثر الشراح وأيده ابن العربي المالكي ـ إن الحلف بالآباء كان في أول الإسلام ثم نسخ بعد ذلك.

الشبهة الثانية: إن الله أقسم ببعض المخلوقات! كقوله تعالى: {والشمس وضحاها} (الشمس: 1) وقوله {لا أقسم بهذا البلد} (البلد: 1) وقوله {والليل إذا يغشى} (الليل: 1) وما أشبه ذلك من المخلوقات التي أقسم الله بها.

وهذا القول الأخير هو الحق إن شاء الله تعالى؛ لأن الحلف بالآباء كان شائعًا في الجاهلية وصدر الإسلام كالعادات الأخرى مثل شرب الخمر، فنهى الإسلام عن هذه العادات بالتدرج ومنها الحلف بغير الله بدليل حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أنه حلف باللات والعزى فسأل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن ذلك فقال: «قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وانفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولا تعد» (أخرجه النسائي بإسناد صحيح). * قال الإمام محيى الدين النووي في شرحه لـ (صحيح مسلم): «قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أفلح وأبيه» ليس حلفًا إنما هو كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامها غير قاصدة بها حقيقة الحلف، والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف لما فيه من إعظام المحلوف به ومضاهاته به ومضاهاته به الله سبحانه وتعالى فهذا هو الجواب المرضي وقيل: يحتمل أن يكون هذا قبل النهي عن الحلف بغير الله تعالى والله أعلم». وقد نقل الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) كلام النووي هذا وزاد: «إن هذه كلمة جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف كما جرت على لسانهم (عقري وحلقي) وما أشبه ذلك، أو فيه إضمار اسم الرب. وكأنه قال: ورب أبيه». ثم قال الحافظ: «وأقوى الأجوبة. .. أن هذا كان قبل النهي، أو أنها كلمة جارية على اللسان كما تقدم في كلام النووي. وكونه منسوخًا أصح لحديث عمر وابنه». الشبهة الثانية: إن الله أقسم ببعض المخلوقات! كقوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (الشمس: 1) وقوله {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} (البلد: 1) وقوله {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (الليل: 1) وما أشبه ذلك من المخلوقات التي أقسم الله بها. الجواب: أولًا: هذا من فعل الله والله لا يُسأل عما يفعل، وله أن يقسم سبحانه بما شاء من خلقه، وهو سائل غير مسؤول وحاكم غير محكوم عليه. ثانيًا: قسَمُ الله بهذه الآيات دليل على عظمته وكمال قدرته وحكمته، فيكون القسم بها الدال على تعظيمها ورفع شأنها متضمنًا للثناء على الله - عز وجل - بما تقتضيه من الدلالة على عظمته. وأما نحن، فلا نقسم بغير الله أو صفاته، لأننا منهيون عن ذلك. قال الشعبي - رحمه الله -: للخالق أن يقسم من خلقه ولا يقسم المخلوق إلا بالخالق، ولأن أقسم بالله فأحنث خير إلى من أقسم بغيره فأبر. وقال مطرف بن عبد الله - رحمه الله -: إنما أقسم الله بهذه المخلوقات ليعجب بها المخلوقين ويعرفهم قدرته لعظم شأنها عندهم ودلالتها عند الخالق. الشبهة الثالثة: إن الملائكة حلفت بحياة لوط - عليه السلام - فقالوا: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الحجر:72) فهو دليل على جواز حلف المخلوق بالمخلوق. الجواب: هذا الكلام غير صحيح. قال ابن العربي وابن أبي الجوزاء والشوكاني ـ وأجمع عليه المفسرون ـ: بأن الله سبحانه حلف بحياة نبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وليست الملائكة. واستدلوا أيضًا بأن الله حلف، والله - عز وجل - يحلف بما شاء من مخلوقاته. الشبهة الرابعة: عن خارجة بن الصلت عن عمه بن صحار التميمي أنه مر بقوم فأتوه فقالوا: إنك جئت من عند هذا الرجل بخير، فَارْقِ لنا هذا الرجل، فأتوه برجل معتوه في القيود، فَرَقَاهُ بأمِّ القرآن ثلاثة أيام غدوة وعشية، وكلما ختمها جمع بزاقه ثم تفل فكأنما أنشط من عقال فأعطوه شيئًا فأتى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكر له ذلك فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلْ فلَعَمْري لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق (¬1)» (رواه أبو داود، وصححه الألباني). الجواب: قياس هذه الكلمة (لعمري) على قول الإنسان (وحياتي) قياس مع فارق، وهو باطل كما هو معروف في الأصول؛ لأن الأخيرة معها واحد من حروف القسم التي أُجمِع على أنها صريحة في اليمين بخلاف تلك ـ أي (لعمري) ـ فإن اللام فيه ليست من أدوات القسم. بل مثل هذه اللفظة تعتبر جريًا على رسم اللغة تُذكر لتأكيد مضمون الكلام فقط؛ لأنه أقوى من سائر المؤكدات وأسلم من التأكيد بالقسم بالله لوجوب البر به. بل هذا يجري على ألسنتهم من غير قصد كقولهم: عقري وحلقي، وقولهم: ثكلتك أمك، بل هو غير معلوم وغير مفهوم من كلام أهل العلم والإيمان وأئمة هذا الشأن أنه يمين، بل صريح كلامهم نفي هذا وأنه ليس بقسم. * في المدونة الكبرى رواية الإمام سحنون بن سعيد التنوخي عن عبد الرحمن بن القاسم وغيره عن الإمام مالك - رحمه الله -، قال سحنون: قلت: أرأيتَ قولة (لعمري) أتكون هذه يمينًا» قال: قال مالك: «لا تكون يمينًا». ¬

_ (¬1) (مِنْ عِنْد هَذَا الرَّجُل): أَيْ الرَّسُول - صلى الله عليه وآله وسلم -. جَمَعَ بُزَاقه: مَاء الْفَم. (لَمَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِل):أَيْ مِنْ النَّاس مَنْ يَأْكُل بِرُقْيَةِ بَاطِل، كَذِكْرِ الْكَوَاكِب وَالِاسْتِعَانَة بِهَا وَبِالْجِنِّ. (لَقَدْ أَكَلْت بِرُقْيَةِ حَقّ): أَيْ بِذِكْرِ اللَّه تَعَالَى وَكَلَامه.

ثامنا: إلحاق الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالأذان

ثامنا: إلحاق الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالأذان قال الصوفية: أنتم لا تصلون على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد الأذان وتنهون المؤذنين عن رفع الصلوات على المنائر وتقولون إن ما يفعله المؤذنين بدعة. مع أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إِذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ».رواه مسلم. الجواب: أولًا: هذا أمر من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالصلاة عليه بعد الأذان، وهذا عام يشمل المؤذن وغيره. ثانيًا: قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - «إِذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ» وكلمة (ثم) فيها دليل على أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليست من ألفاظ الأذان؛ لأن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تكون بعد ترديد مايقوله المؤذن، فدل ذلك على أن المؤذن لا يَقُولها. ثالثًا: إن أتباع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هم أكثر الناس صلاة علىه - صلى الله عليه وآله وسلم - وأكثرهم التزامًا بأمره ونهيه وطاعته - صلى الله عليه وآله وسلم -.فهل كان بلال أو ابن أم مكتوم وكل من أذن للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - و - رضي الله عنهم - يفعلون ما يفعله بعض المؤذنين في هذا الزمان من رفع الصوت بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد الأذان؟ وهل فُعِل ذلك في عهد الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - الذين أُمِرْنا بالاقتداء بسنتهم وكذلك في عهد الأئمة الأربعة وأتباع التابعين أو أحد القرون الثلاثة المفضلة؟ اللهم لا. ومن قال بخلاف هذا فقد افترى على الإسلام ودعاته الأوائل. رابعًا: هل يوجد في صفة الأذان في أي كتاب من كتب الفقه والحديث المعتمدة ما أحدثه المؤذنون من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على المنائر بعد الأذان؟ اللهم إنه لا يوجد حتى في كتب الفقهاء المتأخرين. قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (متفق عليه). وكل بدعة في الدين ضلالة في النار. فكل ما لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا خلفائه الراشدين فعله فهو مردود على صاحبه كائنًا من كان. ولا توجد بدعة حسنة وأخرى سيئة في الإسلام.

قال الشيخ سيد سابق في (فقه السنة): «الأذان عبادة ومدار الأمر في العبادات على الاتباع فلا يجوز لنا أن نزيد شيئا أو ننقص شيئًا في ديننا. وفي الحديث الصحيح: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد» أي باطل. ونحن نشير هنا إلى أشياء غير مشروعة درج عليها الكثير حتى خيل للبعض أنها من الدين وليست منه، من ذلك: (1) قول المؤذن حين الأذان أو الإقامة: أشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله. قال الحافظ ابن حجر: «إنه لا يزاد ذلك في الكلمات المأثورة». (2) قال العجلوني في (كشف الخفا): مسح العينين بباطن أنملتي السبابتين بعد تقبيلها عند سماع قول المؤذن أشهد أن محمدًا رسول الله مع قوله: أشهد أن محمدًا عبده ورسوله رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - نبيًا. (رواه الديلمي عن أبي بكر - رضي الله عنه -)،قال في (المقاصد): «لا يصح». (3) التغني في الأذان واللحن فيه بزيادة حرف أو حركة أو مد مكروه. فإن أدى إلى تغيير معنى أو إبهام محذور فهو محرم. (4) التسبيح قبل الفجر والنشيد ورفع الصوت، وقبل الجمعة والصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليس من الأذان لا لغةً ولا شرعًا، قاله الحافظ في (الفتح). (5) الجهر بالصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عقب الأذان غير مشروع بل هو محدث مكروه. قال ابن حجر في (الفتاوى الكبرى): «الأصل سنة والكيفية بدعة». أما الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فأتباع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أعرف الناس بها وإليك بعض فضائلها من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (1) قال تعالى: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (الأحزاب:56) (2) عن أبي العالية: «صلاة الله تعالى على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ثناؤه عليه عند الملائكة». رواه البخاري. (3) قال ابن كثير: جمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعا.

(4) عن عبد الله بن عمروا بن العاص - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «من صلى على صلاة صلى الله عليه بها عشرًا» رواه مسلم. (5) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «لا تجعلوا قبري عيدًا وصلوا على فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» رواه أبو داود وصححه الألباني. وهناك الكثير من الأحاديث الصحيحة في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.لهذا جمهور الفقهاء على وجوب الصلاة كلما ذكر اسمه الشريف واستحبوا كتابة الصلاة والسلام عليه كلما ذكر اسمه.

تاسعا: ذم ما عليه الصوفية من الغناء والرقص وضرب الدف وسماع المزامير ورفع الأصوات المنكرة بما يسمونه ذكرا وتهليلا

تاسعًا: ذم ما عليه الصوفية من الغناء والرقص وضرب الدف وسماع المزامير ورفع الأصوات المنكرة بما يسمونه ذكرًا وتهليلا سُئل الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي - رحمه الله -: ما تقول السادة الفقهاء ـ أحسن الله توفيقهم ـ فيمن يسمع الدف والشبانة والغناء ويتواجد (¬1)، حتى إنه يرقص، هل يحل ذلك أم لا؟ مع اعتقاده أنه محب لله وأن سماعه وتواجده ورقصه في الله؟ أفتونا مأجورين، رحمكم الله. فقال: الجواب وبالله التوفيق: إن فاعل هذا مخطيء ساقط المروءة، والدائم على هذا الفعل مردود الشهادة في الشرع، غير مقبول القول: ومقتضى هذا: أنه لا تُقبل روايته لحديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولا شهادته برؤية هلال رمضان، ولا أخباره الدينية. وأما اعتقاده محبة الله - عز وجل -، فإنه يمكن أن يكون محبًا لله سبحانه، مطيعًا له في غير هذا، ويجوز أن يكون له معاملة مع الله سبحانه، وأعمال صالحة في غير هذا المقام. وأما هذا فمعصية ولعب، ذمه الله تعالى ورسوله، وكرهه أهل العلم، وسموه: بدعة، ونهوا عن فعله، ولا يُتقرب الى الله سبحانه بمعاصيه، ولا يُطاع بارتكاب مناهيه، ومن جعل وسيلته الى الله سبحانه معصيته، كان حظه الطرد والإبعاد، ومن اتخذ اللهو واللعب دينًا، كان كمن سعى في الأرض الفساد، ومن طلب الوصول الى الله سبحانه من غير طريق رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وسنته فهو بعيد من الوصول الى المراد. وسُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن حكم الإسلام فيمن يذكرون الله وهم يتمايلون يمينًا وشمالًا في حالة قفز وفي جماعة وفي صوت عال؟ ¬

_ (¬1) الدف: إطار خشبي، مشدود عليه من وجه واحد جلد رقيق. فإذا شد عليه من الوجهين، فهو الطبل. الشبانة المزمار من قصب. والتواجد: التمايل من الطرب.

شبهة: قول الله - عز وجل -: {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار}

فكان الجواب: لا يجوز، لأنه بهذه الكيفية بدعة محدثة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد». شبهة: قول الله - عز وجل -: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران:191) الجواب: ليس في الآية دليل على ما زعموه. قال الإمام الطبري: «ومعنى الآية: إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذاكرين الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم يعني بذلك: قيامًا في صلاتهم، وقعودًا في تشهدهم وفي غير صلاتهم، وعلى جنوبهم نيامًا». وقال الحافظ ابن كثير: ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} كما ثبت في صحيح البخاري عن عِمْران بن حُصَين، رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لَم تستطع فَعَلَى جَنْبِكَ» أي: لا يقطعون ذِكْره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم». وانظر أيضًا تفسير البغوي والألوسي، وفتح القدير والدر المنثور وغيرهم. شبهة: ما رُوِي عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَجَعْفَرٌ وَزَيْدٌ، فَقَالَ لِزَيْدٍ: «أَنْتَ مَوْلَايَ» فَحَجَلَ، وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: «أَنْتَ أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي»، فَحَجَلَ وَرَاءَ زَيْدٍ، وَقَالَ لِي: «أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ» َ فَحَجَلْتُ وَرَاءَ جَعْفَرٍ. الجواب: أولاً: هذا الحديث رواه البيهقي في (دلائل النبوة) من طريق الواقدي. قال عنه الحافظ ابن حجر: «متروك». وقال الإمام الذهبي: «قال البخارى وغيره: متروك». ورواه الإمام أحمد في (المسند) والبزار في (مسنده) والضياء المقدسي في (الأحاديث المختارة) والبيهقي في (السنن الكبرى) من طريق هانىء بن هانىء الهمدانى، الكوفى. قال عنه الحافظ في تهذيب التهذيب (11/ 22): «ذكره ابن سعد فى الطبقة الأولى من أهل الكوفة، قال: وكان يتشيع. وقال ابن المدينى: مجهول.

وقال حرملة عن الشافعى: هانىء بن هانىء لا يُعرَف، وأهل العلم بالحديث لا ينسبون حديثه لجهالة حاله». اهـ. وفي (الكامل) لابن عدي: «حدثنا أحمد بن علي، أخبرنا بحر بن نصر، قال: أملى علينا الشافعي، قال: هانئ بن هانئ لا يُعرَف». وذكره البيهقي هذا الحديث في (شعب الإيمان) (11/ 116) بصيغة التمريض: (رُوِي)، وقال في (السنن الكبرى) بعد أن ذكره: «هانئ بن هانئ ليس بالمعروف جدًا وفى هذا ـ إن صح ـ دلالة على جواز الحجل وهو أن يرفع رجلا ويقفز على الأخرى من الفرح». ثانياً: ليس للحديث ـ إن صح ـ علاقة بالتمايل عند الذكر لا من قريب ولا من بعيد، فليس في الحديث أنهم كانوا يذكرون الله - عز وجل -، بل غاية ما فيه جواز الحجل عند الفرح. شبهة: يستدل الصوفية لجواز الرقص بالذكر بحديث رواه ابن أبي الدنيا: حدثنا علي بن الجعد، أنا عمرو بن شمر، حدثني إسماعيل السدي، سمعت أبا أراكة يقول: صليت مع علي صلاة الفجر، فلما انفتل عن يمينه مكث كأن عليه كآبة حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح صلى ركعتين، ثم قلب يده، فقال: والله لقد رأيت أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - فما أرى اليوم شيئاً يشبههم، لقد كانوا يصبحون صُفرًا شُعثًا غبرًا، بين أعينهم كأمثال ركب المعزى، قد باتوا لله سجداً وقياماً، يتلون كتاب الله يتراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تنبل ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين، ثم نهض فما رُئي بعد ذلك مفتراً يضحك، حتى قتله ابن ملجم عدو الله الفاسق. الرد: هذا الأثر أخرجه ابن عساكر والدينوري وابن أبي الدنيا وأبو نعيم في الحلية وغيرهم، ومداره على عمرو بن شمر عن السدي عن أبي أراكة. وهذا الأثر لا تصح روايته ولا يصح الاستدلال به لأنه شديد الضعف، لما ذكر في رجال إسناده:1 - في إسناده عمرو بن شمر قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (4/ 366): «عمرو بن شمر الجعفي الكوفي الشيعي أبو عبد الله.

قال عنه يحيى بن معين: ليس بشيء. وقال الجوزجاني: زائغ كذاب. وقال ابن حبان: رافضي يشتم الصحابة ويروى الموضوعات عن الثقات. وقال البخاري: منكر الحديث. قال يحيى: لا يكتب حديثه. وقال النسائي والدارقطني وغيرهما: متروك الحديث. وقال السليماني: كان عمر يضع للروافض. وقال ابن أبي حاتم سألت أبى عنه فقال: «منكر الحديث جداً، ضعيف الحديث، لا يشتغل به، تركوه»، لم يزد على هذا شيئاً. وقال أبو زرعة الرازي: ضعيف الحديث. وقال النسائي في التمييز: ليس بثقة ولا يكتب حديثه. وقال ابن سعد: كانت عنده أحاديث وكان ضعيفاً جداً متروك الحديث. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقوى عندهم. وقال الحاكم أبو عبد الله: كان كثير الموضوعات عن جابر الجعفي وليس يروى تلك الموضوعات الفاحشة عن جابر غيره. وذكره العقيلى والدولابي وابن الجارود وابن شاهين في الضعفاء. وقال أبو نعيم: يروى عن جابر الجعفي الموضوعات المناكير». 2 - في إسناده أبو أراكة. ذكره الدولابي في الكنى ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلاً، ومثله لا تقبل روايته لجهالة حاله. 3 - أيضًا في إسناده السدي فيه تشيع ظاهر، وقد ضعفه بعض أهل الجرح والتعديل.

الذكر الجماعي

الذكر الجماعي 1 - الذكر عبادة والعبادات توقيفية لا مجال للابتداع فيها أو للاستحسان، فلا يجوز التقرب إلى الله بتشريع شيء لم يشرعه. عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: «اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيّك الذي أرسلت»، فإن مُتَّ من ليلتك فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به»، قال: فرددتهُا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما بلغتُ «آمنت بكتابك الذي أنزلت» قلتُ: «ورسولك»! قال: «لا، ونبيّك الذي أرسلت» رواه البخاري ومسلم، قال الحافظ ابن حجر: «ألفاظ الأذكار توقيفية في تعيين اللفظ وتقدير الثواب. (فتح الباري شرح حديث:247) قال الشيخ الألباني: «فيه ـ أي في هذا الحديث ـ تنبيه قوي على أن الأوراد والأذكار توقيفية وأنه لا يجوز التصرف فيها بزيادة أو نقص، ولو بتغيير لفظ لا يفسد المعنى، فإن لفظ «الرسول» أعم من لفظة «النبي» ومع ذلك رده النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مع أن البراء - رضي الله عنه - قاله سهواً لم يتعمده! فأين منه أولئك المبتدعة الذين لا يتحرجون من أي زيادة في الذكر أو نقص منه؟» (صحيح الترغيب والترهيب، التعليق على حديث رقم (602). وقال الإمام النووي: « ... واختار المازري أن سبب الإنكار أن هذا ذكر ودعاء، فينبغي فيه الاقتصار على اللفظ الوارد بحروفه». (شرح صحيح مسلم: حديث 2710) 2 - الذكر من أفضل العبادات، وهو مأمور به شرعاً كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (الأحزاب: 41، 42). فالمسلم مطالب بذكر الله تعالى في كل وقت بقلبه ولسانه وجوارحه، لكن ينبغي للمسلم أن يكون في ذكره لله تعالى ملتزماً بحدود الشريعة ونصوصها وهدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، لأن الاتباع شرط لصحة العمل. 3 - الذكر الجماعي: هو ما يفعله بعض الناس من الاجتماع في أدبار الصلوات

المكتوبة أو في غيرها من الأوقات والأحوال ليرددوا بصوت جماعي أذكاراً وأدعية وأوراداً وراء شخص معين، أو دون قائد، لكنهم يأتون بهذه الأذكار في صيغة جماعية وبصوت واحد. 4 - الذكر الجماعي لم يأمر به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا حث عليه، ولو أمر به أو حث عليه لنُقل ذلك؛ وكذلك لم ينقل عنه الاجتماع للدعاء بعد الصلاة مع أصحابه. 5 - إنكار الصحابة: روى الدارمي في سننه بسند صحيح (باب 23، باب في كراهية أخذ الرأي): أخبرنا الحكم بن المبارك أخبرنا عمر بن يحيى بن عمرو بن سلمة قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال: «كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا. فجلس معنا حتى خرج فلما خرج قمنا إليه جميعا فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفًا أمرا أنكرتُه ولم أر والحمد لله إلا خيرًا. قال: فما هو؟ فقال: إن عشتَ فستراه. قال: رأيتُ في المسجد قوماً حِلَقا جلوساً ينتظرون الصلاة في كل حلقة رجُل وفي أيديهم حصا فيقول: كبروا مائة فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة. قال: فماذا قلتَ لهم؟ قال: ما قلتُ لهم شيئاً انتظار رأيك أو انتظار أمرك. قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم. ثم مضى ومضينا معه حتى أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الله حصا نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وآله وسلم - متوافرون وهذه ثيابه لم تَبْلَ وآنيته لم تُكسر. والذي نفسي بيده إنكم لعلي ملة هي أهدي من ملة محمد أو مفتتحوا باب ضلالة. قالوا: «والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير». قال: «وكم من مريد للخير لن يصيبه، إن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حدثنا أن قوما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم. ثم تولى عنهم فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج».

الاجتماع على الذكر غير الذكر الجماعي:

وأيضاً أنكر عمر - رضي الله عنه -، وأنكر أيضاً خباب بن الأرت - رضي الله عنه -. [(رواهما ابن وضاح في (البدع)، وابن أبى شيبة في (المصنف)] 6 - مفاسد الذكر الجماعي: 1 - مخالفة هدي البني - صلى الله عليه وآله وسلم -.2 - التشويش على المصلين.3 - في هذا الذكر بصوت واحد تَشَبُّه بالنصارى الذين يجتمعون في كنائسهم لأداء التراتيل والأناشيد الدينية بصوت واحد. 7 - الاجتماع على الذكر غير الذكر الجماعي: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللهَ تَعَالَى مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ أَرْبَعَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَلَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللهَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مَنْ أَنْ أَعْتِقَ أَرْبَعَةً». (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). قد يفهم البعض من هذا الحديث استحباب الذكر الجماعي، وليس هذا بصحيح، وإنما فيه استحباب الاجتماع على الذكر، بمعنى أن يُعِينَ بعضنا بعضاً عليه بالتواجد في مكان واحد، ويوضح ذلك أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما طبّق ذلك عملياً لم يكن يذْكُر الله - عز وجل - مع أصحابه ذكرا جماعياً، فعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسَنًا (رواه مسلم). ورواه أبو داود بلفظ: «كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ تَرَبَّعَ فِي مَجْلِسِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسْنَاءَ» (صححه الألباني) وفي رواية لمسلم عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رضي الله عنه -: أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ قَالَ: نَعَمْ كَثِيرًا. كَانَ لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِذَا طَلَعَتْ قَامَ. وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ - صلى الله عليه وآله وسلم -». فكان - صلى الله عليه وآله وسلم - يذكر الله - عز وجل - ولم يكن الصحابة - رضي الله عنهم - يرددون خلفه أومعه - صلى الله عليه وآله وسلم -.ويكون فائدة الاجتماع عندئذ أنه أنشط للنفس لكونها مجبولة على التأسي، كما قالت الخنساء: وَلَولا كَثرَةُ الباكينَ حَولي ... عَلى إِخوانِهِم لَقَتَلتُ نَفسي

استدلالهم بعموم الأحاديث الدالة على فضل الاجتماع على ذكر الله

الرد على الشبهات شبهة: استدلالهم بعموم الأحاديث الدالة على فضل الاجتماع على ذكر الله ومجالس الذكر مثل أحاديث: «إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة يبتغون مجالس الذكر ... » (متفق عليه)، «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ... » (رواه مسلم). * الرد:1 - هذه الأحاديث لا تدل على الذكر الجماعي واستحبابه، وإنما هي دالة على استحباب الاجتماع على ذكر الله، وهناك فرق كبير بين هذا وذاك فالاجتماع على ذكر الله مستحب مندوب إليه بمقتضى الأحاديث الواردة في فضله، ولكن على الوجه المشروع الذي فهمه الصحابة وعملوا به، فقد كانوا يجتمعون على الذكر كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية: «كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم أن يقرأ والناس يستمعون، وكان عمر - رضي الله عنه - يقول لأبى موسى - رضي الله عنه -: ذكِّرنا ربنا، فيقرأ وهم يستمعون لقراءته» (مجموع الفتاوى) (11/ 533). روى الإمام ابن أبي حاتم عن يونس بن محمد بن فضالة الأنصاري، عن أبيه قال: وكان أبي ممن صحب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أتاهم في بني ظفر، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر اليوم، ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه، فأمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قارئاً فقرأ ... » (قال الشيخ أحمد شاكر: «إسناده صحيح»). وليس في الأحاديث أن في مجالس الذكر هذه أن أحد الأشخاص يذكر الله وبقية المجلس يرددون وراءه، وليس فيه أنهم يرددون بصوت جماعي. 2 - ذكر الإمام الشاطبي أن البدعة مضادة للطريقة الشرعية من عدة أوجه، وذكر منها: «التزام الكيفيات والهيئات المعينة كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد» (الاعتصام) (1/ 44). شبهة: عن ابن جريج قال أخبرني عمرو أن أبا معبد مولى ابن عباس أخبره أن ابن عباس - رضي الله عنهما - أخبره أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد

النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وقال ابن عباس: «كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته». [رواه البخاري (805) ومسلم (583)].وفي رواية: عن ابن عباس قال: كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بالتكبير. [رواه البخاري (806) ومسلم (583)]. الجواب: أولًا: ليس في كلام ابن عباس - رضي الله عنه - أنهم كلهم كانوا يذكرون الله بصوت واحد، وليس فيه أنه كان يقودهم إمامهم، وهو ما يقوله أهل البدع استدلالاً من أثر ابن عباس، وليس في استطاعتهم إثبات ذلك من الأثر. ثانيًا: أخذ بعض الأئمة بظاهر الحديث، فقالوا: يستحب رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة (¬1)، ومنهم ابن حزم، فقال: «ورفع الصوت بالتكبير إثر كل صلاة حسن» (المحلى 4 (260/.وخالف جمهور أهل العلم في هذا، وقد ردوا على أولئك الأئمة الذين قالوا بجواز أو استحباب الجهر بالذكر. قال الإمام النووي في (شرح صحيح مسلم): «هَذَا دَلِيل لِمَا قَالَهُ بَعْض السَّلَف أَنَّهُ يُسْتَحَبّ رَفْع الصَّوْت بِالتَّكْبِيرِ وَالذِّكْر عَقِب الْمَكْتُوبَة. وَمِمَّنْ اِسْتَحَبَّهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ اِبْن حَزْم الظَّاهِرِيّ، وَنَقَلَ اِبْن بَطَّال وَآخَرُونَ أَنَّ أَصْحَاب الْمَذَاهِب الْمَتْبُوعَة وَغَيْرهمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَم اِسْتِحْبَاب رَفْع الصَّوْت بِالذِّكْرِ وَالتَّكْبِير، وَحَمَلَ الشَّافِعِيّ ـ رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى ـ هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ جَهَرَ وَقْتًا يَسِيرًا حَتَّى يُعْلِّمهُمْ صِفَة الذِّكْر، لَا أَنَّهُمْ جَهَرُوا دَائِمًا قَالَ: فَأَخْتَارَ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُوم أَنْ يَذْكُرَا اللَّه تَعَالَى بَعْد الْفَرَاغ مِنْ الصَّلَاة وَيُخْفِيَانِ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ ¬

_ (¬1) 1) جاء في فتاوى اللجنة الدائمة (السؤال الأول من الفتوى رقم (5923): «يشرع رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة المكتوبة، لما ثبت من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -» وأنه قال أيضا «كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته» ولو وجد أناس يقضون الصلاة سواء كانوا أفرادا أو جماعات وذلك في جميع الصلوات الخمس المفروضة ... أما رفع الصوت بالدعاء وقراءة القرآن بصفة جماعية فهذا لم يرد عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا عن صحابته وفعله بدعة، أما إذا دعا الإنسان لنفسه أو قرأ لنفسه جهرًا فلا شيء فيه إذا لم يتأذ به غيره، وهكذا الدعاء الذي يؤَمَّن عليه كدعاء القنوت» اهـ بتصرف.

يَكُون إِمَامًا يُرِيد أَنْ يُتَعَلَّم مِنْهُ فَيَجْهَر حَتَّى يَعْلَم أَنَّهُ قَدْ تُعُلِّمَ مِنْهُ، ثُمَّ يُسِرُّ، وَحَمَلَ الْحَدِيث عَلَى هَذَا» اهـ كلام الإمام النووي. وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): «وَفِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز الْجَهْر بِالذِّكْرِ عَقِب الصَّلَاة قَالَ الطَّبَرِيُّ: فِيهِ الْإِبَانَة عَنْ صِحَّة مَا كَانَ يَفْعَلهُ بَعْض الْأُمَرَاء مِنْ التَّكْبِير عَقِبَ الصَّلَاة، وَتَعَقَّبَهُ اِبْن بَطَّال بِأَنَّهُ لَمْ يَقِف عَلَى ذَلِكَ عَنْ أَحَد مِنْ السَّلَف إِلَّا مَا حَكَاهُ اِبْن حَبِيب فِي (الْوَاضِحَة) أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ التَّكْبِير فِي الْعَسَاكِر عَقِبَ الصُّبْح وَالْعِشَاء تَكْبِيرًا عَالِيًا ثَلَاثًا، قَالَ: وَهُوَ قَدِيم مِنْ شَأْن النَّاس. قَالَ اِبْن بَطَّال: وَفِي (الْعُتْبِيَّة) عَنْ مَالِك أَنَّ ذَلِكَ مُحْدَث» اهـ كلام الحافظ ابن حجر. وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في (فتح الباري): «وقد دل حديث ابن عباسٍ على رفع الصوت بالتكبير عقب الصلاة المفروضة، وقد ذهب الى ظاهره أهل الظاهر، وحُكِي عن أكثر العلماء خلاف ذلك، وأن الأفضل الإسرار بالذكر؛ لعموم قوله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} (الأعراف:205) وقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} (الأعراف:55)، ولقول النَّبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لمن جهر بالذكر من أصحابه: «إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً» (¬1). وحمل الشافعي حديث ابن عباسٍ هذا على أنه جهر به وقتاً يسيراً حتى يعلمهم صفة الذكر؛ لا أنهم جهروا دائماً ... وكذلك ذكر أصحابه. وذكر بعض أصحابنا مثل ذلك أيضاً. ولهم وجهٌ آخر: أنه يكره الجهر به مطلقاً. وقال القاضي أبو يعلى في (الجامع الكبير): «ظاهر كلام أحمد: أنه يسن للإمام الجهر بالذكر والدعاء عقب الصلوات بحيث يسمع المأموم، ولا يزيد على ذلك». وذكر عن أحمد نصوصًا تدل على أنه كان يجهر ببعص الذكر، ويُسِرّ الدعاء، وهذا هو الأظهر، وأنه لا يختص ذلك بالإمام؛ فإن حديث ابن عباس هذا ظاهره يدل على جهر المأمومين أيضًا. ¬

_ (¬1) رواه البخاري.

ويدل عليه أيضاً: ما خَّرجه مسلمٌ في (صحيحه) من حديث ابن الزبير، أنه كان يقول في دبر كل صلاةٍ حين يسلم: «لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون»، وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يهل بهن في دبر كل صلاةٍ. ومعنى: (يهل). يرفع صوته، ومنه: إلاهلال في الحج، وهو رفع الصوت بالتلبية، واستهلال الصبي إذا ولد. وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يجهرون بالذكر عقب الصلوات، حتى يسمع من يليهم: فخَّرج النسائي في (عمل اليوم والليلة) من رواية عون بن عبد الله بن عتبة، قال صلى رجلٌ إلى جنب عبد الله بن عمرو بن العاص، فسمعه حين سلَّم يقول: «أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والاكرام»، ثم صلى إلى جنب عبد الله بن عمر، فسمعه حين سلم يقول مثل ذلك، فضحك الرجل، فقال له ابن عمر: ما أضحكك؟ قال: إني صليت إلى جنب عبد الله بن عمروٍ، فسمعته يقول مثلما قلت: قال ابن عمر: كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول ذلك (¬1). وأما النهي عن رفع الصوت بالذكر، فإنما المراد به: المبالغة في رفع الصوت؛ فإن أحدهم كان ينادي بأعلى صوته: (لا إله إلا الله، والله اكبر) فقال لهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تنادون أصم ولا غائبًا»، وأشار إليهم بيده يسكنهم ويخفضهم. وقد خرّجه الإمام أحمد بنحو من هذه الألفاظ. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي في (عمل اليوم والليلة365) قال: أخبرنا أحمد بن سَعْد بن الحكم بن أبي مَرْيم. قال: حدثنا عَمي. قال: أخبرنا يحيى بن أيوب. قال: حدثني جعفر بن ربيعة، أن عَون بن عبد الله بن عتبة، فذكره. قال أبو عبد الرحمن النسائي: يحيى بن أيوب عنده أحاديث مناكير، وليس هو بذلك القوي في الحديث. قال الهيتمي في (مجمع الزوائد): «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح».

فأما الحديث الذي خَّرجه مسلمٌ وغيره، عن البراء بن عازبٍ، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أحببنا أن نكون عن يمينه؛ ليقبل علينا بوجهه. قال: فسمعته يقول: «رب قني عذابك يوم تبعث عبادك». فهذا ليس فيه أنه كان يجهر بذلك حتى يسمعه الناس، إنما فيه أنه كان يقوله بينه وبين نفسه، وكان يسمعه منه ـ أحيانا ـ جليسه، كما كان يسمع منه من خلفه الآية أحياناً في صلاة النهار» اهـ كلام الحافظ ابن رجب (بتصرف). فلعل هذا كان من أجل التعليم، وهو قول الإمام الشافعي - رحمه الله -، ووافقه عليه كثير من الأئمة. قال الإمام الشافعي - رحمه الله - في (الأم1/ 157): «وأحسبه إنما جهر قليلًا ليتعلم الناس منه ذلك؛ لأن عامة الروايات التى كتبناها مع هذا وغيرها ليس يذكر فيها بعد التسليم تهليل ولا تكبير. وقد يذكر أنه ذكر بعد الصلاة بما وصفت ويذكر انصرافه بلا ذكر، وذكرت أم سلمة مكثه ولم يذكر جهرًا وأحسبه لم يمكث إلا ليذكر ذكرًا غير جهر. فإن قال قائل: ومثل ماذا؟ قلت: مثل أنه صلى على المنبر يكون قيامه وركوعه عليه وتقهقر حتى يسجد على الارض وأكثر عمره لم يصل عليه، ولكنه فيما أرى أحَب أن يعلم من لم يكن يراه ممن بَعُد عنه كيف القيام والركوع والرفع يعلمهم أن في ذلك كله سعة» اهـ كلام الإمام الشافعي. ومما قد يؤيد أن فعله - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن دائماً، أنه لم يكن يجلس - صلى الله عليه وآله وسلم - إلا قليلاً. قال الإمام الشاطبي - رحمه الله -: «إن الدعاء بهيئة الاجتماع دائماً لم يكن مِن فعل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، كما لم يكن قوله ولا إقراره. وروى البخاري من حديث أم سلمة أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يمكث إذا سلَّم يسيراً. قال ابن شهاب: حتى ينصرف النساء فيما نرى. وفي مسلم: عن عائشة - رضي الله عنها -: كان إذا سلَّم لم يقعد إلا بمقدار ما يقول: «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام» (الاعتصام 1/ 35). * ومما قد يستدل به على رد القول بالجهر بالذكر في الصلاة: أن الشرع نهانا عن أن يجهر بعضنا على بعض لئلا يحصل تشويش على المصلي أو القارىء، ولا يخلو مسجد ـ الآن ـ ممن يتأخر عن الصلاة، وفي الجهر بالذكر: تشويش عليهم.

روى الطبراني في (الأوسط) عن أبي هريرة وعائشة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه اطلع من بيته والناس يصلون يجهرون بالقراءة فقال لهم: «إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه، ولايجهر بعضكم على بعض بالقرآن» (صححه الألباني) وقال الشيخ علي محفوظ ـ وقد كان عضو جماعة كبار العلماء بالأزهر ـ: «من البدع المكروهة ختم الصلاة على الهيئة المعروفة مِن رفع الصوت به، وفي المسجد، والاجتماع له، والمواظبة عليه، حتى اعتقد العامة أنه مِن تمام الصلاة، وأنه سنة لا بدَّ منها، مع أنه مستحب انفراداً سرًّا. فهذه الهيئة محدثة، لم تُعهد عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ... ، ولا عن الصحابة، وقد اتخذها الناس شعارًا للصلوات المفروضة عقب الجماعة ... وكيف يجوز رفع الصوت به والله تعالى يقول في كتابه الحكيم {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (الأعراف:55)، فالإسرار أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء ... » (¬1). قال الشيخ عطية صقر: « ... والذى أختاره، بعد عرض هذا الكلام المبنى على النصوص العامة والخاصة بالذكر بعد الصلاة، هو الإسرار بالذكر؛ لأنه أعون على الإخلاص، وفيه عدم تشويش على المصلين الآخرين، وذلك فى الأوساط الإسلامية العارفة بختام الصلاة، أما فى المجتمعات الإسلامية الحديثة العهد بالإسلام فإن الجهر يكون أفضل للتعليم، وذلك بصفة مؤقتة ثم يكون الإسرار بعد ذلك هو الأفضل. وليس المراد بالسر أن يكون همسا لا يسمع الإنسان نفسه، ولكن المراد ألا يشوش به على غيره. (فتاوى الأزهر9/ 19) ¬

_ (¬1) (الإبداع في مضار الابتداع) (ص 283) وقال الشيخ علي محفوظ - رحمه الله -: «ومن هنا يعلم كراهة ما أُحدث في صلاة التراويح من قولهم عقب الركعتين الأوليين منها: الصلاة والسلام عليك يا أول خلق الله، ونحو ذلك قبل الأخريين، وبعضهم يترضى عن الصحابة، فعقب الأولى عن أبي بكر والثانية عن عمر والثالثة عن عثمان والرابعة عن عليّ، وكل ذلك شرع لما لم يشرعه الله على لسان نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم -. ولا يقال إنه لا بأس به ـ حيث إنه صلاة وتسليم عليه - صلى الله عليه وآله وسلم -،ومن حيث إنه ترضّ عن أصحابه؛ لانعقاد الإجماع على سن الترضي عنهم والترحم على العلماء والصلحاء لما فيه من التنويه بعلو شأنهم والتنبيه على عظم مقامهم ـ ولكن الناس تفعله على أنه شعار لصلاة التراويح ويرون ذلك حسنًا، وهو من تلبيس الشيطان عليهم، وهو أيضًا بدعة إضافية».

عاشرا: الخضر - عليه السلام - في الفكر الصوفي

عاشرًا: الخضر - عليه السلام - في الفكر الصوفي قصة الخضر - عليه السلام - التي وردت في القرآن في سورة الكهف، ووردت في السنة في صحيح البخاري وغيره، حرّف المتصوفة معانيها وأهدافها ومراميها وجعلوها عمودًا من أعمدة العقيدة الصوفية، فقد جعلوا هذه القصة دليلًا على أن هناك ظاهرًا شرعيًا، وحقيقة صوفية تخالف الظاهر، وجعلوا إنكار علماء الشريعة على علماء الحقيقة أمرًا مستغربًا، وجعل الصوفية الخضر مصدرًا للوحي والإلهام والعقائد والتشريع. ونسبوا طائفة كبيرة من علومهم التي ابتدعوها إلى الخضر، ومنهم من ادعى لقيا الخضر والأخذ عنه. الخضر في القرآن الكريم: قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا {60} فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا {61} فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا {62} قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا {63} قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا {64} فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا {65} قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا {66} قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا {67} وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا {68} قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا {69} قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا {70} فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا {71} قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا {72} قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا {73} فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا {74} قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا {75} قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا {76} فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا

الخضر في السنة

أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا {77} قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا {78} أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا {79} وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا {80} فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا {81} وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا {82} (الكهف:60 - 82) الخضر في السنة: قال الإمام البخاري: باب حديث الخضر مع موسى سدد خطاكم: 1 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَهُ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لَا، فَأَوْحَى الله - عز وجل - إِلَى مُوسَى: بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَيْهِ فَجَعَلَ اللهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ: إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، وَكَانَ يَتَّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ لِمُوسَى فَتَاهُ: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَه} {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} فَوَجَدَا خَضِرًا فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا الَّذِي قَصَّ الله - عز وجل - فِي كِتَابِهِ» 2 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: «إِنَّ نَوْفًا الْبَكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ هُوَ

مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ»، فَقَالَ: «كَذَبَ عَدُوُّ الله، حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: «أَنَا»، فَعَتَبَ الله عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: «بَلَى لِي عَبْدٌ بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ»، قَالَ: «أَيْ رَبِّ وَمَنْ لِي بِهِ» وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ «أَيْ رَبِّ وَكَيْفَ لِي بِهِ»،قَالَ: «تَأْخُذُ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ حَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ» وَرُبَّمَا قَالَ «فَهُوَ ثَمَّهْ» وَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ هُوَ وَفَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ حَتَّى إِذَا أَتَيَا الصَّخْرَةَ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا، فَرَقَدَ مُوسَى وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فَخَرَجَ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} فَأَمْسَكَ اللهُ عَنْ الْحُوتِ جِرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ مِثْلَ الطَّاقِ فَقَالَ هَكَذَا مِثْلُ الطَّاقِ فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمَهُمَا حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ قَالَ لَهُ فَتَاهُ: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا وَلَهُمَا عَجَبًا قَالَ لَهُ مُوسَى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} رَجَعَا يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ فَسَلَّمَ مُوسَى فَرَدَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: «وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ» قَالَ: «أَنَا مُوسَى»، قَالَ: «مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟»، قَالَ: «نَعَمْ، أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا»، قَالَ: «يَا مُوسَى، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللهُ لَا تَعْلَمُهُ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ عَلَّمَكَهُ اللهُ لَا أَعْلَمُهُ»، قَالَ: «هَلْ أَتَّبِعُكَ؟» قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا إِلَى قَوْلِهِ إِمْرًا»، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ كَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ نَوْلٍ فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ جَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ، قَالَ لَهُ الْخَضِرُ: «يَا مُوسَى مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلَ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ بِمِنْقَارِهِ مِنْ الْبَحْرِ»، إِذْ أَخَذَ الْفَأْسَ فَنَزَعَ لَوْحًا قَالَ فَلَمْ يَفْجَأْ مُوسَى إِلَّا وَقَدْ قَلَعَ لَوْحًا بِالْقَدُّومِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: «مَا صَنَعْتَ

قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا»، قَالَ: «أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا»،قَالَ: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا» فَكَانَتْ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ الْبَحْرِ مَرُّوا بِغُلَامٍ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ فَقَلَعَهُ بِيَدِهِ هَكَذَا وَأَوْمَأَ سُفْيَانُ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ كَأَنَّهُ يَقْطِفُ شَيْئًا فَقَالَ لَهُ مُوسَى: «أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا؟»، قَالَ: «أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟»، قَالَ: «إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا»، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ مَائِلًا أَوْمَأَ بِيَدِهِ هَكَذَا وَأَشَارَ سُفْيَانُ كَأَنَّهُ يَمْسَحُ شَيْئًا إِلَى فَوْقُ فَلَمْ أَسْمَعْ سُفْيَانَ يَذْكُرُ مَائِلًا إِلَّا مَرَّةً، قَالَ: «قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا عَمَدْتَ إِلَى حَائِطِهِمْ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا»، قَالَ: «هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا». 3 - حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني أخبرنا ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرَ أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءَ» فقه القصة كما وردت في الكتاب والسنة: من هذا العرض الكامل لنصوص القصة في القرآن وفي صحيح البخاري نستخلص الفوائد التالية: 1 - أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يعلم نبيه موسى - عليه السلام - الذي قال جوابًا عن سؤال (لا أعلم على الأرض أعلم مني)!! أنه كان يجب أن يرد علم ذلك إلى الله - سبحانه وتعالى -، فأراه الله - عز وجل - أن هناك عبدًا لا يعلمه موسى هو على علم من علم الله لا يعلمه موسى وكان من أجل ذلك هذا اللقاء بين موسى والخضرسدد خطاكم. 2 - أن الخضر ـ بعد أن تم لقاؤه بموسى سدد خطاكم ـ أخبره أن علم الخضر وعلم موسى بجوار علم الله سبحانه لا شيء، وأنهما لم ينقصا من علم الله إلا كما شرب العصفور من ماء البحر.

3 - أن الشريعة التي كان عليها الخضر لم تكن في حقيقتها مخالفة للشريعة التي عليها موسى، وإنما كان يخفى على موسى فقط الخلفية التي من أجلها فعل الخضر ما فعله، ولذلك فإن الخضر ـ عندما بين لموسى الأسباب التي دفعته إلى خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار ـ لم يستنكر موسى شيئًا من ذلك لأن هذا كله سائغ في الشريعة: أ- فإتلاف بعض المال لاستنقاذ بعضه جائز فلو وكلت مثلًا رجلًا على عمل لك ثم جاء لصوص أو ظلمه قطاع طريق ليستولوا على المال كله، ولم يجد هذا الوكيل وسيلة لدفعهم إلا بأن يدفع لهم بعض المال ويتركوا بعضه لما كان ملومًا شرعًا، ولا يُلام ممن وكله بل يستحسن فعله، وما فعله الخضر بالنسبة إلى السفينة لا يعدو ذلك فهو إنما أفسد السفينة فسادًا جزئيًا لتظهر لأعوان ذلك الملك الظالم أنها غير صالحة فيتركوها وبذلك تسلم من الغصب، ولا شك أن ما فعله الخضر في حقيقته إحسان لأصحاب السفينة؛ لأن الله أطلعه على شيء من المستقبل في أن ذلك الملك الظالم سيصادر السفن لأمر ما، كما هو حال كثير من الرؤساء والملوك الظلمة يصادرون وسائل النقل أحيانًا إما لمصالحهم أو لمصلحة عامة. فما فعله الخضر بالنسبة إلى السفينة موافق للشرع الإلهي تمامًا وليس مخالفًا للتشريع، وإنكار موسى في أول الأمر ناشئ من أنه لم يعرف الخلفية الغيبية التي كان الله قد أطلع عليها الخضر بوحي من عنده. ب- وأما قتل الغلام فهوكذلك سائغ في الشريعة إذا كان هذا الغلام سيكون ظالمًا لوالديه، مجبِرًا لهما على الكفر وكان هذا مما علمه الله مستقبلًا، وأطلع عليه الخضر، فكان قتله أيضًا سائغًا، وقد جاءت الشريعة بقتل الصائل المعتدي. حقًا إن الشريعة لا تأمر بقتل الصائل إلا إذا باشر العدوان، والطفل هنا لم يباشر العدوان بعد، ولكن القتل هنا بأمر الله - سبحانه وتعالى - الذي يعلم ما سيكون، وقد كان هذا منه - سبحانه وتعالى - رحمة بعبدين من عباده صالحين أراد الله - عز وجل - أن لا يتعرضا لفتنة هذا الولد العاق فيتألما ألمين: الألم الأول: أنه ولدهما وعقوق الأولاد شديد على قلوب الآباء. والثاني: أنهما قد يبلغان الكفر ويتعبان في التمسك بالإيمان وهذا عذاب آخر، فجمع الله سبحانه وتعالى لهما عذابًا واحدًا فقط وهو فقد الولد، وفيه خير لهما ولا شك لأن صبرهما، أيضًا على فقده فيه خير لهما. فلما علم الله ذلك، وأطلع الخضر عليه، ونفذ هذا بأمر الله كان ذلك كله موافقًا للشريعة التي عليها موسى وعليها محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وعليها سائر الأنبياء. ولذلك لما قيل لابن عباس - رضي الله عنه - على هذه الحادثة: أيجوز أن نقتل الأولاد؟ قال: «إذا علمت منهم ما علم الخضر فافعل». أي إن ذلك سائغ في الشريعة ولكن أين من يطلعه الله على الغيب كما أطلع الخضر - عليه السلام -. جـ - وأما مسألة بناء جدار لقوم بخلاء لم يبذلوا القِرَى (بكسر القاف) والضيافة الواجبة، فإن ذلك من باب مقابلة الإساءة بالإحسان، وهذا خلق من أخلاق الشريعة الإسلامية وما فعله الخضر هو من باب الإحسان إلى قوم قدموا الإساءة. ثم إن إحسانه لهذين الغلامين لم يتأت منهما إساءة وكان أبوهما رجلًا صالحًا وهم في قرية ظالمة بخيلة، ولو هدم جدار بيتهم لانكشف كنزهم ولاستولى عليه هؤلاء القوم البخلاء، فلا شك أن ما فعله الخضر من بناء الجدار هو عين ما تأمر به كل شرائع الأنبياء التي أمرت بالفضل والإحسان، ورعاية اليتامى وحفظ حقوقهم. * فأي شيء يستغرب مما فعله الخضر؟ وأي حقيقة اطلع عليها الخضر تخالف ظاهر شريعة كان عليها موسى؟ بل ما فعله الخضر موافق تمامًا لشريعة موسى ولشريعة عيسى ولشريعة محمد ولكل شرائع الله المنزلة، ولم يقل الخضر أو يفعل شيئًا يخالف ما كان عليه الأنبياء - عليهم السلام -، وإنما فقط أطلعه الله على بعض أسرار المقادير ففعل ما فعل من الحق الذي لا تنكره الشرائع بناء على هذه الأخبار والأنباء التي أطلعه الله عليها. وباختصار لم يفعل الخضر شيئًا مخالفًا لشريعة موسى فافهم هذا جيدًا وتمسك به. 4 - وجود الخضر - عليه السلام - على دين وشريعة غير شريعة موسى كان أمرًا سائغًا وسنة من سنن الله قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأن النبي كان يبعث إلى قومه خاصة، ولذلك كان موسى رسولًا إلى بني إسرائيل فقط، ولم يكن رسولًا للعالمين، ولذلك لما سلم موسى على

الخضر سدد خطاكم قال الخضر: وأنّى بأرضك السلام. قال له موسى: أنا موسى. قال الخضر: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم». أي أنت مبعوث إلى بني إسرائيل ومنهم، ولذلك لم تكن شريعة موسى لازمة للخضر ولجميع الناس في زمانه، وأما بعد بعثة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - فإنه لا يجوز شرعًا أن يكون هناك من هو خارج عن شريعته؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - رسول للعالمين، فلا يسع الخضر ولا غيره أن يتخلف عن الإيمان به واتباعه ولذلك فلا وجود بتاتًا للخضر وأمثاله بعد بعثة الرسول محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -. 5 - لا شك أن ما فعله الخضر فعله عن وحي حقيقي من الله وليس عن مجرد خيال أو إلهام؛ لأن قتل النفس لا يجوز بمجرد الظن، ولذلك قال الخضر: «وما فعلته عن أمري». فلم يفعل إلا عن أمر الله الصادق ووحيه القطعي. ومثل هذا الأمر والوحي القطعي قد انقطع بوفاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فلا وحي بعده، ومن ادعى شيئًا من ذلك فقد كفر؛ لأنه بذلك خالف القرآن الذي يقول الله فيه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (الأحزاب:40). وقال أيضًا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وختم بي النبيون فلا نبي بعدي» (رواه مسلم). * من بيان الحقائق السالفة تتضح لنا الصورة الحقيقية لقصة الخضر - عليه السلام -، والاعتقاد الواجب فيه حسب الكتاب والسنة. ولكن المتصوفة جعلوا من هذه القصة شيئًا مختلفًا تمامًا. فقد زعموا أن الخضر حيّ إلى أبد الدهر، وأنه صاحب شريعة وعلم باطني يختلف عن علوم الشريعة الظاهرية، وأنه وَلِيّ وليس بنبيّ، وأن علمه علم لدني موهوب له من الله بغير وحي الأنبياء، وأن هذه العلوم تنزل إلى جميع الأولياء في كل وقت قبل بعثة الرسول محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وبعد بعثته، وأن هذه العلوم أكبر وأعظم من العلوم التي مع الأنبياء، بل وعلوم الأنبياء لا تدانيها ولا تضاهيها، فكما أن الخضرـ وهو وليّ فقط في زعمهم ـ كان أعلم من موسى فكذلك الأولياء من أمة محمد هم أعلم من محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأن محمدًا عالم بالشريعة الظاهرة فقط، والولي عالم بالحقيقة الصوفية، وعلماء الحقيقة أعلم من علماء الشريعة. وزعموا كذلك أن الخضر يلتقي بالأولياء ويعلمهم هذه الحقائق ويأخذ لهم العهود الصوفية، وأن الحقائق الصوفية تختلف عن الحقيقة المحمدية، ولذلك فلكل ولي شريعته المستقلة فما يكون معصية في الشريعة كشرب الخمر والزنا واللواط، قد يكون حقيقة صوفية وقربة إلى الله حسب العلم الباطني، وكذلك في أمر العقائد ومسائل الإيمان فلكل وليّ كشفه الخاص، وعلمه الخاص اللدني الذي قد يختلف عن الوحي النبوي. وهكذا جعل المتصوفة من قصة الخضر بابًا عظيمًا لإدخال كل أنواع الخرافات والزندقة والجهل والإسفاف، بل منهم من زعم أن الخضر لا يصلي لأنه على شريعة خاصة!!. * الصواب الذي عليه المحققون أن الخضر ميت وأنه لم يدرك الإسلام، والأدلة على ذلك:1 - لو كان موجودًا في زمان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لوجب عليه أن يؤمن به ويجاهد معه كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره، ولكان يكون في مكة والمدينة ولكان يكون حضوره مع الصحابة للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى به من حضوره عند قوم كفار ليرفع لهم سفينتهم ولم يكن مختفيًا عن خير أمة أخرجت للناس وهو قد كان بين المشركين ولم يحتجب عنهم. 2 - ليس للمسلمين بالخضر حاجة في دينهم ودنياهم، فإن دينهم أخذوه عن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - النبي الأمي الذي علمهم الكتاب والحكمة، وقال لهم نبيهم «لو كان موسى حيًا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم» (رواه الإمام أحمد وإسناده حسن) وعيسى بن مريم - عليه السلام - إذا نزل من السماء إنما يحكم في المسلمين بكتاب ربهم وسنة نبيهم محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأي حاجة لهم مع هذا إلى الخضر وغيره. 3 - إذا كان الخضر حيًا دائمًا فكيف لم يذكر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك قط، ولا خلفاؤه الراشدون؟!! 4 - إن قال قائل: إن الخضر نقيب الأولياء، فيقال له: من ولاه النقابة وأفضل الأولياء أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، وليس فيهم الخضر، وغاية ما يحكى في هذا الباب من الحكايات بعضها كذب وبعضها مبني على ظن رجال مثل شخص رأى رجلًا ظن أنه الخضر، وقال

إنه الخضر. وروي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال ـ وقد ذُكِر له الخضر ـ: «من أحالك على غائب فما أنصفك، وما ألقى هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان». 5 - ليس هناك دليل قط على أن الخضر حي أو موجود ـ كما يزعم الزاعمون ـ بل على العكس، هناك أدلة من القرآن والسنة والمعقول وإجماع المحققين من الأمة على أن الخضر ليس حيًا. ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله - في كتابه (المنار المنيف في الحديث الصحيح والضعيف) ضوابط للحديث الموضوع الذي لا يقبل في الدين، ومن هذه الضوابط: «الأحاديث التي يذكر فيها الخضر وحياته، كلها كذب، ولا يصح في حياته حديث واحد. وسئل إبراهيم الحربي عن تعمير الخضر وأنه باق، فقال: ما ألقى هذا بين الناس إلا شيطان. وسئل البخاري عن الخضر والياس هل هما أحياء؟ فقال: كيف يكون هذا؟ وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» [رواه الشيخان]. وسئل عن ذلك كثير غيرهما من الأئمة فقالوا ـ مستدلين بالقرآن ـ: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (الأنبياء: 34) فالقرآن، والسنة، وكلام المحققين من علماء الأمة ينفي حياة الخضر. القرآن يقول: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (الأنبياء: 34) فالخضر إن كان بشرًا فلن يكون خالدًا، حيث ينفي ذلك القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ فإنه لو كان موجودًا لجاء إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيًا ما وسعه الا أن يتبعني» (رواه الإمام أحمد وحسنه الألباني) فإن كان الخضر نبيًا، فليس هو بأفضل من موسى، وإن كان وليًا فليس أفضل من أبي بكر. وما الحكمة في أن يبقى طيلة هذه المدة ـ كما يزعم الزاعمون ـ في الفلوات والقفار والجبال؟ ما الفائدة من هذا؟ ليس هناك فائدة شرعية ولا عقلية من وراء هذا. إنما يميل الناس دائمًا إلى الغرائب والعجائب والقصص والأساطير، ويصورونها تصويرًا من عند أنفسهم ومن صنع خيالهم، ثم يُضْفون عليها ثوبًا دينيًا، ويروج هذا بين بعض

السذج، ويزعمون هذا من دينهم، ولكن ليس هذا من الدين في شيء ... والحكايات التي تحكي عن الخضر إنما هي مخترعات ما أنزل الله بها من سلطان هل الخضر نبي أم ولي؟ قد اختلف العلماء في ذلك، والأظهر أنه نبي ـ كما يبدو من قول الله - عز وجل -: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} (الكهف: 82) أي ليس لي دخل في الذي فعلت فهي دليل على أنه فعل ذلك عن أمر الله، ومن وحيه لا من عند نفسه. فالأرجح أنه نبي وليس مجرد ولي. وممايؤكد أنه نبي أن الله تبارك وتعالى قال: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} والله تبارك وتعالى لا يؤتي هذا العلم الا لنبي. فالخضر - عليه السلام - على قول أغلب العلماء نبي. وليس بعجيب أن يتعلم نبي من نبي. قد يقول البعض: وهل ينبني على ذلك حكم؟ نقول نعم فقد قيل: «إن أول عقدة تحل من الزندقة أن يكون الخضر نبيًا»؛ لأن غلاة الصوفية يزعمون أن الولي أعظم من النبي مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي. فالولي عندهم أعظم من النبي. وهذا ضلال مبين وزندقة؛ لأن النبوة ليست مكتسبة. إن النبوة منحة من الله - عز وجل - لا تكتسب فلذلك كان إثبات أن الخضر نبي أول عقدة تحل من هذا الحبل الطويل من الزندقة. هل الخضر أعلم من موسى سدد خطاكم؟ الجواب: لا؛ لأن الخضر - عليه السلام - كان أعلم منه بهذه الجزئية التي علمه الله تعالى اياها فقط، أما في بقية العلم فلا شك أن موسى - عليه السلام - أعلم، ولا شك أن موسى أفضل من الخضرسدد خطاكم؛ لذلك قال له الخضر لما نقر العصفور من ماء البحر، قَالَ: «يَا مُوسَى، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللهُ لَا تَعْلَمُهُ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ عَلَّمَكَهُ اللهُ لَا أَعْلَمُهُ»، فهنا الخضر - عليه السلام - إنما هو أعلم من موسى بهذه الجزئية فقط.

حادي عشر: الكشف الصوفي

حادي عشر: الكشف الصوفي الغيب في المعتقد الصوفي: يقول تبارك وتعالى: {الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (البقرة:1 - 3) فقد جعل الله صفة الإيمان بالغيب أول صفة للمتقين المهتدين بالقرآن والسنة، وذلك حتى يوحد المؤمنون طريق التلقي فلا يتلقون غيبًا إلا من الله ومن أقامه للأخبار بالغيب عنه وهم رسله، وأنبياؤه فقط. جاء المتصوفة فكان أول هدم لهم في الإسلام أن يهدموا هذا الأصل فأقاموا شيئًا سموه (الكشف الصوفي) وهو يعني عندهم رفع الحجب أمام قلب الصوفي وبصره ليعلم ما في السماوات جميعًا، وما في الأرض جميعًا، فلا تسقط ورقة إلا بنظره ولا تقع قطرة ماء من السماء إلا بعلمه ولا يولد مولود، أو يعقد معقود، أو يتحرك ساكن أو يسكن متحرك إلا بعلم الصوفي. لا يقف أمامه حجاب، ولا يوصد أمامه باب، ولا يعجزه علم شيء في الأرض ولا في السماء. فهو يعلم ما يكتب في اللوح المحفوظ ساعة بساعة، بل هو يعلم بأي لغة وأي قلم كتب اللوح المحفوظ، وماذا في أم الكتاب، وماذا كان منذ الأزل وماذا سيكون إلى الأبد. لقد ترقى المتصوفة في مسألة الكشف عندهم فزعموا أولًا أن الصوفي يكشف له معان في القرآن والحديث لا يعلمها علماء الشريعة الذين سموهم بعلماء الظاهر والقراطيس والآثار التي ينقلونها عن الموتى، وأما هم فيلتقون بالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يقظة أحيانًا، ومنامًا أحيانًا ويسألونه ويستفيدون منه هذه العلوم. ثم ترقوا فقالوا: إن لنا علومًا ليست في الكتاب والسنة نأخذها عن الخضر الذي هو على شريعة الباطن، وهو الذي يمد الأولياء بهذه الشريعة، فموسى ومحمد والأنبياء على شريعة ظاهرة، وأما الخضر فهو على شريعة باطنة يجوز فيها ما لا يجوز في الظاهر، فقد قتل الغلام بغير ذنب، وكسر السفينة لمن حملهم بغير نوال، وبنى الجدار إحسانًا منه لمن

أساء إليهم. ومثل هذا ينكره أهل الظاهر كما أنكره موسى، ونحن في الباطن على شريعة الخضر وهو يلتقي بنا ونتعلم منه علومًا خاصة ينكرها أهل الظاهر لجهلهم. والعجيب أنه كان من هذا الدين الباطن الذي زعموا أخْذَه عن الخضر إتيان (الحمارة) والزنا، وشرب الخمر واللواط، والتعري، والصراخ في الطرقات، وسب المؤذنين للصلاة، وسب الأنبياء، والادعاء بأن كل مخلوق هو الله، وإلقاء السلام على الكلاب والخنازير، والترحم على إبليس ومحاولة الوصول إلى مقامه، وجعْل فرعون أعلم من موسى بالله، وتبرئة قوم نوح من الشرك، وجعل الرسول محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الله المستوي على العرش. هذه الأشياء قليلة جدًا من هذا الدين الباطني الذي زعم المتصوفة أنهم نالوه عن طريق الكشف الصوفي، وهو رفع الحجب عن القلوب والأبصار لرؤية الحق على ما هو عليه، وأن الخضر - عليه السلام - هو مبلغ كل هذا لهم. وتارة يترقون في هذا الكذب، أو بالأحرى يهوون إلى أسفل سافلين في دعاوي الكذب هذه، فيزعمون أنهم تلقوا هذه العلوم من ملك الإلهام كما تلقى محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - علومه من ملك الوحي، وأخرى يزعمون أنهم تلقوا علومهم هذه التي أشرنا إلى بعضها آنفًا من الله رأسًا وبلا وساطة، وأنها انطبعت في نفوسهم من الله رأسًا وأنهم مطالعون الأمر في الأزل بأرواحهم، والأمر في الأبد يرونه كما يكون عليه الحال يرونه كذلك بأرواحهم بغير وساطة وأن همتهم تصل السماوات وما فوقها والأرض وما تحتها. ولقد وسع المتصوفة دائرة كشفهم هذه فزعموا أنهم يعلمون أسرار الحروف المقطعة من القرآن بطريق الكشف، وقصص الأنبياء يروونها على حقيقتها ويجتمعون بالأنبياء ويسألونهم عن تفاصيل قصصهم وما كان منهم. فيفيدون فوائد كثيرة دونها كثيرًا ما هو موجود فعلًا في القرآن، وأما الجنة والنار، فهم وإياها دائمًا رأي العين، بل هي ساقطة أصلًا من عيونهم؛ لأن النار لو بصق أحدهم عليها لأطفأها. وأما الجنة فالنظر إليها شرك وكفر لأنهم ينظرون إلى الله فقط. باختصار لقد اكتشف المتصوفة ـ بزعمهم ـ للقرآن معاني غير التي يعرفها أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وعلماء الأمة على مر العصور. لقد اكتشفوا هم عن طريق كشفهم الشيطاني

أن للقرآن معاني أخرى وأن فيه علومًا كثيرة جدًا لا يعلمها غيرهم. وما هذه العلوم. إنها كل الفلسفات القديمة، والخزعبلات والخرافات التي عند فلاسفة الإغريق، وكهنة الهنادك والهندوس، وشياطين المجوس وإباحية المانوية والمزدكية، وخرافات القصاص من كل لون وجنس، كل هذا وهذا جعله المتصوفة كشفًا وحقيقة صوفية ومعاني للقرآن الكريم والحديث النبي الشريف. ومن أراد منهم أن لا ينسب هذه الخرافات والخزعبلات إلى القرآن والحديث، ورأى أنه تحقق بعلوم أكثر بكثيرمما فيهما قال: «خضنا بحرًا وقف الأنبياء بساحله». فجعل نفسه أعظم معرفة وتحقيقًا مما لدى الأنبياء. وذلك لما رأى أنه قد جمع من الخرافات والخزعبلات والأساطير شيئًا نهى الرسل الصادقون عن افترائه وتناقله وتداوله. هذه هي حقيقة الكشف الصوفي الذي زعم أصحابه أنه ثمرة العبادة والتقوى والاتصال بالله والملائكة والأنبياء والخضر، وأنه نتيجة حتمية لسباحة أرواحهم في الأزل والأبد، والسماوات السبع وما فوقها والأراضين السبع وما تحتها. لقد أتونا بعد هذه السياحة الشيطانية بعشرات المجلدات والخرافات والخزعبلات بعد أن لبسوها وخلطوها ببعض العلم الذي جاء به الرسل فخلطوا الأمر على عامة المسلمين، وأضلوا من لا علم لهم بالكتاب والسنة، وظنوا فعلًا أن هؤلاء الناس صالحون وأن علومهم هذه قد أتوا بها فعلًا من الغيب، وخاصة أنهم رأوهم أحيانًا تجري على أيديهم بعض الحيل الشيطانية، وبعض الكرامات الإبليسية من خرق العادات أو الإخبار ببعض المغيبات مما هو عند الهندوس والمجوس والدجال وابن صياد أمثاله وأكثر منه مئات المرات. لقد أوهم العامة ما جرى على يد هؤلاء من هذه الكرامات الإبليسية التي هي حقًا أمثال شيطانية من ما يجري للكفار والمنافقين والدجالين، فظنوا أن هؤلاء من أهل الله حقًا، وأن الحجب ترتفع عنهم صدقًا وأن علومهم هذه آتية من الغيب يقينًا وبذلك راجت يومًا بضاعة هؤلاء الزنادقة وصرفوا المسلمين عن دينهم الحق وعقيدتهم المستقيمة.

الإيمان بالغيب في الكتاب والسنة: من أصول الدين وقواعد الإيمان أن تعتقد أن الغيب علمه لله تعالى وحده - سبحانه وتعالى - وأنه - سبحانه وتعالى - يُطْلِع ـ على ما شاء من الغيب ـ مَنْ شاء من أنبيائه ورسله فقط، وأن الأنبياء لا يعلمون من الغيب إلا ما أعلمهم الله إياه، كما قال - سبحانه وتعالى - لرسوله: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:188). وقال - عز وجل -: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًًا* لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} (الجن:26 - 28). وأمر رسوله محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يخبر الناس أنه ليس ملكًا ولا يملك خزائن الله ولا يعلم الغيب قال تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} (الأنعام: 50) وهذا الذي قاله الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - هو ما قاله نوح قبل ذلك. قال تعالى على لسان نوح: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} (هود:31). وفي صحيح البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مفاتيح الغيب خمسة لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله». وهذا الحديث يقرر قوله تعالى: «إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (لقمان: 34).

وفي صحيح البخاري أيضًا عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: من حدثك أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - رأى ربه فقد كذب وهو يقول: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} (الأنعام: 103) ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب وهو يقول: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النمل: 65) فهذه الآيات والأحاديث ومثلها كثير جدًا قاطع بأنه لا يعلم أحد في السماوات والأرض الغيب إلا الله لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وأنه لا يعلم أحد من هؤلاء الغيب إلا ما أطلعه الله سبحانه عليه، فهاهم الملائكة يخلق الله آدم ولا يعلمون الحكمة من خلقه، ويعرض الله عليهم مسميات معينة ويقول لهم {أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة:31)، فيقولون: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (البقرة:32)، ويعلم الله آدم النبي الأسماء فيعلمها لهم، وآدم نبي مكلَّم كما جاء في الحديث الشريف. وهؤلاء الأنبياء لا يعلمون الغيب بنص القرآن وبمئات بل بآلاف الوقائع، فإبراهيم - عليه السلام - لم يعلم بأنه يولد له ولد من زوجته سارة إلا بعد أن جاءته الملائكة، ولقد جاءته الملائكة في صورة بشر فذبح لهم عجلًا وقرّبه إليهم وهو لا يعلم حقيقتهم حتى أعلموه، ولم يكن يعرف مقصدهم حتى أعلموه أنهم ذاهبون لتدمير قرى لوط. وأما لوط فإن الملائكة قد أتوا لإنجائه وإنجاء أهله، ولم يعلم حقيقة أمرهم إلا بعد أن علموه ولم يكن له كشف خاص، ولا علم خاص يستطيع أن يعرف مَن القوم. وأما محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - فقد حدث له مئات الوقائع التي تدل يقينًا أنه لم يكن يعلم في الغيب إلا ما أعلمه الله إياه. فقد ظن أن جبريل الذي أتاه في الغار شيطان وقال لخديجة: «لقد خِفْتُ على نفسي»، ولم يعرف أنه الملك حتى أتى ورقة بن نوفل فأخبره أن الكلام الذي جاء به يشبه الكلام الذي نزل على الأنبياء من قبله. ولم يدر بخَلَد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه سيؤذَى ويخرج من مكة أبدًا علمًا بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد مكث يتعبد في غار حراء سنوات طويلة،

شبهة:

وعند الصوفية أن من لف رأسه بخرقه وجلس في مكان مظلم رأى الله، وعرف كل شيء وشاهد الكون أعلاه وأسفله. بل النبي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - مكث ثلاث عشرة سنة في مكة لا يعلم أين سيهاجر بعد ذلك، وبعد الهجرة خرج إلى أبي سفيان ففاته واصطدم بجيش المشركين، وجاءه المشركون في المدينة المرة تلو المرة يزعمون أنهم قد آمنوا ويطلبون منه أن يرسل لهم من يعلمهم القرآن فكان يرسل معهم خيرة القراء، فيغدرون بهم في الطريق. فغدر المشركون بأربعين رجلًا من المسلمين مرة واحدة، وسبعة مرة، ولو علم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ما يكون من أمر الله ـ بل لو علم أن هؤلاء الكفرة الأعراب يكذبون عليه ـ لما أسلم لهم أصحابه. وحُبس المسلمون ـ ومعهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ يومًا وليلة في مكان ليس فيه ماء؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - قد فقدت عقدًا لها، ولو كان هناك كشف صوفي على ما يصوره الصوفية ويزعمونه لعلموا أين عقد عائشة - رضي الله عنها - الذي كان تحت بعيرها ولم يفطن إليه أحد من المسلمين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. ورمى المنافقون السيدة عائشة بالزنا ـ شرفها الله وحماها وبرأها ولعن الله من سبها ـ ومكث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - شهرًا كاملًا لا يدري ما يقول، وكان يستفتي أصحابه ويسأل علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد، وبريرة خادمته ومولاته هل رأوا على عائشة شيئًا. ولم يستطع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يعلم حقيقة الأمر حتى أنزل الله براءتها من السماء. هذا إلى العشرات والمئات من الوقائع التي تبين أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ وأكرم خلق الله من البشر على الله ـ لم يكن يطلع على شيء من الغيب إلا ما أطلعه الله بحكم النبوة. شبهة: روى أبو بكر بن خلاد في " الفوائد " (1/ 215 / 2): حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أيوب بن خوط عن عبد الرحمن السراج عن نافع أن عمر بعث سرية فاستعمل عليهم رجلًا يقال له سارية، فبينما عمر يخطب يوم الجمعة فقال: «يا سارية الجبل، يا سارية الجبل». فوجدوا سارية قد أغار إلى الجبل في تلك الساعة يوم الجمعة وبينهما مسيرة شهر.

وذكره الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) (7/ 131) ولفظه: فجعل ينادي: يا سارية الجبل، يا سارية الجبل ثلاثًا. ثم قدم رسول الجيش، فسأله عمر، فقال: يا أمير المؤمنين هُزِمنا، فبينما نحن كذلك إذ سمعنا مناديًا: يا سارية الجبل، ثلاثًا، فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله. قال: فقيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك».ثم قال الحافظ ابن كثير: «وهذا إسناد جيد حسن». قال الشيخ الألباني: «هو كما قال. ومما لا شك فيه أن النداء المذكور إنما كان إلهامًا من الله تعالى لعمر وليس ذلك بغريب عنه، فإنه (محدَّث) كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولكن ليس فيه أن عمر كُشِف له حال الجيش، وأنه رآهم رأي العين. فاستدلال بعض المتصوفة بذلك على ما يزعمونه من الكشف للأولياء وعلى إمكان اطلاعهم على ما في القلوب من أبطل الباطل، كيف لا وذلك من صفات رب العالمين المنفرد بعلم الغيب والاطلاع على ما في الصدور. وليت شعري كيف يزعم هؤلاء ذلك الزعم الباطل والله - عز وجل - يقول في كتابه {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن:26 - 27). فهل يعتقدون أن أولئك الأولياء رسل من رسل الله حتى يصح أن يقال إنهم يطلعون على الغيب بإطلاع الله إياهم!! سبحانك هذا بهتان عظيم. على أنه لو صح تسمية ما وقع لعمر - رضي الله عنه - كشفًا، فهو من الأمور الخارقة للعادة التي قد تقع من الكافر أيضًا، فليس مجرد صدور مثله بالذي يدل على إيمان الذي صدر منه فضلًا على أنه يدل على ولايته ولذلك يقول العلماء: «إن الخارق للعادة إن صدر من مسلم فهو كرامة وإلا فهو استدراج»، ويضربون على هذا مثل الخوارق التي تقع على يد الدجال الأكبر في آخر الزمان كقوله للسماء: أمطري، فتمطر وللأرض: أنبتي نباتك فتنبت، وغير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة. ومن الأمثلة الحديثة على ذلك ما قرأته اليوم من عدد (أغسطس) من السنة السادسة من مجلة (المختار) تحت عنوان: (هذا العالم المملوء بالألغاز وراء الحواس الخمس)

(ص 23) قصة «فتاة شابة ذهبت إلى جنوب أفريقيا للزواج من خطيبها، وبعد معارك مريرة معه فسخت خطبتها بعد ثلاثة أسابيع، وأخذت الفتاة تذرع غرفتها في اضطراب، وهي تصيح في أعماقها بلا انقطاع: «أواه يا أماه. .. ماذا أفعل؟» ولكنها قررت ألا تزعج أمها بذكر ما حدث لها؟ وبعد أربعة أسابيع تلقت منها رسالة جاء فيها: «ماذا حدث؟ لقد كنت أهبط السلم عندما سمعتك تصيحين قائلة: «أواه يا أماه. .. ماذا أفعل؟».وكان تاريخ الرسالة متفقًا مع تاريخ اليوم الذي كانت تصيح فيه من أعماقها». وفي المقال المشار إليه أمثلة أخرى مما يدخل تحت ما يسمونه اليوم بـ (التخاطر) و (الاستشفاف) ويعرف باسم (البصيرة الثانية) اكتفينا بالذي أوردناه لأنها أقرب الأمثال مشابهة لقصة عمر - رضي الله عنه -، التي طالما سمعتُ من ينكرها من المسلمين لظنه أنها مما لا يعقل! أو أنها تتضمن نسبة العلم بالغيب إلى عمر، بينما نجد غير هؤلاء ممن أشرنا إليهم من المتصوفة يستغلونها لإثبات إمكان اطلاع الأولياء على الغيب، والكل مخطئ؛ فالقصة صحيحة ثابتة وهي كرامة أكرم الله بها عمر، حيث أنقذ به جيش المسلمين من الأسر أو الفتك به ولكن ليس فيها ما زعمه المتصوفة من الاطلاع على الغيب، وإنما هو من باب الإلهام (في عرف الشرع) أو (التخاطر) في عرف العصر الحاضر الذي ليس معصوما، فقد يصيب كما في هذه الحادثة وقد يخطئ كما هو الغالب على البشر، ولذلك كان لابد لكل ولي من التقيد بالشرع في كل ما يصدر منه من قول أو فعل خشية الوقوع في المخالفة، فيخرج بذلك عن الولاية التي وصفها الله تعالى بوصف جامع شامل فقال: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يونس:62 - 63) ولقد أحسن من قال: إذا رأيت شخصا قد يطيرُ ... وفوق ماء البحر قد يسيرُ ولم يقِفْ على حدود الشرعِ ... فإنه مستدرج وبدعِي». انتهى كلام الألباني - رحمه الله -.

ثاني عشر: رأس الحسين - رضي الله عنه -

ثاني عشر: رأس الحسين - رضي الله عنه - سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَة - رحمه الله - عَنْ الْمَشْهَدِ الْمَنْسُوبِ إلَى الْحُسَيْنِ - رضي الله عنه - بِمَدِينَةِ الْقَاهِرَةِ: هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ حُمِلَ رَأْسُ الْحُسَيْنِ إلَى دِمَشْقَ ثُمَّ إلَى مِصْرَ أَمْ حُمِلَ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ جِهَةِ الْعِرَاقِ؟ وَهَلْ لِمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ جِهَةِ الْمَشْهَدِ الَّذِي كَانَ بِعَسْقَلَانَ صِحَّةٌ أَمْ لَا؟ وَمَنْ ذَكَرَ أَمْرَ رَأْسِ الْحُسَيْنِ وَنَقَلَهُ إلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ دُونَ الشَّامِ وَمِصْرَ؟ وَمَنْ جَزَمَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين بِأَنَّ مَشْهَدَ عَسْقَلَانَ وَمَشْهَدَ الْقَاهِرَةِ مَكْذُوبٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحِ؟ فَأَجَابَ: بَلْ الْمَشْهَدُ الْمَنْسُوبُ إلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - رضي الله عنهما - الَّذِي بِالْقَاهِرَةِ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ يَرْجِعُ إلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ وَصِدْقِهِمْ. وَلَا يُعْرَفُ عَنْ عَالِمٍ مُسَمًّى مَعْرُوفٍ بِعِلْمِ وَصِدْقٍ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ هَذَا الْمَشْهَدَ صَحِيحٌ. وَإِنَّمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ النَّاسِ قَوْلًا عَمَّنْ لَا يُعْرَفُ عَلَى عَادَةِ مَنْ يَحْكِي مَقَالَاتِ الرَّافِضَةِ (¬1) وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكَذِبِ. فَإِنَّهُمْ يَنْقُلُونَ أَحَادِيثَ وَحِكَايَاتٍ وَيَذْكُرُونَ مَذَاهِبَ وَمَقَالَاتٍ. وَإِذَا طَالَبْتهمْ بِمَنْ قَالَ ذَلِكَ وَنَقَلَهُ؟ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِصْمَةٌ يَرْجِعُونَ إلَيْهَا. وَلَمْ يُسَمُّوا أَحَدًا مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ فِي نَقْلِهِ وَلَا بِالْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ؛ بَلْ غَايَةُ مَا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ: أَنْ يَقُولُوا: أَجْمَعَتْ الطَّائِفَةُ الْحَقَّةُ. وَهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ الطَّائِفَةُ الْحَقَّةُ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ الْمُؤْمِنُونَ وَسَائِرُ الْأُمَّةِ سِوَاهُمْ كُفَّارٌ. وقال أيضًا: بَلْ نَحْنُ نَعْلَمُ وَنَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ رَأْسُ الْحُسَيْنِ - رضي الله عنه - وَلَا كَانَ ذَلِكَ الْمَشْهَدُ الْعَسْقَلَانِيُّ مَشْهَدًا لِلْحُسَيْنِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: مِنْهَا: * أَنَّهُ لَوْ كَانَ رَأْسُ الْحُسَيْنِ - رضي الله عنه - هُنَاكَ لَمْ يَتَأَخَّرْ كَشْفُهُ وَإِظْهَارُهُ إلَى مَا بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ وَدَوْلَةُ بَنِي أُمَيَّةَ انْقَرَضَتْ قَبْلَ ظُهُورِ ذَلِكَ بِأَكْثَرَ مِنْ ¬

_ (¬1) الرافضة: الشيعة.

ثَلَاثِمِائَةٍ وَبِضْعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةٍ. وَقَدْ جَاءَتْ خِلَافَةُ بَنِي الْعَبَّاسِ. وَظَهَرَ فِي أَثْنَائِهَا مِنْ الْمَشَاهِدِ بِالْعِرَاقِ وَغَيْرِ الْعِرَاقِ مَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْهَا كَذِبًا. وَكَانُوا عِنْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ - رضي الله عنه - بِكَرْبَلَاءَ قَدْ بَنَوْا هُنَاكَ مَشْهَدًا. وَكَانَ يَنْتَابُهُ أُمَرَاءُ عُظَمَاءُ حَتَّى أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ الْأَئِمَّةُ. * دَعْ خِلَافَةَ بَنِي الْعَبَّاسِ فِي أَوَائِلِهَا وَفِي حَالِ اسْتِقَامَتِهَا فَإِنَّهُمْ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُونُوا يُعَظِّمُونَ الْمَشَاهِدَ سَوَاءٌ مِنْهَا مَا كَانَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا كَمَا حَدَثَ فِيمَا بَعْدُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ كَانَ حِينَئِذٍ مَا يَزَالُ فِي قُوَّتِهِ وَعُنْفُوَانِهِ. وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ: لَا فِي الْحِجَازِ وَلَا الْيَمَنِ وَلَا الشَّامِ وَلَا الْعِرَاقِ وَلَا مِصْرَ وَلَا خُرَاسَانَ وَلَا الْمَغْرِبِ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ أُحْدِثَ مَشْهَدٌ لَا عَلَى قَبْرِ نَبِيٍّ وَلَا صَاحِبٍ وَلَا أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَلَا صَالِحٍ أَصْلًا؛ بَلْ عَامَّةُ هَذِهِ الْمَشَاهِدِ مُحْدَثَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ. وَكَانَ ظُهُورُهَا وَانْتِشَارُهَا حِينَ ضَعُفَتْ خِلَافَةُ بَنِي الْعَبَّاسِ وَتَفَرَّقَتْ الْأُمَّةُ وَكَثُرَ فِيهِمْ الزَّنَادِقَةُ الْمُلَبِّسُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَفَشَتْ فِيهِمْ كَلِمَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَذَلِكَ مِنْ دَوْلَةِ الْمُقْتَدِرِ فِي أَوَاخِرَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ. فَإِنَّهُ إذْ ذَاكَ ظَهَرَتْ الْقَرَامِطَةُ العبيدية القداحية بِأَرْضِ الْمَغْرِبِ. ثُمَّ جَاءُوا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى أَرْضِ مِصْرَ. وَيُقَالُ: إنَّهُ حَدَثَ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ: الْمُكُوسُ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ ظَهَرَ بَنُو بويه. وَكَانَ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ زَنْدَقَةٌ وَبِدَعٌ قَوِيَّةٌ. وَفِي دَوْلَتِهِمْ قَوِيَ بَنُو عُبَيْدٍ الْقَدَّاحِ بِأَرْضِ مِصْرَ (¬1) وَفِي دَوْلَتِهِمْ أُظْهِرَ الْمَشْهَدُ الْمَنْسُوبُ إلَى عَلِيٍّ - رضي الله عنه - بِنَاحِيَةِ النَّجَفِ، وَإِلَّا فَقَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقُولُ: إنَّ قَبْرَ عَلِيٍّ هُنَاكَ وَإِنَّمَا دُفِنَ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ بِالْكُوفَةِ. فَإِذَا كَانَ بَنُو بويه وَبَنُو عُبَيْدٍ ـ مَعَ مَا كَانَ فِي الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ الْغُلُوِّ فِي التَّشَيُّعِ. حَتَّى إنَّهُمْ كَانُوا يُظْهِرُونَ فِي دَوْلَتِهِمْ بِبَغْدَادَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنْ شِعَارِ الرَّافِضَةِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِثْلُهُ: مِثْلُ تَعْلِيقِ الْمُسُوحِ عَلَى الْأَبْوَابِ وَإِخْرَاجِ النَّوَائِحِ بِالْأَسْوَاقِ وَكَانَ الْأَمْرُ يُفْضِي فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ إلَى قِتَالٍ تَعْجِزُ الْمُلُوكُ عَنْ دَفْعِهِ. وَبِسَبَبِ ذَلِكَ خَرَجَ الخرقي ـ صَاحِبُ (الْمُخْتَصَرِ ¬

_ (¬1) أي الدولة الفاطمية.

فِي الْفِقْهِ) ـ مِنْ بَغْدَادُ لَمَّا ظَهَرَ بِهَا سَبُّ السَّلَفِ. وَبَلَغَ مِنْ أَمْرِ الْقَرَامِطَةِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَشْرِقِ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ أَنَّهُمْ أَخَذُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَبَقِيَ مَعَهُمْ مُدَّةٌ وَأَنَّهُمْ قَتَلُوا الْحُجَّاجَ وَأَلْقَوْهُمْ بِبِئْرِ زَمْزَمَ ـ. فَإِذَا كَانَ مَعَ كُلِّ هَذَا لَمْ يَظْهَرْ حَتَّى مَشْهَدٌ لِلْحُسَيْنِ - رضي الله عنه - بِعَسْقَلَانَ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رَأْسُهُ بِعَسْقَلَانَ لَكَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَعْلَمَ بِذَلِكَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَإِذَا كَانَ مَعَ تَوَفُّرِ الْهِمَمِ وَالدَّوَاعِي وَالتَّمَكُّنِ وَالْقُدْرَةِ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ بَاطِلٌ مَكْذُوبٌ مِثْلُ مِنْ يَدَّعِي أَنَّهُ شَرِيفٌ عَلَوِيٌّ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ هَذَا أَحَدٌ مِنْ أَجْدَادِهِ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى ذَلِكَ لَوْ كَانَ صَحِيحًا، فَإِنَّهُ بِهَذَا يُعْلَمُ كَذِبُ هَذَا الْمُدَّعِي. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا أَخْبَارَ الْحُسَيْنِ - رضي الله عنه - وَمَقْتَلِهِ مِثْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَأَبِي الْقَاسِمِ البغوي وَغَيْرِهِمَا - لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ الرَّأْسَ حُمِلَ إلَى عَسْقَلَانَ وَلَا إلَى الْقَاهِرَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ دِحْيَةَ فِي كِتَابِهِ الْمُلَقَّبِ بـ (الْعِلْمُ الْمَشْهُورُ فِي فَضَائِلِ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ) ذَكَرَ أَنَّ الَّذِينَ صَنَّفُوا فِي مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ - رضي الله عنه - أَجْمَعُوا أَنَّ الرَّأْسَ لَمْ يَغْتَرِبْ وَذَكَرَ هَذَا بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْمَشْهَدَ الَّذِي بِالْقَاهِرَةِ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ وَأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ، وَبَسَطَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْمُؤَرِّخِينَ: أَنَّ الرَّأْسَ حُمِلَ إلَى الْمَدِينَة. وَدُفِنَ عِنْدَ أَخِيهِ الْحَسَنِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ: أَنْ الزُّبَيْرَ بْنَ بكار صَاحِبَ كِتَابِ (الْأَنْسَابِ) وَمُحَمَّدَ بْنَ سَعْدٍ ـ كَاتِبَ الواقدي وَصَاحِبَ (الطَّبَقَاتِ) وَنَحْوَهُمَا مِنْ الْمَعْرُوفِينَ بِالْعِلْمِ وَالثِّقَةِ وَالِاطِّلَاعِ ـ أَعْلَمُ بِهَذَا الْبَابِ وَأَصْدَقُ فِيمَا يَنْقُلُونَهُ مِنْ الْجَاهِلِينَ وَالْكَذَّابِينَ وَمِنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّوَارِيخِ الَّذِينَ لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِمْ وَلَا صِدْقِهِمْ. بَلْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ صَادِقًا وَلَكِنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِالْأَسَانِيدِ حَتَّى يُمَيِّزَ بَيْنَ الْمَقْبُولِ وَالْمَرْدُودِ أَوْ يَكُونُ سَيِّئَ الْحِفْظِ أَوْ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ أَوْ بِالتَّزَيُّدِ فِي الرِّوَايَةِ كَحَالِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَخْبَارِيِّينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مِثْلَ أَبِي مخنف لُوطِ بْنِ يَحْيَى وَأَمْثَالِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الواقدي نَفْسَهُ خَيْرٌ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ مِثْلِ هِشَامِ بْنِ الْكَلْبِيِّ وَأَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ وَأَمْثَالِهِمَا

وَقَدْ عُلِمَ كَلَامُ النَّاسِ فِي الواقدي فَإِنَّ مَا يَذْكُرُهُ هُوَ وَأَمْثَالُهُ إنَّمَا يُعْتَضَدُ بِهِ وَيُسْتَأْنَسُ بِهِ وَأَمَّا الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِهِ فِي الْعِلْمِ فَهَذَا لَا يَصْلُحُ. فَإِذَا كَانَ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ يَذْكُرُونَ أَنَّ رَأْسَ الْحُسَيْنِ دُفِنَ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُمْ أَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ عَادَ إلَى الْبَدَنِ فَدُفِنَ مَعَهُ بِكَرْبَلَاءَ وَإِمَّا أَنَّهُ دُفِنَ بِحَلَبِ أَوْ بِدِمَشْقَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بِعَسْقَلَانَ ـ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ إذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالصِّدْقِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَأَهْلُ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ عَلَى الْحَقِّ فِي الْأُمُورِ النَّقْلِيَّةِ الَّتِي إنَّمَا تُؤْخَذُ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالصِّدْقِ لَا عَنْ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الَّذِي ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: «أَنَّ الرَّأْسَ حُمِلَ إلَى قُدَّامِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ وَجَعَلَ يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ عَلَى ثَنَايَاهُ بِحَضْرَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ» (¬1) وَفِي الْمُسْنَدِ: «أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِحَضْرَةِ أَبِي بَرْزَةَ الأسلمي» وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ رَوَى بِإِسْنَادِ مُنْقَطِعٍ «أَنَّ هَذَا النَّكْتَ كَانَ بِحَضْرَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ» وَهَذَا بَاطِلٌ. فَإِنَّ أَبَا بَرْزَةَ وَأَنَسَ بْنُ مَالِكٍ كَانَا بِالْعِرَاقِ لَمْ يَكُونَا بِالشَّامِ وَيَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ كَانَ بِالشَّامِ لَمْ يَكُنْ بِالْعِرَاقِ حِينَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ فَمَنْ نَقَلَ أَنَّهُ نَكَتَ بِالْقَضِيبِ ثَنَايَاهُ بِحَضْرَةِ أَنَسٍ وَأَبِي بَرْزَةَ قُدَّامَ يَزِيدَ فَهُوَ كَاذِبٌ قَطْعًا كَذِبًا مَعْلُومًا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ. وَمَعْلُومٌ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ: أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ كَانَ هُوَ أَمِيرَ الْعِرَاقِ حِينَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ. ¬

_ (¬1) روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - أنه قال: أُتِيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ - رضي الله عنه - فَجُعِلَ فِي طَسْتٍ فَجَعَلَ يَنْكُتُ وَقَالَ فِي حُسْنِهِ شَيْئًا فَقَالَ أَنَسٌ كَانَ أَشْبَهَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -. قال الحافظ ابن حجر: قَوْله: (فَجَعَلَ يَنْكُت) فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ وَابْن حِبَّان مِنْ طَرِيق حَفْصَة بِنْت سِيرِينَ عَنْ أَنَس: فَجَعَلَ يَقُول بِقَضِيبٍ لَهُ فِي أَنْفه، وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيث زَيْد بْن أَرْقَم: «فَجَعَلَ قَضِيبًا فِي يَده فِي عَيْنه وَأَنْفه، فَقُلْت: اِرْفَعْ قَضِيبك فَقَدْ رَأَيْت فَم رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي مَوْضِعه»، وَلَهُ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ أَنَس نَحْوه.

وقال شيخ الإسلام أيضًا: هَذَا الْمَشْهَدَ إنَّمَا أُحْدِثَ فِي دَوْلَةِ الْمَلَاحِدَةِ دَوْلَةِ بَنِي عُبَيْدٍ. وَكَانَ فِيهِمْ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَمُعَاضَدَةِ الْمَلَاحِدَةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ وَلِهَذَا كَانَ فِي زَمَنِهِمْ قَدْ تَضَعْضَعَ الْإِسْلَامُ تَضَعْضُعًا كَثِيرًا وَدَخَلَتْ النَّصَارَى إلَى الشَّامِ. وقال شيخ الإسلام أيضًا: وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَشْهَدَ الَّذِي بِقَاهِرَةِ مِصْرَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ (مَشْهَدُ الْحُسَيْنِ - رضي الله عنه -) بَاطِلٌ لَيْسَ فِيهِ رَأْسُ الْحُسَيْنِ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ وَإِنَّمَا أُحْدِثَ فِي أَوَاخِرِ دَوْلَةِ (بَنِي عُبَيْدِ الله بْنِ الْقَدَّاحِ) (¬1) الَّذِينَ كَانُوا مُلُوكًا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِائَتَيْ عَامٍ إلَى أَنْ انْقَرَضَتْ دَوْلَتُهُمْ فِي أَيَّامِ (نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ) وَكَانُوا يَقُولُونَ: إنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ فَاطِمَةَ، وَيَدَّعُونَ الشَّرَفَ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالنَّسَبِ يَقُولُونَ: لَيْسَ لَهُمْ نَسَبٌ صَحِيحٌ، وَيُقَالُ: إنَّ جَدَّهُمْ كَانَ رَبِيبَ الشَّرِيفِ الْحُسَيْنِيِّ فَادَّعُوا الشَّرَفَ لِذَلِكَ. فَأَمَّا مَذَاهِبُهُمْ وَعَقَائِدُهُمْ فَكَانَتْ مُنْكَرَةً بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَكَانُوا يُظْهِرُونَ التَّشَيُّعَ وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ يُبْطِنُونَ مَذْهَبَ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَهُوَ مِنْ أَخْبَثِ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْأَرْضِ أَفْسَدُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ مَنْ انْضَمَّ إلَيْهِمْ أَهْلُ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ وَالْبِدَعِ: الْمُتَفَلْسِفَةُ والمباحية وَالرَّافِضَةُ وَأَشْبَاهُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَا يَسْتَرِيبُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. فَأحْدِثَ هَذَا (الْمَشْهَدُ) فِي الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ نَقْلٌ مِنْ عَسْقَلَانَ. وَعَقِيبَ ذَلِكَ بِقَلِيلِ انْقَرَضَتْ دَوْلَةُ الَّذِينَ ابْتَدَعُوهُ بِمَوْتِ الْعَاضِدِ آخِرِ مُلُوكِهِمْ. وَاَلَّذِي رَجَّحَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَوْضِعِ رَأْسِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - رضي الله عنهما - هُوَ مَا ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بكار فِي كِتَابِ (أَنْسَابِ قُرَيْشٍ) ـ وَالزُّبَيْرُ بْنُ بكار هُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ وَأَوْثَقُهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا ـ ذَكَرَ أَنَّ الرَّأْسَ حُمِلَ إلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَدُفِنَ هُنَاكَ». اهـ من (مجموع الفتاوى) بتصرف. ¬

_ (¬1) أي الدولة الفاطمية.

ثالث عشر: زعم الصوفية أنه لولا الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ما خلق الله الخلق

ثالث عشر: زعم الصوفية أنه لولا الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ما خلق الله الخلق * إن الله تعالى إنما خلق الخلق ليعبدوه، كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56) ولم يثبت حديث عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يدل على أن الخلق خلقوا من أجله - صلى الله عليه وآله وسلم -، لا الأفلاك ولا غيرها من المخلوقات، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (الطلاق:12) شبهة: حديث «لولاك لما خلقت الأفلاك». الجواب: حديث (لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك) ذكره العجلوني في (كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس) وقال: قال الصغاني: إنه موضوع، وذكره محمد بن علي الشوكاني في (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة) وقال: قال الصغاني: موضوع. * قال الألباني - رحمه الله - في (سلسلة الأحاديث الضعيفة) (1/ 450):موضوع كما قاله الصغاني في (الأحاديث الموضوعة) (ص 7)، وأما قول الشيخ القاري (67 - 68): لكن معناه صحيح، فقد روى الديلمي عن ابن عباس مرفوعا: «أتاني جبريل فقال: يا محمد لولاك لما خلقت الجنة، ولولاك ما خلقت النار» وفي رواية ابن عساكر: «لولاك ما خلقت الدنيا». فأقول (الألباني): الجزم بصحة معناه لا يليق إلا بعد ثبوت ما نقله عن الديلمي، وهذا مما لم أر أحدًا تعرض لبيانه، وأنا وإن كنت لم أقف على سنده، فإنى لا أتردد في ضعفه، وحسبنا في التدليل على ذلك تفرد الديلمي به، ثم تأكدت من ضعفه، بل وهائه، حين وقفت على إسناده في (مسنده) (1/ 41 / 2) من طريق عبيد الله بن موسى القرشي حدثنا الفضيل بن جعفر بن سليمان عن عبد الصمد بن علي بن عبد الله ابن عباس عن أبيه عن ابن عباس به.

قلت: وآفته عبد الصمد هذا، قال العقيلي: حديثه غير محفوظ، ولا يعرف إلا به. ثم ساق له حديثًا آخر في إكرام الشهود سيأتي برقم (2898)، ومن دونه لم أعرفهما، وأما رواية ابن عساكر فقد أخرجها ابن الجوزي أيضا في (الموضوعات) (1/ 288 ـ 289) في حديث طويل عن سلمان مرفوعا وقال: إنه موضوع، وأقره السيوطي في (اللآليء) (1/ 272). شبهة: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مرفوعًا: «لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال: يا آدم ‍! وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه؟ قال: يا رب لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوبًا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضِف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال: غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتُك». الجواب: هذا الحديث أخرجه الحاكم في (المستدرك) (2/ 615) وقال عنه الإمام الذهبي: «موضوع».وقد تقدم الرد عليه بالتفصيل عند الرد على شبهات من زعم جواز التوسل بالمخلوقين فى الدعاء، وطلب الشفاعة منهم بعد وفاتهم تحت عنوان الشبهة السادسة: الأحاديث الضعيفة في التوسل: الحديث السادس. * مخالفة هذا الحديث للقرآن: قال الشيخ الألباني: «ومما يؤيد ما ذهب إليه العلماء من وضع هذا الحديث وبطلانه أنه يخالف القرآن الكريم في موضعين منه: الأول: أنه تضمن أن الله تعالى غفر لآدم بسبب توسله به - صلى الله عليه وآله وسلم -، والله - عز وجل - يقول: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة:37). وقد جاء تفسير هذه الكلمات عن ترجمان القرآن ابن عباس - رضي الله عنه - مما يخالف هذا الحديث، فأخرج الحاكم (3/ 545) عنه: «{فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} قال: أي رب! ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى. قال: ألم تنفخ فيَّ من روحك؟ قال: بلى. قال: أي رب! ألم تسكنّي جنتك؟ قال: بلى. قال: ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى. قالت: أرأيت إن تبتُ وأصلحتُ،

أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: بلى. قال: فهو قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ}» وقال الحاكم: (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. وقول ابن عباس هذا في حكم المرفوع من وجهين: الأول: أنه أمر غيبي لا يقال من مجرد الرأي. الثاني: أنه ورد في تفسير الآية، وما كان كذلك فهو في حكم المرفوع ولا سيما إذا كان من قول إمام المفسرين عبد الله بن عباس - رضي الله عنه - الذي دعا له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله: «اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل». الموضع الثاني: قوله في آخره: «ولولا محمد ما خلقتك» فإن هذا أمر عظيم يتعلق بالعقائد التي لا تثبت إلا بنص صحيح، ولو كان ذلك صحيحًا لورد في الكتاب والسنة الصحيحة، وافتراض صحته في الواقع مع ضياع النص الذي تقوم به الحجة ينافي قوله تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9). والذكر هنا يشمل الشريعة كلها قرآنًا وسنة، وأيضًا فإن الله تبارك وتعالى قد أخبرنا عن الحكمة التي من أجلها خلق آدم وذريته، فقال - عز وجل -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)، فكل ما خالف هذه الحكمة أو زاد عليها لا يقبل إلا بنص صحيح عن المعصوم - صلى الله عليه وآله وسلم - كمخالفة هذا الحديث الباطل. شبهة: قال أحد دعاة الصوفية المعاصرين: معنى قولنا: «لولا سيدنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ما خلق الله الخلق» تلك عبارة لا تتناقض مع الإسلام وأصول العقيدة وأساسيات التوحيد، بل تؤكده وتدعمه خاصة إذا فُهِمت بالشكل الصحيح الذي سنبينه إن شاء الله. فمعنى القول بأنه لولا سيدنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ما خلق الله الخلق، هو أن الله - سبحانه وتعالى - قال في كتابه العزيز: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56)، فتحقيق العبادة هي حكمة الخلق، والعبادة لا تتحقق إلا بالعابدين، فالعبادة عرض قائم بالعابد نفسه، وأفضل العابدين هو سيدنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، فهو عنوان العبادة، وعنوان التوحيد، كما أن الآية تتكلم عن الجن والإنس ولا تتكلم عن الخلق أجمعين. أما باقي ما في السموات

والأرض فهو مخلوق لخدمة الإنسان، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية:13) وسيدنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - هو عنوان الإنسانية بل هو الإنسان الكامل ... » الجواب: أولًا: ماذا لو فُهِمَتْ هذه العبارة بغير هذا الفهم الذي يقول إنه هو الفهم الصحيح، وخاصة أن الناس لا يفهمون ذلك من هذه الكلمة، بل المتبادر إلى أذهانهم أن الله خلق الخلق من أجل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.وهذا الاعتقاد مخالف لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56). فإذا اختلفت اعتقاداتنا ـ التي ليس عليها دليل لا من كتاب الله ولا من سنة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ مع آية من كتاب الله الذي أنزِلَ على رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فالأولى اتباع كتاب الله وسنة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. ثانيًا: قوله: «فمعنى القول بأنه لولا سيدنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ما خلق الله الخلق، هو أن الله - سبحانه وتعالى - قال في كتابه العزيز: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات:56)، فتحقيق العبادة هي حكمة الخلق، والعبادة لا تتحقق إلا بالعابدين، فالعبادة عرض قائم بالعابد نفسه، وأفضل العابدين هو سيدنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، فهو عنوان العبادة، وعنوان التوحيد» الرد: إذا كان الأمر كذلك فهل يجوز أن يقال: خلق الله الخلق من أجل الأنبياء - عليهم السلام - ومن أجل الصحابة - رضي الله عنهم - ومن أجل الصالحين؛ لأنهم عنوان العبادة وعنوان التوحيد؟ ثالثًا: قوله: «إن الآية تتكلم عن الجن والإنس ولا تتكلم عن الخلق أجمعين. أما باقي ما في السموات والأرض فهو مخلوق لخدمة الإنسان، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية:13) وسيدنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - هو عنوان الإنسانية بل هو الإنسان الكامل ... »

الرد: أولًا: ماهذا التناقض؟ فهل معنى كلامه هذا أن الإنس والجن قد خلقوا لعبادة الله - عز وجل -، أما باقي ما في السموات والأرض فقد خلقوا من أجل سيدنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ ثانيًا: إذا كان باقي ما في السموات والأرض مخلوق لخدمة الإنسان ـ المؤمن والكافر ـ فهل يصح ـ حسب كلامه ـ أن نقول: إن باقي ما في السموات والأرض مخلوق لأجل فرعون وأبي جهل وبوش وشارون؟ ثالثًا: ما أنعم الله - عز وجل - به من تسخير ما في السماوات والأرض لخدمة الإنسان ليس معناه أنه لولا الإنسان ما خلقهما الله - عز وجل -. قال الإمام الطبري: «قول تعالى ذكره: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} من شمس وقمر ونجوم {وَمَا فِي الأرْضِ} من دابة وشجر وجبل وجماد وسفن لمنافعكم ومصالحكم {جَمِيعًا مِنْهُ}. يقول تعالى ذكره: جميع ما ذكرت لكم أيها الناس من هذه النعم، نِعم عليكم من الله أنعم بها عليكم، وفضل منه تفضّل به عليكم، فإياه فاحمدوا لا غيره، لأنه لم يشركه في إنعام هذه النعم عليكم شريك، بل تفرّد بإنعامها عليكم وجميعها منه، ومن نعمه، فلا تجعلوا له في شكركم له شريكًا بل أفردوه بالشكر والعبادة، وأخلصوا له الألوهة، فإنه لا إله لكم سواه».اهـ كلام الإمام الطبري. قال تعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} (الأحقاف:3). قال الإمام الطبري - رحمه الله -: «يقول تعالى ذكره: ما أحدثنا السموات والأرض فأوجدناهما خلقًا مصنوعًا، وما بينهما من أصناف العالم إلا بالحقّ، يعني: إلا لإقامة الحقّ والعدل في الخلق.» قال الشيخ الشنقيطي - رحمه الله -: «وما دلت عليه هذه الآية الكريمة: من أن خلقه تعالى للسماوات والأرض، وما بينهما لا يصح أن يكون باطلًا، ولا عبثًا بل ما خلقهما إلا بالحق، لأنه لو كان خلقهما عبثًا لكان ذلك العبث باطلًا ولعبًا، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، بل ما خلقهما وخلق جميع ما فيهما وما بينهما إلا بالحق، وذلك أنه يخلق فيهما الخلائق، ويكلفهم فيأمرهم وينهاهم ويعدهم ويوعدهم، حتى إذا انتهى الأجل المسمى

لذلك بعث الخلائق، وجازاهم فيظهر في المؤمنين صفات رحمته ولطفه وجوده وكرمه وسعة رحمته ومغفرته، وتظهر في الكافرين صفات عظمته، وشدة بطشه، وعظم نكاله، وشدة عدله، وإنصافه، دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الفصل مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} (الدخان: 38 - 40) فقوله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} بعد قوله: {مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق} يبين ما ذكرنا».ا. هـ بتصرف يسير

رابع عشر: أبوا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -

رابع عشر: أبوا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في صحيح مسلم عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: «فِي النَّارِ» فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ». قال الإمام النووي - رحمه الله -: «فِيهِ: أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْر فَهُوَ فِي النَّار، وَلَا تَنْفَعهُ قَرَابَة الْمُقَرَّبِينَ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَة عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَب مِنْ عِبَادَة الْأَوْثَان فَهُوَ مِنْ أَهْل النَّار، وَلَيْسَ هَذَا مُؤَاخَذَة قَبْل بُلُوغ الدَّعْوَة، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَة إِبْرَاهِيم وَغَيْره مِنْ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه تَعَالَى وَسَلَامه عَلَيْهِمْ. وَقَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (إِنَّ أَبِي وَأَبَاك فِي النَّار) هُوَ مِنْ حُسْن الْعِشْرَة لِلتَّسْلِيَةِ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْمُصِيبَة وَمَعْنَى (قَفَى) وَلَّى قَفَاهُ مُنْصَرِفًا. الرد على الشبهات الشبهة الأولى: زعموا أن المقصود بأبيه في الحديث عمه كما في قوله تعالى عن إبراهيم - عليه السلام -: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} (الأنعام: 74). الجواب: إرادة العم من الأب عدول عن الظاهر بلا مقتضِ. قال الحافظ ابن كثير: قال ابن جرير: والصواب أن اسم أبيه آزر. ثم أورد على نفسه قول النسابين أن اسمه تارح، ثم أجاب بأنه قد يكون له اسمان، كما لكثير من الناس، أو يكون أحدهما لقبًا، وهذا الذي قاله جيد قوي، والله أعلم. ا. هـ. وآزر أبو إبراهيم - عليه السلام - مات كافرًا؛ قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِله تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة: 114) وكونه مات كافرًا ردٌّ على من قال: إن شرف مقام النبوة يقتضي ألا يكون أحد آباء الأنبياء كافرًا، مستندًا فى ذلك إلى قول الله - عز وجل - للنبى - صلى الله عليه وآله وسلم -: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِين} (الشعراء: 219) فكيف يكون تقلب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فى الساجدين وآزر ليس منهم؟ فقد فُسِّرت الآية بغير ذلك، فقد جاء أن المعنى: يراك قائمًا وراكعًا وساجدًا، لأن قبل ذلك {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُوم}. قال الإمام الطبري - رحمه الله -: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ) فى نقمته من أعدائه (الرَّحِيمِ) بمن أناب إليه وتاب من معاصيه. (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ) يقول: الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك. وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك ... : (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ) قال: أينما كنت. (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ويرى تقلبك في صلاتك حين تقوم، ثم تركع، وحين تسجد ... ثم ذكر الإمام الطبري بإسناده عن ابن عباس قوله: (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) يقول: قيامك وركوعك وسجودك ... وذكر بإسناده عن عكرمة في قوله: (يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) قال: قيامه وركوعه وسجوده ... وقال آخرون: بل معنى ذلك: ويرى تقلبك في المصلين، وإبصارك منهم من هو خلفك، كما تبصر من هو بين يديك منهم ... وقال آخرون: بل معنى ذلك: وتقلبك مع الساجدين: أي تصرفك معهم في الجلوس والقيام والقعود ... وقال آخرون: بل معنى ذلك: ويرى تصرّفك في الناس. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وتصرفك في أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك تفعله، والساجدون في قول قائل هذا القول: الأنبياء ... وأولى الأقوال في ذلك بتأويله قول من قال تأويله: ويرى تقلبك مع الساجدين في صلاتهم معك، حين تقوم معهم وتركع وتسجد، لأن ذلك هو الظاهر من معناه. قال الشيخ عطية صقر: «ولا يضير أن يكون فى أنساب الأنبياء كافرون، فكل امرىء بما كسب رهين» (فتاوى دار الإفتاء 8/ 100). الشبهة الثانية: ذكر الإمام القرطبي في (التذكِرة) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: حج بنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حجة الوداع فمر بي على عقبة الحجون وهو باكٍ حزين، مغتم فبكيت

لبكائه - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم إنه طفر ـ أي وثب ـ فنزل فقال: «يا حميراء استمسكي»، فاستندت إلى جنب البعير. فمكث عني طويلًا ثم عاد إلي وهو فرح مبتسم، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله. نزلْتَ من عندي وأنت باكٍ حزين مغتم فبكيتُ لبكائك يا رسول الله، ثم إنك عدت إليَّ وأنت فرح مبتسم فعن ماذا يا رسول الله؟ فقال: مررت بقبر أمي آمنة فسألت الله ربي أن يحييها فأحياها فآمنت بي ـ أو قال ـ فآمنت وردها الله - عز وجل -. الجواب: هذا الحديث أورده ابن الجوزي في (الموضوعات) ثم قال: «هذا حديث موضوع بلا شك والذى وضعه قليل الفهم عديم العلم؛ إذ لو كان له علم لَعلِم أن من مات كافرًا لا ينفعه أن يؤمن بعد الرجعة، لا بل لو آمن عند المعاينة لم ينتفع، ويكفى في رد هذا الحديث قوله تعالى: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} (¬1) (البقرة:217) وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الصحيح: «استأذنت ربى أن أستغفر لأمي فلم يأذن لى»، ومحمد بن زياد هو النقاش وليس بثقة، وأحمد بن يحيى ومحمد بن يحيى مجهولان، وقد كان أقوام يضعون أحاديث ويدسونها في كتب المغفلين فيرويها أولئك. قال شيخنا أبو الفضل بن ناصر: هذا حديث موضوع وأم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ماتت بالأبواء بين مكة والمدينة ودفنت هناك وليست بالحجون». الشبهة الثالثة ليست بحاجة إلى رد: قال الإمام القرطبى في (التذكِرة):قد ذكر السهيلي في (الروض الأنُف) بإسناد فيه مجهولون «أن الله تعالى أحيا له أباه وأمه وآمنا به». الشبهة الرابعة: عن على بن أبى طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «هبط على جبريل فقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول: إنى حرمت النار على صُلب أنزلك وبطن حملك وحجر كفلك. فقال: يا جبريل، بيِّن لى، فقال: أما الصُلب فعبد الله، وأما البطن فآمنة بنت وهب، وأما الحِجْر فعبد يعنى عبدالمطلب وفاطمة بنت أسد». ¬

_ (¬1) أي قوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة:217)

الجواب: هذا الحديث أورده ابن الجوزي في (الموضوعات) ثم قال: «هذا حديث موضوع بلا شك، وإسناده كما ترى. قال بعض حفاظ خراسان: كان أبو الحسين يحيى بن الحسين العلوى رافضيًا غاليًا، وكان يدعى الخلافة بحيلان، واجتمع عليه خلق كثير، ولا يختلف المسلمون أن عبدالمطلب مات كافرًا، وكان لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يومئذ ثمان سنين. وأما عبدالله فإنه مات ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حمل ولا خلاف أنه مات كافرًا، وكذلك آمنة ماتت ولرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ست سنين. فأما فاطمة بنت أسد فإنها أسلمت وبايعت ولا تختلط بهؤلاء» اهـ. الشبهة الخامسة: عن ابن عباس قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «شفعت في هؤلاء النفر: في أبى وعمى أبى طالب وأخى من الرضاعة يعنى ابن السعدية ليكونوا من بعد البعث هباء». الجواب: هذا الحديث أورده ابن الجوزي في (الموضوعات) ثم قال: «هذا حديث موضوع بلا شك. قال أبو الحسن بن الفرات: ومحمد بن فارس ليس بثقة ولا محمود المذهب. قال أبو نعيم: كان رافضيًا غاليًا في الرفص ضعيفًا في الحديث. وفى الصحيحين أن أبا طالب ذُكِر لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: «هو في ضحضاح من النار». الشبهة السادسة: القول بأن أبوي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في النار إيذاء له - صلى الله عليه وآله وسلم -. الجواب: هذا القول تصديق لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وليس إيذاءً له - صلى الله عليه وآله وسلم -. وهل هؤلاء العلماء كانوا يقصدون إيذاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: 1 - الإمام مسلم: حيث روى في صحيحه حديث «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ». 2 - الإمام أبو داود صاحب السنن: حيث روى نفس الحديث مع أحاديث أخرى وعنون عليها: باب في ذراري ـ أي أبناء ـ المشركين. 3 - الإمام النسائي: حيث روى حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: زار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: «استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته

في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت» وعنون عليه الإمام النسائي: باب زيارة قبر المشرك. 4 - الإمام ابن ماجة: حيث روى هو أيضا نفس الحديث وعنون عليه: باب ما جاء في زيارة قبور المشركين. 5 - الإمام النووي - رحمه الله -:وقد بوب في شرحه لصحيح مسلم عند حديث «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ» بقوله: «باب: بيان أن من مات على الكفر فهو في النار، ولا تناله شفاعته، ولا تنفعه قرابة المقربين».وقال في شرحه ما نقلناه قبل قليل. وقال - رحمه الله - عند شرحه لحديث: «استأذنت ربي أن أستنغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي»:قال: «فيه جواز زيارة المشركين في الحياة وقبورهم بعد الوفاة؛ لأنه إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة ففي الحياة أولى، وقد قال الله تعالى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}، وفيه النهي عن الاستغفار للكفار، قال القاضي عياض - رحمه الله -: سبب زيارته قبرها أنه قصد قوة الموعظة والذكرى بمشاهدة قبرها؛ ويؤيده قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - في آخر الحديث: «فزوروا القبور؛ فإنها تذكركم بالآخرة» انتهى. وقال الإمام النووي أيضاً: «قوله: فبكى وأبكى من حوله، قال القاضي: بكاؤه - صلى الله عليه وآله وسلم - على ما فاتها من إدراك أيامه والإيمان به» انتهى. 6 - الإمام البيهقي: قال في كتابه دلائل النبوة (1/ 192، 193) بعد تخريجه لحديث «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ»: «وكيف لا يكون أبواه وجدُّه بهذه الصفة في الآخرة، وكانوا يعبدون الوثن حتى ماتوا، ولم يدينوا دين عيسى ابن مريم - عليه السلام -» انتهى. وقال أيضا في (سننه7: 190): «وأبواه كانا مشركَيْن بدليل ما أخبرنا ... ثم ساق حديث «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ».وقال في (الدلائل 1/ 192 193): «وكفرُهم لا يقدح في نسب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأن أنكحة الكفار صحيحة، ألا تراهم يُسْلِمون مع زوجاتهم، فلا يلزمهم تجديد العقد، ولا مفارقتهن؛ إذ كان مثله يجوز في الإسلام وبالله التوفيق» انتهى.

7 - الحافظ ابن كثير: قال في (سيرة الرسول): «وإخباره - صلى الله عليه وآله وسلم - عن أبويه وجده عبد المطلب بأنهم من أهل النار لا ينافي الحديث الوارد من طرق متعددة أن أهل الفترة والأطفال والمجانين والصم يمتحنون في العرصات يوم القيامة. لأنه سيكون منهم من يجيب، ومنهم من لا يجيب، فيكون هؤلاء ـ أي الذين أخبر عنهم النبي ـ من جملة من لا يجيب، فلا منافاة، ولله الحمد والمنة» انتهى. وقدر ردّ - رحمه الله - على حديث «أن الله أحياهم ثم آمنوا» بأنه «حديث منكر».وللاستزادة انظر (تفسيره وكتابه البداية والنهاية). 8 - الإمام ابن الجوزي: وقد ذكرنا كلامه قبل قليل. 9 - الإمام القرافي: قال في (شرح تنقيح الفصول ص297): «إن قواعد العقائد كان الناس في الجاهلية مكلفين بها إجماعًا. ولذلك انعقد الإجماع على أن موتاهم في النار يعذبون على كفرهم، ولولا التكليف لما عذبوا». 10 - وقد بسط الكلام في عدم نجاة والدَي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - العلامة الحنفي الملاّ علي بن سلطان القارئ في (شرح الفقه الأكبر)، وفي رسالة مستقلة أسماها: (أدلة معتقد أبي حنيفة الأعظم في أبوي الرسول عليه الصلاة والسلام). وقد أثبت بذلك الكتاب تواتر الأدلة والأحاديث على صِحّة معنى هذا الحديث وعدم نجاة والدي الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وقد نقل الإجماع على تلك القضية فقال في (ص84): «وأما الإجماع فقد اتفق السلف والخلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وسائر المجتهدين على ذلك، من غير إظهار خلافٍ لما هُنالك. والخلاف من اللاحق لا يقدح في الإجماع السابق، سواء يكون من جنس المخالف أو صنف الموافق». وأخيرًا لا بد أن يُعلم أن المقصود من الموضوع هو بيان أن اتهام الصوفية لمن يقول بموت أبوي الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - على الكفر بأن «بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - شيء» أو «أنهم يريدون نزع محبة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - من قلوب العامة» ـ ما هو إلا تدليس وتلبيس على العامة، وأن هذا الاتهام في الحقيقة متوجه لمن ذكرنا من العلماء لو التزم بذلك الصوفية.

خامس عشر: الاحتفال بالمولد النبوي

خامس عشر: الاحتفال بالمولد النبوي 1 - لا يجوز الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين، ويرجع ذلك ـ كما يقول الشيخ رشيد رضا ـ إلى ذلك الاجتماع المخصوص بتلك الهيئة المخصوصة في الوقت المخصوص وإلى اعتبار ذلك العمل من شعائر الإسلام التي لا تثبت إلا بنص شرعي بحيث يظن العوام والجاهلون بالسنة أن عمل المولد من أعمال القرب المطلوبة شرعًا، وعمل المولد بهذه القيود بدعة سيئة وجناية على دين الله تعالى وزيادة فيه تُعَد مِن شرْع ما لم يأذن به الله ومن الافتراء على الله والقول في دينه بغير علم. (¬1) 2 - بدعة المولد النبوي حدثت بعد القرون الثلاثة المفضلة، كما قال الحافظ ابن حجر، والحافظ السخاوي. 5 - الاحتفال بالمولد فيه مشابهة للنصارى في احتفالهم بميلاد المسيح - عليه السلام -. 6 - المولد النبوي نفسه، بمعنى وقت ولادته، اختلف في تحديد يومه وشهره بين علماء المسلمين ممن كتب في السير والملاحم والتاريخ، مع اتفاقهم على أنه يوم الاثنين كما ورد بذلك الخبر الصادق عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. 7 - ومن دوَّن فيه وكتب من أهل العلم، فلكونه من أحداث السيرة النبوية، فيذكرون الإرهاصات السابقة لمولده - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم مولده ونشأته وحياته قبل البعثة وبعدها إلى يوم وفاته. 8 - وأما الاحتفال بمولده - صلى الله عليه وآله وسلم - فهو ممكن عقلًا لمن حضر ذلك اليوم الذي ولد فيه، وأما بعده فلم يبق إلا حدثًا وسيرة كسائر الأحداث والسير التي مرت في حياته - صلى الله عليه وآله وسلم -. 9 - ومعلوم أن حياة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - امتدت ثلاثة وستين عامًا، منها أربعون قبل البعثة وثلاثة وعشرون بعدها، فكل يوم فيها هو يوم من حياته الشريفة المباركة ولا يقل شرفًا ولا أهمية عن يوم ولادته بل قد يفضل عليه، كيوم بعثته مثلًا. 10 - والاحتفال بمولده بمعنى إحياء ذكرى ذلك اليوم واتخاذه عيدًا يتكرر على الدوام، لم يفعله صاحب الشأن نفسه - صلى الله عليه وآله وسلم - ولم يرغب فيه حتى مات - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولم يفعله صحابته الكرام ولا أزواجه ولا أهل بيته ولا التابعون ولا أتباعهم ولا الأئمة الأعلام. 11 - ومضت تلك القرون الفاضلة والأمر على ما هو عليه من ترك الأمة كلها من شرقها إلى غربها الاحتفال بذكرى المولد أو غيره من الأيام، التي لا تقل عنه أهمية، فهي جزء من حياة خير الأنام - صلى الله عليه وآله وسلم -. 12 - هذا وقد كثرت مجالسهم في فنون العلم، في التفسير والحديث والفقه واللغة والأدب والشعر، وسائر العلوم والفنون، ولم يخصوا مجلسًا واحدًا ولا محفلًا واحدًا من تلك المحافل على تنوعها، باحتفال بذكرى أي يوم من تلك الحياة الشريفة الحافلة. 13 - حتى إذا حدث النقص في الأمة في القرون التالية للقرون الفاضلة وتقلد زمام الأمر فيها فرقة باطنية ضالة، أبطنت الكفر والزندقة وأظهرت الإسلام والتشيع، وصارت لها دولة، هي الدولة العُبيدية، وهي المسماة بالدولة الفاطمية، فأحدثت الاحتفال بذكرى المولد النبوي، وكان ذلك في سنة 361هـ. فتأمل ـ رحمك الله ـ كيف يمكن أن يهمل خير هذه الأمة وأبرها قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا، قربة من أعظم القرب، ويغفلون عنها، ويتتابعون على هذا الإهمال وذلك الإغفال كابرًا بعد كابر، وجيلًا بعد جيل، ثم يهتدي إليه ويسبقهم إليه أصحاب تلك النحلة الخبيثة الباطنية!!! 14 - وإن تعجب، فعجب قول بعض الناس (إن لنا على ذلك الاحتفال أدلة)، أوصلها بعضهم إلى أكثر من عشرين دليلًا، بعضها من القرآن وبعضها من السنة وبعضها أدلة عقلية!! وكيف فات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - استنباطها من القرآن وهو ينزل عليه، ومن السنة وهو الناطق بها؟ ثم كيف فات أكابر الصحابة وعلماءهم وفضلاءهم، والله تعالى يقول: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء:83)؟ وقل مثل ذلك في التابعين والأئمة الأربعة وغيرهم من علماء الأمة، كيف عميت عليهم معاني تلك النصوص وغبي عليهم فهمها، وهم أساطين العلم والفهم والعقل؟ * ما يحدثه بعض الناس، إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى - عليه السلام -، وإما محبة للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وتعظيمًا، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد ــ لا على البدع ــ من اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عيدًا، مع اختلاف الناس في مولده، فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه لو كان خيرًا، ولو كان هذا خيرًا محضًا، أو راجحًا لكان السلف - رضي الله عنهم - أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وتعظيمًا له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطنًا وظاهرًا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه طريقة السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان. وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حُرَّاصًا على أمثال هذه البدع، مع ما لهم من حُسن القصد، والاجتهاد الذي يُرجَى لهم بهما المثوبة، تجدهم فاترين في أمر الرسول، عما أُمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه، أو يقرأ فيه ولا يتبعه، وبمنزلة من يزخرف المسجد، ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلًا، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجادات المزخرفة، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع، ويصحبها من الرياء والكبر، والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها. الرد على الشبهات: الشبهة الأولى: قول بعض العلماء أن الاحتفال بالمولد بدعة حسنة. * الرد:1 - من المعلوم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قضى وقرر بأن كل بدعة ضلالة، ولم يرِدْ نَصّ من كتاب أو سنة يمكن أن يُستَنَد إليه في تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة. 2 - الاحتفال نفسه من المنكرات شرعًا لأنه بدعة وكل بدعة ضلالة. الشبهة الثانية: ما نُقل عن الحافظ ابن حجر العسقلانى من تخريج الاحتفال بالمولد على صيام الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم عاشوراء حيث إن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قدم المدينة فوجد اليهود يصومون عاشوراء فسألهم فقالوا: «هذا يوم أغرق الله فيه فرعون وأنجى فيه موسى ¬

_ (¬1) القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل للشيخ إسماعيل الأنصاري (ص113) وعزاه لفتاوى رشيد رضا الجزء الخامس.

فنحن نصومُه شكرًا لله تعالى»، فقال: «أنا أحقُّ بموسى منكم فَصامَه وأمَرَ بصيامِه» فيستفاد من فعل ذلك شكرًا لله تعالى على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر يحصل بأنواع العبادات والسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي الكريم نبي الرحمة في ذلك اليوم. * الرد: 1 - تخريج الحافظ ابن حجر عمل المولد على صيام عاشوراء لا يمكن الجمع بينه وبين جزمه بأن ذلك بدعة لم تُنقل عن أحد من السلف من القرون الثلاثة ـ كما نُقِل ذلك عنه ـ فإن عدم عمل السلف الصالح بالنص على الوجه الذي يفهمه مَنْ بعدهم، يمنع اعتبار ذلك الفهم صحيحًا، إذ لو كان صحيحًا لم يعزب عن فهم السلف الصالح ويفهمه من بعدهم، كما يمنع اعتبار ذلك النص دليلًا عليه إذ لو كان دليلًا لعمل به السلف الصالح، فاستنباط الحافظ ابن حجر الاحتفال بالمولد النبوي ـ ما دام الأمر كذلك ـ من حديث صوم يوم عاشوراء أو من أي نص آخر، مخالف لما أجمع عليه السلف الصالح من ناحية فهمه ومن ناحية العمل به، وما خالف إجماعهم فهو خطأ، لأنهم لا يجتمعون إلا على هدى، وقد بسط الإمام الشاطبي الكلام على تقرير هذه القاعدة في كتابه (الموافقات) وأتى في كلامه بما لا شك في أن الحافظ ابن حجر العسقلانى لو تنبه له لما خرّج عمل المولد على حديث صوم يوم عاشوراء ما دام السلف لم يفهموا تخريجه عليه منه ولم يعملوا به على ذلك الوجه الذي فهمه منه. 2 - حديث صوم يوم عاشوراء لنجاة موسى - عليه السلام - فيه وإغراق فرعون فيه ليس فيه سوى أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صامه وأمر بصيامه. 3 - الشرط الذي شرطه الحافظ ابن حجر للاحتفال بالمولد النبوى وهو تحري ذلك اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى - عليه السلام - لا سبيل إليه، حيث إن يوم عاشوراء يوم محدد معروف أما يوم ميلاد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فغير محدد حيث اختلف العلماء في تعيينه على أقوال كثيرة. 4 - النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يزِدْ فيه على غيره من الشهور شيئًا من العبادات، فهل نحن أعلم

وأحرص على الدين من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه؟ وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -. الشبهة الثالثة: قول بعضهم إن الاحتفال بالمولد من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف. * الرد: 1 - ما الدليل على أن الاحتفال بالمولد من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها؟ وما هو مقدار هذا الثواب؟ وهل نحن أحرص من الصحابة والتابعين على هذا الثواب؟ وهل نحن أكثر تعظيمًا لقدر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - منهم؟ فهم لم يحتفلوا، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه. 2 - تعظيم قدر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يكون باتباع هديه وليس باختراع عبادات لم يشرعها؛ فإن ذلك فيه اتهام له بأنه قصَّر في تبليغ الرسالة أو أن الرسالة لم تكتمل، وإذا كان الصحابة لم يفعلوا المولد فهل معنى ذلك أنهم كانوا لا يعظمون قدر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟!! 3 - قال ابن الحاج: توفي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم الاثنين 12ربيع الأول سنة 11هجرية في نفس الشهر الذي ولد فيه فكيف يحتفلون ويأكلون ويشربون، ولا يبكون ولا يحزنون من أجل فَقْد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في ذلك اليوم، مع أنهم لو فعلوا ذلك والتزموه لكان بدعة أيضًا، وإن كان الحزن عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - واجبًا على كل مسلم دائمًا لكن لا يكون على سبيل الاجتماع لذلك. (المدخل لابن الحاج) (ج2 ص 16 - 17) بتصرف. الشبهة الرابعة: ما قيل من أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أشار إلى فضيلة هذا الشهر العظيم بقوله للسائل الذي سأله عن صوم يوم الاثنين: «ذاك يوم وُلِدتُ فيه» (رواه مسلم)، فتشريف هذا اليوم متضمن تشريف هذا الشهر الذي ولد فيه، ألا ترى أن صوم هذا اليوم فيه فضل عظيم؛ لأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - ولد فيه؟ * الرد: صوم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم الاثنين ليس دليلًا على بدعة الاحتفال بالمولد فقد سُئِل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: «ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بُعِثْتُ، أو أُنزِلَ عليَّ فيه» (رواه مسلم)، فقد كان - صلى الله عليه وآله وسلم - يصوم ذلك اليوم من كل أسبوع وعلى طول الشهر، وعلى مدى العام كله، ولم يكن ذلك مرة واحدة في العام، فأين هذا مما يفعله المسلمون اليوم؟ ولو كان احتفالًا كما يزعم الزاعمون لاختلفت الكيفية، كأن يجتمع الصحابة مع

رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويتسابقون في إلقاء الخطب والأناشيد كما هو حال الكثير من المسلمين اليوم، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث. الشبهة الخامسة: ما رُوي أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عقّ عن نفسه بعد النبوة، مع أنه ورد أن جده عبد المطلب عقّ عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فزعموا أن أن هذا فعله - صلى الله عليه وآله وسلم - إظهارًا للشكر على إيجاد الله تعالى إياه رحمة للعالمين، فيستحب لنا أيضًا إظهار الشكر بمولده - صلى الله عليه وآله وسلم - بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات. * الرد: 1 - ما روى أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عق عن نفسه غير صحيح ولم يثبت، فقد ضعفه الأئمة مالك، وأحمد بن حنبل، والبزار، والبيهقي، والنووي، والحافظ المزي والحافظ الذهبي، والحافظ ابن حجر. 2 - لو ثبت هذا عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما كان هذا الحكم يخصه بل لاستُحِبَّ لكل مسلم أن يعق عن نفسه شكرًا لله على نعمة الخلق والإيجاد، حتى ولو لم يكن المخلوق نبيًا. 3 - على فرض صحة الحديث ـ رغم وضوح ضعفه ـ فإنه لا يزيد أن يكون مثل حديث صيام يوم الاثنين وقد سبق الرد عليه. الشبهة السادسة: قالوا إن وجود الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - سبب النجاة لمن اتبعه، وتقليل حظ جهنم لمن أُعدّ لها، لفرحه بولادته - صلى الله عليه وآله وسلم -، فمن المناسب إظهار السرور، فقد رُوى عن عروة ابن الزبير أنه قال: « ... وثويبة مولاة لأبى لهب وكان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلما مات أبو لهب أُريه بعض أهله بشرّ حِيبَة (أي سوء حال)، قال له: «ماذا لقيتَ؟» قال أبو لهب: «لم ألق بعدكم غير أني سُقِيَتْ فيَّ هذه بعتاقتى ثويبة». الرد: *هذا الخبر رواه البخاري (5101)، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: ... «الخبر مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به» (والمقصود الجزء الذي ذكرناه، أما المنسوب إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والذي لم نذكره فلا). * ذلك الخبر لو كان موصولًا لا حجة فيه لأنه رؤيا منام فلا حجة فيه كما قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري). *ما في مرسل عروة هذا من أن إعتاق أبي لهب ثويبة كان قبل إرضاعها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -

يخالف ما عند أهل السير من أن إعتاق أبى لهب إياها كان بعد ذلك الإرضاع بدهر طويل، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في (فتح الباري). الشبهة السابعة: ما نُقل (ص16) عن الحافظ ابن كثير من أن أول من أحدث ذلك من الملوك صاحب إربل، وكان شهمًا شجاعًا عاقلًا عادلًا. * الرد: البدعة في الدين لا تقبل من أي أحد كان، وعدالته لا توجب عصمته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «عادة بعض البلاد أو أكثرها، وقول كثير من العلماء أو العباد، أو أكثرهم ونحو ذلك ليس يصلح أن يكون معارضًا لكلام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى يعارض به» (اقتضاء الصراط المستقيم) (ص245). وأبو بكر ومَن بعده من الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - سنتهم أولى بالاتباع من صاحب إربل. الشبهة الثامنة: من المسلمين من يقول: نعلم أن المولد ليس سنة نبوية ولا طريقًا سلفيًا ولا عمل القرون المشهود لها بالخير، وإنما نريد مقابلة الفكرة بالفكرة والذكريات بالذكرى، لنجمع شباب المسلمين على سيرة سيد المرسلين. الرد: إن كان المراد إحياء الذكرى لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فإن الله تعالى قد تولى ذلك بأوسع نطاق حيث قرن ذكره - صلى الله عليه وآله وسلم - مع ذكره تعالى في الشهادتين، مع كل أذان على كل منارة من كل مسجد، وفي كل إقامة لأداء صلاة، وفي كل تشهد في فرض أو نفل مما يزيد على الثلاثين مرة جهرًا وسرًا، جهرًا يملأ الأفق، وسرًا يملأ القلب والحس. ثم تأتي الذكرى العملية في كل صغيرة وكبيرة في المأكل باليمين، لأنه السنة، وفي الملبس في التيامن لأنه السنة، وفي المضجع على الشق الأيمن لأنه السنة، وفي إفشاء السلام وفي كل حركات العبد وسكناته إذا راعى فيها أنها السنة عن النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإن كان المراد التعبير عن المحبة، والمحبة هي عنوان الإيمان الحقيقي، كما قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده وماله والناس أجمعين» (رواه البخاري) فإن حقيقة المحبة طاعة من تحب، وفعل ما يحبه وترك ما لا يرضاه أو لا يحبه. * وإن كان المراد مقابلة فكرة بفكرة. فالواقع أنه لا مناسبة بين السببين ولا موجب للربط بين الجانبين لبعد ما بينهما، كبعد الحق عن الباطل والظلمة عن النور.

ومع ذلك، فإن كان ولا بد فلا موجب للتقييد بزمن معين بل العام كله لإقامة الدراسات في السيرة وتعريف المسلمين الناشئة منهم والعوام وغيرهم بما تريده من دراسة للسيرة النبوية. الشبهة التاسعة: استدلال بعضهم بعموم قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ} (إبراهيم:5) على اعتبار أن مولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من أيام الله. فيكون الاحتفال تطبيقًا لأمر الله. الرد: أولًا: قال الإمام الطبري - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: «يقول - عز وجل -: وعِظْهُم بما سلف من نعمي عليهم في الأيام التي خلت، فاجتُزِئ بذكر (الأيام) من ذكر النعم التي عناها، لأنها أيام كانت معلومة عندهم، أنعم الله عليهم فيها نعمًا جليلةً، أنقذهم فيها من آل فرعون بعدَ ما كانوا فيما كانوا فيه من العذاب المُهِين، وغرَّق عدوَّهم فرعونَ وقومَه، وأوْرَثهم أرضهم وديارَهم وأموالَهم». ثانيًا: كيف فات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - استنباط هذا الحكم من هذه الآية وقد أنزِلَتْ عليه، وكيف فات الصحابة والتابعون - رضي الله عنهم - ذلك؟ فلماذا لم يحتفل الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - والصحابة والتابعون - رضي الله عنهم - من بعده بيوم ميلاده - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ ولماذا لم يحتفلوا بيوم ميلاد آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى - عليهم السلام -؟ ولماذا لم يحتفلوا بيوم بناء إبراهيم - عليه السلام - للكعبة مثلًا؟ ثالثًا: إذا كان التذكير بكل نعمة من نعم الله - عز وجل - يكون بالاحتفال فستكون السنة كلها احتفالات؛ لأنه لا يخلو يوم من نعم لله - عز وجل - على عباده. رابعًا: قال الإمام الطبري إنها «أيام كانت معلومة عندهم» اهـ. أما يوم ميلاد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فغير محدد حيث اختلف العلماء في تعيينه على أقوال كثيرة.

سادس عشر: الموالد

سادس عشر: الموالد قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، والسلف، النهي عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين عيدًا، عموما وخصوصًا. فأما العموم: فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم». (رواه أبو داود وصححه الألباني) ووجه الدلالة: أن قبر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيدًا. فقبر غيره أولى بالنهي كائنًا من كان، ثم إنه قَرَن ذلك بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ولا تتخذوا بيوتكم قبورًا» أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم. ثم إنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أعقب النهي عن اتخاذه عيدًا بقوله: «صَلُّوا علي فإن صلاتَكم تبلغُني حيثما كنتم» يشير بذلك - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قرْبِكم من قبري وبُعْدِكم منه فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدًا. والأحاديث عنه بأن صلاتنا وسلامنا تعرض عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - كثيرة: مثل ما روى أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام» - صلى الله عليه وآله وسلم -. (وهذا الحديث على شرط مسلم وحسنه الألباني) ومثل ما روى أبو داود أيضًا عن أوس بن أوس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علَيَّ»، قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرِمْتَ؟ فقال: «إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء». (صححه الألباني) (أرم أي صار رميمًا، أي عظمًا باليًا) وفي النسائي وغيرِه عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «إن لله ملائكة سياحين في الأرض يُبَلَّغوني عن أمتي السلام» (صححه الألباني). والعيد إذا جعل اسمًا للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه، وإتيانه مرة بعد مرة للعبادة عنده، أو لغير العبادة، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة، جعلها

الله عيدًا، مثابة للناس، يجتمعون فيها، وينتابونها، للدعاء والذكر والنسك، وكان للمشركين أمكنة ينتابونها للاجتماع عندها. فلما جاء الإسلام محى الله ذلك كله. وهذا النوع من الأمكنة يدخل فيه قبور الأنبياء والصالحين والقبور التي يجوز أن تكون قبورًا لهم، بتقدير كونها قبورًا لهم. بل وسائر القبور أيضًا داخلة في هذا. فإن قبر المسلم له من الحرمة ما جاءت به السنة، إذ هو بيت المسلم الميت، فلا يترك عليه شيء من النجاسات بالاتفاق ولا يُوطُأ ولا يُداس، ولا يُتَّكَأ عليه عند جمهور العلماء، ولا يجاور بما يؤذي الأموات، من الأقوال والأفعال الخبيثة، ويستحب عند إتيانه السلام على صاحبه، والدعاء له، وكلما كان الميت أفضل، كان حقه أوكد. قال بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه -: «كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، أن يقول قائلهم: السلام على أهل الديار وفي لفظ: السلام عليكم أهل الديار، من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية» (رواه مسلم) وروى أيضًا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خرج إلى المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون». وروى مسلم أيضًا عن عائشة - رضي الله عنهما - في حديث طويل عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إن جبريل أتاني فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع، فتستغفر لهم» قالت: قلت: كيف أقول يا رسول الله؟ قال: «قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون». وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه فقال: «استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يُسْأل» (رواه أبو داود وصححه الألباني) فهذا ونحوه مما كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يفعله، ويأمر به أمته عند قبور المسلمين، عقب الدفن، وعند زيارتهم، والمرور بهم، إنما هو تحية للميت، كما يُحَيَّى الحيُّ، ودعاء له كما يُدعَى له، إذا صلى عليه قبل الدفن أو بعده، وفي ضمن الدعاء للميت، دعاء الحي لنفسه، ولسائر المسلمين، كما أن الصلاة على الجنازة فيها الدعاء للمصلي، ولسائر

أسئلة تنتظر الإجابة

المسلمين، وتخصيص الميت بالدعاء له، فهذا كله، وما كان مثله، من سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وما كان عليه السابقون الأولون، هو المشروع للمسلمين في ذلك. وهو الذي كانوا يفعلونه عند قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وغيره. وروى ابن بطة في الإبانة، بإسناد صحيح، عن معاذ بن معاذ، حدثنا ابن عون، قال: سأل رجل نافعًا فقال: هل كان ابن عمر يسلم على القبر، فقال: نعم، لقد رأيتُه مائة أو أكثر من مائة مرة، كان يأتي القبر، فيقوم عنده فيقول: «السلام على النبي، السلام على أبي بكر، السلام على أبِي» وفي رواية أخرى، ذكرها الإمام أحمد محتجًا بها: «ثم ينصرف». وزيارة القبور جائزة في الجملة، حتى قبور الكفار، فإن في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: «استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت». وفي صحيح مسلم عن بريدة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها».فقد أذن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في زيارتها بعد النهي، وعلل ذلك بأنها تذكر الموت، وأذن إذنًا عامًا، في زيارة قبر المسلم والكافر. أسئلة تنتظر الإجابة * حرم الله - عز وجل - الدعاء لغير الله والنذر لغير الله والذبح لغير الله، وعَدَّ كل هذا من الشرك الذي هو أكبر الكبائر. وفي الموالد يُفعل كل هذا وأكثر، فهل هذا من الإسلام؟!! قال الله - عز وجل -: {إِن تَدْعُوَهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر:14) * الطواف عبادة جعلها الله - عز وجل - مقتصرة على مكان واحد فقط هو البيت الحرام، ولكن في الموالد هناك من يطوفون حول قبور الأولياء، فهل هذا من الإسلام؟!!

* نهى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى. . ولكن في الموالد تُشد الرحال إلى قبور الأولياء، فهل هذا من الإسلام؟!! * نهى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الاختلاط بين الرجال والنساء. . وفي الموالد يحدث الاختلاط المحرم في الشوارع وفي الخيام وفي المساجد!!! وفي دورات المياه!!!، فهل هذا من الإسلام؟!! * حرم الله - عز وجل - القمار. وفي الموالد تنصب موائد القمار، فهل هذا من الإسلام؟!! * حرم الله - عز وجل - السحر. وفي الموالد تنصب السروك وفيها فقرات السحر، فهل هذا من الإسلام؟!! * حرم الله - عز وجل - التبرج والعري. وفي الموالد تقام الحفلات الراقصة، وتصعد الراقصات الساقطات على شرفات المسرح ليرى الناس أجسادهن، فهل هذا من الإسلام؟!! * يدخن الزوار في الموالد الشيشة والحشيش ويجلسون في الخيام وقت الصلاة يتطوحون ويتمايلون ويرقصون، فهل هذا من الإسلام؟!! * أعياد المسلمين هي عيد الفطر وعيد الأضحى كما أخبرنا الصادق المصدوق. فمن أين أتى أصحاب الموالد بهذه الأعياد الجديدة؛ ليحتفلوا بكل ما هو حرام ومخالف لشرع الله؟!! * وإذا كان هذا الفعل صحيحًا، فأين مولد سيدنا عمر بن الخطاب وأين مولد عثمان وأين مولد عمر بن عبدالعزيز، وأين مولد الإمام البخاري والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل؟!!

سابع عشر: هل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خلق من نور وهل هو أول مخلوقات الله؟

سابع عشر: هل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خلق من نور وهل هو أول مخلوقات الله؟ من المعلوم أن الإيمان بالرسل من أركان الإيمان الستة، كما جاء في حديث جبريل لما سأل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الإيمان قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى» (متفق عليه)، وقد وصف الله الرسل في القرآن بأنهم بشر اختارهم لدعوة الناس إليه وأنهم كانوا يأكلون الطعام وكانوا يعالجون المعاش والسعي في الأرض كبقية البشر، ولم يكن أحد منهم يعلم الغيب، أو يتصرف في الأكوان كما يشاء. لقد كانت سيرة الرسل وعلى رأسهم محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - مبينة أنهم بشر قاسوا ما قاساه البشر من الآلام والأسقام والأوجاع والفتن والبلايا وتضرعوا إلى ربهم ودعوه، وخافوه، وأحبوه كذلك وطلبوا نصرته وعونه سبحانه وتعالى، وكان خاتمهم وخيرهم محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أكمل الرسل في تحقيق عبودية الله سبحانه وتعالى على نفسه؛ فقد قام من الليل حتى تفطرت قدماه، وأوذي بالله أشد الأذى. ومن قرأ القرآن، وعلم شيئًا من الإسلام، ودرس سيرة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - حصل العلم الضروري الذي لا يدافع بأن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - هو عبدالله ورسوله، وأنه وُجد يوم وُجد على الأرض بشرًا كالبشر لا علم له بشيء مما كان في الملأ الأعلى كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (ص:67 - 72)، فالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أمره الله - عز وجل - أن يقول هنا: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} والملأ الأعلى هم الملائكة عندما أمرهم الله بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس فكان بينه وبين الرب - عز وجل - ما كان مما

قصّه على رسوله محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ومما لم يكن عن الرسول قبل بعثته وقبل نزول هذا الوحي أو في علم منه. بل إن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عندما جاءه جبريل بالوحي ظنه شيطانًا وجاء أهله ترتعد فرائصه، وهو يقول: زملوني، وقال لزوجته خديجة - رضي الله عنها -: «لقد خشيت على نفسي». (متفق عليه)، فلو كان جبريل مخلوقًا من نور الرسول ـ كما زعمت المتصوفة ـ لقال الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لجبريل عندما نزل إليه: أهلًا بمن خلقه الله من نوري. قال الله - عز وجل -: «وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا * وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} معنى الآيات: قال تعالى مخبرًا عن قيلهم لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهم يجادلون في نبوته: فقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} أي لن نتابعك على ما تدعو إليه من التوحيد والنبوة لك والبعث والجزاء لنا {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} أي عينًا يجري ماؤها على وجه الأرض لا ينقطع {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ} أي بستان من نخيل وعنب، {فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا} أي خلال الأشجار تفجيرًا، {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} أي قطعًا، {أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} أي مقابلة نراهم معاينة، {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} أي من ذهب تسكنه بيننا {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} أي تصعد بسلم ذي درج في السماء، {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ} إن أنت رقيت {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا} من عند الله {نَقْرَؤُهُ} يأمرنا فيه بالإيمان بك واتباعك! هذه ست طلبات كل واحدة اعتبروها آية متى شاهدوها زعموا أنهم يؤمنون، والله يعلم أنهم لا يؤمنون، فلذا لم يستجب لهم، وقال لرسوله: قل يا محمد لهم: {سُبْحَانَ رَبِّي} متعجبًا من طلباتهم {هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا}؟! أي هل كنت غير بشر رسول؟ وإلا كيف يطلب مني هذا الذي طلبوا، إن ما تطلبونه لا يقدر عليه عبد مأمور مثلي، وإنما يقدر عليه رب عظيم قادر، يقول للشيء كن ... فيكون! وأنا ما ادعيت ربوبية، وإنما أصرح دائمًا بأني عبدالله ورسوله إليكم لأبلغكم رسالته بأن تعبدوه وحده ولا تشركوا به سواه وتؤمنوا بالبعث الآخر وتعلموا به بالطاعات وترك المعاصي. وقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} أي وما منع أهل مكة أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى على يد رسولهم {إِلَّا أَنْ قَالُوا} أي إلا لقولهم {أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا}؟ منكرين على الله أن يبعث رسولًا من البشر! وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} أي قل يا رسولنا لهؤلاء المنكرين أن يكون الرسول بشرًا، المتعجبين من ذلك، قل لهم: لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ساكنين في الأرض لا يغادرونها لنزلنا عليهم من السماء ملكًا رسولًا يهديهم بأمرنا ويعلمهم ما يطلب منهم فعله بإذننا؛ لأنهم يفهمون عنه لرابطة الجنس بينهم والتفاهم الذي يتم لهم. ولذا بعثنا إليكم رسولًا من جنسكم تفهمون ما يقول لكم يقدر على إفهامكم والبيان لكم فكيف إذًا تنكرون الرسالة للبشر وهي أمر لا بد منه؟! وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (الكهف:110) قال الإمام الطبري - رحمه الله -: «يقول تعالى ذكره: قل لهؤلاء المشركين يا محمد: إنما أنا بشر مثلكم من بني آدم، لا علم لي إلا ما علمني الله، وإن الله يوحي إليّ أن معبودكم ـ الذي يجب عليكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا ـ معبود واحد لا ثاني له، ولا شريك.

الرد على الشبهات

الرد على الشبهات الشبهة الأولى: قال تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} الجواب: قد اختلف العلماء في المقصود بالنور في هذه الآية، هل هو الإسلام أم القرآن أم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ والمقصود بالنور في هذه الآية النور المعنوي، وهو نور الهداية. قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: «يقول جل ثناؤه لهؤلاء الذين خاطبهم من أهل الكتاب {قَدْ جَاءَكُمْ} يا أهل التوراة والإنجيل {مِنَ اللهِ نُورٌ}، يعني بالنور، محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي أنار الله به الحقَّ، وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك، فهو نور لمن استنار به يبيِّن الحق. ومن إنارته الحق، تبيينُه لليهود كثيرًا مما كانوا يخفون من الكتاب. وقوله: {وَكِتَابٌ مُبِينٌ} يقول: جل ثناؤه: قد جاءكم من الله تعالى النور الذي أنار لكم به معالم الحقِّ، {وَكِتَابٌ مُبِينٌ}، يعني كتابًا فيه بيان ما اختلفوا فيه بينهم: من توحيد الله، وحلاله وحرامه، وشرائع دينه، وهو القرآن الذي أنزله على نبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، يبين للناس جميع ما بهم الحاجةُ إليه من أمر دينهم، ويوضحه لهم، حتى يعرفوا حقَّه من باطله». وقال الحافظ ابن كثير: « ... أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على نبيه الكريم فقال: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} أي: طرق النجاة والسلامة ومناهج الاستقامة {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ * وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: ينجيهم من المهالك، ويوضح لهم أبين المسالك فيصرف عنهم المحذور، ويحصل لهم أنجب الأمور، وينفي عنهم الضلالة، ويرشدهم إلى أقوم حالة». قال الإمام القرطبي: «{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ} أي ضياء، قيل: الإسلام. وقيل: محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -. {وَكِتَابٌ مُبِينٌ}. أي القرآن، فإنه يبين الأحكام. {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ

رِضْوَانَهُ} أي ما رضيه الله. {سُبُلَ السَّلامِ} طرق السلامة الموصلة إلى دار السلام المنزهة عن كل آفة، والمؤمنة من كل مخافة، وهي الجنة». وقال أيضًا: «وقد سمى الله تعالى كتابه نورًا فقال: {وأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًَا مُبِينًا} (النساء: 174) وسمى نبيه نورًا فقال: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}. (المائدة: 15).وهذا لأن الكتاب يهدي ويبين، وكذلك الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -».ا. هـ بتصرف يسير». * وكونه - صلى الله عليه وآله وسلم - نورًا أمر معنوي، مثل تسمية القرآن نورًا؛ قال الله - عز وجل -: {فَآَمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: «يقول تعالى ذكره: فصدّقوا بالله ورسوله أيها المشركون المكذّبون بالبعث، وبإخباره إياكم أنكم مبعوثون من بعد مماتكم، وأنكم من بعد بلائكم تنشرون من قبوركم، {وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} يقول: وآمنوا بالنور الذي أنزلنا، وهو هذا القرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -». الشبهة الثانية: ما رواه ابن إسحاق وعنه الحاكم وقال: (صحيح الإسناد): « ... ورؤيا أمي الذي رأت حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت لها قصور الشام». وفي رواية: «رأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منه قصور الشام» الجواب: هذه رؤيا منام وليس فيها أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان نورًا حسيًا. ويؤيد ذلك قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أخذ الله عز وجل مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم، وبشر بي عيسى ابن مريم، ورأت أمي في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام». [عزاه السيوطي في (الجامع الصغير) إلى ابن مردويه والطبراني في (الكبير) وأبي نعيم في (الدلائل)، وحسنه الألباني في (صحيح الجامع الصغير)]. الشبهة الثالثة: ماورد عن بعض الصحابة من أن وجه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان مثل القمر. كما في البخاري عن كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أنه قال « ... وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ»

الجواب: هذا تشبيه ويدل عليه كلمة (كأنه). راجع شرح الحافظ ابن حجر العسقلاني لهذا الحديث في (فتح الباري). * وسُئِلَ الْبَرَاءُ - رضي الله عنه -: «أَكَانَ وَجْهُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مِثْلَ السَّيْفِ؟ قَالَ: «لَا، بَلْ مِثْلَ الْقَمَر» ِ (رواه البخاري) قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): «كَأَنَّ السَّائِل أَرَادَ أَنَّهُ مِثْل السَّيْف فِي الطُّول، فَرَدَّ عَلَيْهِ الْبَرَاء فَقَالَ: «بَلْ مِثْل الْقَمَر» أَيْ فِي التَّدْوِير، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَرَادَ مِثْل السَّيْف فِي اللَّمَعَان وَالصِّقَال؟ فَقَالَ: بَلْ فَوْق ذَلِكَ، وَعَدَلَ إِلَى الْقَمَر لِجَمْعِهِ الصِّفَتَيْنِ مِنْ التَّدْوِير وَاللَّمَعَان: وَوَقَعَ فِي رِوَايَة زُهَيْر الْمَذْكُورَة: «أَكَانَ وَجْه رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وآله وسلم - حَدِيدًا مِثْل السَّيْف؟» وَهُوَ يُؤَيِّد الْأَوَّل. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِم مِنْ حَدِيث جَابِر بْن سَمُرَة «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: أَكَانَ وَجْه رَسُول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مِثْل السَّيْف؟ قَالَ: لَا بَلْ مِثْل الشَّمْس وَالْقَمَر مُسْتَدِيرًا».وَإِنَّمَا قَالَ: «مُسْتَدِيرًا» لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ جَمَعَ الصِّفَتَيْنِ، لِأَنَّ قَوْله: «مِثْل السَّيْف» يَحْتَمِل أَنْ يُرِيد بِهِ الطُّول أَوْ اللَّمَعَان، فَرَدَّهُ الْمَسْئُول رَدَّا بَلِيغًا. وَلَمَّا جَرَى التَّعَارُف فِي أَنَّ التَّشْبِيه بِالشَّمْسِ إِنَّمَا يُرَاد بِهِ غَالِبًا الْإِشْرَاق، وَالتَّشْبِيه بِالْقَمَرِ إِنَّمَا يُرَاد بِهِ الْمَلَاحَة دُون غَيْرهمَا، أَتَى بِقَوْلِهِ: «وَكَانَ مُسْتَدِيرًا» إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ التَّشْبِيه بِالصِّفَتَيْنِ مَعًا: الْحُسْن وَالِاسْتِدَارَة. الشبهة الرابعة: حديث: «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث» الجواب: هذا حديث موضوع ذكره الشوكاني في (الأحاديث الموضوعة، ص326). الشبهة الخامسة: حديث (كنت نبيًا وآدم بين الروح والجسد). الجواب: هذا الحديث ذكره الحاكم وقال الصنعاني: هو موضوع، وكذا قال ابن تيمية. وهذا الحديث ـ وإن كان قد صححه غيرهما ـ فعلى فرض صحته، فإنه لا شاهد فيه على عقائد الصوفية، وإنما يعني أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قد قدَّر اللهُ كونَه نبيًا عندما خلق آدم، ولا شك أن الأنبياء جميعًا نبوتهم ثابتة في تقدير الله وقضائه. والله - عز وجل - قد قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما جاء في الحديث.

قال البيهقي: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إني عند الله في أمّ الكتاب لخاتم النبيين وان ءادم لمنجدل في طينته» يريد أنه كان كذلك في قضاء الله وتقديره قبل أن يكون أبو البشر وأوّل الأنبياء صلوات الله عليهم» اهـ. (دلائل النبوّة 1/ 81). (يكون: يعني يوجَد ويُخلَق) الشبهة السادسة: حديث (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر). الجواب: هذا الحديث أورده العجلوني في (كشف الخفاء) وقال: رواه عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله بلفظ قال: قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أخبرني عن أول شئ خلقه الله قبل الأشياء. قال: يا جابر، إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جني ولا إنسي، فلما أراد الله أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأول حملة العرش ومن الثاني الكرسي ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأول السماوات، ومن الثاني الأرضين، ومن الثالث الجنة والنار، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني نور قلوبهم وهى المعرفة بالله، ومن الثالث نور إنسهم وهو التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله - الحديث، كذا في (المواهب). اهـ. المقصود من كلامه. والواضح أن العجلوني لم يطلع على الحديث في (مصنف عبد الرزاق) وإنما نقله من كتاب (المواهب).وقد بحثت في (مصنف عبد الرزاق) فلم أجد هذا الحديث. ويرد هذا الحديث ما رواه مسلم عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «خُلِقَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ». قال الألباني في (السلسلة الصحيحة) (1/ 741): « ... وفيه (أي حديث: «خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من نار السموم وخلق آدم عليه السلام مما قد وصف

لكم» إشارة إلى بطلان الحديث المشهور على ألسنة الناس: «أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر».ونحوه من الأحاديث التي تقول بأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - خُلق من نور، فإن هذا الحديث دليل واضح على أن الملائكة فقط هم الذين خلقوا من نور، دون آدم وبنيه». * ونحيل القارئ إلى الرسالة المسمّاة (مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر) تأليف أحد كبار دعاة الصوفية: عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري (¬1) 1) المتوفى سنة 1413هـ الذي يصفه الصوفية بمحدث الديار المغربية والبلاد الأفريقيّة، وفيها الردّ الوافي على القائلين بأن أوّل ما خلق الله نور النبيّ محمّد - صلى الله عليه وآله وسلم -. * ونقتبس منها الآتي (بتصرف): * «فهذا جزء سمّيتُه: (مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر)، أردت به تنزيه النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - عمّا نُسب إليه مما لم يصح عنه ويُعدّ من قبيل الغلو المذموم، ومع ذلك صار عند العامة وكثير من الخاصة معدودًا من الفضائل النبويّة التي يكون إنكارها طعنًا في الجناب النبويّ عندهم، ولا يدركون ما في رأيهم وقولهم من الإثم العظيم الثابت في قول النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» (رواه البخاري ومسلم وليس في حديث البخاري (متعمدًا)). والذي يصفه بما لم يثبت عنه كاذب عليه واقع في المحذور إلاّ أن يتوب، ولا يكون مدحه عليه الصلاة والسلام شافعًا له في الكذب عليه. فإن فضائل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما تكون بالثابت المعروف حذرًا من الكذب المتوعَّد عليه بالنار. * وقد وردت أحاديث في هذا الموضوع باطلة، وجاءت آراء شاذة عن التحقيق عاطلة، أُبينها في هذا الجزء بحول الله. * روى عبد الرزاق ـ فيما قيل ـ عن جابر - رضي الله عنه - قال: «قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أخبرني عن أول شئ خلقه الله قبل الأشياء. ¬

_ (¬1) إنما نقلت كلامه حجة على أتباعه الصوفية، وإلا ففي كتبه كثير من الضلال.

قال: يا جابر، إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جني ولا إنسي، فلما أراد الله أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأول حملة العرش ومن الثاني الكرسي ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأول السماوات، ومن الثاني الأرضين، ومن الثالث الجنة والنار، ثم قسم الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني نور قلوبهم وهى المعرفة بالله، ومن الثالث نور إنسهم وهو التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله» الحديث، وله بقية طويلة وقد ذكره بتمامه ابن العربي الحاتمي في كتاب (تلقيح الأذهان ومفتاح معرفة الإنسان)، والديار بكري في كتاب (الخميس في تاريخ أنفس نفيس). * وعزْوه إلى رواية عبد الرزاق خطأ؛ لأنه لا يوجد في مصنفه ولا جامعه ولا تفسيره. بل المذكور في تفسيره خلاف ذلك، فقد ذكر أن أول الأشياء وجودًا الماء. * وقال الحافظ السيوطي في الحاوي: «ليس له إسناد يعتمد عليه» اهـ (انظر الحاوي في الفتاوى 1/ 325 في تفسير سورة المدثر، وقد ذكر السيوطي في (قوت المغتذي شرح الترمذي) بعد أن ذكر الحديث: «أوّل ما خلق الله تعالى القلم» فقال: «أما حديث أولية العقل فليس له أصل، وأمّا حديث أولية النور المحمدي فلا يثبت» اهـ. * وهو حديث موضوع جزمًا، وفيه اصطلاحات المتصوفة، وبعض الشناقطة المعاصرين ركّب له إسنادًا فذكر أن عبد الرزاق رواه من طريق ابن المنكدر عن جابر وهذا كذب يأثم عليه. * وقد ادعى بعضهم أيضًا أن هذا الحديث ـ أي حديث جابر المفتعل ـ صحّ كشفًا. فهذا كلام لا معنى له؛ لأن الكشف الذي يخالف حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لا عبرة به. * أقول (أي الغماري): هذا الحديث مخالف لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، ومخالف للحديث الذي رواه البخاري وغيره أن أهل اليمن أتوا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالوا:

يا رسول الله جئناك لنتفقّه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر، قال: كان الله ولم يكن شىء غيره، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شىء، ثم خلق السموات والأرض». وبالجملة فالحديث منكر موضوع لا أصل له في شىء من كتب السُّنّة. * ومثله في النكارة ما رُوي عن علي بن الحسين، عن أبيه - رضي الله عنهما -، عن جدّه أن النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «كنت نورًا بين يدي ربي قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام» وهو كذب أيضًا. * ومن الكذب السخيف ما يقال إن إحدى أمهات المؤمنين أرادت أن تلف إزارًا على جسد النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فسقط الإزار أي لأنه نور، وهذا لا أصل له. وقد كان النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يستعمل الإزار ولم يسقط عنه. * وكونه - صلى الله عليه وآله وسلم - نورًا أمر معنوي، مثل تسمية القرآن نورًا ونحو ذلك، لأنه نوَّر العقول والقلوب. * ومن الكذب المكشوف قولهم: «لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك»، وكذلك ما روي عن علي - رضي الله عنه -، عن النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: هبط عليّ جبريل فقال: إن الله يقرؤك السلام ويقول: «إني حرمْتُ النار على صلب أنزلك، وبطن حملك، وحجر كَفَلَك» وهو حديث موضوع. * وروي في بعض كتب المولد النبوي عن أبي هريرة قال: سأل النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - جبريل - عليه السلام - فقال: يا جبريل كم عمّرتَ من السنين؟ فقال: يا رسول الله، لست أعلم غير أن في الحجاب الرابع نجمًا يطلع في كل سبعين ألف سنة مرة، رأيتُه اثنتين وسبعين ألف مرة، فقال النبيّ: وعزة ربي أنا ذلك الكوكب».وهذا كذب قبيح، قبّح الله من وضعه وافتراه. * وذكر بعض غلاة المتصوّفة أن جبريل - عليه السلام - كان يتلقّى الوحي من وراء حجاب وكُشف له الحجاب مرة فوجد النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يوحِي إليه، فقال جبريل: «منك وإليك». قلت (أي الغماري): لعن الله من افترى هذا الهراء المخالف للقرآن فإن الله تعالى يقول لنبيّه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ}

(الشورى:52) ويقول: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} (الشعراء:193 - 194). * ما يوجد في كتب المولد النبويّ من أحاديث لا خطام لها ولا زمام هي من الغلو الذي نهى الله ورسوله عنه، فتحرم قراءة تلك الكتب. والنبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «من حدّث عني بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» (رواه مسلم) يُرَى بضم الياء: معناه يُظَنّ. * وفضل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ثابت في القرءان الكريم، والأحاديث الصحيحة، وهو في غِنًى عما يقال فيه من الكذب والغلو، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ». (رواه البخاري). (انتهى المقصود من كلام الغماري). وأخيرًا. .. سؤال موجه إلى هؤلاء القائلين بأن الرسولَ - صلى الله عليه وآله وسلم - هو أول خلق الله: يقال لهم: ألستم تعتقدون أن إبليس خُلِق قبل ءادم؟ فيقولون: بلى؛ للنص الوارد في القرآن وهو قوله تعالى: {وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} فيقال لهم: وهل سَبْقُ إبليسَ آدم - عليه السلام - بالخلق يقتضي أفضليته؟ فلا شك أنهم لا يقولون إن ذلك يقتضي أفضلية إبليس. فيقال لهم: لماذا تتشبثون بقولكم «الرسول أولُ خلق الله» وأي طائل تحت قولكم هذا؟! تنبيه: قال أحد الصوفية (كما هو منشور على أحد مواقعهم على الشبكة العنكبوتية): «التمادي على دعوى القول بأن نور محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أول خلق الله لا يزيد الكافرين إذا سمعوا ذلك إلا نفورًا من الإسلام واستبشاعًا له، فأيُّ فائدة للتعصب لهذا الحديث؟! فهذا الحديث تَنْفِرُ الكفارُ عند سماعه من بعض المسلمين نفورًا زائدًا على نفورهم الأصلي من الإسلام. فلقد ذكر لي رجلٌ يُدعَى أبا علي ياسين من أهل الشام أنَّ نصرانيًّا قال له: «كيف تقولون أنتم: محمد آخر الأنبياء، وتقولون: إنه أول خلق الله؟» وذلك نشأ عنده لما كان يسمع من بعض المؤذنين قولهم عقب الأذان على المنائر: «يا أول خلق الله وخاتم رسل الله»، قال أبو علي ياسين: فلم أجد جوابًا.

ثامن عشر: الأولياء والكرامات

ثامن عشر: الأولياء والكرامات الكرامة: أمر خارق للعادة يظهره الله تعالى على يد عبد من عباده الصالحين حيًا أو ميتًا؛ إكرامًا له فيدفع به عنه ضرًا أو يحقق له نفعًا أو ينصر به حقًا، وذلك الأمر لا يملك العبد الصالح أن يأتي به إذا أراد كما أن النبي لا يملك أن يأتي بالمعجزة من عند نفسه، بل كل ذلك إلى الله وحده، قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (العنكبوت:50). والكرامة غير مقرونة بدعوى النبوة، وهي في حقيقتها تأييد وتأكيد لرسالة الرسول باعتبار أن الله أظهرها على يد صلحاء أمته، وتابع من أتباعه. معنى الولي: الولي: هو الرجل المؤمن التقي المواظب على الطاعات المتقيد بأوامر الله ونواهيه، العارف بالله على حسب الإمكان، المعرض عن الأمهات في الشهوة. قال الله تعالى في حق الأولياء: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (يونس: 62 - 64). أمثلة للكرامات: أولًا: ما ثبت من كرامة لأهل الكهف، وهم فتية آمنوا بالله، وفروا بدينهم من ظلم ملك كافر كان في زمانهم، فأووا إلى كهف في جبل، فأنامهم الله ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا، ثم أيقظهم من نومهم الطويل، وقد ذُكرت قصتهم في سورة الكهف. ثانيًا: ثبوت الكرامة لمريم - عليها السلام -: الكرامة الأولى: أن نبي الله زكريا - عليه السلام - يدخل عليها في محرابها فيجد عندها رزقًا دون أن يأتي به إنسان ودون سبب مادي. الكرامة الثانية: وهي حملها بعيسى سدد خطاكم دون أن يمسها بشر.

الكرامة الثالثة: لما حملت به سدد خطاكم ابتعدت عن منازل أهلها، فلما جاءها مخاض الولادة جلست إلى جذع نخلة غير مثمرة، فهزتها فتساقط من الشجرة رطبًا طريًا صالحًا للاجتناء والأكل. الكرامة الرابعة: لما وضعت ابنها عيسى ابن مريم وأتت به إلى قومها وأخبرتهم أنه ابنها، كان الأمر صعبًا عليهم تصديق هذه الخارقة فاتهموها اتهامات وجرحوها بكلماتهم، وهي صامتة لا تتكلم وألحوا في استجوابها عن سبب حملها الذي لم يتصور كثير منهم فيه إلا الفاحشة، وهي منها براء، فلما ضاق حالها وانحصر المجال، واحتارت في أمرها، عظم توكلها على الله ذي الجلال والإكرام، ولم يبق إلا الإخلاص والاتكال فأشارت إلى طفلها عيسى ابن مريم حتى يخاطبوه ويكلموه، فعندها استغربوا الأمر، وقالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيًا، وهو لا يميز بالأمور فظنوا أنها تستهزيء بهم، عندها تكلم ونطق وقال: {إِنِّي عَبْدُ اللهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}. ثالثًا: قصة ثلاثة نفر من الأمم السابقة، انطلقوا حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم مدخل الغار فدعوا الله بصالح أعمالهم فانفرجت الصخرة بسبب صالح دعواتهم وخرجوا من الغار يمشون. رابعًا: قصة تكلم صبي رضيع من بني إسرائيل تبرئة لامرأة أَمَةٍ اتهمت بالسرقة والزنى، ولم تفعل ذلك وهذا كرامة لها. قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كانت امرأة تُرضِع ابنها من بني اسرائيل، فمرَّ بها رجل راكب ذو شارة (أي صاحب هيئة وشكل حسن)، فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديها، وأقبل على الراكب، وقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديها يمصه ـ قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كأني أنظر إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يمصُّ أصبعه ـ ثم مر بأمَة فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه فترك ثديها، فقال: اللهم اجعلني مثلها، فقالت له: لم ذاك؟ فقال: الراكب جبار من الجبابرة وهذه الأمَة يقولون لها: سرقت، زنيت، ولم تفعل». متفق عليه. خامسًا: قصة العابد جريج: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج كان يصلي، فجاءته أمه فدعَتْهُ، فقال: أُجيبها أو أصلي؟ فقالت: اللهم لا تُمِتْه حتى

الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان:

تُرِيَهُ وجوه المومسات، وكان جريج في صومعته، فتعرضت له امرأة فكلَّمَتْه فأبى، فأتتْ راعيًا فأمْكَنَتْه من نفسها، فولدت غلامًا، فقالت: من جريج، فأتوه فكسروا صومعته، وأنزلوه وسبُّوه، وتوضأ وصلى ثم أتى الغلام، فقال: من أبوك يا غلام، فقال: الراعي». (متفق عليه). سادسًا: كرامة أسيد بن حضير وعبَّاد بن بشر - رضي الله عنهما -: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن أسيد بن حضير وعبَّاد بن بشر - رضي الله عنهما - تحدثا عند النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في حاجة لهما، حتى ذهب من الليل ساعة في ليلة شديدة الظلمة، ثم خرجا من عند رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ينقلبان، وبيد كل واحد منهما عُصَيَّة، فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها، حتى إذا افترقت بهما الطريق أضاءت للآخر عصاه، فمشى كل واحد منهما في ضوء عصاه، حتى بلغ أهله. (رواه البخاري). سابعًا: كرامة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن عمر بعث جيشًا، وأَمَّرَ عليهم رجلًا يدعى سارية، فبينما عمر يخطب، فجعل يصيح: يا ساريةُ الجبلَ! فقدِم رسول من الجيش، فقال: يا أمير المؤمنين لقينا عدونا فهزمونا، فإذا بصائح يصيح: يا ساريةُ الجبلَ، فأسندنا ظهورنا إلى الجبل، فهزمهم الله تعالى. (رواه البيهقي في دلائل النبوة ورواه ابن عساكر وغيره بإسناد حسن). الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: (¬1) 1) * لا يكون وليًا لله إلا إذا كان مؤمنا تقيًا لقوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (التوبة:61 - 62)، وفي صحيح البخاري الحديث المشهور: «يقول الله تبارك وتعالى فيه: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» ولا يكون مؤمنًا تقيًا حتى يتقرب إلى الله بالفرائض فيكون من الأبرار أهل اليمين، ثم بعد ذلك لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يكون من السابقين المقربين فمعلوم أن أحدًا من الكفار والمنافقين لا يكون وليًا لله. ¬

_ (¬1) باختصار وتصرف من كتاب (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) لشيخ الإسلام ابن تيمية.

* قد علم أن الكفار والمنافقين ـ من المشركين وأهل الكتاب ـ لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية كالكهان والسحرة وعباد المشركين وأهل الكتاب، فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص وليًا لله وإن لم يعلم منه ما يناقض ولاية الله فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله؟! مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب اتباع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - باطنًا وظاهرًا، بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر دون الحقيقة الباطنة. أو يعتقد أن لأولياء الله طريقًا إلى الله غير طريق الأنبياء - عليهم السلام -. أو يقول: إن الأنبياء ضيقوا الطريق أو هم على قدوة العامة دون الخاصة ونحو ذلك مما يقوله بعض من يدعي الولاية فهؤلاء فيهم من الكفر ما يناقض الإيمان فضلا عن ولاية الله - عز وجل -. فمن احتج بما يصدر عن أحدهم من خرق عادة على ولايتهم كان أضل من اليهود والنصارى. * فعلى هذا فمن أظهر الولاية وهو لا يؤدي الفرائض ولا يجتنب المحارم ـ بل قد يأتي بما يناقض ذلك ـ لم يكن لأحد أن يقول هذا ولي لله. * ليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات، فلا يتميزون بلباس دون لباس إذا كان كلاهما مباحًا ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ظفره إذا كان مباحًا، بل يوجدون في جميع أصناف أمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور، فيوجدون في أهل القرآن وأهل العلم ويوجدون في أهل الجهاد والسيف ويوجدون في التجار والصناع والزراع. *أولياء الله يجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنة وليس فيهم معصوم يسوغ له أو لغيره اتباع ما يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنة، وهذا مما اتفق عليه أولياء الله - عز وجل -.من خالف في هذا فليس من أولياء الله سبحانه الذين أمر الله باتباعهم، بل إما أن يكون كافرًا وإما أن يكون مُفْرِطًا في الجهل. وهذا كثير في كلام المشايخ كقول الشيخ أبي سليمان الداراني: «إنه ليقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين: الكتاب والسنة». وقال أبو القاسم الجنيد - رحمه الله -: «علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يصلح له أن يتكلم في علمنا أو قال: لا يقتدى به». وكثير من الناس يغلط في هذا الموضع فيظن في شخص أنه ولي لله ويظن أن ولي الله يُقبَل منه كل ما يقوله، ويسلّم إليه كل ما يقوله، ويسلم إليه كل ما يفعله وإن خالف الكتاب والسنة، فيوافق ذلك الشخص ويخالف ما بعث الله به رسوله الذي فرض الله على جميع الخلق تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر وجعله الفارق بين أوليائه وأعدائه وبين أهل الجنة وأهل النار وبين السعداء والأشقياء، فمن اتبعه كان من أولياء الله المتقين وجنده المفلحين وعباده الصالحين، ومن لم يتبعه كان من أعداء الله الخاسرين المجرمين فتجره مخالفة الرسول وموافقة ذلك الشخص أولًا إلى البدعة والضلال وآخرًا إلى الكفر والنفاق. *تجد كثيرًا من هؤلاء عمدتهم في اعتقاد كونه وليًا لله أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض التصرفات الخارقة للعادة مثل أن يشير إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها أو يمشي على الماء أحيانًا، أو أن يختفي أحيانا عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه فقضى حاجته، أو يخبر الناس بما سرق لهم، أو بحال غائب لهم أو مريض أو نحو ذلك من الأمور، وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي لله، بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وموافقته لأمره ونهيه. * وكرامات أولياء الله تعالى أعظم من هذه الأمور، وهذه الأمور الخارقة للعادة ـ وإن كان قد يكون صاحبها وليًا لله ـ فقد يكون عدوًا لله، فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين وتكون لأهل البدع وتكون من الشياطين؛ فلا يجوز أن يُظَنّ أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه وليّ لله، بل يعتبر أولياء الله بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة ويُعرفون بنور الإيمان والقرآن وبحقائق الإيمان الباطنة وشرائع الإسلام الظاهرة. مثال ذلك: أن هذه الأمور المذكورة وأمثالها قد توجد في أشخاص ويكون أحدهم لا يتوضأ، ولا يصلي الصلوات المكتوبة، بل يكون ملابسًا للنجاسات معاشرًا للكلاب،

يأوي إلى الحمامات والقمامين والمقابر والمزابل، رائحته خبيثة لا يتطهر الطهارة الشرعية، ولا يتنظف. فإذا كان الشخص مباشرًا للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان أو يأوي إلى الحمامات والحشوش التي تحضرها الشياطين أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير، وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق، أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان، أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات ويتوجه إليها، أو يسجد إلى ناحية شيخه ولا يخلص الدين لرب العالمين، أو يلابس الكلاب أو النيران أو يأوي إلى المزابل والمواضع النجسة أو يأوي إلى المقابر، ولا سيما إلى مقابر الكفار من اليهود والنصارى أو المشركين أو يكره سماع القرآن وينفر عنه ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن فهذه علامات أولياء الشيطان لا علامات أولياء الرحمن. * من ادعى أن مِن الأولياء الذين بلَغَتْهم رسالة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - مَن له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - فهذا كافر ملحد، وإذا قال: أنا محتاج إلى محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - في علم الظاهر دون علم الباطن أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن محمدًا رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب. فإن أولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض فكانوا كفارًا بذلك، وكذلك هذا ـ الذي يقول إن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - بعث بعلم الظاهر دون علم الباطن ـ آمن ببعض ما جاء به - صلى الله عليه وآله وسلم - وكفر ببعض فهو كافر. وهؤلاء الملاحدة يدَّعون أن الولاية أفضل من النبوة. *أولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - فيفعلون ما أمر به وينتهون عما عنه زجر، ويقتدون به فيما بين لهم أن يتبعوه فيه فيؤيدهم بملائكته وروح منه ويقذف الله في قلوبهم من أنواره ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين. وخيار أولياء الله كراماتهم لِحُجة في الدين أو لحاجة بالمسلمين كما كانت معجزات نبيهم - صلى الله عليه وآله وسلم - كذلك. * وكرامات أولياء الله إنما حصلت ببركة اتباع رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - فهي في الحقيقة تدخل في معجزات الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - مثل: انشقاق القمر (رواه البخاري)، وإتيان الشجر إليه (رواه

مسلم)، وحنين الجذع إليه (رواه البخاري)، وإتيانه بالكتاب العزيز، وتكثير الطعام والشراب مرات كثيرة: كما أشبع في الخندق العسكر من قدر طعام وهو لم ينقص (متفق عليه)، وأروى العسكر في غزوة خيبر من مزادة ماء ولم تنقص (متفق عليه)، وملأ أوعية العسكر عام تبوك من طعام قليل ولم ينقص، وهم نحو ثلاثين ألفًا (رواه مسلم)، ونبع الماء من بين أصابعه مرات متعددة حتى كفى الناس الذين كانوا معه كما كانوا في غزوة الحديبية نحو ألف وأربعمائة أو خمسمائة (متفق عليه)، ومثل هذا كثير قد جمعت نحو ألف معجزة. *وكرامات الصحابة والتابعين بعدهم وسائر الصالحين كثيرة جدًا: مثل ما كان أسيد بن حضير يقرأ سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلة فيها أمثال السرج ـ وهي الملائكة نزلت لقراءته ـ (متفق عليه)، وعباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في ليلة مظلمة فأضاء لهما نور مثل طرف السوط فلما افترقا افترق الضوء معهما. (رواه البخاري وغيره). وقصةالصدِّيق - رضي الله عنه - ـ في الصحيحين ـ لما ذهب بثلاثة أضياف معه إلى بيته وجعل لا يأكل لقمة إلا رَبَى من أسفلها أكثر منها فشبعوا وصارت أكثر مما هي قبل ذلك، فنظر إليها أبو بكر وامرأتُه فإذا هي أكثر مما كانت فرفعها إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وجاء إليه أقوام كثيرون فأكلوا منها وشبعوا. وخبيب بن عدي كان أسيرًا عند المشركين بمكة ـ شرفها الله تعالى ـ وكان يؤتى بعنب يأكله وليس بمكة عنبة (رواه البخاري). *الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج أتاه منها ما يقوي إيمانه ويسد حاجته ويكون مَن هو أكمل ولاية لله منه مستغنيًا عن ذلك، فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته وغناه عنها لا لنقص ولايته، ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة، بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهدي الخلق ولحاجتهم فهؤلاء أعظم درجة. * وهذا بخلاف الأحوال الشيطانية مثل حال ابن صياد الذي ظهر في زمن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وكان قد ظن بعض الصحابة أنه الدجال وتوقف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في أمره حتى تبين له

فيما بعد أنه ليس هو الدجال، لكنه كان من جنس الكهان، قال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قد خبأت لك خبئًا»، قال: الدُّخ الدُّخ. وقد كان خبأ له سورة الدخان فقال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اخسَأ فلن تعدو قدرك» يعني إنما أنت من إخوان الكهان، والكهان كان يكون لأحدهم القرين من الشياطين يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من السمع وكانوا يخلطون الصدق بالكذب كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إن الملائكة تنزل في العنان ـ وهو السحاب ـ فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم» وفي الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «بينما النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية إذا رأيتموه؟» قالوا: كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم، قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فإنه لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمرًا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ثم الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء ثم يسأل أهل السماء السابعة حملة العرش: ماذا قال ربنا؟ فيخبرونهم، ثم يستخبر أهل كل سماء حتى يبلغ الخبر أهل السماء الدنيا، وتخطف الشياطين السمع فيرمون فيقذفونه إلى أوليائهم، فما جاءوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يزيدون». وفي رواية قال معمر: قلت للزهري: أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكنها غلظت حين بعث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. * والأسود العنسي ـ الذي ادعى النبوة ـ كان له من الشياطين من يخبره ببعض الأمور المغيبة فلما قاتله المسلمون كانوا يخافون من الشياطين أن يخبروه بما يقولون فيه: حتى أعانتهم عليه امرأته لما تبين لها كفره فقتلوه. * وكذلك مسيلمة الكذاب كان معه من الشياطين من يخبره بالمغيبات ويعينه على بعض الأمور وأمثال هؤلاء كثيرون مثل: الحارث الدمشقي الذي خرج بالشام زمن عبد الملك بن مروان وادعى النبوة، وكانت الشياطين يخرجون رجليه من القيد وتمنع

السلاح أن ينفذ فيه، وتسبح الرخامة إذا مسحها بيده، وكان يُرِى الناس رجالًا وركبانًا على خيل في الهواء، ويقول: هي الملائكة وإنما كانوا جِنًّا، ولما أمسكه المسلمون ليقتلوه طعنه الطاعن بالرمح فلم ينفذ فيه فقال له عبد الملك: «إنك لم تسم الله»، فسمى الله فطعنه فقتله. * وهكذا أهل الأحوال الشيطانية تنصرف عنهم شياطينهم إذا ذكر عندهم ما يطردها مثل آية الكرسي فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ـ لما وكّله النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بحفظ زكاة الفطر فسرق منه الشيطان ليلة بعد ليلة وهو يمسكه فيتوب فيطلقه ـ فيقول له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ما فعل أسيرك البارحة؟» فيقول: زعم أنه لا يعود، فيقول: «كذبك وإنه سيعود»، فلما كان في المرة الثالثة. قال: دعني حتى أعلمك ما ينفعك: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إلى آخرها، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أخبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: «صدقك وهو كذوب» وأخبره أنه شيطان. ولهذا إذا قرأها الإنسان عند الأحوال الشيطانية بصدق أبطلتها: مثل من يدخل النار بحال شيطاني، أو يحضر سماع المكاء والتصدية، فتنزل عليه الشياطين وتتكلم على لسانه كلامًا لا يُعلَم وربما لا يُفقَه، وربما كاشف بعض الحاضرين بما في قلبه، وربما تكلم بألسنة مختلفة كما يتكلم الجني على لسان المصروع. والإنسان ـ الذي حصل له الحال لا يدري بذلك ـ بمنزلة المصروع الذي يتخبطه الشيطان من المس ولبسه وتكلم على لسانه فإذا أفاق لم يشعر بشيء مما قال. * ومن هؤلاء من يأتيه الشيطان بأطعمة وفواكه وحلوى وغير ذلك مما لا يكون في ذلك الموضع، ومنهم من يطير بهم الجني إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، ومنهم من يحمله عشية عرفة ثم يعيده من ليلته فلا يحج حجًا شرعيًا، بل يذهب بثيابه ولا يحرم إذا حاذى الميقات ولا يلبّي ولا يقف بمزدلفة ولا يطوف بالبيت، ولا يسعى بين الصفا والمروة ولا يرمي الجمار، بل يقف بعرفة بثيابه ثم يرجع من ليلته وهذا ليس بحج.

* وبين كرامات الأولياء وما يشبهها من الأحوال الشيطانية فروق متعددة: منها: أن كرامات الأولياء سببها الإيمان والتقوى والأحوال الشيطانية سببها ما نهى الله عنه ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -. * ومِن هؤلاء مَن إذا حضر سماع المكاء والتصدية يتنزل عليه شيطانه حتى يحمله في الهواء ويخرجه من تلك الدار فإذا حصل رجل من أولياء الله تعالى طرد شيطانه فيسقط كما جرى هذا لغير واحد. * ومن هؤلاء من يستغيث بمخلوق إما حي أو ميت سواء كان ذلك الحي مسلمًا أو نصرانيًا أو مشركًا، فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث به ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث، فيظن أنه ذلك الشخص أو هو ملك على صورته، وإنما هو شيطان أضله لما أشرك بالله كما كانت الشياطين تدخل الأصنام وتكلم المشركين. * ومن هؤلاء من يتصور له الشيطان ويقول له: أنا الخضر، وربما أخبره ببعض الأمور وأعانه على بعض مطالبه كما قد جرى ذلك لغير واحد من المسلمين واليهود والنصارى. * وكثير من الكفار بأرض المشرق والمغرب يموت لهم الميت فيأتي الشيطان بعد موته على صورته ـ وهم يعتقدون أنه ذلك الميت ـ ويقضي الديون ويرد الودائع ويفعل أشياء تتعلق بالميت ويدخل على زوجته ويذهب، وربما يكونون قد أحرقوا ميتهم بالنارـ كما تصنع كفار الهند ـ فيظنون أنه عاش بعد موته. * ومن هؤلاء شيخ كان بمصر أوصى خادمه فقال: إذا أنا مت فلا تدع أحدًا يغسلني فأنا أجيء وأغسل نفسي فلما مات رآى خادمه شخصًا في صورته فاعتقد أنه هو دخل وغسل نفسه، فلما قضى ذلك الداخل غسله ـ أي غسل الميت ـ غاب. وكان ذلك شيطانًا، وكان قد أضل الميت وقال: إنك بعد الموت تجيء فتغسل نفسك، فلما مات جاء أيضًا في صورته ليغوي الأحياء كما أغوى الميت قبل ذلك. * ومنهم من يرى عرشًا في الهواء وفوقه نور ويسمع من يخاطبه ويقول: أنا ربك، فإن كان من أهل المعرفة علم أنه شيطان فزجره واستعاذ بالله منه فيزول.

* ومنهم من يرى أشخاصًا في اليقظة يدعي أحدهم أنه نبي أو صديق أو شيخ من الصالحين وقد جرى هذا لغير واحد. ومنهم من يرى في منامه أن بعض الأكابر: إما الصديق - رضي الله عنه - أو غيره قد قص شعره أو حلقه أو ألبسه طاقيته أو ثوبه فيصبح وعلى رأسه طاقية وشعره محلوق أو مقصر وإنما الجن قد حلقوا شعره أو قصروه وهذه الأحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة وهم درجات. * والجن الذين يقترنون بهم من جنسهم وهم على مذهبهم والجن فيهم الكافر والفاسق والمخطئ فإن كان الإنسي كافرًا أو فاسقًا أو جاهلًا دخلوا معه في الكفر والفسوق والضلال وقد يعاونونه إذا وافقهم على ما يختارونه من الكفر مثل الإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه من الجن وغيرهم، ومثل أن يكتب أسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة، أو يقلب فاتحة الكتاب أو سورة الإخلاص أو آية الكرسي أو غيرهن ويكتبهن بنجاسة، فيغورون له الماء وينقلونه بسبب ما يرضيهم به من الكفر. وقد يأتونه بما يهواه من امرأة أو صبي إما في الهواء وإما مدفوعا ملجأ إليه. إلى أمثال هذه الأمور التي يطول وصفها والإيمان بها إيمان بالجبت والطاغوت. والجبت: السحر، والطاغوت: الشياطين والأصنام. * وإن كان الرجل مطيعًا لله ورسوله باطنًا وظاهرًا لم يمكنهم الدخول معه في ذلك أو مسالمته. ولهذا لما كانت عبادة المسلمين المشروعة في المساجد التي هي بيوت الله كان عُمَّار المساجد أبعد عن الأحوال الشيطانية، وكان أهل الشرك والبدع يعظمون القبور ومشاهد الموتى ـ فيدعون الميت أو يدعون به أو يعتقدون أن الدعاء عنده مستجاب ـ أقرب إلى الأحوال الشيطانية. * والشيطان يضل بني آدم بحسب قدرته فمن عبد الشمس والقمر والكواكب ودعاها ـ كما يفعل أهل دعوة الكواكب ـ فإنه ينزل عليه شيطان يخاطبه ويحدثه ببعض الأمور ويسمون ذلك روحانية الكواكب وهو شيطان. * والشيطان وإن أعان الإنسان على بعض مقاصده فإنه يضره أضعاف ما ينفعه وعاقبة من أطاعه إلى شر إلا أن يتوب الله عليه، وكذلك عباد الأصنام قد تخاطبهم

الشياطين، وكذلك من استغاث بميت أو غائب، وكذلك من دعا الميت أو دعا به أو ظن أن الدعاء عند قبره أفضل منه في البيوت والمساجد، ويروون حديثا هو كذب باتفاق أهل المعرفة وهو: «إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور» وإنما هذا وضع من فتح باب الشرك. * ويوجد لأهل البدع وأهل الشرك المتشبهين بهم من عباد الأصنام والنصارى والضلال من المسلمين أحوال عند المشاهد يظنونها كرامات وهي من الشياطين: مثل أن يضعوا سراويل عند القبر فيجدونه قد انعقد أو يوضع عنده مصروع فيرون شيطانه قد فارقه. يفعل الشيطان هذا ليضلهم وإذ قرأت آية الكرسي هناك بصدق بطل هذا؛ فإن التوحيد يطرد الشيطان، ولهذا حمل بعضهم في الهواء فقال: لا إله إلا الله فسقط ومثل أن يرى أحدهم أن القبر قد انشق وخرج منه إنسان فيظنه الميت وهو شيطان. وهذا باب واسع لا يتسع له هذا الموضع. * (قال شيخ الإسلام ابن تيمية): ... فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر وتقول: هنيئًا لك يا ولي الله، فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك. وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وغيرها وتقول: خذني حتى يأكلني الفقراء، ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك، ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح وبالعكس، وكذلك في أبواب المدينة، وتكون الجن قد أدخلته وأخرجته بسرعة. أو تمر به أنوار أو تُحضِر عنده من يطلبه ويكون ذلك من الشياطين يتصورون بصورة صاحبه، فإذا قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة ذهب ذلك كله. وأعرف من يخاطبه مخاطب ويقول له: أنا من أمر الله ويعده بأنه المهدي الذي بشر به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ويظهر له الخوارق مثل أن يخطر بقلبه تصرف في الطير والجراد في الهواء، فإذا خطر بقلبه ذهاب الطير أو الجراد يمينًا أو شمالًا ذهب حيث أراد، وإذا خطر بقلبه قيام بعض المواشي أو نومه أو ذهابه حصل له ما أراد من غير حركة منه في الظاهر، وتحمله

إلى مكة وتأتي به وتأتيه بأشخاص في صورة جميلة وتقول له هذه الملائكة أرادوا زيارتك فيقول في نفسه: كيف تصوروا بصورة المردان (¬1)؟! فيرفع رأسه فيجدهم بلحى، ويقول له: علامة إنك أنت المهدي إنك تنبت في جسدك شامة فتنبت ويراها وغير ذلك، وكله من مكر الشيطان. * كرامات الأولياء لابد أن يكون سببها الإيمان والتقوى فما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان فهو من خوارق أعداء الله لا من كرامات أولياء الله. فمن كانت خوارقه لا تحصل بالصلاة والقراءة والذكر وقيام الليل والدعاء وإنما تحصل عند الشرك: مثل دعاء الميت والغائب أو بالفسق والعصيان وأكل المحرمات: كالحيات والزنابير والخنافس والدم وغيره من النجاسات ومثل الغناء والرقص، لا سيما مع النسوة الأجانب والمردان، وحالة خوارقه تنقص عند سماع القرآن وتقوى عند سماع مزامير الشيطان فيرقص ليلًا طويلًا فإذا جاءت الصلاة صلى قاعدًا أو ينقر الصلاة نقر الديك، وهو يبغض سماع القرآن وينفر عنه ويتكلفه ليس له فيه محبة ولا ذوق، ويحب سماع المكاء والتصدية ويجد عنده مواجيد. فهذه أحوال شيطانية، وهو ممن يتناوله قوله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (الزخرف:36) * ولقد أخبر بعض الشيوخ بصورة مكاشفة ومخاطبة فقال: يُرِيني الجن شيئًا براقًا مثل الماء والزجاج ويمثلون له فيه ما يُطلَب منه الإخبار به، قال: فأخبِر الناس به ويوصلون إليَّ كلام من استغاث بي من أصحابي فأجيبه فيوصلون جوابي إليه. وكان كثير من الشيوخ الذين حصل لهم كثير من هذه الخوارق إذا كذب بها من لم يعرفها وقال: إنكم تفعلون هذا بطريق الحيلة كما يدخل النار بحجر الطلق وقشور النارنج ودهن الضفادع وغير ذلك من الحيل الطبيعية فيعجب هؤلاء المشايخ ويقولون: نحن والله لا نعرف شيئًا من هذه الحيل. ¬

_ (¬1) الأَمْرَدُ: الشابُّ الذي بلغَ خروج لِحْيته، ونبَت شاربه، ولم تبْدُ لحيته.

بعض الكرامات من كتب الصوفية:

فلما ذكر لهم الخبير: إنكم لصادقون في ذلك ولكن هذه الأحوال شيطانية أقروا بذلك وتاب منهم من تاب الله عليه لما تبين لهم الحق وتبين لهم من وجوه أنها من الشيطان، ورأوا أنها من الشياطين لما رأوا أنها تحصل بمثل البدع المذمومة في الشرع وعند المعاصي لله؛ فلا تحصل عند ما يحبه الله ورسوله من العبادات الشرعية فعلموا أنها حينئذ من مخارق الشيطان لأوليائه، لا من كرامات الرحمن لأوليائه».انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية. الحمد الله على نعمة الإسلام ونعمة العقل بعض الكراماتٌ من كتب الصوفية: (المصدر: (جامع كرامات الأولياء) ليوسف بن إسماعيل النبهاني، و (الطبقات الكبرى) للشعراني. (وهما من المراجع المعتمدة عند الصوفية). قرآن جديد للصوفية: (انظر الطبقات الكبرى2/ 185) «الشيخ شعبان المجذوب - رضي الله عنه - كان من أهل التصريف بمصر المحروسة وكان يخبر بوقائع الزمان المستقبل، وأخبرني سيدي علي الخواص - رضي الله عنه - أن الله تعالى يطلع الشيخ شعبان على ما يقع في كل سنة من رؤية هلالها، فكان إذا رأى الهلال عرف جميع ما فيه مكتوبًا على العباد. (تأمل: يدعي أنه يعلم الغيب!!) وكان يقرأ سورًا غير السور التي في القرآن على كراسي المساجد يوم الجمعة وغيرها فلا ينكر عليه أحد، وكان العامي يظن أنها من القرآن لشبهها بالآيات في الفواصل».ا. هـ كلام الشعراني. وهنا ربما قال المجادلون بالباطل: «لعله كان يرتل الحديث أو أوراد الطريقة»، مع ما في هذا من التلبيس والكذب، لكن تأمل قول الشعراني: سورًا غير القرآن. وحتى لا يبقى عندك شك فها هو الشعراني يقتبس لنا من ذلك القرآن قال: «وقد سمعته مرة يقرأ على باب دار، على طريقة الفقهاء الذين يقرءون في البيوت فصغيت إلى ما يقول فسمعته يقول: «وما أنتم في تصديق هود بصادقين، ولقد أرسل الله لنا قومًا بالمؤتفكات يضربوننا ويأخذون أموالنا وما لنا من ناصرين»

ثم قال: اللهم اجعل ثواب ما قرأناه من الكلام العزيز في صحائف فلان وفلان» إلى آخر ما قال. فانظر هذا الكذب الصريح كيف يجعل سخافاته من الكتاب العزيز واسأل المتصوفة عن حكم من قال هراء ثم نسبه إلى القرآن. * الشيخ علي العمْري، مِن كراماته ـ كما يروي عنه النبهاني ـ ما أخبرني به إبراهيم الحاج المذكور، قال: دخلتُ في هذا النَّهار إلى الحمام مع شيخنا الشيخ علي العمْري، ومعَنا خادمُه محمَّد الدبُّوس الطرابلسي ـ وهو أخو إحدى زوجات الشيخ ـ ولم يكن في الحمام غيرُنا ـ أي: ثلاثة في الحمام ـ!!! قال: فرأيتُ مِن الشيخ كرامةً مِن أعجب خوارق العادات، وأغربِها: وهي أنَّه أظهر الغضب على خادمه محمد هذا وأراد أن يؤدِّبَه، فأخذَ الشيخ إحليل نفسه بيديه الاثنتين (أخذ عضوه التناسلي من تحت إزاره!!) فطال طولًا عجيبًا!! بحيث أنَّه رفعه على كتفه، وهو زائدٌ طويلٌ على كتفه وصار يجلد به خادمَه المذكور!! والخادم يصرخ مِن شدة الألم، فعل ذلك مرات ثم تركه، وعاد إحليله إلى ما كان عليه أولًا، ففهمتُ أنَّ الخادم قد عمل عملًا يستحق التأديب، فأدبَّه الشيخ بهذه الصورة العجيبة، ولما حكى ذلك الحاج إبراهيم حكاه بحضور الشيخ، وكان الشيخ واقفًا، فقال لي الشيخ: لا تصدِّقه، وانظر، ثم أخذ بيدي بالجبر عني ووضعها على موضع إحليله!! فلم أحس بشيءٍ مطلقًا حتى كأنَّه ليس برجلٍ بالكلية» (جامع كرامات الأولياء) ليوسف بن إسماعيل النبهاني (2/ 396). تعليق:1 - الخلوة في الحمام جائزة عند هؤلاء. 2 - الفرج ـ عندهم ـ ليس من العورة المغلظة!! 3 - جواز إكراه المريد على وضع اليد على فرج الشيخ!! * علي الوحيش: من كراماته أنَّه كان إذا رأى شيخ بلد، أو غيره من الكبار يُنزلهم مِن عَلى الحِمَارة، ويقول له: أمْسِك رأسَها حتى أفعل فيها، فإن رفض شيخُ البلد تسمَّرتْ الحمارةُ في الأرض لا تستطيع أن تخطُوَ خطوةً، وإن سمَحَ له حصل له خجل عظيم، والنَّاس يمُرُّون!! وهذا موجود في (طبقات الشعراني) (2/ 135).

* علي أبو خودة، مِن كراماته: أنَّه أراد السفر في مركب قد انوثقت ولم يبق فيها مكانٌ لأحدٍ، فقالوا للريّس: إن أخذتَ هذا غرقتْ المركبُ؛ لأنَّه يفعل في العبيد الفاحشة ـ يعنون الوليَّ بزعمهم ـ، فأخرجه الريِّس مِن المركب؛ فلما أخرجوه مِن المركب قال: يا مركب تسمَّري، فلم يقدر أحدٌ أنْ يسيِّرها بريحٍ ولا بغيره، وطلع جميع مَن فيها ولم تَسِر. * إبراهيم المعروف بـ (الجيعانة)، يقول النَّبهاني عن شيخه عمر السنزاني: كنت يومًا بظاهر دمشق المحروسة مع جماعة، فرأيتُ الشيخ إبراهيم الجيعانة واقفًا، وقد أتت امرأةٌ وسألته الدعاء، وأمَرَّتْ يدها على أطماره الرثة، ثم أمَرَّت على وجهه، وهناك فقيهان روميَّان، فقال أحدهما: يا حُرمة تنجست يدُك بما مرت عليه! فنظر إليه الشيخ مغضبًا، ثم جلس وغاط الشيخ ـ يعني أخرج الغائط (البراز) منه ـ ثم نهض فتقدم الفقيه المنكِر، وجعل يلعق غائطه!! ورفيقه متمسك بأثوابه، ويضمُّه ويقول له: ويلك هذا غائط الشيخ، إلى أن لعق الجميع ببعض التراب، فلمَّا نَهض جعل يعاتِبه، فقال الفقيه: والله ما لعقتُ إلاَّ عَسَلًا!!! * حسن الخلبوصي، يقول الشعراني: حكى الشيخ يوسف الحريتي قال: قصدته بالزيارة في خان بنات الخطأ ـ مكان الدعارة الذي تؤجر فيها البنات أنفسهنَّ!! ـ وجدَتُ واحدةً راكِبةً على عنقه، ويداها ورِجْلاها مخضوبتان بالحنَّاء، وهي تصفعه في عنقه ـ تلطمه وتضربه على عنقه ـ وهو يقول: لا، برفق فإنَّ عيناي موجوعتان!! تأمل: يعتبرون هذا من كرامات الشيخ: أن بنات الزنا في خان الزنا تفعل به هكذا. * أحمد الذي سمَّوه (حمدة)؛ لأنَّه يقيم مع البغايا في بيت البغايا فسمَّوْه (حمدة)، هذا من كراماته! يقولون: له كشفٌ لا يكاد يخطىء، وكثيرًا ما يخبر بالشيء قبل وقوعه فيقع كما أخبر، وهو مقيم عند بعض النساء البغيَّات بـ (باب الفتوح)، وما ماتت واحدة منهنَّ إلا عن توبة ببركته، وربما صار بعضهن مِن أصحاب المقامات!! تأمل: يقيم معهن ويسكن معهن حتى يعلمهن الطريق! * إبراهيم العريان، مِن أئمتهم كان كما يقولون: إذا دخل على بلدٍ سلَّم على أهلها كبارًا وصغارًا بأسمائهم كأنَّه تربَّى بينهم، وكان يطلع على المنبر ويخطب عريانًا!! فيقول:

دمياط، باب اللوق، بين القصرين، جامع طولون، الحمد لله رب العالمين! فيحصل للنَّاس بسطٌ عظيمٌ. يقول المنَّاوي: وكان محبوبًا للناس، معظَّمًا عندهم معتقَدًا، وكان يصعد المنبر فيخطب عريانًا، ويذكر الوقائع التي تقع في الأسبوع المستقبل فلا يخطئ في واحدة. (الطبقات 2/ 142) * مِن كرامات عبد الجليل الأرناؤطي كما ينقلون: أنَّه كان يجمع الدراهم مِن النَّاس وينفقها على النساء العجائز البغايا اللاتي كَسَدْنَ، وصِرن بحالةٍ لا يُقبِل عليهنَّ أحدٌ مِن الفُسَّاق، فكان يجمعهن في حجرة، وينفق عليهن ما يجمعه ويأوي إليهنَّ، وينام عندهن! ويخدِمْنَه.

الأزهر يرد على الصوفية قبسات من فتاوى دار الإفتاء المصرية

الأزهر يرد على الصوفية قبسات من فتاوى دار الإفتاء المصرية حكم النذر على الأضرحة والأولياء: المفتي: فضيلة الشيخ عبد المجيد سليم. (محرم 1364 هجرية 25 ديسمبر 1944 م) المبادئ: 1 - النذر لأصحاب الأضرحة والأولياء والصالحين باطل بالإجماع لأنه نذر لمخلوق وهو غير جائز لأن النذر عبادة وهى لا تكون لمخلوق أبدًا ولأن المنذور له ميت والميت لا يملك. 2 - إذا ظن الناذر أن الميت يتصرف فى الأمور دون الله - سبحانه وتعالى - واعتقده كان ذلك كفرًا. * جاء فى البحر ـ قبيل باب الاعتكاف من الجزء الثالث نقلا عن الشيخ قاسم وفى شرح الدرر ما نصه -: «وأما النذر الذى ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد كأنه يكون لإنسان غائب أو مريض أو له حاجة ضرورية فيأتى بعض الصلحاء فيجعل سترة على رأسه فيقول يا سيدى فلان إن رُدَّ غائبى أو عُوفى مريضى أو قُضيت حاجتى فلك من الذهب كذا، من الفضة كذا، أو من الطعام كذا، أو من الماء كذا أو من الشمع كذا، أو من الزيت كذا. فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه: منها أنه نذر لمخلوق والنذر للمخلوق لا يجوز لأنه عبادة والعبادة لا تكون للمخلوق. ومنها أن المنذور له ميت والميت لا يملك. ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف فى الأمور دون الله تعالى واعتقاده ذلك كفر. فإذا علم هذا. فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها وينقل إلى ضرائح الأولياء تقربا إليهم فحرام بإجماع المسلمين مالم يقصدوا صرفه للفقراء الأحياء قولا واحدًا» انتهى. * والظاهر لنا أن هؤلاء العوام وإن قالوا بألسنتهم إنى نذرت لله أو تصدقت لله فمقصدهم فى الواقع ونفس الأمر إنما هو التقرب إلى الأولياء والصالحين وليس مقصدهم التقرب إلى الله تعالى وحده ولم يبتغوا بذلك وجهه. * ولقد صدق حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن قراعة - رحمه الله - تعالى إذ يقول فى رسالته التى ألفها فى النذور وأحكامها: «ما أشبه ما يقدمون من قربان وما ينذرون من

نذور وما يعتقدون فى الأضرحة وساكنيها بما كان يصنع المشركون فى الجاهلية وما يغنى عنهم نفى الشرك عنهم بألسنتهم. وأفعالهم تنبئ عما يعتقدون من أن هؤلاء الأولياء لهم نافعون ولأعدائهم ضارون». انتهى. * وقد جاء فى (سبل السلام شرح بلوغ المرام) ما نصه: «وأما النذور المعروفة فى هذه الأزمنة على القبور والمشاهد والأموات فلا كلام فى تحريمها؛ لأن الناذر يعتقد فى صاحب القبر أنه ينفع ويضر ويجلب الخير ويدفع الشر ويعافى الأليم ويشفى السقيم وهذا هو الذى كان يفعله عباد الأوثان بعينه، فيحرم كما يحرم النذر على الوثن ويحرم قبضه؛ لأنه تقرير على الشرك ويجب النهى عنه وإبانة أنه من أعظم المحرمات وأنه الذى كان يفعله عباد الأصنام. لكن طال الأمد حتى صار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا» انتهى. مما ذُكِر يتبين أن نذر العوام لأرباب الأضرحة أو التصدق لهم تقربًا إليهم ـ وهو ما يقصده هؤلاء الجهلة مما ينذرونه أو يتصدقون به ـ حرام بإجماع المسلمين والمال المنذور أو المتصدق به يجب رده لصاحبه إن عُلِم. فإن لم يُعلَم فهو من قبيل المال الضائع الذى لا يعلم له مستحق فيصرف على مصالح المسلمين أو على الفقراء. الدفن فى المسجد غير جائز: المفتي: فضيلة الشيخ عبد المجيد سليم. (جمادى الأولى 1359 هجرية - 22 من يونيه 1940 م) المبادئ: 1 - لا يجوز دفن الموتى فى المساجد. 2 - إذا دفن الميت فى المسجد نبش عند الإمام أحمد. * قد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه لا يجوز أن يدفن فى المسجد ميت لا صغير ولا كبير ولا جليل ولا غيره. فإن المساجد لا يجوز تشبيهها بالمقابر. وقال فى فتوى أخرى إنه لا يجوز دفن ميت فى مسجد فإن كان المسجد قبل الدفن غُيِّر إما بتسوية القبر وإما بنبشه إن كان جديدًا ... الخ» اهـ. وذلك لأن فى الدفن فى المسجد إخراجًا لجزء من المسجد عما

جُعل له من صلاة المكتوبات وتوابعها من النفل والذكر وتدريس العلم وذلك غير جائز شرعًا. ولأن اتخاذ قبر فى المسجد على هذا الوجه الوارد فى السؤال يؤدى إلى الصلاة إلى هذا القبر أو عنده. وقد وردت أحاديث كثيرة دالة على حظر ذلك. * قال شيخ الإسلام ابن تيمية فى كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) (صفحة 158) ما نصه: «إن النصوص عن النبى - صلى الله عليه وآله وسلم - تواترت بالنهى عن الصلاة عند القبور مطلقًا واتخاذها مساجد أو بناء المساجد عليها. ومن الأحاديث ما رواه مسلم عن أبى مرثد - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها». وقال ابن القيم: «نص الإمام أحمد وغيره على أنه إذا دفن الميت فى المسجد نبش وقال ـ أى ابن تيمية ـ: لا يجتمع فى دين الإسلام مسجد وقبر بل أيهما طرأ على الآخر مُنع منه وكان الحكم للسابق» ... إلى آخر ما قال فى كتابه (زاد المعاد). الصوم بمناسبة المولد النبوى: المفتي: فضيلة الشيخ عطية صقر. (مايو 1997) السؤال: ما هو اليوم الذى نصومه بمناسبة المولد النبوى الشريف، وهل إذا صادف يوم جمعة يكون صومه حلالًا؟ الجواب: صيام التطوع مندوبُ لا يختص بزمان ولا مكان، ما دام بعيدًا عن الأيام التى يحرُم صيامها، وهى العيدان وأيام التشريق ويوم الشك على اختلاف للعلماء فيه، والتى يكره صيامها كيوم الجمعة وحده، ويوم السبت وحده. وهناك بعض الأيام يستحب الصيام فيها كأيام شهر المحرم، والأشهر الحرم، وعرفة وعاشوراء، وكيوم الاثنين ويوم الخميس من كل أسبوع، والثلاثة البيض من كل شهر وهى الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وستة من شهر شوال، وكثير من شهر شعبان، كما كان يفعل النبى - صلى الله عليه وآله وسلم - وليس من هذه الأيام يوم ذكرى مولد النبى - صلى الله عليه وآله وسلم -، والذى اعتاد الناس أن يحتفلوا بها فى اليوم الثانى عشر من شهر ربيع الأول، فلا يندب صومه بهذا العنوان وهذه الصفة، وذلك لأمرين:

أولهما: أن هذا اليوم لم يتفق على أنه يوم ميلاده - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقد قيل إنه ولد يوم التاسع من شهر ربيع الأول وقيل غير ذلك. وثانيهما: أن هذا اليوم قد يصادف يوما يكره إفراده بالصيام كيوم الجمعة فقد صح فى البخارى ومسلم النهى عنه بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا يصومن أحدكم يوم الجمعة، إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده». هذا بخصوص صوم يوم الميلاد النبوى فى كل عام، أما صيام يوم الاثنين من كل أسبوع فكان يحرص عليه النبى - صلى الله عليه وآله وسلم -، لأمرين: أولهما: أنه قال إن الأعمال تعرض على الله فيه وفى يوم الخميس، وهو يحب أن يعرض عمله وهو صائم، كما رواه الترمذى وحسَّنه. وثانيهما: أنه هو اليوم الذى ولد فيه وبعث فيه كما صح فى رواية مسلم. فكان يصومه أيضا شكرًا لله على نعمة الولادة والرسالة. فمن أراد أن يشكر الله على نعمة ولادة النبى - صلى الله عليه وآله وسلم - ورسالته فليشكره بأية طاعة تكون، بصلاة أو صدقة أو صيام ونحوها، وليس لذلك يوم معين فى السنة، وإن كان يوم الاثنين من كل أسبوع أفضل، للاتباع على الأقل، فالخلاصة أن يوم الثانى عشر من شهر ربيع الأول ليس فيه عبادة خاصة بهذه المناسبة، وليس للصوم فيه فضل على الصوم فى أى يوم آخر، والعبادة أساسها الاتباع، وحبُّ الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يكون باتباع ما جاء به كما قال فيما رواه البخارى ومسلم: «من رغب عن سنتى فليس منى».اهـ. (فتاوى الأزهر 9/ 285) والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد ـ سيد رسله وأنبيائه ـ وعلى آله وصحبه وأنصاره وأشياعه وخلفائه صلاة وسلامًا نستوجب بهما شفاعته. آمين

§1/1